حصان طروادة الغارة الفكرية على الديار السنية

عمرو كامل عمر

الطبعة الأولى 1432 هـ / 2011 م الطبعة الثانية 1435 هـ / 2014 م رقم الإيداع بدار الكتب المصرية 2793/ 2011 جميع الحقوق محفوظة للمؤلف، ولا يحق لأحد إعادة طبع الكتاب أو نشره بأي وسيلة كانت إلا بموافقة خطية من المؤلف، ومن يفعل ذلك يعرض نفسه للمساءلة القانونية.

المقدمة

مقدمة بقلم الدكتور محمد بن موسى الشريف حفظه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد قرأت الكتاب الموسوم بـ "حصان طروادة" لمصنفه الدكتور عمرو كامل - حفظه الله تعالى -، فوجدته كتابًا نافعًا ماتعًا، مليئًا بالأخبار والدقائق، فاستفدت منه أمرين: الأول: المراجعةَ لما كنت قد قرأته منذ زمن بعيد وأُنسيته مما عدا عليه الزمان، وطواه مَرّ الليالي والأيام، وكرور الشهور والأعوام. الآخر: علمًا جديدًا لم يكن لي به عهد من قبل، وتفاصيلَ دقيقةً أقفُ على كثير منها لأول مرة - وإن كنتُ قد عرفت طرفًا منها موجزًا - ساقها المصنف على وجه متتابع آخذٍ بعضه بحُجُز بعض، فلا يكاد القارئ ينفك من حادثة إلا وتَفجؤه أخرى. أعداء الإسلام، وتدرج تاريخيٌّ في عرض صور الكَيد والمكر منذ زمن بعيد إلى يوم الناس هذا. ولذلك كله، أُوصِي المصنفَ بالعناية بهذا الكتاب باختصاره قليلًا؛ ليكون أقرب للقراءة، وأدعى للفهم، فنحن في مُدة صعبة يَقِلّ فيها الحريصون على القراءة الطويلة، بل يَندرون.

والكتاب مهم، ونظرُ النشءِ فيه واطلاعُهم على تفصيلاته أمرٌ مطلوبٌ؛ فلذلك كان اختصارُه وتقليلُ صفحاته أمرًا مطلوبًا، وقد ذكرت هذا للأخ المصنف فعساه أن ينظر في هذا الأمر المهم. واختصار الكتاب يَجعله صالحًا لأن يكون مَرجعًا في الحلقات التربوية، واللقاءات الثقافية، والرحلات والمخيمات، فمهما استطاع المصنفُ تيسيرَ إيصال الكتاب إلى مختلف طبقات الناس؛ فليفعلْ مشكورًا مأجورًا إن شاء الله تعالى. هذا والله أعلم وأحكم، وصلِّ اللهمَّ وسلمْ على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين. وكتبه محمد بن موسى الشريف 29 شوال 1433 16 سبتمبر 2012م

تعقيب

تعقيب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه الكرام الطيبين، وبعدُ: فبين يديِ القارئ الكريم الطبعةُ الجديدة من كتاب (حصان طروادة: الغارة الفكرية على الديار السُّنِّية)، وهي طبعة منقحة ومراجعة، وأرتضيها للقارئ أكثر من الأولى. وقد تفضلَت "دار العفاني" مشكورة بنشر الطبعة الأولى من الكتاب، ولقد سعيتُ جاهدًا في تهذيبها واختصارها؛ تلبيةً لنصيحة الحبيب الدكتور محمد بن موسى الشريف - حفظه الله تعالى - ولكن أراني قد خيبتُ أمله في ذلك؛ فقد كان الغرضُ منه أن يكون بحثًا مَرجعًا في هذا الباب، وهذا رأيته يَتطلبُ بعضَ الإسهاب والتوسعَ، فأسأل الله تعالى التيسيرَ والتوفيقَ والسدادَ والقبول، وأن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه، إنه ولي ذلك ومولاه. وكتبه عمرو كامل عمر الاثنين 13 صفَر 1435هـ 16 ديسمبر 2013م

مقدمة المؤلف

{مقدمة المؤلف} إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُّطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3) أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وبعد .. «فقد بعث الله سبحانه وتعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى الخلق على فترة من الرسل، وقد "مقت أهل الأرض، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب" (¬4) ماتوا - أو أكثرهم - قبيل مبعثه. ¬

(¬1) آل عمران: 102 (¬2) النساء: 1 (¬3) الأحزاب: 70 - 71 (¬4) الحديث رواه مسلم (204 - 261هـ)، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: 2865، من حديث العِياض بن حِمار المُجاشِعي - رضي الله عنه -. وقال النووي رحمه الله (631 - 676هـ) في شرحه: «والمراد ببقايا أهل الكتاب الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل» [شرح النووي على صحيح مسلم (17/ 198)]. وللمهندس فاضل سليمان رسالة ماچيستير كبيرة النفع، يكشف فيها زيف ادعاء المؤرخين الذين روجوا لهذه البقايا من أهل الكتاب على أنهم (هراطقة آريوسيين)، وهم في حقيقة الأمر طائفة من النصارى الموحدين، يُنسبون لآريوس Arius كاهن كنيسة بوكلى بالإسكندرية (256 - 336م). وفي بحثه القيم ينقل عن الباحث اللاهوتي الإنجليزي موريس وايلز (1929 - 2005م) قوله العجيب: «عزل الآريوسيين للعيش في مجتمعات منفصلة ومهمشة، ويكشف (الكاتب) عن خصائص عقلية هؤلاء المرحَّلين للعيش في جيتو Ghetto ويواسون أنفسهم على سوء حظهم الاجتماعي بالنظر إلى أنفسهم على أنهم بقايا المؤمنين في عالم مادي» [انظر، فاضل سليمان: أقباط مسلمون قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، ص (93)، نقلًا عن: الهرطقات المتعلقة بالنماذج الأصلية (أو التوراتية)، الآريوسية عبر العصور، لموريس وايلز، ص (40). Maurice Wiles: Archetypal Heresy, Arianism Through the Centuries]، و (الكاتب) الذي يقصده وايلز هو أحد الآريوسيين الذين عاشوا في مطلع القرن الخامس الميلادي، وكتابه هو شرح لإنجيل متَّى يعرف باسم Opus Imperfectum [انظر: وايلز، ص (38)] .. وقد قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله (239 - 321هـ) في عرض حديثه عن الآريوسيين: «وجاز بذلك أن تكون هذه الفرقة التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عياض بن حمار» اهـ[الطحاوي: شرح مشكل الآثار (5/ 232)].

والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب: إما مبدَّل، وإما مبدَّل منسوخ، ودين دارس (¬1)، بعضه مجهول، وبعضه متروك .. وإما أمِّي من عربي وعجمي، مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من نجم أو وثن، أو قبر، أو تمثال، أو غير ذلك. والناس في جاهلية جهلاء، من مقالات يظنونها علمًا وهي جهل، وأعمال يحسبونها صلاحًا وهي فساد، وغاية البارع منهم علمًا وعملًا أن يُحَصِّل قليلًا من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين، قد اشتبه عليهم حقه بباطله، أو يشتغل بعمل القليل منه مشروع، وأكثره مبتدَع لا يكاد يؤثر في صلاحه إلا قليلًا، أو أن يكدح بنظره كدح المتفلسفة، فتذوب مهجته في الأمور الطبيعية والرياضية، وإصلاح الأخلاق، حتى يصل - إن وصل - بعد الجهد الذي لا يوصف، إلى نزر قليل مضطرب، لا يروي ولا يشفي من العلم الإلهي، باطله أضعاف حقه - إن حصل - وأنَّى له ذلك مع كثرة الاختلاف بين أهله، والاضطراب وتعذر الأدلة عليه والأسباب. فهدى الله الناس ببركة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من البينات والهدى، هداية جلت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين عمومًا، ولأولي العلم منهم خصوصًا، من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسنن المستقيمة، ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علمًا وعملًا، الخالصة من كل شوب، إلى الحكمة التي بعث بها، لتفاوتا تفاوتًا يمنع معرفة قدر النسبة بينهما، فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى» (¬2). ¬

(¬1) أي مندثر. (¬2) من كلام شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله (661 - 728هـ)، انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، ص (8 - 9).

قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬1). وقال - عز وجل -: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2). وقال - جل جلاله - مخاطبًا نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} (¬3). ... وبعد، فإنه لما اجتاح الإسكندر الأكبر Alexander the Great (356 - 323 ق. م) بلاد الشرق، فارس والهند ومصر، كتب له أستاذه أرسطو Aristotle (384 - 322 ق. م) ينهاه عن هذا الغزو؛ لأن من شأنه القضاء على تميز الجنس اليوناني حين يحتك اليونانيون بالشرقيين. ولكن جاءه رد الإسكندر قائلًا إنه يغزو الشرق «لأجل أن يجعل الثقافة والفكر اليونانيين هما فكر العالم وثقافته» اهـ. فحينما تدبرت هذه الرواية، لاحت في خاطري حقائق ومسائل .. الأولى: هي أنه عند التأمل في سنن الله تعالى في خلقه، تجد ميلًا إنسانيًا غير محدود إلى ما اصطُلِح على تسميته بالعولمة Globalization وتوسيع النفوذ وبسط السلطان، وتجد أحلامًا فطرية بالحركة في عالم واحد بعيد عن الحدود والقيود، حالت الحقائق الجغرافية وتباين الثقافات والمصالح دون تحقيقها، مصداقًا لقول الله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} (¬4)، وذلك من إرادته الكونية القدرية: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬5). والثانية: هي أن الشارع الحكيم - جل جلاله - بحكمته وإرادته الدينية الشرعية حضنا على الوحدة وعدم الاختلاف، فقال - عز وجل -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (¬6)، بل جعل الاختلاف من صفات غير المرحومين، وذلك في قوله تعالى: ¬

(¬1) آل عمران: 164 (¬2) المائدة: 19 (¬3) هود: 112 - 113 (¬4) المائدة: 48 (¬5) الأنبياء: 23 (¬6) آل عمران: 103

{وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (¬1)، وأوجب علينا كأفراد اتِّباع الشرع والإيمان بالقدر، وليس ترك الشرع والاحتجاج بالقدر. وعند استحضار هذين الأمرين تتبين لك حكمة الخالق تبارك وتعالى من وضعه هذه الغريزة في الإنسان، ثم ترشيدها بتوظيفها في غاية عليا وهي وظيفة (التبليغ عن الله)، والتي منها كانت بعثة الرسل والرسالات. حتى تُوِّجَت هذه الوظيفة في رسالة خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأُخْرِجَت من الخصوص إلى العموم بقول الله جل وعلا: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} (¬2)، وبقوله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬3)، وأُطِّرَت هذه الوظيفة بإطار الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله، بل جُعِلَ هذا الإطار هو الحد الشرعي للاتفاق والاختلاف بين البشر. أما الثالثة: فهي أن الحق واحد لا يتجزأ، والباطل ظلمات بعضها فوق بعض: {هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (¬4). والرابعة: أن الله تبارك وتعالى قضى بانقسام البشر إلى فريقين: مؤمن وكافر: {وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (¬5)، وقد جعل الأرض دارًا يتقاسمها ويتعايش فيها الفريقان، وجعل الأيام بينهما دولًا، حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، ويُسكِن كلاهما داره الأبدية: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (¬6)، جزاء بما قدمت أيديهم، وأن الله ليس بظلام للعبيد؛ فلقد هدى الله تعالى الإنسان السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا، وأخبر بأنه: {مَن أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (¬7). ¬

(¬1) هود: 118 - 119. فائدة: يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله (1347 - 1421هـ): «أما حديث: اختلاف أمتي رحمة، فهو حديث ضعيف لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الله تعالى يقول: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118 - 119]، فجعل الله - عز وجل - الاختلاف من صفة غير المرحومين، فالأمة لا يمكن أن تختلف، بل رحمة بها ألا تختلف، لا أقول: لا تختلف أقوالها، فإن الأقوال قد تختلف، لكن لا تختلف قلوبها» اهـ. [ابن عثيمين: تعاون الدعاة وأثره في المجتمع، ص (38)]. (¬2) آل عمران: 110 (¬3) الأعراف: 158 (¬4) الرعد: 16 (¬5) الأنعام: 35 (¬6) الشورى: 7 (¬7) الليل: 5 - 10

والخامسة: أن الخطوط العريضة التي قام عليها الصراع الأزلي تأسست على قول المولى - عز وجل -: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬1). وعند استحضار مشهد الصراع القديم وتبعاته بين القوى العظمى الثلاثة: (الرومية/النصرانية)، و (الفارسية/المجوسية)، و (العربية/الإسلامية)، تجد مصداق هذه الحقائق مجتمعة؛ حتى وإن ضاقت هذه الدوائر الثلاثة الكبرى تجد نفس الحقائق تتجلى في دوائر (طائفية) داخلية صغرى .. فدل ذلك على أن السلوك الإنساني العولمي الفطري يدفعه محرك ثقافي هُوِيَّاتي في المقام الأول، وكما يذكر العلامة أبو فهر رحمه الله (1327 - 1418هـ/1909 - 1997م)، فإن «رأس كل ثقافة هو الدين بمعناه العام» (¬2)، والإنسان هو أحد رجلين: إما داع أو مدعو، ولذلك تجد أن الثقافة المفروضة هي ثقافة الغالب عادة. وحتى لما تمرد الإنسان الغربي وتحرر من السلطة الدينية المهيمنة عليه، المناقضة لصريح فطرة الإسلام التي فطر الله الناس عليها، وفصل دينه عن دنياه، وظل ماضيًا في طريقه سعيًا لتحقيق طموحاته التوسعية، وصارت له القوة والغلبة، طغى شرقًا وغربًا بفكره المتحرر من قيود الأخلاق والدين، داعيًا إلى ثقافة (السلام الإنساني) المشبوهة، بمصطلحاتها المائعة كالتقريب والتعايش والحوار وما شابه، وخارت له قوى كثيرة ودارت في فلكه على غير هدى، ولكنه في ظل دعوته تلك لم يتمكن من التخلص من شبح الصراع القديم الذي لا يزال يتسكع في لاشعوره، فلم ينفك الصراع عن صورته الأولى، ولكنه تنكر في ديباجة بيضاء، تحمل في طياتها صفحات دموية سوداء. والحديث ذو شجون، والمسألة أراها مركَّبة يشوبها بعض المتناقضات!؛ ففي الوقت الذي تجد فيه أصواتًا (غير مسلمة) تحذر من خطر الإعصار العولمي العَلْماني النفعي الكاسح، وتنادي بضرورة التمسك بالجذور الثقافية الدينية، تجد هذه الأصوات تجتمع مع ضدها لاقتلاع جذور الصحوة الإسلامية الصاعدة. ولكن سرعان ما ينجلي هذا التناقض حينما نراجع الحقائق السالفة، ونستوعب معنى (الأمم) في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكَلَةُ إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن ¬

(¬1) البروج: 8 (¬2) أبو فهر محمود شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص (31).

يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» (¬1)، فالإنسان جبل على حب السيادة، والكفر ملة واحدة. والذي أثار شجوني هو ما أشاهده من غفلة وانجراف إسلامي غير واع مع إعصار العولمة الكاسح. وحقيقة، فإن ما استثارني لنزول هذه الساحة وتسطير هذه الكلمات هو موقف التقى في ذهني مع اثنان أخر: والأول: كان في الثاني من إپريل عام 2005م، حينما هلك الپولندي كارول چوزيف فويتيالا Karol Jozef Wojtyla (1920 - 2005 م)، الملقب بيوحنا پولس الثاني بابا الفاتيكان Pope John Paul II. فما زلت أذكر ما أبداه بعض دعاة المسلمين من بالغ مشاعر الحزن والأسى على داعية السلام الفريد، والدعاء له بالمغفرة والرحمة وقبول صالح الأعمال! بل وما عبرت به بعض الصحف عن موقف الدعاة بأنه «انعكاس للصورة الحقيقية لإسلامنا العظيم». فالتقى هذا الأمر في ذهني بآخر: وهو ما صار يروج إليه البعض من قول بأن عداءنا ليس مع اليهود، إنما هو فقط مع الصهاينة منهم؛ وهذا القول على إطلاقه غير مقبول، فقد نتفق معه من جانب ونعارضه من جانب آخر، وَندَع التفصيل إلى موضعه. ولكن الأدهى أنك تجد من بين المسلمين من يتجاوز هذه الدعوة ويرى تطبيع العلاقات مع الدولة الصهيونية اللقيطة ومسايرة الواقع وكأن شيئًا لم يحدث، وكأن الحل (الإسراطيني) لقيام دولتين أو العودة إلى (حدود 67) هو النصر المبين. ونهاية الملتقى: كان مع ما تواتر على لسان بعض دعاة أهل السنة، خاصة بعد أحداث (الوعد الصادق)! (12/ 7 - 15/ 8/2006م) بين حزب (اللات) الرافضي والكيان الصهيوني، من قول: «أمازلنا نقول سنة وشيعة؟!». علمًا بأنه ليس مقام تعيين أحد بجرح أو تعديل، فهذا لا يكون لأمثالي، وقد قال ¬

(¬1) رواه أبو داود (202 - 275هـ)، كتاب الملاحم: 4297، وصححه الألباني.

الإمام الذهبي رحمه الله (673 - 748هـ) (¬1): «الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع» اهـ. وأنا لست هذا أو ذاك، أسأل الله الستر والمغفرة، وعفا الله عن الجميع. ولكن، ولكي نحصر المسألة، فإن ما أثار حفيظتي هو أنه في ظل هذا الانجراف الإسلامي مع الإعصار العولمي العَلْماني الذي ضرب بشدته ديار أهل السنة - إلا ما رحم الله - تجد أنه لم يغفل عن هذا الخطر قطبا الصراع القديم؛ أعني الكيان الفاتيكاني القديم المتصدِّع، وأئمة الرفض أصحاب العمائم السوداء .. فالفاتيكان الذي بدأ يستشعر انسحاب بساط السيادة من تحت قدميه، وانفلات شعبه الذي لم يعد يخشى منه حَجْبًا أو حرمانًا، وجد نفسه في مطلع النصف الثاني من القرن الميلادي المنصرم أمام ثلاثة مواقف ليختار منها، وهي كما عددها البابا پولس السادس Pope Paul VI (1897 - 1978 م) وقتها: 1 - موقف (الجيتو) الهارب إلى عالمه الخاص، والمنكفئ على ذاته. 2 - موقف التحريم، والاقتراب من العالم فقط بهدف إدانته. 3 - موقف الحوار (¬2). ولا ريب أن المصلحة اقتضت ترجيح الثالث. ولكن هذا (الانقلاب الكوپرنيكي) - كما تصفه الكتابات الكاثوليكية - (¬3) لم يكن من باب التسليم بالأمر الواقع حيادًا عن الرسالة ¬

(¬1) شمس الدين الذهبي: ميزان الاعتدال (5/ 60). (¬2) انظر، ألكسي چورافسكي Alexei Jouravski: الإسلام والمسيحية، من التنافس والتصادم إلى آفاق الحوار والتفاهم، ص (140). (¬3) نسبة إلى عالم الفلك والرياضيات الپروسي ميكواي كوپرنيك Mikolaj Kopernik (1473 - 1543 م)، صاحب نظرية (مركزية الشمس)، والتي نقض بها نظرية (مركزية الأرض) الكنسية التي تجعل الأرض مركز الكون والأجرام السماوية كافة تدور حولها. وكوپرنيكوس بنظريته تلك قد أحدث انقلابًا تاريخيًا زعزع سلطة الكنيسة التي كانت هي المصدر الوحيد للمعرفة. ولم ينج كوپرنيكوس من قبضة محاكم التفتيش إلا لأن المنية قد أدركته بعد طبع كتابه (عن دوران الأجرام السماوية De revolutionibus orbium coelestium) بقليل، والذي منعت الكنيسة تداوله وقالت أن ما فيه هو «وساوس شيطانية مغايرة لروح الإنجيل». ولذلك أشير إلى استخدامي لمصطلح (العَلْمانية) هكذا (بفتح العين وسكون اللام) نسبة إلى العَلْم، بمعنى العالَم، أي الخلق كله، لا (بكسر العين) نسبة إلى العِلْم التجريبي الذي انتصر على الكنيسة بعد صراع مرير سالت فيه الدماء وأزهقت فيه الأرواح، لأن الكنيسة كانت بالمرصاد لكل رأي علمي يعارض التفسير الديني للكتاب المقدس. وذلك لأن الإسلام في حل من هذا كله؛ فكما يقول جوستاف لوبون (1841 - 1931م): «والإسلام (من) أكثر الديانات ملاءمة لاكتشافات العلم، و (من) أعظمها تهذيبًا للنفوس وحملًا على العدل والإحسان والتسامح» [جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص (126). Gustave Le Bon: La Civilisation des Arabes] .. فالترويج لمصطلح (العِلْمانية) بالكسر ينطوي على قدر كبير من الخطأ والتلبيس: وذلك لأن الكلمة في جذورها الأوروپية لا علاقة لها بالعلم؛ فـ (العَلْمانية) تعرف في اللغة الإنجليزية بـ (Secularism)، وكما جاء في دائرة المعارف البريطانية: «Secular: Non Spiritual, having no concern with religious or spiritual matters»، أي: «غير روحي، غير متعلق بالأمور الدينية والروحية» [Encyclopadia Britannica: vol. 23, p(572)]. ولو كان المصطلح المراد به النسبة إلى (العِلْم Science) لكان يعرف في اللغة الإنجليزية بـ (Scientism). وعلى هذا كله، وكما يذكر الدكتور صلاح الصاوي: «فإن المعنى الصحيح لهذا التعبير هو الفصل بين الدين والدولة، بل بتعبير أدق الفصل بين الدين والحياة، وعدم المبالاة بالدين أو الاعتبارات الدينية، ونزع القداسة عن المقررات الدينية والتعامل معها كمواريث بشرية بحتة، وقصر الدين على جانب الشعائر التعبدية الفردية البحتة باعتباره علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه» اهـ[د. صلاح الصاوي: أصول الإيمان، ص (191)].

(الشاءولية/الپولسية) التبشيرية، إنما لجوءًا للحيلة (الطروادية) الأسطورية القديمة (¬1)، فكان الأمر كما وصفه اللاهوتي الفرنسي الأرثوذكسي أوليفييه كليمون Olivier Clément (1921 - 2009 م) بقوله: «إن هذا الحوار عبارة عن عملية تغليف مذهَّبة عصرية لحبة قديمة كانوا يفرضونها قهرًا على الشعوب فيما مضى» اهـ (¬2). ولحق بركب الكاثوليك باقي الطوائف النصرانية متمثلة في (مجلس الكنائس العالمي ¬

(¬1) أسطورة حصان طروادة: هي جزء من أساطير حرب طروادة. تقول الأسطورة إن الجنود الإغريق حاصروا مدينة طروادة Troy لمدة عشر سنين، ولما تعذر عليهم فتحها ابتدعوا حصانًا خشبيًا ضخمًا أجوف ملئوه بالمحاربين، ثم تظاهر سائر الجيش بالانسحاب تاركين الحصان الذي فهم الطرواديون أنه عرض سلام، خاصة بعد أن أقنعهم جاسوس إغريقي بأنه هدية، فقاموا بجره إلى داخل المدينة رغم تحذير لاكون Laocoon وكاساندرا Cassandra، وشرعوا يحتفلون بانتهاء الحصار، ولما خرج الجنود من الحصان، وجدوا السكان في حالة السكر، ففتحوا بوابات المدينة ليدخل باقي جيشهم، فنهبت المدينة، وقتل رجالها بلا رحمة، واستعبد النساء والأطفال. (¬2) انظر، د. زينب عبد العزيز: تنصير العالم، مناقشة لخطاب البابا يوحنا پولس الثاني، ص (97).

World Council of Churches WCC)، وفي المسألة تفصيل سيأتي .. ولكن ما يحزن له القلب أنه، وكما قال الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله (1365 - 1429هـ) (¬1): «ما كادت شعارات هذه النظرية تلوح في الأفق، وتصل إلى الأسماع، إلا وقد تسربت إلى ديار الإسلام، فطاشت بها أحلام، وعملت من أجلها أقلام، وفاهت بتأييدها أفمام، وانطلقت بالدعوة إليها ألسن من بعد أخرى، وعلت الدعوة لها سدة المؤتمرات الدولية، وردهات النوادي الرسمية والأهلية ..»، وإلى الله المشتكى. أما أئمة دولة الرافضة الاثني عشرية، الإسلامية اسمًا، (المجوسية-اليهودية) ضمنًا؛ فطموحاتهم التوسعية في المنطقة طمعًا في إعادة المجد الفارسي القديم، قد عاقها انبعاث الصحوة الإسلامية السنِّية من جهة، والتهديد (الرومي) الإمپريالي (¬2) الأمريكي من جهة أخرى، الأمر الذي ألجأهم إلى تمرير حصان طروادي آخر إلى الشعوب العربية السنِّية الغافلة، لاعبين على وتر الوحدة الإسلامية في مواجهة الخطر الصليبي المتصهين. وهي دعوة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قِبَلِهِ العذاب؛ ذلك لأن القوم ما دعوا إليها إلا من أجل تحقيق مصلحة وقتية، وهي نيل تأييد وتعاطف الرأي (العامِّي) الذي يظن في دولتهم أنها حصن الإسلام المنيع المتصدي لهذا الخطر (¬3)، وأن حسن نصر الذي بات يهدد ليل نهار بضرب إسرائيل هو «رجل في زمن الأنوثة»، وأنه تأويل قول الله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} (¬4) وقوله - عز وجل -: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}!!! (¬5). ¬

(¬1) د. بكر أبو زيد: الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان، ص (29). (¬2) الإمپريالية Imperialism: أي الاستعمار (أو الاستخراب على الصحيح!)، وهي تعني في المصطلح السياسي توسيع السيطرة أو السلطة على الوجود الخارجي بما يعني اكتساب وصيانة الإمپراطوريات. (¬3) قال حسين شريعتمداري - أحد كبار مساعدي مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي ورئيس تحرير صحيفة (كيهان)، وهي الصحيفة اليومية الرسمية في إيران - في افتتاح له في مطلع أغسطس 2006م (أي بعد حرب لبنان الأخيرة) تحت عنوان (هذه حربنا): «إن حزب الله لا يقاتل من أجل السجناء ولا من أجل مزارع شبعا أو حتى القضايا العربية أيًا كانت في أي وقت، وإنما من أجل إيران في صراعها الحدودي لمنع الولايات المتحدة من إقامة شرق أوسط أمريكي» اهـ. [انظر، عبد المنعم شفيق: حقيقة المقاومة، حزب الله رؤية مغايرة، مقدمة ط. الثالثة]. (¬4) الروم: 4 - 5 (¬5) النصر: 1 .. ويرُد ادعاء حسن نصر ما قاله المجرم أرييل شارون Ariel Sharon (1928 - 2014 م) في مذكراته، قال: «لم أر يومًا في الشيعة أعداء إسرائيل في المدى البعيد، ولا حتى في الدروز» [مذكرات أرييل شارون، ص (584)]، وقال في أحداث حرب لبنان 1981م: «سنحرص حتى لا تطال هذه العملية الشيعة والدروز والمسيحيين» اهـ[نفسه، ص (575)].

وما عاد يصعب على من يتأمل ساحة الأحداث ملاحظة أن المصلحة الحقيقية تقتضي اتفاق القطب الرومي والفارسي على اقتلاع الكيان السنِّي من المنطقة، ودع عنك المناوشات والحرب الكلامية بين الطرفين، فهم إن صدقوا في بعضها فهو من باب سياسة (عض الأصابع) التي يلجئون إليها عادة في حال تغيُّر (قواعد اللعبة)! (¬1). ... لقد تتابعت الأحصنة الخشبية في زماننا وتكاثرت؛ بين شرقية وغربية، رومية وفارسية، قومية عربية وتركية، كتابية ووثنية وإلحادية .. وكلها فُتحِت لها أبواب حصن (طروادة المسلمة)، دار السنَّة والجماعة .. وكان أخطرها فيما رأيت هما ما خصصت لهما القول. وكأني برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها فجعل ينزَعُهُن ويغْلِبْنَه فيقْتَحِمْنَ فيها فأنا آخذ بحُجَزِكُم عن النار وأنتم تَقَحَّمون فيها» (¬2). ورحم الله الشيخ الندوي (1332 - 1420هـ) إذ يقول (¬3): «إن الشعوب الإسلامية ¬

(¬1) ولعل من القرائن الدالة على ذلك إجماع ثلاثة من أشهر المحللين الأمريكيين المهتمين بقضايا الشرق الأوسط على أن تقارب واشنطن وطهران أمر وارد، في عهد إدارة (أوباما Obama) الأمريكية الجديدة [انظر، جريدة (المصري اليوم)، عدد الثلاثاء 2/ 6/2009م، ص (6)]. كذلك فإن من القرائن الدالة على النوايا الفارسية المخبأة، ذلك التهديد الإيراني بمنع شركات الطيران من استخدامها مجالها الجوي إذا استعملت مصطلح (الخليج العربي) بدلًا من (الخليج الفارسي)؛ فكما نقلت وكالة (رويترز Reuters) الإخبارية عن صحيفة (إيران) اليومية في 22 فبراير 2010م ما قاله وزير الطرق والمواصلات الإيراني حامد بهبهاني أنه «تم التنبيه على شركات الطيران في الدول الواقعة جنوب الخليج (الفارسي)، التي تطير إلى إيران باستخدام مصطلح (الخليج الفارسي) على لوحات العرض الإلكترونية بها»، وأضاف: «وإذا لم تفعل فستمنع من دخول المجال الجوي الإيراني لمدة شهر في البداية، وإذا تكرر ذلك فستجبر طائراتها على الهبوط في إيران وستلغى تصاريح القيام برحلات إلى إيران». (¬2) رواه البخاري (194 - 256هـ)، كتاب الرقاق: 6118 (¬3) أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص (252).

والبلاد العربية - مع الأسف - ضعيفة الوعي، إذا تحرجنا أن نقول: فاقدة الوعي، فهي لا تعرف صديقها من عدوها ولا تزال تعاملهما معاملة سواء أو تعامل العدو أحسن مما تعامل الصديق الناصح وقد يكون الصديق في تعب وجهاد معها طول حياته بخلاف العدو، ولا تزال تلدغ من جحر واحد ألف مرة (¬1) ولا تعتبر بالحوادث والتجارب، وهي ضعيفة الذاكرة سريعة النسيان تنسى ماضي الزعماء والقادة، وتنسى الحوادث القريبة والبعيدة، وهي ضعيفة في الوعي الديني والوعي الاجتماعي وأضعف في الوعي السياسي، وذلك ما جر عليها ويلًا عظيمًا وشقاءً كبيرًا وسلط عليها القيادة الزائفة وفضحها في كل معركة» اهـ. إذن، فمحاولة لإعادة تقويم وعي الأمة وتجاوز هذا الجحر اللادغ! سطَّرت هذه الكلمات، عملًا بقول ربنا - جل جلاله -: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (¬2). ورضي الله عن حذيفة إذ يقول: «كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني» (¬3)، وعن عمر إذ يقول: «إنما تُنقَض عُرَى الإسلام عروة عروة إذا نشأ فى الإسلام من لم يعرف الجاهلية»؛ قال ابن القيم رحمه الله (691 - 751هـ) (¬4): «وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوَّبه وحسَّنه. وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره، أو شر منه أو دونه، فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه ويعود المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويُكَفَّر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويُبَدَّع بتجريد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حيٌّ يرى ذلك عيانًا، والله المستعان» اهـ. ¬

(¬1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يُلْدَغ المؤمن من جحر واحد مرتين» [رواه البخاري، كتاب الأدب: 5782]. (¬2) الأنعام: 55 (¬3) رواه البخاري، كتاب المناقب: 3606 (¬4) ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين (1/ 344). يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله (1906 - 1966م): «الجاهلية ليست فترة من الزمن محدودة ولكنها طابع روحي وعقلي معين، طابع يبرز بمجرد أن تسقط القيم الأساسية لحياة البشرية كما أرادها الله» اهـ. [قاله في تقديمه لكتاب أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين].

والإشكال الذي نواجهه هنا هو أنه، وكما يصف الأستاذ عبد المنعم شفيق (¬1): «بين مُسلَّمات عقدية راسخة، وأصول مستقرة، وبين واقع ضاغط على الفكر والشعور، تضطرب الرؤى وتحار العقول». إلا أنه يحضرني قول أختم به للدكتور حسن ظاظا رحمه الله (1919 - 1999م)، أستاذ العبرية بجامعة الإسكندرية، حيث قال (¬2): «قد يستطيع الإنسان تزييف الحقائق، وقد يسهل عليه أن يكذب حتى يصدِّق هو نفسه كل أكاذيبه، وينسى أنه مخترعها الأصلي. ولكن رغم هذا يبقى دائمًا شيء واحد: الكلمة المكتوبة منذ آلاف السنين، والآثار التي تحدد بالضبط عمر الأشياء وعمقها، ومخطوطات التاريخ التي تظل دائمًا هي المرجع وكلمة الصدق الوحيدة التي لا تميل مع أهواء البشر، وحتى إذا حدث ومالت، فبين سطورها تستطيع الحقيقة دائمًا أن تجد لها مكانًا» اهـ. وقد سميت الرسالة: (حصان طروادة: الغارة الفكرية على الديار السُّنِّية). وقسمتها إلى مقدمة وبابين وخاتمة: الباب الأول: وقد عنونته بـ (حصان رومي)، ويتكون من ثلاثة فصول: - الفصل الأول: المسلك المختار لدعوة الحوار: ونوضح فيه معنى الحوار لغة واصطلاحًا، ومتى كانت بِداءةُ تداوله كمصطلح سياسي أيديولوچي (¬3)، ثم نميِّز مستويات هذا الحوار وننقب عن البواعث الخفية للحوار العالمي المسيَّس للتقريب بين الإسلام والنصرانية من خلال طرح ما يسمى بـ (إشكالية الحوار والبشارة)، ثم نبين ضوابط الحوار الشرعي المحمود بين المسلمين وغيرهم. ونقيس على ذلك مساعي التقريب بين أهل السنة والجماعة والشيعة الإمامية، وقد رأيت دمجهما في فصل واحد لاتصال قواعد المسألتين نسبيًا. ¬

(¬1) عبد المنعم شفيق: حزب الله رؤية مغايرة، ص (13). (¬2) نقله ظفر الإسلام خان في كتابه: التلمود، تاريخه وتعاليمه، ص (92)، عن حديث للدكتور حسن ظاظا نشرته جريدة (أخبار اليوم) في عدد 18/ 7/1970م، بعنوان: لغة العدو ماذا تقول؟ (¬3) أيديولوچيا Ideology: مصطلح لاتيني معناه (علم الأفكار)، أي العلم الذي يهتم بدراسة الأفكار والآراء والتصورات من حيث أصولها ونشأتها وخصائصها وأشكالها وقوانينها وعلاقاتها بالعلامات والألفاظ الدالة عليها. وقد استعمله لأول مرة الفيلسوف الفرنسي ديستوت دي تراسي Destutt de Tracy (1754 - 1836 م) عام 1796م.

- الفصل الثاني: بين أوربانية الماضي والحاضر: ننتقل فيه إلى مناقشة واقع الرؤية الغربية للعالم الإسلامي والمسلمين، والجذور الفكرية العميقة الداعمة لهذه الرؤية، والتي أثمرت عن حروب صليبية متصلة قديمًا وحديثًا على عدة مستويات. - الفصل الثالث: الصهيونية، رؤية مغايرة: وفيه نستكمل ما ناقشناه في الفصل الثاني ولكن من زاوية أخرى، وذلك ببيان واقع العلاقة بين اليهود والنصارى على مر التاريخ، والتي طُمِسَ عن عمد - غالبًا - الكثير من معالمها وغُلِّب عليها الرؤية الصهيونية المحصورة في دائرة (المؤامرة اليهودية العالمية) من جهة، و (معاداة السامية) من جهة أخرى. ثم نقدم عرضًا تاريخيًا تحليليًا أكثر عمقًا لهذه البدعة الصهيونية، وكيف أنها في حقيقتها امتداد للحرب الصليبية القديمة، ونبين كيف اجتمع القوم على كلمة سواء للقضاء على أمة الإسلام، عملًا بقاعدة: «أن نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه»! أما الباب الثاني: وقد عنونته بـ (حصان فارسي): ننتهج فيه نهجًا مغايرًا لما اتخذناه في الباب الأول، يقوم على دراسة (تاريخية-عقائدية) لفرقة الشيعة الرافضة الاثني عشرية؛ فقد رأيت أن رصد الجانب العقدي وإبراز بعض المسائل التاريخية التي شابها التحريف قد يكون كافيًا لوضع التصور العام لما ينبغي أن يكون عليه الحوار والتعايش، بعيدًا عن الدخول في متاهات ودهاليز سياسية مختصر النصيحة فيها قول القائل: «الأحضان الإيرانية ليست دائمًا دافئة!». وقد قسمت الباب إلى ثلاثة فصول: - الفصل الأول: تشيُّع أم رفض؟ وقفة تاريخية تأصيلية: وفيه نلقي نظرة تاريخية عامة على تاريخ التشيع ومراحل تطوره والمحطات التي أخرجته من دائرة السياسة إلى الانحراف العقدي إلى أن ظهرت فرقة الرافضة الاثني عشرية، ذلك مع بيان حال الشيعة الأوائل وتسليط الضوء على بعض الوقائع التاريخية التي وقع فيها التشويه المتعمد لسيرة السادة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم، مع إدراج تأصيل علمي لمعنى الصحبة لغة واصطلاحًا وبيان حكم الإسلام فيمن تناول الصحابة - رضي الله عنهم - بسوء. - الفصل الثاني: عقيدة أهل المذهب الفقهي الخامس: ونراجع فيه بعض الأصول

والاعتقادات التي تفردت بها الشيعة الإمامية نقلًا عن كتبهم المعتمدة رأسًا، وبيان مخالفتها لصريح الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، وفيه رد على من اختزل دينهم وجعله مذهبًا فقهيًا خامسًا يجوز للعامِّي المُتَّبِع التعبد به، ثم بيان العلاقة الحميمة بين صحابة الرسول وآل بيته الأطهار - رضي الله عنهم - من كتب الإمامية كذلك، ثم بيان موقف علماء الإسلام المتقدمين والمتأخرين من هذه الفرقة ومعتقداتها. - الفصل الثالث: شبهات وردودها: ونتناول فيه بعض أهم الشبهات التي يروج لها القوم إجمالًا فيما يتعلق بإمامة سيدنا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وفيما يتناول الطعن في عدالة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. ثم الخاتمة. وأنا أُشهِد الله تعالى وأعلم من نفسي أنني لست أهلًا لهذا المقام، ولكن لعل دافعي كان قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رُب مُبَلَّغ أوعى من سامع» (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (¬2). يقول الشيخ العثيمين رحمه الله (¬3): «إذا كان الإنسان على بصيرة فيما يدعو إليه، فلا فرق بين أن يكون عالمًا كبيرًا يُشار إليه، أو طالب علم مُجِد في طلبه، أو عامِّيًا لكنه عَلِم المسألة علمًا يقينيًا، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بلِّغوا عني ولو آية" (¬4)، ولا يشترط في الداعية أن يبلغ مبلغًا كبيرًا في العلم، لكن يشترط أن يكون عالمًا بما يدعو إليه» اهـ. فخذ بعلمي وإن قصَّرتُ في عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري ولا يفوتني بعد حمد الله تعالى جل ثناؤه، حمدًا كما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه - لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك - لا يفوتني أن أتقدم بشكر واجب لكل من أعان على نشر هذه الرسالة وأسهم فيها بالرأي والنصح، فقد علَّمنا ¬

(¬1) رواه الترمذي (209 - 279هـ)، كتاب العلم: 2657، وصححه الألباني. (¬2) رواه الترمذي، كتاب العلم: 2656، وصححه الألباني. (¬3) ابن عثيمين: تعاون الدعاة وأثره في المجتمع، ص (32). (¬4) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء: 3461

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه «لا يشكُرُ اللهَ من لا يشكُرُ الناس» (¬1)، وأخص بالذكر: الفقيد الحبيب الدكتور محمد يسري سلامة (1974 - 2013م)، الذي كان له الأثر القوي في إخراج هذا البحث على هذا الحال، لاسيما الباب الأول منه، والذي أفادني فيه بنصائحه الثاقبة ودعمه الكبير، ووصفه بالبحث الممتاز، رحمه الله تعالى وغفر له. وللجميع أقول: إن لسان حالي يعجز عن شكركم، ولكن عزائي أن «من صُنِعَ إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء» (¬2). فجزاكم الله خيرًا .. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله والحمد لله أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله الأطهار، وصحبه الأخيار، وسلم تسليمًا كثيرًا وكتبه عمرو كامل عمر غفر الله له ولوالديه وللمسلمين وكانت بداءته في القاهرة، عصر يوم الخميس 24 من شهر الله المحرم 1427هـ الموافق 23 فبراير/شباط 2006م وكان الفراغ منه في الإسكندرية، عصر يوم النَحْر الثلاثاء 10 من ذي الحجة 1431هـ الموافق 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2010م [email protected] ¬

(¬1) رواه أبو داود، كتاب الأدب: 4811، وصححه الألباني. (¬2) رواه الترمذي، كتاب البر والصلة: 2035، وصححه الألباني.

الباب الأول حصان رومي

الباب الأول حصان رومي الفصل الأول: المسلك المختار لدعوة الحوار الفصل الثاني: بين أوربانية الماضي والحاضر الفصل الثالث: الصهيونية، رؤية مغايرة

الفصل الأول: المسلك المختار لدعوة الحوار

الفصل الأول: المسلك المختار لدعوة الحوار

- - {المسلك المختار لدعوة الحوار} - - {وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} (¬1) شاع في العقود الأخيرة استعمال مصطلح (الحوار Dialogue) على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية، وطال ذلك دعوة التقريب بين الأديان وما شابهها من دعاوى، فطغى هذا التعبير على ما عداه، وصار محبَّذًا لدى المشتغلين في هذا الحقل، مقدمًا على غيره من الاصطلاحات، مما يستدعي إلقاء الضوء على دلالته .. فـ (الحوار) من حيث اللغة: مادته (حور)، و (الحور) - كما يقول ابن منظور (630 - 711هـ) (¬2) - «الرجوع عن الشيء وإلى الشيء ... و (المحاورة): المجاوبة. و (التحاور): التجاوب ... و (هم يتحاورون): أي يتراجعون الكلام. و (المحاورة): مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة». ومنه قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (¬3)، وقوله - عز وجل -: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} (¬4). فحقيقته اللغوية إذن مطابقة لحقيقته الاصطلاحية التي تعني التباحث بين طرفين أو أكثر، ومراجعة الكلام بينهم بغرض التوصل إلى اتفاق، وإبداء وجهة نظر. ومفهوم الحوار في الفكر السياسي والثقافي المعاصر - كما يذكر الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري (¬5) - «من المفاهيم الجديدة حديثة العهد بالتداول، فليس الحوار من ألفاظ القانون الدولي، إذ لا يوجد له ذكر أصلًا في ميثاق الأمم المتحدة، ولا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ولا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ولا في إعلان ¬

(¬1) المائدة: 48 (¬2) ابن منظور: لسان العرب (4/ 217 - 8)، مادة: (ح ور). (¬3) المجادلة: 1 (¬4) الكهف: 34 (¬5) د. عبد العزيز بن عثمان التويجري: خصائص الحضارة الإسلامية وآفاق المستقبل، فصل: رؤية مستقبلية إلى الحوار بين الحضارات. والدكتور التويجري هو المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو ISESCO).

مبادئ التعاون الثقافي الدولي. وتأسيسًا على ذلك، فإن الحوار مفهوم سياسي أيديولوچي ثقافي حضاري، وليس مفهومًا قانونيًا» اهـ. ولعل من أسباب شيوع هذا الشعار كونه لا يفصح - بحد ذاته - عن هدف مبيت، أو يوحي بتوجه معين، يمكن أن يعد ملزمًا أو محرجًا للمنادين به من الطرفين. فالحوار لافتة تخفي وراءها أشكالًا متنوعة من المضامين، ووعاءٌ يمكن أن يحوي مواد متباينة (¬1). ونحن هنا - كما تبين من مقدمة البحث - بصدد مناقشة مسألة ذات مستويين: مستوى (إسلامي-كتابي)، ومستوى آخر (سُنِّي-شيعي). دعوة التقريب: على المستوى الأول (الإسلامي-الكتابي): إنه من بين أكثر من ثلاثمائة مؤتمر من مؤتمرات التقريب بين الأديان، والعديد من المناسبات والاحتفالات المشتركة جرت في العصر الحديث، بالإضافة إلى الكتابات الصادرة من دعاة التقريب ومنظِّريه (¬2)، يمكن أن نميز ثلاثة اتجاهات، لا يفصلها حدود حاسمة في مجال التطبيق العملي الميداني، وتعمل كلها تحت مظلة (حوار الأديان Interfaith Dialogue)، وهذه الاتجاهات هي: - وحدة الأديان. - توحيد الأديان. - التقريب بين الأديان. ¬

(¬1) د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان (1/ 347 - 8) باختصار وتصرف. (¬2) وهذا إحصاء الدكتور أحمد القاضي، انظر السابق (1/ 335)، وانظر: مسرد بالمؤتمرات المعقودة للتقريب بين الأديان مرتبة حسب وقوعها الزمني، المرجع نفسه (4/ 1687 - 718).

الاتجاه الأول (وحدة الأديان)

الاتجاه الأول (وحدة الأديان): هو الاعتقاد بصحة جميع المعتقدات الدينية، وصواب جميع العبادات، وأنها طرق إلى غاية. وهذا الاتجاه، بطبيعة الحال يتسم بالدعوة إلى التخفف من السمات العقدية والتشريعية الخاصة بكل ديانة، بحسبانها ظواهر وتقاليد تاريخية محلية لشعب معين، في حقبة تاريخية معينة، والانضواء تحت مفاهيم عامة، وجمل فضفاضة. ويمثل هذا الاتجاه في التاريخ زنادقة الصوفية من أرباب الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، كالحلاج (ت. 309هـ) وابن الفارض (ت. 632هـ)، وابن عربي الأندلسي الملقب بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر (ت. 638هـ)، القائل (¬1): لقد صار قلبي قابلًا كل صورة ... فمرعىً لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف ... وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهَت ... ركائبه فالدين ديني وإيماني وتلقف هذا المعتقد من بعده مختلف الفرق الباطنية، ثم متصوفة العصر السائرون على خطى ابن عربي وأمثاله. ولعل أول من جهر بهذه الدعوة من الإسلاميين في العصر الحديث هو جمال الدين الأفغاني (1838 - 1897م)، حيث يقول في خاطراته ما نصه (¬2): «... ثم رجعت لأهل جرم الأرض وبحثت في أهم ما فيه يختلفون فوجدته (الدين)، فأخذت الأديان الثلاثة وبحثت فيها بحثًا دقيقًا مجردًا عن كل تقليد، منصرفًا عن كل تقيد، مطلقًا للعقل سراحه. فوجدت بعد كل بحث وتنقيب وإمعان، أن الأديان الثلاثة، الموسوية والعيسوية والمحمدية، على تمام الاتفاق في المبدأ والغاية. وإذا نقص في الواحدة شيء من أوامر الخير المطلق، استكملته الثانية. وإذا تقادم العهد على الخلق وتمادوا في الطغيان، أو ساءت الكهان فهم الناموس، أو أنقصوا من جوهره، أتاهم رسول بأرفاد وتأييد، فأكمل لهم ما أنقصوه، وأتم بذاته ما أهملوه. وعلى هذا لاح لي بارق أمل كبير أن تتحد أهل الأديان الثلاثة مثل ما اتحدت الأديان ¬

(¬1) ابن عربي: ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق، ص (39 - 40). (¬2) خاطرات الأفغاني، ص (76) باختصار.

في جوهرها وأصلها وغايتها وأنه بهذا الاتحاد يكون البشر قد خطوا نحو السلام خطوة كبيرة في هذه الحياة القصيرة. وأخذت أضع لنظريتي هذه خططًا وأخط أسطرًا وأحبر رسائل للدعوة، كل ذلك وأنا لم أخالط أهل الأديان كلهم عن قرب وكثب ولا تعمقت في أسباب اختلاف أهل الدين الواحد وتفرقهم فرقًا وشيعًا وطوائف ولكن ما علمت أن دون اتحاد أهل الأديان، تلك الهوات العميقة وأولئك المَرازِبة (¬1) الذين جعلوا كل فرقة بمنزلة (حانوت) وكل طائفة كمنجم من مناجم الذهب والفضة! ورأس مال تلك التجارات، ما أحدثوه من الاختلافات الدينية والطائفية والمذهبية ... علمت أن أي رجل يجسر على مقاومة التفرقة ونبذ الاختلاف وإنارة أفكار الخلق، بلزوم الائتلاف، رجوعًا إلى أصول الدين الحقة - فذلك الرجل - هو هو يكون عندهم قاطع أرزاق المتجرين في الدين! وهو هو في عرفهم: الكافر، الجاحد، المارق، المخردق، المهرتق، المفرق إلخ» اهـ. كما نحى هذا المنحنى بعض شعراء المهجر من النصارى العرب كجبران خليل جبران (1883 - 1931م)، القائل تحت عنوان: (لكم فكرتكم ولي فكرتي) ما نصه (¬2): «تقول فكرتكم: "الموسوية، البرهمية، البوذية، المسيحية، الإسلام". أما فكرتي فتقول: "ليس هناك سوى دين واحد مجرد مطلق تعددت مظاهره وظل مجردًا، وتشعبت سبله ولكن مثلما تتفرع الأصابع من الكف الواحدة". وتقول فكرتكم: " الكافر، المشرك، الدهري، الخارجي، الزنديق". أما فكرتي فتقول: "الحائر، التائه، الضعيف، الضرير، اليتيم بعقله وروحه"» اهـ. وفي هذا السياق كذلك يعقد عشاق التصوف المؤتمرات في تخليد ذكرى بعض (أولياء الصوفية) و (قديسي النصرانية)، تحت مسميات (الإيمانيات) و (الروحانيات) ونحوها، وكان من أبرز المشتغلين بهذا الأمر (فريق البحث الإسلامي المسيحي Groupe de ¬

(¬1) مرازبة: جمع مَرْزُبان، يقول ابن الأثير (555 - 639هـ): «فيه: "أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمَرزُبانٍ لهم"؛ هو - بضم الزاي -: أحد مَرازِبَة الفُرْس، وهو: الفارس الشجاع المُقدَّم على القوم دون الملك. وهو مُعَرَّب». [انظر، ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر، ص (865)]. (¬2) انظر: المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: نصوص خارج المجموعة، ص (90).

Recherches Islamo-Chrétien GRIC) المنطلق من فرنسا، والذي ينص في وثيقته التأسيسية على أنه «كما يشدد المسلمون، سنة كانوا أو شيعة أو خوارج، على هويتهم الإسلامية المشتركة، والمسيحيون كاثوليك كانوا أم أرثوذكس أم پروتستانت على أخوتهم في المسيح، نحن مدعوون مسلمين ومسيحيين، للتأكيد على هويتنا المشتركة كمؤمنين إخوة في الله. بهذا المعنى، وبه دون غيره، نرى أن القول بـ"مسكونية الأديان" (¬1) معبِّر عن حقيقة لقائنا» (¬2). ومن أبرز منظِّري هذا الاتجاه (وحدة الأديان) في العقود الثلاثة الأخيرة، المفكر الفرنسي روچيه جارودي Roger Garaudy (1913 - 2012 م)، ولكن من منطلق (إنساني) بالدرجة الأولى، قبل وبعد إسلامه عام 1982م، ثم باستدلال (صوفي) بدرجة ثانية، بعد ذلك. وهو يطرح نوعين من الوحدة: - أحدهما: وحدة صغرى، وهي (الإبراهيمية)، ويهدف من ورائها إلى توحيد الأديان التي تعلن انتماءها إلى أبي الأنبياء إبراهيم - عليه السلام -، أي: الإسلام والنصرانية واليهودية. - والآخر: وحدة كبرى، تشمل جميع الأديان والملل الوثنية، بل والملحدين! بجانب أن تلكم الوثنيات آثار نبوات سابقة، وأن الملحدين يؤمنون بـ (الإنسان) وأن للحياة (معنى) (¬3). ¬

(¬1) المسكونية: مصطلح كنسي يعني المساعي الكنسية للوحدة والدمج والعمل المشترك للطوائف النصرانية على المستوى الدولي، والحركة المسكونية يعرفها القس روبير كليمان Robert Clement بقوله: «كانت لفظة (مسكونة) تدل على الأرض المسكونة، وكانت هذه الأرض مساحة الإمپراطورية اليونانية الرومانية في القرنين الرابع والخامس ... أما في الكنيسة فاستعملوا صفة (مسكوني) للدلالة على لقاءات الأساقفة (مجامع) للبحث في المسائل المختصة بالكنيسة كلها، وفي مطلع القرن العشرين استعمل هذا اللفظ لوصف الجهود المبذولة لجمع شمل المسيحيين كلهم في كنيسة واحدة» اهـ. [انظر، د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان (2/ 464)، نقلًا عن: تاريخ الحركة المسكونية، لروبير كليمان (1/ 17)، دار المشرق، بيروت، ط. الأولى، 1991م]. (¬2) انظر: الوثيقة التأسيسية لجمعية الأبحاث الإسلامية المسيحية، توجهات عامة من أجل حوار حق. www.gric.asso.fr (¬3) للتوسع في مبحث روچيه جارودي، انظر: د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان (2/ 839) وما بعدها.

الاتجاه الثاني (توحيد الأديان)

الاتجاه الثاني (توحيد الأديان): ويُقصَد به المحاولات الساعية قديمًا وحديثًا إلى دمج جملة من الأديان والملل في دين واحد مستمد منها جميعًا، بحيث ينخلع أتباع تلك الأديان منها، وينخرطون في الدين الملفق الجديد. وفرق ما بينه والاتجاه السابق، أن المناداة بـ (وحدة الأديان) تعني تصويب أوضاع قائمة ضمن أطرها الخاصة التي تميزها، بشرط عدم نفي أو استبعاد الآخرين، وربط تلك الوحدات المفردة بإطار عام يسوغ توجهاتها جميعًا. في حين أن (توحيد الأديان) تفعيل يقتضي إنهاء وحَلّ تلك الأوضاع السابقة ونسخها بوضع جديد، وإن كانت عناصره مأخوذة من حطام سابق. ويميز الباحثون في تاريخ الملل بين لونين من ألوان الدمج والتوحيد، وهما: الالتقاطية، والتلفيقية: فـ (الالتقاطية/إكلكتيسيزم Eclecticism): هي عملية دمج عناصر مختلفة دون محاولة إيجاد تنسيق منهجي بينها. ومثال ذلك في القديم، ما رواه أهل التفسير عن ابن عباس - رضي الله عنه - في سبب نزول سورة الكافرون «أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف لقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد، هلُمَّ فلتعبد ما نعبد، ونعبد ما تعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرًا مما بأيدينا، كنا قد شاركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرًا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه، فأنزل الله - عز وجل - {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}» (¬1)، وعنه أيضًا: «قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - ... فنحن نعرض عليك خصلة واحدة هي لنا ولك صلاح، تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة، ونحن نعبد إلهك سنة، فنزلت السورة» (¬2). ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (19/ 533). (¬2) السابق (22/ 536).

ومثاله كذلك الديانة السيخية التي أسسها الجورو (¬1) ناناك (1469 - 1539م) في الهند في مطلع القرن السادس عشر، ودمج فيها بين الهندوسية والإسلام بقوله: «إن الله ليس هندوسيًا ولا مسلمًا، وأنا أسلك طريق الله»، ثم ادعى لنفسه الرسالة (¬2). ومثال ذلك في العصر الحديث الديانة (المونية Moonism) التي اخترعها الكوري الشمالي صن مايونج مون Sun Myung Moon في خمسينات القرن الماضي، وأسس لها كنيسة الاتحاد Unification Church، وادعى أنه هو المسيح المنتظر (¬3). أما (التلفيقية/سينكريتيزم Syncretism): فهي عملية دمج عناصر مختلفة مع محاولة إيجاد تنسيق منهجي بينها. ومثال ذلك - فيما يراه الدكتور القاضي - جماعة (كريسلام Crislam) التي أسسها الأب الإسپاني إيميليو جاليندو آجيلار Emilio Galindo Aguilar في عام 1984م، فيقول (¬4): «يمكن أن نحسب محاولات الأب الإسپاني إيميليو غاليندو آغيلار ومجموعته التي كانت تسعى إلى الوصول إلى صيغة عقدية موحدة تتجاوز حدود (الإبراهيمية) التي جاء بها جارودي وغيره لتشمل سائر الوثنيات، ولكن ليس تحت شعار غير ديني كما صنع جارودي أيضًا باسم (الإنسانية) أو (المعنى)، وإنما النفاذ إلى (البؤر الدينية) لكل دين أو نحلة، التي ستكون واحدة، في حسبان غاليندو، وهي ألوهية المسيح، تعالى الله عما يقولون علوًا عظيمًا» اهـ (¬5). وهذان الاتجاهان (الأول والثاني) ليسا هما مدار بحثنا (¬6)، وإنما مدار البحث ومحل الإشكال في: ¬

(¬1) أي المُعَلِّم. (¬2) انظر، ويكيپيديا، الموسوعة الحرة Wikipedia, The Free Encyclopedia، مادة: Guru Nanak Dev. (¬3) للتوسع في مبحث المونية، انظر: د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان (3/ 1028) وما بعدها. (¬4) السابق (1/ 345). (¬5) للتوسع في مبحث الكريسلام، انظر السابق (3/ 939) وما بعدها. (¬6) للتوسع، أحيلك على دراسة الدكتور القاضي.

الاتجاه الثالث (التقريب بين الأديان)

الاتجاه الثالث (التقريب بين الأديان): وهو الاتجاه الأعم من حيث الدلالة، كما أنه الاتجاه السائد من حيث التطبيق؛ فهو يمثل معظم المحاولات العالمية والإقليمية والمحلية لإيجاد تواصل، وبناء علاقات بين مختلف الأديان والملل. وعبارة (التقريب بين الأديان) - في ذاتها - هي عبارة مطاطية وحمَّالة للأوجه، لا تحمل مدلولًا اصطلاحيًا محددًا، فضلًا أن تكون ذات حقيقة شرعية ثابتة؛ فلفظ (التقريب) أو (التقارب Rapprochement) يدل على مسألة نسبية هي (القرب)، تتفاوت في حقيقتها وتطبيقاتها لدى مختلف الأطراف، بل وفي نظرة كل طرفٍ على حدة، في فترة زمنية معينة، فقد تقتصر على حدٍ أدنى من المجاملات الشكلية، وقد توغل في الاقتراب إلى درجة الاندماج والوحدة وسقوط الفوارق، وبين هذا وذاك مراتب عديدة. الخصائص الفكرية التي يقوم عليها هذا الاتجاه والملاحظ عليها: ويقوم هذا الاتجاه التقريبي على خصائص فكرية تتلخص في النقاط التالية: - اعتقاد إيمان الطرف الآخر، وإن لم يبلغ الإيمان التام الذي يعتقده هو. - نبذ ما يقوم به أرباب (الالتقاطية) و (التلفيقية) من جمع عناصر من مختلف الأديان أو محاولة حمل بعضها على بعض للوصول إلى وضع موحَّد. - الاعتراف بالآخر، واحترام عقائده وشعائره، ورفع الأحكام المسبقة. أما من الناحية المنهجية، فيعتمد الأساليب التالية: - الدعوة إلى التعرف على الآخر كما يريد أن يُعرَف. - تجنب البحث في المسائل العقدية الشائكة. - نسيان الماضي التاريخي، والاعتذار عن أخطائه، ومحاولة التخلص من آثاره. - إبراز أوجه التشابه والاتفاق، وإقصاء أوجه الاختلاف والافتراق. - التعاون على تحقيق القيم المشتركة.

- تبادل التهاني والزيارات والمجاملات في المناسبات الدينية المختلفة (¬1). وعند إمعان النظر في هذه البنود وقراءة ما وراء سطورها ثم النظر إلى تطبيقاتها العملية في الواقع المشاهد نجد ما يدعو للشك والارتياب بل والطعن في حسن النية! وذلك - فيما رأيت - لأربعة أمور رئيسة: الأول: هو أن ما تدعو إليه البنود إجمالًا من (الاعتراف بالآخر) فيما يخص الجانب العقدي، إضافة إلى تجنب البحث في المسائل العقدية الشائكة، فهذا قد حث عليه باعث خفي لدى القوم لانتزاع اعتراف ضمني من المسلمين بصحة دينهم، وهذا لا يستقيم بحال مع قول الله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (¬2)، بل له أبلغ الأثر في صد النصارى واليهود عن سبيل الله، وفيه تعطيل لما توظفت به هذه الأمة من وظيفة الإبلاغ عن الله؛ والتي ذهب العلماء إلى أنها (الأصل) في علاقة المسلمين بغيرهم، ودليل ذلك رسائل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والأمراء، وقول ابن عباس - رضي الله عنه -: «ما قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومًا قط إلا دعاهم» (¬3)، بل وهي مكمن الخيرية التي أخبر الله تعالى عنها في قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} (¬4). وهذا الباعث ما تقوَّى لدى القوم إلا بسبب ما هو مشاهد من انتشار لدين الإسلام في ديارهم سلمًا، لا عنوة كما يُشبِّهون على الناس! وقد لام صاحب الظلال رحمه الله على المنجرفين وراء هذا التيار فقال (¬5): «إن الدين الذي نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الدين عند الله، والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي. أما هؤلاء، فيحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم الذي يقرر أن الله لا يقبل دينًا إلا الإسلام، وأن على المسلم أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام ولا يقبل دونه بديلًا، ولا يقبل فيه تعديلًا - ولو طفيفًا - قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} (¬6)، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬7). والإسلام قد جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب كما ¬

(¬1) انظر السابق (1/ 335 - 6). (¬2) سبأ: 24 (¬3) رواه أحمد في مسنده (1/ 236)، وقال شعيب: «صحيح». (¬4) آل عمران: 110 (¬5) سيد قطب: في ظلال القرآن (2/ 909 - 15) باختصار. (¬6) آل عمران: 19 (¬7) آل عمران: 85

جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين سواء، ودعاهم إلى الإسلام جميعًا لأن هذا هو الدين الذي لا يقبل الله غيره من الناس جميعًا، والمسلم مكلف أن يدعو أهل الكتاب إلى الإسلام، كما يدعو الملحدين والوثنيين سواء، وهو غير مأذون في أن يكره أحد من هؤلاء ولا هؤلاء على الإسلام، لأن العقائد لا تنشأ في الضمائر بالإكراه، فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه، هو كذلك لا ثمرة له» اهـ (¬1). بل وكما استقر عند المسلمين بداهة أن أهم القضايا التي يجادلون فيها أهل الكتاب هي قضية التوحيد المطلق لله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ونبذ مظاهر الشرك وعبودية ما سوى الله تعالى، أي قضية (العودة إلى الأصل)؛ فكما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رب العزة - جل جلاله -: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهُم أن يشركوا بي ما لم أنْزِل به سلطانًا» (¬2). والعمدة في هذا الجدل الشرعي الصحيح قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬3). ولكن - كما يقول الدكتور القاضي (¬4) - «دعاة الحوار الحديث يريدون تنحية هذه القضية الأساسية وتحاشيها، لأن الحوار فيها يفسد الحوار، وهكذا يصبح الحوار غاية لا وسيلة. وفضلًا عن ذلك هو غاية غير واضحة يخبط المتحاورون فيه في التيه، بحرية ومغامرة لا يدرون إلى أين ينتهون» اهـ. ¬

(¬1) فائدة: أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله (164 - 241هـ) عن أنس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: أسلِم! قال: إني أجدني كارهًا. قال: وإن كنت كارهًا» [المسند (3/ 109)]، ففيه يقول الدكتور محمد يسري إبراهيم: «إنه حديث صحيح، ولكن ليس من هذا القبيل، فإنه لم يُكرِهْهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام، بل دعاه إليه، فأخبره أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة، فقال له أسلِم وإن كنت كارهًا فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص» اهـ. [د. محمد يسري: الجامع في شرح الأربعين النووية (1/ 386)]. (¬2) رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: 2865 (¬3) آل عمران: 64 (¬4) د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان (1/ 430).

أما الأمر الثاني: فهو ما يؤدي إليه إعمال هذه البنود من فَصْم لعُرَى الإيمان؛ فلقد أخبر ربنا - جل جلاله - أن أوثق عرى الإيمان هي الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} (¬1)، بل وكما فصَّل رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه الطبراني (260 - 360هـ) أن «أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله» (¬2)، فلا ريب أن إعمال هذه البنود على وجهها يؤدي - ولا بد - إلى محو حاجز الولاء والبراء الدقيق الفاصل، وهذا خطر عظيم! وللدكتور صلاح الصاوي كلام نفيس في هذا الباب فيقول (¬3): «إذا كان المقصود بالحوار بسط قضية الإسلام فهذا مما تعبد الله به عباده في جميع الأطوار والأحوال، سواء كانت الأمة في حالة انتصار أم في حالة انكسار. فنحن أمة دعوة ورسالة نبلغها لغيرنا من الناس في جميع أطوارنا، وفي جميع أحوالنا، فلا خلاف على بسط قضايانا، والدفاع عنها، وحشد الأدلة لإثباتها في أي طور، وعلى أية حالة كنا، فهذا القدر من المحكم يكمله أيضًا ألا ينكسر حاجز الولاء والبراء الذي أقامته الشريعة وجعلته أساسًا في التعامل بين المسلم وغير المسلم. وقضية الولاء والبراء من القواعد المحكمة في دين المسلمين، وقد وردت فيها عشرات الآيات والأحاديث، وفي أزمنة الانكسار يرق هذا الحاجز ويضعف ويحدث فقه التبرير الذي تنشئه عوامل الوهن التي تمر بها الأمة من ناحية، ومفاهيم الاختراق الوافدة من ناحية أخرى ... وإذا كنا لا نستطيع أن نقدم شيئًا لديننا في عالم القوة المادية فلا أقل من أن نحافظ على نقائه وصفائه، ونورثه نقيًا متكاملًا للجيل القادم فعسى أن يفتح الله على أبنائنا فيما فشلنا نحن فيه. أما أن ننكسر على مستوى المفاهيم فهذه خيانة عظمى للإسلام وللحقيقة المجردة. لكن من ناحية السلوك العملي فنحن نفرق بين الولاء والمداراة، فالتسامح موجود ¬

(¬1) البقرة: 256 (¬2) رواه الطبراني في (المعجم الكبير) (11/ 215)، وصححه الألباني في (صحيح الجامع): 2539 (¬3) من مقال له بعنوان: لا بديل عن سلفية المنهج وعصرية المواجهة، نشره موقع (مفكرة الإسلام)، بتاريخ الأربعاء 29/ 8/2007م. www.islammemo.cc

للمسلمين ولغيرهم، والمداراة يلجأ إليها الناس حينما يكونون في حالة ضعف وانكسار، وطبيعي حينما أكون ضعيفًا ومنكسرًا ألا تطلب مني أن أتصرف باعتباري قويًا ومتمكنًا. وعندما تكون الأمور على هذا النحو فمنطق التسامح والتآلف وارد، ومنطق الدعوة والاستماتة في الدفاع عن قضية الإسلام وفي بسط حججه وفي دحض شبهات وأباطيل خصومه وارد وهام. وعمومًا فإن علاقتنا بالغرب وبغير المسلمين علاقة دعوة وعلاقة بلاغ، ونحن أمة دعوة ورسالة، ونحن أصحاب الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وقد نسخت الأديان كلها، ونحن نمسك بأيدينا المصحف الذي حماه الله من التحريف والتبديل، على حين حرفت الكتب السماوية كلها، فلم يبق على الأرض وحي معصوم إلا القرآن والسنة. ولم يبق دين يقبله الله ويرتضيه لعباده إلا الإسلام، فبقدر جسامة هذا الموقع وهذه المسئولية ينبغي أن تكون أمانة الدعوة، وأمانة البلاغ مع المحافظة على عقيدة الولاء والبراء حتى لا تنكسر هذه الأمة على ما فيها من انكسار، وحتى لا تذوب هويتها في معترك الأفكار والسياسات» اهـ. أما الأمر الثالث: فهو لأمر كوني قدري مسلَّم به ابتداءً، وهو أنه مهما بلغت بالقوم درجة التسامح والتعايش السلمي في عصر ثقافة السلام المشبوهة، فهو أمر محدود بقول الله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (¬1)، وقوله - عز وجل -: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاء} (¬2)، وقوله تعالى أيضًا: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَابَى قُلُوبُهُمْ} (¬3)، بل وقوله - جل جلاله -: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (¬4) وغير ذلك، بل ومحدود كذلك بما أخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم - عما سيقع في آخر الزمان من الفتن والملاحم. ولكن أود هنا الإشارة إلى أن كون هذا (التصادم) أمرًا حتميًّا مقضيًّا فيه لا يتنافى مع كون الأصل في العلاقة بغير المسلمين هي السلم لا الحرب، وهذا ما تطمئن النفس إلى قبوله من قولي أهل العلم (¬5)؛ فلقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله ¬

(¬1) البقرة: 120 (¬2) النساء: 89 (¬3) التوبة: 8 (¬4) البقرة: 217 (¬5) انظر في ذلك مقالة الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل، بعنوان: هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم أم الحرب؟، نشرها موقع علماء الشريعة، ملف: فقه الأقليات. www.olamaashareah.net

العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا» (¬1)، حيث نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرغبة في الحرب وتمني لقاء العدو، وهذا يدل - كما يذكر الشيخ عبد الرحمن العقل (¬2) - «على أن حالة الحرب حالة طارئة، لا يشرع للمسلم أن يتمناها إلا إذا قامت أسبابها، وتوافرت دواعيها». يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وذلك أن الله أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (¬3)، أي إن القتل وإن كان فيه شر وفساد، ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه» (¬4). ومن الأدلة القرآنية على ذلك قول الله تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬5)، وفيه يقول السعدي رحمه الله (1307 - 1376هـ) (¬6): «أي: أجبهم إلى ما طلبوا متوكلًا على ربك، فإن في ذلك فوائد كثيرة، منها: أن طلب العافية مطلوب في كل وقت، فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك، كان أولى لإجابتهم» اهـ. ولقد قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله (224 - 310هـ) (¬7): «فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله، من أن هذه الآية منسوخة، فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة ولا عقل. وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائن ناسخًا. وقول الله في براءة: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (¬8)، غير نافٍ حكمُه حكمَ قوله: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، لأن قوله: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}، إنما عني به بنو قريظة، وكانوا يهودًا أهل كتاب، وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحرب على أخذ الجزية منهم. وأما قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}، ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب الجهاد: 1742 (¬2) انظر المقالة المشار إليها سابقًا. (¬3) البقرة: 217 (¬4) ثم يقول رحمه الله: «ولهذا قال الفقهاء: إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة، يعاقب بما لا يعاقب الساكت» اهـ. [ابن تيمية: مجموع الفتاوى (28/ 355)]. (¬5) الأنفال: 61 (¬6) عبد الرحمن بن ناصر السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص (359). (¬7) تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) (14/ 42 - 3). (¬8) التوبة: 5

فإنما عُني به مشركو العرب من عبدة الأوثان الذين لا يجوز قبول الجزية منهم. فليس في إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه» اهـ (¬1). ولكن اللافت للنظر أن هذه الآية تأتي تالية لقوله جل شأنه: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (¬2)، ومحل الشاهد هو أن الجنوح للسلم لم يتعارض مع إعداد المستطاع من قوة (رادعة) مانعة من تحرش العدو، وتأمل قوله - عز وجل - في الآية: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ}، فكيف يكون الإعداد لعدو مجهول حجمه وقوته إلا أن يكون في باب الردع؟! ومن لطيف ما حدثني به الفاضل، فاضل سليمان، أنه حينما تسلم وسامًا من وزارة الدفاع الأمريكي (الپنتاجون The Pentagon)، وجده منحوتًا عليه عبارة لاتينية شهيرة، وهي: Qui desiderat pacem praeparet bellum، ومعناها: أنه من أراد السلام فعليه الاستعداد للحرب Who wishes peace should prepare for war، وليس أبلغ من ذلك برهانًا! ولكن قارن بين هذا التصور الغربي القرآني الأصل لمفهوم السلام وبين ما يريدونه لأمة الإسلام - من خلال دعوة الحوار المسيَّسة المائعة - من تقليم لأظافرها وتحطيم لذِرْوة سَنَامِها؛ أعني تشويه مفهوم الجهاد الإسلامي (¬3)، والذي ما شرع إلا لإقامة العدل وتحقيق السلام، فهو ليس إرهابًا كما يدعون، وإنما هو (جهاد على الإرهاب) الممارَس ¬

(¬1) فائدة: فإنه كذلك لاستيعاب المسألة، لا بد من استحضار المعنى الواسع لمصطلح (النسخ)؛ فكما يقول الإمام أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله (ت. 790هـ): «الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين؛ فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخًا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخًا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخًا؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد ما جيء به آخرًا؛ فالأول غير معمول به، والثاني هو المعمول به» اهـ. [الشاطبي: الموافقات (3/ 344)]. (¬2) الأنفال: 60 (¬3) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأس الأمر الإسلام وعمودُه الصلاة وذِرْوةُ سَنَامِه الجهاد». [رواه الترمذي، كتاب الإيمان: 2616، وصححه الألباني].

ضغطًا على المستضعفين، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} (¬1). ومن خلال الجمع بين معالم التاريخ والجغرافيا، تزداد صورة (جهاد الطلب) جلاءً وإشراقًا، ويتبين لها بُعد آخر بجانب تعبيد الله للناس اختيارًا وإزالة الطواغيت حتى تتاح لهم فرصة اختيار الدين بحرية؛ وهو الدفاع عن النفس، ودفع الظلم الواقع على الموحدين من أهل تلك البلاد، والذين عرفوا في التاريخ المشوه بكونهم هراطقة آريوسيين، أي أتباع لعقيدة آريوس التوحيدية، والذين - رغم غالبيتهم (¬2) - عانوا من القتل والتعذيب على أيدي المؤمنين بالثالوث المقدس Trinity (¬3) ، ولذا تجد قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل في رسالته التي دعاه فيها إلى الإسلام: «وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين» (¬4). ¬

(¬1) النساء: 75 (¬2) حتى أنه نقل موريس وايلز عن الراهب چيروم Jerome (347 - 420 م) - والذي يعد أحد أهم الأسماء في تاريخ الكنيسة حيث نِيطت به ترجمة الإنجيل من الإغريقية والعبرية إلى اللاتينية - قوله: «العالم كله تأوه متعجبًا ليجد نفسه آريوسيًا!» [Maurice Wiles: Archetypal Heresy, p(32)]، ويقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله (1315 - 1394هـ/1898 - 1974م): «الموحدين كما يظهر من رواية الكتب المسيحية، وكما يستنبط كانوا الكثرة الغالبة في المسيحيين، ففي مجمع نيقية [325م] كانوا الكثرة، وفي مجمع صور الخاص [335م] كانوا الجميع ما عدا رئيس كنيسة الإسكندرية. وإذا كانوا الكثرة في المؤتمرات خاصة وعامة، فلا بد أن يكونوا الكثرة من جمهور المسيحيين. وإذن تكون فكرة ألوهية المسيح هي العارضة والأصل هو التوحيد كما يستنبط القارئ من المصادر المسيحية نفسها» اهـ[محمد أبو زهرة: محاضرات في النصرانية، ص (122)]. (¬3) للتوسع في هذا المبحث، أحيلك على دراسة المهندس فاضل سليمان: أقباط مسلمون قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - .. (¬4) رواه مسلم، كتاب الجهاد والسير: 1773، اختلف أهل العلم في معنى كلمة (الأريسيين)؛ فقال بعضهم أن المراد منها (الفلاحين)، وقال البعض الآخر كالإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله (239 - 321هـ): «وقد ذكر بعض أهل المعرفة بهذه المعاني أن في رهط هرقل فرقة تعرف بالأريوسية، توحد الله - عز وجل -، وتعترف بعبودية المسيح - صلى الله عليه وسلم - له - عز وجل -، ولا تقول فيه شيئًا مما تقوله النصارى في ربوبيته ومن بُنوَّة، وأنها متمسكة بدين المسيح - صلى الله عليه وسلم -، مؤمنة بما في إنجيله، جاحدة لما تقوله النصارى سوى ذلك» [الطحاوي: شرح مشكل الآثار (5/ 232)]. ولقد رجح الشيخ الندوي - رحمه الله - هذا الرأي فقال: «إذن من المرجح المعقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما عنى هذه الفرقة بقوله: "فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين"، فإنها هي القائمة بالتوحيد النسبي في العالم المسيحي الذي تتزعمه الدولة البيزنطية العظمى، التي كان على رأسها القيصر (هرقل)»، ثم يعلق في الهامش بقوله: «اطلعت بعد صدور الطبعة الثالثة للكتاب على بحث قيم لصديقنا الفاضل الدكتور معروف الدواليبي [1907 - 2004م] في الأريسيين، يؤيد ما قلناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما عنى بقوله أتباع أريوس» اهـ[أبو الحسن الندوي: السيرة النبوية، ص (307) باختصار].

ونلخص هذه النقطة بالقول: أنه كفانا حجة أن الله تعالى من أسمائه - عز وجل - {السَّلَامُ} (¬1)، وأن من أقبح الأسماء لديه اسم «حرب» (¬2)، وكما يقول أهل العلم: أن الشارع الحكيم - سبحانه وتعالى - قد أوجب علينا كأفراد اتِّباع الشرع والإيمان بالقدر، وليس ترك الشرع والاحتجاج بالقدر. أما الأمر الرابع: فهو أن إعمال هذه البنود ما لبث أن أظهر إشكالية بين الحوار والبشارة، الأمر الذي ألجأهم إلى بعض المناورات السياسية من أجل إمضاء الأهداف التبشيرية الرئيسة التي ابتدعها پولس مخرجًا دعوة المسيح من الخصوص إلى العموم بقوله على لسان عيسى - عليه السلام - كما في متَّى: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (¬3)، وقد قال عنه ربنا - جل جلاله -: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬4)، وكما يذكر إنجيل متَّى قول الرب: «يا بيت لحم، أرض يهوذا، ما أنتِ الصُغرى في مدن يهوذا، لأن منكِ يخرج رئيس يرعى شعبي إسرائيل» (¬5)، بل وكما وصاهم المسيح بعدم الخروج إلى الأمم بقوله: «لا تقصدوا أرضًا وثنية ولا تدخلوا مدينة سامرية. بل اذهبوا إلى الخراف الضالة من بني إسرائيل» (¬6). ولا بأس أن ندلل على قولنا بالآتي؛ فلقد أخبرنا ربنا العليم الخبير فقال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي ¬

(¬1) الحشر: 23 (¬2) عن أبي وهب الجُشَمي - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تسمَّوا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقُها حارث وهمَّام، وأقبحُها حرب ومُرَّة». [رواه أبو داود، كتاب الأدب: 4590، وصححه الألباني]. (¬3) متى 28: 19 (¬4) آل عمران: 49 (¬5) متى 2: 6 (¬6) متى 10: 5 - 6

لَحْنِ الْقَوْلِ} (¬1)، وليس أوضح مما تفوه به يوحنا پولس الثاني المدعو له بالرحمة! فقد قال في إرشاد رسولي بشأن المصالحة والتوبة Adhortatio Apostolica de Reconciliation et Paenitentia، نشر في الثاني من ديسمبر عام 1984م، ما نصه (¬2): «إن الحوار بالنسبة إلى الكنيسة هو نوعًا ما أداة، وعلى الأخص، طريقة للقيام بعملها في عالم اليوم. وفي الواقع أن المجمع الفاتيكاني الثاني، بعد أن علَّم أن "الكنيسة تبدو علامة لتلك الأخوة التي تجعل الحوار الصريح ممكنًا وتزيده قوة، وذلك لمقتضى الرسالة التي تمتاز بها، ألا وهي إنارة الكون كله ببشارة الإنجيل وتوحيد البشر بروح واحد ... وفي الواقع أن الكنيسة تستعمل طريقة الحوار لكي تحسن حمل الناس - سواء أكانوا يعرفون أنفسهم أنهم أعضاء الجماعة المسيحية بالعماد والاعتراف بالإيمان أم هم غرباء عنها - على الارتداد والتوبة، عن طريق تجديد ضميرهم وحياتهم تجديدًا عميقًا في ضوء سر الفداء والخلاص اللذين حققهما المسيح ووكلهما إلى خدمة كنيسته. إن الحوار الصحيح يرمي إذن بادئ بدء إلى تجديد كل من الناس بالارتداد الباطني والتوبة مع احترام كلِّي للضمائر (!)، واعتماد الصبر والتأني، والتقدم خطوة خطوة، على ما تقتضيه أحوال الناس في عصرنا» اهـ. فكما يتبين إذن من كلامه، أن مبدأ الحوار لديه ما هو إلا كما تقدم قول أوليفييه كليمون: «عملية تغليف مذهَّبة عصرية لحبة قديمة كانوا يفرضونها قهرًا على الشعوب فيما مضى». وعملية التغليف المذهَّبة هذه تتكشف سوءاتها في البيان الختامي للمجمع الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965م)، المعروف ببيان (في عصرنا Nostra Aetate)، الصادر في 28 أكتوبر 1965م، والذي جاء فيه (¬3): «الكنيسة الكاثوليكية لا ترذل شيئًا مما هو حق ومقدس في هذه الديانات. بل تنظر بعين الاحترام والصراحة إلى تلك الطرق، طرق المسلك والحياة، وإلى تلك القواعد والتعاليم التي غالبًا ما تحمل شعاعًا من تلك الحقيقة التي تنير كل الناس، بالرغم من أنها تختلف في كثير من النقاط عن تلك ¬

(¬1) محمد: 30 (¬2) انظر نص الإرشاد الرسولي Reconciliation et Paenitentia بموقع الفاتيكان الرسمي. ww.vatican.va (¬3) انظر نص البيان المجمعي Nostra Aetate بموقع الفاتيكان الرسمي، وبموقع (الموسوعة العربية المسيحية).

التي تتمسك بها هي نفسها وتعرضها. ولذا فهي تبشر وعليها أن تبشر بالمسيح دون انقطاع ... وإذا كانت قد نشأت، على مر القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمين، فالمجمع المقدس يحض الجميع على أن يتناسوا الماضي وينصرفوا بالخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعززوا معًا العدالة الاجتماعية والخيور الأخلاقية والسلام والحرية لفائدة جميع الناس» (¬1). فالمفارقة المريبة، هي أن البيان المجمعي Nosta Aetate، الذي كلَّف البابا يوحنا الثالث والعشرين Pope John XXIII (1881 - 1963 م) الكاردينال بيا Cardinal Bea (1881 - 1968 م) بإعداده عام 1960م، كان قد تحدد في الأصل لمناقشة علاقة الكنيسة الكاثوليكية باليهود، ولقد جاءت مسودة النص المجمعي عن اليهود Decretum de Judaeis تزيل عنهم تهمة (قتل الله)! وردَّها في المقابل إلى ذنوب البشر أجمع (¬2)، وترتب على ذلك الرضوخ للمساعي اليهودية المتتابعة منذ عام 1920م لتعديل الصيغة التقليدية لصلاة الجمعة الحزينة، والتي تصف اليهود - كما جاء في رسالة كورنثوس الثانية - بأنهم «عميت أبصارهم، فلا يزال ذلك القناع إلى اليوم غير مكشوف عند قراءة العهد القديم، ولا ينزعه إلا المسيح» (¬3)، حتى خففت صيغة الصلاة ¬

(¬1) تشير بعض الدراسات إلى دور لويس ماسينيون Louis Massignon المستشرق الفرنسي المعروف (1883 - 1962م) في إحداث التغيير في موقف الكنيسة الكاثوليكية-الرومانية (الفاتيكانية) تجاه الإسلام، فيقول ألكسي چورافسكي: «يرى بعض دارسي مؤلفات ماسينيون والمهتمين بتحليل مواقفه العملية، وأنشطته الاجتماعية والسياسية أن مراسلاته واتصالاته الواسعة مع الهيئات الكاثوليكية العليا، بما في ذلك صداقته الشخصية مع چيوفاني باتيستا مونتيتي Giovanni Battista Montini - الذي أصبح البابا پولس السادس - مهدت التربة - إلى حد معين - للمناقشات التي دارت في المجمع الفاتيكاني الثاني حول العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والمسلمين» اهـ[ألكسي چورافسكي: الإسلام والمسيحية، ص (110 - 1)، وانظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Louis Massignon]. (¬2) نفت عنهم الكنسية ما قالوه هم بأفواههم! قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157 - 158]. انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Decretum de Judaeis. (¬3) كورنثوس الثانية 3: 14

في عام 1970م إلى: «لنصلي من أجل الشعب اليهودي، أول من سمع كلام الله، أن يستمروا في الارتقاء في حبه والإخلاص لعهده ... يا رب استمع لكنيستك حينما تصلي من أجل من اخترتهم في القديم ليكونوا شعبك المختار، أن تمكنهم من الوصول إلى تمام الخلاص، ونحن نطلب ذلك من خلال المسيح ربنا، آمين» (¬1). ولكن قوبلت مسودة البيان المجمعي بالرفض من قبل أساقفة البلدان العربية المشتركين في المجمع، حيث أجمعوا على أن التطرق إلى موضوع اليهود ونفي التهمة التاريخية عنهم قد يؤدي إلى الاعتراف بدولة إسرائيل من قبل الفاتيكان من جهة، وقد يخدم مصلحة اليهود سياسيًا في نزاعهم مع العرب من جهة أخرى. وفي المقابل، كان الاقتراح المقدم هو أن المسودة من الممكن لها أن تُقَر وتَصدُر فقط في حال إذا كان الفاتيكان سيتحدث عن ديانات أخرى، بما في ذلك الإسلام. وبالفعل مرت المسودة بعدة مراحل بعدها حتى انتهت إلى الصيغة النهائية للبيان Nostra Aetate (حول علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية Declaratio de Ecclesiae Habitudine Ad Religiones Non-Christianas)، والذي محيت منه عبارات خلافية مثل تلك التي تنفي عن اليهود تهمة (قتل الله) (¬2)، واكتفت في المقابل بالقول: «... وأن تكون سلطات اليهود وأتباعها هي التي حرضت على قتل المسيح، لا يمكن مع ذلك أن يُعزى ما اقترف أثناء آلامه، إلى كل اليهود الذين كانوا يعيشون آنذاك دونما تمييز ولا إلى يهود ¬

(¬1) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Good Friday Prayer for the Jews .. إلا أن الخلاف اشتعل مجددًا بعد قرار بنديكت السادس عشر Pope Benedict XVI بابا الفاتيكان الحالي في فبراير من عام 2008م بتعديل الصلاة إلى قوله: «لنصلي من أجل اليهود أن ينير الرب قلوبهم ليعلموا أن يسوع هو مخلص البشرية أجمع ...»، مما أعاد إلى الأذهان الموقف الكاثوليكي التقليدي تجاه اليهود، الأمر الذي دفع بنديكت - وفق ما نقلته وكالة رويترز في 4/ 4/2008م - إلى طمأنة اليهود بأن الصلاة الجديدة لا تعد مؤشرًا على تغير في احترام الكنيسة لليهود أو ازدرائها لمعاداة السامية، وأن علاقة الكنيسة باليهود لا تزال تستند إلى البيان التاريخي لمجمع الفاتيكان الثاني عام 1965م الذي نبذ مفهوم المسئولية الجماعية لليهود عن دم المسيح. غير أن بعض الجماعات اليهودية قالت أن الفاتيكان لم يذهب إلى المدى اللازم لتبديد مخاوفهم، واعتبروا أن الصلاة أبقت على دعوة ضمنية - أرادوا حذفها - لتحولهم عن دينهم. (¬2) انظر، ألكسي چورافسكي: الإسلام والمسيحية، ص (118 - 9).

اليوم. وإن تكن الكنيسة شعب الله الجديد، يجب مع ذلك ألا ينظر إلى اليهود كمن رذلهم الله ولعنهم، كما لو كان ذلك ناتجًا من الكتب المقدسة» اهـ (¬1). والمفارقة هنا تكمن في أنه مع عزم المجمع على تبرئة اليهود من دم المسيح - عليه السلام -، تجد أنه «سكت عن مشكلة وثوقية وصحة المكانة النبوية لمحمد [- صلى الله عليه وسلم -]، مع أن هذه المسألة جرى التعرض لها أثناء المناقشات والمداولات، حيث اقترح بعض المؤتمرين إدخال تعديل على مسودة الدستور العقائدي يؤكد أن المسلمين "يعبدون معنا الإله الواحد الرحيم ... الذي كلم الناس بالأنبياء"، إلا أن اللجنة اللاهوتية المختصة ألغت هذه العبارة، نظرًا لأنها يمكن أن تؤول بشكل مثير للإشكال، كأن يفهم منها أن الله (تكلم عبر محمد [- صلى الله عليه وسلم -])، وصاغ التصريح الختامي هذه العبارة بصورة مقتضبة: "الذي كلم الناس homines allocutum"» (¬2) . فالناظر في هذين الموقفين المتناقضين يدرك أن الأمر يحمل في طياته مصالح سياسية خبيثة، خلافًا لما قد يشاع، بل خلافًا لما يذكره البيان نفسه من أن «الكنيسة لا تدفعها في ذلك الدوافع السياسية بل محبة الإنجيل الدينية متذكرة التراث المشترك مع اليهود». وليتها مصالح سياسية وحسب، إنما هي أحقاد صليبية دفينة جلاها ربنا تبارك وتعالى في قوله: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (¬3)، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا} (¬4). وأزيدك في هذا بيانًا: فمن المعلوم خبره ذلك الخطاب الذي ألقاه چوزيف راتزنجر Joseph Ratzinger الملقب ببنديكت السادس عشر بابا الفاتيكان الحالي، في جامعة رچنسبرج Regensburg بألمانيا، يوم الثلاثاء 12 سپتمبر 2006م، والذي تعمَّد فيه الإساءة إلى رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - بقوله المقتطف من كتاب الإمپراطور البيزنطي مانويل الثاني پاليولوجوس Manuel II Palaeologos (1350 - 1425 م)، حيث قال - واصفًا إياه بالعلَّامة - ما نصه (¬5): «أرني ما الجديد الذي جاء به محمد، ولسوف تعلم أنه ¬

(¬1) انظر نص البيان المجمعي على الرابط المتقدم. (¬2) انظر، ألكسي چورافسكي: الإسلام والمسيحية، ص (124 - 7)، وانظر نص البيان على الرابط المتقدم. (¬3) البقرة: 120 (¬4) النساء: 122 (¬5) انظر نص خطابه على موقع الفاتيكان الرسمي.

لم يأت إلا بما هو شرير وغير إنساني كأمره بنشر الإسلام بحد السيف» اهـ (¬1). فهذا ابتداءً أقول له كما قال فولتير Voltaire (François-Marie Arouet) (1694 - 1778 م) عندما ذُكِرَ لديه رجال الپروتستانتية الأوائل مارتن لوثر وچون كالفن (¬2)، قال: «كلاهما لا يصلح أن يكون حذاءً لمحمد» (¬3)، وأزيد: لقد شهد شاهد من أهلكم بالحق حينما قال (¬4): «ولم ينتشر القرآن بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرًا كالترك والمغول»، وكفاك بتسترك على فضائح كنيستك الجنسية عارًا! ومهما بلغ سعي الكاثوليك لتبرير قوله الذي لم يرجع عنه صراحةً، فسعيهم رد؛ ذلك لأن خطابًا رسميًا كهذا لا يخرج فيه الكلام عفويًا، والرجل لم يقل قولته ارتجالًا، بل كان الأمر مبيتًا بليل، وكما يذكر ابن القيم عن يحيى بن معاذ (ت. 258هـ) (¬5): «القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها»، وصدق الله العظيم القائل: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (¬6). ¬

(¬1) ولما طالب المسلمون بنديكت بالاعتذار، أجاب رئيس الوزراء الإسپاني السابق خوسيه ماريا أثنار José Mar ي a Aznar بالنيابة: «ولماذا لا يعتذر لنا المسلمون عن الفترة التي قضوها في الأندلس، والتي تقارب ثمانية قرون؟!». [نشره موقع الموندو الإخباري الإسپاني في يوم 22/ 9/2006م. www.elmundo.es]. (¬2) سيأتي التعريف بهما في موضعه. (¬3) يذكر الأمير شكيب أرسلان (1869 - 1946م) أن فولتير قد قال هذه العبارة أمام الأمير سيندورف النمساوي الذي صار فيما بعد رئيسًا لوزراء إمپراطورية النمسا [لم أقف له على ترجمة في المراجع المتاحة]. وكان نقله هذه الجملة عن فولتير في أيام شبابه، عندما اجتمع به في سويسرا، فقيَّدها في مذكراته المحفوظة في خزانة كتب فيينا، وعنها نقلتها جريدة (الطان Le Temps) الفرنسية، ونقلها عن الجريدة الأمير شكيب أرسلان في كتابه (لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟)، انظره ص (130) الهامش. (¬4) هو جوستاف لوبون، في كتابه: حضارة العرب، ص (128). ويضيف قائلًا: «وبلغ القرآن من الانتشار في الهند، التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل، ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها، ويزيد عدد مسلمي الهند يومًا فيومًا مع أن عدد الإنجليز الذين هم سادة الهند في الوقت الحاضر يجهزون البعثات التبشيرية ويرسلونها تباعًا إلى الهند لتنصير مسلميها على غير جدوى» اهـ[نفسه]. (¬5) ابن قيم الجوزية: الداء والدواء، ص (220). (¬6) آل عمران: 118

ولكن ما قد يخفى على البعض هو ما صرح به الكاردينال چون لويس توران Jean-Louis Tauran - رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان - لمجلة (لاكروا La Croix) الكاثوليكية الفرنسية في 18 أكتوبر 2007م، عقب تسلم الفاتيكان الرسالة التي أرسلها 138 عالم وداعية إسلامي (سنِّي وشيعي) في أكتوبر عام 2007م، أي عقب خطاب بنديكت المشئوم، والتي غلب عليها الطابع الرسمي، وحملت عنوان (كلمة سواء بيننا وبينكم)، داعين فيها إلى التعايش السلمي بين المسلمين والنصارى تحقيقًا لما يوصي به الإسلام والمسيحية من حب الله والجار، مع تقرير وجود اختلاف أصلي بين الديانتين يستحيل حلُّه (¬1) .. فلم يمكِّن توران التلاعب بالألفاظ من مواراة أهداف الكنيسة التبشيرية وأنها ما لجأت إلى الحوار إلا من باب (أضعف الإيمان!)؛ فتجده رغم إقراره بأن الدعوة مجردة للتعايش السلمي مع أهل الديانات الأخرى، خاصة مع العالم الإسلامي، وأنها ليست دعوة للتقريب بين المعتقدات Syncrétisme، فحينما سئل عن إمكانية إجراء مناقشات لاهوتية مع أهل الديانات الأخرى، أجاب بأنه «من الممكن مع بعض الديانات، ولكن مع الإسلام لا، ليس في الوقت الحالي، فأهل الإسلام لا يقبلون أن يناقش أحد القرآن بعمق لأنهم يقولون إنه كتب بإملاء من الله، ومع هذا التفسير الجامد يكون من الصعب مناقشة فحوى الدين» (¬2). وتلا ذلك في 3 ديسمبر 2007م، إصدار الفاتيكان وثيقة تنصيرية بعنوان (وثيقة عقائدية حول بعض طرق التنصير Nota dottrinale su alcuni aspetti dell'evangelizzazione)، قد وقَّع عليها البابا بنديكت، وجاء فيها أن «التبشير بالإنجيل حق وواجب وتعبير عن حرية الأديان»، بل وحذرت من أنه «هناك حالة من ¬

(¬1) Lettre Ouverte et Appel des Guides Religieuses Musulmaines (Une Parole Commune entre Vous et Nous). A l'occasion du Eid al-Fitr al-Mubarak 1428 A.H./Octobre 13, 2007 C.E. (¬2) Cardinal Tauran: La religion fait peur, car elle est pervertie par le terrorisme, la Croix (www.la-croix.com): Octobre 18, 2007

مفهوم التقريب لدى مجلس الكنائس العالمي

الارتباك المتزايدة أدت بالكثيرين إلى جعل الأمر الإلهي بالتبشير غير مسموع وغير مؤثر. وكثيرًا ما يُنظر إلى أي محاولة لإقناع الغير بالمسائل الإيمانية على أنه تعدٍّ على حريته»، كذلك نبهت الوثيقة إلى «أن مهمة الرسل التبشيرية وتلازمها مع مهمة الكنيسة المبكرة تظل دائمًا النموذج الأصلي للتبشير في كل العصور، فهي مهمة قد تتكلف الشهادة في سبيل الدين» (¬1). فهل تدبر دعاتنا من أهل السنة هذه الأقوال؟ أم كان الجواب هو إتباع الرسالة بأخرى، إلى نفس الجهة، للتهنئة بميلاد المسيح - عليه السلام -؟! ورحمة الله على شيخنا الندوي!! (¬2). مفهوم التقريب لدى مجلس الكنائس العالمي: هذا باختصار فيما يتعلق بالعالم الكاثوليكي، ولكن الكيان الفاتيكاني كما أسلفنا الذكر هو كيان قديم متصدع، أنهكته الفضائح الأخلاقية المتوالية، فلا ينبغي إذن تعميم القول وتعليق الحكم على هذا الجانب فقط من العالم النصراني الذي لا يحكم قبضته على شعبه، وإنما لإعطاء صورة أشمل لا بد أن نتعرض ولو بشيء من الإجمال إلى الجانب الأخطر المتمثل فيما يعرف بمجلس الكنائس العالمي، والذي يمثل الطوائف النصرانية غير الكاثوليكية، ويتمتع بنفوذ واسع يضاهي نفوذ الفاتيكان، وتنضوي تحته جميع الكنائس الپروتستانتية والإنجليكانية والأرثوذكسية. وقد ولد المجلس نتيجة لتلاقح عدة اتجاهات في الحركة المسكونية العالمية Ecumenical Movement، منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، بغية توحيد العمل التبشيري في البلدان غير النصرانية. فبعد فترة حَمْلٍ دامت قرنًا كاملًا، تمخضت الحركة المسكونية عن ولادة مجلس الكنائس العالمي عام 1947م. وقد انضمت الكنائس الأرثوذكسية إلى المجلس في مؤتمر نيودلهي New Delhi عام 1961م. أما الموقف الكاثوليكي للبابوية الرومانية فظل يصر على أنه ليس هناك سوى كنيسة واحدة، فلا مبرر إذن لطرح (اتحاد الكنائس)، ¬

(¬1) انظر نص الوثيقة على موقع الفاتيكان الرسمي. (¬2) راجع كلامه في المقدمة.

وأن على المنشقين العودة إلى الكنيسة الأم (حظيرة بطرس). إلا أن البابا يوحنا الثالث والعشرين أرسل وفدًا مراقبًا إلى مؤتمر نيودلهي. ولكن هذا التجمع المتعدد الأطراف والاتجاهات، لا يعتمد البناء التنظيمي الهيكلي الذي تسير عليه الكنيسة الكاثوليكية بدقة وتراتبية وصرامة، بل يكتفي باللقاء حول جوامع مشتركة في العمل التبشيري، وإصدار توصيات ليس لها صفة الإلزام. وفيما يخص المساعي الحوارية التي نتناولها في هذا الفصل، نسجل الملاحظات الآتية، وهي (¬1): أن قطب رحى هذا المجلس يدور حول هدفين بارزين: - توحيد الكنائس النصرانية. - تعزيز العمل التبشيري في العالم أجمع. وقد فرض هذا الأخير على المجلس ضرورة دراسة العلاقة بالديانات العالمية الحية التي يحتك بأتباعها حيثما حلَّت إرسالياته في أي مكان في العالم، وواجه المجلس في مقابل ذلك الإشكالية ذاتها؛ إشكالية الحوار والبشارة، أو موقف النصرانية من الديانات الأخرى، وكيفية التعامل مع أتباعها، وحملت بذور الخلاف اللاهوتي العميق إلى ردهات المجلس الجديد .. فلقد تبلور داخل أروقة مجلس الكنائس العالمي جراء مناقشة هذه الإشكالية ثلاثة تيارات: - التيار الحصري الضيق: وهو الأكثر قوة وسيطرة؛ إذ أنه يستند إلى القناعة الثابتة بأن يسوع المسيح هو الطريق الوحيد للخلاص. - الاتجاه الاشتمالي الاحتوائي: وقد قال أتباع هذا التيار بتأكيد الوجود والنشاط الخلاصي لله في جميع الأديان. وفي نفس الوقت بالتجلي أو التجسد الكامل والنهائي لله في يسوع المسيح وحده والمسيحية فريدة ونهائية، ولكن هذا لا يعني أن أعضاءها ¬

(¬1) مستفاد من، د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان (2/ 463 - 99)، مبحث: (حقيقة التقريب بين الأديان عند مجلس الكنائس العالمي)، باختصار وتصرف.

وحدهم يستطيعون أو يستحقون الخلاص. إنها الطريق العادي نحو الخلاص، مع وجود طرق (غير عادية) ظاهرة في العالم، وناجمة عن القوة الخلاصية ليسوع المبثوثة في التاريخ البشري. - تيار التعددية: وأتباع هذا التيار لا يرون في المسيحية الطريق الوحيد للخلاص، ولا يعتبرون أنها تشتمل وتحتوي وتكمل بقية الديانات، بل يؤمنون بتعدد طرق الخلاص. وبين قطبي رحى الحصرية Exclusivism والاحتوائية Inclusivism تطاحنت مختلف التيارات. وطوال نصف قرن منذ تأسيس المجلس عام 1947م حتى الآن لم يصدر عن جمعيته العمومية، أو لجنته المركزية، أو الوحدة التي أنشأها للحوار مع أصحاب العقائد والمثل الحية، قرار ذو صفة عقدية يؤيد التقارب أو ينفيه، وذلك بسبب التجاذبات المختلفة بين أجنحة المجلس ومنظِّريه. وإنما ظهر تنوع المواقف حيال قضية الحوار، بصرف النظر عن وجود مسوغ عقدي له. وقد يكون من المفيد لنا إلقاء الضوء على المحاضرة التي ألقاها چورچ ليونارد كاري George Leonard Carey رئيس أساقفة كانتربري Canterbury في الفترة ما بين (1991 - 2002م)، والتي ألقاها في جامعة الأزهر الشريف في الرابع من أكتوبر عام 1995م تحت عنوان (تحديات في مواجهة الحوار المسيحي-الإسلامي Challenges Facing Christian-Muslim Dialogue)، فنظرًا للمنزلة الكبيرة التي يتبوأها (كاري) في العالم غير الكاثوليكي، ولحداثة هذه المحاضرة بعض الشيء، فإنها تصلح نموذجًا لاستقراء ما آلت إليه النظرة النصرانية غير الكاثوليكية تجاه العلاقة بالمسلمين. والذي يعنينا في محاضرته تلك قوله (¬1): «والواقع أن الإسلام والمسيحية ديانتان لهما رسالة يؤديانها؛ فكلاهما تطرح فرضيات مطلقة، وكلانا لديه الرغبة القوية في نشر دينه. وهذا جزء لا يتجزأ من دياناتنا وهي حقيقة لا تتطلب الاعتذار عنها أو إنكارها، فقد أمر القرآن الكريم المسلمين بهذا في الآية {لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} (¬2)، تمامًا ¬

(¬1) انظر نص خطابه بموقعه الرسمي على الرابط: http://www.glcarey.co.uk/Speeches/1995/Cairo.html (¬2) البقرة: 143

كما أمر الكتاب المقدس المسيحيين قائلًا: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (¬1)» اهـ. ولعل هذا الكلام يفصح عن القناعة التي توصل إليها مجلس الكنائس العالمي أخيرًا، من إخراج الحوار من أطره الدينية إلى (مفاوضات) في أسلوب العيش المشترك، كما يتحاور سائر البشر على قضايا حياتية مشتركة، إذ لا جدوى من الحوار اللاهوتي - حسب تعبيرهم - بين ديانتين كل منهما (تطرح فرضيات مطلقة)، وتمتلكان (الرغبة القوية في نشر دينها). ولعل هذه القناعة هي التي آلت بمجلس الكنائس العالمي إلى إلغاء اللجنة الخاصة بالحوار مؤخرًا، وجعل اللقاء بالمسلمين يندرج في إطار العلاقات الدولية. وهو إصلاح إداري يتناسب مع القناعة المشار إليها. ولكن لا نغفل عن الإشارة إلى أن هذه المحاضرة المفعمة بعبارات الصداقة والسلام والتعاون والتفهم والانفتاح، ألقيت في الوقت الذي كان التعصب الصليبي الحاقد يحصد أرواح المسلمين العزل في بلاد البوسنة والهرسك، ويدك المآذن والمنازل على رؤوس المصلين والسكان الأبرياء. هذا لون، ولون آخر يتمثل في ضراوة النشاط التنصيري الذي تمارسه الإرساليات النصرانية على اختلاف طوائفها في أوساط المسلمين المشردين، مستغلين ضعفهم وبؤسهم وحاجتهم، لتعميدهم باسم الآب والابن والروح القدس! فأين النزاهة والاحترام وحماية الحريات الدينية يا ترى؟ أم أن لغة المحافل والمؤتمرات تختلف عن لغة الميدان والواقع؟ وصدق الله: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَابَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} (¬2). ... هذا من الناحية الحوارية النظرية، والواقع أن هذه (الحيل الطروادية) لم تجنِ ثمارها ولم تحد من انتشار الإسلام الذي هو الأكثر انتشارًا اليوم في الغرب، بلا سيف كما يزعم بنديكت، بل وفي زمان استضعاف للمسلمين كما هو مشاهد، ولله الفضل والمنة .. بل ¬

(¬1) متى 28: 19 (¬2) التوبة: 8

كذلك، فإن هذه المسالك الحوارية لم تنل التأييد العام المطلوب. ومن ثم، فأراه من التغافل المتعمد القول بأن (التعايش والحوار) هما السمة الأساسية لواقع المسلمين اليوم في الغرب، والأمر لا يزال يحتاج إلى كثير بيان، وهذا ما سنفرد له الفصول الباقية من هذا الباب .. ولكن بعد ذلك نقول: ما المسلك المختار لدعوة الحوار؟؟ قد تقدم بنا القول بأن المنهج الرباني في هذا الباب يتبين في قول الله - جل جلاله -: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬1). فالكلمة السواء هي قضية التوحيد المطلق لله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ونبذ مظاهر الشرك وعبودية ما سوى الله تعالى، وهو ما أشرنا إليه بقولنا: (العودة إلى الأصل)؛ {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (¬2)، وهو تعالى القائل: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} (¬3)، وكما أخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم -: «الأنبياء إخوة لعَلاَّت، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» (¬4)، فدينهم هو الإسلام وإن اختلفت شرائعهم: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬5)، حتى جاءت شريعة خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لما قبلها من الشرائع، وفيها قال رب العزة - جل جلاله -: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬6)، وقال رسوله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (¬7)، {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (¬8). غير ذلك، فإن من مقاصد الحوار الشرعي هو الدعوة إلى التعايش السلمي المجرد بين الطرفين سواء أكان على المستوى الداخلي أو الخارجي، الجماعي أو الفردي، وهذا ¬

(¬1) آل عمران: 64 (¬2) النساء: 48 (¬3) آل عمران: 19 (¬4) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء: 3443. وأولاد العَلاَّت: هم الإخوة من أب واحد وأمهات شتى، أما الإخوة من الأبوين فيقال لهم أبناء الأعيان .. (¬5) المائدة: 48 (¬6) آل عمران: 85 (¬7) رواه مسلم، كتاب الإيمان: 153 (¬8) آل عمران: 32

مقصد محمود في ذاته، بل تقتضيه السياسة الشرعية لمصلحة الأمة الإسلامية. وقد رافق هذا اللون من حوار التعايش نشأة الأمة الإسلامية منذ عهد النبوة، كما جرى في المعاهدات النبوية مع يهود المدينة وغيرهم، وزخر الفقه الإسلامي المؤسس على الكتاب والسنة بتراث ضخم في مجال العلاقات بين المسلمين وغيرهم، خاصة وأن الاختلاف الاعتقادي الحاصل هو اختلاف كوني قدري قضى الله تعالى بوقوعه، فقال - جل جلاله -: {وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} (¬1). ومع قضاء الله - عز وجل - بوقوع هذا الاختلاف أطلق تبارك وتعالى أمره فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (¬2)، بل وفرض علينا - عز وجل - حسن الجوار ولم يخصص، فقال: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (¬3)، ولقد اختار الطبري - رحمه الله - في معنى (الْجُنُب): «الغريب البعيد، مسلمًا كان أو مشركًا، يهوديًا كان أو نصرانيًا» (¬4). فهذه كلها أمور تعبدية يثاب فاعلها ويأثم تاركها، ولكن ينبغي ملاحظة الآتي: أنه في وقت شاع فيه ما عرف (بالإسلاموفوبيا Islamophobia) أو الهلع من الإسلام، وذلك نتيجة عدة أمور يتقاسمها الطرفان: فعلى الجانب الإسلامي فأعزوها - باختصار - إلى سوء الفهم عن الله ورسوله؛ وقد أثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قوله: «إن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة» (¬5)، ولقد أخبر ربنا - جل جلاله - فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬6)، ولله در ابن القيم إذ يقول (¬7): «سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام بل هو أصل كل خطأ في الأصول ¬

(¬1) المائدة: 48 (¬2) البقرة: 83 (¬3) النساء: 36 (¬4) تفسير الطبري (8/ 339). (¬5) أخرجه الطبراني في (الكبير) (9/ 166)، وقال الهيثمي (ت. 807هـ): «ورجاله رجال الصحيح» [الهيثمي: مجمع الزوائد (1/ 433)]. (¬6) التوبة: 100 (¬7) ابن قيم الجوزية: الروح، ص (71).

والفروع، وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله؟!» اهـ. أما على الجانب الآخر، فأردها إلى ما تطرحه السلطات الفكرية المهيمنة على ساحة التنظير السياسي والثقافي على السواء، وتبثه عبر إعلامها المضلل، عملًا بقاعدة: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (¬1)، ويتأثر به عوامهم أتباع كل ناعق: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (¬2)، وانظر ما يتمخض عن ذلك من إساءات بالغة وتضييق شديد على دعوة الإسلام وأهله، معلوم أمرها ومشاهد .. إذن، ففي هذا الوقت العصيب، يزداد الإلحاح على مثل هذه الدعوة إلى الحوار والتعايش السلمي، وذلك على المستوى الشعوبي، بعيدًا عن الديباجات السياسية الخادعة. وهي وفق هذا المفهوم - كما تقدم - دعوة محمودة شرعًا ومطلوبة، ولكن شريطة الوعي بأمرين: - الأول: هو الفقه بأحكام التعامل مع غير المسلمين. - والثاني: هو الوعي بأيديولوچية المخالف. فعن الأول: لقد «حكم الإسلام في أهل الكتاب حكمين: أحدهما: حكم علمي: في بيان حقيقة ما هم عليه من الاعتقادات والأعمال، وتعيين مسمَّاهم في باب أسماء الدين والإيمان، وبيان جزائهم في باب وعيد الله. الثاني: حكم عملي: في وصف معاملتهم، وما يختصون به من أحكام دون سائر الناس. فالأول: ثابت لا يتغير بتغير الزمان والمكان والحال. والثاني: أصله ثابت كذلك، لكن قد تتغير بعض أحكامه بتغير الأحوال، وفق ما تقتضيه السياسة الشرعية» (¬3). ولقد زخرت كتب التراث الإسلامي فضلًا عن الكتابات الغربية المنصفة، بالآثار ¬

(¬1) العنكبوت: 12 (¬2) لقمان: 21 (¬3) د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان (1/ 143).

الغزيرة الدالة على حسن معاشرة المسلمين لجيرانهم، وتسامح الفاتحين المسلمين مع أهل البلاد التي يغزونها، فكما يقول جوستاف لوبون (¬1): «أُكرِهَت مصر على انتحال النصرانية، وهبطت بذلك إلى دركات الانحطاط مقدارًا فمقدارًا إلى أن جاء الفتح العربي ... ولقد فتح القائد عمرو بن العاص بلاد مصر في السنة الثامنة عشرة من الهجرة (639م) ... وهو لم يتعرض إلى ديانتهم ولا إلى نظمهم ولا عاداتهم، ولم يطالبهم بغير جزية سنوية قدرها خمسة عشر فرنكًا عن كل رأس مقابل حمايتهم، فرضي المصريون بذلك شاكرين»، ويقول ألفرد بُتلر (1850 - 1936م) (¬2): «إن فتح العرب لمصر كان بركة على المصريين خفض عنهم وطأة الضرائب» (¬3). وقارن هذا بما صرح به الأنبا بيشوي، مكرم إسكندر، سكرتير المجمع المقدس بالكنيسة المصرية والرجل الثاني فيها، معتبرًا المسلمين بأنهم: «ضيوف حلُّوا علينا ونزلوا في بلدنا»، وأضاف مستنكرًا: «ألا يكفي أن الجزية فرضت علينا وقت الفتح العربي؟» (¬4). ولكن دع عنك هذا الافتراء (¬5)، وتأمل بركة الفتح الإسلامي فيما يشير إليه الإمام ابن خلدون رحمه الله (732 - 808هـ) في قوله (¬6): «من الغريب الواقع أن حَمَلة العِلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، [وليس في العرب حملة علم]، لا [في] العلوم الشرعية ولا [في] العلوم العقلية إلا في القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبه، فهو أعجمي في ¬

(¬1) جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص (208) باختصار. (¬2) ألفرد بُتلر: فتح العرب لمصر، ص (468). Alfred J. Butler: The Arab Conquest of Egypt (¬3) وللتوسع في هذا الباب أحيلك على دراسة للدكتور محمد بن منقذ السقار بعنوان: التعايش مع غير المسلمين في المجتمع المسلم. وهي ورقة بحث تقدم بها للمشاركة في الندوة الدولية التي عقدتها منظمة (إيسيسكو)، بالتعاون مع وزارة الثقافة والمحافظة على التراث في الجمهورية التونسية، تحت عنوان: الحضارات والثقافة الإنسانية: من الحوار إلى التحالف. والتي عقدت في تونس في الفترة من 30/ 1 إلى 1/ 2/2006م. تجدها على موقع المنظمة. www.isesco.org.ma (¬4) انظر حواره مع جريدة (المصري اليوم)، بتاريخ 15/ 9/2010م، ص (15). (¬5) ولدحضه، أحيلك على دراسة المهندس فاضل سليمان: أقباط مسلمون قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬6) مقدمة ابن خلدون، ص (747)، وما بين الأقواس زيادات في نُسَخ أخرى.

لغته، ومَرْباه ومشيختِه، مع أن الملة عربية، وصاحب شريعتها عربي» اهـ. ولكن كي يستقيم هذا الأمر شرعًا لا بد لنا من التفريق بين مفهومي (البِر) و (الوُد)؛ فقد قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬1)، كذلك قال - عز وجل -: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (¬2)، فالمتأمل في الآيات يلاحظ أن البِر شيء والوُد شيء آخر؛ فالبِر من أعمال الجوارح، أما الوُد فهو من أعمال القلوب، وهو منتف في التعامل بيننا وبين غير المسلمين لآية المجادلة، أما البِر فهو جائز في التعامل بيننا وبين بعضهم، وذلك لقوله تعالى في سورة الممتحنة، وهذا أصل قَلَّ من انتبه إليه (¬3)، وأراه واجبًا على العلماء والدعاة الربانيين المخلصين، الذين أخذ الله ميثاقهم أن يبينوا الحق للناس ولا يكتمونه، والذين حملوا على عاتقهم هم الدعوة إلى سماحة الإسلام وتحسين أوضاع المسلمين وكشف شبهات المخالفين، أن تكون هذه الحقيقة واضحة في أقوالهم وأفعالهم، وأن لا تميع العلاقات إلى حد الترحُّم على من هلك والتهنئة بما هو ديني (بدعي أو كفري) ... إلى آخر مثل هذه الأمور المنافية لصحيح الاعتقاد. هذا باختصار فيما يتعلق بالأمر الأول، وهو (الفقه بأحكام التعامل مع غير المسلمين)، أما الأمر الثاني: وهو (الوعي بأيديولوچية المخالف)، فقد تقدم الحديث فيه، وسيزداد بيانًا في الفصول التالية. ... ¬

(¬1) الممتحنة: 8 - 9 (¬2) المجادلة: 22 (¬3) انظر في ذلك رسالة الدكتور سعيد عبد العظيم: الغلو في التكفير، ص (41). وأما الود الذي قد يكون فطريًا، مثل إنسان له أقارب كفار، أبوه أو أمه أو ... إلخ، فهو عنده المحبة الفطرية لهم فيجب أن تُصرَف هذه المحبة الفطرية إلى حب إسلامهم - أن يسلموا -، مع وجود البغض لما هم عليه من كفر ..

عودة إلى البدء .. فهذا كان خبر المستوى الأول (الإسلامي-الكتابي)، أما عن المستوى الثاني (السنِّي-الشيعي)، تحديدًا الرافضي الاثني عشري: ففيما يتعلق بموجبات التعايش السلمي، فهذا يمكن الاستدلال عليه مما أصَّلناه فيما سبق، فلا نطيل المقام بإعادة ذكره. ولكن فيما اشترطناه حول ما يتعلق بضرورة (الوعي بأيديولوچية المخالف)، فهنا موضع البحث .. فإن مما يجعل الأمر يبدو مشكلًا، تعداد القوم في دائرة الفرق الإسلامية (¬1)، مما أغرى البعض إلى المبالغة في تبسيط المسألة إلى الحد الذي نتج عنه عدم الانضباط في إطلاق الأحكام، وتنزيل العام على الخاص والعكس. أضف إلى ذلك براعة القوم في (فن التلون الحربائي)، والذي ما سلكوا طريقه إلا ابتغاء مرضات الله؛ فالتقية دينهم ودين آبائهم، كما يفترون القول على الإمام جعفر الصادق رحمه الله تعالى ورضي عنه (83 - 148هـ) (¬2)، بل وتاركها كتارك الصلاة، كما يضعون الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!! (¬3) .. فتقنُّع القوم بقناع التقية في محاولة لستر قبيح ما تحويه أسفارهم، والتي «لا يصل الكيد الاستشراقي والتبشيري إلى مستوى ما وصلت إليه من محاولات لتغيير دين الله وشرعه باسم الإسلام، بل إن الاستشراق والتبشير من معينها يرتوي وعلى شبهاتها وأساطيرها يعتمد في إفساده وتآمره على الدين وأهله» (¬4)، فهذا الأمر مع ما يقابله من حالة فجة من الكسل الفكري وفقر التتبُّع لدى قطاع عريض من أهل السنة، مع عدم اعتبار بما هو تاريخي - كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - «استدل على ما لم يكن بما قد كان فإن الأمور أشباه» (¬5) - بل والركون إلى هذه الحالة المؤقتة من (التَّعَلْمُن الجزئي) لدى العامة، قد أدى بالبعض إلى التغني بالحاجة إلى الوقوف على كلمة سواء والإعراض عما ¬

(¬1) وهو اجتهاد سائغ عند أهل السنة. (¬2) انظر، محمد بن يعقوب الكليني: الأصول من الكافي (2/ 219)، قوله: «قال أبو جعفر - عليه السلام -: التقية من ديني ودين أبائى ولا إيمان لمن لا تقية له». (¬3) انظر، تاج الدين الشعيري: جامع الأخبار، ص (95)، الفصل الثالث والخمسون: (في التقية)، قوله: «وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تارك التقية كتارك الصلاة». (¬4) د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (2/ 277). (¬5) انظر، علاء الدين المتقي الهندي (888 - 975هـ): كنز العمال (16/ 180) ..

الدولة الفاطمية الثانية

سلف، وأنه لا حرج من إعمال القاعدة (الذهبية) القائلة: «أن نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه»، هكذا على إطلاقها. وأصبحت العلة الرائجة هي أن شيعة اليوم معرضون عن الخلافات القديمة التي وقعت بين أسلافهم وأهل السنة، حريصون على وحدة كلمة المسلمين، وأن الأمة الإسلامية في حالة تشرذم وفرقة وغثائية وقد تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، والأمر ما عاد يحتمل المزيد، فلا بد إذن من وحدة الصف للتصدي لهذا الخطر المطبق. وهذا كلام طيب الظاهر، ولكن نجيب عليه بما يلي: الدولة الفاطمية الثانية: فلعلنا نتذكر يوم السبت 31 مارس 2007م، حينما خطب معمر القذافي (1942 - 2011م) خطبة شهيرة في مدينة أغاديس بشمال النيجر بمناسبة المولد النبوي، دعا فيها إلى إقامة ما سماه بـ (الدولة الفاطمية الثانية) في شمال إفريقيا كحل للقضاء على التوتر والجدل القائم بين السنة والشيعة، والذي يستغله العدو لإحداث فُرقة بينهما، مشددًا على أن هوية هذه الدولة الجديدة قادرة على جمع كل القوميات والقبليات والعصبيات والمذهبيات في بوتقة واحدة، وأنه سينصهر فيها كل الإشكالات الموجودة في شمال إفريقيا، متغافلًا بذلك عن تاريخ الفواطم الأسود، كما يذكر الإمام عبد الله الشرقاوي رحمه الله (ت. 1227هـ) (¬1): «دولة الفواطم - ويقال لهم العبيديون - كان مبدأ ظهورهم بالمغرب المهدي بالله عبيد الله [ت. 322هـ]، وأولهم بمصر المعز لدين الله تميم معد بن المنصور [ت. 365هـ]، وكان رافضيًا يبغض الصحابة ويسبهم يوم الجمعة على المنبر. ولما استقر للمعز ملك مصر انفرد بها، ولم يدخل تحت طاعة الخلفاء العباسية، وقال: أنا أفضل منهم، لأني من ولد فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكثر المؤرخين يكذبونهم في ذلك ويقولون: إنهم أولاد الحسين بن محمد بن أحمد القداح وكان مجوسيًا وقيل يهوديًا، وأمهم فاطمة بنت عبيد اليهودي، وخلافتهم باطلة؛ لأنهم قاموا والخلافة العباسية قائمة ببغداد ولا تصح البيعة بالخلافة لإمامين في وقت واحد» اهـ. ¬

(¬1) عبد الله الشرقاوي: تحفة الناظرين فيمن ولى مصر من الولاة والسلاطين، ص (40 - 1)، وسيأتي معنا بعض التفصيل حينما نبحث في تاريخ التشيع في الباب الثاني من هذا البحث.

تأييد آية الله التسخيري

تأييد آية الله التسخيري: فلقد تقدم على إثر هذه التصريحات باحث مصري بمشروع لإنشاء الدولة الفاطمية الجديدة، قوبل برفض هائل من أطراف مشاركة في المؤتمر الإسلامي المنعقد في طرابلس بليبيا في الفترة من 27 إلى 30 أكتوبر عام 2008م تحت عنوان (إن الدين عند الله الإسلام)، إلا أن أحد الأطراف المشاركة في المؤتمر، وهو المرجع الشيعي آية الله محمد علي التسخيري الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية ونائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فاجأ الجمع بإعلان تأييده لدعوة القذافي والمشروع المقدم، قائلًا (¬1): «أؤيد القذافي فيما طرحه عن فكرة الفاطمية الجديدة، وأفهم جيدًا غرضه الأساسي من هذا الطرح، فقد أراد أن يسحب بوصلة الصراع المذهبي إلى غير الاتجاه الذي يريده الغرب متمثلًا في إدخال الأمة في صراع شيعي وسني أو فارسي وعربي» اهـ. وقد أثارت حينها تصريحات تسخيري المخاوف من إعادة الجدل بشأن تحذيرات الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في شهر سپتمبر من العام نفسه فيما يتعلق بخطر المد الشيعي الإيراني واختراقه لبلاد السنة، إلا أن ما لوحظ أن موقع الشيخ القرضاوي تجاهل تصريحات نائبه التسخيري تلك، وفي المقابل قال تسخيري بأن «الخلاف مع القرضاوي سحابة صيف لن تعود» (¬2)، في محاولة منهما لاحتواء الأزمة التي سنعرض لها القول بعد قليل. ولكن كما قلنا قبل ذلك، فإن الله - جل جلاله - أخبرنا: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (¬3)، وبغض النظر عن التأويلات الساذجة التي تأولها بعض أهل السنة لتبرير تصريحات تسخيري في شأن دولة الفواطم الثانية، حتى إنه قيل في حقه: «وعمليًا أنا لا أرى فيما قاله شيئًا جارحًا، وأحسن الظن به»، بل كما أوضح بعضهم أنه «يمكن النظر إلى فكرة الدولة الفاطمية بقراءة سياسية تهدف إلى دولة (الوحدة الإسلامية) التي نشأت ¬

(¬1) وفق ما نقله عنه موقع (العربية. نت)، بتاريخ 29/ 10/2008م. www.alarabiya.net (¬2) السابق، بتاريخ 30/ 10/2008م. (¬3) محمد: 30

في الزمن الفاطمي، والقذافي عندما دعا لتلك الدولة تبنى الموقف السياسي وليس المذهبي، ونحن نفهم ذلك لكونه زعيمًا سنيًّا» (¬1). فعند النظر تجد أن هذه التأويلات تخالف الحقائق التاريخية النافية لوجود أثر هذه الوحدة الإسلامية في كنف الدولة الفاطمية الأولى (297 - 567هـ/909 - 1171م) (¬2)، فضلًا عن مخالفتها لصريح قول القذافي في إحدى خطبه: «أول دولة شيعية في التاريخ هي التي في شمال إفريقيا وهي الدولة الفاطمية الأولى، وأهل البيت هم من لهم الحق الإلهي في الحكم والإمامة، ولا نقبل بعد اليوم أي أحد في الوطن العربي يحكم باسم القرآن أو باسم الدين أو يعمل دولة دينية ما لم يكن من أهل البيت» اهـ. وبعيدًا عن هذه المجاملات الشكلية، فالحاصل أن كلًا من القذافي وتسخيري ارتضى النموذج العبيدي حلًا (للأزمة الإسلامية)، بدلالة قول تسخيري في حوار لاحق مع صحيفة (ليبيا اليوم) نشر في 4/ 11/2008م، قال: «أنا قلت: أنا أؤيد أن الأخ العقيد لم يكن يقصد إلا إرجاع المؤشر إلى موقعه الطبيعي»، وهو بذلك يناقض أحد أهداف المجمع العالمي للتقريب الذي يتولى هو أمانته العامة، والذي ينص على (¬3): «نفي موارد ¬

(¬1) وفق ما صرح به بعض الصحافيين البارزين لموقع (العربية. نت)، بتاريخ 30/ 10/2008م. (¬2) يذكر الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله (701 - 774هـ) في ترجمة باني مصر معد بن إسماعيل المدعي أنه فاطمي: «وقد أحضر بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر النابلسي [ت. 363هـ] فقال له المعز: بلغني عنك أنك قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين بسهم، فقال: ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن قوله، فقال: كيف قلت؟ قال: قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر. قال: ولم؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة وقتلتم الصالحين وأطفأتم نور الإلهية وادعيتم ما ليس لكم. فأمر بإشهاره في أول يوم ثم ضرب في اليوم الثاني بالسياط ضربًا شديدًا مبرحًا ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات رحمه الله، فكان يقال له الشهيد» اهـ[انظر، ابن كثير: البداية والنهاية (11/ 284)]، وقال الإمام الذهبي في ترجمة (الشهيد المسلوخ): «قال أبو ذر الحافظ: سمعت الدارقطني يذكره ويبكي ويقول: كان يقول وهو يُسلخ {كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58]» [الذهبي: سير أعلام النبلاء (16/ 148)]. (¬3) انظر، أهداف المجمع العالمي للتقريب على موقع المجمع الرسمي، الفصل السادس: الأهداف الرسمية والتنظيمية، الهدف الرسمي (6). www.taghrib.org

سوء الظن والشبهات بين أتباع المذاهب الإسلامية». فعندما تصدر مثل هذه التصريحات ممن يتولى زمام الأمور في دعوة التقريب، يجعلنا نشك في نوايا هذا المجمع الإيراني المنشأ، المقام بمباركة علي خامنئي المرشد الأعلى لإيران وقائد ثورتها (الإسلامية)، ويجعلنا نسأل عن معنى (الأصل والفرع) في اصطلاحهم، بل ويجعلنا أيضًا نعيد قراءة أهداف المجمع حينما يذكر أن «انتصار الثورة الإسلامية في إيران وإيجاد حكومة إسلامية من جانب مؤسس الثورة سماحة الإمام الخميني [1902 - 1989م] قد مهَّدا المجال لزيادة توسيع هذا الجهد بين المسلمين» (¬1)؛ فما هو الجهد المراد التوسع فيه؟ خاصة إذا علمنا أن سبب هذا الخلاف الحاصل بين المسلمين يرجع - حسبما يرى خميني - إلى (تقصير) نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ رسالته! فيقول (¬2): «واضح أن النبي لو كان قد بلَّغ بأمر الإمامة طبقًا لما أمر الله به وبذل المساعي في هذا المجال لما نشبت في البلدان الإسلامية كل هذه الاختلافات والمشاحنات والمعارك، ولما ظهرت خلافات في أصول الدين وفروعه» اهـ. والخلاف هنا أصلي بدلالة قوله، بل يقع في أصل الأصول والمعلوم من الدين بالضرورة؛ فكما يروي إمامهم محمد بن يعقوب الكليني (ت. 328/ 329هـ) بسنده عن زرارة عن أبي جعفر قال: «بني الإسلام على خمسة أشياء، على الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية»، قال زرارة: قلت: وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن» (¬3). فهل يتفق هذا مع ما صرح به تسخيري بأن الإيمان بالوصية (الإمامة) هو «اختلاف اجتهادي» (¬4)، أي إنه خلاف سائغ غير مذموم (¬5) كما يظهر من كلامه، وأن «المساحة ¬

(¬1) انظر السابق: التعريف بالمجمع. (¬2) الخميني: كشف الأسرار، ص (155). وسيأتي الحديث عنه ببعض التفصيل في مبحث الإمامة في الباب الثاني. (¬3) الكليني: الأصول من الكافي (2/ 18). (¬4) انظر حواره مع صحيفة (ليبيا اليوم)، بتاريخ 4/ 11/2008م. www.libya-alyoum.com (¬5) وهو ما لا يخالف نصًا من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماعًا قديمًا، أو قياسًا جليًا. وعكسه الخلاف غير السائغ المذموم: وهو ما خالف نصًا من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماعًا قديمًا، أو قياسًا جليًا.

المشتركة بين (المذاهب) تتجاوز 90% من مسائل حياتهم» (¬1)، باعتباره أن المذاهب الإسلامية المعروفة «هي المذاهب السبعة، فبالإضافة إلى المذاهب الأربعة هناك المذهب الزيدي والمذهب الإمامي الاثنا عشري والمذهب الإباضي» (¬2)!! واعتباره أن «هناك خلافات في تفصيلات العقيدة وليس في أصولها» (¬3)؟ وهل يبقي بعد ذلك مجال لإعمال القاعدة (الذهبية) حمالة الأوجه، وهو كما يقولون: «شرط الدليل أن يتفق عليه الخصمان»؟ ولو كان الأمر كما يدعيه التسخيري من أننا «إذا كنا مأمورين أن نبحث عن الكلمة السواء مع أهل الكتاب فكيف لا نبحث عن الكلمة السواء في داخلنا؟!»، فنقول: يا أيها الأمين العام لمجمع التقريب، وما هي (الكلمة السواء) التي أمرنا الله - عز وجل - بها في دعوة أهل الكتاب، أليست هي: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ} (¬4)، أي إنها دعوة الإسلام الصريحة .. فكيف تكون إذن هذه الكلمة السواء بيننا وبين من أفتى إمامهم «السيد الجليل والمحدِّث النبيل واحد عصره في العربية والأدب والفقه والتفسير، [والذي] كان عالمًا فاضلًا محققًا مدققًا جليل القدر صاحب التصانيف الكثيرة الشائعة» (¬5)، السيد نعمة الله الجزائري (1050 - 1112هـ)، بقوله في حقنا (¬6): «إنا لم نجتمع معهم على إله ولا على نبي ولا على إمام، وذلك أنهم يقولون إن ربهم هو الذي كان محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيه وخليفته من بعده أبو بكر. ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي، بل نقول إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا»، بل وبنقله إجماع علمائهم فيما يتعلق بحكم الناصبي: «أنه نجس وأنه شر من اليهودي والنصراني والمجوسي، وأنه كافر بإجماع علماء الشيعة الإمامية عليهم رضوان الله» (¬7). ¬

(¬1) انظر حواره السابق. (¬2) انظر حواره مع (العربية. نت)، بتاريخ 24/ 1/2007م. (¬3) انظر حواره مع صحيفة (ليبيا اليوم)، بتاريخ 4/ 11/2008م. (¬4) آل عمران: 64 (¬5) انظر، عباس القُمِّي: الكنى والألقاب (2/ 330 - 1). (¬6) نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية (2/ 278). (¬7) السابق (2/ 306). والناصبة في اصطلاحهم هم (أهل السُّنَّة) كما سيأتي بيانه.

بل كيف تكون الكلمة السواء بيننا وبين من «حظيت قضية الوحدة بين أبناء الأمة الإسلامية والتقريب بين المذاهب الإسلامية [اهتمامه]، القائد العظيم للثورة الإسلامية سماحة آية الله الخميني» (¬1)، المفتي بأنه «لا تجوز الصلاة على الكافر بأقسامه حتى المرتد ومن حكم بكفره ممن انتحل الإسلام كالنواصب والخوارج» اهـ (¬2). أيضًا، فإن الاختلاف والطعن في الأصل (يترتب على) أو (يترتب عليه) الاختلاف والطعن في عدالة ناقليه؛ فالتسخيري، الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية ونائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الحريص على وحدة المسلمين والحفاظ على مساحة التسعين بالمائة المشتركة، يرى أن «الصحابي بمجرد أنه رأى أو عاش مع الرسول لفترة قصيرة يصبح ويرتقي إلى مرتبة العدالة أو العصمة هذا لا يصح» (¬3)، ولماذا لا يصح وقد قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬4)، والوسط كما يذكر شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (385 - 460هـ) (¬5): «العدل»، وقال: «هم وسط يرضى الأنام بحكمهم». فلو كان هذا قول الله تعالى في أمة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - عامة، فما بالك بمن خصهم بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬6). ولماذا لا يستقيم لدى تسخيري فهم هذا المعنى القرآني الجلي لا سيما وهو القائل برفض مسألة تحريف القرآن بشكل كامل وأن «هناك بعض المحدثين والذين لا قيمة لآرائهم لدى الأوساط العلمية ربما مالوا إلى هذا المعنى، ولكنهم رُفِضُوا من الخط العام» (¬7)، وهل يعتبر الإمام الخميني من هؤلاء المحدثين الذين لا قيمة لآرائهم؟ فهو القائل (¬8): «لو كانت مسألة الإمامة قد تم تثبيتها بالقرآن، فإن أولئك الذين لا يعنون ¬

(¬1) انظر، التعريف بالمجمع العالمي للتقريب على موقعه الرسمي: www.taghrib.org (¬2) الخميني: تحرير الوسيلة (1/ 74). (¬3) انظر حواره مع صحيفة (ليبيا اليوم)، بتاريخ 4/ 11/2008م. (¬4) البقرة: 143 (¬5) تفسير الطوسي (التبيان في تفسير القرآن) (2/ 6). (¬6) التوبة: 100 (¬7) انظر حواره السابق. (¬8) الخميني: كشف الأسرار، ص (131).

بالإسلام والقرآن إلا لأغراض الدنيا والرئاسة، كانوا يتخذون من القرآن وسيلة لتنفيذ أغراضهم المشبوهة، ويحذفون تلك الآيات من صفحاته، ويسقطون القرآن من أنظار العالمين إلى الأبد، ويلصقون العار - وإلى الأبد - بالمسلمين والقرآن، ويثبتون على القرآن ذلك العيب الذي يأخذه المسلمون على كتب اليهود والنصارى»، بل وهو كذلك المترحِّم على حسين النوري الطبرسي (1254 - 1320هـ) صاحب (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب) (¬1)؟! كذلك فإنه لم الإلزام بما لا يلزم؟! فمتى اشتُرِطَ مع العدالة العصمة؟ وشتان بين المعنيين (¬2). وإذا كان تسخيري يعتقد فيما يدعيه بأن من يتطاول من الشيعة على الصحابة «أنهم متطرفون» (¬3)، فماذا يقول في مولاه الخميني؟ أمتطرف هو؟ بل ولماذا لا يغلق تسخيري باب الفتنة في وجه هؤلاء المتطرفين وينقب عن حقيقة المشهد المزعوم المقام في مدينة كاشان الإيرانية لأبي لؤلؤة المجوسي قاتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أم أن جوابه يكون ببلاهة (¬4): «لقد سمعت بعض الأنباء عنه [أي المزار] قبل ذلك ولكني لم أهتم بهذا الموضوع لأنني كما قلت سلفًا لا أرى فيه أي قيمة». فلماذا لا ترى قيمة في هذا الكفر واللعن والسباب؟ هل لأنه حادث في جناب عمر لا جعفر؟! فهل يقال بعد ذلك إن ممارسات تسخيري ومن على شاكلته تؤدَّى - كما قلنا في البداية - بقناع التقية؟ أم أنه قد طابق قوله فعله في دعوته لـ «حذف قضايا التشكيك والتقية وأمثال ذلك» (¬5)، ضاربًا باعتقاده عرض الحائط، خاسرًا بذلك تسعة أعشار دينه، كما ¬

(¬1) انظر، الخميني: الحكومة الإسلامية، ص (67) الهامش، قوله في تخريج بعض الأحاديث: «وقد رواه المرحوم النوري في كتاب مستدرك الوسائل». (¬2) وسوف يأتي الحديث عن عدالة الصحابة مفصلًا في الفصل الأول من الباب الثاني. (¬3) انظر حواره السابق. (¬4) انظر حواره مع (العربية. نت)، بتاريخ 24/ 1/2007م. (¬5) انظر حواره مع صحيفة (ليبيا اليوم)، بتاريخ 4/ 11/2008م.

دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بين الماضي والحاضر

نقل عن الإمام جعفر أن «تسعة أعشار الدين في التقية» (¬1). وليتنا نتذكر قول الأستاذ سعيد حوى رحمه الله (1935 - 1989م) (¬2): «إن بعض من نفترض عندهم الوعي غاب عنهم الوعي فلم يدركوا خطر الخمينية، وإن بعض من نفترض عندهم العلم قصَّروا عن إبراز خطر الخمينية فكادت بذلك تضيع هذه الأمة» اهـ. ... دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بين الماضي والحاضر: لو فتشنا في ذاكرة التاريخ، ووقفنا عند أحداث سنة 1364هـ/1944م، نجد أنه قد سبق هذا المجمع العالمي المشئوم تأسيس دار للتقريب بين المذاهب الإسلامية في مصر، وقد دعا إلى تأسيسها محمد تقي القُمِّي الرافضي (ت. 1990م)، فيروي محب الدين الخطيب رحمه الله (1886 - 1969م) (¬3): «أول ما نلاحظه في هذا الأمر وفي كل أمر له علاقة بأكثر من طرف واحد أن من أقوى أسباب نجاحه أن يكون هناك تجاوب بين الطرفين، أو الأطراف ذات العلاقة به. ونضرب بذلك مثلًا بمسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة: فقد لوحظ أنه أنشأت لدعوة التقريب بينهما دار في مصر ينفق عليها من الميزانية الرسمية لدولة شيعية، وهذه الدولة الشيعية الكريمة آثرتنا بهذه المكرمة فاختصتنا بهذا السخاء الرسمي، وضنت بمثله على نفسها وعلى أبناء مذهبها، فلم تسخ مثل هذا السخاء لإنشاء دار تقريب في طهران أو قم أو النجف أو جبل عامل أو غيرها من مراكز الدعاية والنشر للمذهب الشيعي» اهـ. ولقد صدر عن هذه الدار مجلة دورية سميت (رسالة الإسلام) رأس تحريرها الشيخ محمد محمد المدني (1907 - ؟) عميد كلية الشريعة بالأزهر، وقد صدر العدد الأول منها في ربيع الأول عام 1368هـ ولم تكن منتظمة الصدور في آخر عهدها. ¬

(¬1) انظر، الكليني: الأصول من الكافي (2/ 217). (¬2) سعيد حوى: الخمينية شذوذ في العقائد وشذوذ في المواقف، ص (55). (¬3) محب الدين الخطيب: الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية، ص (7).

يقول الدكتور ناصر القفاري (¬1): «ومن الملاحظ أنهم اهتموا بنشر كتب الفقه بالذات وبدأوا بالفروع قبل الأصول مع أن الفرقة الكبرى هي في مسائل الأصول والعقيدة، أما قضايا الفقه فهم وإن كان لهم في كل باب من أبواب الفقه شواذ غريبة إلا أن معظم مسائل أبواب الفقه يشتركون فيها مع أهل السنة لأنه لا فقه لهم إلا ما أخذوه عن طريق أهل السنة (¬2)، وبالتشابه الفقهي يصطادون بعض المغفلين». ولقد استطاع الروافض في ظل دعوة التقريب أن يقوموا بخداع الشيخ شلتوت رحمه الله (1893 - 1963م) شيخ الأزهر بالقول بأن مذهب الشيعة لا يفترق عن مذهب أهل السنة ويطلبوا منه أن يصدر فتوى بشأن جواز التعبد بالمذهب الجعفري، فاستجاب لهم وأصدر فتواه في عام 1368هـ بأنه «يجوز التعبد به شرعًا كسائر مذاهب أهل السنة ... فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى يجوز لمن ليس أهلًا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات» (¬3). وكان من المفارقات المريبة أن أحد شيوخ الشيعة الذين ينادون بالوحدة الإسلامية - وهو محمد الخالصي (1888 - 1963م) - حينما سئل عن جواز التعبد بالمذاهب الأربعة (مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد)، أجاب: «والخلاصة أنه لا يجوز الدخول في مذهب من المذاهب الأربعة ولا تقليد أي ميت من الأموات ما لم يرجع إلى المجتهد الحي» (¬4). ¬

(¬1) د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (2/ 181 - 2). (¬2) وفي الكافي - مثلًا - اعتراف بأن الشيعة لم يعرفوا أحكام الحج ومسائل الحلال والحرام قبل الإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين (أبو جعفر الصادق) رحمهم الله؛ فعن أبي عبد الله أنه قال: «وكانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم حتى كان أبو جعفر ففتح لهم وبيَّن لهم مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم حتى صار الناس يحتاجون إليهم من بعد ما كانوا يحتاجون إلى الناس». [انظر، الكليني: الأصول من الكافي (2/ 20)]. (¬3) انظر نص فتواه في مجلة (رسالة الإسلام) الصادرة عن دار التقريب، العدد الثالث من السنة الحادية عشرة (محرم 1379هـ/يوليو 1959م)، ص (227 - 8) تحت عنوان (فتوى تاريخية). ولقد أدرج الدكتور القفاري صورة ضوئية للنص الكامل للفتوى في: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة، انظر (2/ 309). (¬4) أفتى بذلك في كتابه (التوحيد والوحدة)، تحت عنوان: استفتاء من البحرين: هل يجوز تقليد أحد أئمة المذاهب الأربعة؟، ص (33 - 4)، ط. دار النشر والطباعة العراقية، بغداد. ولقد أدرج الدكتور القفاري صورة ضوئية للفتوى في كتابه، انظر السابق (2/ 313).

يقول القفاري (¬1): «وعلى الرغم من قيام الشيعة بتأسيس دار التقريب ومجلتها وجماعتها واستجابة بعض علماء الأزهر لفكرتهم لم نر لهذه الدعوة لهذا التقارب أي أثر بين علماء الشيعة في العراق وإيران وغيرهما، فلا يزال القوم مصرين على ما في كتبهم من ذلك الطعن الجارح والتصوير الكاذب لما كان بين الصحابة من خلاف، ولا تزال مطابع الروافض تقذف سنويًا بعشرات الكتب التي تحمل اللعن والتكفير والتخليد بالنار لخير القرون. وقد بعث أحد القراء المؤمنين بفكرة التقريب برسالة إلى شلتوت بعد إصداره لفتواه يذكر له ما ينشر في بلاد الشيعة من كتب لا تتفق ودعوة التقريب ويدعوهم لأن يجدوا لذلك حلًا، فأجابه شلتوت: "يمكنكم أن ترجعوا إلى مجلة (رسالة الإسلام) لتروا فيها ما يشفي الغلة ويطمئن القلوب إن شاء الله تعالى". وهو جواب يشبه فتواه في الشذوذ والغرابة» اهـ. ولكن لم يكتب لهذه الدار طول البقاء، وسرعان ما خبأ صوتها وخفت، فما كان السبب في ذلك؟ هل كما يقول تسخيري (¬2): «خبأ صوتها وخفت بموت أصحابها»، أم لأن أصحابها المخلصين خابت آمالهم في الوصول إلى كلمة سواء، لما صار مفهوم التقريب في قانون الجماعة الحقيقي هو نشر التشيع والرفض في ديار السنة؟ فبعد ما كانت موضع أمل لهم منهم من ترك الجماعة بصمت ومنهم من أعلن عن ذلك، كأمثال الدكتور محمد البهي (1306 - 1392هـ) والشيخ طه محمد الساكت والشيخ عبد اللطيف محمد السبكي (ت. 1969م) وغيرهم (¬3). يقول القفاري (¬4): «ويتتابع الأعضاء المخلصون في التخلي عن جماعة أرادت أن تنشر ¬

(¬1) د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (2/ 188 - 9). (¬2) انظر حواره مع صحيفة (ليبيا اليوم)، بتاريخ 4/ 11/2008م. (¬3) انظر تعليق الشيخ محمد نصيف رحمه الله (1302 - 1391هـ) في خاتمة كتاب (الخطوط العريضة) لمحب الدين الخطيب، ص (61). (¬4) د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (2/ 184 - 5).

الرفض في ديار المسلمين باسم الوحدة والتقريب حتى وصف الشيخ محب الدين الخطيب ما آل إليه أمر دار التقريب وجماعة التقريب بقوله (¬1): "انفض المسلمون جميعًا من حول دار التخريب التي كانت تسمى دار التقريب ومضى عليها زمن طويل والرياح تصفر في غرفها الخالية تنعي من استأجرها. ثم يذكر أنه لم يبق متعلقًا بعضويتها إلا فئة من المنتفعين ماديًا من وراء انتمائهم إلى هذه الدار وأن العلماء المخلصين من أهل السنة انكشف لهم المستور من حقيقة دين الرافضة ودعوة التقريب التي يريدها الروافض فانفضوا عن هذه الدار وعن الألاعيب التي كان يراد إشراكهم في تمثيلها"، ثم يقول الخطيب: "فلم يبق موضع عجب إلا استمرار النشر الخادع في تلك المجلة ولعل القائمين يضعون لها حدًا". ولكن هذه المجلة (رسالة الإسلام) التي يشير الخطيب إلى استمرار صدورها ما لبثت أن توقفت بصدور آخر عدد في 17 رمضان 1392هـ وهو العدد (60). وقد زرت الدار أثناء تحضيري لهذه الرسالة - 1399هـ - فوجدتها مهجورة من أعضائها ومن زوارها. ولا أثر فيها لأي نشاط، وقد لبثت أتردد على مكتبتها أيامًا فلا أرى أحدًا يؤمها. ولما شعر الروافض بفشلها ويئسوا من نجاحها أنشأوا دارًا أخرى لنشر عقيدة الرافضة بين أهل السنة في مصر ولا تزال إلى هذا الوقت تمارس نشاطها بمختلف الأساليب وهي (جمعية أهل البيت)» اهـ. إلا أنه قد توقف نشاط الجمعية في العام نفسه (1399هـ/1979م) بعد قيام الثورة الخمينية، حيث يذكر شيخهم صالح الورداني (¬2) أنه «في السبعينات ظهرت جمعية آل ¬

(¬1) نقلًا عن مجلة (الفتح)، العدد (848)، العام السابع عشر، شوال 1366هـ. (¬2) وتجدر الإشارة إلى أن الورداني رغم إعلانه ترك مذهب التشيع في عام 2006م، حينما سأله مراسل (العربية. نت): «تقول إنك لم تعد شيعيًا فهل هذا معناه أنك عدت إلى المذهب السني؟» فأجاب: «أنا أنتقد الشيعة والسنة أيضًا. لقد أصبحت حاليًا خارج الساحتين السنية والشيعية، ولم أعد أعترف بأي منهما. أنا فقط اعترف بالقرآن الكريم وآل البيت، مع التأكيد على أن هناك فرقًا بين الشيعة والتشيع، كما هو الفرق بين الإسلام والمسلمين»، وأضاف: «التشيع كمنهج هو منهج حق وتعبير حقيقي عن الدين، لكن الشيعة شيء آخر، هم جمهور ومجتمع يملك كل المقومات والسلبيات والتناقضات السائدة في أي مجتمع، والصراع السائد بين السنة والشيعة هو صراع تناقضات قائم على تناقضات الشيعة وليس تناقضات التشيع» اهـ[انظر حواره مع (العربية. نت)، بتاريخ 31/ 10/2006م].

البيت وكانت الظروف مساعدة لها في البداية إلا أنه بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران انعكس موقف الحكومة المعادي لإيران عليها وصدر قرار بوقف نشاطها» (¬1). يقول (¬2): «صدر قرار الحكومة بوقف الجمعية في عام 79، أي إن الجمعية لم تمكث على الساحة سوى ستة أعوام بدأت في 22/ 8/73 وانتهت في 2/ 12/79 .. وجاء في قرار الوقف أن الجمعية تمثل خطورة على عقائد الناس ووحدة صفوفهم ببث أفكار غريبة تخالف الدين الإسلامي وتؤيد الفكر الشيعي. وهذا يعني أن الجمعية ارتكبت المخالفة التي تبيح حلها حسب قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة الذي ينص على أنه يجوز حل الجمعية في حالة مخالفة جسيمة للقانون أو إذا خالفت النظام العام والآداب .. ولم يقف الحد عند إيقاف الجمعية فقط بل تم مصادرة المسجد الوحيد التابع للجمعية والذي كان يحمل اسم (مسجد آل البيت) وضُم إلى مساجد الحكومة» اهـ (¬3). ولكن لم تتوقف المساعي الرافضية عند هذا الحد، فلقد تأسس على أنقاض دار التقريب المجمع العالمي الحالي للتقريب بين المذاهب الإسلامية؛ فيذكر تسخيري أنه «بعد نجاح الثورة الإسلامية، وبعد الانتهاء من الانشغال بالحروب والحرب التي فرضها صدام على الجمهورية الإسلامية [1980 - 1988م] (¬4)، يعني بدأت فكرة مواصلة رسالة دار التقريب في القاهرة وتم ذلك بإنشاء المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب ¬

(¬1) صالح الورداني: الشيعة في مصر من الإمام علي إلى الإمام الخميني، ص (5). (¬2) السابق، ص (164 - 5). (¬3) ويقول مفتخرًا: «رُفِعَ الأذان من هذا المسجد بـ (حيَّ على خير العمل) لأول مرة في تاريخ مصر منذ سقوط الفاطميين». [السابق، ص (168)]. (¬4) ولقد دفع صدام حسين التكريتي (1937 - 2006م) ثمن هذه الحرب غاليًا صبيحة عيد الأضحى المبارك من عام 1427هـ/30 ديسمبر 2006م، حينما نفذ فيه رافضة العراق حكم الإعدام شنقًا بحبل أمريكي الصنع! في رسالة بالغة القسوة والحقد والإساءة للعالم الإسلامي السني. ولكنه خرق أسماع العالم أجمع بنطقه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، غفر الله له ورحمه.

الإسلامية، والهدف كما قلت هو إعادة الحالة إلى واقعها الطبيعي، يعني إعادة الأمة إلى عقلانيتها الأولى أيام أئمة المذاهب وأيام عصر الرسول عليه الصلاة والسلام» (¬1). إضافة إلى أنه قد تم مؤخرًا إعادة افتتاح دار التقريب في مصر في مارس من عام 2007م، بعد توقف دام أكثر من خمسين عامًا، وتولى رئاستها الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر السابق، وتولى من الجانب الإيراني عبد الله القمني منصب الأمين العام للدار، كما تولى من سلطنة عمان من يمثل الإباضية (¬2) وهو أحمد بن سعود السيابي أمين عام دار الإفتاء في سلطنة عمان. وفي خطوة تعد تدعيمًا لإحياء نشاط دار التقريب في مصر، شارك محمد الخاتمي رئيس إيران الأسبق في أول اجتماع (سني-شيعي) تعقده الدار بالقاهرة، وذلك في مساء الجمعة 30 مارس 2007م، حيث قال: «إن التقريب يعد نعمة متجددة، وإحياء دار التقريب بمصر له أهمية كبرى». ومن جانبه دعا محمود عاشور - رئيس الدار - إلى عدم الفصل بين مساجد السنة والشيعة بقوله: «إن تخصيص مساجد للسنة وأخرى للشيعة يعمق الهوة والفرقة، لكن إذا اجتمعنا معًا وصلينا معًا فإننا سنتقارب وسنتحاب وسنتآزر، فليتنا نجتمع في مساجد واحدة». قلت: رحمك الله وهداك! فما العمل إذن وقد أفتى إمامهم الخميني أن من مبطلات الصلاة: «التكفير، وهو وضع إحدى اليدين على الأخرى نحو ما يصنعه غيرنا، وهو مبطل عمدًا على الأقوى لا سهوًا، وإن كان الأحوط فيه الإعادة، ولا بأس ¬

(¬1) انظر حواره مع صحيفة (ليبيا اليوم)، بتاريخ 4/ 11/2008م. (¬2) الإباضية، كما تعرِّفها (الموسوعة الميسرة): «هي إحدى فرق الخوارج، وتنسب إلى مؤسسها عبد الله بن إباض التميمي، ويدعي أصحابها أنهم ليسوا خوارج، وينفون عن أنفسهم هذه النسبة، والحقيقة أنهم ليسوا من غلاة الخوارج كالأزارقة مثلًا، ولكنهم يتفقون مع الخوارج في مسائل عديدة منها: أن عبد الله بن إباض يعتبر نفسه امتدادًا للمحكمة الأولى من الخوارج، كما يتفقون مع الخوارج في تعطيل الصفات، والقول بخلق القرآن، وتجويز الخروج على أئمة الجور». [انظر، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/ 58 - 63)].

به حال التقية» (¬1)، والعجب كل العجب أنهم يبطلونها بذلك وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نعجل الإفطار وأن نؤخر السحور وأن نضرب بأيماننا على شمائلنا» (¬2). ولقد أضاف الشيخ عاشور أن «أعداء الإسلام لا يفرقون بين سنة وشيعة، وهذا يقتضي منا جميعًا أن نعمل دائمًا لرأب الصدع بين السنة والشيعة إن كان هناك صدع»، وهذا جوابه يأتي في ثنايا البحث. أما تسخيري، وقد أطلنا النفَس معه!، فقد اعتبر أن «القاهرة هي أصل وأم التقريب، وأن المجمع [العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران] على استعداد لأن يكون امتدادًا وفرعًا جديدًا لها» (¬3). إلا أنه في خبر نشرته صحيفة (المصريون) في 9/ 1/2010م، جاء على لسان محمود عاشور قوله: «إن هيئة التقريب بين السنة والشيعة أصيبت بالفشل والعجز في أداء مهمتها رغم عدم وجود خلافات جوهرية بين المذهبين خاصة أن الخلاف الفقهي يتركز في الفروع وليس في جوهر الدين والعقيدة» اهـ. ولا مزيد تعليق على الكلام، حيث سنستفيض في مناقشة هذه الخلافات (الفرعية) في الباب الثاني من بحثنا .. ... ¬

(¬1) الخميني: تحرير الوسيلة (1/ 166)، كتاب الصلاة، باب القول في مبطلات الصلاة. (¬2) رواه الطبراني في (الكبير) (11/ 7)، وصححه الألباني في (صحيح الجامع): 2286 (¬3) وفق ما نقله موقع (إسلام أون لاين. نت)، بتاريخ 31/ 3/2007م. www.islamonline.net

تجارب فردية للتقريب حفظها لنا التاريخ

تجارب فردية للتقريب حفظها لنا التاريخ: 1 - مصطفى السباعي: لم تقتصر مساعي التقريب في التاريخ المعاصر على المحاولات الجماعية، بل لقد حفظ لنا التاريخ عدة تجارب فردية فريدة! منها على سبيل المثال ما يحكيه الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله (1915 - 1964م) عن نفسه فيقول (¬1): «في عام 1953م زرت المرحوم السيد عبد الحسين (!) شرف الدين العاملي (¬2) في بيته بمدينة صور في جبل ¬

(¬1) د. مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع، ص (23 - 4) باختصار. (¬2) عبد الحسين شرف الدين العاملي: الموسوي، صاحب كتاب المراجعات، (1290 - 1377هـ/1957م). وكتاب المراجعات هو من أهم كتبهم الحديثة، ويزعم كاتبه أن مراجعاته هي عبارة عن حوار جرى بينه وبين شيخ الأزهر سليم البشري رحمه الله [1248 - 1335هـ]. يقول صاحب (وجاء دور المجوس): «والتلفيق واضح في الكتاب؛ فلقد صور المؤلف شيخ الأزهر أمامه كتلميذ مؤدب أمام شيخ علامة بز بعلمه الأولين والآخرين .. فترى البشري يسأل والموسوي يجيب، ويسلم الأول للآخر بكل إجابة حتى نهاية الكتاب. والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لم يصبح شيخ الأزهر شيعيًا بعد أن اقتنع بأصول وفروع المذهب؟! ومن مقدمته نلاحظ أن الله قد فضحه [أي المؤلف] فاعترف بأنه قد أضاف أمورًا أخرى إلى الحوار الذي دار بينهما، انظر إليه وهو يقول: "وأنا لا أدعي أن هذه الصحف تقتصر على النصوص التي تألفت يومئذ بيننا ... غير أن المحاكمات في المسائل التي جرت بيننا موجودة بين هاتين الدفتين بحذافيرها مع زيادات اقتضتها الحال، ودعا إليها النصح والإرشاد، وربما جر إليها السياق على نحو لا يخل بما كان بيننا من الاتفاق"اهـ[المراجعات، ص (77 - 8)، مقدمة المؤلف] .. إذن هناك زيادات اقتضتها الحال، ولم يفصح الكاتب عن حجم هذه الزيادات، ولو كان الموسوي صادقًا لنشر في بداية كتابه صورًا لرسائل شيخ الأزهر تتضمن اعترافه بصحة أصول الشيعة لا سيما وقوم الموسوي يحرصون أشد الحرص على الجوانب الإعلامية والدعائية، كما أنهم يهتمون بنشر شهادات علماء السنة لمذهبهم إن كانت وفق ما يريدون ... وكتاب المراجعات جاء بعد وفاة شيخ الأزهر سليم البشري وبعد المناقشات المزعومة بخمسة وعشرين عامًا كما اعترف المؤلف في مقدمته، فلماذا لم ينشر كتابه خلال حياة البشري؟! ومما يجدر ذكره أن أحد إخواننا الذين يتابعون قضايا الرافضة سأل ابن سليم البشري عن حقيقة ما في المراجعات، فأجاب بأنه لا يعرف الموسوي، ولا يذكر أنه اتصل بأبيه أو أجرى معه حوارًا. والكتاب بعد ذلك مملوء بالدس والافتراء على أهل السنة والجماعة، وقد نسب الموسوي إليهم أقوالًا كثيرة هم بريئون منها. ترى أيقبل عالم جليل كالشيخ البشري أن ينسب رافضي مخرب مثل هذه الأقوال لأعلام الإسلام؟!» اهـ[عبد الله الغريب (محمد سرور بن نايف زين العابدين): وجاء دور المجوس، ص (137 - 9) باختصار].

عامل، وكان عنده بعض علماء الشيعة، فتحدثنا عن ضرورة جمع الكلمة، وإشاعة الوئام بين فريقي الشيعة وأهل السنة، وأن من أكبر العوامل في ذلك زيارة علماء الفريقين بعضهم بعضًا، وإصدار الكتب والمؤلفات التي تدعو إلى هذا التقارب. وكان السيد عبد الحسين متحمسًا لهذه الفكرة ومؤمنًا بها، وتم الاتفاق على عقد مؤتمر لعلماء السنة والشيعة لهذا الغرض، وخرجت من عنده وأنا فرح بما حصلت عليه من نتيجة، ثم زرت في بيروت بعض وجوه الشيعة من سياسيين وتجار وأدباء لهذا الغرض، ولكن الظروف حالت بيني وبين العمل لتحقيق هذه الفكرة، ثم ما هي فترة من الزمن حتى فوجئت بأن السيد عبد الحسين أصدر كتابًا في أبي هريرة (¬1) مليئًا بالسباب والشتائم، ولم يتح لي الآن قراءة هذا الكتاب الذي ما أزال أسعى للحصول على نسخة منه، ولكني علمت بما فيه مما جاء في كتاب الأستاذ محمود أبي رية [1889 - 1970م] (¬2) من نقل بعض محتوياته ومن ثناء الأستاذ عليه لأنه يتفق مع رأيه في هذا الصحابي الجليل! لقد عجبت من موقف الأستاذ عبد الحسين في كلامه وفي كتابه معًا، ذلك الموقف الذي لا يدل على رغبة صادقة في التقارب ونسيان الماضي، وأرى الآن نفس الموقف من فريق دعاة التقريب من علماء الشيعة، إذ هم بينما يقيمون لهذه الدعوة الدور وينشئون المجلات في القاهرة، ويستكتبون فريقًا من علماء الأزهر لهذه الغاية، لم نر أثرًا لهم في الدعوة لهذا التقارب بين علماء الشيعة في العراق وإيران وغيرهما، فلا يزال القوم مصرين على ما في كتبهم من ذلك الطعن الجارح والتصوير المكذوب لما كان بين الصحابة من خلاف، كأن المقصود من دعوة التقريب هي تقريب أهل السنة إلى مذهب الشيعة، لا تقريب المذهبين بعضهما مع بعض» اهـ. ¬

(¬1) هو كتاب (أبو هريرة) الذي كفَّر فيه هذا الصحابي الجليل - رضي الله عنه -. (¬2) هو كتاب (أضواء على السنة المحمدية).

2 - محمد رشيد رضا

ويقول القفاري (¬1): «لقد رأينا أن شيوخهم [محمدًا] الخالصي و [عبد الحسين شرف الدين] الموسوي وغيرهما من أساطين الرفض لا يرون وحدة إلا على أساس سب الصحابة، والرجوع والتلقي عن كتب الروافض المشحونة بالإفك والبهتان. ولما قامت حركة التقريب في مصر وأعلنت أن هدفها هو إعادة الصفاء والمودة بين الطائفتين والتقريب بين أهالي المذهبين مع تمسك كل بما عنده، رأينا أن هذا مجرد شعار وواجهة وأن المنهج المرسوم الذي بدأ تنفيذه هو نشر عقيدة الرفض بين أهل السنة بوسائل وأساليب مختلفة. ثم إن بعد دعوة التقريب هذه أخرجت مطابع الروافض عشرات الكتب التي تطعن في القرآن والسنة والصحابة والأمة .. وعلى رأس هذه الكتب كتاب (الغدير) لعبد الحسين أحمد الأميني النجفي [1320 - 1390هـ]. فهل هذا الطريق للتقريب سوى مجرد ستار لنشر الرفض وأن يهاجمونا ونسكت، وينشروا باطلهم ونتوقف عن نشر الحق الذي معنا؟ 2 - محمد رشيد رضا: لقد نشر أحد شيوخ الشيعة (¬2) رأيهم صراحة في هذا المنهج على صفحة مجلة (المنار) فقال (¬3): "ودع عنك قول بعضهم (دعوا البحث فيما يتعلق بالدين والمذهب وهلم إلى التعاون على توحيد الكلمة وجمع الأمر قبالة المستعمر)، فإن ذلك لغو من القول وخطل من الرأي وكأنها مقالة من لا يرى الإسلام دينًا ولا يرى أن هناك حياة أخرى خالدة غير هذه الحياة وإنما يرى الإسلام رابطة قومية وجامعة سياسية فهو يدعو إليها ويحض عليها"، ثم ذكر أن الخلاف بين الفريقين هو في أرسى قواعد الإسلام وأقوى دعائمه .. وأنه لا بد من حسم ذلك بالبرهان وإلا فإن التعاون بأي شكل من الأشكال متعذر وإن ¬

(¬1) د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (2/ 259 - 61) بتصرف يسير. (¬2) وهو عبد الحسين نور الدين العاملي. (¬3) المنار (32/ 61 - 2).

حدث فهو مبني على المجاملة وغير مأمون العاقبة، بمعنى أن الغدر والخيانة هي عاقبته كما يعترف هذا الرافضي (¬1). وعقَّب الشيخ رشيد رضا [1282 - 1354هـ/1865 - 1935م] على رأي الشيعي هذا بأن تاريخ الشيعة مع أهل السنة يؤيده، فهو تاريخ حافل بالغدر والخيانة وممالأة الأعداء ومناصرتهم ضد أهل السنة (¬2). وقد اهتم الشيخ محمد رشيد رضا برأي (السالف الذكر) والذي لا يرى تقاربًا بأي شكل من الأشكال إلا بنزول السنة على مذهب الشيعة، وطلب من مجتهدي الشيعة أن يعلنوا رأيهم صريحًا في هذا الأمر - أي في تصريحات عبد الحسين نور الدين العاملي - على صفحات مجلة (المنار)، أو في مجلتهم العرفان فلم يجيبوه، وكأن ذلك إقرار منهم بما فيه (¬3). ولما التقى بمجتهدهم الأكبر محمد حسين آل كاشف الغطاء [1294 - 1373هـ] في ¬

(¬1) قال: «وليت شعري كيف يمكن الاتفاق بين هاتين الطائفتين قبل دفع سبب الخلاف. إن الشيعة من المسلمين يرون أن من أرسى قواعد الإسلام وأقوى دعائمه موالاة أهل البيت والاهتداء بهديهم والعمل برأيهم وحديثهم، وأن المنحرف عنهم، النابذ لحديثهم، المهتدي بخلاف هديهم غير متبع سبيل المؤمنين، ويرون أن أبناء السنة من المسلمين منحرفون عنهم بنبذهم علمهم وحديثهم وإعراضهم عن مذهبهم فهم على غير سبيل المؤمنين. وإن المسلمين من أهل السنة يرون أن أرسى قواعد الإسلام وأوثق عراه موالاة أصحاب رسول الله جميعهم والعمل بكل ما حدَّثوا به، لأنهم حملة الدين وحفظة الوحي ومبلغوه إلى الأمم، فالمنحرف عنهم التارك لحديثهم غير متبع سبيل المؤمنين، ويرون أن الشيعة منحرفون عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتركهم حديثهم وانقطاعهم إلى أهل البيت، فهم على غير سبيل المؤمنين .. فعلى هذا كيف يشترك المتمسكون بالدين منهما بالعمل بإخلاص ونصح ما لم يقع التفاهم بينهم؟ فلو أن شخصين متعاديين سارا في طريق واحدة لم يُجْدِهما نفعًا إظهارهما المجاملة، وقول كل واحد منهما لصاحبه: دع العداء بيننا جانبًا، وهلم فلنكن يدًا واحدة على من سوانا؛ فإن ذلك غير مستطاع لهما، واعتمادهما في التعاون على ما أظهراه من المجاملة والاتفاق غرور وأمانٍ باطلة، فلو ظفر بهما عدو لهما على هذا الحال، ثم استعان بكل واحد منهما على صاحبه لأعانه» اهـ. [السابق]. (¬2) قال: «إن هذا رأي لم نسمعه من غيره؛ ولكن سيرة الشيعة وتاريخها قد يؤيده ويدل عليه، وإنه لأصرح رجل عرفته فيهم؛ ولذلك كبرت منزلته في نفسي على ما أعتقد من خطئه وأغلاطه» اهـ. [السابق (32/ 72)]. (¬3) السابق (32/ 232).

3 - علماء السعودية في عهد الملك فيصل

مؤتمر القدس كلَّمه في هذا الموضوع .. فأنكر ذلك بلسانه، ولم يكتب ذلك، وطلب من رشيد أن يطلب منه الكتابة في ذلك على صفحات المنار (¬1)، وفعلًا طلب ذلك رشيد، وجاء جواب آل كاشف الغطاء بعد ذلك مخالفًا لما قاله لرشيد في المؤتمر، فلم يعلن فيما كتبه رأيه صريحًا حاسمًا في ذلك (¬2). وهذا يدل على أن الروافض لا يقبلون هذا التعاون إلا إذا كان في ذلك نشر لمذهبهم» اهـ. 3 - علماء السعودية في عهد الملك فيصل: ويروي القفاري كذلك (¬3): «وقد حدثني سماحة الشيخ عبد الله بن حميد [ت. 1402هـ] أن الرافضة في عهد الملك فيصل [1324 - 1395هـ/1906 - 1975م] قد أرسلوا لعلماء السعودية [رسالة] يطلبون فيها جلسة حوار معهم، فإن تبين - كما يقولون - أن الحق مع السنة اتبعه الجميع، وإن كان مع الشيعة اتبعه الجميع، وبهذا يرفع الخلاف ويكون التقارب والتآلف. فكان من إجابة علماء السعودية أنه لا مانع لدينا من ذلك ولكن لا بد من الاتفاق على أصل يرجع إليه عند الخلاف، وهو كتاب الله - عز وجل - وصحيح السنة وعلى رأسها صحيح البخاري. وأرسلوا بذلك إليهم وانتظروا منهم الجواب ولم يصل لهم جواب» اهـ. ¬

(¬1) قال: «ونحن نرغب إليه أن ينشر عنا في الجواب على صفحات مناره الأغر ما يلي ...». [السابق]. (¬2) قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله بعد أن عرض جواب آل كاشف الغطاء: «هذا نص الجواب الموعود من سماحة العلامة الواسع الصدر، الجليل القدر، وهو على حسنه ولطفه دون ما سمعت منه بالمشافهة، ودون ما كنت أتوقع من الصراحة، جاء مجملًا ليس حزًّا في المفاصل، لم يذكر فيه كلمة الخصم الشنعاء؛ وإنما أشار إليها بـ"ربما يقال"، وحصر كلامه في رأي الشيعة الإمامية في "إخوانهم المسلمين" وقال إنها مجمع عليها بالشرط الذي ذكره؛ وإنه "إن ظهر من كلام بعض العلماء خلافها فلعله من قصور التعبير وعدم وفاء البيان"، فتضمن قوله هذا الاعتذار عن الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين بأنه ليس فيه إلا قصور التعبير عن مذهبهم وعدم وفاء البيان به، وهذا السيد ليس ضعيف البيان بل هو فصيح العبارة قلما يوجد في معاصريه مثله في حسن بيانه وصراحته ...». [السابق (32/ 235)]. (¬3) د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (2/ 267 - 8).

4 - محمد الأمين الشنقيطي

4 - محمد الأمين الشنقيطي: ورحم الله الشيخ محمدًا الأمين الشنقيطي (1325 - 1393هـ) - ويشهد طلاب الجامعة الإسلامية على موقفه - عندما أجاب بعض (آيات) الشيعة الذين جاءوا لمناظرته قال: «لو كنا نتفق على أصول واحدة لناظرتكم ولكن لنا أصول ولكم أصول وبصورة أوضح لنا دين ولكم دين، وفوق هذا كله أنتم أهل كذب ونفاق» اهـ (¬1). 5 - يوسف القرضاوي: ولا نغفل عن ذكر الموقف الشجاع - الذي أشرنا إليه منذ قليل - للدكتور يوسف القرضاوي، وصدعه بالحق في وجه أئمة الرفض المعاصرين، وتحذيره من خطر المد الشيعي واختراقهم لبلاد السنة، الأمر الذي عرَّضه لموجة حادة من الانتقادات تذكرني بموقف يهود المدينة مع عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -!؛ حيث اعتبر آية الله تسخيري أن تصريحات القرضاوي ناجمة عن ضغوط الجماعات المتطرفة، وتتعارض مع أهداف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين .. وتحت عنوان (القرضاوي وخطابه الطائفي) كتب حسن هاني زاده خبير الشئون الدولية في وكالة (مهر) الإيرانية للأنباء مقالًا قال فيه: إن الشيخ يوسف القرضاوي تحدث بلغة تتسم بالنفاق والدجل وتنبع عن أفكار تحمل الطابع الطائفي، واعتبر زاده أن تصريحات القرضاوي جاءت على لسان حاخامات يهود الذين كانوا وما زالوا يحذرون العالم من خطر المد الشيعي، لأن الخسائر التي تعرض لها الجيش الإسرائيلي في حرب يوليو عام 2006م جاءت على يد أبناء الطائفة الشيعية في لبنان دون غيرها (!) (¬2) (¬3). ¬

(¬1) انظر، عبد الله الغريب: وجاء دور المجوس، ص (156). (¬2) انظر، جريدة (المصري اليوم)، عدد الأربعاء 17/ 9/2008م، ص (12). وقد ذكر الشيخ القرضاوي في بيانه الذي أصدره في الأربعاء 17/ 9/2008م ونقلته عنه الصحيفة ذاتها (عدد 19/ 9/2008م، ص (11)) أن وكالة أنباء (مهر) الإيرانية شبه الرسمية شنت هذا الهجوم العنيف على شخصه، و «أسفت إسفافًا بالغًا لا يليق بها»، وذلك في 13 رمضان 1429هـ/13 سپتمبر 2008م .. (¬3) إن أحداث هذه الحرب والتصريحات التي أصدرها الطرفان أشارت إلى أن ما جرى على أرض لبنان ما كان (حرب تحرير) من قبل حزب الله ولا (حرب تدمير) من قبل إسرائيل لحزب الله (وإن كانت قد دمرت لبنان شمالًا وجنوبًا!)، إنما كان محاولة من الطرفين لضبط العلاقة في ظل تغير لميزان القوى، وإلا فهو من الصعب القول بانتصار طرف وهزيمة طرف آخر؛ فإسرائيل، من جهتها لم تكن تسعى إلى القضاء على حزب الله وتدميره، ليس لقدراته وقوته، ولكن لأنه حزب - نوعًا ما - منضبط على الرغم من الإزعاج الذي يسببه في بعض الأحيان، ولأن زوال حزب الله من جنوب لبنان كفيل بصعود مقاومة سنية بديلة لا تقبل التفاوض أو المساومة، وهو أمر لا تقبله إسرائيل بتاتًا. وكذلك في مقابل رد إسرائيل العنيف غير المتوقع - كما كشفت تصريحات حسن نصر من طرف خفي - على عملية (الوعد الصادق)، فإن حزب الله لم يحاول أن يلحق خسائر قاسية بإسرائيل فحاد عن ضرب الكيماويات في حيفا ولم يقدم على ضرب تل أبيب، وذلك لأنه في حاجة لبقاء إسرائيل لتبرير وجوده هو، ومن ثم الوجود الإيراني بصورة أشمل [للتوسع، انظر، د. وليد نور: حرب لبنان، الوعد الصادق أم الوهم الكاذب]. ولقد وصف مؤخرًا الفيلسوف الأمريكي أفرام نعوم تشومسكي Avram Noam Chomsky خلال زيارته لقرى بجنوب لبنان، هذه الحرب بأنها قامت بقرار أمريكي كامل، واصفًا الوساطة الأمريكية لإحلال السلام في المنطقة بأنها «مزحة» [انظر، جريدة (المصري اليوم)، عدد الأحد 23/ 5/2010م، ص (10)].

ولقد جاء رد الدكتور القرضاوي على هذا الإسفاف في بيان دافع فيه عن موقفه، وكان مما قاله فيه (¬1): «ولكني أخالفهم في أصل مذهبهم وأرى أنه غير صحيح، وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى لعلي بالخلافة من بعده وأن الصحابة كتموا هذا، وخانوا رسولهم، وجحدوا عليًا حقه، وأنهم تآمروا جميعًا على ذلك. والعجب أن عليًا لم يعلن ذلك على الملأ ويقاتل عن حقه. بل بايع أبا بكر وعمر وعثمان، وكان لهم معينًا ومشيرًا. فكيف لم يواجههم بالحقيقة؟ وكيف لم يجاهر بحقه؟ وكيف تنازل ابنه الحسن عن خلافته المنصوص عليها لمعاوية؟ وكيف يمدحه النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وأن الله أصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (¬2)»، ثم قال: «وإني أقول الحق ولا أخاف في الله لومة لائم، ولو كنت أبيع في سوق النفاق لنافقت إيران التي تقدر أن تعطي الملايين، والتي تشتري ولاء الكثيرين بمالها، ولكني لا أشترى بكنوز الأرض، فقد اشتراني الله تعالى وبعت ¬

(¬1) ولقد أرسل الشيخ نسخة من البيان إلى جريدة (المصري اليوم) نشرته في عدد الجمعة 19/ 9/2008م، ص (11). (¬2) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين». [رواه البخاري، كتاب الصلح: 2704].

دافعي لبحث مسألة التشيع

له»، وختم البيان بقوله: «وأما ما قلته من محاولات الغزو الشيعي للمجتمعات السنية، فأنا مصرّ عليه، ولا بد من التصدي له، وإلا خُنَّا الأمانة، وفرطنا في حق الأمة علينا. وتحذيري من هذا الغزو، هو تبصير للأمة بالمخاطر التي تتهددها نتيجة هذا التهور، وهو حماية لها من الفتنة التي يُخشى أن يتطاير شررها، وتندلع نارها، فتأكل الأخضر واليابس. والعاقل من يتفادى الشر قبل وقوعه. والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل» اهـ. وفي حوار لاحق مع الجريدة نفسها قال (¬1): «فلوا استمروا في ممارستهم [أي اختراق الدول السنية] ولم يتراجعوا عنها بوضوح، سأعلن التوقف عن مشاركتي في التقريب بين المذاهب، لأنه في هذه الحالة سيكون لا معنى له .. فأنا أرى أن التقريب الآن على المحك» اهـ. ... دافعي لبحث مسألة التشيع: حقيقة، فإن مما كان له أبلغ الأثر في دفعي لبحث (المسألة الشيعية) هو قول قرأته للدكتور محمد إسماعيل المقدم، حيث قال (¬2): «إن مقولة: إن الشيعة الإمامية مذهب فقهي خامس، أحد الشعارات الكاذبة المضلة التي تفتن الناس عن دينهم، وتسهل الطريق للغزو الرافضي الفكري، وهي أحد الأفكار (الملغَّمة) التي تهدف إلى نسف منهج النبوة، وتدمير ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، كي يُبنى على أنقاضها أساطير الرافضة وخرافاتهم، من وراء ستار التقريب الذي هو عين التخريب لعقائد المسلمين، فالتقريب في اصطلاحهم له معنى واحد لا ثاني له: ألا وهو: تقريب أهل السنة إلى عقيدة الشيعة، وإذابتهم فيهم، فهو وسيلة إلى (تصدير) دين الرافضة ليس إلا. وقائل هذه العبارة محل ¬

(¬1) نشرته في عدد الأحد 12/ 10/2008م، ص (11). (¬2) في حوار مع مجلة (الهجرة) الإسلامية الأمريكية الصادرة في ولاية فلوريدا، وذلك عام 1414هـ/1993م، وذكره كذلك في تقديمه لكتاب (حقبة من التاريخ)، للدكتور عثمان الخميس، ص (8 - 10)، ونقلناه باختصار وتصرف يسير.

السؤال، والمروج لها إما أنه جاهل ساذج، وإما خائن مُضل .. وأما جهله: - فبأصول دينه الذي ينتمي إليه إن كان منتسبًا إلى أهل السنة والجماعة. - وجهله بدين الرافضة الذي يقوم على أصول تخالف دين الإسلام قطعًا. - جهله بوقائع التاريخ التي تدين الرافضة بالغدر والخيانة العظمى لأمة المسلمين، كما حدث أن أدخل الوزير العلقمي الشيعي قاتله الله [1197 - 1258م] هولاكو [1217 - 1265م] وجنوده إلى بغداد في عهد الخليفة العباسي المستعصم [1213 - 1258م]- وما أشبه اليوم بالأمس (¬1) -، وقتلوا معه غدرًا وفي ساعة واحدة مائتي ألف شخصية من العلماء والوجهاء والقضاة، واستمرت المذابح فيها بضعًا وثلاثين يومًا، قتل فيهم حوالي ثمانمائة ألف مسلم ومسلمة، حتى صبغ نهر دجلة باللون الأحمر لكثرة من قتل من أهل السنة، ثم صبغ مرة أخرى باللون الأسود لكثرة ما ألقي فيه من الكتب والأسفار (¬2). أيضًا، كما تسببوا في انحسار المد الإسلامي العثماني في أرجاء أوروپا، ¬

(¬1) وما أروع قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وكذلك إذا صار اليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم فهم دائمًا يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم» اهـ. [ابن تيمية: منهاج السنة (3/ 378)]. (¬2) ومن عجيب ما قرأته ما رواه شيخهم رضا الصدر (1339 - 1415هـ) في ترجمة إمامهم ابن المطهَّر الحُلِّي (648 - 726هـ)، حيث يقول ما نصه: «والده: هو الشيخ الإمام سديد الدين، يوسف بن المطهَّر. كان من كبار العلماء وأعاظم الأعلام، وكان فقيهًا محققًا مدرسًا عظيم الشأن، ينقل ولده العلاَّمة أقواله في كتبه. وحينما حاصر الشاه المغولي هولاكو خان مدينة بغداد، وطال الحصار وانتشر خبره في البلاد، وسمع أهل الحلّة بذلك، هرب أكثرهم إلى البطائح ولم يبق فيها إلا القليل. فكان الشيخ سديد الدين من الباقين. فأرسل الخان المغولي دستورًا، وطلب حضور كبراء البلد عنده، وخاف الجماعة من الذهاب إليه من جهة عدم معرفتهم بما ينتهي إليه الحال. فقال الشيخ سديد الدين لمبعوثي الملك المغولي وهما: تكلة، وعلاء الدين: إن جئت وحدي كفى؟ قالا: نعم .. فذهب معهما إلى لقاء الشاه، وكان ذلك قبل فتح (!) بغداد .. فسأله الشاه: كيف قدمت على الحضور عندي قبل أن تعلم مايؤول إليه الأمر؟ وكيف تأمن إذا صالحني صاحبكم ورجعت؟ فأجاب الشيخ: إنما قدمت على ذلك لما رويناه عن إمامنا علي بن أبي طالب في خطبته الزوراء، قال - عليه السلام -: "الزوراء، وما أدراك ما الزوراء! أرض ذات أثل، يشيَّد فيها البنيان، ويكثر فيها السكَّان، ويكون فيها مهازم وخزَّان، يتخذها ولد العباس موطنًا، ولزخرفهم مسكنًا، تكون لهم دار لهو ولعب، ويكون بها الجَور الجائر والخوف المخيف، والأئمة الفجرة والأمراء الفسقة والوزراء الخونة، تخدمهم أبناء فارس والروم لا يأتمرون بمعروف إذا عرفوه، ولا يتناهون عن منكر إذا أنكروه، يكتفي منهم الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، فعند ذلك الغم العميم والبكاء الطويل والويل والعويل لأهل الزوراء من سطوات الترك. وهم قوم صغار الحَدق، وجوههم كالمجان المطرّقة، لباسهم الحديد، جُرد مُرد، يقدمهم ملك يأتي من حيث بدأ ملكهم جهوري الصوت، قوي الصولة، عالي الهمة، لا يمر بمدينة إلا فتحها، ولا تُرفَع عليه راية إلا نكسها، الويل لمن ناواه. فلا يزال كذلك حتى يظفر ... "، ثم قال له الشيخ: وقد وجدنا تلك الصفات فيكم. رجوناك فقصدناك ... ، فأصدر الشاه مرسومًا باسم الشيخ، يطيّب فيه قلوب أهل الحلّة وأطرافها ... ، وبفضل هذا الشيخ الكبير وعبقريته كانت سلامة الحلّة والكوفة والمشهدين من سطوة المغول وفتكهم» اهـ. [انظر، ابن المطهر الحلي: نهج الحق وكشف الصدق، مقدمة رضا الصدر، ص (6 - 7)].

وطعنوا الخليفة العثماني في ظهره بزحفهم على عاصمة الخلافة بينما كان يتغلغل بجيوشه في أحشاء النمسا إلى أن دخل قلب فيينا، وكادت أوروپاتدخل في حظيرة الإسلام لولا اضطرار الجيش العثماني إلى الانسحاب والرجوع إلى الرافضة لدحرهم ودفعهم. أيضًا، كما تحالفوا مع ملك المجر ضد الدولة العثمانية، وكما سلَّموا أرض المسلمين في پاكستان الشرقية لقمة سائغة للهندوس حتى يقيموا عليها الدولة المسخ بنجلاديش. - جهله بالواقع الأليم لأهل السنة المحاصرين المستضعفين في داخل الدولة الرافضية الإيرانية، وما يعانونه من تفرقة عنصرية واضطهاد وتشريد وتصفية جسدية، ويكفي أن طهران العاصمة لم يسمح فيها ببناء مسجد واحد لأهل السنة، على الرغم من وجود اثنتي عشرة كنيسة، وأربعة معابد يهودية، وعددًا من معابد المجوس عبدة النار (¬1). أما إن كان قائل هذه العبارة يدري كل هذا وهو يتشدق بهذه الفرية، فالمصيبة أعظم، ولا يبقى إلا أنه غاشٌّ لأهل الإسلام إذ يتغاضى عن هذه الحقائق الصارخة، ويكذب على المسلمين حين يزعم أن الخلاف مع الرافضة كالخلاف بين الحنبلي والشافعي والمالكي والحنفي، فهذه المذاهب وإن اختلفت في الفروع الفقهية العملية، لكنها تقف جميعًا في مسائل العقيدة والتوحيد تحت مظلة واحدة، هي السنة والجماعة، وهذا المفتري يحاول ¬

(¬1) ولدى سؤال المرجع الشيعي مصباح اليزدي صاحب النفوذ في النظام الإيراني عن سبب امتناع الحكومة عن السماح ببناء مسجد لأهل السنة في طهران أجاب قائلًا: «متى ما سمح لنا ببناء حسينية في مكة، عندئذ سوف يُسمح لهم ببناء مسجد في طهران!» [انظر، جريدة (المصري اليوم)، عدد الأربعاء 3/ 3/2010م، ص (14)].

دمجها مع الرافضة - وهم فرقة نارية - في الفرقة الناجية، ويجتهد في ستر عورات مذهبهم الشاذ، الذي يشذ عن الفرقة الناجية حتى في أصول الدين» اهـ. ولقد أشار الدكتور راغب السرجاني إشارة قوية الدلالة حينما قال (¬1): «إن قضية الشيعة ليست قضية هامشية في قصة الأمة الإسلامية، بحيث يطالب البعض بتركها أو تأجيلها .. إنها قضية تأتي في أولويات الأمة الإسلامية، ولقد رأى الجميع أن تحرير فلسطين من الصليبيين على يد صلاح الدين [532 - 589هـ] لم يكن إلا بعد تخليص مصر من الحكم الشيعي العبيدي، ولم يقل صلاح الدين عندها أن حرب الصليبيين أولوية تؤجل مسألة الحكم الشيعي لمصر، ذلك أن المسلمين لا ينتصرون إلا بعقيدة صافية، وجنود مخلصين، ولم يكن لصلاح الدين أن يأخذ شعب مصر ليقاتل معه في قضيته المصيرية إلا أن يرفع عن كواهلهم هذا الحكم البدعي العبيدي، وما ذكرناه في حق مصر أيام صلاح الدين نذكره في حق العراق الآن، وفي حق كل الدول المهدَّدة من الشيعة، ولا بد أن يكون لنا في التاريخ عبرة». ويقول في مقالة تالية (¬2): «بناء على هذا الانحراف الشديد الذي تعانيه المناهج الشيعية فإننا نستطيع أن نقطع باستحالة التقريب العقائدي والفقهي بينهم وبين المسلمين السنة؛ فالشيعة ليست مذهبًا من المذاهب كما يعتقد البعض، إنما هي انحراف عن الطريق المستقيم، وأي تقريب بين الطريق المستقيم وبين الانحراف ما هو إلا انحراف أيضًا ولكن بدرجة أقل، وهذا ليس مقبولًا البتة في الشريعة الإسلامية، وهل يعني التقريب أن نقبل بسب بعض الصحابة دون غيرهم؟ وهل يعني التقريب الإيمان ببعض الأئمة الاثني عشر دون غيرهم؟ وهل يعني التقريب الأخذ عن البخاري ومسلم وترك الترمذي وأبي داود؟ وهل يعني التقريب أن نحلَّ زواج المتعة في بعض الظروف؟ وهل يعني التقريب التغاضي عن اضطهاد بعض السنة في إيران والعراق ولبنان وسوريا، وعدم التغاضي عن اضطهاد الآخرين؟ إن الطريق - يا إخواني وأخواتي - مسدودٌ مسدود!! ¬

(¬1) من مقالة له بعنوان: خطر الشيعة، نشرها موقع (قصة الإسلام) في 30/ 4/2009م. www.islamstory.com (¬2) وهي بعنوان: موقفنا من الشيعة، نشرها السابق في 7/ 5/2009م.

وأي محاولات للتقريب العقائدي والفقهي بين السنة والشيعة ما هي إلا محاولات لتبديل الدين وتحريفه، وهذا ما لا ينبغي أن نسعى إليه» اهـ. ويقول محب الدين الخطيب (¬1): «ومما لا ريب فيه أن الشيعة الإمامية هي التي لا ترضى بالتقريب، ولذلك ضحت وبذلت لتنشر دعوة التقريب في ديارنا وأبت وامتنعت أن يرتفع له صوت أو تخطو في سبيله أية خطوة في البلاد الشيعية، أو أن نرى أثرًا له في معاهدها العلمية. ولذلك بقيت الدعوة إليه من طرف واحد، فكانت هذه الدعوة كأسلاك الكهرباء التي لا يلتقي سالبها بموجبها ولا موجبها بسالبها، ولذلك فإن كل عمل في هذا السبيل سيبقى عبثًا كعبث الأطفال، ولا طائل تحته، إلا إذا تركت الشيعة لعن أبي بكر وعمر، والبراءة من كل من ليس شيعيًا منذ وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، وإلا إذا تبرأ الشيعة من عقيدة رفع أئمة آل البيت الصالحين عن مرتبة البشر الصالحين إلى مرتبة الآلهة اليونانيين، لأن هذا كله بغي على الإسلام، وتحويل له عن طريقه الذي وجهه إليه صاحب الشريعة الإسلامية - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام، ومنهم علي بن أبي طالب وبنوه، فإن لم تترك الشيعة هذا البغي على الإسلام وعقيدته وتاريخه، فستبقى منفردة وحدها، بأصولها المخالفة لجميع أصول المسلمين، ومنبوذة من جميع المسلمين» اهـ. وخلاصة القول: «أن المنهج السليم للتقريب هو: أن يقوم علماء السنة بجهد كبير لنشر اعتقادهم وبيان صحته وتميزه عن مذاهب أهل البدع، وكشف لمؤامرات الروافض وأكاذيبهم وما يستدلون به من كتب أهل السنة. وأن يصاحب ذلك كله بيان لانحرافات الروافض وكشف ضلالاتهم وأصولهم الفاسدة. وإذا كان أئمة السنة قد شاركوا في ذلك فإنه يجب مضاعفة الجهد وأن يكون جهدًا جماعيًا مخططًا له. أي أن المنهج الأصيل للتقريب هو بيان الحق وكشف الباطل، هو تقريب الشيعة إلى الحق والوقوف في وجه المد التبشيري الرافضي الذي ينشط اليوم بشكل غريب في العالم الإسلامي، وفي أوروپاوأمريكا. حتى يجتمع المسلمون على كلمة سواء، ويعتصموا بحبل الله جميعًا ولا يتفرقوا. وإذا كان لا يجدي مع الشيعة الاحتجاج عليهم بالقرآن والسنة والإجماع، وبيان ¬

(¬1) محب الدين الخطيب: الخطوط العريضة، ص (43 - 4).

الحق بهذه الأصول لمخالفتهم لأهل السنة في ذلك فلا يعني ذلك أن نتوقف عن بيان مذهب أهل السنة وصحته، وبطلان مذهب الشيعة وضلاله في ضوء تلك الأصول. فذلك سيحد من انتشار عقيدة الروافض بين أهل السنة. أما مع الروافض فإنه من الضروري أن نسلك مع المنهج السالف أو قبله المنهج التالي. والذي أبينه فيما يلي. فأقول: إن التقريب لا بد وأن يكون على أساس الحق، وإذا كنا لا نستطيع أن نحتج عليهم بالكتاب والسنة. ونحسم الخلاف على ضوئها فلنبحث عما يكشف باطلهم من كتبهم نفسها. وهذا المنهج لم يسلكه علماؤنا المتقدمون الذين اهتموا بالرد على الروافض وتفنيد حججهم ودحض دعاواهم وما ندري هل السبب في ذلك أن علماءنا - يرحمهم الله تعالى - كانوا يحتقرونهم ويرونهم مصدر الكذب ومعين التزوير فأعرضوا عن النظر في كتبهم فضلًا عن البحث فيها عن أدلة تكشف كذبهم وباطلهم. أم أن السبب أن هناك بعض كتبهم الأساسية قد وضعت من المتأخرين ونسبت للمتقدمين أو زيد عليها في العصور المتأخرة (الدولة الصفوية [1501 - 1722م]). أيًا كان السبب هذا أو ذاك أو جميعًا فإن كتب الروافض اليوم قد انتشرت ودان بقدسيتها وآمن بصحتها ملايين الشيعة فهم لا يؤمنون إلا بما جاء فيها ولا يحتجون إلا بها. ويردون بها السنة الصحيحة بل نصوص الكتاب الظاهرة بل منهم من يصدق أساطيرها التي تمس كتاب الله العظيم وتزعم الوحي للأئمة وعلم الغيب .. فليكن تصحيح وضع الشيعة من كتبهم وكشف ضلالهم من رواياتهم، ومنطلق التقريب الصحيح من مدوناتهم» اهـ (¬1). ¬

(¬1) د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (2/ 280 - 3).

الفصل الثاني: بين أوربانية الماضي والحاضر

الفصل الثاني: بين أوربانية الماضي والحاضر

- - {بين أوربانية الماضي والحاضر} - - «نحن في حرب أفكار ...» [دونالد رامسفلد] في مارس من عام 1095م، أرسل الإمپراطور البيزنطي ألكسيوس كومنينوس الأول Alexios Komnenos I (1081 - 1118 م) رسله إلى المجمع الكنسي في پياسنزا Piacenza، يستنجدون بالبابا أوربان الثاني Pope Urban II (1042 - 1099 م)، ويطلبون منه إمدادهم بجيش من الجند المرتزقة لدفع المد الإسلامي السلجوقي الذي يهدد الإمپراطورية .. «وكان الإسلام وقتها قد ظهر بدينه وثقافته، وغلب على رقعة ممتدة من حدود الصين إلى الهند، إلى أقصى الأندلس، إلى قلب إفريقيا، وأنشأ حضارة نبيلة متماسكة كاملة، بعد أن ردَّ النصرانية وأخرجها من الأرض، وحصرها في الرقعة الشمالية التي فيها هذا الهمج الهامج الذي كان يعيش فيما يعرف اليوم باسم أوروپا» (¬1). فلما تدبر أوربان الأمر وجده جد خطير؛ فمن جهة كانت الإمپراطورية الرومانية قد انقسمت إلى شرقية وغربية، وتلتها في ذلك الكنائس، أرثوذكسية شرقية وكاثوليكية غربية، ومن جهة ثانية وجد الفتح الإسلامي يحاصره ويهدد البقية الباقية من ملكه، ومن جهة ثالثة وجد صراعات داخلية عنيفة على السلطة بين القيادة البابوية الدينية والإمپراطورية العَلْمانية، ووجد كذلك صراعات قبلية طاحنة يقودها الهمج الچرمان من النورمان والقوط والأنجلوساكسون وغيرهم. «... فالمسيحية أصبحت في هذا الوقت منقسمة متصدعة بشكل لا يدعو لأي أمل، ولم تعد المهارة الديپلوماسية كافية لرأب الصدع، ولهذا رأى أوربان أنه من الضروري القيام بمغامرة مثيرة على مستوى عالمي، تضع العالم المسيحي بأجمعه أمام عمل وهدف عام مشترك ... فأعلن أوربان أنه ينوي عقد جلسة استثنائية في كليرمون Clermont يعلن بها للعالم المسيحي بأجمعه خطة يحتفظ بسريتها حتى ذلك الحين، ولكنها ستخدم في إعادة الوحدة المسيحية إلى سالف عهدها ... ¬

(¬1) محمود شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص (36) بتصرف يسير.

وفي يوم بارد من أيام شهر نوفمبر، وأمام جمع غفير احتشد، اعتلا أوربان الثاني المنصة، وتلا خطابه: "انهضوا وأديروا أسلحتكم التي كنتم تستعملونها ضد إخوانكم، ووجهوها ضد أعدائكم، أعداء المسيحية ... انهضوا إذن ولا تقاتلوا إخوانكم المسيحيين بل قاتلوا أعداءكم الذين استولوا على مدينة القدس، حاربوا تحت راية المسيح قائدكم الوحيد، افتدوا أنفسكم، أنتم المذنبين المقترفين أحط أنواع الآثام وهذه هي مشيئة الرب ... "، وهنا دوت أصوات الألوف من الناس الذين رددوا هذه الكلمة: "هذه هي مشيئة الرب" ... وهكذا بدأت الحروب الصليبية» (¬1)، والتي كانت - نوعًا ما - كما يصفها القس توماس فولر Thomas Fuller (1608 - 1661 م) بمثابة «البالوعة التي تشفط كل النزاعات من المسيحية» (¬2). وفعلت الجيوش الصليبية فعلتها في المسلمين، وفي يهود، بل وفي بني ملتهم من الأرثوذكس الذين استغاثوا بهم ابتداءً! حتى وصف المؤرخ البيزنطي نيكيتاس كونياتس Niketas Choniates (1155 - 1215 م) الموقف بقوله: «إنه حتى المسلمون أكثر رحمة وشفقة مقارنة بهؤلاء الرجال الذين يحملون صليب المسيح على أكتافهم» اهـ (¬3). واستمرت حروب (الفرنجة/الصليبية) قرابة مائتي عام (489 - 690هـ/1096 - 1291م) حتى باءت بالفشل وعادت قواتها إلى بلادها خائبة خاسرة. ليس ذلك فقط، ولكنها كذلك تركت أثرًا من أعمق الآثار وأبقاها في نفسية الشعب الأوروپي؛ «... فلقد كانت الحروب الصليبية هي التي عينت في المقام الأول والمقام الأهم موقف أوروپامن الإسلام، ولقد كانت الحروب الصليبية في ذلك حاسمة لأنها حدثت في أثناء (طفولة) أوروپا، في العهد الذي كانت فيه الخصائص الثقافية الخاصة قد أخذت تعرض نفسها، وكانت لا تزال في طور تشكلها، والشعوب كالأفراد؛ إذا اعتبرنا أن المؤثرات العنيفة ¬

(¬1) يواكيم پرنز: بابوات من حي اليهود، أو: بابوات يهود من جيتو روما (كما تسميه الترجمة العربية المتاحة)، ص (209 - 10) بتصرف يسير. Joachim Prinz: Popes From the Ghetto (¬2) انظر، باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (1/ 63). Barbara Tuchman: Bible and Sword (¬3) انظر، هيلين إيليربي: الجانب المظلم في التاريخ المسيحي، ص (81). Helen Ellerbe: The Dark Side of Christian History

التي تحدث في أوائل الطفولة تظل مستمرة ظاهرًا أو باطنًا مدى الحياة التالية، وتظل تلك المؤثرات محفورة حفرًا عميقًا، حتى إنه لا يمكن للتجارب العقلية في الدور المتأخر من الحياة والمتَّسم بالتفكير أكثر من اتِّسامه بالعاطفة أن تمحوها إلا بصعوبة، ثم يندر أن تزول آثارها تمامًا ... إن الحمية الجاهلية العامة التي أثارتها تلك الحروب في زمنها لا يمكن أن تقارن بشيء خبرته أوروپامن قبل، ولا اتفق لها من بعد. لقد اجتاحت القارة الأوروپية كلها موجة من النشوة، كانت - في مدة ما على الأقل - عنفوانًا تخطى الحدود التي بين البلدان والتي بين الشعوب والتي بين الطبقات. ولقد اتفق في ذلك الحين، وللمرة الأولى في التاريخ، أن أوروپاأدركت في نفسها وحدة، ولكنها وحدة في وجه العالم الإسلامي. ويمكننا أن نقول من غير أن نوغل في المبالغة أن أوروپاوُلِدَت من روح الحروب الصليبية؛ ففي أثنائها ولدت فكرة (المدنية الغربية)، وأصبحت هدفًا واحدًا تسعى إليه جميع الشعوب الأوروپية على السواء. وكانت تلك المدنية الغربية، عداوة للإسلام، وقفت عرَّابًا (¬1) في هذه الولادة الجديدة ... ولم يكن ذلك لأن الصليبيين راموا الحرب، فإن حروبًا كثيرة كانت قد نَشِبت بين الشعوب، وكم من عداوة انقلبت بعد ذلك صداقة، إلا أن الشر الذي بعثه الصليبيون لم يقتصر على صليل السلاح، ولكنه كان قبل كل شيء وفي مقدمة كل شيء شرًا ثقافيًا؛ لقد نشأ تسميم العقل الأوروپي عما شوهه قادة الأوروپيين من تعاليم الإسلام ومُثله العليا أمام الجموع الهائلة في الغرب» (¬2). وفي المسألة تفصيل .. فإن المجابهة (الدينية/السياسية) مع العالم الإسلامي في القرون الوسطى خلطت عامل الخوف من المنافس القوي مع عامل حب الاطلاع على نمط حياته ومعارفه ¬

(¬1) تعبير كنسي يقصد به وكيل الطفل المعمَّد. (¬2) محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق، ص (55 - 8) باختصار. Muhammad Asad: Islam at the Crossroads، ومحمد أسد رحمه الله (1900 - 1992م) هو صحافي نمساوي يهودي أسلم عام 1926م، وكان اسمه ليوپولد فايس Leopold Weiss، وكان أبواه ممن قتلوا في المحرقة النازية، وله عدة مؤلفات إسلامية. للتوسع، انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Muhammad Asad.

العقلية. وهكذا بدأ العالم الإسلامي يدخل تدريجيًا في مجال المصالح والاهتمامات الثقافية للأوروپيين. يقول إدوارد سعيد (1935 - 2003م) (¬1): «الاهتمام الأوروپي بالإسلام لم ينشأ من حب الاستطلاع، بل من الخوف من منافس للمسيحية يتميز بوحدته وصلابته وبقوته الجبارة ثقافيًا وعسكريًا (¬2). وكان أوائل الباحثين الأوروپيين في الإسلام على نحو ما بيَّنه مؤرخون كثيرون، من أرباب المجادلات القروسطية (¬3) الذين كتبوا ما كتبوه لدرء خطر جحافل المسلمين التي تهددهم وخطر الارتداد عن الدين المسيحي. وقد استمرت هذه (التوليفة) من الخوف والعداء، بصورة ما، حتى يومنا هذا، سواء في الاهتمام العلمي أو غير العلمي بالإسلام» (¬4). ويقول المستشرق الروسي ألكسي چورافسكي (¬5): «يمكن القول إن التصورات الغربية المعاصرة حول دين المسلمين لم تتكون وترتسم في صفحة بيضاء خالية، وإنما انعكست في مرآة قديمة مشوهة، إذ إن سكان أوروپاالمعاصرة ورثوا عن أسلافهم من القرون الوسطى مجموعة عريضة وراسخة من الأفكار حول الإسلام، التي كانت تتغير تدريجيًا مظاهرها الخارجية فقط، تبعًا لتغير الظروف في أوروپاذاتها، وتبعًا لطبيعة علاقاتها ومواقفها المستجدة نسبيًا مع البلدان الإسلامية وثقافاتها الحديثة» اهـ. ¬

(¬1) إدوارد سعيد: الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، تذييل ط. 1995م، ص (520). Edward Said: Orientalism, Western Concepts of the Orient. (¬2) وقد نخالفه فيما يرى، إلا أن يكون قصده أن (عامل الخوف) هو المبتدأ، اقترن به بعد ذلك (عامل حب الاطلاع). (¬3) نسبة إلى القرون الوسطى. (¬4) لم يكن هذا الاهتمام بالإسلام - بطبيعة الحال - ذا مظهر واحد، ولم يتسم بسمة شمولية للفئات الاجتماعية الأوروپية كافة. بل يمكن القول إن الموقف تجاه الإسلام كان متناقضًا ومتباينًا من فئة اجتماعية إلى أخرى. ونظرًا لصعوبة التوفيق في هذه الدراسة - أو في غيرها - بين الصفات الفردية وبين السياق الفكري العام المهيمن، فعملنا هنا هو محاولة لتسليط الضوء على هذا الأخير، ذلك لكونه المحرك الرئيسي لتلك الحرب الغربية الشرسة المعلنة اليوم لاقتلاع بنيان الإسلام من القواعد. (¬5) ألكسي چورافسكي: الإسلام والمسيحية، ص (59).

ولو دققنا الملاحظة لوجدنا أن هذه التصورات قد تكونت في كثير من جوانبها وخطوطها الكبرى على خلفية التفسير المسيحي (الشرقي) للعقيدة الإسلامية. وكان من القيود التي قيدت تفكير المسيحيين الذين حاولوا فهم الإسلام - كما يذكر إدوارد سعيد - قيد القياس والتشبيه (¬1)، وكان الإشكال يتمحور حول إيجاد سند ديني مسيحي للإسلام وبنيه .. يقول چورافسكي (¬2): «في المسيحية الشرق أوسطية كانت قد انتشرت قصة خرافية مؤداها أن محمدًا [- صلى الله عليه وسلم -] كان في البداية تلميذًا للراهب النسطوري (¬3) سرجيوس بحيرا، زاعمين أنه تلقى منه بعض المعلومات الأساسية عن التوراة والإنجيل، وبعد ذلك أعلن نفسه نبيًا وكوَّن عقيدة خاصة به». قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (¬4). وتعد المؤلفات التي وضعها يوحنا الدمشقي (676 - 749م) من أبكر الدراسات المسيحية الشرقية عن الإسلام، خاصة مؤلفه (فيما يتعلق بالهرطقة Concerning Heresy/peri aipeseon)، والذي سرد فيه فصلًا خاصًا يتحدث فيه عن (هرطقة الإسماعيليين Heresy of the Ishmaelites) نسبة إلى العرب من نسل إسماعيل - عليه السلام - (¬5). يقول الدكتور أحمد القاضي (¬6): «وقد عاش [يوحنا] في أكناف أمراء بني أمية. وقد ألَّف عدة مؤلفات ضمنها القدح في الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - وكتابه القرآن. فالإسلام عنده ليس ¬

(¬1) انظر، إدوارد سعيد: الاستشراق، ص (125). (¬2) ألكسي چورافسكي: الإسلام والمسيحية، ص (61). (¬3) النساطرة: هم أتباع نسطور Nestorius (386 - 451 م) أسقف القسطنطينية في فترة (428 - 431م) والذي أنكر اتحاد اللاهوت بالناسوت في أحشاء مريم عليها السلام، وقال إنها لم تلد إلا إنسانًا فقط، وقال إن اتحاد اللاهوت بالشخص يسوع المولود من مريم إنما كان مجرد توافق في الإرادة فحسب، وليس اتحادًا في الطبيعة. (¬4) النحل: 103 (¬5) انظر، الموسوعة الكاثوليكية، مادة: Saint John Damascene، وموسوعة ويكيپيديا، مادة: John of Damascus. (¬6) د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان (1/ 365) بتصرف يسير.

دين إبراهيم - عليه السلام - بل هو مؤذِن بالمسيح الدجال. والرسول - صلى الله عليه وسلم - واحد من أتباع بدعة آريوس (¬1)، لا يعرف من العهدين القديم والجديد إلا ما اضمحلت قيمته، والقرآن نتاج لأحلام اليقظة، كما ينتقد إجراءات الزواج والطلاق في الشريعة» اهـ. وحيث إن بلاد الشام كانت تعد بمثابة حلقة الوصل بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي الغربي، فإن «التصورات المتكونة عن الإسلام كبدعة مسيحية مرتدة ومنشقة، وعن محمد [- صلى الله عليه وسلم -] كنبي مزيف، انتقلت من مسيحيي سوريا إلى البيزنطيين، ومنهم إلى الأوروپيين» (¬2). يقول القاضي (¬3): «إن هذا القسيس المضلل، الذي يصفه النصارى بـ (القديس)، يبوء بإثم إشاعة هذه الافتراءات التي صدت كثيرًا من النصارى في الشرق والغرب عن الوقوف على حقيقة الإسلام ... وإذا كان يوحنا الدمشقي، وهو عربي النسب واللسان، يلجأ إلى كتابة مفترياته وتشويهاته المتعمدة عن الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - وكتابه العزيز، باللغة اليونانية، وهو يعيش بين ظهراني المسلمين، وفي خدمة البلاط الأموي خشية رد الفعل العملي والاجتماعي والسلطوي، فللقارئ أن يتخيل ما يمارسه القسس الحاقدون الذين يعيشون خلف الحدود في أرجاء أوروپاالبيزنطية، ثم الرومانية، حيث لا يعلمون عن الإسلام وعقيدته وشريعته وتطبيقه سوى ما يتلقفون من إنتاج نظائرهم الذين يتميزون غيظًا وحسدًا في المشرق الإسلامي، ثم يضيفون أوهامهم المريضة، وخيالاتهم الفاسدة من أساطير وحكايات مسفة». ويضيف چورافسكي أن المعلومات المقدَّمة كانت «تُنتزع في معظم الحالات من سياقها الأصلي، ثم تقدم إلى القارئ الأوروپي. وبهذا الشكل شوهت الوقائع بصورة متعمدة، واعية أحيانًا، أو بشكل غير واع في أحيان أخرى»، وذلك في إطار «البحث الحماسي عن حل سريع لمشكلة الإسلام»! (¬4). ¬

(¬1) راجع التعريف بالآريوسيين في المقدمة. (¬2) انظر، ألكسي چورافسكي: الإسلام والمسيحية، ص (63). (¬3) د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان (1/ 366) باختصار. (¬4) انظر، ألكسي چورافسكي: الإسلام والمسيحية، ص (59).

يقول (¬1): «والحقيقة أن أوروپاتعرفت على المؤلفات الدينية والكلامية المعادية للإسلام في نموذجها البيزنطي بالدرجة الأولى». ويقول إدوارد سعيد (¬2): «ومن أمثال هذه المفاهيم الخاطئة وغيرها تشكلت حلقة لم تنكسر في يوم من الأيام بالانفتاح على الخارج، إذ اعتبروا أن المفهوم المسيحي للإسلام متكامل وكاف بذاته، وأصبح الإسلام صورة، إذ لم تعد وظيفتها تكمن في تمثيل الإسلام في ذاته بقدر تمثيله لعيون المسيحيين في العصور الوسطى». ويقول أيضًا (¬3): «وقد تدعمت هذه الصورة الصارمة للإسلام بعدة سبل كان من بينها ضروب بالغة التنوع من الشعر، والمجادلات العلمية، والخرافات الشعبية». ثم ينقل عن المؤرخ الإنجليزي ريتشارد سَذِرْن Richard Southern (1912 - 2001 م) قوله (¬4): «وأبرز ما يتجلى لنا هو عجز أي نظام من هذه النظم الفكرية (المسيحية الأوروپية) عن تقديم تفسير مقنع ومُرضٍ للظاهرة التي تحاول تفسيرها (الإسلام)، بل وعجزها إلى درجة أكبر عن التأثير بصورة حاسمة في مجرى الأحداث في دنيا الواقع». ثم يُعقِّب - سعيد - قائلًا (¬5): «ولم يتغير على مر الزمن إلا مصدر هذه الأفكار الغربية، والنرجسية إلى حد ما، عن الشرق، دون أن يتغير طابعها. وهكذا انتشر الاعتقاد في القرنين الثاني عشر والثالث عشر بأن بلاد العرب تقع على حافة العالم المسيحي، وأنها ملجأ طبيعي للزنادقة الخارجين على القانون، وأن محمدًا [- صلى الله عليه وسلم -] كان مرتدًا ماكرًا، وكان القرن الثاني عشر يرى أن الباحث المستشرق، أي المتخصص العالِم، كان من يُركَن إليه لإيضاح أن الإسلام لا يزيد في الواقع عن بدعة أريوسية من الدرجة الثانية» اهـ (¬6). ... ¬

(¬1) السابق، ص (63). (¬2) إدوارد سعيد: الاستشراق، ص (125). (¬3) السابق، ص (126). (¬4) السابق، ص (127). (¬5) السابق، ص (128). (¬6) يضرب محمد أسد مثالًا لهذه الخلفية الصليبية المشوهة، فيقول: «في ذلك الحين استقرت الفكرة المضحكة في عقول الأوروپيين من أن الإسلام دين شهوانية وعنف حيواني، وأنه تمسك بفروض شكلية وليس تزكية للقلوب وتطهيرًا لها، ثم بقيت هذه الفكرة حيث استقرت. وفي ذلك الحين أيضًا نُبِز الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - بقولهم (كلبي Mahound)»، ووازن بين صورة Mahomed وصورة Mahound، فإن (ما Ma) ضمير الملك للمتكلم (ضمير جر)، و (هوند Hound) من (هوند Hund) الچرمانية بمعنى الكلب. وقد كان أولئك النابزون يتلاعبون بظاهر اللفظيتين: ماهومد Mahomed وماهوند Mahound .. [انظر، محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق، ص (58)]. ولعل هذه الفكرة الراسخة في العقلية الأوروپية هي التي دفعت بالرسام السويدي لارس فيلكس Lars Vilks - لعنه الله - إلى رسم صور كاريكاتورية تصور رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وبأمي - على جسد كلب، نشرتها الصحيفة السويدية (نيريكس أليهندا Nerikes Allehanda) في عددها الصادر يوم 18 أغسطس عام 2007م. وهذا وأمثاله أبشرهم بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57].

فتح القسطنطينية وتبعاته

فتح القسطنطينية وتبعاته: مضت أعوام كثيرة، و «بطل عمل السلاح بالإخفاق واليأس، وخمدت الحروب تقريبًا بين الإسلام والصليبية نحو قرن ونصف قرن، ثم وقعت الواقعة؛ اكتُسِحَت الأرض المسيحية في آسيا، في شمال الشام، ودخلت برمَّتها في حوزة الإسلام. وفي يوم الثلاثاء 20 من جمادى الأولى سنة 857هـ/29 مايو سنة 1453م، سقطت القسطنطينية عاصمة المسيحية، ودخلها محمد الفاتح [835 - 886هـ/1432 - 1481م] بالتكبير والتهليل (¬1)، وارتفع الأذان في طرف أوروپاالشرقي. إذن، فقد وقعت الواقعة! واهتز العالم الأوروپي كله هزة عنيفة ممزوجة بالخزي والخوف والرعب والغضب والحقد، ولكن قارَن ذلك إصرار مستميت على دفع هذا الخزي، وإماطة هذا الخوف والرعب، وإشعال نيران الغضب والحقد، بحمية تأنف من الاستكانة لذل القهر الذي أحدثه محمد الفاتح ورجاله من المسلمين الظافرين» (¬2). ¬

(¬1) وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن بشر الخثعمي عن أبيه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لتُفتَحَنَّ القسطنطينية فلنِعم الأمير أميرها ولنِعم الجيش ذلك الجيش» [المسند (4/ 335)]، وضعفه الألباني. (¬2) محمود شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص (36 - 7).

ولكنهم هذه المرة «نحَّوا أمر السلاح جانبًا إلى أن يحين حينه ويصبح قادرًا وحاسمًا. فلم يبق لهم إذن إلا سلاح العقل والعِلم والتفوق واليقظة والفهم وحسن التدبير، ثم المكر والدهاء واللين والمداهنة وترك الاستثارة، استثارة عالم ضخم مجهول ما في جوفه، ولا قِبَل لهم بتدفق أمواجه الزاخرة، والتي كان التُرك الظافرون طلائعها الظاهرة لهم عيانًا في قلب أوروپا» (¬1). ومن ثم كانت الخطوة الجديدة هي «بعثة أعداد كبيرة ممن تعلموا العربية وأجادوها إجادة ما، تخرج لتسيح في أرض الإسلام، وتجمع الكتب شراءً أو سرقة، وتُلاقي الخاصة من العلماء، وتخالط العامة من المثقفين والدهماء، وتُدَوِّن في العقول وفي القراطيس ما عسى أن ينفعهم في فهم هذا العالم الذي استعصى على المسيحية واستعلى قرونًا طوالًا. يخرجون أفواجًا تتكاثر على الأيام، ويجوبون أرجاء هذا العالم، ويعودون لإتمام عملين عظيمين: إمداد علماء اليقظة بهذه الكنوز النفيسة من الكتب التي حازوها أو سطوا عليها، وإطلاعهم على ما وقفوا عليه فيها، باذلين كل جهد ومعونة في ترجمتها لهم، وفي تفسير رموزها بقدر ما استفادوا من العلم بها، وأيضًا إطلاع رهبان الكنيسة وملوكها على كل ما علموا من أحوال دار الإسلام وما رأوه عيانًا فيها، وما لاحظوه استبصارًا. وكان أهم ما لاحظوه أو خبروه، هذه الغفلة المطبقة على أرض الإسلام، والتي أورثهم إياها الاستنامة إلى النصر القديم على المسيحية، والاغترار بالنصر الحادث بفتح القسطنطينية، ثم سماحة أهل الإسلام عامتهم وخاصتهم مع من دينه يخالف دينهم، ولا سيما اليهود والنصارى، لأنهم أهل كتاب وأهل ذمة» (¬2) .. ومضت أعوام أخرى، تتقدم فيها أوروپامسرعة نحو الأمام، في حين تتراجع الأمة الإسلامية نحو الوراء، والأيام دُوَل! حتى جاء الوقت الذي بلغ (الطفل) الأوروپي فيه أشده، وقد ترسخت في وجدانه فكرة مغلوطة عن الإسلام عاطفية وغير متزنة. وكما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى. أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (¬3)، فطاقت غريزته التوسعية غير الرشيدة إلى التسلط و (الاستخراب)، فخرج بقواته غازيًا أركان ¬

(¬1) السابق، ص (46) بتصرف يسير. (¬2) السابق، ص (47 - 8). (¬3) العلق: 6 - 7

المعمورة الأربعة. ولكن، حينما وقف على أعتاب العالم الإسلامي، تذكر ماضيه الأليم، وعلم يقينًا أنه إذا أراد المُضيّ فعليه أن يتدارك الخطأ؛ فالمواجهة يدًا وحدها ما كانت تكفي للقضاء على جماعة الإسلام؛ فإن «يد الله مع الجماعة» (¬1)، و «إنما يأكل الذئب القاصية» (¬2). كذلك أيقن أن الأمر لا يقف على مجرد كونها جماعة؛ فثمة جماعات كثيرة سهُل هزيمتها عسكريًا، وإنما الأمر يكمن في منهج الجماعة ذاته، ذلك المنهج الذي {لَا يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬3). ولذا، كان المخرج من ذلك كله هو إحداث صدع في هذا البنيان المرصوص، وزرع خلية سرطانية خبيثة في جسد الأمة الواحد، والذي «إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (¬4)، وذلك عن طريق إحياء روح الشعوبية، القومية العنصرية، الجاهلية المنتنة، كما وصفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5)؛ ذلك أنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى كما قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬6). وسيأتي بيان هذا في موضعه، ولكن ما ترتب هو استشراء سرطان القومية في جسد الأمة. وكانت القاصمة التي لم تتبعها عاصمة هي مبعث الذئب الأغبر من مرقده في جبل طوران، على يد (خالد التُرك!) الدونمي (¬7)، إذ قام الذئب مسعورًا جائعًا، فلم يجد أمامه ¬

(¬1) الحديث رواه الترمذي، كتاب الفتن: 2166، وصححه الألباني. (¬2) الحديث رواه أبو داود، كتاب الصلاة: 547، وحسنه الألباني. (¬3) فصلت: 42 (¬4) الحديث رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب: 2586 (¬5) روى البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: «كنا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمع ذاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة» [البخاري، كتاب تفسير القرآن: 4905]. (¬6) الحجرات: 13 (¬7) حينما حقق مصطفى كمال أتاتورك (1881 - 1938م) انتصاره المشبوه على جيوش اليونان، بدأ يطفو على السطح تدريجيًا، وابتهج العالم الإسلامي وأطلق عليه لقب الغازي ومدحه الشعراء وأشاد به الخطباء، حتى قرنه أحمد شوقي (1868 - 1932م) بخالد بن الوليد - رضي الله عنه - في أول بيت من قصيدة مشهورة، قال فيها: «الله أكبركم في الفتح من عجب .. يا خالد الترك جدد خالد العرب»!، ثم أفاق من غفلته ورجع عن ذلك وهاجمه بعد سقوط الخلافة. والشائع أن أتاتورك كان من يهود الدونمة المتخفين Crypto-Jews.

إلا رجل أوروپاالمريض (¬1)، والذي عقَّه أولاده الإخوة لعَلاَّت، فانقض عليه فصرعه والتهمه .. وسقطت الخلافة الإسلامية!! ورحم الله شيخ الإسلام مصطفى صبري التوقادي (1286 - 1373هـ/1869 - 1954م)، آخر شيوخ دولة الخلافة، قال: «يا أسفًا على الخلافة، قطعوا دابرها وأبدلوها خلافًا!» اهـ (¬2). ثم توالت عرى الإسلام في انتقاضها كما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لَيُنْقَضَنَّ عُرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتَقَضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضًا الحكم، وآخرهن الصلاة» (¬3). يقول الدكتور مصطفى حلمي واصفًا حال الأمة بعد سقوط الخلافة (¬4): «كنا كمن يقف على مفترق طرق يبحث عن امتداد خط السير الذي بدأ به، وربما انحرف عنه أحيانًا، ولكن الاتجاه نفسه كان صحيحًا، ولكن بالوصول عند المفترق، ضل السائق الذي أسلمنا له القيادة بدلًا من الاستمرار في طريقنا الذي عرفناه، انحرف عن الطريق إلى طريق آخر لن يوصلنا إلى محطة الوصول سالمين، بل سيصل بنا إلى ما يشبه الهاوية، إن لم تتداركنا رحمة الله تعالى وفضله» اهـ. ... ¬

(¬1) تعبير شائع يراد به الدولة العثمانية وقتها. (¬2) قاله الشيخ في كتابه (النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة)، وقد أعاد نشره وعلق عليه الأستاذ الدكتور مصطفى حلمي، في كتابه (الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية). يقول: «أما كتاب الشيخ مصطفى صبري، فإنه ربما يعد من هذه الزاوية بمثابة الوثيقة الوحيدة المثبتة للخطط اليهودية والصليبية ضد الخلافة العثمانية، حيث سجلها خطوة خطوة، وشرح أبعادها، وحذر منذ البداية من خطورة نتائجها. لذا، فقد أطلقنا على الكتاب عنوانًا جديدًا مطابقًا لما أسفرت عنه الانقلابات، فسميناه: (الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية)» اهـ[انظره، ص (32، 128)]. (¬3) رواه أحمد في مسنده (5/ 251) من حديث أبي أُمامة الباهلي - رضي الله عنه -، وقال شعيب: «إسناده جيد». (¬4) د. مصطفى حلمي: الأسرار الخفية، ص (36).

اختلال موازين القوى الغربية بين ضفتي الأطلسي

اختلال موازين القوى الغربية بين ضفتي الأطلسي: تقدم الغلام الأوروپي الأرعن بجيوشه ليقسِّموا التركة فيما بينهم قسمة ما أنزل الله بها من سلطان، ناثرين بذور الصهيونية الخبيثة في الأرض المقدسة الطاهرة، آملين في إنهاء مسألتهم اليهودية التي عكرت عليهم صفو حياتهم الأوروپية، وكانت ذريعتهم هي أن الأرض المقدسة هي «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»! وأنهم قد أدوا بذلك واجبًا دينيًا رئيسًا، ألا وهو تهيئة الأرض لعودة المسيح - عليه السلام -، ليهنأ القوم بصحبته في الألف عام السعيدة! ويمضي الزمان، ويتقدم العمر بالغلام الأوروپي، حتى صار كهلًا وقد أجهدته كثرة حروبه الخارجية والداخلية، وبات يحلم بقضاء باقي عمره مستمتعًا بتركته (الشرقية) بعيدًا عن الحروب والصراعات. فسيطرت على خاطره رؤية جديدة لمستقبل تسود فيه شعارات الإنسانية والحرية والإخاء والمساواة .. ولكن لعلنا لا ننسى أن من شبَّ على شيء شاب عليه! وقبل أن نستطرد، نتوقف قليلًا لإلقاء بعض الضوء على أمر محوري مهم، ألا وهو اختلال موازين القوى الغربية بين ضفتي الأطلسي .. فلقد نزلت الضربة الأكبر لكل من قوة أوروپاوثقتها قبل نحو قرن من الزمن، في الحرب العالمية التي اندلعت سنة 1914م. فذلك الصراع الرهيب تمخض عن تدمير ثلاث من قوى أوروپاالخمس: ألمانيا، (النمسا/هنجاريا)، وروسيا، التي كانت ميزان القوى القارِّي منذ سنة 1871م (¬1). ¬

(¬1) روبرت كيجن: عن الفردوس والقوة، أمريكا وأوروپافي النظام العالمي الجديد، ص (16 - 7). Robert Kagan: Of Paradise and Power, America and Europe in the New World Order. فائدة: يقول الشيخ الندوي - رحمه الله - مقارنًا بين حروب المسلمين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحرب العالمية الأولى والثانية: «هذه الحروب التي لم يشهد التاريخ أيمن منها وأقل إراقة للدماء وذهابًا بالنفس، ولا أَعْوَد منها على الإنسانية بالصالح العام والخير المشترك والسعادة جمعاء فلا يربو عدد المقتولين من الفريقين (المسلم والكافر) في جميع الغزوات والسرايا والمناوشات التي ابتدأت من السنة الثانية للهجرة ودامت إلى السنة التاسعة على ألف وثمانية عشر نفسًا 1018، المسلمون منهم 259 والكفار 759. أما المصابون في الحرب العالمية الأولى [1914 - 1918م] فيبلغ عددهم على الأصح واحدًا وعشرين مليونًا، عدد المقتولين منهم سبعة ملايين ... وقدَّر ماكستن James Maxton [1885 - 1946 م] عضو الپرلمان الإنجليزي أن المصابين في الحرب العالمية الثانية [1939 - 1945م] لا يقل عددهم عن خمسين مليون» اهـ[أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص (181) باختصار].

ولكن بدلًا من أن تعلن فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية ولادة نظام دولي جديد، قائم على المصالح المتبادلة والأمن المستقر الدائم، تبدلت سريعًا مواقع القوة في العالم، وحل محل التوازن التقليدي السابق، توازن الرعب، والصراع الأيديولوچي الذي أشعل الحروب الإقليمية في ساحات أخرى من العالم الثالث، وبعيدًا هذه المرة عن الساحة الأوروپية التي خيمت عليها الحرب الباردة لأكثر من نصف قرن، ولكن من دون أن تطلق طلقة واحدة (¬1). يقول صامويل هنتنجتون (1927 - 2008م) (¬2): «في السنين ما بين 1910 إلى 1945م انقسمت أوروپاعلى نفسها وانهمكت في مشاكلها الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولكن في الأربعينات، بدأ الطور الأمريكي من الهيمنة الغربية؛ ففي سنة 1945م هيمنت أمريكا بوقت قصير على ما يضاهي تقريبًا ما استحوذت عليه جميع القوى المتحالفة في سنة 1918م، وأدى التحرر من الاستعمار الذي أعقب الحرب إلى التقليل أكثر من التأثير الأوروپي، لكنه لم يقلل من تأثير الولايات المتحدة التي استبدلت بالإمپراطورية الإقليمية التقليدية استعمارًا جديدًا يتخطى حدود الدولة». ويقول روبرت كيجن في دراسته «الاستفزازية والعميقة» - كما يصفها السيناتور چون ماكين John McCain - (¬3) : «وبعد قرنين اثنين تبادل الأمريكيون والأوروپيون موقعيهما ونظرتيهما. وكان سبب ذلك - جزئيًا - هو أن معادلة القوة شهدت خلال ذينك القرنين وبخاصة في العقود الأخيرة تحولًا دراميًا مثيرًا: حين كانت الولايات المتحدة ¬

(¬1) د. ناظم الجاسور: تأثير الخلافات الأمريكية-الأوروپية على قضايا الأمة العربية، حقبة ما بعد نهاية الحرب الباردة، ص (59). (¬2) صامويل هنتنجتون: صراع الحضارات وإعادة بناء النظام الدولي، ص (107). Samuel P. Huntington: The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order (¬3) روبرت كيجن: عن الفردوس والقوة، ص (15 - 6).

ضعيفة، مارست استراتيچية المداورة، واستراتيچيات الضعف القائمة على المكر. أما الآن، وقد باتت الولايات المتحدة قوية، فهي تتصرف تصرف الدول القوية. عندما كانت الدول الأوروپية الكبرى قوية، بقيت مؤمنة بالجبروت والمجد العسكري. أما الآن فهي ترى العالم بعيون قوى أضعف». لذا، «فمع حلول عام 1947م رأى الرسميون البريطانيون أن الولايات المتحدة ستبادر سريعًا إلى "انتزاع مشعل قيادة العالم من أيدينا المتجمدة"، وباتت أوروپامعتمدة على الولايات المتحدة على صعيد أمنها الخاص كما على مستوى أمن الكرة الأرضية» (¬1). ويعلل كيجن ذلك بأن «الثقافة الاستراتيچية الأوروپية الحديثة تمثل رفضًا واعيًا للماضي الأوروپي، ونفورًا من شرور سياسة القوة (ماختپوليتيك Machtpolitik) الأوروپية (¬2). إنها انعكاس لرغبة الأوروپيين الجامحة والمفهومة في عدم العودة إلى ذلك ¬

(¬1) السابق، ص (23). (¬2) فائدة: يتبين باستعراض تاريخ الحضارات الأوروپية أن الصراع مع الآخر هو الفكرة المحورية والقاسم المشترك بين الماضي والحاضر. فقد أكدت أساطير الإغريق أصحاب أقدم حضارة أوروپية أن الصراع كان هو شغلهم الشاغل، وكأنهم لا يعرفون غير القتال والتعارك، وحتى عندما تحدثوا عن الحب كان عن اختطاف زوجة أحد الملوك، والذي ترتبت عليه حرب طروادة الشهيرة. ومع أفول نجم الإغريق وظهور الرومان تطورت فكرة الصراع إلى الأسوأ؛ إذ قامت الحضارة الرومانية على التوسع والسيطرة على الشعوب الأخرى. كانت الإمپراطورية الرومانية أول من اخترع فكرة الاستعمار، ولقد شنوا الحروب وقامت إمپراطوريتهم على استعباد الشعوب الأخرى وحكمها بالقوة والقهر. واشتهر عنهم الظلم والاضطهاد لغيرهم من الأمم، بل كانت الإبادة من صنعهم أيضًا. وعندما اعتنق الرومان النصرانية حدث تحول في المسيحية الغربية؛ إذ تغيرت الديانة التي كانت في أصلها داعية للسلام إلى ديانة تبرر العدوان وتمنح المبرر الأخلاقي للحرب الاستباقية. فقد استطاع (القديس) أوغسطين Augustine of Hippo (354 - 430 م) أن يدمج بين السلطة المهيمنة والدين في القرن الخامس الميلادي، وأعطى الحق للإمپراطور في شن الحرب بدعوى تحقيق السلام وأطلق مصطلح (الحرب العادلة Just War) الذي أصبح فيما بعد الدافع وراء حروب الغرب تجاه العالم من يومها وحتى الآن. وقد وجد أوغسطين المسوغ لتعذيب واضطهاد المخالفين في العقيدة في إنجيل لوقا 14: 23 في قوله: «فأجابه السيد أخرُج إلى الطرقات والدروب وألزم الناس بالدخول حتى يمتلئ بيتي». [للتوسع، انظر، عامر عبد المنعم: الغرب أصل الصراع، وفاضل سليمان: أقباط مسلمون قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -].

الارتباك الفكري يهدد القيادة الأمريكية للنظام العالمي الجديد

الماضي أبدًا ... وليس الاتحاد الأوروپي بالذات إلا النتاج الذي أفرزه قرن مرعب من الحروب الأوروپية» (¬1). لذا، فإن وجهتي النظر المختلفتين هاتين، بين أمريكا وأوروپابالتحديد، ما لبثتا - بطبيعة الحال - أن «تمخضتا عن تقويمات متباينة للتهديدات وللوسائل المناسبة للتعامل معها، وعن حسابات مختلفة للمصالح، وآراء متغيرة حول قيمة القانون الدولي ومغزى المؤسسات الدولية» اهـ (¬2). الارتباك الفكري يهدد القيادة الأمريكية للنظام العالمي الجديد: من المعلوم أن النظام الدولي القديم الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية كان يستند إلى قطبية ثنائية متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية التي تتزعم المعسكر الرأسمالي الغربي، والاتحاد السوفييتي الذي كان يتزعم المعسكر الاشتراكي، وقد تأرجح هذا النظام ما بين الحرب الباردة، والتعايش السلمي والوفاق، وشكلت مناطق العالم الثالث في ظله ساحات للتنافس والمواجهة بين القطبين. ولكن التحولات التي شهدها الاتحاد السوفييتي وبقية بلدان أوروپاالشرقية منذ منتصف الثمانينات، والتي انتهت بتفكك الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى، وانهيار الأحزاب الشيوعية في تلك الدول وقيامها بتبني التعددية السياسية، وأشكال من الديمقراطية الليبرالية (¬3) والاقتصاد الحر على الصعيد الداخلي، واتجاهها نحو الانفتاح على المعسكر الغربي والانخراط في الاقتصاد العالمي على الصعيد الخارجي، هذه التحولات وضعت النهاية للنظام الدولي القديم، وأسهمت ضمن عوامل ومتغيرات أخرى في وضع الأساس لبروز نظام عالمي جديد. وكان من الطبيعي أن تقود الولايات المتحدة ¬

(¬1) روبرت كيجن: عن الفردوس والقوة، ص (65). (¬2) السابق، ص (16). (¬3) الليبرالية Liberalism: مصطلح مشتق من الكلمة اللاتينية (ليبراليس Liberalis) ويعني (الحرية). والليبرالية مذهب اجتماعي سياسي داخل المجتمع يهدف إلى تحرير الإنسان كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاثة: (السياسية والاقتصادية والثقافية).

الأمريكية هذا النظام الجديد؛ إذ أضحت القوة العالمية الأبرز في هذه المرحلة من تطور النظام العالمي (¬1). كان النظام العالمي الجديد - ببساطة شديدة - هو نظام المنتصر، وكل منتصر في حرب كبرى كان يفرض نظامه الذي يبتغي تدويله ويعتبره (جديدًا). وكان هذا النظام يبقى ما بقي سيده قادرًا على فرضه وتثبيت أركانه (¬2). لكن ثمة مشكلة باتت تهدد القيادة الأمريكية لهذا النظام العالمي الجديد، يلخصها الباحث محمد سيف حيدر النقيد في قوله (¬3): «خلال عقد الثمانينات من القرن العشرين، سادت الساحة الأمريكية حالة من الارتباك الفكري و (فقدان اليقين النظري) بشأن مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى مهيمنة. وعلى الرغم من حالة التآكل التي كانت تعيشها الكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي - قبل انهياره في عام 1991م -، فإن ثمة أطروحات ودراسات قد أخذت في الرواج والانتشار تؤكد تراجع المكانة العالمية للولايات المتحدة، وتتنبأ بانحطاط القوة الأمريكية العظمى وانهيارها الحتمي. في هذا الجو الملبد بغيوم (التشاؤمية الثقافية) - بحسب تعبير المؤرخ الأمريكي آرثر هيرمان Arthur Herman -، نشرت مجلة (ذي واشنطن كوارترلي The Washington Quarterly) الرصينة في شتاء 1990م مقالة لافتة للانتباه لجريجوري فوستر Gregory Foster (¬4) ، وهو أحد الباحثين الاستراتيچيين الأمريكيين، شكا فيها أن الأبحاث الاستراتيچية الأمريكية ذات منهج محدود؛ إنه منهج تجريبي وپراجماتي Pragmatic (¬5) وبلا نظرية، ولا يخرج عن إطار الخبرة في ¬

(¬1) محمد النقيد: نظرية نهاية التاريخ، وموقعها في إطار توجهات السياسة الأمريكية في ظل النظام العالمي الجديد، ص (46). (¬2) السابق، ص (27). (¬3) السابق، ص (7 - 8، 12) باختصار. (¬4) Gregory Foster: A Conceptual Foundation for a Theory of Strategy, The Washington Quarterly, Winter 1990 (¬5) أي نفعي أو ذرائعي، يراعي غاية الشيء وثمرته دون مراعاة الأيديولوچيا أو الاعتبارات النظرية الأخرى، أي ببساطة: (الذي تغلب به العب به).

(إدارة الأزمات) وعن خطط السياسات اليومية والمرحلية. وانطلاقًا من هذا النقد، دعا فوستر إلى إبداع نظرية جديدة للاستراتيچية الأمريكية، نظرية مؤسسة على المفاهيم الفلسفية. ولم يمض وقت طويل (أقل من عامين)، حتى ظهرت، أو بتعبير أكثر دقة، تبلورت النظرية التي طالب بها فوستر. ووسط مظاهر الدهشة والذهول وعدم القدرة على التنظير، ثمة حجر كبير يقذف في بركة الفكر الأمريكي الراكدة، وفي مستنقع الأيديولوچيات التقليدية البالية. ففي عام 1992م، أصدر المفكر الأمريكي ذو الأصول اليابانية، فرانسيس فوكوياما، كتابه الذائع الصيت (نهاية التاريخ وخاتم البشر The End of History and the Last Man)، الذي طور فيه أفكاره النظرية حول (نهاية التاريخ)، التي سبق أن وضع خطوطها الأولى في صيف عام 1989م في مقالة شهيرة حملت ذات العنوان ولكن بصيغة تساؤلية حذرة، نشرتها مجلة (ذي ناشيونال إنترست) اليمينية المعروفة (¬1)، وما هي إلا أشهر قليلة حتى أصبح الكتاب (إنجيل) المجتمع الأمريكي المثقف. ورغم أن فكرة نهاية التاريخ لم تكن فكرة جديدة وخصوصًا في الساحة العقائدية والفكرية والفلسفية، فإن الوضع العالمي في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، ساهم بقوة في إذكاء الجدل حولها ... وقد لوحظ في هذا الصدد أن المرحلة التاريخية التي تُستَقبل فيها الأفكار هي التي تعطيها وزنًا تفاعليًا أو تواصليًا» اهـ. ولو استعرضنا سريعًا أصول هذه النظرية، والتي صيغت كما عبَّر البعض (بروح انتصارية)، نذكر أن «نقطة انطلاق فوكوياما تذهب إلى ما يمكن أن يُسمَّى بـ (التفسير المادي للتاريخ في صورته الرأسمالية)؛ فإنه يرى إمكان أن يجري تفسير التطور في التاريخ جزئيًا، بناء على أساس اقتصادي، أي أن العامل الاقتصادي هو أحد المحركات الرئيسية في التطور التاريخي. ولكن هذا التطور يؤدي إلى الرأسمالية بدلًا من الاشتراكية بالنتيجة النهائية. وبهذا يوجد للتاريخ نهاية، ونهاية التاريخ هي الليبرالية الديمقراطية في ¬

(¬1) Francis Fukuyama: The End of History?, The National Interest, vol. 16, Summer 1989

السياسة الرأسمالية في الاقتصاد، ويشكل هذان معًا وجهتين لنظام واحد، والتاريخ له نهاية ليس كسلسلة من الأحداث، إذ إن وقوع الأحداث بالطبع سيستمر في التاريخ، وإنما التاريخ له "صيرورة واحدة مستمرة تنتقل من مرحلة إلى مرحلة أعلى، إلى أن تصل غايتها ونهايتها". ونهاية التاريخ هي النظام الليبرالي الديمقراطي الرأسمالي» (¬1). وكما أن للتاريخ خاتمة أو نهاية، فإن الإنسان الذي يعيش في هذه المرحلة النهائية يعد بمثابة (خاتم البشر)، وخاتم البشر - في نظر فوكوياما - هو ذلك الرجل الذي يصفه فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche (1844 - 1900 م) بـ «العبد الظافر» (¬2)، أي الإنسان المنتصر، الذي ينعم بالحياة في ظل الديمقراطية الليبرالية. وإلى أن تنتشر هذه الصورة النهائية للتاريخ، فإن العالم في نظر فوكوياما سوف ينقسم في المستقبل المرئي إلى «شطر قد تخطى التاريخ، وشطر لا يزال غارقًا في التاريخ» (¬3). يقول فوكوياما في خاتمة كتابه (¬4): «لن تكون البشرية عندئذ ألف زهرة تتفتح في صور وأشكال متباينة، وإنما ستكون بمثابة قافلة طويلة من عربات متشابهة. قد يتجه بعض هذه العربات صوب المدينة في حركة حادة مفاجئة، وقد يعود بعضها إلى الصحراء، وقد تتعطل عجلات بعضها أثناء صعودها الجبل. وقد يهاجم الهنود الحمر عدة عربات فيشعلون فيها النار ويهجرها ركابها في الطريق. وقد تُذهِل المعركة عددًا من الركاب، فيفقدوا كل إحساس بوجهتهم، ويتجهوا - مؤقتًا - في الطريق الخطأ. وقد تتعب عربة أو عربتان من الرحلة فيقرر ركابها الإقامة الدائمة في معسكرات في نقط معينة من الطريق. وقد يجد آخرون طرقًا بديلة إلى الطريق الرئيس، رغم أنهم سيكتشفون أنهم من أجل اجتياز السلسلة الأخيرة من الجبال عليهم أن يستخدموا نفس النفق الذي سيستخدمه غيرهم. غير أن الغالبية العظمى من العربات ستمضي في رحلتها البطيئة إلى المدينة، ¬

(¬1) د. ناظم الجاسور: تأثير الخلافات الأمريكية-الأوروپية على قضايا الأمة العربية، ص (36) باختصار وتصرف يسير. (¬2) انظر، فرانسيس فوكوياما: نهاية التاريخ وخاتم البشر، ص (263). (¬3) السابق، ص (242). (¬4) السابق، ص (293 - 4).

العالم من الثنائية إلى الأحادية القطبية

وسيصل معظمها إليها. والعربات متشابهة حتى مع اختلاف ألوانها والمواد المصنوعة منها. غير أن لكل منها عجلات أربع، وتجرها جميعًا الخيول، وبداخل كل منها عائلة يساورها الأمل، وتدعو أن تكون الرحلة رحلة آمنة. ولن تؤخذ الاختلافات الظاهرة بين حالة العربات على أنها تعكس اختلافات دائمة وحتمية بين ركابها، وإنما سينظر إليها باعتبارها نتيجة لاختلاف مواقعها على طول الطريق» اهـ. ... العالم من الثنائية إلى الأحادية القطبية: في عالم ما بعد الحرب الباردة، حيث تحول النظام العالمي من (الثنائية القطبية Bipolar Order) الأمريكية-السوفيتية، إلى (الأحادية القطبية Unipolar Order) الأمريكية، وجدت الولايات المتحدة نفسها منفردة بسلطة القرار السياسي الدولي، وأضحت تعاني من انفراط القوة أو مما يطلق عليه القوة الخارقة Super Power، أو Hyperpuissance، بحسب المفهوم الذي طرحه وزير الخارجية الفرنسي السابق هوبير فيدرين Hubert Védrine في وصفه للولايات المتحدة (¬1). ولقد فسَّر الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون Bill Clinton نهاية الحرب الباردة على أنها «دلالة على (اكتمال الزمن)، في إشارة توراتية إلى اللحظة التي اختار الله فيها تحول التاريخ. ولأن القرن العشرين الملطخ بالدماء كان يشارف - وقتذاك - على نهايته، في حين أن الوعد الإلهي بنشر السلام على الأرض لم يتحقق، فإن أعضاء السياسة الخارجية الأمريكية وبينهم كلينتون نفسه، رأوا لهذا السبب أنه أصبح لزامًا على الولايات المتحدة الأمريكية الآن، بما أنها ارتقت لمصاف القوة العظمى الوحيدة، إكمال عمل الله، أو - كما يفضل أعضاء من النخبة الأمريكية المتعلمنة القول - أن تقود التاريخ نحو وجهته المقصودة» (¬2). ¬

(¬1) انظر، د. ناظم الجاسور: تأثير الخلافات الأمريكية-الأوروپية على قضايا الأمة العربية، ص (54، 102). (¬2) محمد النقيد: نظرية نهاية التاريخ، ص (82 - 3) بتصرف يسير.

يقول الدكتور ناظم الجاسور (¬1): «وعندما تطرح الولايات المتحدة الأمريكية نفسها باعتبارها القطب الأوحد أو القوة الخارقة، فإن ذلك يرجع إلى فلسفة دينية ثالوثية مقدسة، نهضت قوام الثلاث (الإغريقية-الرومانية) و (اليهودية-المسيحية) و (الوضعية-العَلْمانية). وتداخلت دوائرها وتكاملت حلقاتها عبر مسيرة معقدة كانت المرتكز الرئيس للحضارة الغربية البيضاء التي تكونت فيها أمريكا. ولذلك، فإن عقدة التفوق الحضاري الغربي، أو المركزية الغربية، وما تمخضت عنه من مفهوم (أورپة العالم) الذي يعبر عن (حلم) سيادة الجنس الأبيض الأوروپي على العالم، وما رافقه من مشروع استعماري اندلعت بسببه حربان عالميتان، انقطع إلى بروز تصور أو (حلم) آخر، وهو (أمركة العالم)، أي سيادة القيم والمعايير السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية الأمريكية، وذلك في إطار دورها التاريخي ورسالتها الحضارية في المجتمع الدولي والضامن الرئيس للتنظيم الدولي» اهـ. أضف إلى هذا أن النموذج الأمريكي للديمقراطية الليبرالية تميز عن نظيره الأوروپي بخاصية مهمة تتمثل في قدرته على الاحتفاظ بنقائه الكامل، وذلك لجملة من العوامل، أبرزها - كما يذكر النقيد - اختلاف التطور التاريخي الذي خضعت له الولايات المتحدة الأمريكية بالقياس إلى التطور التاريخي الذي شهدته الدول الأوروپية؛ فالولايات المتحدة لم تعرف المشكلات التي ترتبت على وجود الإقطاع، وتخلخل المجتمعات الزراعية وسيادة البيروقراطية كما حصل في الدول الأوروپية. إن الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية وجدت نفسها بمنأى عن هذه المشكلات، وبالتالي بمنأى عن الصراع الاجتماعي، مما سمح لها بالبقاء نقية بكل خصائصها الليبرالية الصرفة، وربما هذا هو الذي جعل الولايات المتحدة تعتز بديمقراطيتها وتستهين، في المقابل، بأشكال الديمقراطية الأخرى بما فيها الديمقراطية الپرلمانية الشائعة في دول غرب أوروپا. وهذا الاعتزاز يتضاعف مع استجابة ديمقراطيتها للِّيبرالية الاقتصادية التي تحظى لديها بحضور أعظم. ¬

(¬1) د. ناظم الجاسور: تأثير الخلافات الأمريكية-الأوروپية على قضايا الأمة العربية، ص (102) باختصار.

هذه الأمور مجتمعة أسهمت في حفز الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرض نموذجها الخاص للديمقراطية الليبرالية في التعامل الدولي، وذلك عبر سياستها الخارجية، على اعتبار أن هذا يندرج في إطار الخروج بالقيم السياسية الأمريكية إلى خارج الحدود الوطنية ونشرها عالميًا، وهو ما يتسق مع تطلعات الشعب الأمريكي؛ إذ إنه ليس هناك من إيمان، فيما يخص السياسة الخارجية الأمريكية، أكثر عمقًا في النفوس من الإيمان الذي عبر عنه نيل لويس Neil Lewis، المراسل الديپلوماسي لجريدة (النيويورك تايمز The New York Times)، بقوله: «إن التوق لرؤية الديمقراطية على الأسلوب الأمريكي وهي تستنسخ في أرجاء العالم كان محورًا دائمًا في السياسة الخارجية الأمريكية» (¬1). بيد أن توجهات السياسة الأمريكية تبدو أعقد من مجرد توصيل رسالة أيديولوچية بسيطة، ويمكن ملاحظة ذلك في ربط الأمن القومي الأمريكي بتنمية الديمقراطية الليبرالية في العالم، وربط هذه الأخيرة بالحفاظ على المصالح الأمريكية، وبهذا بات أمن الولايات المتحدة يعني ضمان مصالحها العالمية بضمان الديمقراطية عالميًا من كل خطر. وفي ضوء ذلك، أضحت الديمقراطية والدفاع عنها هي الشعار المرفوع مرارًا من قبل واشنطن لتسويغ و (تسويق) أي تدخل أمريكي مباشر أو غير مباشر، في عالم ما بعد الحرب الباردة بدءًا من العراق مرورًا بهاييتي والصومال وكوسوفا وصولًا إلى أفغانستان ثم العراق مجددًا (¬2). ولكن رغم أن الجهات الرسمية في الولايات المتحدة تنفي أي تبنٍّ مباشر أو غير مباشر لنظرية فرانسيس فوكوياما، فإن هذا النفي- في الواقع - لا يعتد به من الناحية العملية (¬3). وقد عبر الرئيس چورچ بوش (الابن) George W. Bush أكثر من مرة عن هذا ¬

(¬1) محمد النقيد: نظرية نهاية التاريخ، ص (76 - 8) باختصار وتصرف يسير. (¬2) السابق، ص (98). (¬3) السابق، ص (79).

زوال (الخطر الأحمر) وظهور (الخطر الأخضر)

التوجه، مؤكدًا أن أمريكا هي «النموذج الوحيد الباقي على قيد الحياة للنجاح الإنساني»، ولذا «يجب أن نقول للعالم إن أمريكا هي هكذا وينبغي أن تتعلموا منا وأن تكونوا هكذا». وهكذا أصبحت الإدارة الأمريكية أكثر إدراكًا لارتباط مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وأمنها ورفاهيتها بما يجري في مناطق العالم الأخرى، وبالتالي أضحت أكثر استعدادًا لاتباع سياسة خارجية نشطة قد تتورط بسببها في صراعات في أماكن متفرقة من المعمورة (¬1). زوال (الخطر الأحمر) وظهور (الخطر الأخضر): ولكن هنا بدت مشكلة، وهي أنه بعد أن زال (الخطر الأحمر) الشيوعي الذي كان يمثل تهديدًا قويًا للغرب بقيادته الأمريكية، صارت أمريكا تفتقر إلى عدو يمكنها من إضفاء صبغة شرعية على تدخلاتها في شئون غيرها، وهذا ما لم تعتد عليه السياسة الغربية على مدار التاريخ .. ففي الواقع، «أن الغرب، ومنذ أن جعل مركزيته هي المعيار في الفكر والوجود، وهو يحاول (اختراع عدو) أو (صُنعه)، وتقسيم العالم قسمة جغرافية، سياسية، فكرية، أيديولوچية، بل ومعرفية تقوم على شرخ في التفكير لا يستطيع أن يرى الكون إلا من خلال أضداد مزدوجة يحدد كل ضد فيها الآخر ويمنحه هويته (¬2). وإزاء ذلك، وبعد زوال الخطر الشيوعي، كان لا بد للغرب أن يحافظ على بقاء هذه القمة، لكي يبقى هو القوة (الذات) المهيمنة على العالم. كان لا بد إذن من خلق خصم جديد، أولًا في الوعي الغربي، وهذه مهمة المفكرين والمنظِّرين الذين كثيرًا ما يطلب منهم ذلك بطرح الوعي الغربي، وطرح التصورات والأفكار، لتأتي المؤسسة العسكرية ¬

(¬1) السابق، ص (100 - 1) باختصار وتصرف يسير. (¬2) وهذا واضح في ما صرح به چورچ بوش الابن مرارًا في (حربه ضد الإرهاب) - كما سيأتي بيانه - حيث قال: «في حرب الخير ضد الشر التي نخوضها، إما أن تكونوا معنا، وإما أن تكونوا ضدنا». [انظر، باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (36). Barbara Victor: The Last Crusade].

الأمنية والإعلامية لإعداد سيناريوهات التنفيذ على أرض الواقع، وذلك من خلال افتعال صراع جديد مع الآخر لتوريطه في نزاع يعزز مناخ المواجهة ما دامت حصيلتها مطمْئنة، وهي انتصار الأقوى سياسيًا واقتصاديًا، وعسكريًا ومعرفيًا، أي الغرب. وهذا ما دعا إليه وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كسنچر Henry Kissinger، عندما قال في كتابه الضخم (الديپلوماسية Diplomacy) إن ما تحتاج إليه أمريكا هو تهديد واضح معروف وأيديولوچيا معادية، هاتان الخاصيتان من خصائص الحرب الباردة لم تعودا موجودتين، الأمر الذي يتطلب (خلقهما) بالقوة نفسها. من هنا، جاءت طروحات المنظرين الغربيين لتؤسس لهذه المنطلقات الفكرية الأرضية السياسية والعسكرية والأمنية، وتحددت ساحة الصراع الواسعة چيولوچيتيكيًا (¬1)، وتشمل هذه الساحة كل الشرق الأوسط بامتداداته الواسعة من شمال إفريقيا حتى آسيا الوسطى» (¬2). ولو تحرينا الدقة لقلنا: إن ساحة الصراع المشار إليها هي ساحة العالم الإسلامي تحديدًا، وكذلك يتبين لنا الإشكال؛ لأن (التعلُّل) بنشر القيم الديمقراطية من أجل التدخل في الشئون الداخلية لدول العالم الإسلامي ليس بالأمر السهل، وذلك لأن الإسلام كما يعلمه المحللون والمُنَظِّرون الغربيون منظومة شاملة قائمة بذاتها ولها وضع السيادة المتعدية للحدود القومية، وهو بالتالي غير قابل لدمج أيديولوچيات وضعية مستوردة في منظومته. وقد تفطن لهذا الأمر فرانسيس فوكوياما؛ ففي غمرة دفاعه الشديد عن ديمقراطيته الليبرالية، تجده يستثني قائلًا (¬3): «... أما الآن فيبدو أن ثمة اتفاقًا عامًا - إلا في العالم ¬

(¬1) كذا بالأصل، ولعل المقصود چيوپوليتيكيًا، أي چيوسياسيًا. والچيوسياسية، أو السياسة الجغرافية: هو مصطلح سياسي وضعه عالم السياسة السويدي رودولف كْچيلِّن Rudolf Kjellén (1864 - 1922 م) في مطلع القرن العشرين، ويعني باختصار (تأثير الخصائص الجغرافية لبلد ما على سياسة الدولة). (¬2) د. ناظم الجاسور: تأثير الخلافات الأمريكية-الأوروپية على قضايا الأمة العربية، ص (46 - 7) باختصار وتصرف يسير. (¬3) فرانسيس فوكوياما: نهاية التاريخ وخاتم البشر، ص (189).

صمويل هنتجتون يتقدم

الإسلامي - على قبول مزاعم الديمقراطية الليبرالية بأنها أكثر صور الحكم عقلانية» اهـ. إذن فلكي يستمر الصراع في هذه الساحة الإسلامية، فلا بد أن يتخذ استراتيچية مغايرة؛ إذ صار البديل الحضاري الجديد، بقوامه الرأسمالي الليبرالي وصبغته المسيحية، صار في مواجهة مكشوفة مع الإسلام، وهذا يعني ضرورة التعديل في المرجعية الأيديولوچية الغربية لمواجهة هذا (الخطر الأخضر) الإسلامي! (¬1) .. صمويل هنتجتون يتقدم: وفي هذا التوقيت، يبرز على الساحة السياسية مُنَظِّر آخر، يدلو بدلوه في مستنقع الأيديولوچيات الغربية، طارحًا نظريته (التشاؤمية) حول اصطدام الحضارات، وهو الأمريكي صامويل هنتنجتون .. كان هنتنجتون قد وضع الخطوط الأولى - أيضًا - لنظريته في مقالة له نشرتها صحيفة (الشئون الخارجية) الأمريكية في صيف عام 1993م. حملت المقالة عنوان (اصطدام الحضارات؟) (¬2)، وجاءت ردًا على إصدار فوكوياما لكتابه في عام 1992م (¬3). ولقد اقتبس هنتنجتون العبارة نفسها (اصطدام الحضارات) من مقالة للمستشرق الإنجليزي-الأمريكي برنارد لويس (¬4) نشرتها صحيفة (الأطلنطي الشهرية ¬

(¬1) حقيقةً لم أقف على مبرر واضح لاختيار المنظِّرين الغربيين اللون الأخضر للتعبير عن (الخطر) الإسلامي - كما يزعمون -، ولعلهم ينسبونه إلى أهل التصوف المتمسكين بهذا اللون لقولهم أنه يرمز إلى لون السندس في الجنة، وعليه فإنه إسقاط خاطئ. (¬2) Samuel P. Huntington: The Clash of Civilizations?, Foreign Affairs, Summer 1993 (¬3) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Clash of Civilizations. (¬4) والذي شنَّ عليه إدوارد سعيد الغارة في ذيل كتابه (الاستشراق)، وكان مما قاله فيه: «ما يلجأ إليه لويس من حشو وتطويل لا يكاد يُخفي الأسس الأيديولوچية لموقفه، وقدرته الفذة على الخطأ في كل شيء يقوله تقريبًا ... إنه يمضي في تشويه الحقيقة، وفي إقامة القياس الفاسد، وفي التلميح، في المناهج التي يكسوها بقشرة من سلطة من يَعلَم كل شيء، ويتحدث بنبرات هادئة واثقة، ويفترض أن ذلك كله من سمات الباحثين»، ثم يقول: «فإن عمل لويس يعتبر جزءًا من المناخ السياسي الراهن لا المناخ العلمي الحديث» اهـ[انظر، إدوارد سعيد: الاستشراق، تذييل ط. 1995م، ص (519 - 20)].

The Atlantic Monthly) في عدد سپتمبر 1990م، بعنوان (جذور الغضب الإسلامي) (¬1). ووفقًا لما قاله محررو الصحيفة، فإن مقالة هنتنجتون «أثارت نقاشًا طيلة ثلاث سنوات أكثر من أية مقالة قاموا بنشرها منذ الأربعينات» (¬2). وبعد ثلاث سنوات من الجدل والمناقشات - ولا تزال - عزز هنتنجتون نظريته في كتابه الضخم الذي أصدره عام 1996م بعنوان (صراع الحضارات وإعادة بناء النظام الدولي). يذهب هنتنجتون في أطروحته إلى أن «السنوات التي أعقبت الحرب الباردة شهدت البدايات لتغيرات مثيرة في هويات الشعوب والرموز التي تعود لتلك الهويات. وأخذت السياسات العالمية يُعاد صياغتها بما ينسجم مع الخطوط الثقافية» (¬3). يقول (¬4): «وللفلسفة التي تتبصر في مصير العالم نظرة مثيرة للاشمئزاز إلى العصر الجديد، أجاد في التعبير عنها مايكل ديبدن Michael Dibdin [1947 - 2007 م] في روايته (البحيرة الميتة Dead Lagoon)، حين يقول: "لا يمكن أن يكون ثمة أصدقاء حقيقيون، من دون أعداء حقيقيين. فما لم نكره غيرنا لا يمكن أن نحب أنفسنا". هاتيك الحقائق العتيقة نعود فنكتشفها الآن بألم بعد قرن وأكثر من الانحراف الوجداني. أما أولئك الذين ينكرونها فإنهم ينكرون عائلتهم وتراثهم وثقافتهم وحق ولادتهم، بل ينكرون جوهر أنفسهم! ولن يغفر لهم في شيء. إن الحقيقة المشئومة من بين هذه الحقائق العتيقة التي لا يمكن أن يتجاهلها رجال الدولة والعلماء هي أنه في السبيل الذي تسلكه الشعوب التي تسعى لإثبات هويتها وإحياء العرقية يكون الأعداء ضرورة جوهرية. وتحدث أخطر العداوات على الإطلاق وعلى نحو محتمل عبر خطوط الصدع بين حضارات العالم الرئيسة». ¬

(¬1) ‍ See, Bernard Lewis: The Roots of Muslim Rage, Policy, vol. 17, no. 4, p(24) (¬2) انظر، صامويل هنتنجتون: صراع الحضارات، ص (12). (¬3) السابق، ص (18). (¬4) السابق، ص (19 - 20) بتصرف يسير.

ويرى هنتنجتون أن «السياسات العالمية بعد أن حفزتها حركة (التعصير)، يجري إعادة تركيبها الآن لتكون منسجمة مع الخطوط الثقافية. فتتقارب الشعوب والدول ذات الثقافات المتشابهة لتجتمع معًا. بينما تتباعد الشعوب والدول ذات الثقافات المختلفة فتفترق. فالتكتلات التي حددتها العلاقات بالأيديولوچية وبالقوة العظمى تنهار فتخلي السبيل لقيام تكتلات تحددها الثقافة والحضارة. ويجري إعادة رسم الحدود السياسية، على نحو يزداد يومًا بعد يوم، لتتلاءم مع الحدود الثقافية: العرقية، والدينية، والحضاراتية. وتحل التجمعات الثقافية الآن محل كتلة الحرب الباردة، وتصير خطوط الصدع بين الحضارات أكثر فأكثر هي الخطوط المحورية للصراع في السياسات العالمية» اهـ (¬1). من الملاحظ أن هنتجتون رغم استعراضه في كتابه لنماذج الحضارات المنبعثة - التي وصفها بـ (الثقافات الأهلية) -، والتي يذكر أن انبعاثها يمثل رفضًا، بل وتهديدًا للثقافة الغربية من نواحي عدة، فإنه يعطي اهتمامًا خاصًا لانبعاث الصحوة الإسلامية؛ فعلى الرغم من أنه قَرَنَ في عدة مواضع بين الخطر الإسلامي والخطر (الأصفر) الكونفوشيوسي (¬2)، إلا أنه يخصص الإسلام دون غيره بقوله (¬3): «أزال انهيار الشيوعية العدو المشترك للغرب والإسلام وجعل كل منهما يرى الآخر هو الخطر الأكبر»، ولقد كان محددًا حينما حصر المسألة في قوله (¬4): «إن المشكلة الأساسية التي يعاني منها الغرب هي ليست الأصولية الإسلامية المتطرفة، بل إنها الإسلام نفسه» اهـ. ولقد أيده الكثيرون في مقالته تلك؛ فكما تذكر الصحافية الأمريكية باربرا فيكتور أنه «منذ سقوط الإمپراطورية السوفيتية، تغيرت ذهنية الأمريكيين تغيرًا قويًّا؛ فقد أصبح الإسلام المتشدد، بدلًا من الشيوعية، هو الشر الأقصى» (¬5)، كذلك فقد وصف القس ¬

(¬1) السابق، ص (169). (¬2) نسبة إلى الفيلسوف الصيني كونفوشيوس Confucius (551 - 479 ق. م). (¬3) صامويل هنتنجتون: صراع الحضارات، ص (299). (¬4) السابق، ص (308). (¬5) باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (24).

الإنجيلي هال ليندسي Hal Lindsey المسلمين بأنهم «كالشيوعيين، في أعماق فلسفتهم توق شديد لدفننا جميعًا» (¬1)، والأمثلة أكثر من أن تحصى .. ويعكس هذا التأييد مدى نجاح المنظِّرين السياسيين أمثال لويس وهنتنجتون وغيرهما من فرض رؤيتهم على الوعي الجماهيري الغربي، فكما يقول الباحث فاضل الربيعي (¬2): «المثير للاهتمام أن معظم ما يُنشر ويُبَث ويُذاع من مواد فكرية وثقافية وسياسية عن العرب، وعالمهم الروحي والسياسي، ومشكلاتهم ومعتقداتهم الدينية وطقوسهم وشعائرهم الدينية، وحتى ملابسهم الغريبة، بات يرتكز على تصورات ومزاعم وأفكار عنصرية عن صدام حقيقي محتمل بين الحضارات». ويقول إدوارد سعيد - وذلك بعد وصفه لنظرية هنتنجتون بـ «غير المقنعة على الإطلاق» - (¬3): «... ولا يعني ذلك أن هنتنجتون، ومن خلفه جميع أصحاب النظريات والمبررات للتقاليد الغربية المتهلِّلة فرحًا، مثل فرانسيس فوكوياما، لم يعودوا يتمتعون بجانب كبير من سيطرتهم على الوعي الجماهيري، بل لا يزالون يتمتعون به» اهـ. كذلك يذكر روبرت كيجن أنه في استطلاع للرأي رعاه صندوق مارشال الألماني The German Marshall Fund GMF ومجلس شيكاجو للعلاقات الخارجية The Chicago Council on Global Affairs، بين الأول من يونيو والسادس من يوليو 2002م، للتعرف على (التهديدات المحتملة للمصالح الحيوية الأشد خطورة)، جاءت النتيجة عند السؤال عن تهديد (الأصولية الإسلامية) بالإيجاب لدى 61% من الأمريكيين مقابل 49% من الأوروپيين (¬4). ¬

(¬1) انظر، محمد السماك: الدين في القرار الأمريكي، ص (60). (¬2) فاضل الربيعي: ما بعد الاستشراق، الغزو الأمريكي للعراق وعودة الكولونياليات البيضاء، ص (9). ويُعَرِّف الربيعي مفهوم (ما بعد الاستشراق) بقوله: «هو تطوير، بأدوات جديدة، للاستشراق الكلاسيكي نفسه، وأن الميدان الحيوي لنشاطه يقع داخل حقل السياسة، لا خارجها، وداخل حقل الثقافة، لا خارجها أيضًا» اهـ[السابق]. (¬3) إدوارد سعيد: الاستشراق، ذيل ط. 1995م، ص (526 - 7). (¬4) انظر، روبرت كيجن: عن الفردوس والقوة، ص (42) الهامش.

ولا أظنه يخفى ما تحمله هذه الرؤية الهنتنجتونية من مقاصد خفية لنيل التأييد الشعبي للتحركات التوسعية الأمريكية من أجل السيطرة على موارد النفط ولأمركة الشرق الأوسط (التاريخي) وجعله سوقًا كبيرًا تابعًا للغرب .. وهذا من براعة القوم في الصد عن سبيل الله، ويذكرني بفعل أثو دي لاچيري Otho de Lagery، أو البابا أوربان الثاني كما يحلو لهم تسميته، حينما جيَّش الجيوش الهمجية تحت راية الصليب، دافعًا بها لغزو بلاد المسلمين، مرتكزًا على خلفية ثقافية مشوهة كما تقدم الذكر. وحقيقة أعجبني تلخيص الدكتور چورچ قُرم للمسألة في قوله (¬1): «الدول الغربية عائدة إلى أهوائها الاستعمارية السابقة بغطاء التنظير حول ظاهرة (عودة الدين) والصراع المحتم بين الحضارات» اهـ. ورصْد المسألة من هذه الزاوية يجعلنا نعير الاهتمام لما تبنته مجلة (المنابر والنصوص الرمزية Tribunes et Décryptages) في عدد 14/ 12/2005م، من القول بأن «صدام الحضارات لم تكن نظرية بسيطة حول تطور العلاقات الدولية، إنها برنامج أنشأ في داخل مجلس الأمن القومي للولايات المتحدة، وفي الأمن الوطني، وهو مرتبط بالمجتمع الصناعي العسكري الموجه نحو خلق عدو استراتيچي وهمي ودائم، لتبرير الاعتمادات العسكرية المتزايدة وتحفيز مبدأ التدخلية العسكرية في المناطق ذات الاحتياطات الپترولية الهائلة، وسهلة الاستخراج والاستثمار. وحول هذه القاعدة فقد تم ابتداع، وبشكل مخادع، مؤامرة إسلامية عالمية واسعة، في حرب ضد الغرب. واعتبرت أحداث 11 سپتمبر 2001م بمثابة إعلان حرب ذات آلية استراتيچية مساوية للحرب الباردة، وإن (القاعدة) تمثل تهديدًا مشابهًا لما كان يمثله الاتحاد السوفيتي (لا بل أكثر خطورة) على النظام الدولي» (¬2). ¬

(¬1) د. چورچ قُرم: المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين، ص (14) بتصرف يسير. Georges Corm: La Question Religieuse au XXIe Siècle (¬2) انظر نص المقال على الرابط: www.voltairenet.org/article132524.html، والترجمة العربية نقلناها من: تأثير الخلافات الأمريكية-الأوروپية على قضايا الأمة العربية، للدكتور ناظم الجاسور، انظر ص (48 - 9).

نظرة على علاقة المجتمع الغربي المعاصر بالإسلام

نظرة على علاقة المجتمع الغربي المعاصر بالإسلام: ولكن قبل أن نقفز إلى أحداث الحادي عشر من سپتمبر وتبعاتها، نناقش مسألة هي من الأهمية بمكان، وهي الموقف الغربي المعاصر من الإسلام .. ونتوقف قليلًا عند حرب الخليج الثانية (2/ 8/1990 - 28/ 2/1991م)، أو (عملية عاصفة الصحراء Operation Desert Storm) كما أطلقت عليها القوات الأمريكية، والتي قادت فيها أمريكا ائتلافًا دوليًا مكونًا من 34 دولة في مواجهة القوات العراقية. فلقد بدت هذه الحرب - كما رأى الأمريكيون أنفسهم - «وكأنها الاختبار الحقيقي الأول للنظام العالمي الجديد، حيث وجدت فيها الولايات المتحدة فرصة ذهبية لتؤكد حضورها الطاغي على مسرح الأحداث العالمية، ولتثبت للعالم أجمع أن هناك قائدًا جديدًا منفردًا في الشئون العالمية» (¬1). والحاصل أن هذه الحرب (التحريرية!)، مع قرائن صاحبتها، كشفت زيف الادعاءات الأمريكية في رغبتها الخالصة، بل وفي حملها على عاتقها، مسئولية نشر الحرية والعدل والمساواة في الكرة الأرضية تحت غطاء العولمة؛ فكما يذكر هنتنجتون أن «النفاق، وازدواجية المعايير، والاستثناءات، هي الثمن لمطامح العولمة؛ فالديمقراطية مطلوبة لكنها ليست ديمقراطية لو أنها جلبت إلى الحكم الأصوليين الإسلاميين، وحظر تصنيع أسلحة الدمار الشامل يفرض على إيران والعراق ولكنه لا يفرض على إسرائيل ... وحقوق الإنسان هي قضية ذات شأن مع الصين لكنها ليست بقضية مع المملكة العربية السعودية، والاعتداء على الكويتيين أصحاب النفط رُفِض على نطاق واسع ولكن لا يُرفَض أي اعتداء على البوسنيين الذين لا يملكون شيئًا من النفط. إن المعايير المزدوجة في الإجراء العملي هي الثمن الذي لا يمكن تجنبه للمعايير العالمية لأي مبدأ» اهـ (¬2). ثم بعد أن انقضت الحرب، وما تبع ذلك من تعزيز للوجود (الأمريكي/الغربي) في ¬

(¬1) محمد النقيد: نظرية نهاية التاريخ، ص (25). (¬2) صامويل هنتنجتون: صراع الحضارات، ص (256 - 7).

منطقة الشرق الأوسط، وقف الرئيس الأمريكي چورچ بوش (الأب) في مؤتمر مدريد للسلام في 30 أكتوبر 1991م معلنًا أن «القضية في الشرق الأوسط ليست مجرد قضية إنهاء الحرب، وإنما هي قضية إنهاء العداوة». فالعداوة التي أشار إليها - ظاهرًا - هي تلك التي بين العرب والدولة الصهيونية اللقيطة، ولكن المدقق يجد أن العبارة تحمل دلالة عميقة جدًا لم ينطق بها هذا القسيس عفويًا، لا سيما في مؤتمر عالمي أعدت أچندته بدقة. فهو لا يعنيه الحديث عن العداوة القائمة بين قوميات بقدر ما يعنيه الحديث عن عداوة من نوع آخر؛ فالغرب الذي حرَّض في الأساس نصارى الشرق (المستنيرين) على زرع بذور القومية في تربة الخلافة، وأقنعهم بأن هذا سبيلهم للتخلص من ربقة (الاستعباد المِلَلي)، ونيل الحرية والمساواة، ثم جَنَى ثمارها وحده بموجب اتفاقية (سايكس-پيكو) (¬1)، ولم يُبقِ لهم إلا النزر اليسير (¬2)، لا يكون هو نفسه الذي يدعو إلى إنهاء العداوة القومية، وإنما يدعو لإنهاء العداوة التي من أجلها زرع بذور القومية، وهي العداوة القائمة على أسس عقائدية. وإنهاء هذه العداوة العقائدية الأساس يقتضي - حسب أطروحة فوكوياما - نشر القيم الديمقراطية الليبرالية في المنطقة، وهو ما يستدعي بالتالي إبقاء دولة إسرائيل قائمة، ¬

(¬1) معاهدة سايكس-پيكو Sykes-Picot Agreement: هي تفاهم سري عقد في 16 مايو من عام 1916م بين فرنسا وبريطانيا وبمصادقة روسيا على اقتسام الهلال الخصيب (أي حوض نهري دجلة والفرات، والجزء الساحلي من بلاد الشام) بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. ولقد تم التوصل إلى هذه المعاهدة في الفترة ما بين نوفمبر 1915م ومايو 1916م بين الديپلوماسي الفرنسي فرانسوا چورچ پيكو François Georges-Picot (1870 - 1951 م) ونظيره الإنجليزي مارك سايكس Mark Sykes (1879 - 1919 م). (¬2) يذكر ألكسي چورافسكي أن «الفئات المثقفة الواعية من المسيحيين تدرك بوضوح متزايد مع مرور الوقت أن وراء الكلمات الطنانة الكبيرة عن الرسالة التحضيرية لأوروپا، وعن دفاعها النزيه عن مصالح الأقليات وكرامتها، تتستر عمليًا المصالح المادية والسياسية لتلك الدول الغربية. ومن هنا، فإن النقد الموجه للغرب أصبح نقطة انعطاف مهمة في مؤلفات وكتابات مسيحيي الشرق العربي في مرحلة ما بين الحربين العالميتين .. إذ إن وضعهم لأنفسهم مقابل أوروپا (أو قل نقيضًا مضادًا لها في أحيان كثيرة) أقنعهم بالعودة مجددًا إلى أطروحة الأمة العربية». [انظر، ألكسي چورافسكي: الإسلام والمسيحية، ص (183 - 4)].

باعتبارها قبلة الديمقراطية الغربية في الشرق الأوسط. لكن الحاصل أنه حينما سعت أمريكا - وفي ذيلها الغرب - لنشر هذه التعاليم المشبوهة في أوساط الجماهير المسلمة الغافلة، من ناحية، بل وفي نفخ سمومها في صفوف نصارى الشرق ومهاجريهم في الغرب، وتحريضهم على إثارة الفتن والقلاقل، من ناحية أخرى، تحت غطاء المواطنة وحقوق الإنسان وغيرها، وجدت نفسها مصطدمة بطائفة قد عناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» (¬1). فلقد بزغت شمس الصحوة الإسلامية متمثلة في هذه الطائفة، وذلك مصداقًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (¬2)، فقاموا يكشفون الشبهات، ويعلمون الناس أمر دينهم، وأصول إيمانهم، والذي هو أوثق عراه كما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله» (¬3)، وباتت آثار هذه الصحوة واضحة للعيان لا ينكرها إلا جاحد. وهنا مكمن الخطر؛ إذ إن «الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله» تناقض في مفهومها وفي تطبيقها العملي مبادئ الديمقراطية الحرة، وفق التصور الذي يريد الغرب أن يروج لها به؛ حيث تحل (الإنسانية) محل الإله في الموالاة والمعاداة وفي الحب والبغض. وهنا ملحظ مهم، وهو أن المشروع الأمريكي (لإنهاء العداوة) انطلق في الأساس من مبدأ (العداوة)!؛ العداوة للطرف الآخر وعدم القبول به والرغبة في تقويضه داخليًا والسيطرة عليه. فالغرب، لا سيما الولايات المتحدة - كما يذكر هنتنجتون - «كان دائمًا أمة مُبَشِّرة» (¬4)، وهذا القول كشف لي معنىً خفيًّا؛ وهو أن المساعي التبشيرية الحالية في طورها العَلْماني لا تختلف كثيرًا، بل ولا تتعارض - من حيث المبدأ - عن الإرساليات ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب الإمارة: 1037 (¬2) رواه أبو داود، كتاب الملاحم: 4291، وصححه الألباني. (¬3) رواه الطبراني في (الكبير) (11/ 215)، وصححه الألباني في (صحيح الجامع): 2539 (¬4) صامويل هنتنجتون: صراع الحضارات، ص (256).

التبشيرية الپروتستانتية والكاثوليكية التي يغزو بها الغرب العالم الإسلامي، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما لهما مرجعية واحدة؛ فالقاعدة الدينية العامة عندهم تقول: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» (¬1)، وما لقيصر هو ما أكدَّه ريتشارد هاس Richard Haass مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية من أن «الهدف الرئيس للسياسة الخارجية الأمريكية يتمثل في دفع الدول والمنظمات الأخرى إلى أن تتكامل في ترتيبات تجعل العالم يتلاءم مع مصالح الولايات المتحدة وقيمها» (¬2)، وما لله - في زعمهم - هو ما وضحه المبشر الأمريكي صامويل زويمر Samuel Zwemer (1867 - 1952 م) في كونه إخراج جيل «لا صلة له بربه»، لا يهم في أي وادٍ يهلك! وهذا ما طمأن له قديمًا المستشرق الفرنسي ألفرد لُ شاتلييه (1855 - 1929م) بقوله (¬3): «لا ينبغي لنا أن نتوقع من جمهور العالم الإسلامي أن يتخذ له أوضاعًا وخصائص أخرى إذا هو تنازل عن أوضاعه وخصائصه الاجتماعية، إذ الضعف التدريجي في الاعتقاد بالفكرة الإسلامية وما يتبع هذا الضعف من الانتقاص والاضمحلال الملازم له، سوف يفضي - بعد انتشاره في كل الجهات - إلى انحلال الروح الدينية من أساسها لا إلى نشأتها بشكل آخر» اهـ. إذن، فإن (قضية إنهاء العداوة) التي أشار إليها بوش (الأب) في خطابه تحمل في ¬

(¬1) لوقا 20: 25 (¬2) انظر، محمد النقيد: نظرية نهاية التاريخ، ص (102). (¬3) ألفرد لُ شاتلييه: الغارة على العالم الإسلامي، ص (9) .. Alfred Le Chatelier: La Conquête du monde Musulman، وهو بحث تبشيري نشرته (مجلة العالم الإسلامي La Revue du Monde Musulman) الفرنسية في عدد خاص وذلك في عام 1330هـ، ويدور حول ما تقوم به إرساليات التبشير الپروتستانتية في العالم الإسلامي وما قيل في المؤتمرات التي عقدتها تلك الإرساليات في أوقات مختلفة. وقد نقله إلى العربية محب الدين الخطيب ومساعد اليافي (1886 - 1943م). يقول محب الدين الخطيب رحمه الله: «ما كادت هذه المقالات المتسلسلة تنتشر في مصر والعالم الإسلامي حتى كان لها وقع عظيم جدًا وبعثت اليقظة في كثير من الناس ... وضاق صدر كُتَّاب (مجلة العالم الإسلامي) نفسها وأمثالهم من أنصار التبشير والاستعمار من ذيوع هذه الفصول بين المسلمين، لأنهم يودون أن يقوم بأعماله والمسلمون نيام» اهـ[الغارة على العالم الإسلامي، مقدمة الترجمة العربية].

ثناياها ملامح لمعترك آخر ولكن على الساحة الفكرية أولًا قبل انتقاله إلى المواجهة المسلحة. وهو معترك إعلامي غير شريف قائم على التشويه وتزييف الحقائق؛ وذلك لأن الغرب حينما أطلق العنان لديمقراطيته الحرة المزعومة وجد الإسلام يغزوه فكريًا في عقر داره، وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجًا (¬1)، ولله الحمد والفضل والمنَّة، قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَابَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬2)، وكما قال ابن تيمية رحمه الله (¬3): «ومن سنة الله أنه إذا أراد إظهار دينه أقام من يعارضه، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق» اهـ. وفي المقابل بات تراث الغرب اليهودي-المسيحي مهددًا بالزوال .. والصراخ - كما يقال - يكون على قدر الألم! وإلا: - فما الذي دفع الدنماركيين إلى تأسيس منظمة أسموها (وقف أسلمة الدنمارك Stop Islamificering af Danmark SIAD)، ونشروا فروعها في أوروپاوأمريكا تحت شعار (وقف أسلمة أوروپا Stop Islamisation of Europe SIOE) و (وقف أسلمة أمريكا Stop Islamisation of America SIOA) (¬4) ، رافعين شعار (لا شريعة هنا)؟ ¬

(¬1) حتى إنه في خبر نشرته صحيفة (دايلي ميل) البريطانية، وأكده لي أحد الأصدقاء المقيمين بالعاصمة، أن اسم (محمد) - بمختلف صور كتابته بالإنجليزية - صار الاسم الأكثر انتشارًا في بريطانيا، حيث قفز إلى المركز الأول في قائمة عام 2009م مقابل المركز الثالث في عام 2008م، متفوقًا بذلك على اسم (چاك) و (أوليفر)، (المركز الأول والثاني سابقًا). See, Jack Doyle: Mohammed is now the most popular name for baby boys ahead of Jack and Harry, Daily Mail (www.dailymail.co.uk), October 28, 2010 (¬2) التوبة: 32 (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (28/ 57). (¬4) ولقد سعت تلك الأخيرة، والتي ترأسها الناشطة پاميلا جيلر Pamela Geller، في عمل قوة ضاغطة (لوبي) وتنظيم تظاهرات من أجل وقف تأسيس مسجد ومركز إسلامي بالقرب من موقع مركز التجارة العالمي الذي استهدفته هجمات الحادي عشر من سپتمبر في 2001م، والذي اشتهر باسم (مسجد المنطقة صفر Ground Zero Masjid)، إضافة إلى الحملة الشعواء التي دشَّنها القس المعتوه تيري چونز Terry Jones في أغسطس 2010م تحت شعار (اليوم العالمي لحرق القرآن International Burn a Koran Day)، وذلك إحياءً للذكرى التاسعة (2010م) لأحداث 11 سپتمبر، في حالة عدم نقل هذا المشروع من موقعه! ولقد تبعه في ذلك عدة مؤسسات منها ما هو تابع لأقباط المهجر. وتقوم منظمة (وقف أسلمة أمريكا) كذلك بتحريض المسلمين على الارتداد عن دينهم؛ وذلك من خلال عدة أنشطة، منها - وفق ما نقلته شبكة سي إن إن الإخبارية - تأجير مساحات إعلانية كبيرة على حافلات مدينة نيويورك تكتب عليها عبارات كـ: «هل تتعرض للتهديد من قبل أفراد مجتمعك أو أسرتك؟»، «هل تريد أن تترك الإسلام؟»، حيث تتكفل المنظمة بحماية هؤلاء من التعرض للإيذاء عن طريق التواصل معهم عبر موقعهم (الملاذ من الإسلام www.refugefromislam.com) .. ولقد جاءت هذه الحملة كرد على حملة دعائية قام بها بعض الدعاة المسلمين في أمريكا على المساحات الإعلانية الخاصة بعربات مترو الأنفاق من أجل التعريف بالإسلام، وذلك بالترويج لموقع (لماذا الإسلام؟ www.whyislam.org). ولقد جاء تصريح پاميلا جيلر للشبكة تعليقًا على هذه الحملة العدائية ساذجًا ووقحًا للغاية، حيث قالت: «إن المسلمين الملتزمين الذين يجدون هذه الإعلانات جارحة وعدائية يجب أن يتجاهلوها، فإنها غير موجهة إليهم». See, Cable News Network CNN (www.cnn.com): Ads on NYC buses target those wanting to leave Islam, May 27, 2010

- وما الذي دفع چورچ جاينزفاين Georg Ganswein السكرتير الخاص ببنديكت السادس عشر للتحذير من خطر (أسلمة أوروپا) الذي يهدد - حسب قوله - هوية القارة الأوروپية، ثم يتبجح بالقول بأن «الكنيسة الكاثوليكية ترى ذلك عيانًا ولا تخشى من التصريح بهذا الكلام» (¬1)، ثم يتبعه رئيس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في پراج ميلوسلاف فلك Miloslav Vlk، حيث دعا الأوروپيين إلى العودة إلى جذورهم النصرانية والتمسك بأصولهم الروحية، وإلا فسوف تُهزم أوروپالا محالة في المعركة الروحية التي يتفوق فيها المسلمون في حين تفتقد أوروپاالحالية أسلحتها (¬2)؟ ¬

(¬1) وذلك في تصريحه لصحيفة (زودويتشه تسايتونج Süddeutsche Zeitung) الألمانية في 26 يوليو 2007م. (¬2) See, Catholic News Agency CNA (www.catholicnewsagency.com): Cardinal Vlk warns of 'Islamization' of Europe, calls for return to Christianity, January 6, 2010

- كذلك ما الذي دفع الرسام الدنماركي الحاقد كورت فسترجارد Kurt Westergaard إلى رسم الصور الكاريكاتورية المسيئة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ونشرها في صحيفة (مورجنافيزن يولاندس پوستن Morgenavisen Jyllands-Posten) الدنماركية (¬1)، وما الذي دفع العديد من الصحف الأوروپية إلى إعادة نشر الصور ذاتها تحت مسمى حرية التعبير، رغم الاستياء الشديد والغضب العارم في العالم الإسلامي؟ ثم بعد ذلك تكرمه ألمانيا بمنحه جائزة (إم100) الإعلامية M100 Media Prize في الأربعاء 8/ 9/2010م في إحتفالية بمدينة پوستدام Postdam تحضرها المستشارة الألمانية أنچيلا ميركل Angela Merkel، وذلك لكون فسترجارد «صار رمزًا لحرية الصحافة والرأي»، كما يدَّعي عمدة المدينة يان ياكوبز Jann Jakobs! - بل ما الذي دفع النائب الپرلماني الهولندي خِيرت فيلدرز Geert Wilders للتصريح لصحيفة (دي فولكسكرانت de Volkskrant) الهولندية داعيًا إلى منع تداول القرآن الكريم في بلاده، معتبرًا أنه لا مكان لهذا الكتاب (الفاشي) في (دولة قانون) على حد زعمه. مشبهًا إياه بكتاب (كفاحي Mein Kampf) للزعيم النازي أدولف هتلر Adolf Hitler (1889 - 1945 م) (¬2)؟ - ثم ما الذي دفعه بعد ذلك إلى إعداد وعرض فيلمه البالغ الإساءة المعروف باسم (فتنة Fitna)، وذلك رغم كل المعارضات والتهديدات التي لاقاها (¬3)، في حين تنجح المنظمات الكاثوليكية الأمريكية في منع عرض فيلم وثائقي للروائي الأمريكي چيمس ¬

(¬1) وذلك في عددها الصادر في 30 سپتمبر 2005م. (¬2) وذلك في 8 أغسطس 2007م. (¬3) ولكن كما أخبر ربنا تبارك وتعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، ففي خبر نشره موقع (العربية. نت) في 30/ 3/2008م، أنه قد شهدت المكتبات التي تعرض كتبًا إسلامية في أمستردام إقبالًا غير عادي، وأن الهولنديين اشتروا كميات كبيرة من المصاحف الإلكترونية المترجمة إلى الهولندية عقب نشر الفيلم المسيء للإسلام، ما أدى إلى نفاد المصاحف الإلكترونية من الأسواق خلال يومين فقط بعد نشر الفيلم على شبكة الإنترنت. ولاحتواء تداعيات الفيلم، عقد شباب مسلمون في هولندا ورشة عمل حوارية بأمستردام، وفي أثناء هذه الورشة أشهر أحد الهولنديين إسلامه ليصبح ثالث شخص يُشهر إسلامه خلال أسبوع واحد ردًا على عبارة انتهى بها الفيلم تقول «أوقفوا أسلمة أوروبا».

هل المجتمع الغربي علماني أم مسيحي؟

كارول James Carroll بعنوان (سيف قسطنطين Constantine's Sword) يتهم الكنيسة بمعاداة اليهود ويتهمها كذلك بالعنف التاريخي وشن حروب دموية باسم الصليب (¬1)؟ - كذلك كيف تمكن الألماني-الروسي الحاقد أليكس فينس Alex Wiens في 1 يوليو 2009م من تسديد 18 طعنة في دقائق معدودة إلى الصيدلانية المسلمة مروة الشربيني رحمها الله تعالى (1977 - 2009م)، في قاعة محكمة دريسدن Dresden بألمانيا على مرأى ومسمع من رجال الشرطة، وذلك بعد ما وصفها بالإرهاب والتطرف بسبب ارتدائها الحجاب؟ - وما الذي دفع دولة سويسرا التي تقر في دستورها مبدأ ضمان الحرية الدينية للجميع، إلى حظر بناء المآذن على أرضها في حين أنها لا تمنع الكنائس من دق أجراسها؟ - وما الذي دفع معدِّي البرنامج الأمريكي الهزلي الشهير ساوث پارك South Park إلى إعداد حلقات يصوَّر فيها شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وبأمي - في زي دُب! (¬2)، أحجموا عن عرضها عندما جاءهم تهديد بالقتل من مجهول؟ وما ولماذا وكيف ... ؟ تعددت الأسباب والموت واحد! هل المجتمع الغربي علماني أم مسيحي؟ كذلك للبعض أن يسأل: كيف يتفق أن نفورًا قديمًا - وكان دينيًا في أساسه وممكنًا في زمانه بسبب السيطرة الروحية للكنيسة - يستمر في زمن ترتفع فيه بشكل واضح معدلات الإلحاد والعَلْمنة في العالم؟؟ ¬

(¬1) جاء ذلك تبعًا لزيارة بنديكت السادس عشر لأمريكا في إپريل 2008م لاعتذاره عن جرائم الشذوذ الجنسي التي ارتكبها الرهبان الكاثوليك في أمريكا. (¬2) وهي الحلقات رقم 200 و201، التي تقرر بثها في 14 و21 إپريل عام 2010م، وقد سبق لهم هذا الفعل الكافر في الحلقة 68 (4 يوليو 2001م)، عندما صوروا شخص النبي محمد وموسى وعيسى عليهم السلام أجمعين بصورة هزلية لا أجد لها وصفًا، قاتلهم الله.

وقديمًا أجاب محمد أسد رحمه الله عن هذا بقوله (¬1): «ليست مثل هذه المعضلات موضع استغراب أبدًا، فإنه من المشهور في علم النفس أن الإنسان قد يفقد جميع الاعتقادات الدينية التي تلقنها في أثناء طفولته، بينما تظل بعض الخرافات الخاصة - والتي كانت من قبل تدور حول تلك الاعتقادات المهجورة - في قوتها تتحدى كل تعليل عقلي في جميع أدوار ذلك الإنسان، وهذا حال الأوروپيين مع الإسلام؛ فعلى الرغم من أن الشعور الديني الذي كان السبب في النفور من الإسلام قد أخلى مكانه في هذه الأثناء للاستشراف على حياة أكثر مادية، فإن النفور القديم نفسه قد بقي عنصرًا من الوعي الباطني في عقول الأوروپيين. وأما درجة هذا النفور من القوة فإنها تختلف بلا شك بين شخص وآخر، ولكن وجوده لا ريب فيه. إن روح الحروب الصليبية مازال يتسكع فوق أوروپا، ولا تزال مدنيتها تقف من العالم الإسلامي موقفًا يحمل آثارًا واضحة لذلك الشبح المستميت في القتال» (¬2). ¬

(¬1) محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق، ص (61). (¬2) يقول الدكتور المسيري رحمه الله في موسوعته الشهيرة - وسيأتي التعريف بهما في الفصل التالي -: «وأثناء كتابة هذه الموسوعة لاحظت تكرار كلمة (مسلم) في مقال عن التدرج الاجتماعي في معسكر أوشفيتس Auschwitz [أحد معتقلات النازي]، وقال مرجع آخر إن الضحايا الذين كانوا يقادون لأفران الغاز كانوا يسمونهم تسمية غريبة. وقد تبين بعد قراءة عدة مراجع وموسوعات إلى أنهم كانوا يسمونهم في واقع الأمر (ميزلمان Muselman) أي (مسلم) بالألمانية. وقد ورد ما يلي في مدخل مستقل في الموسوعة اليهودية Encyclopedia Judaica جزء 12 ص537 - 538 عنوانه (مسلم/ميزلمان): "هي إحدى المفردات الدارجة في معسكرات الاعتقال، والتي كانت تستخدم للإشارة للمساجين الذين كانوا على حافة الموت" .... هذه هي المعلومة، فكأن العقل الغربي حينما كان يدمر ضحاياه كان يرى فيهم الآخر، والآخر منذ حروب الفرنجة هو المسلم. ومن المعروف في تاريخ العصور الوسطى أن العقل الغربي كان يربط بين المسلمين واليهود ... إن التجربة النازية هي الوريث الحقيقي لهذا الإدراك الغربي، والنازيون هم حملة عبء هذه الرؤية، وهم ممثلو الحضارة الغربية في مجابهتها مع أقرب الحضارات الشرقية، أي الحضارة الإسلامية. وهم لم ينسوا قط هذا العبء حتى وهم يبيدون بعضًا من سكان أوروپا. وهم في هذا لا يختلفون كثيرًا عن الغزاة الإسپان للعالم الجديد الذين كانوا يبيدون سكانه الأصليين وكانوا يسمونهم (الترك) أي المسلمين ... وقد حاول كاتب مدخل (مسلم) في الموسوعة اليهودية أن يفسر أصل استخدام الكلمة، فهو يدَّعي أن الضحايا سُموا (مسلمين) استنادًا إلى طريقة مشيهم وحركتهم: "إنهم كانوا يجلسون القرفصاء وقد ثُنيت أرجلهم بطريقة (شرقية) ويرتسم على وجوههم جمود يشبه الأقنعة". والكاتب في محاولة تفسيره هذه لم يتخل قط عن عنصريته الغربية أو الصور النمطية الإدراكية، كل ما في الأمر أنه حاول أن يحل كلمة (شرقيين) العامة محل كلمة (مسلمين) المحددة» اهـ[د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ العرب والمسلمون والإبادة النازية ليهود أوروپا) باختصار، وانظر كذلك: The Blackwell Dictionary of Judaica, p(380): Muselman (German: "Muslim")].

وتقول باربرا فيكتور (¬1): «وحسب عقيدة مسيحية راسخة جدًا في اللاشعور الغربي: الإسلام، ومنذ سقوط بيزنطة وإعادة احتلال إسپانيا، هو الدين الوحيد - من خلال ثقافته وأدبه - الذي هدد باستمرار وجود النصارى» اهـ. أيضًا، فإن واقعنا المعاصر يشهد بانحسار التيار الإلحادي العَلْماني في العالم بشكل عام، وليس أقوى من الصفعة التي وجهها أعتى ملاحدة العصر سير أنتوني فلو Sir Antony Flew (1923 - 2010 م) إلى زملائه من الملاحدة والمتشككين؛ فبعد أكثر من نصف قرن قضاها في دعوته إلى الإلحاد ألَّف فيها أكثر من ثلاثين كتابًا وبحثًا فلسفيًا تعد بمثابة أصول الفلسفة الإلحادية المعاصرة، وجدول أعمال الفكر الإلحادي طوال النصف الثاني من القرن العشرين، أعلن في مطلع عام 2004م بصراحة نادرة الوجود عن تراجعه عن إلحاده ودخوله في صفوف (النِيتْشَريين) المؤمنين بوجود الله الخالق، وقوفًا على مبدأ (الربوبية Deism) (¬2) ، وصنف في ذلك كتابه الماتع (هناك إله There's a God) (¬3) ، والذي هتك فيه أستار زملائه وعلى رأسهم الأفاك ريتشارد دوكنز Richard Dawkins، والفيزيائي المتشكك ستيفن هوكنج Stephen Hawking (¬4) . ¬

(¬1) باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (205). (¬2) النِيتْشَريين، كما يطلق عليهم جمال الدين الأفغاني في رسالته (في الرد على الدهريين)، نسبة إلى (نِيتْشَر) أي (الطبيعة Nature): هم أتباع (الديانة الطبيعية) أو (الربوبية)، وهي فلسفة تؤمن بوجود خالق عظيم للكون وبأن هذه الحقيقة يمكن الوصول إليها باستخدام العقل ومراقبة العالم الطبيعي وحده دون الحاجة إلى أي دين، مع رفض فكرة التدخل الإلهي في الشئون الإنسانية بالمعجزات والوحي. (¬3) وقد نقله إلى العربية وعلق عليه الأستاذ الدكتور عمرو شريف رئيس قسم الجراحة بكلية الطب جامعة عين شمس، في كتابه القيم (رحلة عقل) .. (¬4) ولكن أنتوني فلو ظل حتى وفاته منكرًا لوجود حياة أخرى بعد الموت حيث لم يقف على دليل علمي يثبتها، وكان مما قاله في خاتمة كتابه: «إذا كانت رحلة الفلاسفة العقلية ورحلة العلماء البحثية قد توصلت إلى القول بالإله الحكيم القادر، فلا مانع عندي من تقبل فكرة أن يكشف الإله عن نفسه لمخلوقاته من خلال الوحي وإرسال الرسل، إذا وجدت الدليل على ذلك» اهـ[انظر: رحلة عقل، ص (110)].

كذلك فقد أشار إلى ظاهرة عودة الدين اللاهوتي الكاثوليكي الأمريكي چورچ ويجل George Weigel فقال: «إن تطهير العالم من النزعة العَلْمانية الدنيوية هي إحدى الحقائق السائدة في السنوات الأخيرة من القرن العشرين» (¬1). ويقول چورچ قُرم (¬2): «في ستينات القرن المنصرم، كان الاختصاصيون أو الخبراء يتحدثون عن حركة (إثنية/قومية). واليوم، تبدو الهوية الدينية أنها هي التي تريد أن تحتوي كل شيء: الغرب اليهودي-المسيحي، العالم الإسلامي أو العربي الإسلامي، القدس التي صارت عاصمة (أبدية) لدولة إسرائيل، مكة، روما، التي هي، سلمًا أو عنوةً، أماكن تجمُّع كبرى؛ ولكنها تريد أيضًا احتواء موسكو، أثينا أو بلجراد، هذه المراكز الحيوية للكنيسة الأرثوذكسية المتجددة جرّاء سقوط الشيوعية؛ فيما الأصولية الپروتستانتية (¬3) أو الإنجيليون الجُدُد والحركات السلفية المسيحية الأخرى Born Again Christians تشارك هي أيضًا، وبجلاء، في ديكورات العالم الجديد». وتأمل ما صرح به رئيس الحكومة البريطانية السابق توني بلير Tony Blair لجريدة ¬

(¬1) انظر، صامويل هنتنجتون: صراع الحضارات، ص (127). (¬2) د. چورچ قُرم: المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين، ص (20). (¬3) ظهر لأول مرة مصطلح (الأصولية)، في كتاب (الأصول: دليل إلى الحق The Fundamentals: A Testimony to the Truth) الضخم المكون من 12 جزءًا، والتي تم دمجها في أربعة مجلدات، وقام بتحريره ألفرد ديكسون Alfred C. Dixon (1854 - 1925 م) وروبين توري Reuben A. Torrey (1856 - 1928 م)، وموَّل طباعته ونشره في عام 1909م رجل الأعمال الأمريكي ليمان ستيوارت Lyman Stewart (1840 - 1923 م) وأخيه ميلتون Milton، واللذان عملا على توزيعه بالمجان على المؤسسات التبشيرية ومدارس الأحد والجهات المهتمة بهذا الشأن. ولقد دوَّن فيه الكاتبان ما اعتبراه أصول الديانة النصرانية الحقة، ثم تناقلته الأيدي حتى صار بعد ذلك المرجع الرئيسي الذي قامت عليه الحركة الأصولية الپروتستانتية الحديثة. ومما يذكر أنه حتى عام 1950م لم تكن أدرجت كلمة (أصولية Fundamentalism) في قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية، في حين أن كلمة (أصولي Fundamentalist) قد أضيفت إلى الطبعة الثانية عام 1989م. [انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: The Fundamentals، ومادة: Fundamentalism، وانظر مقدمة روبين توري لكتاب (الأصول)] ..

(دي تسايت Die Zeit) الألمانية الأسبوعية (¬1)، حيث قال: «إذا لم تلعب العقيدة الدينية أي دور في القرن الواحد والعشرين، وهو ما لا أستطيع تخيله، فإن شيئًا ما حاسمًا سيكون مفقودًا». فضلًا عما كشفت عنه نتيجة الاستطلاع الذي أجراه مركز جالوپ الأمريكي Gallup للإحصاء - والذي أجري طيلة ثلاث سنوات متصلة (2006 - 2008) في 143 دولة - حول أهمية الدين في حياة الشعوب، حيث جاء المتوسط العالمي للاستطلاع 82% ممن أجابوا بنعم (¬2). بل ما أظهره الاستطلاع الآخر الذي قام به الباحثان چون إسپوزيتو وداليا مجاهد (¬3) لصالح مؤسسة جالوپ - والذي يعد الأكبر عالميًا حتى الآن -، من أنه في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تنفصل الكنيسة عن الدولة بحكم القانون، تقول الأغلبية (55%) إنها تفضل أن يكون الإنجيل مصدرًا للتشريع، ويقول 9% من هؤلاء إنه يجب أن يكون المصدر الوحيد (¬4). ¬

(¬1) وذلك في عدد 22 ديسمبر 2008م. (¬2) http://www.gallup.com/poll/114211/Alabamians-Iranians-Common.aspx، ولقد احتلت مصر المركز الأول بنسبة 100% أجابوا بنعم، وحصلت أمريكا على متوسط 65%، وإسرائيل على 50%. ولقد علق معهد جالوپ على نتيجة الاستطلاع بالقول بأن «الاعتراف بهذه الحقيقة ينبغي أن يوقف الأمريكيين عن إطلاق الأحكام على الثقافات الأخرى، كالقول مثلًا بأن بعض الشعوب أقل أو أكثر تعصبًا من الأمريكيين. كما ينبغي أن تساعد هذه النتائج من هم خارج الولايات المتحدة على تجنب إطلاق مثل هذه الأحكام السطحية على الأمريكيين» اهـ. (¬3) چون إسپوزيتو: هو أستاذ الديانات والدراسات الإسلامية، والمدير المؤسس لمركز الأمير الوليد بن طلال للتفاهم الإسلامي-المسيحي في جامعة (چورچ تاون Georgetown) في العاصمة واشنطون. وهو كذلك رئيس تحرير عدد من المراجع كموسوعة أكسفورد للعالم الإسلامي المعاصر، وتاريخ أكسفورد للإسلام، وقاموس أكسفورد للإسلام. أما داليا مجاهد: فهي مستشارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لشئون العالم الإسلامي، وهي المديرة التنفيذية لقسم الدراسات الإسلامية في مركز جالوپ، وكبيرة المحللين للبيانات. (¬4) انظر، إسپوزيتو ومجاهد: من يتحدث باسم الإسلام؟ كيف يفكر حقًا مليار مسلم، ص (182). John L. Esposito and Dalia Mogahed: Who Speaks for Islam? What A Billion Muslims Really Think

وحقيقة أعجبتني ملاحظة الدكتور يوسف زيدان حينما قال (¬1): «أؤكد أن العَلْمانية خرافة والفكر العَلْماني غير رشيد وغير فلسفي؛ لأن الدين لا يمكن وجوده في الواقع بعيدًا عن السياسة. ولا يمكن تطوير سياسة واقعية فعلية بعيدًا عن الدين. وقد يعترض أحد بضرب مثل بالغرب المتقدم الذي نجح في فصل الدين عن السياسة. وهو ما أرد عليه بالقول إن الغرب لم يفصل الدين عن السياسة بل فصل المذهبية عن السياسة، والدليل أنه بالنظر لورقة الدولار الأمريكي سنجد عبارة (نثق في الله In God We Trust)، وهناك الكثير من الشواهد الدالة على ارتباط الدين بالسياسة في المنظومة الغربية المعاصرة، فنحن لم نسمع عن رئيس غربي عادى المسيحية أو أعلن انفصاله عنها». وهذا ما أكد عليه الدكتور مصطفى حلمي في عرض حديثه عن الصحوة الدينية في الغرب، فقال (¬2): «وأخذت أستعيد قراءة ما كتبه الدكتور حامد ربيع رحمه الله [1925 - 1989م] (¬3)، الذي درس تاريخ الكنيسة بعناية، وأثبت أن ما زعمه الغرب من الفصل بين الدين والدولة لم يتحقق إلا في العصور الوسطى، ثم لفترة استثنائية أثناء الثورة الفرنسية» اهـ. ولهذا، وكما يقول الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل (¬4): «نجزم أن العَلْمانية عند اليهود وعند النصارى ظاهرة طارئة وعارضة، وهي أيضًا في طريقها إلى الاختفاء والأفول .. وعندها سيتجرد الصراع بشكله العقائدي، بين حق واضح يمثله المسلمون، وباطل صراح يمثله اليهود والنصارى. وستكون (أرض إبراهيم) هي ساحة ذلك الصراع في المستقبل، كما هي الآن في الحاضر، وكما كانت في الماضي البعيد» اهـ. وأذكر أنني حينما سألت الأستاذ فاضل سليمان عن الغرب هل هو عَلْماني أم مسيحي؟ أجابني قائلًا: «الغرب أخذ أسوأ ما في الاثنين: جهل وغباء الملحد مع حقد ¬

(¬1) انظر حواره مع جريدة (المصري اليوم)، عدد الأحد 13/ 12/2009م، ص (12). (¬2) د. مصطفى حلمي: هكذا علمتني الحياة (1/ 41 - 2). (¬3) هو أستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية السابق بجامعة القاهرة. (¬4) د. عبد العزيز مصطفى كامل: حُمَّى سنة 2000، ص (24).

غزوة مانهاتن!

وقسوة المسيحي، وعلينا التعامل معه كما هو، والله المستعان». وبناء على ما تقدم، قد يصح لنا اعتماد قول البعض: «إن الغرب عَلْماني الديانة، مسيحي الهوية، وحيث إنه لا يخشى على هويته إلا من الإسلام فهو لا يتذكر تلك الهوية إلا أمام المسلمين» اهـ. ... غزوة مانهاتن! ما زلنا مع (قضية إنهاء العداوة)، وقد أشرنا إلى أن الحل المطروح كان إحلال الإسلام (المعتدل الديمقراطي) المطابق للمواصفات الأمريكية محل الإسلام (الأصولي، الوهابي، الراديكالي (¬1) ... المتشدد)! ولقد زاد الإلحاح على هذا الحل كرد فعل لتزايد (خطر) انتشار الإسلام، إلى أن بلغ الأمر الذروة بعد أحداث (غزوة مانهاتن)! في الحادي عشر من سپتمبر عام 2001م؛ تلك الأحداث التي تصاعدت على إثرها حدة التصريحات المعادية للإسلام (¬2)، وقد تقدم ذكر أمثلة لهذه التصريحات، أضف إليها ما قاله رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني Silvio Berlusconi أثناء زيارته إلى برلين في 26/ 9/2001م، أي غداة هجمات نيويورك وواشنطن، قال واصفًا العالم الإسلامي أنه «جزء بقي 1400 سنة في المؤخرة» (¬3). وما أقبح ما قاله وزير العدل الأمريكي چون أشكروفت John Ashcroft - عامله الله بعدله - حينها، قال: «إن الله في الإسلام يطالبك بإرسال ابنك ليَقتُل من أجله، أما في المسيحية فالرب يرسل ابنه ليُقتَل من أجلك» (¬4)، تعالى الله عما قال. ¬

(¬1) الراديكالية Radicalism: هي الجذرية (من جذر Radical) أو الأصولية، وتعرف اصطلاحًا بالتطرف في السياسة أو الدين. (¬2) وكما يقول فهمي هويدي: «إن أحداث الحادي عشر من سپتمبر لم تنشئ تلك الصورة المشوهة وإنما ضاعفت فقط من حجم التشوه الكامن في الإدراك الغربي إزاء الإسلام والمسلمين» اهـ[قاله في تقديمه لكتاب: من يتحدث باسم الإسلام؟ لإسپوزيتو ومجاهد، انظر ص (13)]. (¬3) انظر، د. چورچ قُرم: المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين، ص (364). (¬4) انظر، د. سيد حسين العفاني: فرسان النهار من الصحابة الأخيار، المقدمة، ص (274).

ولقد قاد القساوسة الإنجيليون الأمريكيون حملة إعلامية شرسة ضد الإسلام؛ ومثال ذلك تجرؤ چيمي سواجارت Jimmy Swaggart (¬1) على وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بالمنحرف) و (الشاذ جنسيًا)! وذلك في العاشر من نوفمبر عام 2002م. كما وصف قس إنجيلي آخر - وهو چيم باكر Jim Bakker - (¬2) الإسلام بكونه «دينًا سيئًا للغاية وخبيثًا جدًا»، وشن حربًا كلامية عنيفة ضده ملصقًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمة الإرهاب (¬3). وهذا غيض من فيض .. ونحن لن نتوقف لعقد موازنات بين المصالح والمفاسد التي ترتبت على هذه الواقعة، وكفانا قول العامة: «القاعدة دمرت برجين، وأمريكا احتلت بلدين!!»، وكذلك لن نتوقف للبحث وراء الملابسات الغامضة المحيطة بالواقعة، والتي أثارها الصحافي الإنجليزي روبرت فيسك في مقالته المنشورة بجريدة (الإندپندنت) البريطانية تحت عنوان (حتى أنا أسأل عن الحقيقة وراء أحداث 9/ 11) (¬4)، ودعمتها المعلومات المريبة التي ¬

(¬1) والذي اكتُشف تورطه في فضيحة جنسية صدَّرت بها مجلة (تايم) الأمريكية غلافها، في عددها الصادر يوم 6/ 4/1987م. See, Time (www.time.com): Evangelism: TV's Unholy Row, April 6, 1987 (¬2) الذي أدين في جريمة اغتصاب شاع خبرها في مارس عام 1987م [انظر، مقالة التايم السابقة]. يقول چورچ مارسدن: «اتُهم چيم باكر بتصرفات جنسية غير لائقة. وعندما حل چيري فالويل محله بشكل مؤقت في برنامج پي تي إل PTL [التليفزيوني] اكتشف تصرفات مالية كبير، غير سليمة بالمثل، وأدين باكر بها بالفعل. وعندما انحسرت أولًا الفضائح الجنسية، كان أحد أكثر الأصوات علوًا في انتقاد باكر آتيًا من فم خصمه الإيفانجليكي چيمي سواجارت. مع ذلك، وفي خلال العام نفسه، كان سواجارت قد أجبر عن طريق أحد خصومه على الاعتراف بتصرفاته الجنسية غير اللائقة، واضطر باختصار إلى التخلي عن منصبه قبل أن يعود بوجه جديد يطلب المغفرة» اهـ[چورچ مارسدن: كيف نفهم الأصولية الپروتستانتية والإيفانجليكية، ص (102). George M. Marsden: Understanding Fundamentalism and Evangelicalism]. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]. (¬3) انظر، باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (67). (¬4) See, Robert Fisk: Even I question the truth about 9/ 11, The independent (www.independent.co.uk), August 25, 2007

عودة إلى ساحة التنظير السياسي

طرحتها (منظمة واشنطن دي. سي. الأهلية، لكشف حقيقة أحداث 9/ 11)، في نشرتها الصادرة مؤخرًا بعنوان (تسع سنوات من الحرب تأسست على أكذوبة) (¬1)، والتي تبرهن على تدخل يد العمالة في الحادث. فضلًا عن مساعي الپنتاجون التي بذلت للضغط على ضابط الاستخبارات العسكرية الأمريكية، العقيد أنطوني شافر Anthony Shaffer لأجل تعديل بعض الفصول من كتابه (عملية القلب المظلم Operation Dark Heart)، بل وتعاقدها مع دار النشر المعنية (سان مارتن St. Martin's Press) لشراء أول عشرة آلاف نسخة من الكتاب - المطبوعة قبل إجراء التعديلات - والتخلص منها وجعل محتواها طي الكتمان (¬2)، وذلك لذكر شافر فيها أنه من خلال عمله في المشروع الاستخباراتي الأمريكي المسمى (الخطر الماثل Able Danger) المؤسس في مطلع أكتوبر 1999م والمكلف بجمع المعلومات السرية عن نشاط وتحركات تنظيم القاعدة، قد تمكن في عام 2000م من الكشف عن هوية محمد عطا (1968 - 2001م) زعيم خاطفي الطائرات المستخدمة في الهجمات، ولكن تحذيراته لم يُلقَ لها بال! (¬3). سنتغاضى عن هذا كله، ونعود سريعًا إلى ساحة التنظير السياسي الأمريكية .. عودة إلى ساحة التنظير السياسي: فلقد كتب فرانسيس فوكوياما بعد أحداث الحادي عشر من سپتمبر مقالة تحت عنوان (هدفهم: العالم المعاصر Their Target: The Modern World) نشرتها مجلة (نيوزويك Newsweek) في عدد يناير 2002م. ينطلق في أسطره الأولى بقوله: «العدو الحقيقي: أصبح المسلمين المتطرفين المتعصبين ¬

(¬1) See: Nine Years of War Based on a Lie, Washington, D.C. 9/ 11 Truth (www.dc911truth.org) (¬2) See, Scott Shane: Pentagon plan: Buying books to keep secrets, The New York Times (www.nytimes .. com), September 9, 2010 (¬3) See, Catherine Herridge: Exclusive: Pentagon attempts to block book on Afghan war, Fox News (www.foxnews.com), September 10, 2010

لكل خلاف وشقاق، هم (فاشست Fascist) يومنا الحالي، وهذا ما نقاتل ضده». ثم يذكر أنه «في الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة بشن حرب ضد طالبان والقاعدة، تقوم أعداد كبيرة من المسلمين بالتعبئة ضد الولايات المتحدة. والمسلمون بهذا الموقف، قد عبروا عن صراعهم ضد أمريكا، الأمر الذي يكشف من خلال ما جرى أننا نشاهد بداية صراع الحضارات الذي يستمر عقودًا طويلة يقف الغرب فيه ضد الإسلام، صراع ينطلق بعنف من المستنقع الأفغاني ليغمر مناطق عديدة من العالم» (¬1). وبغية التأكيد على صحة ما طرحه في مقالته الأولى (نهاية التاريخ؟)، يعتبر فوكوياما أن ما جرى في الحادي عشر من سپتمبر لم يؤثر على الذروة في الديمقراطية الليبرلية المعاصرة؛ فإنه يعتقد صحة فرضياته، وأنها ستبقى صحيحة، لأن (العصرنة)، كما تمثلها الولايات المتحدة و [الدول] الديمقراطية المتقدمة الأخرى ستبقى القوة المهيمنة في عالم السياسة، فيما ستستمر القوانين المتضمنة مبادئ الغرب الأساسية في الحرية والمساواة بالانتشار حول العالم. وأيًا كان الأمر، فإن هجمات 11 سپتمبر تمثل تراجعًا يائسًا تجاه العالم المعاصر، الذي يبدو أنه سيكون بمثابة قطار شحن سريع بالنسبة لأولئك الذين لا يرغبون الركوب فيه (¬2). ويختتم فوكوياما مقالته بقوله: «إن الصراع الدائر بين الديمقراطية الليبرالية الغربية والإسلامية الفاشية ليس صراعًا متكافئًا بين نظامين حضاريين قابلين للتطور، فكلاهما يتمكن من إخضاع العلم والثقافة لأغراضه، ويحصل على الثروة، ويتعامل مع الواقع المتباين للعالم المعاصر. وفي جميع هذه النواحي، فإن العادات الغربية تحتفظ بكل الأوراق. لهذا السبب سنواصل الانتشار عبر العالم في المدى البعيد. ولكن إلى أن نصل إلى هذا المدى البعيد، لا بد وأن نحافظ على وجودنا من خلال الإرادة على القتال من أجل القيم التي تجعل الحصول على المجتمعات الديمقراطية الحديثة أمرًا ممكنًا» اهـ (¬3). ¬

(¬1) انظر، د. ناظم الجاسور: تأثير الخلافات الأمريكية-الأوروپية على قضايا الأمة العربية، ص (269). (¬2) انظر السابق، ص (270). (¬3) انظر السابق، ص (272).

أوربان الأمريكي يعلن حربا صليبية جديدة

وإذا كانت هذه المقالة، على الرغم من أنها تحتوي بعض الأفكار التي تؤيد نظرية صراع الحضارات لهنتنجتون، تتمسك بالديمقراطية الليبرالية التي لا تزال هي المحرك الرئيس للسياسات العالمية، فإن فوكوياما في المقابلة التي أجراها معه محمد السطوحي ونشرتها مجلة (الكتب: وجهات نظر) في عدد مارس 2002م، بعنوان (فوكوياما يتحدث إليّ: عن الإسلام والأصولية والحداثة)، يبدو أنه ما زال مصرًا على أن الديمقراطية الليبرالية لا يمكن أن تتعايش مع (الإسلام الراديكالي)، أو أن توفِّق بينهما. فهو يرى أن هذا العالم ليس فيه مكان إلا للديمقراطية الليبرالية، وإذا سادت الراديكالية الإسلامية، فإنها ستكون نهاية (نهاية التاريخ)! (¬1). أوربان الأمريكي يعلن حربًا صليبية جديدة: ولقد وفرت أحداث الحادي عشر من سپتمبر المناخ الملائم للمضي في هذه الاستراتيچية الليبرالية في الجزء (التاريخي) من العالم الذي يفتقر إلى الحس الديمقراطي (¬2)، ومن الواضح جدًا أن المبدأ المختار للمضي في هذه الاستراتيچية كان مبدأ المخرِّب الإيطالي نيكولو مكيافيللي (1469 - 1527م)، القائل (¬3): «الحرية لا تنال إلا بسفك الدماء»! فلقد كانت الأحداث بمثابة الشرارة التي أشعلت نار «الحرب الصليبية» الجديدة كما تواتر على لسان قائدها، (المؤيد بالله)! (¬4)، چورچ بوش (الابن)؛ فبميل أمريكي معهود إلى المبالغة المفرطة في تقويم الأخطار، نصب بوش نفسه حامي حمى السلام العالمي في عصر فردوس ما بعد الحداثة! ومتذرعًا بصد خطر ¬

(¬1) انظر السابق، ص (274)، وانظر نص المقال على موقع المجلة: www.weghatnazar.com (¬2) انظر، محمد النقيد: نظرية نهاية التاريخ، ص (103). (¬3) نيكولو مكيافيللي: الأمير، ص (85). Niccolo Machiavelli: Il Principe (¬4) تقول باربرا فيكتور: «كلما اقتربت انتخابات 2004م، ظل چورچ دبليو بوش يؤكد بأن الله قد أخبره مباشرة بأنه هو الأثير عند جلاله لرئاسة الولايات المتحدة، فقد صرَّح في ديسمبر 2003م: "لقد اختارني الله لكي أكمل هذه المهمة للأمريكيين جميعًا، ديمقراطيين كانوا أم جمهوريين، مسيحيين كانوا أم يهود، في المحصِّلة أنا في عُهدة جلاله"» اهـ[باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (300)].

الإرهاب، أعلن عن مبادئ حربه (الاستباقية/الوقائية) Preemptive War، وذلك في خطابه الذي ألقاه في يونيو 2002 أمام الكليات الحربية، حيث شدد على أن «مبادئ الحرب الباردة القائمة على الردع والاحتواء لم تعد كافية للولايات المتحدة، وإنما من الآن فصاعدًا، يجب أن ننقل المعركة إلى أرض العدو، ونجهض خططه، ونواجه أسوأ التهديدات قبل أن تظهر، وبمعنى آخر شن الحرب ضد الدول الأخرى وبشكل وقائي» (¬1). ومتقمصًا لشخص أوربان الثاني، وبنظرة أكثر أحادية إلى باقي العالم، صرح مرارًا أنه «في حرب الخير ضد الشر التي نخوضها، إما أن تكونوا معنا، وإما أن تكونوا ضدنا»، كما أكد: «أننا نحن - أمريكا - لن يمكننا الانتهاء من تلك الحرب مع الإرهابيين، ما لم تنشر هذه الأمة المباركة الحرية التي أرادها الله في البلدان الأخرى، وبالقوة إن دعت الحاجة» (¬2). واستطاعت هذه الحرب أن تضُم تحت رايتها كلًا من: المتدينين، دفاعًا عن تراثهم اليهودي-المسيحي المشترك، والعَلْمانيين، دفاعًا عن قوميتهم وثقافتهم المهددة بالانهيار، عاملين بمبدأ (حساء الدجاجة) القائل: «إن لم ينفع فهو لا يضُر»! ولكن يطرح روربت كيجن سؤالًا مهمًا حول هذا (المبدأ الاستباقي)، فيقول (¬3): «ما الذي يوجب على الأمريكيين المحميين بمحيطين أن يكونوا أكثر قلقًا من حريق يندلع في شبه القارة الآسيوية أو في الشرق الأوسط أو في روسيا، من الأوروپيين، الأقرب كثيرًا؟»، ثم يجيب قائلًا: «يكمن الجواب في أن الأمريكيين يعلمون أن تفجر الأزمات الدولية يجعلهم أوائل المرشحين المحتملين للتورط، وهذه حقيقة معلومة أيضًا لدى الأوروپيين». ويضرب كيجن مثالًا بارعًا لتفسير هذه الظاهرة، فيقول (¬4): «ليست السيكولوچيَّتان ¬

(¬1) انظر، د. ناظم الجاسور: تأثير الخلافات الأمريكية-الأوروپية على قضايا الأمة العربية، ص (78) .. (¬2) انظر، باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (36). (¬3) روبرت كيجن: عن الفردوس والقوة، ص (42 - 3). (¬4) السابق، ص (38).

المتباينتان للقوة والضعف من الأمور العصية على الفهم، إنهما شديدتا البساطة؛ فأي رجل مسلح بسكين قد يقرر أن ظهور دب في الغابة خطر يمكن أن يطاق، بمقدار ما يكون البديل - اصطياد الدب بالسكين فقط - أكثر خطورة، بالفعل، من القعود دون حركة وعَقد الأمل على أن الدب لن يهاجمك قَط. إلا أن الرجل نفسه يبادر، إذا كان مسلحًا ببندقية، إلى إجراء حساب مختلف لما تعنيه المخاطرة القابلة للتحمل. ما الذي يجعله يخاطر بالتعرض للهَرس حتى الموت إذا لم يكن مضطرًا؟». قلت: وكما ارتضت أمريكا لنفسها أن تؤدي دور الشرطي، وسلَّمت لها أوروپابذلك، فإنه كما يقال: «الشرطة في خدمة الشعب»!! وما لا شك فيه أن الإدارة الأمريكية استغلت الأحداث لأقصى درجة من أجل تحقيق أغراضها - المبيَّتة - في المنطقة، فكما يقول كيجن (¬1): «حين أطلقت إدارة بوش استراتيچيتها الجديدة للأمن القومي في سپتمبر من السنة الماضية (2001م) أُصيب عدد كبير من الأوروپيين ومعهم بعض الأمريكيين بذهول عظيم من مدى اتساع طموح الاستراتيچية الأمريكية. اعتُبرت الاستراتيچية الجديدة ردًا على الحادي عشر من سپتمبر، ولعلها كانت كذلك في أذهان من كتبوها. غير أن المدهش في الوثيقة هو أن استراتيچية إدارة بوش (الجديدة) لم تكن - فيما عدى إشارات قليلة إلى فكرة (الاستباق)، وهي ذاتها بعيدة عن أن تكون مفهومًا جديدًا - سوى إعادة طرح سلسلة طويلة من السياسات والخطط الأمريكية، وكثرة منها تعود إلى ما قبل نصف قرن من الزمن» اهـ. وعلى الرغم من أن الأوروپيين والولايات المتحدة ينتميان إلى العالم الغربي حيث القيم المشتركة، فهناك خلافات على المصالح التي تباعد ما بين الطريفين، ولكن ليس هناك من خلافات عميقة بين الشعوب الأوروپية والشعب الأمريكي، حيث إن التضامن الذي ظهر يوم 11 سپتمبر، متمثلًا في قولهم: اليوم نحن كلنا أمريكيون! قد عبر عن ذلك. ولكن أيضًا هذا الشعور بالتضامن الذي جاء من أعلى المستويات السياسية الأوروپية، لا يخفي بالتأكيد، الرغبة القوية لدى الأوروپيين في احتلال الموقع السياسي ¬

(¬1) السابق، ص (106).

حرب العراق

الدولي الذي يتناسب مع حجمهم، وإحلال التعددية القطبية محل الأحادية الأمريكية المنفردة. إلا أن التحالف مع الولايات المتحدة أمر لا غبار عليه، ولا يمكن التنصل منه. ولكن ما تحاول الولايات المتحدة القيام به في تهميش الدور الأوروپي وإزاحته من كثير من المواقع الحساسة في العالم، وبخاصة الشرق الأوسط، دفع الأوروپيين إلى البحث عن الفرص التي من خلالها يحافظون على مصالحهم ومواقعهم الاستراتيچية، للتعويض عما فقدوه بسبب المنافسة الأمريكية (¬1). وخلاصة القول في هذا التباين (الأوروپي-الأمريكي) في ردود الأفعال هو ما لخصه روبرت كيجن في قوله (¬2): «وكما قال بعض الأوروپيين، فإن تقسيم العمل الحقيقي جاء متمثلًا بتولي الولايات المتحدة مهمة (إعداد وجبة الطعام) واضطلاع الأوروپيين بوظيفة (ترتيب الأطباق وتنظيفها)» اهـ. ... حرب العراق: شنت أمريكا وحلفاؤها الحرب الوقائية على ما سمته بمعاقل الإرهابيين؛ فبدأت بأفغانستان، ثم غرتها الهزيمة السريعة لحكومة طالبان لإعلان حربها على العراق، والتي بدأت في 20 مارس 2003م (¬3)، وقد خلق مسوغاتها بوش الابن وحاشيته بناء على مصالح سياسية مبيتة كما تقدم. ¬

(¬1) د. ناظم الجاسور: تأثير الخلافات الأمريكية-الأوروپية على قضايا الأمة العربية، ص (255) بتصرف. (¬2) روبرت كيجن: عن الفردوس والقوة، ص (29). (¬3) وقد أعلن أوباما رسميًا بعد نحو سبع سنوات، في 31/ 8/2010م، انتهاء عمليات القوات الأمريكية القتالية لـ (تحرير العراق)، مخلفة - كما أعلنت الأمم المتحدة - أكبر كارثة إنسانية عرفها الشرق الأوسط منذ عام 1948م، ملقية بالشعب العراقي في أحضان إيران. وقد تكبدت القوات الأمريكية خلال هذه الحرب ما يزيد عن تريليون (ألف مليار) دولار من الخسائر، مصداقًا لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].

ولقد روى ريتشارد كلارك، المسئول الأول عن دائرة مكافحة الإرهاب الأمريكية وقتها، في كتابه (في مواجهة كل الأعداء) - والذي عده بعض المحللين السياسيين «واحدًا من المسامير التي دقت في نعش الرئيس الأمريكي چورچ بوش الابن» (¬1) - روى تفاصيل هذه اللحظات الحاسمة، فقال (¬2): «وفي وقت لاحق من مساء ذاك اليوم الثاني عشر من سپتمبر خرجت من مركز مؤتمر الفيديو وإذا بي أجد الرئيس بوش وحيدًا في غرفة الحالة يذرع الأرض جيئة وذهابًا، ويبدو أنه يريد أن يفعل شيئًا. وما أن رآني، ورأى بعض فريقي، حتى أغلق باب مركز المؤتمر، وتحدث إلينا قائلًا: "انظروا، أنا أعرف أن عليكم أن تفعلوا أشياء كثيرة ... لكني أريدكم وبالسرعة الممكنة، أن تعودوا لمراجعة كل شيء، أقول كل شيء، انظروا وابحثوا إذا كان صدام قد فعل هذا. حاولوا أن تجدوا إن كان له ضلع في هذا الأمر مهما يكن ... ". وانتابتني دهشة أخرى، لا أُصَدِّق ما أسمع، وقد ظهرت علامات الدهشة على وجهي، وقلت: " ولكن يا سيدي الرئيس، القاعدة هي التي فعلت هذا"، وأجاب الرئيس: "أعلم، أعلم، ولكن ... انظروا وحاولوا أن تعرفوا إذا كان صدام متورطًا. فقط انظروا. أريد أن أعرف إن كان ثمة ضلع له ... ". فقلت: "بكل تأكيد، سوف نفعل ... مرة أخرى"، وأنا أحاول أن أكون شديد الاحترام له، ومستجيبًا لطلبه. وتابعت قولي: "ولكنك تعرف أنَّا بحثنا ونقَّبنا مرات عديدة لنجد دولة راعية لتنظيم القاعدة ولم نجد أية صلة للعراق. هناك دور محدود لإيران، وكذلك پاكستان والسعودية واليمن". فقال الرئيس بشيء من النكد والعصبية: "انظروا في أمر العراق، وصدام". ثم خرج تلاحقه نظرات ليزا جوردون هاجرتي Lisa Gordon-Hagerty (¬3) التي وقفت مذهولة فاغرة الفم"» اهـ. هكذا بدأت الحرب، تلفيقًا لا توثيقًا! ولإضفاء هالة القداسة عليها بررت الإدارة ¬

(¬1) انظر، تقرير بعنوان: ضد كل الأعداء، نشره موقع (الجزيرة. نت)، قسم المعرفة، في 3/ 10/2004م. (¬2) ريتشارد كلارك: في مواجهة جميع الأعداء، من داخل حرب أمريكا على الإرهاب، ص (55 - 6). Richard A. Clarke: Against All Enemies, Inside America's War on Terror (¬3) هي أحد خبراء الأسلحة النووية.

الأمريكية المتصهينة أفعالها انطلاقًا من مذهب العصمة الحرفية للكتاب المقدس، والذي يؤمن به بوش وزبانيته من الإنجيليين؛ «فالقس دافيد بريكنر David Brickner مثلًا يقول: "إننا نعرف أن تدمير بابل، الذي ورد في الإصحاح 18 [من سفر الرؤيا] يعني تدمير العراق"، كما أن القس شارلز داير Charles Dyer، أستاذ اللاهوت في جامعة دالاس، يدَّعي أن إصحاح (أشعياء 13) يشير إلى قيام صدام حسين وإلى غزوه للكويت [2/ 8/1990 - 26/ 2/1991م]، وذلك لإقامة قاعدة للهجوم على إسرائيل". واعتبر القس داير، في تفسيراته لهذه النبوءات، صدام حسين خليفة (نبوخذنصر/بُخْتَنَصَّر) [630 - 562ق. م]، وذلك بسبب عدائه لإسرائيل وبسبب نواياه لإعادة بناء بابل» (¬1). فكان غزو بوش للعراق - في زعمهم - هو تنفيذًا لأوامر الرب، وخطوة تمهيدية لمعركة هرمجدون Armageddon، الرؤية الصهيونية للملحمة! (¬2). تقول باربرا فيكتور (¬3): «يخال للرئيس بوش بأن صراعًا في العراق بالنسبة للولايات المتحدة سيكون له لا إسقاطات چيوسياسية إيجابية فحسب، بل إنه سيكون إيجابيًا في دعم الثمانين مليونًا من المسيحيين الإنجيليين الذين يعتقدون بأن كل حرب ضد الإسلام ليست أي شيء سوى حرب صليبية لتحرير العالم نهائيًا من هذه الآفة. هؤلاء الإنجيليون أنفسهم مقتنعون فضلًا عن ذلك بأن انتصار أمريكا على بلد إسلامي كبير سيفتح أبواب ذلك البلد لمبشرين مسيحيين لهداية أرواح جديدة». ثم تذكر أنه «بعد اندلاع الأعمال الحربية في العراق مباشرة، زار فرانكلين جراهام Franklin Graham [المبشِّر الإنجيلي المعروف] (¬4) هذا البلد ليحمل - على حد زعمه - للشعب العراقي أطعمة وألبسة ¬

(¬1) انظر، محمد السماك: الدين في القرار الأمريكي، ص (52 - 3). (¬2) سيأتي التعريف بها في الفصل التالي. (¬3) باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (69 - 70) باختصار. (¬4) يذكر بوش الابن أنه يدين للقس فرانكلين هذا بالعرفان والجميل؛ ففي 18 إپريل 2003م، قال بوش بمناسبة أداء صلاة الفصح التي ترأسها فرانكلين جراهام: «لقد غرس في قلبي بذور الإيمان فتوقفت عن تعاطي المسكرات واعتنقت المسيحية». أما جراهام نفسه فحمل في هذه المناسبة الدينية على الإسلام، وقال: «إن الفرق بين الإسلام والمسيحية هو الفرق بين الظلام والنور» اهـ[انظر، محمد السماك: الدين في القرار الأمريكي، ص (59)].

فرصة ذهبية

دافئة وأدوية، وكل ذلك برعاية منظمته الخيرية (صُرَّة السامريين Samaritans Purse). قبل مغادرته بقليل، شرح فرانكلين في مقابلة الغرض من رحلته بالعبارات التالية: "عملية تحرير العراق فرصة للمسيح، سنذهب إلى هناك لنمُدّ يدنا للعراقيين ونخلِّصهم. وكمسيحي، أتصرف هكذا باسم المسيح"». وتذكر - فيكتور - كذلك أنه «روى جندي، أبقى اسمه طي الكتمان، بأنه رأى حجاجًا إنجيليين من أتباع جراهام يعرضون الماء العذب على مجموعة من العراقيين ولكن بشرط صريح وهو أن يقبلوا بأن يتعمدوا ويعتنقوا العقيدة المسيحية». و «فيما يتعلق بالانتقادات التي باتت تُسمَع في أمريكا والعالم بأسره بخصوص الصراعات في أفغانستان والعراق، واصل الرئيس بوش ومستشاروه القول بأن الله [تعالى عن ذلك] يقف إلى جانب أمريكا، وبالتالي ليس هناك ما يدعو لمناقشة الغزوات أو تبريرها أو شرحها لأنها التعويض العادل عن الهجمات المرتكبة ضد البلاد. حتى حقيقة أنه لم يتم العثور على أسلحة الدمار الشامل اعتُبِرَت في غير محلها؛ فالأمر الجوهري هو أن الإرادة الإلهية للرب جندت الجنود الأمريكيين لإبادة الإرهابيين وكل أعداء الله والديمقراطية» اهـ (¬1). فرصة ذهبية: كذلك، فلقد جاءت هذه الحرب فرصة ذهبية لنائب الرئيس بوش، ديك تشيني Dick Cheney، وحليفه الوثيق، وزير الدفاع الأمريكي السابق، السفاح دونالد رمسفلد Donald Rumsfeld، لوضع خططهم القديمة - والتي تعود إلى أيام حرب الخليج في 1991م، لخصخصة البيروقراطية العسكرية الأمريكية وتنظيم استخدام القطاع الخاص في شن حروب أمريكا - في إطار التنفيذ .. ¬

(¬1) باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (69).

بلاكووتر والاتحاد الكاثوليكي الپروتستانتي

بلاكووتر والاتحاد الكاثوليكي الپروتستانتي: يقول چيرمي سكاهيل (¬1): «حينما دخلت الدبابات الأمريكية بغداد في مارس 2003م، أتت معها بأكبر جيش من المقاولين الخاصين نُشر في الحروب بإطلاق. وبنهاية مدة رمسفلد في الوزارة، كان ثمة مائة ألف مقاول خاص على الأرض في العراق، بمعدل يكاد يصل 1:1 من جنود الولايات المتحدة الموجودين بالخدمة الميدانية. ومما عمل على إسعاد صناعة الحرب، كان رمسفلد - قبل تركه منصبه - قد اتخذ الخطوة غير المعتادة بتصنيف المقاولين الخاصين على أنهم جزء رسمي من آلة الحرب للولايات المتحدة» اهـ. لقد تسببت الحرب على الإرهاب واحتلال العراق في توالد عشرات الشركات لتصدير الجنود المرتزقة، وكان من أهمها شركة (بلاكووتر يو إس إيه Blackwater USA)، أو (زِي Xe Services LLC) كما صار اسمها .. فصاحب هذه الشركة هو البليونير الأمريكي إريك پرنس Erik D. Prince، والذي ينتمي للتيار اليميني الراديكالي المسيحي، وهو أحد الممولين الرؤساء لحملات انتخاب بوش، وأيضًا لأچندة اليمين المسيحي الصهيوني العريضة (¬2). وشركته بلاكووتر هي شركة تعلن بصرامة أن قواتها فوق القانون (¬3)، بل يتفاخر بعض تنفيذييها بعضويتهم في (أخوية فرسان مالطا العسكرية ذات السيادة)؛ وهي ميليشيا مسيحية صليبية تشكلت في القرن الحادي عشر الميلادي، ومهمتها الدفاع عن الأراضي التي غزاها الصليبيون ضد المسلمين. وتتفاخر هذه الأخوية اليوم بكونها كيانًا ذا سيادة خاضعًا للقانون الدولي، له دستوره الخاص، جوازات سفره، أختامه، مؤسساته العامة، وعلاقات ديپلوماسية مع 94 بلدًا (¬4). ¬

(¬1) چيرمي سكاهيل: بلاكووتر، ظهور أقوى جيش مرتزقة في العالم، ص (21). Jeremy Scahill: Blackwater, The Rise of the World's Most Powerful Mercenary Army (¬2) انظر السابق، ص (23). (¬3) السابق، ص (24). (¬4) السابق، ص (30، 389). وللتوسع انظر، موسوعة ويكيپيدبا، مادة: Knights Hospitaller.

يقول الكاتب روبرت ينج پلتون Robert Young Pelton، وهو من القلة الذين أتيح لهم لقاء إريك پرنس: «إريك يدين بالمذهب الكاثوليكي الروماني، رغم أن الكثيرين يعتقدون أنه يعتنق مذهب والده [الپروتستانتي الكالفاني] ". وحقًا، فإن كثيرين من التنفيذيين الذين شكلوا فيما بعد جوهر شركة بلاكووتر هم أيضًا كاثوليك» (¬1). ويقول چيرمي سكاهيل (¬2): «واسترشادًا منه بتمويل والده لقضايا وأنشطة الپروتستانت الصليبيين اليمينيين، أصبح پرنس ممولًا رئيسًا للمنظمات الكاثوليكية المتطرفة الهامشية ... ولكن بالتأكيد لم يقتصر سخاء إريك پرنس في التبرعات على القضايا الكاثوليكية ... وعلاوة على دعمه للمنظمات الكاثوليكية المتطرفة، استمر پرنس يُسهِم بمبالغ كبيرة من أجل قضايا ومؤسسات الپروتستانتية الصهيونية الصليبية التي دعمها والده». وهذا ليس بأمر مستغرب، خاصة إذا علمنا الآتي .. يقول سكاهيل (¬3): «في خطاب له عام 2002م، امتدح فيه متآمر ووترجيت Watergate السابق شارلز كولسون Charles Colson إريك پرنس، وتحدث كولسون باستفاضة عن الأساس التاريخي والضرورة الراهنة للتحالف السياسي والديني بين الكاثوليك والپروتستانت الصليبيين. تحدث كولسون عن عمله الذي بدأ في منتصف الثمانينات مع رجل الدين الپروتستانتي الصليبي المحافظ الشهير، والذي أصبح قسيسًا كاثوليكيًا، ريتشارد نيوهاوس Richard Newhouse، وآخرين، لإنشاء حركة موحدة. أدى العمل في النهاية إلى صدور الوثيقة الخلافية بعنوان: (الپروتستانت والكاثوليك معًا: المهمة المسيحية في الألفية الثالثة Evangelicals and Catholics Together: The Christian Mission in The Third Millenium). هذه الوثيقة عبرت عن الرؤية التي ستكون الدافع الحيوي لاستراتيچية شركة بلاكووتر والسياسة التي يمارسها إريك پرنس: زواج بين المرجعية التاريخية للكنيسة الكاثوليكية والجاذبية القاعدية للحركة الپروتستانتية ¬

(¬1) انظر، چيرمي سكاهيل: بلاكووتر، ص (48) بتصرف يسير. (¬2) السابق، ص (48 - 9، 55) باختصار. (¬3) السابق، ص (52 - 3) باختصار وتصرف يسير.

الصهيونية الصليبية الحديثة في الولايات المتحدة، ودعم من تعاون المحافظين الجدد ذوي الغالبية العَلْمانية واليهودية ... أصبحت تلك الوثيقة هي بيان الحركة التي سرعان ما خدمها ومولها إريك پرنس. أعلنت أن "القرن الذي يقترب من نهايته كان أعظم قرن للتوسع التبشيري في التاريخ المسيحي. ندعو الله، ونؤمن بأن هذا التوسع قد مهد الطريق لجهود تبشيرية أعظم في القرن الأول للألفية الثالثة. إن الجماعتين الأكثر فعالية تبشيريًا والأكثر تناميًا، بأسلوب مسرع، هما الپروتستانت الصليبيون والكاثوليك". ودعا الموقعون إلى التوحد بين هذين الدينين في هدف تبشيري مشترك "كي يأتي الناس أجمعون إلى الإيمان بيسوع المسيح كربٍّ ومخلِّص". واعترفت الوثيقة بالفصل بين الدين والدولة، لكنها احتجت بقوة على "تشويه ذلك المبدأ بدرجة أصبح معها يعني فصل الدين عن الحياة العامة ... "». ثم يقول (¬1): «لم تكن تلك مجرد وثيقة فلسفية، الأحرى أنها كانت تصورًا لأچندة هي صورة طبق الأصل من أچندة إدارة بوش التي تبدت بعد ذلك ببضع سنوات، حينما عمل نيوهاوس مستشارًا لصيقًا ببوش، ابتداءً من حملته الانتخابية عام 2000م». وانتهت الوثيقة المستطالة إلى أنه «بعد حوالي ألفي سنة منذ بداية رسالة المسيح، وبعد حوالي خمسمائة عام من انقسامات عصر الإصلاح الديني، فإن رسالة المسيحية إلى العالم نابضة حية وجازمة. لا نعلم، ولا يمكننا أن نعلم، ما يدخره رب التاريخ للألفية الثالثة. من المحتمل أن تكون ربيع بعثات التبشير العالمية، وتوسع المسيحية الهائل. لكننا نعلم يقينًا أن هذا وقت اغتنام الفرص - وإذا كان وقتًا للفرص فهو وقت للمسئولية - وقت للمسيحيين الصليبيين الصهيونيين والكاثوليك أن يتحدوا بأسلوب يساعد على إعداد العالم لمجيئه، هذا الذي يملك المملكة، السلطة والمجد إلى أبد الآبدين، آمين» (¬2). وكما تصور پرنس نفسه، دور مرتزقته، «الجميع يحملون السلاح، تمامًا مثل إرميا ¬

(¬1) السابق، ص (53). (¬2) السابق، ص (54).

تعديل في المسار

وهو يعيد بناء المعبد في إسرائيل، سيف في يد وسكينة المحارة في اليد الأخرى» اهـ (¬1). ... تعديل في المسار: نعود مجددًا إلى (قضية إنهاء العداوة)!! وقد تقدم بنا قول فرانسيس فوكوياما من «استحالة التعايش بين الديمقراطية الليبرالية والإسلام الراديكالي» كما يصفه هو (¬2)، كما تقدم حصر صامويل هنتنجتون للقضية في قوله: «إن المشكلة الأساسية التي يعاني منها الغرب هي ليست الأصولية الإسلامية المتطرفة، بل إنها الإسلام نفسه» (¬3). ما الحل إذن؟ هل من سبيل للتعايش؟ أم هو التسليم للواقع، وإعلان نهاية (نهاية التاريخ)؟! قديمًا، وفي مقالة له بعنوان (إعادة النظر في دراسات المناطق)، قال المستشرق الاسكتلندي هاميلتون چبّ H. A. R. Gibb (1895 - 1971 م): «إنه لا ينبغي اعتبار الدراسات الشرقية أنشطة علمية بقدر ما تعتبر أدوات في أيدي السياسات القومية تجاه الأمم التي حصلت حديثًا على استقلالها وربما يصعب التعامل معها في عالم ما بعد الاستعمار» اهـ (¬4). معلوم، كما تقدم، أن الاستشراق طالما كان أداة في أيدي القوى الاستعمارية الغربية؛ فهو - كما يصفه إدوارد سعيد - «يكتسب قوة تؤثر في ثلاث جهات: في الشرق، وفي المستشرق، وفي (المستهلك) الغربي للاستشراق» (¬5)، بل ومن أهم أهدافه ¬

(¬1) السابق، ص (55). (¬2) انظر حواره مع محمد السطوحي المنشور في مجلة (الكتب: وجهات نظر)، عدد مارس 2002م، بعنوان (فوكوياما يتحدث إليّ: عن الإسلام والأصولية والحداثة). (¬3) صامويل هنتنجتون: صراع الحضارات، ص (308). (¬4) انظر، إدوارد سعيد: الاستشراق، ص (422 - 3). (¬5) السابق، ص (134).

«تطويع الشرق حتى يلائم المقتضيات الأخلاقية للمسيحية الغربية» (¬1). وهذا لا يمنع أنه في أحد مستوياته له أهداف علمية خالصة لا يقصد منها إلا البحث والتمحيص، ولكن أتباع هذا المنهج، كما يذكر الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى (¬2): «قليل عددهم جدًا، وهم مع إخلاصهم في البحث والدراسة لا يسلمون من الأخطاء والاستنتاجات البعيدة عن الحق». لكن الذي يعنينا في قول چبّ المتقدم هو إشارته إلى «الأمم التي حصلت حديثًا على استقلالها وربما يصعب التعامل معها في عالم ما بعد الاستعمار»، وهو تعبير غير دقيق في ذاته؛ فهو عالم ما زال مستعمرًا بالفعل، ولكن يرتدي الاستعمار فيه ثوبًا فكريًا-اقتصاديًا من طراز جديد! (¬3)، ولكنا لو سلمنا جدلًا لقوله نجد أن تخوفه يكمن في أن تحرر الأمم من هيمنة الاستعمار العسكري السافر قد يؤدي بها تلقائيًا إلى عودة الالتفاف حول ثقافاتها التي هي نبع هوياتها، والتي عادة ما تكون هوية دينية لا غير، كما تقدم قول محمود شاكر رحمه الله بأن «رأس كل ثقافة هو الدين بمعناه العام» (¬4). وحتى مع إبقاء هذه الهيمنة العسكرية عندما تقتضي الحاجة، فكما يذكر چون إسپوزيتو وداليا مجاهد أنه «قد لاحظ الخبراء العسكريون أن القوات العسكرية يمكن أن تأسر وتقتل الإرهابيين، ولكنها ليست مؤهلة لكسب النضال في سبيل العقول والقلوب» (¬5)، وهذا هو الصالح الأعم. ونحن حينما نركز الحديث عن أمتنا الإسلامية نجد أنه وفق الرؤية (الاستعمارية) العولمية الجديدة، بثقافتها (الإنسانية) المشبوهة، نجد استحالة تعايش الإسلام مع غيره على الوجه المراد له، إلا إذا هدم أصله (الولاء والبراء). ولا يُتصور في قارئ هذه السطور ظنه في كاتبها إنكاره وجود تسامح ديني أو إمكانية للتعايش السلمي مع الغير في ¬

(¬1) السابق. (¬2) د. مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون، ما لهم وما عليهم، ص (32). (¬3) وقد تقدم بنا قول هنتنجتون حول الهيمنة الأمريكية مع مطلع أربعينيات القرن الماضي. (¬4) محمود شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص (31). (¬5) إسپوزيتو ومجاهد: من يتحدث باسم الإسلام؟، ص (190 - 1).

حرب الأفكار: معركة القلوب والعقول

دين الله الحق، فهذا لا يصح، ومن يقرأ التاريخ يدرك حقيقة الأمر، وقد تناولنا هذه المسألة في الفصل السابق .. إذن، فوفق تصوُّر چبّ وملاحظة الخبراء العسكريين، لا بد من إجراء بعض التعديل المرحلي في المسار الاستشراقي، مع إبقاء العمل بالمسار الاستعماري التقليدي حسبما تقتضي الحاجة، كما هو حادث في العراق وغيرها، وذلك من باب إبقاء الهيمنة الغربية وإحكام القبضة على العالم الإسلامي وثرواته. حرب الأفكار: معركة القلوب والعقول: وهذا التعديل في المسار تتكشَّف معالمه في عدة أمور، ولعل من أوضح ما وقفت عليه رسالة أرسل بها عضو الكونجرس الأمريكي توم لانتوس Tom Lantos (1928 - 2008 م) إلى وزير الخارجية السابق كولين پاول Colin Powell في عام 2002م، حيث عرَّف هذا المسار الجديد بـ «معركة القلوب والعقول Fight for Hearts and Minds الطويلة الأمد في الحرب العالمية ضد الإرهاب» (¬1). كذا عرَّفه دونالد رمسفلد في حواره مع جريدة (واشنطن تايمز Washington Times) في يوم الجمعة 24 أكتوبر 2003م، بكونه «حرب أفكار War of Ideas» .. لم يكن هذا المسلك بالأمر المبتدع؛ فلقد سلكته الولايات المتحدة قبل ذلك في حربها الباردة ضد الشيوعية السوفيتية، وكما يذكر توم لانتوس في رسالته المتقدمة أن هذا المسلك كان «عاملًا رئيسًا في تقويض الاتحاد السوفيتي من الداخل». إذن فهي طريقة مجرَّبة وفعالة! ولكن هناك فرق؛ فالسوفيت، كما يذكر الصحافي الأمريكي توماس فريدمان، «كانوا يحبون الحياة أكثر من كرههم لنا، وبغض النظر عن الخلافات بيننا، كنا نتفق على قواعد أساسية للحضارة»، أما مع التيار الأصولي الإسلامي، فـ «نحن نواجه ¬

(¬1) See, Cheryl Benard: Civil Democratic Islam: Partners, Resources, and Strategies, p(66)

شيريل بينارد و (الإسلام المدني الديمقراطي)

قومًا يكرهوننا أكثر من حبهم للحياة» (¬1). ولذا، فإن خوض هذه المعركة مع العالم الإسلامي ربما يحتاج إلى إجراء بعض (التكتيكات) الخاصة! شيريل بينارد و (الإسلام المدني الديمقراطي): ولعل من أبرز من تصدر لوضع هذه التكتيكات هي الباحثة شيريل بينارد، وهي ناشطة تابعة لمؤسسة راند RAND الأمريكية للأبحاث (¬2)، حيث تدير قسم (المبادرة من أجل شباب الشرق الأوسط Initiative for Middle Eastern Youth IMEY)، وهي كذلك زوجة الأمريكي الأفغاني الأصل زلماي خليلزاد Zalmay M. Khalilzad، سفير أمريكا لدى الأمم المتحدة United Nations UN، وهو أحد أهم أركان اليمين المتطرف، ومشارك رئيس في وضع خطة الحرب الأخيرة على العراق. ¬

(¬1) Thomas L. Friedman: War of Ideas (part 1), The New York Times, January 8, 2004 (¬2) تعتبر مؤسسة راند هي أكبر مركز فكري في العالم، ومقرها الرئيس في ولاية كاليفورنيا الأمريكية. وتقوم مؤسسة راند، الذي اشتق اسمها من اختصار كلمتي (البحث والتطوير Research and Development)، بجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات، ومن ثم تحليلها وإعداد التقارير والأبحاث التي تركز على قضايا الأمن القومي الأمريكي في الداخل والخارج. يعمل في المؤسسة ما يقارب من 1600 باحث وموظف يحمل غالبيتهم شهادات أكاديمية عالية، وميزانيتها السنوية تتراوح بين 100 - 150 مليون دولار أمريكي. وتعتبر راند أحد المؤسسات الفكرية المؤثرة بشكل كبير على المؤسسة الحاكمة في أمريكا، وهي تدعم توجهات التيار المتشدد في وزارة الدفاع وتتولى الوزارة دعم كثير من مشروعاتها وتمويلها، كما ترتبط بعلاقات ومشروعات بحثية مع وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي. وتصب كثير من الدراسات والبحوث الصادرة عن هذه المؤسسة في خانة أنصار مواجهة الإسلام والمسلمين، وأسهمت المؤسسة في رسم خطة الحرب الأخيرة على الإرهاب. وتتميز مؤسسة راند عن غيرها من المؤسسات الفكرية والبحثية الأمريكية بوجود فرع نشيط لها في منطقة الشرق الأوسط (دولة قطر)، وهو ما يعطي لدراسات مؤسسة راند من وجهة نظر صانع القرار الأمريكي مصداقية ودرجة أعلى من الثقة في قيمة ما تصدره من توصيات ومقترحات. وقد شهدت الأعوام الماضية تحول العديد من التوصيات التي صدرت في تقارير راند السابقة إلى خطط وسياسات عملية اتبعتها الإدارة الأمريكية في التعامل مع المنطقة. [انظر، د. باسم خفاجي: قراءة في تقرير راند 2007، ص (9 - 11)] ..

ففي عام 2003م، صدر عن مؤسسة راند دراسة تحليلية لبينارد تحمل عنوان: (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيچيات Civil Democratic Islam: Partners, Resources, and Strategies)، قامت فيها بوضع الخطوط العريضة التي قامت عليها حرب الأفكار، أو حرب القلوب والعقول، مع العالم الإسلامي المعاصر. ولو استعرضنا أهم ما جاء في هذه الدراسة، نجد أن بينارد قامت ابتداءً بتقسيم المسلمين المعاصرين إلى أربعة أصناف، تبعًا لموقفهم تجاه عدد من القضايا الشائكة المختلف فيها؛ فقسمت المسلمين إلى: - أصوليين Fundamentalists. - وتقليديين Traditionalists. - وعصرانيين Modernists. - وعَلْمانيين Secularists. وكل منهم من الممكن أن يلتقي مع الذي يليه في المرتبة على قدر موقفه من بعض هذه القضايا أو كلها. فهذا التقسيم أشبه - على حد وصفها - بالطَيْف Spectrum (¬1) . ثم تذكر بينارد أن المشكلة تكمن أساسًا في الأصوليين، فهؤلاء مرجعيتهم «ليست الدولة أو الوطن أو الجماعة الإثنية Ethnic [أي العرقية]، ولكنها المجتمع الإسلامي، الأُمَّة The Ummah وذلك مع اعترافها بأن «ليس كل الأصوليين يعتنقون أو حتى يقرون بالإرهاب، على الأقل الإرهاب غير المُمَيِّز Indiscriminate Type of Terrorism، الذي يستهدف المدنيين، وأحيانًا يقتل المسلمين جُملةً مع العدو» (¬2). ولكن الفكر الأصولي المنتشر لا يتوافق - في نظرها - مع روح المجتمع العصري، فتقول (¬3): «المجتمع الديمقراطي العصري لن يؤيد قوانين الشريعة ... العصرانية لا ¬

(¬1) Cheryl Benard: Civil Democratic Islam: Partners, Resources, and Strategies, p(iii) (¬2) ibid., p(4) (¬3) ibid., p(33)

تتوافق مع تطبيق عقوبة الموت أو الرجم للزناة، أو قطع الأطراف كعقوبة مقبولة. إنها كذلك لن تتوافق مع التفرقة الجبرية بين الجنسين، والتمييز الصريح المبالغ فيه ضد المرأة في قوانين الأسرة، كذلك القضاء الجنائي، والحياة العامة والسياسية». ولذا فهي تنصح بـ «تجنب زيادة أسلمة Over-Islamizing المسلمين، ولكن تعويدهم على فكرة أن الإسلام من الممكن أن يكون مجرد جزء من هويتهم» (¬1). وتضرب مثالًا مضللًا بدولة إيران، وبحكومتها ذات المرجعية الدينية، وتقيس عليه قياسًا فاسدًا؛ فتذكر أنه على الرغم من وجود هذه المرجعية فينتشر بين شبابها الزنا والخمر والمخدرات ... ثم تقول (¬2): «النموذج الإيراني يقدم لنا تجربة بسيطة تبرهن على إبطال دعوى أن المشكلة تكمن في الحرية الموجودة في النظام الديمقراطي الغربي، والتطبيق القهري للإسلام هو خير إجابة على ذلك. إن نموذج فشل الحكومة الإسلامية في إيران لا بد من نشره على نطاق واسع، إذ إن هذه الحقائق ليست معلومة جيدًا للجماهير المسلمة الذين يميلون إلى الرأي القائل بأن الشريعة تحول دون وقوع الجريمة، وأن التطبيق الصارم للإسلام والشريعة سيقوم بحل مشاكل المجتمع». ثم تقدم شيريل بينارد الحل، والذي - لا ريب - لا يكمن في دعم الأصوليين، فـ «إن دعم الأصوليين ليس هو الصواب، إلا لاعتبارات تكتيكية وقتية» (¬3)، ولكن الحل يكمن - في رأيها - في دعم الرؤية العصرانية الإسلامية، تقول (¬4): «إن الرؤية العصرانية تتوافق مع رؤيتنا. من ضمن كل المجموعات، تلك هي أكثر مجموعة متجانسة مع قيم وروح المجتمع الديمقراطي العصري». وتضع بينارد خطة عملية للقضاء على خطر الأصولية الإسلامية، والتي نلخص بعضها في النقاط التالية: ¬

(¬1) ibid., p(61) (¬2) ibid., p(27) (¬3) ibid., p(x) (¬4) ibid., p(37)

دعم العصرانيين أولًا: وذلك عن طريق: - نشر وتوزيع كتاباتهم بأسعار مخفضة. - تشجيعهم على الكتابة لقطاع واسع من الجماهير وخاصة الشباب. - بث أفكارهم في المناهج الدراسية الإسلامية. - جعل آرائهم في المسائل الأصولية للتفسير الديني منافسة لآراء الأصوليين والتقليديين. - عرض العَلْمانية والعصرانية كثقافة معارضة أو بديلة Counterculture للأصولية الإسلامية للشباب المسلم غير المتأثر بها. - تيسير وتشجيع المعرفة بالثقافة والتاريخ الـ (ما قبل) و (غير) الإسلامي، وذلك عن طريق وسائل الإعلام والمناهج الدراسية في البلاد الإسلامية. ثانيًا: مواجهة الأصوليين: وذلك عن طريق: - الطعن في تفسيرات الأصوليين للإسلام والتشكيك في صحتها. - إثبات عدم قدرتهم على قيادة البلاد والمجتمعات للوصول إلى تطورات إيجابية. - تضخيم حجم الخلافات والانقسامات بين الأصوليين. - تشجيع الآراء والفتاوى ذات المرجعية الحنفية (ذات الميول العصرانية على حد قولها) على الانتشار، وذلك لإضعاف نفوذ الآراء والفتاوى ذات المرجعية (الوهابية/الحنبلية). - ترويج التصوف الإسلامي (¬1). - تشجيع الصحافيين العرب في وسائل الإعلام الرائجة على إعداد تقارير عن الحياة الشخصية والفساد الأخلاقي للقادة الأصوليين، ونشر الحوادث التي يستدل بها على وحشيتهم (¬2). - تكوين جماعة مقاومة أو رافضة للحديث Counterhadith، وكل ذلك من أجل الذين يأملون في إقامة مجتمع أكثر تسامحًا، متساوٍ، وديمقراطي، عن قناعة بأن ¬

(¬1) ibid., p(xi-xii) (¬2) ibid., p(62)

توماس فريدمان و (حرب الأفكار)

التغييرات التي يتطلعون إليها من غير الممكن أن تكون إسلامية (¬1). وثالثًا: دعم العَلْمانيين: وذلك عن طريق: - إحباط تحالفاتهم مع الحركات القومية واليسارية المعادية للولايات المتحدة، وتوجيههم إلى معاداة الأصوليين الإسلاميين باعتبار أنهم هم العدو المشترك. - ترسيخ فكرة أن الدين والدولة من الممكن فصلهما في الإسلام مع التأكيد بأن هذا لا يعرِّض العقيدة للخطر، بل على العكس من ذلك، فإنه يقويها (¬2). وبحكم إدارتها لقسم (المبادرة من أجل شباب الشرق الأوسط)، تقول بينارد (¬3): «نظرًا لصعوبة إقناع الجيل الحالي المتعلق بالحركات الراديكالية الإسلامية بالعدول عن أفكاره، فمن الممكن لنا التأثير على الجيل القادم لو أضفنا رسالة الإسلام الديمقراطي إلى المناهج الدراسية ووسائل الإعلام في البلاد المعنية بالأمر» اهـ. ... توماس فريدمان و (حرب الأفكار): كذلك ممن تصدروا لوضع تكتيكات هذه الحرب الفكرية فيما يتعلق بالعالم الإسلامي هو الصحافي توماس فريدمان؛ ففي الفترة من 8 إلى 25 يناير عام 2004م قام فريدمان بنشر ست مقالات بجريدة (نيويورك تايمز) (¬4)، عنونها بـ (حرب الأفكار)، عرض خلالها رؤيته الخاصة لهذه الحرب .. يقول فريدمان (¬5): «خلال الأسابيع القليلة الماضية، كنت أجتهد لوضع التكتيكات ¬

(¬1) ibid., p(54) (¬2) ibid., p(xii). رحم الله الإمام أبا حامد الغزالي (450 - 505هـ/1058 - 1111م)، قال: «الملك والدين توأمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع» اهـ. [الغزالي: إحياء علوم الدين (1/ 17)]. (¬3) ibid., p(63) (¬4) وذلك في الأعداد الصادرة في 8، 11، 15، 18، 22، 25 يناير 2004م. (¬5) Thomas L. Friedman: War of ideas (part 6), The New York Times, January 25, 2004

أندرو ترنبل و (عملية المنافسة)

التي من الممكن لنا اتخاذها في الغرب من أجل تقوية نفوذ المعتدلين في العالم (العربي/الإسلامي) لخوض حرب الأفكار ضد القوى المتعصبة داخل مجتمعاتهم، حيث الحرب الحقيقة ضد الإرهاب سوف تنتصر أو تخسر». وطرح فريدمان ثلاثة اقتراحات للقضاء على خطر الأصولية الإسلامية، ثم قال (¬1): «... وأهمها هو إيجاد طريقة لجعل المجتمعات التي يعيش فيها هؤلاء الإسلاميون رادعة لهم من جانبها أولًا؛ فهم أكثر معرفة بهم، وهم القادرون على قمع متطرفيهم ... وما نستطيع فعله هو مشاركة التيارات المعتدلة في هذه المجتمعات من أجل مساعدتهم على خوض حرب الأفكار، لأن ذلك في المقام الأول صراع داخل العالم (العربي/الإسلامي)، ونحن يجب علينا مساعدة حلفائنا هناك، تمامًا كما فعلنا في الحرب العالمية الأولى والثانية». وكان مما نصح به كذلك (¬2): «إذا كنا نريد مساعدة المعتدلين للانتصار في حرب الأفكار في العالم الإسلامي، فيجب علينا دعم تركيا كنموذج للديمقراطية والعصرانية» اهـ. ... أندرو ترنبُل و (عملية المنافسة): انتقلت قوانين هذه الحرب إلى أوروپا، وسرعان ما وضعت في إطار التنفيذ، خاصة بعد تفجيرات مدريد في 11 مارس 2004م، وكذلك بعد اكتشاف أعداد كبيرة من المتفجرات غربي لندن، إذ بعدها كلَّف مجلس الوزراء البريطاني سكرتيره أندرو ترْنبُلّ Andrew Turnbull بوضع خطة لاقتلاع جذور الإرهاب الإسلامي من بريطانيا. وانتهى ترْنبُلّ في مايو 2004م من وضع خطة في أكثر من مائة صفحة، ووضع لها اسمًا رمزيًّا Codename وهو (عملية المنافسة Operation Contest)، والتي وصفها المسئولون بأنها (الأطول أمدًا في حرب الحكومة على الإرهاب The longer- ¬

(¬1) ibid., (part 1), January 8, 2004 (¬2) ibid., (part 2), January 11, 2004

أنچل راباسا و (بناء شبكات إسلامية معتدلة)

term phase of the government's war on terrorism). تسربت هذه الوثائق إلى صحيفة (صنداي تايمز) الإنجليزية ونشرها الصحافيان روبرت وينيت ودافيد ليپارد في عدد 30 مايو 2004م تحت عنوان: (خطط بريطانيا السرية للفوز بقلوب المسلمين وعقولهم) (¬1). وكان أكثر ما جذب انتباهي في هذه الوثائق هو ما صرحت به قائلة ما نصه: «نحن في حاجة لإيجاد الطرق لتقوية جانب القادة المسلمين المعتدلين، بما فيهم الشباب المسلم ذوو الاحتمالية القيادية في المستقبل». علمًا بأن الاعتدال في نظرهم هو ما بينه الصحافيان السالفان الذكر بأسلوب أوضح في مقالة أخرى نشرتها الجريدة ذاتها في عدد 10 يوليو 2005م تحت عنوان (عملية المنافسة Operation Contest)، حيث قالا ما نصه: «إن الهدف من وراء (عملية المنافسة) هو إقناع قلوب وعقول المسلمين بسياسة لا تشتمل مبادئها على الدين كعنصر للتمييز Policy initiatives including anti-religious discrimination laws» اهـ. ... أنچل راباسا و (بناء شبكات إسلامية معتدلة): أخيرًا وليس آخرًا، ففي 26 مارس 2007م، أصدر مركز راند للأبحاث تقريرًا متممًا لسلسلة التقارير التي أصدرها لتحديد الأطر الفكرية للمواجهة مع العالم الإسلامي في الفترة التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سپتمبر. أعد هذا التقرير أنچل راباسا Angel Rabasa، وهو باحث أكاديمي شغل عددًا من المناصب المهمة في كل من وزارتي الخارجية الأمريكية والدفاع، وله عدد من الكتب والدراسات حول العالم الإسلامي. ¬

(¬1) See, Robert Winnett and David Leppard: Britain's secret plans to win muslim hearts and minds, The Sunday Times, May 30, 2004

واشترك كذلك في إعداد التقرير كل من: شيريل بينارد، ولويل شفارتز Lowell H. Schwartz، وپيتر سيكل Peter Sickle. استغرق إعداد هذا التقرير ثلاثة أعوام كاملة، وقام معدوه بالعديد من الزيارات واللقاءات مع الكثير من المفكرين والإعلاميين في الولايات المتحدة وأوروپاوالعالم الإسلامي من أجل جمع المعلومات، وهذا ما يميز التقرير من الناحية البحثية والأكاديمية. يحمل التقرير اسم (بناء شبكات إسلامية معتدلة Building Moderate Muslim Networks)، وقد رصد الدكتور باسم خفاجي جزاه الله خيرًا هذا التقرير وقدَّم له قراءة تحليلية كبيرة النفع نشرها المركز العربي للدراسات الإنسانية، العدد رقم 4، الصادر في ربيع الآخر من عام 1428هـ/مايو 2007م. نقف هنا على أهم ما جاء فيها - فيما يتعلق بدراستنا - مع العزو إلى النص الأصلي للتقرير الذي حصلنا على نسخة منه. يؤكد التقرير في البداية على فاعلية حرب الأفكار التي تخوضها أمريكا مع العالم الإسلامي، والتي استخدمتها في حربها الباردة ضد الشيوعية، حيث يرى التقرير «أن الطريق الصحيح هو بناء أرضية دولية للمسلمين من أعداء التيار الإسلامي كما تم إيجاد منظمات معادية للشيوعية في غرب أوروپاأثناء الحرب الباردة» (¬1). ويعقد التقرير مقارنة بين بيئة الحرب الباردة وبيئة الشرق الأوسط المعاصر لتوضيح الفروق العملية بين المعركة الفكرية الشيوعية والمواجهة الحالية مع الإسلام (¬2). وكانت المشكلة الفعلية التي تم ملاحظتها، والتي كشفت عن تناقض السياسة الأمريكية وازدواجية معاييرها التي أشار إليها هنتنجتون من قبل، هي أن مساعيها لنشر القيم الديمقراطية الليبرالية في المنطقة قد أفسحت مجال العمل السياسي للتيارات الإسلامية ذات الشعبية الجماهيرية الكبيرة، مما أدى بها إلى الصعود بقوة ومزاحمة التيارات الأخرى المنافسة على الساحة. وهذا ما لا ترضاه الولايات المتحدة كما بيَّنا. ¬

(¬1) Rabasa et al.: Building Moderate Muslim Networks, p(5) (¬2) See ibid., p(xvi)

ولقد أشار راباسا إلى هذه المسألة في تقريره، فكان مما قاله (¬1): «الدعوة إلى الديمقراطية يمكن أن تضعف نفس الدول التي تشكل جزءًا من البنية الأمنية الحالية التي تدعمها الولايات المتحدة في المنطقة» اهـ. أيضًا، يظهر في التقرير عدولًا بعض الشيء عن الرأي القديم الذي قدمته بينارد في تقرير عام 2003م؛ حيث يرفض التقرير بالعموم فكرة التعاون مع الإسلاميين على مختلف توجهاتهم، وحتى العصرانيين منهم، بدعوى أن التيار العصراني المسلم ليس تيارًا تحرريًا، وأن العصرانيين يحملون بداخلهم رؤى ومواقف محافظة، ولذا لا يجب دعمهم أو مساندتهم؛ فإن الدعم سيعطي للإسلاميين المزيد من المصداقية ويساعد في نشر دعوتهم، وتكلفة ذلك باهظة في المستقبل. ولكن في المقابل، يرى التقرير أن عدم دعم أو مساندة الإسلاميين لا يعني عدم الحوار مع المعتدلين منهم، حيث إن الحوار سيكون بنَّاءً في توضيح موقف كلا الطرفين (¬2). كذلك، فعلى الرغم من هذا التحذير الذي احتل عدة مواضع من التقرير، فهو يدعو إلى دعم ومساندة من سماهم (بالدعاة الشباب المعتدلين Young Moderate Clerics)؛ فيرى التقرير أن الحركات العَلْمانية الليبرالية التي لها قاعدة شعبية، ولكنها لا تتقبل بسهولة فكرة استخدام المساجد في الترويج لأفكارها يمكن أن تستفيد من استخدام الدعاة المعاصرين والتفاعل الجاد مع المعتدلين، وخاصة الدعاة الجدد ممن سيصبحون قادة الحركة الدينية في المستقبل. ومن المهم جدًا ملاحظة أن التقرير قد أشار في بداية الفصل الخامس إلى ضرورة التزام هؤلاء الدعاة الجدد بمبادئ الاعتدال كما حددها التقرير، وليس طبقًا لأي معيار آخر (¬3). أما عن هذه المبادئ، فلقد وضع التقرير مجموعة من الأسئلة (11 سؤالًا) التي اعتبرها مقياسًا Criteria للاعتدال، وأن الإجابة على هذه الأسئلة تحدد ما إذا كان ¬

(¬1) ibid., p(39), see also p(45) (¬2) See ibid., p(77) (¬3) See ibid., p(79 - 80)

الفرد أو الجماعة يمكن أن يوصف بالاعتدال أم لا: فيحذر التقرير من أن التيار الإسلامي يدعي في بعض الأحيان أنه تيار معتدل ولكن وفق تفسير خاص به للاعتدال، وأن وجود قائمة من الأسئلة المختارة والمتفق عليها يمكن أن يحل هذه المشكلة، ويكشف للإدارة الأمريكية نوايا الأفراد والجماعات من التيار الإسلامي ممن يدَّعون أو يطالبون بأن يعاملوا معاملة المعتدلين، وهو ما يجب أن يقتصر - حسب رؤية التقرير - على من يتجاوزون اختبار الاعتدال الأمريكي! وهذه الأسئلة هي (¬1): 1 - هل يتقبل الفرد أو الجماعة العنف أو يمارسه؟ وإذا لم يتقبل أو يدعم العنف الآن، فهل مارسه أو تقبله في الماضي؟ 2 - هل تؤيد الديمقراطية؟ وإن كان كذلك، فهل يتم تعريف الديمقراطية بمعناها الواسع من حيث ارتباطها بحقوق الأفراد؟ 3 - هل تؤيد حقوق الإنسان المتفق عليها دوليًا؟ 4 - هل هناك أية استثناءات في ذلك (مثال: ما يتعلق بحرية الدين)؟ 5 - هل تؤمن بأن تبديل الأديان من الحقوق الفردية؟ 6 - هل تؤمن بأن على الدولة أن تفرض تطبيق الشريعة في الجزء الخاص بالتشريعات الجنائية؟ 7 - هل تؤمن بأن على الدولة أن تفرض تطبيق الشريعة في الجزء الخاص بالتشريعات المدنية؟ وهل تؤمن بوجوب وجود خيارات لا تستند للشريعة بالنسبة لمن يفضلون الرجوع إلى القوانين المدنية ضمن نظام تشريع عَلْماني؟ 8 - هل تؤمن بوجوب أن يحصل أعضاء الأقليات الدينية على نفس حقوق المسلمين؟ 9 - هل تؤمن بإمكانية أن يتولى أحد الأفراد من الأقليات الدينية مناصب سياسية عليا في دولة ذات أغلبية مسلمة؟ 10 - هل تؤمن بحق أعضاء الأقليات الدينية في بناء وإدارة دور العبادة الخاصة بدينهم ¬

(¬1) ibid., p(68 - 9), Application of Criteria

(كنائس أو معابد يهودية) في دول ذات أغلبية مسلمة؟ 11 - هل تقبل بنظام تشريع يقوم على مبادئ تشريعية غير طائفية؟ يقول الدكتور باسم خفاجي (¬1): «إن من يقرأ هذه اللائحة من الأسئلة يدرك على الفور أن تعريف الاعتدال بالمفهوم الأمريكي لا يعبر إلا عن المصالح الأمريكية الهادفة إلى تحويل المسلمين بعيدًا عن الإسلام تحت دعوى الاعتدال العالمي. إننا أمام محاولة لإعادة تعريف مفهوم الاعتدال داخل المجتمع المسلم بحيث لا يستند التعريف من الآن فصاعدًا إلى مبادئ الوسطية والتراحم التي حثت عليها الشريعة، وإنما أن يتحول مفهوم الاعتدال إلى مجموعة من المسلمات الغربية التي تقدم للعالم على أنها مبادئ دولية. ومن المتوقع لاحقًا في حال إقرار هذه التوجهات ودفعها في الساحات الفكرية الدولية أن تُمنع شعوب العالم من رفضها أو حتى الاعتراض عليها، بدعوى أن ذلك سيكون اعتراضًا على حقوق الإنسان الدولية أو الشرائع العالمية، كما حدث من قبل فيما يتعلق بما يسمى حقوق الإنسان التي أصبحت حقوقًا للشواذ وحقوقًا لمخالفة الأخلاق والقيم والعادات» اهـ. مما يذكره التقرير كذلك أن وزارة الخارجية الأمريكية تقوم بإعداد قاعدة بيانات مركزية عن الشخصيات الدينية والثقافية المهمة والمؤثرة في المنطقة الإسلامية، وهو ما يشار إليه بقاعدة بيانات الشخصيات المؤثرة Key Influencers، ولكن التقرير لا يوضح الغرض من إعداد هذه القاعدة من المعلومات، أو كيف سيتم استخدامها (¬2). كما ينبه التقرير إلى أهمية الإنفاق المالي الأمريكي على الجهود الإنسانية والخدمية في منطقة الشرق الأوسط والعالم المسلم من أجل منافسة التيار الإسلامي الذي يستأثر بالنصيب الأكبر من تقديم هذه المساعدات إلى الفقراء والمحتاجين في العالم الإسلامي. ويشير التقرير بالامتنان والموافقة إلى فكرة تقدم بها دنيس روس Dennis Ross، ¬

(¬1) د. باسم خفاجي: استراتيچيات غربية لاحتواء الإسلام، قراءة في تقرير راند 2007، ص (28 - 9). (¬2) See, Rabasa et al.: Building Moderate Muslim Networks, p(55)

المبعوث الأمريكي السابق إلى الشرق الأوسط، لإيجاد مشروع أسماه (الدعوة العَلْمانية Secular Da'wa) (¬1) . ويخلص التقرير في نهاية الفصل الخامس إلى أن استراتيچية بناء الشبكات المضادة للتيار الإسلامي، أو الشبكات المسلمة المعتدلة يجب أن تعتمد على محورين: الأول: التعاون مع المعتدلين من العَلْمانيين في دول الأطراف أو الدول التي يمكن العمل فيها بحرية، والمحور الثاني: عكس مسار الأفكار بحيث تكون من الأطراف نحو المركز؛ فلقد لاحظ معدو التقرير أن التركيز على منطقة الشرق الأوسط هو خيار استراتيچي غير صحيح خاصة في المرحلة القادمة، وذلك لأن العالم العربي هو مركز قوة التيارات المحافظة. لذا، فإن الأنسب للمشروع الأمريكي أن يركز على الأطراف، وليس على المركز. وفي هذا الإطار يوصي التقرير باستخدام المسلمين في الغرب في الحملة الداعية إلى الاعتدال بالمفهوم الأمريكي، وكذلك التركيز على استخدام آسيا (جنوب شرق آسيا) في مواجهة الشرق الأوسط .. أو غير العرب في مواجهة العرب، وأن يتم تبني الأعمال الفكرية المعتدلة من تلك المناطق وترجمتها ونشرها في العالم العربي. ويذكر التقرير التجربة الآسيوية القائمة حاليًا لتحقيق ذلك الهدف، ويركز على مثال إندونيسيا كنموذج مهم لقدرة التيار المتحرر على صياغة أچندة الحراك الفكري والإعلامي لخدمة قضايا المعتدلين بالمفهوم الأمريكي له. وقد تم مؤخرًا إنشاء مؤسسة جديدة اسمها LibForAll Foundation (مؤسسة الحرية للجميع) في أمريكا، بهدف ترجمة كتب ومقالات التيار التحرري الذي يتزعمه مجموعة من المفكرين الإندونيسيين إلى العربية والإنجليزية، ونشرها على الإنترنت، وكذلك توفيرها في شكل كتب مطبوعة للمهتمين (¬2). قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ ¬

(¬1) See ibid., p(53) (¬2) See ibid., p(87 - 8)

تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (¬1). ... والآن، وبعد أن وضعنا في هذا المبحث تصورًا عامًا لعلاقة الغرب بالإسلام، نستكمل في الفصل التالي رصد قضية (ازدواجية المعايير) النصرانية الغربية، ولكن فيما يتعلق هذه المرة بالعالم اليهودي، ولا ضير؛ فكما يذكر الدكتور قاسم عبده قاسم وفقه الله (¬2): «لم تكن الحركة الصهيونية التي أفرزها الغرب الأوروپي نفسه سوى تكرار جديد للحركة الصليبية سبقته مشروعات عديدة لم تتوقف منذ نهاية الوجود الصليبي في القرن الثالث عشر، حتى بداية المشروع الصهيوني، ثم تحقيقه في منتصف القرن العشرين». وهذا ملخص ما سنفصله في الفصل التالي .. ¬

(¬1) الأنفال: 36 (¬2) د. قاسم عبده قاسم: القراءة الصهيونية للتاريخ، الحروب الصليبية نموذجًا، ص (147).

الفصل الثالث: الصهيونية، رؤية مغايرة

الفصل الثالث: الصهيونية، رؤية مغايرة

مدخل

- - {مدخل} - - «إن لم يجد العقل الإنساني نموذجًا تفسيريًا ملائمًا لواقعة ما، فإنه يميل إلى اختزالها وردِّها إلى أياد خفية تُنسَب إليها كافة التغييرات والأحداث» [المسيري] (¬1) منذ قرابة أربع سنوات، فرغت من إعداد مسودة هذا البحث، وأذكر أني حينها شعرت وكأني قد قدمت ما لم يسبقني إليه أحد فيما يخص كشف المؤامرة اليهودية (المشَّيحانية) الساعية في إقامة مُلك المسيح المنتظر (ابن داود) (¬2) الذي ستنقاد إليه جميع الأمم (¬3)؛ بدءًا بمحاولة (القوة الخفية) قتل المسيح ابن مريم - عليه السلام - الذي دعاهم إلى مملكة روحية ليست من هذا العالم (¬4)، وما تبع ذلك من فتن ومؤامرات أحدثوها في مشارق الأرض ومغاربها اتفقت في غايتها وإن لم تتفق في التدبير - على قول البعض - (¬5)، وما تمخضت عنه من ميلاد للدولة الصهيونية اللقيطة في الرابع عشر من مايو عام 1948م، تحقيقًا لوعد الرب: «سأخلِّص شعبي من أرض المشرق ومن أرض مغرب الشمس. وأجيء بهم فيسكنون في وسط أورشليم ويكونون لي شعبًا وأكون لهم إلهًا بالحق والصدق» (¬6)، ممهدين بذلك الطريق لقدوم مسيحهم الدجال، «شر غائب يُنتظَر» (¬7)، والذي سيقود شعبه ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: اليد الخفية، ص (11). (¬2) انظر، أشعياء 11: 1، وإرميا 23: 5 - 6 (¬3) انظر، أشعياء 2: 2 - 4 (¬4) يوحنا 18: 36 (¬5) وعلى قول البعض الآخر أنها اتفقت في التدبير أيضًا. (¬6) زكريا 8: 7 - 8 (¬7) جزء من حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بادروا بالأعمال سبعًا، هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمَر» [الترمذي، كتاب الزهد: 2306، وضعفه الألباني]. فائدة: يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله (773 - 852هـ): «من قال [المسيخ] بالخاء المعجمة صحَّف .... وبالغ القاضي ابن العربي فقال: ضل قوم فرووه (المسيخ) بالخاء المعجمة، وشدد بعضهم السين ليفرقوا بينه وبين المسيح عيسى ابن مريم بزعمهم، وقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما بقوله في الدجال (مسيح الضلالة)، فدل على أن عيسى ابن مريم مسيح الهدى، فأراد هؤلاء تعظيم عيسى، فحرفوا الحديث» اهـ[ابن حجر: فتح الباري (13/ 94)]. وأخذًا بهذا القول أشير إلى أن استخدامي للفظة (ماشَّيح/مسيا Messiah) - وسيأتي الحديث عنه - إنما هو من باب تعريب الكلمة العبرية ليس أكثر، ولقد أثبتُّه هكذا كما ورد بالأصل الذي أنقل عنه أمانةً في النقل لا بقصد التمييز.

«وبأيديهم سيف ذو حدَّين. ينتقمون من جميع الأمم ويؤدبون جميع الشعوب. يقيدون ملوكهم بالقيود وأمراءهم بسلاسل من حديد. ينزلون بهم القضاء المكتوب» (¬1). وبعد أن طبعت المسودة عرضتها على أحد من أثق برأيهم. تلقيت منه ثناءً حسنًا على حسن التنسيق والإعداد، ولكني صدمت بقوله - الذي مفاده - أني لم أضف شيئًا جديدًا!! حقيقة شعرت بالحزن المخلوط بالتعجب؛ فلم أكن أتوقع أن يكون أحد قد قدم هذا الموضوع على الوجه الذي قدمته به، وسوء تقديري هذا للأمر كان مرده - كما أحسب - إلى العُجب وضيق الاطلاع، ورحم الله الإمام ابن الجوزي (ت. 597هـ) إذ يقول (¬2): «أفضل الأشياء التزيد من العلم، فإنه من اقتصر على ما يعلمه فظنه كافيًا استبد برأيه، وصار تعظيمه لنفسه مانعًا له من الاستفادة، والمذاكرة تبين له خطأه» اهـ. ولكن اليأس - بفضل الله وكرمه - لم يجد إليَّ مسلكًا، وشعرت بأن ما حدث هو من رحمة الله تعالى بي. فأصررت على إكمال المسير، وتوقفت عن الكتابة لفترة، وعكفت على الاطلاع وإعادة النظر في المسألة. وكان همي - لا يزال - هو تقوية مصادر البحث وإضفاء الجديد المميَّز، ولكن على الوجه الذي يخدم المسار ذاته! وكان مما وقفت عليه هو مصنَّف الباحث الدكتور العلَم عبد الوهاب المسيري رحمه ¬

(¬1) المزمور 149: 6 - 9 (¬2) ابن الجوزي: صيد الخاطر، ص (113).

الله تعالى (1938 - 2008م) الفريد في بابه، (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية) (¬1). فحينما تصفحت فهارسه شعرت وكأني أخوض بحرًا لجِّيًا لا يُرَى ساحله على مرمى البصر، وحينها علمت أن الأمر سيطول! انتقيت من الموسوعة المباحث المتعلقة بموضوعي، وأذكر أن أول ما بدأت به كان المبحث المتعلق بپروتوكولات حكماء صهيون، المدون في المجلد الثاني من الموسوعة. وهنا كانت صدمتي الثانية!!؛ حيث إني لم أجد فيما ذكره ما يخدم هدفي مطلقًا! بل على العكس، وجدت المبحث يتخذ مسارًا معاكسًا تمامًا لما اتخذته في بحثي. أعدت القراءة عدة مرات، ولكن لا جدوى. فأخذت أجول بين صفحات الموسوعة ناشدًا ضالتي، ولكن الذي تبين لي أنها ما اتخذت هذا الطريق في الأصل! غير ذلك، فقد أصبت بحالة من الذهول من سعة اطلاع الرجل وعمق تفكيره، بل ومن وعورة أسلوبه كذلك، رحمة الله تعالى عليه. وقتها استشعرت ضآلة حجمي، وأبقيت البحث قيد التنفيذ لحين وضوح الرؤية التي ¬

(¬1) يقول الدكتور المسيري رحمه الله: «وقد يكون من المفيد أن أذكر تجربتي مع كتابة (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد)؛ فعندما بدأت في كتابتها بشكل جدي عام 1984م وصلني ثلاثة عشر خطاب تهديد بالقتل من منظمة كاخ Kach؛ ستة منها في الرياض حيث كنت أقوم بالتدريس في جامعة الملك سعود، وستة في القاهرة حيث أقيم، أما الخطاب الثالث عشر فقد وصلني بعد يومين اثنين من وصولي من الرياض إلى القاهرة، وجاء فيه ما يلي: "نحن نعلم أنك قد عدت لتوك من الرياض ونحن نعد لك قبرًا" ... وكان الهدف بطبيعة الحال ألا نستمر في عملنا (وبالفعل جاء في أحد الخطابات "إن لم تتوقف عن مهاجمة الصهيونية في أعمالك فإننا سنرديك قتيلًا"). أبلغنا السلطات المصرية التي قامت بحمايتنا. بل إن الصحف الإسرائيلية أخبرت مائير كاهانا Meir Kahane [1932 - 1990 م]، رئيس منظمة كاخ - الذي اعترف في حوار أجرته معه صحيفة (يديعوت أحرونوت Yedioth Ahronoth) أنه مرسل الخطابات - أنه لو بدأ في عمليات اغتيال ضد المثقفين المصريين فيمكن أن يكون هناك رد فعل مصري عنيف، وأنه من الأفضل ألا يفعل، فارتدع. وهذا يبين أن قوة اليهود ليست مطلقة، وأنهم يفهمون في موازين القوى. ومدَّ الله في عمرنا، وبعونه وبفضله انتهينا من كتابتها عام 1999م» اهـ[د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (18 - 9) باختصار وتصرف يسير].

تشوشت بداخلي نتيجة الصدمات المتتالية! كان مما أثار انتباهي كثرة حديث الدكتور المسيري رحمه الله عما سماه (النموذج الاختزالي والنموذج المُرَكَّب)؛ حيث أصَّل هذا التعريف في المجلد الأول من موسوعته وأفرد له بحثًا مستقلًا، ثم طبَّق هذا الأصل على باقي مباحث الموسوعة. وشعورًا مني بأن قارئ هذه الورقات قد أُغلِق عليه فهم ما أرمي إليه في حديثي، فإني أُصَدِّر هذا الفصل بمدخل أتناول فيه إشكالية الاختزال والتركيب هذه، ولعل دافعي هو الرغبة في تكوين رؤية أكثر دقةً وعمقًا وأكثر واقعية ومنطقية وانضباطًا بالشرع لتقدير حجم العدو الذي يواجهه العالم الإسلامي، وكما قال نبي الله شعيب - عليه السلام -: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (¬1). ... فبدايةً .. ما المقصود بالنموذج الاختزالي والمركَّب؟ النموذج الاختزالي: يعرِّفه الدكتور المسيري بأنه «النموذج الذي يتجه نحو اختزال العالم إلى عدة عناصر (عادةً مادية) بسيطة. فالظواهر، حسب هذا النموذج، ليست نتيجة تفاعُل بين مركَّب من الظروف والمصالح والتطلعات والعناصر المعروفة، والمجهولة من جهة، وإرادة إنسانية حرة وعقل مبدع من جهة أخرى، وإنما هي نتاج سبب واحد بسيط عام أو سببين أو ثلاثة (قد يكون قانونًا طبيعيًا واحدًا، أو دافعًا ماديًا واحدًا، أو قوة مدبرة خارقة)، تنطبع على عقل متلق لهذا القانون أو الدافع أو القوة ... ومهما تنوَّعت الأسباب وتعدَّدت، فإن التنوع والتعدد من منظور النموذج الاختزالي مسألة ظاهرية، إذ إن كل الأسباب عادةً ما تنحل كلها وتمتزج، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، لتصبح مبدًا واحدًا ثابتًا لا يتغيَّر، تخضع له كل الظواهر بشكل مباشر يُلغي كل الخصوصيات والثنائيات وأشكال التنوع. ولهذا السبب فإن النماذج الاختزالية نماذج مطلقة مغلقة ترى التاريخ كيانًا يتحرك بطريقة واحدة ونحو نقطة واحدة. وأحداث التاريخ والواقع الإنساني ككل هي نتاج بطولة بطل أو بطلين، أو نتاج عقل واحد متآمر وضع مخططًا جبارًا وصاغ الواقع حسب هواه، ¬

(¬1) هود: 88

أو نتاج نظرية ثورية فورية أو فكرة انقلابية جذرية أو عودة مشيحانية أو حتمية تاريخية أو بيئية أو وراثية أو العنصر الاقتصادي أو الدافع الجنسي». أما النموذج المركب: فهو النموذج الذي «يحوي عناصر متداخلة مركبة (أهمها الفاعل الإنساني ودوافعه) بحيث يعطي الإنسان صورة مركبة عن الواقع ولا يختزل أيًا من عناصره أو مستوياته المتعددة أو تناقضاته أو العوامل المادية والروحية، المحدودة واللامحدودة والمعلومة والمجهولة، التي تعتمل فيه. وهو النموذج الذي لا يمكنه أن يطرح نهاية للأشياء بسبب تركيبيته، فهو نموذج تفسيري اجتهادي منفتح وليس نموذجًا موضوعيًا متلقيًا ماديًا» اهـ (¬1). ونحن حينما نتعرض للتاريخ اليهودي على وجه الخصوص، نجد الدكتور المسيري يعرفه بأنه «مصطلح يتواتر في الكتابات الصهيونية والغربية، وفي الكتابات العربية المتأثرة بها. وهو مصطلح يفترض وجود تاريخ يهودي مستقل عن تواريخ الشعوب والأمم كافة، كما يفترض أن هذا التاريخ له مراحله التاريخية وفتراته المستقلة ومعدل تطوُّره الخاص، بل وقوانينه الخاصة. وهو تاريخ يضم اليهود وحدهم، يتفاعلون داخله مع عدة عناصر مقصورة عليهم، من أهمها دينهم وبعض الأشكال الاجتماعية الفريدة. ومفهوم التاريخ اليهودي مفهوم محوري تتفرع منه وتستند إليه مفاهيم الاستقلال اليهودي الأخرى ومعظم النماذج التي تُستخدَم لرصد وتفسير سلوك وواقع أعضاء الجماعات اليهودية» اهـ (¬2). المسألة كما يتبين من الوهلة الأولى معقدة بعض الشيء ومتشعبة المسالك. ولذا، فإن المتجه لدينا - لعدم الاستطراد - هو تبيان خطورة سيطرة هذه الرؤية الاختزالية للتاريخ اليهودي على الفكر الإسلامي المعاصر، مع الاجتهاد في وضع الأمور في نصابها الشرعي الصحيح، لعلي أكون صاحب أجرين إن أصبت، أو أجر واحد إن أخطأت .. ¬

(¬1) للتوسع، انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (1/ النموذج الاختزالي والنموذج المركب). (¬2) السابق (4/ تاريخ يهودي أم تواريخ جماعات يهودية؟).

فنقول: إن المتتبِّع يلاحظ أن الرؤية السائدة المسيطرة في كثير من أحوالها على العقلية الإسلامية فيما يخص التاريخ اليهودي (المقدس) هي ذات الرؤية التي نجح الإعلام الصهيوني الخبيث في الترويج لها؛ «فكتابة التاريخ هي نقطة التقاء بين الماضي والحاضر، وبما أن الحاضر يتغير على الدوام، فإن نقطة الالتقاء هذه في حركة مستمرة، ومن خلال هذه النقطة، أي قراءة التاريخ، يستطيع المؤرخ أن يتسلل إلى العقل الفردي والجماعي بتقديم النماذج التاريخية والمواقف التي تخدم أهدافه» (¬1). والرؤية (المقدسة) للتاريخ اليهودي، تتمثل في المتتالية الآتية: (نفي وشتات - إحساس يهودي دائم بالنفي والرغبة في العودة - قدوم المسيح - عودة وسيطرة تحت قيادته). ولقد أحدث الصهاينة بعض التصرف في هذه المتتالية فصارت على النحو التالي: (نفي وشتات - إحساس يهودي دائم بالنفي والرغبة في العودة - عودة مجموعة من اليهود (عودة مادية فعلية) للإعداد لقدوم المسيح - قدوم المسيح - عودة وسيطرة تحت قيادته). علمًا بأن الرؤية الإسلامية لهذه المتتالية لا تدور - بالطبع - في إطار التسليم بتحققها في المستقبل على الوجه الذي يبثه الصهاينة، وإنما تدور في إطار الاعتقاد في مساعي اليهود المنظمة المتصلة - منذ النفي إلى العودة - لتحقيقها. وهذا قول رد، وهو زور وبهتان، دعمه - في نظري - أمران: الأول: هو التأييد الحالي لغالب اليهود للصهيونية ودعمهم إياها، حتى صارت كلمة يهودي ترادف في غالب أحوالها كلمة صهيوني (¬2). والثاني: هو الترويج الواعي وغير الواعي لما جاء فيما يعرف باسم (پروتوكولات حكماء صهيون) وما شابهها، والتي يقول عنها الدكتور المسيري (¬3): «لا أعرف أحدًا من الدارسين الجادين للظواهر اليهودية والصهيونية يعتمد هذا الكتاب مرجعًا لدراسته» اهـ. ¬

(¬1) د. قاسم عبده قاسم: القراءة الصهيونية للتاريخ، ص (5). (¬2) ولقد تبقَّت حركات يهودية صغيرة تناهض الصهيونية أحدها فيما أعلم حركة (ناطوري كارتا Neturei Karta) الأرثوذكسية. (¬3) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (13).

سنرجئ الحديث عن الپروتوكولات إلى حينه .. ولكن، قد يقول قائل: إذا كانت النبرة اليهودية السائدة اليوم هي النبرة الصهيونية، فما الداعي لهذا (الجدل البيزنطي) العقيم؟! أقول: إن هذا الجدل البيزنطي له مغزى، وهو التنبيه على خطورة الاعتقاد في هذه المتتالية التاريخية ثم الترويج إليها على هذا الوجه؛ لأنه وجه زائف يحوي مغالطة ذات شقين: تآمري وعاطفي؛ فعلى الجانب التآمري، فهي بالتالي تخلق شعورًا بوجود مؤامرة عالمية منظمة تضرب بجذورها في عمق التاريخ البشري، كما يقول محمد خليفة التونسي رحمه الله (ت. 1408هـ) (¬1): «لليهود منذ قرون خطة سرية غايتها الاستيلاء على العالم أجمع، لمصلحة اليهود وحدهم، وكان ينقحها حكماؤهم طورًا فطورًا حسب الأحوال، مع وحدة الغاية» اهـ. فالمُعتقَد لدى الكثير منَّا أنه منذ أن تآمر ملك اليهود هيرودس أجريپا Herod Agrippa (10 ق. م-44م) ورهط آخرون على قتل المسيح - عليه السلام - اعتقادًا في تجديفه، وبعد أن عاقبهم الله تعالى وقطَّعهم في الأرض أممًا، سعى اليهود مساعي جادة بطرق شتى للعودة إلى الأرض المقدسة، إلى أن تحقق الحلم في إقامة دولة اليهود Judenstaat التي وضع لبنتها الأولى ثيودور هرتزل Theodor Herzl (1860 - 1904 م)، ولم يخلُ الأمر حتمًا من وقوع سلسلة من المؤامرات (المتناقضة/المنظمة)! شرقًا وغربًا لنشر الإلحاد والفساد بين الجوييم Goyim أو الچنتيل Gentiles أو الأمميين (¬2)، تمهيدًا لظهور المسيح حاكم اليهود المنتظر، والذي لا بد أن يسبق قدومه شيوع للفساد بين الأمميين. فكأن اليهود صاروا بذلك (آلة قدرية) تهيء الأجواء وفقًا لمعتقداتهم، وكأن البشر صاروا بين أيديهم أحجارًا على رقعة الشطرنج، كما يصف وليم جاي كار (1895 - 1959م) في كتابه المعروف (¬3). ¬

(¬1) محمد خليفة التونسي: الخطر اليهودي، پروتوكولات حكماء صهيون، ص (34 - 5). (¬2) كما يطلقون على غير اليهود، والجوييم في عرفهم هم وثنيون وكفرة وبهائم وأنجاس ... إلخ. (¬3) William Guy Carr: Pawns in the Game، وهذه الرؤية الاختزالية (العربية/الإسلامية) تتجلى في الكتابات التي تناقش ما يتعلق بأمر الماسونية. وإن كنت لا أجد مجالًا للتوسع في مناقشة حقيقة الماسونية =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= الغامضة، إلا أنه قد يكون من المفيد إيضاح الأمر باختصار. فالماسونية يعرِّفها الدكتور صابر طعيمة وغيره بأنها «حركة تنظيمية خفية قام بها على الأرجح حاخامات التلمود وخاصة في مراحل الضياع السياسي الذي تعرض له يهود العهد القديم، فأخذ الحاخامات على عاتقهم إقامة تنظيم يهودي يهدف إلى إقامة مملكة صهيون العالمية» اهـ[انظر، د. صابر طعيمة: الماسونية ذلك العالم المجهول، ص (11)] .. غير أن هذا الكلام فيه نظر، والآخذ به اعتمد على ما ذكره عوض الخوري في كتابه (تبديد الظلام/أصل الماسونية)، والذي يقدم فيه تأريخًا للماسونية يصفه الدكتور طعيمة بأنه «يختلف به عن كثير من الآراء والافتراضات التي تنقصها الموضوعية ويعوزها الدليل» [المصدر نفسه، ص (21)]. ومفاد ما ذكره الخوري أنه في إحدى زياراته لصديقه پرودانتي دي مورايس Prudente José de Morais (1841 - 1902 م) رئيس جمهورية البرازيل حينها، التقى بلوران چورچ، حفيد أحفاد أحد التسعة أجداد مؤسسي جماعة (القوة الخفية) التي ترأسها ملك اليهود هيرودس أجريپا، والتي تآمرت على قتل المسيح - عليه السلام -، ثم مرت بعدة أطوار على مدار الزمان حتى صارت الماسونية العالمية بأشكالها المختلفة. والقصة بطولها ينقلها الدكتور طعيمة في كتابه، وأحيل القارئ على ص (20) من كتابه وما بعدها لعدم الإطالة، وكفانا هنا القول بأن سند ما يرويه الخوري عن لوران هذا عن جده الأكبر (موآب لافي)، كاتم أسرار الجماعة، إنما هو سند (أبتر)، ويعج بالمجاهيل، ودع عنك مسألة العدالة! والحاصل أنه أشبه ما يكون بالروايات الپوليسية غير المحبوكة .. إذن، فما يترجح لدي من أقوال عن تاريخ الماسونية هو قول لويس شيخو اليسوعي (1859 - 1928م)؛ فبعد أن نقل أقوال أعلام الماسونية العرب كشاهين مكاريوس (1853 - 1910م) وچورچي زيدان (1861 - 1914م)، والتي وصفها بأنها «الأساطير التي تغلب على أحاديث خرافة ويجدر بها أن تلحق بأقاصيص الزير وبني هلال وعنتر!»، يكشف شيخو حقيقة الأمر ويقول: «لا يُنكر أنه شاعت بين الوثنيين في القرون السابقة لعهد المسيح عدة جمعيات سرية كانت تحجب أسرارها الفاسدة تحت ستر الظلمة فتدَّعي ظاهرًا ترقية العلوم أو التقرب من الآلهة وهي في الواقع موارد خلاعة وتهتُّك ...»، إلى أن يقول: «إنه لأقرب من العقل والتصديق أن يقال إن الماسونية هي حفيدة لجمعيات أخر وشيع سرية ظهرت في أوائل النصرانية، فقامت لمناصبة الدين المسيحي، وتعرضت لأربابه، وبثت في حقه الأكاذيب والتهم، إلا أن سهمها طاش عن غرضه. وكان أصحاب هذه الشيع يعرفون باسم الأدريين ويتظاهرون بخدمة العلوم وما كانت علومهم سوى أوهام استعاروها من التنجيم والنيرنجيات وفنون السحر وغاياتها في الغالب تعظيم القوى الطبيعية ورفع البشرية إلى درجة اللاهوت على مقتضى مبدأ الحلولية أو الانتشار. وقامت في القرن الثالث للميلاد الشيعة المانوية فأخذت من أقوال الأدريين وزادت عليها مبدأ الثانوية فجعلت إلهًا للخير وإلهًا للشر يتنازعان بينهما السيطرة في العالم. ولا شك أن في المذهب الماسوني بقايا من تلك الشيع كما أقر بالأمر أحد زعماء =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= الماسونية الكبار في ألمانيا ومنشئ بعض فرقها المعروفة بفئة المتنورين Illuminati، نريد الدكتور وَيسهوپت Adam Weishaupt [1748 - 1830 م] ... ومن أجداد الماسونيين الذين لهم حقوق الأبوة عليهم شيعة الهيكليين. كان هؤلاء أول أمرهم طائفة رهبانية مركزها في القدس الشريف أنشئت للدفاع عن الأراضي المقدسة في أيام الصليبيين، إلا أنها بعد حقبة من الدهر زاغ رهبانها عن قوانينهم، وأهملوا نذورهم الصالحة، وتسرب إليهم حب الملاذ، فاختلطوا بشيع شرقية ساد فيها الفساد، وائتسوا بآداب أصحابها، وحذوا حذوهم في المنكرات فشذبتهم الكنيسة وأمرت بإلغائهم، وبقي منهم بقايا نفثوا بعد ذلك سمَّهم بالشيع الماسونية ... وأخيرًا في الماسونية أيضًا وفي طقوسها وشعائرها وأحكامها عدة أشياء تشير إلى تاريخ اليهود وسننهم وعاداتهم ولا سيما إحدى شيعهم السرية بعد المسيح تعرف بشيعة القبَّاليين انتشرت في العصور الوسطى ومزجت بين التعاليم الفلسفية والأقوال السفسطية والأضاليل السحرية ... وآثار تلك الشيعة اليهودية ظاهرة في أعمال الماسونية ورُتبها وأزيائها وطقوسها وشعائرها السرية ... فكل هذه النِحَل التي سبق ذكرها قد تعاقبت وتناصرت وائتلفت فتركبت من مجموعها الشيع الماسونية فكانت تلك الفرق كسواعد جرت مياهها إلى نهر كبير أو بالأحرى كجداول إلى سيل جحاف هد سدوده وتجاوز حدوده وعاث ما شاء في السهول والأودية» اهـ[لويس شيخو: السر المصون في شيعة الفْرِمَسُون، الكراس الأول، ص (5 - 12) باختصار]. يقول الدكتور المسيري: «والماسونية هي بنت محيطها الحضاري التاريخي والجغرافي، فلا يوجد نسق عالمي واحد ينطبق على الماسونيين في كل زمان ومكان، فقد كانت ألمانية في ألمانيا، وإنجليزية في إنجلترا وفرنسية في فرنسا. ولذا، فقد تغيرت هي ذاتها مع تغير أوروپا ... وتقوم بعض أدبيات معاداة اليهود بالربط بين اليهود والماسونيين وتذهب إلى أن ثمة تعاونًا سريًا بين الفريقين للسيطرة على العالم ولتخريب المجتمعات ... وغني عن القول أن مثل هذه العلاقة التآمرية (المباشرة) لا وجود لها. وبحسب ما توفر لدينا من وثائق، ليست هناك هيئة مركزية عالمية تضم كل المحافل الماسونية. كما أن هناك يهودًا معادين للماسونية وماسونيين معادين لليهود ... وتحرم اليهودية الأرثوذكسية على اليهود الانضمام إلى المحافل الماسونية، وتعتبر من ينضم إليها خارجًا على الدين، هذا على خلاف الصيغ اليهودية المخففة مثل اليهودية الإصلاحية ... وقد قامت بعض المحافل الماسونية العربية بنقد الصهيونية واشتركت بعض القيادات الماسونية في المقاومة ضد الاستيطان الصهيوني. وعكس ذلك صحيح أيضًا ... وقد برز اليهود في الحركة الماسونية؛ فقد حلت الماسونية مشكلة هؤلاء اليهود الذين اغتربوا عن يهوديتهم، والذين ازدادت معدلات العلمنة بينهم، والذين كانوا يريدون الاندماج في مجتمع الأغيار ولكنهم لا يريدون التنصر» [د. عبد الوهاب المسيري: اليد الخفية، دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية، ص (125 - 136) باختصار وتصرف]. =

وهذا اعتقاد «لا يقوم على ساقٍ صحيحة ولا ساق عرجاء»! (¬1). أما على الجانب العاطفي، فلقد روج الصهاينة لهذه الصورة المختزلة للشتات اليهودي، مع إبراز وتضخيم صور العداء لليهود على مر العصور في محاولة لاحتكار دور الضحية واستمالة الرأي العام لصالحهم، بل وتوظيفه في خدمة مشروعهم السياسي الاستعماري التوراتي. وكأن ما وقع بهم من بلاء لا يُنكَر في مختلف البقاع - رغم أنه لم يكن القاعدة - لم يكن نتاجًا لما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد، وكأنهم لم يستحقوا وعيد الله تعالى لهم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} (¬2)، بل زعموا أن ما حلَّ بهم إنما جاء نتيجة خطأ إلهي بدر منه في وقت طيش! «وقد اعترف الله بخطئه في تصريحه بتخريب الهيكل، فصار يبكي ويمضي ثلاثة أجزاء الليل يزأر كالأسد قائلًا: تبًا لي لأني صرحت بخراب وإحراق الهيكل ونهب أولادي»، كذلك فإنه «يندم على تركه اليهود في حالة تعاسة حتى إنه يلطم ويبكي كل يوم فتسقط من عينيه دمعتان في البحر فيسمع دويهما من بدء العالم إلى أقصاه، وتضطرب المياه، وترتجف الأرض في أغلب الأحيان فتحصل الزلازل!!»، «ولما يسمع الباري تعالى تمجيد الناس له يطرق رأسه ويقول: ما أسعد المَلِك الذي يُمدَح ويُبَجَّل مع استحقاقه لذلك، ولكن لا يستحق شيئًا من المدح الأب الذي يترك أولاده في الشقاء» (¬3)، {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} (¬4). ¬

= وملخص هذا الأمر نجده في قول الزعيم النازي أدولف هتلر: «وحرصًا منه على تقوية مركزه في الدولة عمل جاهدًا في سبيل دك الحواجز التي كانت تعوق خطاه كعنصر دخيل يريد أن يمثل دورًا رئيسيًا. وكان عليه أن يبدأ بالدعوة إلى التسامح الديني، فاستخدم الماسونية - وكانت قد أضحت أداة طيعة بين يديه - في تحقيق هذه الغاية. وكانت الماسونية قد جذبت إلى شراكها الحكام والنبلاء وأقطاب الاقتصاد والبورجوازيين ورجال الفكر» اهـ[أدولف هتلر: كفاحي، ص (180)]. (¬1) التعبير للشيخ محمود شاكر رحمه الله، قاله في كتابه: أباطيل وأسمار، انظره ص (167). (¬2) الأعراف: 167 (¬3) انظر، د. يوسف نصر الله: الكنز المرصود في قواعد التلمود، ص (56) .. وهو ترجمة لكتابين، أحدهما: اليهودي وفق التلمود Der Talmudjude، للاَّهوتي الألماني الدكتور أوجست رولنج August Rohling (1839 - 1931 م) (والترجمة كانت للنسخة الفرنسية من الكتاب: Le Juif Selon Le Talmud)، أما الكتاب الآخر فهو: العلاقة التاريخية للمسائل السورية منذ عام 1840 إلى 1842م Relation Historique des Affaires de Syrie depuis 1840 jusqu'en 1842، [أو (تاريخ سوريا لسنة 1840م)، كما يذكر المترجم]، للمؤرخ الفرنسي أشيل لوران Achille Laurent. (¬4) المائدة: 64

نحن لا ننكر وجود مؤامرة أكيدة واضحة المعالم، كذلك صحيح هو قول القائل: «إذا كان عدوك نملة فلا تَنَمْ له»، ولكن ما نرفضه هو اختزال هذه المؤامرة وحصرها في هذه الزاوية الضيقة، والتي بالتالي تنسب إلى اليهود قوة عجائبية خارقة يرتد إليها كل الشرور والكوارث العالمية، وهذا بالتالي يزيد من هيبة العدو ويؤدي بنا إلى الفشل في تقدير حجمه الحقيقي، بل ويتجاهل الوجود الفعلي لأعداء أُخَر من غير يهود قد يكونون في كثير من الأحوال أشد خطرًا منهم. كذلك نرفض ربط كل الحوادث والثورات والانقلابات العالمية (كالثورة الفرنسية والبلشفية) واختزالها بكل بساطة في المؤامرة اليهودية العالمية بغض النظر عن مركب الظروف والدوافع المحيطة، لأن هذا من الكسل الفكري، وعقلنا البشري «إن لم يجد نموذجًا تفسيريًا ملائمًا لواقعة ما، فإنه يميل إلى اختزالها وردها إلى أياد خفية تُنسَب إليها كافة التغييرات والأحداث» (¬1)، وهذه اليد هي اليد اليهودية عادة! وحقيقة أعجبني قول الباحثة الدكتورة ريچينا الشريف (¬2): «معظم المؤرخين والمحللين السياسيين يعزون نجاح الصهيونية - الذي بلغ أَوْجَهُ في قيام دولة يهودية في إسرائيل - إلى المواهب السياسية والديپلوماسية لليهود الصهيونيين من أمثال حاييم وايزمان Chaim Weizmann [1874 - 1952 م]، أو لويس برانديس Louis Brandeis [1856 - 1941 م]، أو ناحوم سوكولوف Nahum Sokolow [1859 - 1936 م]، الذين عملوا بلا كلل على التأثير في الشخصيات غير اليهودية. ويعزى معظم الفضل في صدور وعد بلفور Balfour Declaration، عادة، إلى وايزمان وطاقاته الجبارة وتصميمه وإخلاصه ... ويندر أن تعزى قصة نجاح الصهيونية لغير اليهود. غير أن مثل ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: اليد الخفية، ص (11). (¬2) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي، ص (10) باختصار وتصرف يسير. Regina S. Sharif: Non-Jewish Zionism: Its Roots in Western History

هذه التفسيرات لقوة الصهيونية ساذجة جدًا، إذ إن مواهب وايزمان في الديپلوماسية الدولية والإقناع، مهما بلغت من القوة، ما كانت لتؤتي ثمارها لو لم يكن أشخاص من غير اليهود قد بذروا بذور الصهيونية ورعَوْها قبل ظهور كتاب (الدولة اليهودية) لهرتزل عام 1896م» اهـ. فيصح إذن وجود أثر العنصر اليهودي في كثير من الحوادث التاريخية الجذرية، وقد يُقبل أحيانًا في حقهم القول بأنهم «كالملاح الماهر ينتفع لتسيير سفينته بكل تيار وكل ريح مهما يكن اتجاهه، ويسخره لمصلحته سواء كان موافقًا أو معاكسًا له» (¬1)، ولكن هذا مقبول على المستوى الفردي، أو حتى على المستوى الجماعي لا العالمي، وهو لا ينطبق على اليهود وحدهم، بل وكذلك لا يعني بالضرورة كونهم حكومة العالم الخفية كما يصفهم آرثر شيريپ سپيريدوفيتش (1858 - 1926م) في كتابه (¬2)، فأي حكومة واضحة المعالم منظمة ومقسمة الأدوار والواجبات تقوم على أكتاف قوم قال الله تعالى فيهم: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬3)، وقال تعالى فيهم كذلك: {بَاسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}؟! (¬4). وتأمل ما قاله أدولف هتلر في حقهم «بأن روح التضحية لا تتعدى عند الشعب اليهودي نطاق (الأنا) ... فروح التضحية لا تتجلى ما لم يشعر كل فرد بأنه مهدد. والتضامن يصبح واجبًا في حالتين: حيال عدو مشترك أو فريسة مشتركة. فإذا انعدم الحافز تكون الأنانية هي الطابع الغالب، ويصبح هَمّ اليهود أن يكيد بعضهم لبعض وأن ينهش بعضهم بعضًا» اهـ (¬5). والمثال قد يكون ساذجًا، ولكنه لا يخلو من إشارة مفيدة: وإلا، فعلام يحمل قول حاييم وايزمان (اليهودي الصهيوني) في مذكراته (¬6): «... وفي سويسرا تلك عرفت لينين، وپليخانوف، وتروتسكي، وكان كل هؤلاء يهودًا، إلا أنهم كانوا كلهم يحتقروننا، ¬

(¬1) محمد خليفة التونسي: الخطر اليهودي، ص (95). (¬2) Arthur Cherep-Spiridovich: The Secret World Government (¬3) المائدة: 64 (¬4) الحشر: 14 (¬5) أدولف هتلر: كفاحي، ص (171). (¬6) مذكرات وايزمان، ص (17)، المعروفة باسم (التجربة والخطأ Trial and Error).

نحن دعاة الصهيونية، وكانوا يقولون: إن اليهودي الروسي يجب أن يصلح روسيا وطنه، لا أن يتهرب منها، ويدعو نفسه يهوديًا. وكنت أنا أبادلهم احتقارًا باحتقار، وكرهًا بكره ...»، ومعلوم أن فلاديمير لينين Vladimir Lenin (1870 - 1924 م) وچيورچي پليخانوف Georgi Plekhanov (1856 - 1918 م) وليون تروتسكي Leon Trotsky (1879 - 1940 م) وغيرهم هم من رواد الشيوعية الملحدة، وأن أصول كثير منهم يهودية. فكيف تكون إذن حكومة عالمية واحدة كما تذكر الپروتوكولات في ظل مشاعر الكره المتبادلة تلك؟ هل يحمل كلامه على أنه تقية؟! هذا مستبعد. ولقد قال ربنا - عز وجل -: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} (¬1)، فكيف يعتقد إذن أن لليهود حكومة عالمية وأنهم «لا تتأدى بهم الغفلة - وهم يؤسسون إسرائيل في فلسطين أو أقطار الشرق الأوسط - إلى حد نزوحهم جميعًا من أقطار العالم، وتكدسهم في هذه الدولة، وإن كل ما يهدفون إليه هو اتخاذ هذه الدولة مركزًا يتدفق إليه ذهبهم، ويسيطرون منه على التجارة وأعمال الصيرفة العالمية بين الشرق والغرب، وينشرون منه المكايد التي تطيح بالعوائق ضد تسلطهم على العالم. هذا مع احتفاظهم بتشتتهم في أقطار الأرض كما هم الآن، ليسيطروا عليها ويستغلونها، فمن ضاق به العيش في قطره هجره إلى هذه الدولة»؟! (¬2). الشاهد: أنه من أجل إعطاء الأمور حجمها الطبيعي، بلا تهوين أو تهويل، لا بد من إخضاعها لمركَّب من الظروف الاجتماعية المحيطة بها. وإن كان اليهود قد برزوا في ¬

(¬1) الأعراف: 168. يقول الدكتور حسن ظاظا رحمه الله: «جميع البحوث الاجتماعية والتاريخية والأنثروپولوچية تؤكد أن اليهودي يعتبر من أبعد الجماعات البشرية عن النقاء العنصري الذي يدَّعيه، وفي ذلك يقول العلامة السويسري أوچين پيتار Eugène Pittard [1867 - 1962 م]: "إن جميع اليهود في نظر علماء الأنثروپولوچيا Anthropology [علم الإنسان]، على الرغم من كل ما يدَّعيه اليهود المنضوون تحت الفكرة العنصرية الإسرائيلية، بعيدون عن الانتماء إلى جنس يهودي. وكما يقول رينان [أظنه يقصد الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان Ernest Renan (1823 - 1892 م)]: (لا تجد سَحْنة يهودية، بل هناك عدة سحنات يهودية) ". وليس هناك أصح من قوله هذا» اهـ[د. حسن ظاظا: الشخصية الإسرائيلية، ص (35)]. (¬2) محمد خليفة التونسي: الخطر اليهودي، ص (80 - 1).

الاستمرار اليهودي من منظور إسلامي

الكثير من الحركات الهدامة، على اختلاف اتجاهاتها العقائدية والفكرية، فهو تصديق لقول الله - جل جلاله -: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} (¬1)، ولقوله تعالى كذلك: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (¬2)، فهم يسعون في الأرض فسادًا، ولكن سعيهم شتَّى! وإذا صحت الكثير من الوقائع التي يذكرها أصحاب الرؤى الاختزالية للتدليل على نظرياتهم، فكما يقول الدكتور المسيري (¬3): «ومعظم الحقائق التي يأتي بها الاختزاليون حقائق موضوعية ووقائع ثابتة حدثت تحت سمع الناس وبصرهم، فهم لا يختلقون الحقائق (في أغلب الأحيان) وإنما يجتزئونها، ولكن كثيرًا ما تكون الحقائق التي يذكرونها تافهة هامشية جزئية لا علاقة لها بالحقيقة الكلية (ولذا فهي تُسمَّى بالإنجليزية: True Lies أكاذيب حقيقية)، أي كلمة حق جزئي يُراد بها باطل كلي» اهـ. ... الاستمرار اليهودي من منظور إسلامي: نتفرع هنا إلى مسألة أخرى، وهي إشكالية (الاستمرار اليهودي من منظور إسلامي)، والتي يطرحها الدكتور المسيري في موسوعته، وقد نختلف معه فيها كثيرًا. ولكن نشير هنا فقط إلى ما يتعلق مباشرة بموضوعنا، وهو قوله في المجلد الرابع تحت عنوان (الاستمرار اليهودي: منظور إسلامي): «من المفاهيم الصهيونية المحورية مفهوم الاستمرار اليهودي، ويُقصَد به أن ثمة استمرارية في الصفات الأساسية (الثقافية والدينية بل والعرقية أحيانًا) التي تسم أعضاء الجماعات اليهودية وتفصلهم عن غيرهم من الشعوب والجماعات. وانطلاقًا من هذه الاستمرارية يرى المؤمنون بها أن كلمة (يهودي) تشير إلى يهود العالم في الحاضر والماضي والمستقبل، وأن كلمة (يهودية) تشير إلى نظامهم العقدي، وكأن سمات اليهود الثقافية لم يطرأ عليها أي تَغيُّر جوهري، وكذلك ¬

(¬1) المائدة: 64 (¬2) المائدة: 32 (¬3) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (1/ النموذج الاختزالي والنموذج المركب).

موروثهم الديني. ونحن نرى أن مثل هذا التصور يتنافى تمامًا مع الواقع التاريخي ومع الرؤية الإسلامية، ويمكن أن نسجل الملاحظات الآتية ...». وكان من الملاحظات التي سجلها، أنه «من الواضح أن القرآن الكريم لا يفترض وجود استمرارية بين يهود العالم، ولذا وردت هذه المصطلحات غير المترادفة ليعبِّر كل مصطلح عن وضع زماني ومكاني مختلف. فالقرآن يُفرِّق تفرقة واضحة بين اليهود الذين عاشوا في الجزيرة العربية وتعامل المسلمون معهم في فترة البعثة المحمدية من جهة وبين بني إسرائيل من جهة أخرى. فمصطلح (بني إسرائيل) جاء مخصصًا للحديث عن يهود عصر موسى وعيسى وأنبياء بني إسرائيل، ولم يُستخدَم هذا اللفظ تخصيصًا ليهود عصر البعثة المحمدية إلا في موضعين وهما: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ} (¬1)، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (¬2). وواضح أن في هذين الموضعين إحالة إلى موروثات قديمة يمكن أن يتناقلها اليهود، أيًا كانت أصولهم العرْقية، عن بني إسرائيل، أي يهود عصر موسى، الأمر الذي يفتح الباب لإمكانية توجيه الخطاب العام (اليهودي) بصفة الخاص (بنو إسرائيل) الذي هو مسئول مسئولية مباشرة عن هذه الموروثات ... وقد كان يهود الجزيرة العربية منعزلين عن يهود العالم، وعن مراكز الدراسة التلمودية والفقهية في فلسطين وبابل، بل ويُقال إن يهود العالم آنذاك لم يكونوا يعتبرونهم يهودًا. ومن هنا تكون التفرقة بين يهود عصر موسى ويهود المدينة، ومن هنا تكون ضرورة افتراض عدم وجود استمرار يهودي، فلا بد من التفرقة بين يهود الماضي من جهة ويهود العالم الحديث في أيامنا هذه من جهة أخرى، فالمجالان الدلاليان لكلمتي (يهودي) و (بني إسرائيل) كما وردتا في القرآن محددان ولا ينطبقان بالضرورة على يهود العصر الحديث» اهـ. وجوابًا أقول، مستعينًا بالله: لقد زخر القرآن الكريم بآيات واضحة صريحة دالة على وجود استمرارية بين يهود العالم قديمًا وحديثًا، منها قول الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} (¬3)، فهذه واحدة. أيضًا، فإن المتأمل في آيات الكتاب العزيز يلاحظ مخاطبة يهود المدينة بلسان حال ¬

(¬1) البقرة: 211 (¬2) النمل: 76 (¬3) الأعراف: 167

قوم موسى - عليه السلام -، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله - عز وجل -: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} (¬1)، فهل يهود المدينة أنفسهم هم الذين قالوا لموسى أرنا الله جهرة؟ وهل هم الذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم؟ وقوله - جل جلاله -: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2)، فهل يهود المدينة أنفسهم هم الذين رُفِع فوقهم الطور؟ ومعلوم بالضرورة أن القرآن الكريم هو نفسه الذي يدعو به المسلمون غيرهم شرقًا وغربًا، قديمًا وحديثًا، {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} (¬3)، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬4). ولذا، فكما قال السعدي رحمه الله (¬5): «والخطاب مع فرق بني إسرائيل الذين بالمدينة وما حولها، ويدخل فيهم من أتى بعدهم، فأمَرَهم بأمر عام» اهـ. يقول الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل (¬6): «لم يكن من قبيل المصادفة تحذير القرآن الكريم من عداوة اليهود ووضعهم في مقدمة صفوف أعداء المؤمنين في قول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (¬7)، ولم يكن مصادفة كذلك حديث القرآن المتكاثر عن هذا الصنف من الناس بهذا الشكل اللافت؛ حيث شغل الكلام عن بني إسرائيل واليهود حيزًا كبيرًا في التنزيل الحكيم مكيِّه ومدنيِّه؛ بحيث ورد ذكرهم تصريحًا أو تلميحًا ومسهبًا أو مقتضبًا في نحو خمسين سورة من مجموع المائة والأربع عشرة سورة من سور القرآن. نعم، لم يكن ذلك كذلك قط، فباليقين هناك سر بل أسرار، وبالحتم ثمة حكمة بل حِكَم من وراء استحواذ اليهود على كل ذلك الاهتمام، تحذيرًا وتنبيهًا، وتوضيحًا وتفصيلًا. ولقد كانت الأحداث المتتابعة أثناء عهد تنزيل الوحي كفيلة بكشف أسرار كثيرة، وسبر أغوار عميقة جديرة بأن نقف أمامها طويلًا. فما كاد العهد المكي ينقضي إلا ويجيء العهد المدني كاشفًا بمرور أيامه عن جوانبه الحقيقية، حقيقة العداء اليهودي المتأصل للإسلام وأهله» اهـ. ¬

(¬1) البقرة: 55 (¬2) البقرة: 63 (¬3) الأنعام: 34 (¬4) الحجر: 9 (¬5) تفسير السعدي، ص (41)، تفسير الآية 40 من سورة البقرة. (¬6) د. عبد العزيز مصطفى كامل: قبل الكارثة، نذير ونفير، ص (25). (¬7) المائدة: 82

أضف إلى ذلك أنه ليس من قبيل المصادفة - وحاشاه - ذكر الله تعالى لليهود في فاتحة الكتاب التي نكررها في اليوم والليلة سبع عشرة مرة على أقل تقدير، والتعريف بأنهم: {المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} (¬1)، كما أخرج الترمذي من حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - (¬2)، {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (¬3). ولذا، فالرأي هو: أن قول الله تعالى الذي استدل به الدكتور المسيري: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} (¬4)، وقوله - عز وجل -: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (¬5) مع ما تقدم من آيات يرُد قوله: «فالمجالان الدلاليان لكلمتي (يهودي) و (بني إسرائيل) كما وردتا في القرآن محددان ولا ينطبقان بالضرورة على يهود العصر الحديث». وليس حديث الفِرَقُ منا ببعيد؛ فقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» (¬6)، لم يخرج السبعين فرقة اليهودية النارية من كونهم يهودًا بالمعنى العام للكلمة (¬7)، ولذا فعند القول بوجود يهودي أصولي ¬

(¬1) الفاتحة: 7 (¬2) عن عدي بن حاتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضُلاَّل». [رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن: 2954، وصححه الألباني]. (¬3) الأنعام: 55 (¬4) البقرة: 211 (¬5) النمل: 76 (¬6) رواه أبو داود، كتاب السنة: 4596، 4597، والترمذي، كتاب الإيمان: 2640، 2641، وصححه الألباني. ولما سُئِلَ - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية قال: «ما أنا عليه وأصحابي». (¬7) فائدة: الفرقة الناجية اليهودية والنصرانية والإسلامية - كما في الحديث - هي كلها فرق مسلمة موحدة داخلة تحت قول الله تعالى العام: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] وإن اختلفت شرائعها .. ولكن شرط النجاة هو الاستقامة على أمر الله كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [المائدة: 68]، وكذلك قال الله - جل جلاله -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، فإذا تحقق في العبد شرط الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فهو من المسلمين المقبولين عند الله تعالى، سواء أكان من أتباع موسى أو عيسى أو محمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين. ومن الإيمان بالله الإيمان بكل أنبيائه ورسله، وعلى رأسهم خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن يكفر بأحدهم كمن كفر بهم جميعًا، قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا. أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 150 - 151]، وقد قال تعالى فيمن أدرك بعثة رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤمن به: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

پروتوكولات حكماء صهيون

أرثوذكسي وآخر حسيدي صوفي وثالث صهيوني ديني أو إثني أو إصلاحي أو ملحد ... إلخ، فمن زاوية حديثنا هنا نقول: إنه لا مشاحة في الاصطلاح، وليس بعد الكفر ذنب، وطالما أن المرء ارتضى لنفسه الانتساب إلى اليهودية، تحت أي فلسفة أو أيديولوچية كانت، فهو يهودي شمله كتاب الله تعالى بالذكر، ونعامله كما أمر ربنا جل وعلا، كلٌ حسب حاله، والقاعدة العامة عندنا هي قول الله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاء} (¬1). وعليه، وخطابنا هنا على المستوى العام، فإن ما يثار اليوم من القول بأن عداءنا مع الصهاينة لا مع اليهود هو كلام ديپلوماسي أجوف، وتقييد لما أطلقه الله تعالى في قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (¬2)؛ ذلك أن الخلاف بين التيار اليهودي الصهيوني والآخر المناهض له (المتقلِّص) هو خلاف أيديولوچي مرحلي، وكفانا أنه حينما ينطق الحجر والشجر في آخر الزمان فلن يقول: «يا مسلم، يا عبد الله، هذا صهيوني خلفي فتعال فاقتله»! وراجع ما أخرجه مسلم وغيره إن شئت، والله أعلم. ... پروتوكولات حكماء صهيون: بقي لنا أن نتحدث عن حقيقة الوثيقة المعروفة باسم (پروتوكولات حكماء صهيون)، والتي كثر حولها اللغط بين مشكك في صدق نسبتها إلى اليهود، وبين مثبت لذلك .. يقول سرچي نيلوس Sergei Nilus (1862 - 1929 م)، وهو أول ناشر للپروتوكولات كاملة باللغة الروسية (¬3): «لقد تسلمت من صديق شخصي [يقصد ألكسيس نيكولايفيتش Alexis Nicholaeivich كبير جماعة أعيان روسيا الشرقية القيصرية]- وهو الآن ميت - مخطوطًا يصف بدقة ووضوح عجيبين خطة وتطور مؤامرة ¬

(¬1) آل عمران: 113 (¬2) المائدة: 82 (¬3) قاله في كتابه المترجم تحت عنوان: الخطر اليهودي، پروتوكولات حكماء صهيون، انظر ص (127).

عالمية مشئومة، موضوعها الذي تشمله هو جر العالم الحائر إلى التفكك والانحلال المحتوم. هذه الوثيقة وقعت في حوزتي منذ أربع سنوات (1901م)، وهي بالتأكيد القطعي صورة حقة في النقل من وثائق أصلية سرقتها سيدة فرنسية من أحد الأكابر ذوي النفوذ والرياسة السامية من زعماء الماسونية الحرة، وقد تمت السرقة في نهاية اجتماع سري بهذا الرئيس في فرنسا حيث وكر المؤتمر الماسوني اليهودي هناك» اهـ. وقوله هذا مشهور، ولكن على النقيض منه يقول الباحث الروسي الدكتور ياكوف رابكن (¬1): «پ روتوكولات حكماء صهيون هي وثيقة مزيفة أخرجت منذ قرن على أمر من شرطة قيصر روسيا السرية» اهـ. والمسألة اشتد فيها النزاع، وتضاربت فيها الأقوال، وما زال .. ولعل من أوائل من طرحوا رؤية مغايرة لما عهدناه نحن (على الأقل في عالمنا العربي) هو الصحافي الإنجليزي فيليپ جرافز Philip Graves (1876 - 1953 م)؛ فعلى مدار ثلاثة أيام، في الفترة من 16 إلى 18 أغسطس عام 1921م، نشر جرافز ثلاث مقالات في صحيفة (التايمز) اللندنية، ينقب فيها عن حقيقة هذه الپروتوكولات. وقد أشار الأستاذ عباس محمود العقاد - رحمه الله - (1889 - 1964م) إلى هذه المقالات في تقديمه لترجمة التونسي العربية للپروتوكولات، وكان مما قاله عنها (¬2): «وأغلب الظن بعد هذا كله - على ما نرى - أن الپروتوكولات من الوجهة التاريخية محل بحث كثير، ولكن الأمر الذي لا شك فيه أن السيطرة الخفية قائمة بتلك الپروتوكولات أو بغير تلك الپروتوكولات» اهـ. كما أشار إليها الدكتور المسيري في مواطن عدة من أبحاثه. ولقد اجتهدت في البحث عن أصلها حتى وقفت على نسخة أصلية لهذه المقالات الثلاثة (¬3) نستعرض في الصفحات التالية أهم ما جاء فيها. ¬

(¬1) ياكوف رابكن: المناهضة اليهودية للصهيونية، مقدمته للطبعة العربية، ص (8). Yakov M. Rabkin: Au nom de la Torah: Une histoire de l'opposition juive au Sionisme (¬2) محمد خليفة التونسي: الخطر اليهودي، ص (17). (¬3) محفوظة بصيغة pdf.

يقول جرافز في مقالته الأولى (¬1): «إن الوثيقة المسماة بپروتوكولات حكماء صهيون، والتي نشرت في لندن العام الماضي تحت عنوان (الخطر اليهودي The Jewish Peril)، هي ترجمة لكتاب نشره سرچي نيلوس في روسيا عام 1905م، ونيلوس موظف حكومي ادَّعى تسلُّمه من صديق له نسخة من محضر اجتماع سري عقدته منظمة يهودية في پاريس كانت تخطط لتدمير الحضارة وإقامة حكومة يهودية عالمية. هذه الپروتوكولات لم تحظَ باهتمام كبير حتى قيام الثورة الروسية في عام 1917م وظهور البلاشفة (¬2)، والذين ضموا في صفوفهم الكثير من اليهود أظهروا معتقدات سياسية تلتقي في بعض النقاط مع تلك المذكورة في الپروتوكولات، مما أدى بالكثير إلى الاقتناع بأن اكتشاف نيلوس المزعوم كان حقيقة. انتشرت الپروتوكولات على نطاق واسع وترجمت إلى عدة لغات أوروپية. ولكن العديد من المناقشات عقدت كذلك من أجل محاولة إثبات زيفها» اهـ. ثم ينتقل جرافز لاستعراض أدلته؛ فيذكر أنه حينما كان يعمل مراسلًا لصحيفته في القسطنطينية (أو إسطنبول كما صار اسمها بعد عام 1930م)، دفع إليه أحد المراسلين رفض ذكر اسمه - غالبًا لأسباب متعلقة بزمانه، وكناه بمستر إكس Mr. X.، وذكر أنه أرثوذكسي روسي مؤيد للنظام الملكي ومهتم بالمسألة اليهودية الروسية - دفع إليه نسخة من كتاب للأديب والمحامي الفرنسي موريس چولي (1829 - 1878م) اسمه (حوار في الجحيم بين مكيافيللي ومنوتيسكيو، أو سياسة مكيافيللي في القرن التاسع عشر، بواسطة معاصر) (¬3)، طبع لأول مرة في چنيف عام 1864م، ثم ظهرت منه طبعات أخرى في بروكسل (¬4)، وفيه ينتقد چولي نظام ناپليون الثالث الفاسد Napoléon III (1808 - ¬

(¬1) The Times: Tuesday, August 16, 1921 (¬2) البلاشفة، أو البلشفيك: أي الكثرة أو الأكثرية. وقد أطلقت جماعة الجناح اليساري من أنصار لينين في حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي هذا التعبير على نفسها عام 1903م. (¬3) Maurice Joly: Dialogue aux enfers entre Machiavel et Montesquieu, ou la politique de Machiavel au XIXe siècle, par un contemporain (¬4) ويحتوي المتحف البريطاني The British Museum على نسخة كاملة منه، وكذلك احتفظت المكتبة الوطنية في پاريس Bibliothèque Nationale ببعض النسخ، منها طبعة بروكسل (1868م) التي اعتمدْت عليها في هذا البحث.

1873 م). ولقد صاغه بأسلوبه الساخر في صورة خمسة وعشرين حوارًا دار بين روح كل من نيكولو مكيافيللي وشارلز مونتيسكيو (1689 - 1755م) مقسمة إلى أربعة أقسام. وفيه يمثل مونتيسكيو التيار الليبرالي في حين يمثل مكيافيللي الطغيان والاستبداد، ويقرن چولي بأسلوبه بين الاتجاهين ويصف الطرق السرية التي من خلالها تتمخض الليبرالية عن طاغية مثل ناپليون الثالث (¬1). وترتب على تأليف چولي للكتاب أنه تم اعتقاله من قبل شرطة ناپليون الثالث وحكم عليه بالسجن لمدة [خمسة عشر شهرًا، وبغرامة مالية قدرها مائتي فرانك] (¬2)، وصادرت الشرطة ما توصلت إليه من نسخ، وحظرت طباعة أو نشر الكتاب [وذلك حتى عام 1933م]. يذكر (إكس) هذا أن كتاب چولي - الذي قد حصل عليه بالصدفة - قد أزال الغموض المحيط بحقيقة الپروتوكولات، يقول جرافز: «منذ عدة أشهر اشترى المراسل إكس عددًا من الكتب القديمة من ضابط سابق في الپوليس السياسي الروسي (أوخرانا Okhrana) كان قد فر هاربًا إلى القسطنطينية وأقام فيها. وكان من بين هذه الكتب الكتاب الفرنسي المذكور. وعند الاطلاع عليه لاحظ (إكس) التماثل المريب بين نَصه وبين نَص فقرات الپروتوكولات، خاصة الحوارات (1 - 17) والپروتوكولات (1 - 19) مع وجود بعض الفروق الطفيفة» اهـ. ويعرض فيليپ جرافز في مقالته الثانية (الأربعاء 17 أغسطس 1921م) عدة مقارنات بين نصوص الكتاب الفرنسي والپروتوكولات، نذكر هنا بعضها، وذلك بعد مطابقتها بنسخة بروكسل لعام 1868م من كتاب موريس چولي. جاء في الپروتوكول الأول: «يجب أن يلاحظ أن ذوي الطبائع الفاسدة من الناس أكثر ¬

(¬1) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Maurice Joly. (¬2) حسب ما جاء في مقدمة طبعة بروكسل لعام 1868م، في حين أن جرافز يذكر في مقالته أنه قد حُكِم على چولي بالسجن ثمانية عشر شهرًا ولم يذكر الغرامة المالية.

عددًا من ذوي الطبائع النبيلة ... ماذا كبح الوحوش المفترسة التي نسميها الناس عن الافتراس؟ وماذا حكمها حتى الآن؟ لقد خضعوا في الطور الأول من الحياة الاجتماعية للقوة الوحشية العمياء، ثم خضعوا للقانون». وجاء في الحوار الأول على لسان مكيافيللي: «إن الطبائع الفاسدة في الإنسان هي الغالبة على الطبائع النبيلة ... من يكبح هذه الوحوش المفترسة التي نسميها بشر عن أن تتصارع فيما بينها؟ في بداية نشأة المجتمعات كانت القوة الغاشمة المطلقة، ثم بعد ذلك كان القانون». وهذا هو نص ما جاء في الحوار الأول (¬1): «L'instinct mauvais chez l'homme est plus puissant que le bon ... Qui contient entre eux ces animaux dévorants qu'on appelle les hommes? A l'origine des sociétés, c'est la force brutale et sans frein; plus tard, c'est la loi». جاء في الپروتوكول الثاني عشر: «ستكون لنا جرائد شتى تؤيد الطوائف المختلفة: من أرستقراطية وجمهورية، وثورية، بل فوضوية أيضًا ... وستكون هذه الجرائد مثل الإله الهندي فشنو، لها مئات الأيدي، وكل يد ستجس نبض الرأي العام المتقلب». وجاء في الحوار الثاني عشر على لسان مكيافيللي: «مثل الإله فشنو، سيكون لصحافتي مائة ذراع، وسوف تمد هذه الأذرع يد العون لكل الآراء المختلفة الموجودة على الساحة في البلاد مهما كانت». وهذا هو نص ما جاء في الحوار الثاني عشر (¬2): «Comme le dieu Wishnou, ma presse aura cent bras, et ces bras donneront la main à toutes les nuances d'opinion quelconque sur la surface entière du pays». ¬

(¬1) Maurice Joly: Dialogue aux Enfers, premier dialogue, p(6) (¬2) ibid., douzième dialogue, p(106)

جاء في الپروتوكول العشرين: «القرض هو إصدار أوراق حكومية توجب التزام دفع فائدة تبلغ نسبة مئوية من المبلغ الكلي للمال المقترض. فإذا كان القرض بفائدة قدرها خمسة من مائة، ففي عشرين سنة ستكون الحكومة قد دفعت بلا ضرورة مبلغًا يعادل القرض لكي تغطي النسبة المئوية. وفي أربعين سنة ستكون قد دفعت ضعفين، وفي ستين سنة ثلاثة أضعاف المقدار، ولكن القرض سيبقى ثابتًا كأنه دين لم يسدد». وجاء في الحوار العشرين على لسان مونتيسكيو: «كيف تمارس القروض؟ تمارس عن طريق إصدار سندات مالية تحوي التزامًا من الحكومة بدفع فوائد محددة من قيمة رأس المال المدفوع. فلو كان القرض بفائدة 5% على سبيل المثال، ستكون الدولة بعد عشرين سنة قد دفعت مبلغًا يعادل رأس المال المقترض، وبعد أربعين سنة ستكون قد دفعت الضعف، وبعد ستين سنة ستكون قد دفعت ثلاثة أضعاف. ومع ذلك تبقى دائمًا مدينة بنفس قيمة رأس المال». وهذا هو نص ما جاء في الحوار العشرين (¬1): «Comment se font les emprunts? par des émissions de titres contenant obligation de la part du gouvernement, de servir des rentes proportionnées au capital qui lui est versé. Si l'emprunt est de 5 p. c. [%], par exemple, l'Etat, au bout de vingt ans, a payé une somme égale au capital emprunté; au bout de quarante ans une somme double; au bout de soixante ans une somme triple, et, néanmoins, il reste toujours débiteur de la totalité du même capital». أما عن فقرات الپروتوكولات التي لم تقتبس من كتاب موريس چولي فيُرَجِّح جرافز في مقالته الثالثة (الخميس 18 أغسطس 1921م) أنها «صيغت من قبل الپوليس السياسي ¬

(¬1) ibid., vingtième dialogue, p(185 - 6)

الروسي (أوخرانا) بالاستعانة بعملاء يهود مجندين للتجسس على إخوانهم في الدين Coreligionists» اهـ. ... لقد سعى جرافز سعيًا مشكورًا لإزاحة الستار عن الأصل الذي اعتمده المحرِّف المحترف، ولكن ما زالت هناك بعض المسائل الغامضة التي لم تكشفها مقالاته الثلاثة، وما زالت هناك عدة تساؤلات حول كيفية وصول الپروتوكولات إلينا على هذا الوجه، وهذا ما سنفصل فيه الحديث في الصفحات التالية .. يذكر موريس چولي في مذكراته (عام 1870م) جلوسه إحدى الليالي على ضفاف نهر السين Seine حينما ألهم بكتابة (حواره) المذكور (¬1). إلا أنه، كما تذكر الموسوعة الحرة، تشير الأبحاث العلمية المدققة إلى زيف ادعاء چولي، وأن (حواره) منتحل من رواية (ألغاز الشعب Les Mystères du Peuple) الشهيرة للروائي الفرنسي أوچين سُو Eugène Sue (1804 - 1857 م)، والتي صدرت قبل كتاب چولي بسبع سنوات، وفيها نسج (سُو) من وحي خياله شخصيات عرَّفها بأنها مجموعة متآمرة من (اليسوعيين الشيطانيين) (¬2). ولكن لم يقف الأمر عند هذا، إنما نسج على منوال موريس چولي كاتب آخر، وهو الألماني هيرمان جويدشي Hermann Goedsche (1815 - 1878 م)، وكان عميلًا للپوليس السري الپروسي ومعروفًا بمعاداته للسامية. فكتب في روايته (بياريتز Biarritz) الصادرة عام 1868م (¬3) فصلًا بعنوان (عند المقبرة اليهودية في پراج At the Jewish Cemetery in Prague)، يصور فيه انعقاد مجلس لجمعية سرية من الحاخامات الممثلين لقبائل إسرائيل الاثنتي عشرة [الباقي منهم اثنتان فقط!]، حيث يجتمعون مرة كل عام في منتصف الليل عند مقابر اليهود، وذلك كي يناقشوا ما تم إنجازه في مؤامرتهم الطويلة الأمد للسيطرة على العالم. وفي نهاية المجلس يعرب رئيسهم عن رغبته في أن ¬

(¬1) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Maurice Joly. (¬2) انظر، السابق، مادة: Eugène Sue. (¬3) والتي كتبها (لأسباب خاصة) باسم مستعار - أو اسم القلم Pen Name - وهو سير چون رتكليف Sir John Retcliffe.

يصبح اليهود ملوك العالم خلال المائة عام المقبلة. ولقد اقتبس جويدشي هذا الفصل من روايتي چولي وسُو؛ حيث استبدل جماعة الحاخامات السرية بالمتآمرين اليسوعيين في رواية سُو، وجعل (حوار) چولي هو نتاج هذا الاجتماع السري. ولقد اجتُزئ هذا الفصل من كتابه وترجم إلى الروسية وطبع مفردًا في سان بطرسبرج ولاقى رواجًا كبيرًا (¬1)، ولعل هذا ما أشار إليه فيليپ جرافز في مقالته الثالثة في جريدة (التايمز) اللندنية بصورة مقتضبة حينما قال: «وقبل الثورة الروسية الأولى بعدة سنوات كانت هناك إشاعة رائجة عن وجود مجلس سري للأحبار اليهود يخطط بصورة متواصلة ضد الأرثوذكس» اهـ. ولكن كيف تحول (حوار) چولي إلى (پروتوكولات) حكماء صهيون كما نشرها نيلوس؟ لقد ناقشت عدة أبحاث هذا الإشكال، وسعت لكشف ذلك الغموض، منها ما أشار إليه الدكتور حسن ظاظا رحمه الله، وهو كتاب للروائي الفرنسي إدموند فليجنهيمر Edmond Flegenheimer (1874 - 1963 م) بعنوان (مختارات يهودية Anthologie Juive) صدر عام 1923م، وقد أعاد فيه نشر ما سجله الحاخام الفرنسي موريس ليبر Maurice Liber (1884 - 1956 م) في مجلة (الإيمان والوعي Foi et Réveil) اليهودية الفرنسية، وذلك في الجزء الثاني من كتاب (فليج) المذكور، والذي وصف الدكتور حسن ظاظا كاتبه بأنه «يستعمل الأسلوب العلمي في التهويش، بالإكثار من الأسماء والتواريخ والإحالات إلى نصوص يعتبرها أصل الپروتوكولات، دون أن يكون هناك أي توثيق لمزاعمه، ولا محاولة لذكر نص واحد من النصوص الكثيرة المتهمة وإثبات أنها انتقلت إلى الپروتوكولات» (¬2)، كما وصف الحاخام موريس ليبر بأنه «يحاول إضفاء نوع من التحقيق العلمي على روايته بذكر شخصين من النكرات ... وأقواله تظل محصورة في ¬

(¬1) كما نشر في ألمانيا النازية وطبع عدة طبعات. [انظر السابق، مادة: Sir John Retcliffe]. (¬2) د. حسن ظاظا: الشخصية الإسرائيلية، ص (96).

نطاق الخبر المحتمل للصدق والكذب، بل في نطاق الأسطورة التي تدعو إلى الشك في كل ما يقول» اهـ (¬1). وأحسب أن المسلك الذي اتبعناه لتحقيق المسألة يجنبنا مثل هذا القول .. كان مما علمته كذلك من الدراسات التي تناقش حقيقة الپروتوكولات كتاب المؤرخ البريطاني نورمان كون Norman Cohn (1915 - 2007 م) (مذكرة عن جرائم الإبادة الجماعية Warrant for Genocide) الصادر عام 1996م وقد اطلعت على بعض فقراته. وكتاب آخر للمؤرخ الفرنسي المعاصر پيير أندريه تاجياف Pierre-André Taguieff وهو بعنوان (التزوير واستخداماته Faux et Usages d'un Faux) صدر عام 1992م، والذي وصفه إريك كونان الصحافي بمجلة (الإكسپريس) الفرنسية بأن تاجياف قدم فيه «التحليل الأقرب إلى الكمال» (¬2). كذلك بحث مؤرخ الأدب الروسي ميخائيل ليپيخين Mikhail Lépekhine؛ وليپيخين هو باحث محقق في تواريخ المطبوعات الصادرة عن مكتبة أكاديمية العلوم في سان بطرسبرج، متخصص في المطبوعات الروسية الصادرة في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وكان أمينًا لأرشيف المعهد الأدبي في روسيا، ومشرفًا على معجم الأعلام Biographic Dictionary الروسي الضخم المكون من 33 مجلدًا والذي يضم عددًا هائلًا من رجال الطباعة والنشر الروس خاصة في نهاية العهد القيصري (¬3). ولقد نشر الصحافي الفرنسي إريك كونان نتائج بحثه في مقالته المذكورة سابقًا بمجلة (الإكسپريس)، الصادرة في 18 نوفمبر عام 1999م بعنوان (أسرار مناورة ضد السامية). ¬

(¬1) السابق، ص (94 - 5) باختصار. (¬2) Eric Conan: Les secrets d'une manipulation antisémite, L'Express, Novembre 18, 1999 (¬3) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Mikhail Lépekhine.

أيضًا، بحث القاضية الإسرائيلية هداسا بن-إيتو Hadassa Ben-Itto وهو بعنوان (الأكذوبة التي لا تموت، پروتوكولات حكماء صهيون The Lie that Wouldn't Die, The Protocols of The Elders of Zion)، والذي صدر بالعبرية عام 1998م، ثم صدرت منه نسخة إنجليزية مؤخرًا عام 2005م. ولقد قدمت فيه بن-إيتو دراسة تصفها الباحثة أليسا لاپن Alyssa A. Lappen بأنها الدراسة (المستحيل نقضها Impossible to put down)، وهذا في مقال لها بعنوان (أكذوبة التاريخ الكبرى: التشخيص الأخير) (¬1). وعند قراءتي لدراسة ليپيخين التي نقلها عنه إيرك كونان، وملخص دراسة بن-إيتو التي نقلتها أليسا لاپن، حيث وجدت مشقة في الحصول على أصل الكتاب، وجدت أن الدراستين تُكمل إحداهما الأخرى، إضافة إلى تغليق بن-إيتو لبعض المسائل التي وجدتها معلقة عند ليپيخين، والعكس من ذلك أيضًا. وخلاصة ما كشفت عنه وأجمعت عليه هذه الأبحاث هو ما تقدم به قول ياكوف رابكن بأن «پروتوكولات حكماء صهيون هي وثيقة مزيفة أخرجت منذ قرن على أمر من شرطة قيصر روسيا السرية». ولقد تبين ذلك من خلال نبش الباحثين للأرشيفات الروسية والفرنسية والسويسرية وغيرها، ومن خلال محاضر محاكمة برن الشهيرة (¬2)، كذلك من خلال المقابلات التي أجريت مع عشرات الشهود على الأحداث. وكانت تحديدًا سجلات هنري بينت ¬

(¬1) Alyssa A. Lappen: History's greatest lie: The latest incarnation, FrontPage Magazine (frontpagemag.com), August 11, 2006 (¬2) محاكمة برن: هي محاكمة عقدت في مدينة برن بسويسرا في الفترة من 1934 إلى 1935م أقامها المحامي السويسري چورچ برونشفيج (1908 - 1973م) رئيس (الاتحاد السويسري للجماعات الإسرائيلية Fédération Suisse des Communautés Israélites FSCI) وزميله إيميل راس Emil Raas، ضد حركة (الجبهة الوطنية Nationale Front) السويسرية المؤيدة للنازية، والتي قامت بتوزيع منشورات في الشوارع معادية للسامية منها (الپروتوكولات). وفي تلك المحاكمة أقام برونشفيج حججه الدالة على زيف الپروتوكولات. وتعد المحاكمة بمثابة مادة ثرية للأدباء والمؤرخين الباحثين في مسألة الپروتوكولات. [انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Berne Trial، ومادة: Georges Brunschvig].

Henri Bint عميل الپوليس السياسي الروسي المحنك في پاريس لمدة سبعة وثلاثين عامًا هي التي أفصحت عن هذا الأمر؛ فيذكر ميخائيل ليپيخين وهداسا بن-إيتو أن هنري بينت استقبل في پاريس عام 1917م سرچي سفاتيكوف Serge Svatikov، مبعوث الحكومة الروسية الجديدة برئاسة ألكسندر كيرينسكي Alexander Kerensky (1881 - 1970 م)، المكلف بفضَّ مكاتب الپوليس السياسي الروسي (أوخرانا) خارج القيصرية - وذلك بعد تنازل نيكولا الثاني Nicholas II (1868 - 1918 م) عن العرش في عام 1917م -، فخلال هذه المقابلة بيَّن بينت لسفاتيكوف حقيقة الأمر، وهي أن صانع الپروتوكولات هو عميل محترف يدعى ماتفي/ماتيو جولوفينسكي Matvei/Mathieu Golovinski (1865 - 1920 م)، وأن بينت نفسه كان هو المكلف بمجازاته ماديًا. كان ممن أكدوا دور جولوفينسكي في هذه المؤامرة كذلك هو - كما تذكر بن-إيتو - فلاديمير بورتسيف Vladimir Burtsev (1862 - 1942 م) مؤسس جريدة (الماضي / Byloe) التاريخية الروسية، وأحد المهاجرين الروس إلى پاريس، حيث هناك أصدر كتابه (پروتوكولات حكماء صهيون، تزوير مؤكد) (¬1)، وذلك عام 1938م. يذكر إريك كونان أن هذا الأمر قد تأكد ثبوته بعد الإفصاح عنه (رسميًا) [رغم أن الخبر قد تسرب قبل ذلك بزمن] بعد انهيار الشيوعية والإفراج عن أرشيفاتها السرية، وذلك عام 1992م؛ فنظرًا لانخراط المزوِّر جولوفينسكي في صفوف البلاشفة منذ عام 1917م حتى وفاته عام 1920م، تستر عليه السوفييت، ولم يرغبوا في الإفصاح عن أمره الذي لا يزال يحير الكثير حتى يومنا هذا، خاصة وأن بحث ميخائيل ليپيخين الذي أفصح عنه في أغسطس عام 1999م لفيكتور لوپان Victor Loupan الصحافي بجريدة (لوفيجارو Le Figaro) - وذلك بعد خمس سنوات من البحث - لم يُثر حماسة الصحف الفرنسية الكبرى. وماتيو جولوفينسكي - كما يذكر ليپيخين - هو صحافي روسي-فرنسي ينحدر من ¬

(¬1) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Vladimir Burtsev.

عائلة أرستقراطية (¬1) عريقة تمتد جذورها إلى الصليبي الكونت هنري دي مون Le Comte Henri de Mons، وهي أسرة معروف أفرادها على مدار تاريخها بالشغب وإثارة الفتن، ومعلوم اشتراكهم في المؤامرات والدسائس - وذكر لذلك أمثلة -. تصفه بن-إيتو بأنه «عميل أوخرانا معادٍ للسامية شديد التعصب، يؤمن بالمؤامرة اليهودية العالمية» اهـ. وكان جولوفينسكي على علاقة بالكونت فورونتسوف داكوف Vorontsov-Dahkov أحد وزراء القيصر ألكسندر الثاني Alexander II (1818 - 1881 م) المقربين، والذي قد أسس بعد حادثة اغتيال القيصر منظمة سرية سماها (الأخوة المقدسة La Sainte-Fraternité)، كانت إحدى أوائل المنظمات السرية التي اعتمدت في نشاطها على التزوير وإصدار المنشورات الثورية المزيفة. ولقد أسسها داكوف اعتقادًا منه في وجود مؤامرة يهودية-ماسونية تهدد أمن القيصرية. وفي عام 1890م عمل جولوفينسكي في سان بطرسبرج لصالح قسطنطين پوبيدونوستسيف Konstantin Pobiedonostsev (1827 - 1907 م)، الوكيل العام للمجلس المقدس، وأحد المستشارين المقربين لألكسندر الثالث Alexander III (1845 - 1894 م)، والذي كان يؤمن كذلك بوجود مؤامرة يهودية تسعى لتقويض نظام الدولة، وكانت مهمة جولوفينسكي تتلخص في توجيه الصحف الروسية عن طريق إمدادها بمقالات تدعم النظام القيصري المحافظ. وكان المشرف عليه في مهمته تلك هو ميشال سولوفييف Michel Soloviev، وكان معروفًا بتدينه وبمعاداته للسامية وتعصبه الشديد. وكما يصف ليپيخين، كان جولوفينسكي بارعًا أدى مهمته طيلة خمس سنوات بسهولة واقتدار. ولقد ظل في وظيفته حتى مات سولوفييف، ولم يعد لپوبيدونوستسيف ¬

(¬1) الأرستقراطية Aristocracy: هي كلمة يونانية تعني سُلطة خواص الناس، أو كما يسميهم الفيلسوف أفلوطين Plotinus (205 - 270 م) بـ (الطبقة الذهبية). وهي مشتقة من الكلمة اليونانية (أريستوس Aristos/Excellent) أي: الممتازة، و (كراتوس Kratos/Power) أي: السُلطة. ويقابلها في المعنى (الديمقراطية Democracy) أي: سلطة الشعب، اشتقاقًا من كلمتي (ديموس Demos/People) أي: الشعب، و (كراتوس) أي: السلطة.

المنزلة نفسها عند القيصر الجديد نيكولا الثاني .. إذن، فبعد أن انحسرت تلك الأيادي الخفية، وبعد كذلك أن فضح ماكسيم جوركي Maxim Gorky (1868 - 1936 م) [الأديب الماركسي المعروف] ألاعيبه ووصفه بالجاسوس الخائن، اضطر جولوفينسكي إلى الارتحال إلى پاريس. وهناك، دفع به هنري بينت للعمل - في نفس المجال الذي احترفه - مع پيوتر راتشكوفسكي Pyotr Rachkovsky (1853 - 1910 م) رئيس مكتب الپوليس السياسي الروسي (أوخرانا) في پاريس، والذي كان - كما تذكر بن-إيتو- مسئولًا عن تتبع الثوار المشتبه فيهم وعمل ملفات لكل المهاجرين الروس إلى پاريس. وقد كلف جولوفينسكي هذه المرة بتوجيه الصحف الفرنسية فيما يتعلق بمناقشتها للسياسة الروسية القيصرية، فكان - كما يذكر ليپيخين - يكتب المقالات التي كانت تنشر في كبرى الصحف الپاريسية بتوقيع صحافيين فرنسيين! وكان راتشكوفسكي من الزمرة الأرثوذكسية المتعصبة، وأحد مؤسسي منظمة الأخوة المقدسة المؤمنة بوجود مؤامرة يهودية-ماسونية تتستر وراء التيار الليبرالي والإصلاحي في روسيا، وكان منشغلًا بكيفية إقناع نيكولا الثاني بصحة معتقده وبضرورة إصدار القرارات الوقائية لمواجهة ذلك الخطر الداهم، ذلك لأن نيكولا الثاني لم يكن يصغي لهذه الأفكار كإصغاء من سبقه من القياصرة، بل كان [رغم اتباعه لسياسة ألكسندر الثالث الرجعية] منشغلًا بالانتقادات الغربية الموجهة للسياسة الروسية لتمييزها ضد اليهود. ومن ثم لجأ راتشكوفسكي إلى الحيلة؛ فكلف عميله الماهر ماتيو جولوفينسكي بإعداد وثيقة توحي بوجود مخططات يهودية سرية تقضي بالإطاحة بالتيار الروسي الأرثوذكسي المحافظ. وبالفعل توجه جولوفينسكي إلى المكتبة الوطنية في پاريس وعكف على تزوير كتاب (حوار في الجحيم) لموريس چولي. وقد أتم جولوفينسكي عمله - كما يرجح ليپيخين - في نهاية عام 1900 أو في عام 1901م. وتذكر هداسا بن-إيتو أن الوثيقة عرفت في دوائر أوخرانا وقتها بـ (العَرَض الصهيوني The Zion Syndrome) كما لاحظ ذلك سرچي سفاتيكوف. يذكر ميخائيل ليپيخين أن راتشكوفسكي كان يهدف إلى توجيه الوثيقة إلى القيصر على

وجه الخصوص في محاولة منه لإقناعه بالأمر، وفيما يبدو لي أن هذه الوثيقة لم تكن موجهة للقيصر على وجه الخصوص، بل لإثارة الرأي العام كذلك - وإن كانت أعدت للقيصر في المقام الأول -، وما دعم ذلك في نظري ما ذكرته الموسوعة الحرة من أن هذه الوثيقة التي انتقلت من پاريس إلى روسيا عن طريق إحدى عميلات راتشكوفسكي تدعى يوليانا جلينكا Yuliana Glinka (1844 - 1918 م) (¬1)، ورد ذكرها لأول مرة في الصحف الروسية في إپريل من عام 1902م، في جريدة سان بطرسبرج (التايمز الجديدة Novoye Vremya)، حيث ذكر الصحافي المحافظ ميخائيل منشيكوف Mikhail Menshikov (1859 - 1918 م) - في سلسلته (رسائل إلى الجيران) تحت عنوان (مخططات ضد الإنسانية) - التقاءه بيوليانا جلينكا (ولكنه لم يسمها في حينه)، وهي التي عرضت عليه الوثيقة وحاولت إقناعه بصحة ما جاء فيها، ولكنه بعد أن قرأ بعض فقراتها رابه الشك في صحتها ومن ثم لم ينشرها. ثم بعد ذلك نُشرت الوثيقة عام 1903م مقسمة على تسع مقالات متتالية في جريدة (الراية Znamya) الروسية في الفترة من 28 أغسطس إلى 7 سپتمبر (¬2)، ثم نشرها سرچي نيلوس في كتابه عام 1905م كما سيأتي. يقول ليپيخين: «لا أظن أن جولوفينسكي كان يقدِّر مدى خطورة عمله هذا، فهو في وقت الإعداد كان يحدِّث به إحدى صديقات والدته، وهي الأميرة كاترين رادزيفيل Catherine Radziwill (1858 - 1941 م)، وكان يقرأ لها بعض فقراته. وكانت هي الوحيدة في فترة العشرينات التي صرحت لإحدى الصحف اليهودية بأن جولوفينسكي هو مؤلف الپروتوكولات الحقيقي. ولكن كلامها لم يستند إلى دليل، وشهادتها اشتملت على بعض المغالطات، ومن ثم لم يعتد بقولها» اهـ. ولعل المغالطة التي وقعت فيها رادزيفيل - على حد اطلاعي - هي تحديد الفترة الزمنية التي كتب فيها جولوفينسكي هذه الوثيقة، حيث ذكرت أنه أعدها في الفترة ما بين عامي 1904 و1905م حينما كان يعمل في جريدة (لوفيجارو) الفرنسية بمرافقة ¬

(¬1) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Pyotr Rachkovsky. (¬2) انظر السابق، مادة: Znamya.

شارلز چولي Charles Joly ابن موريس چولي صاحب (الأصل) المنتحل (¬1)، وعند التدبر لا أظن أن هذا يمنع من الاستئناس بقولها، خاصة أنه حين اقتران شهادتها مع ما تقدم ذكره يتقوى القول المثبت لدور جولوفينسكي الرئيس في هذه المؤامرة، فضلًا عن دور پيوتر راتشكوفسكي؛ والذي بدوره - وظنًا منه بأن المتصوف سرچي نيلوس المعروف بكرهه الشديد لليهود ربما يصير كاهن الاعتراف الجديد الخاص بالقيصر - رأى أن يمرر هذه المخطوطة المزورة لنيكولا الثاني عن طريق هذا الوسيط المؤتمن. ولكن سرعان ما خاب ظنه، حيث لم يعيِّن نيكولا نيلوس كاهنًا له. ولكن المفارقة التي حدثت هي أنه بعد اطلاع نيلوس على مخطوطة جولوفينسكي التي تسلمها في فرنسا - حسب قول بن-إيتو - تحمس لها جدًا، حتى أردفها بكتابه (الضئيل يحتوي العظيم، والمسيح الدجال، كحادث سياسي وشيك، مذكرات رجل أرثوذكسي Velikoe v malom i Antikhrist, kak blizkaia politicheskaia vozmozhnost. Zapiski pravoslavnago)، والذي يصف فيه الثورة الفرنسية (1789 - 1799م) بأنها نذير شؤم بخروج المسيح الدجال. فجعل الوثيقة فصلًا في الكتاب (¬2)، ودفع بنسخة منه إلى نيكولا الثاني ليطلع عليها هو وزوجته ألكسندرا فيودوروفنا Alexandra Feodorovna (1872 - 1918 م). وكان ممن اطلعوا على كتابه أخت ألكسندرا المتدينة الأميرة إليزافيتا Elizaveta Feodorovna (1864 - 1918 م) ووصيفتها إلينا ألكسندروفنا أوزيروفا Yelena Alexandrovna Ozerova - والتي صارت فيما بعد زوجة نيلوس -، وقد أبدتا تأثرًا شديدًا بما جاء في الپروتوكولات. كذلك كان من بين المطلعين على كتاب نيلوس الكونت ألكسندر دي شيْلا Alexandre du Chayla (1885 - 1945 م)، أحد النبلاء الفرنسيين المتحولين إلى الأرثوذكسية، والذي مكث في عام 1909م تسعة أشهر كاملة في دير الرهبان الروسي ¬

(¬1) انظر السابق، مادة: Catherine Radziwill. (¬2) كانت الفصل الثاني عشر من طبعة عام 1905م، وكان تاريخ صدور الطبعة الأولى من الكتاب عام 1901 أو 1902م.

الأرثوذكسي (أوپتينا پوستين Optina Pustyn) حيث ربطته هناك علاقة قوية مع سرچي نيلوس. ولكنه حينما قرأ كتابه أصابه الشك في صحة الپروتوكولات، ولما قام بمراجعة نيلوس في أمرها وجد نفسه مصطدمًا بشخص متعصب يجيب بسذاجة: «نحن نسلم أن الپروتوكولات مزورة، ولكن أليس من مهام الرب أن يكشف لنا عما يدبَّر من شرور؟ أليس في استطاعته، وفقًا لاعتقادنا، أن يحيي عظام الكلب؟ إذن فبإمكانه أن يخرج نذير الحق من فمٍ كاذب!» اهـ. وحينما راجت الپروتوكولات وأثارت القلاقل في داخل روسيا، أمر رئيس مجلس الوزراء الروسي پيوتر ستوليپن Pyotr Stolypin (1862 - 1911 م) بإجراء بعض التحريات السرية حولها، والتي كشفت خيوط (المؤامرة الپاريسية). حينها أخبر ستوليپن نيكولا الثاني بالأمر، والذي رغم ولعه الشديد بها، أصدر قراره بمصادرة نسخ الپروتوكولات ومنع نشرها في روسيا، وقال: «إن الدوافع الطيبة لا ينبغي أن تدعم بمثل هذه المسالك الحقيرة» (¬1). ولكن رغم ذلك، وبسبب تلك الدوافع الطيبة! استمرت الپروتوكولات في الانتشار، خاصة - كما تذكر بن-إيتو - وقد نجحت الضغوط التي مارستها الأميرة إليزافيتا ووصيفة أختها إلينا أوزيروفا على هيئة مراقبة المطبوعات الروسية للعدول عن قرارات القيصر ورفع حظر النشر. وبعد اندلاع الثورة الروسية في عام 1917م التي عرفت بأنها ثورة يهودية من الدرجة الأولى، راجت الپروتوكولات في أوروپا، وترجمت إلى عدة لغات، ثم انتقلت إلى أمريكا وقد تبنى نشرها هنري فورد Henry Ford (1863 - 1947 م) رائد صناعة السيارات الأمريكية. وظهرت أول نسخة عربية عام 1926م في دورية الرومان الكاثوليك في القدس المعروفة باسم (رقيب صهيون)، وتوالت بعدها الترجمات العربية التي من أشهرها ترجمة محمد خليفة التونسي الصادرة في عام 1951م (¬2). ... ¬

(¬1) انظر السابق، مادة: The Protocols of The Elders of Zion. (¬2) انظر السابق نفسه، ومادة: Henry Ford.

هذا من الناحية التاريخية، أما من الناحية الأدبية: فقد أفاض وأجاد الدكتور المسيري في الحديث عنها وفي كشف عوارها، وأحيلك على المجلد الثاني من موسوعته لعدم الإطالة .. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي هيأ الأجواء الأوروپية لقبول هذه المناورة السياسية الروسية التي نتج عنها ما عرف في التاريخ بالپوجرومز Pogroms أو المذابح المنظمة التي شهدها يهود روسيا في الفترة من 1903 إلى 1906م وما تبعها من إبادة نازية على يد أدولف هتلر (¬1)، وغيرها من مظاهر ما يعرف في العالم باسم (معاداة السامية)؟ ¬

(¬1) يقول الدكتور المسيري: «يرد في وسائل الإعلام الغربية رقم (ستة ملايين) باعتباره عدد ضحايا الإبادة النازية لليهود. وقد استقر الرقم تمامًا حتى أصبح من البدهيات، ولكن هناك رفضًا مبدئيًا للرقم في الأوساط العلمية اليهودية وغير اليهودية ...». وبعد أن طرح عدة أمثلة يقول: «وفي جميع الحالات، لا يمكن أن يزيد عدد من اختفوا على أربعة ملايين. ومؤخرًا، ذكر المؤرخ الإسرائيلي يهودا باور Yehuda Bauer، مدير قسم دراسات الهولوكوست في معهد دراسات اليهود في العصر الحديث التابع للجامعة العبرية، أن الرقم ستة ملايين لا أساس له من الصحة، وأن الرقم الحقيقي أقل من ذلك». ثم يشير المسيري إلى نقطة مهمة وهي أنه «بغض النظر عن الرقم مليون أو الأربعة أو الستة ملايين، فإن ثمة خللًا أساسيًا في المنطق الصهيوني يمكن تلخيص بعض جوانبه فيما يلي ...»، وكان من الجوانب التي ذكرها «التركيز على اليهود بالذات دون الجماعات الأخرى؛ فمع أن اليهود عانوا، مثلهم في ذلك مثل غيرهم من ضحايا النازية، إلا أن سياسة هتلر في الإبادة كانت موجهة أيضًا نحو الغجر والكاثوليك والمعارضين السياسيين والمرضى والمتخلفين عقليًا والسلاف عامةً والپولنديين والروس على وجه الخصوص. وقد بلغ عدد ضحايا الحرب ما بين خمسة وثلاثين مليونًا وخمسين مليون» اهـ[للتوسع، انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ ستة ملايين يهودي: عدد ضحايا الإبادة النازية ليهود أوروپا؟)] .. ومعلوم أن إنكار الهولوكوست في بلاد الغرب يعد جريمة لا تغتفر، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها قرار الحرمان الكنسي الذي أصدره مؤخرًا بنديكت بابا الفاتيكان ضد الأسقف ريتشارد وليامسون Richard Williamson بسبب ما صرح به من إنكاره لأفران الغاز وأن حصيلة من ماتوا في معسكرات النازي لا يزيدون عن مائتي أو ثلاثمائة ألف، وأنهم لم يموتوا بأفران الغاز كما يشاع. ولقد رفض المجلس القضائي الكنسي العفو عن ويليامسون، بدعوى أن ذلك قد يوحي بأن نفي المحرقة (أمر مسموح به)! وجاء ذلك بعد أن هدد وزير الشئون الدينية الإسرائيلية إسحاق كوهين Yitzhak Cohen «بقطع كامل العلاقات مع الهيئة التي تضم بين أعضائها منكرين للهولوكوست ومعادين للسامية»، وذلك في تصريحه لمجلة (دير شپيجل Der Spiegel) الألمانية الأسبوعية، عدد 2 فبراير 2009م. الأمر الذي أثار الصحافي روبرت فيسك ودفع به إلى التساؤل حول موقف بابا الفاتيكان الحريص كل الحرص على إرضاء اليهود، وذلك في مقالته بجريدة (الإندپندنت) في 28 فبراير 2009م بعنوان: (أخضعوا كلمات البابا للاختبار، ولن تستنتجوا إلا شيئًا واحدًا Examine the Pope's words, and there's only one thing to conclude).

ويجيب عن هذا الدكتور المسيري بقوله: «في تصوري أن إحساس الإنسان الأوروپي في أواخر القرن التاسع عشر بأزمته، وإدراكه السطحي المباشر لها بعد تزايد معدلات العلمنة والتصنيع في الغرب، ومع هيمنة القيم الداروينية والرأسمالية الجشعة، وبعد تفكك المجتمع التقليدي الذي كان يوفر له قدرًا كبيرًا من الطمأنينة، حتى وإن سلبه حريته وفرصه في الحراك الاقتصادي، أقول: إن الإدراك السطحي هو الذي جعل الجماهير في الغرب تتبنى نموذجًا تفسيريًا بسيطًا اختزاليًا يفسر كل ما يدور حولها ببساطة شديدة؛ فالمجتمع الذي يحاول اليهود فرضه على العالم، والذي تصوره الپروتوكولات، ليس عالمًا شريرًا بشكل شيطاني ميتافيزيقي (¬1)، وإنما هو في الواقع العالم الغربي الصناعي في القرن التاسع عشر، عالم سادت فيه القيم العَلْمانية الشاملة بتأكيدها على قيم مثل المنفعة واللذة، وبدأت تحل فيه علاقات التعاقد محل علاقات التراحم، ومن هنا كان الجمع بين الرأسمالية والاشتراكية باعتبارهما نظامين يبشر بهما اليهود، فكلاهما ثورة على المجتمع التقليدي بكل ما فيه من خير وشر. ومن هنا أيضًا الجمع بين نيتشه وماركس Karl Marx [1818 - 1883 م]، فكلاهما فيلسوف مادي يرفض المجتمعات التقليدية. فبرغم الاختلافات العميقة بين الرأسمالية والاشتراكية وبين نيتشه وماركس وداروين Charles Darwin [1809 - 1882 م]، فإن العامل المشترك الأعظم (أو نقطة البدء أو التلاقي) بين هذه الأفكار والنُّظُم المتناقضة إنها كلها تعبير عن زحف المجتمع الحديث على المجتمع التقليدي الذي بدأ بالثورة الفرنسية ووصل قمته في الثورة البلشفية» (¬2). ولقد «وجد الإنسان الغربي العادي نفسه في وسط هذا الزلزال، ولم يجد له تفسيرًا، ¬

(¬1) الميتافيزيقا Metaphysics هي فرع من الفلسفة يبحث عن الحقيقة الأولية للوجود، سمَّاها أرسطو الفلسفة الأولى، وموضوعها هو ما يتجاوز الخبرة، كما يبحث في ماهية الإله والعالم والإنسان، وفيما وراء الطبيعة والحس. (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (37 - 8) باختصار.

ولكنه لاحظ وجود أعضاء الجماعات اليهودية في مختلف القطاعات والاتجاهات، شأنهم في ذلك شأن أعضاء أية أقلية أخرى، فكانت توجد أعداد كبيرة من كبار المموِّلين الرأسماليين اليهود، كما كان كثير من أعضاء الجماعات اليهودية يشتغلون بالتجارة الصغيرة والربا، وكان من بينهم عدد كبير من المفكرين الليبراليين بل والرجعيين الذين يدافعون عن حرية التجارة وعن أكثر الأفكار الداروينية الاجتماعية تطرفًا، كما تركَّز أعضاء الجماعات اليهودية بأعداد كبيرة في قطاعات اقتصادية مشينة مثل البغاء ونشر المجلات والمطبوعات الإباحية ... وإلى جانب ذلك، كانت هناك أعداد كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية في حركة اليسار أيضًا: فقد كان أكبر حزب اشتراكي في أوروپاهو حزب البوند Bund اليهودي. وقد انخرط الشباب اليهودي بأعداد كبيرة في الحركات الثورية (¬1)، وكانت هناك أعداد كبيرة من المفكرين الاشتراكيين والشيوعيين من أصل يهودي. كما كان لليهود حضور واضح في الفكر الفوضوي. وفي نهاية الأمر، كان كل من روتشيلد Rothchild رمزًا للارتباط العضوي بين اليهود والرأسمالية، وماركس رمزًا للارتباط العضوي أيضًا بين اليهود والاشتراكية. ولذا، كان من الممكن تفسير كل ¬

(¬1) حول تفسير هذه الظاهرة يقول المسيري في موضع آخر: «يُلاحَظ وجود كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في الحركات الثورية الاشتراكية في كثير من بلاد العالم بنسبة تفوق نسبة انخراط السكان الأصليين في هذه الحركات ... وليس هذا بمستغرب، فكثير من أعضاء الأقليات ينجذبون إلى الحركات الثورية العَلْمانية على أمل أن يحقق لهم المجتمع الثوري العَلْماني الجديد الحرية الكاملة والمساواة التامة ... ويمكن تفسير انخراط أعضاء الجماعات اليهودية في الحركات الثورية بشكل ملحوظ على الأساس التالي: (1) كان اليهود يشكلون نسبة كبيرة من القطاع المتعلم في المدن، وهو القطاع الذي يساهم في الحركات الثورية أكثر من القطاعات الأخرى. (2) كان كثير من الشباب اليهودي محرومًا من دخول الجامعات الروسية، فالتحقوا بالجامعات في أوروپاحيث تم تسييسهم وتثويرهم بدرجة أعلى من أقرانهم. (3) كان اليهود أقلية مُضطهَدة محرومة من حقوقها المدنية .. ولذا، نجد أن المثقفين اليهود الذين كان من الممكن في ظروف عادية أن يتحولوا إلى مهنيين عاديين (وهو الأمر الذي حدث فيما بعد)، وقد انخرطوا، بدلًا من ذلك، في صفوف القواعد الثورية، كما يحدث في كثير من الحركات الثورية في العالم، حيث نجد أن أعضاء الأقليات المضطهدة يشكلون نسبة عالية فيها» اهـ[د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (3/ انخراط أعضاء الجماعات اليهودية في الحركات الاشتراكية والثورية) باختصار].

شيء بالرجوع إلى مقولة (يد اليهود الخفية). ولعل ما ساعد على إشاعة هذا النموذج التفسيري الساذج أن الوجدان المسيحي كان يجعل من اليهودي قاتل الرب رمزًا لكل الشرور. وقد شهدت نهاية القرن التاسع عشر عصر الهجرة اليهودية الكبرى، ولذا كان هناك يهود في كل مكان، يهود لا جذور لهم في طريقهم من شرق أوروپاإلى الولايات المتحدة. وكما هو معروف، فإن الإنسان المهاجر المتنقل لا يلتزم بكثير من القيم. ولكل هذا، أصبح اليهودي رمزًا متعينًا لعملية ضخمة لم يكن الإنسان الأوروپي يفهمها جيدًا رغم شقائه الناجم عنها، وهي الثورة العَلْمانية الشاملة الكبرى (بشقيها الاشتراكي والرأسمالي)، وهي ثورة لم يكن اليهودي يشكل فيها سوى جزء بسيط من كلٍّ ضخم مُركَّب. بل إن العقيدة اليهودية ذاتها سقطت ضحية هذه الثورة، وفقدت قطاعات كبيرة من الجماعات اليهودية هويتها نتيجةً لها» (¬1). «فبإدراكه السطحي للأمور، بدأ الإنسان الغربي يبحث عن سبب واضح مباشر، وحيث إنه تصور أن اليهود كتلة واحدة متماسكة، وحيث إن اليهودي هو قاتل الرب وهو الشحاذ الذي يتسول، والثري الذي احتكر الأسواق، والثوري الذي يقلب نظام الحكم، والحاخام الذي يتمسك بشعائر دينه، والقوَّاد الذي يصطاد الفتيات ويقودهن للدعارة، وهو شيلوك [التاجر اليهودي المرابي]، وهو دراكيولا Dracula [مصاص الدماء] ... كان من الطبيعي أن يصبح رمزًا متعينًا لعملية انقلابية بنيوية ضخمة سببت البؤس والشقاء له، ولكنه لم يدرك أسبابها أو عمقها أو شمولها أو تركيبتها. وجاءت الپروتوكولات وزودته بهذا النموذج التفسيري البسيط، فأراحته وهدأت من روعه وضللته وأخفت عنه الأسباب الحقيقية المؤدية لاغترابه وشقائه» اهـ (¬2). نهاية، فهذا اجتهاد قد يصيب أو يخطئ، وعلى كلٍّ، فقد يقال في حق اليهود، إن جاز لنا القول: «رب ضارة نافعة»!؛ فإن الترويج لهذه الپروتوكولات خدم كثيرًا - وما زال - ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ پروتوكولات حكماء صهيون) باختصار. (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (39) بتصرف يسير.

المصالح الصهيونية من الناحية العملية، والتي صار واضح للعيان طغيانها وهيمنتها على مقدرات الكثير من البلاد، وذلك لجملة من الأسباب نذكرها في الصفحات التالية، ولعل هذا الأمر هو الذي جعل المعلِّق السياسي الإسرائيلي يوئيل ماركوس Yoel Marcos يقول: «إن الپروتوكولات [بسبب أثرها هذا الذي يولِّد الرهبة في النفوس ويدفع الناس لمغازلة إسرائيل واليهود] تبدو كأن الذي كتبها لم يكن شخصًا معاديًا لليهود، وإنما يهودي ذكي يتسم ببعد النظر!» اهـ (¬1). ... ¬

(¬1) انظر، د. عبد الوهاب المسيري: اليد الخفية، ص (8 - 9)، نقلًا عن مقالة يوئيل ماركوس في جريدة (هآرتس Haaretz)، بتاريخ 31 ديسمبر 1993م.

الصهيونية .. رؤية مغايرة

- - {الصهيونية .. رؤية مغايرة} - - «إذا كان الله لا يرسل إليَّ مسيح من عنده يختلف عن مسيح الذي ينتظره اليهود ويعلقون عليه رجاءهم، فأفضل لي لو مُسِخت خنزيرًا، فلا أبقى بعد ذلك إنسانًا» [مارتن لوثر] (¬1) بعد أن صدَّرنا الفصل بهذا المدخل، ننطلق صوب الموضوع الرئيسي الذي نحن بصدد مناقشته، والذي عنونته بـ (الصهيونية، رؤية مغايرة)؛ فهي رؤية مغايرة لما يراه بعض المهتمين بالمسألة اليهودية، حيث تعرَّف الصهيونية في اصطلاحهم بأنها (حركة أصولية يهودية دينية في الأساس)، وفي حقيقة الأمر هي ليست كذلك، فكما يذكر ياكوف رابكن (¬2): «كانت الصهيونية اختراع مثقفين أو متمثلين بهم، اختراع (حزب العقل) الذي أدار ظهره للربانيين، وتطلع إلى الحداثة Modernity، والذي يبحث بنشاط واندفاع عن علاج لبؤس حياته» اهـ. ولكن هذا لا يعني أننا نتجاهل البعد العقائدي لهذه البدعة الصهيونية، والذي ستؤول إليه السيطرة في الحقبة المقبلة، كما يرجح الكثير من باحثي اليهودية كإسرائيل شاحاك وإيان لوستك وعبد الوهاب المسيري وغيرهم (¬3)، إن لم تكن آلت إليه بالفعل. فضلًا عن أن هذا ما ندين إلى الله تعالى به؛ أي الإيمان بأن سنته - سبحانه وتعالى - في ملكه هي كون الصراع دائمًا وأبدًا بين معسكري الإيمان والكفر، بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، حتى وإن ¬

(¬1) مارتن لوثر: عن اليهود وأكاذيبهم، ص (146). (¬2) ياكوف رابكن: المناهضة اليهودية للصهيونية، ص (26). (¬3) سيأتي بيان هذا في موضعه، وما تمخضت عنه الانتخابات الإسرائيلية في فبراير 2009م من صعود صاروخي لليمين الإسرائيلي واستحواذه على حوالي نصف مقاعد الكنيست، بل وعلى الأخص صعود حزبي (يسرائيل بيتنا) العنصري المتطرف و (شاس) الديني المتعصب، مع الإطاحة بحزب العمل اليساري الوسطي، إضافة إلى ما نص عليه استطلاع جالوپ كما تقدم، فكل هذه إشارات لما ستئول إليه الأمور، والله أعلم.

انحرف التوصيف قليلًا تحت دعوى القومية أو ما شابه، فكلها رايات منكسة، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (¬1). إذن، فإن الإشارة هنا فقط إلى أن البُعد الديني ليس بعدًا أصليًا في تاريخ الصهيونية اليهودية (¬2). وعملنا في هذا المبحث هو تقديم دراسة تاريخية أكثر تركيبًا للتاريخ اليهودي منذ التهجير البابلي الثاني على يد نبوخذنصر إلى الاحتلال الصهيوني لفلسطين وتبعاته، والهدف من هذه الدراسة هو تسليط الضوء على الأبعاد التي نجح الصهاينة في إخفائها عند عرضهم للتاريخ (المقدس) المعروف لدى الغالبية على هذا الوجه، والذي يحتوي على تزوير فادح وقلب للأمور رأسًا على عقب. وهي لا شك دراسة صعبة ومتداخلة، ولم أجد في وصفها أدق من قول مايكل پريور (1942 - 2004م) (¬3): «إن تداخل التخصصات الأكاديمية وتعدد فروعها أوضح صعوبة الإلمام بموضوع شائك كهذا من وجهة نظر واحدة وتناوله من زاوية واحدة فقط ... وما يشتت الأفكار في تناول متنوع مثل هذا التناول أن كل عنصر فيه يُطرَح بصورة مستقلة عن بقية العناصر ... ونعلم جيدًا أنه لم يتغير أي مجتمع بسبب عامل أيديولوچي واحد فقط، سواء كان اقتصاديًا أو وطنيًا أو دينيًا. إن تفسير أي تطور تاريخي ذي أهمية بعامل واحد فقط، هو في الواقع خطأ؛ إذ تتطور النظم بتفاعل عدة عوامل». وكما تقول باربرا تخمان (¬4): «يكاد يكون من المستحيل المحاولة للوصول إلى تقارير أو أبحاث حول عملية البعث الحديث للشعب اليهودي دون اليأس من التورط في متاهات يهودية داخلية وسياسات خارجية أوروپية» اهـ. فأرجو من القارئ الكريم إطالة النفس في القراءة، وألا تصيبه السآمة مما قد يجده من ¬

(¬1) الأحزاب: 62 (¬2) خلافًا لما يشير إليه اليهودي المصري إيلي ليفي أبو عسل، في كتابه (يقظة العالم اليهودي)، من أن ظهور الحركة الصهيونية في مطلع القرن الماضي هو صحوة للعالم اليهودي الغافل، ولاحظ الربط الخفي بين اليهودية والصهيونية وكأنها الأصل الذي ينبغي أن تكون عليه اليهودية. (¬3) مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، دراسة نقدية أخلاقية، ص (13 - 5) باختصار. Michael Prior: The Bible and Colonialism, A Moral Critique (¬4) باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (2/ 117).

اصطفاء مشروط لبني إسرائيل

مباحث اجتماعية فلسفية جامدة اقتضتها الحاجة حاولت اختصارها قدر الإمكان، وأن يرجئ الحكم إلى نهاية الفصل. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلًا، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلًا ... اصطفاء مشروط لبني إسرائيل: فلقد امتن الله على بني إسرائيل واصطفاهم وفضلهم على العالمين، وجعل فيهم الكتاب والحكم والنبوة. ولكنه كان اصطفاءً مشروطًا، إذ قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} (¬1). وحينما قالت بنو إسرائيل لموسى - عليه السلام -: {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَاتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (¬2). فلم يكن الاصطفاء للإسرائيلي ذاته، فلقد قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬3)، وإنما {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬4)، وهو تعالى العليم الحكيم. ولقد بين لهم موسى - عليه السلام - هذا الأمر صراحةً؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ. وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (¬5). فكان الاصطفاء هو عين الابتلاء، وكما قال نبي الله سليمان - عليه السلام -: {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (¬6). ¬

(¬1) المائدة: 12 (¬2) الأعراف: 129 (¬3) الحجرات: 13 (¬4) الجمعة: 4 (¬5) إبراهيم: 7 - 8 (¬6) النمل: 40

ولكنهم ما رعوا فضل الله تعالى عليهم حق رعايته، وكان {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1)، ففي الفتنة سقطوا، وأضفوا على شعبهم هالة من القداسة، وخلعوا عليه لباس الولاية، زاعمين أنهم شعب الله المختار، لا لشيء سوى أنهم من ذرية الكريم بن الكريم بن الكريم، عليهم السلام أجمعين، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (¬2). بل ويذكر أكثر تفسيراتهم تواترًا «أن الاختيار غير مشروط ولا سبب له، فهو من إرادة الإله التي لا ينبغي أن يتساءل عنها أي بشر، الإله الذي اختار الشعب ووعده بالأرض، وليس لأي إنسان أن يتدخل في هذا ... والاختيار - حسب هذا التفسير - لا علاقة له بالخير والشر، ولا بالطاعة أو المعصية، فهو لا يسقط عن الشعب اليهودي، حتى ولو أتى هذا الشعب بالمعصية، إذ إن حب الإله للشعب المختار يغلب على عدالته، ولذلك لن يرفض الإله شعبه كلية في أي وقت من الأوقات مهما تكن شرور هذا الشعب» (¬3). ولقد ترسخ هذا الاعتقاد في وجدانهم، حتى إنهم «في تعبيراتهم الشعرية يرون أن الرب قد اتخذ أمتهم عشيقة له، بل إنه تزوجها زواجًا أبديًا، حتى إنها إذا خانته ودنَّست شرف العلاقة التي بينها وبينه، لم يطلِّقها كما يفعل أحقر مخلوق من البشر، ولكنه يكتفي بأن يغضب ثم يرضى، وأن يعاقب ثم يصفح. فهي الأمة الحبيبة المعشوقة المدللة التي تعلم أن الرب لن يجرؤ يومًا ما على قتلها مهما أجرمت!» (¬4)، {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} (¬5). ونحن لن نتوقف لسرد جرائم اليهود، وكفرهم بالله، وتركهم الشريعة، واتخاذهم العجل، وقتلهم الأنبياء ... فلقد زخر بهذا كله القرآن المجيد، وصنفت فيه مصنفات عدة، ويكفينا أن آخر ما قاله موسى - عليه السلام - في شأنهم: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (¬6). ... ¬

(¬1) آل عمران: 110 (¬2) المائدة: 18 (¬3) انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (5/ الشعب المختار). (¬4) انظر، د. حسن ظاظا: الشخصية الإسرائيلية، ص (36 - 7). (¬5) المائدة: 64 (¬6) المائدة: 25

وعد أولاهما

وعد أولاهما: قال الله - جل جلاله -: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَّسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1)، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (¬2). وقال سبحانه: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَاسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا. عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} (¬3). وكان وعد أولاهما في عام 586ق. م، ذلك عندما قام الطاغية البابلي نبوخذنصر بغزو المملكة الجنوبية (يهودا) وتدمير عاصمتها القدس وهدم المسجد الأقصى (الهيكل المزعوم)، وذلك - باختصار - بسبب تحالف حاكمها صدقياهو مع المصريين ومحاولته الاستقلال عن بابل (¬4). وقد استمرت فترة التهجير البابلي حوالى خمسين عامًا، وإن كان هناك رأي يذهب إلى أنها حوالي سبعين عامًا. وكان مركز المهجَّرين الأساسي (تل أبيب) في العراق. وظلت هذه الجماعة العبرانية في بابل إلى أن هزم قورش الأخميني الفارسي [590/ 576 - 529ق. م] الإمپراطورية البابلية وسمح لهم بالعودة عام 538ق. م للأسباب السياسية نفسها التي نُفوا من أجلها، أي ضرورة توطين عنصر سكاني موالٍ له في فلسطين (¬5). وأصدر قورش أمره بإعادة بناء الهيكل على أسسه القديمة، وأمر كذلك أن تُرد آنية ¬

(¬1) الأعراف: 167 (¬2) آل عمران: 182 (¬3) الإسراء: 4 - 8 (¬4) للتوسع، انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ المملكة الجنوبية-يهودا، والتهجير الآشوري والبابلي للعبرانيين). (¬5) انظر السابق.

ورسولا إلى بني إسرائيل

الذهب والفضة التي أخرجها نبوخذنصر من الهيكل وجاء بها إلى بابل (¬1)، ولذا تحول قورش في الوجدان الديني اليهودي إلى المخلِّص، بل إلى كونه المسيح المنتظر (¬2). وللعلم أنه قد رفض كثير من اليهود، وخصوصًا الأثرياء منهم، العودة إلى فلسطين بعد مرسوم قورش، حيث وجدوا أنفسهم في بابل بعيدين عن اضطهاد الإمپراطورية الرومانية الشرقية، واكتفوا بدفع مساعدات مالية للعائدين إلى فلسطين. ... ورسولا إلى بني إسرائيل: تتابعت الأنبياء والرسل على بني إسرائيل، كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي» (¬3)، ولكنهم كعادتهم {كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} (¬4). وكما يذكر التونسي أنه «من الظواهر البارزة في تاريخهم كثرة أنبيائهم، وهذا شيء ينفردون به دون سائر الأمم، ولا تعليل له إلا السوء العريق في دخائلهم المنكوسة، ولولا هذا السوء اللازب لما احتاجوا إلى معشار هذا العدد من الأنبياء والمصلحين، ولكنهم لمسخ طبائعهم العريق كانوا على الدوام أهل سوء، فكلما حسنت حالهم على يد نبي أو مصلح ثم مات ارتدوا إلى سوئهم وعصيانهم، فاحتاجوا سريعًا إلى غيره، وهكذا دواليك. فكثرة أنبيائهم مخزاة من مخازيهم وليست مفخرة من مفاخرهم كما يريدون أن يَفْهَموا ويُفْهِموا الناس» اهـ (¬5). وفي ظل الحكم الروماني للقدس أرسل الله تعالى آخر رسله إلى بني إسرائيل خاصة، وهو المسيح عيسى ابن مريم - عليه السلام -، قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا ¬

(¬1) انظر، عزرا 6: 3 - 5 (¬2) انظر، أشعياء 45: 1 - 7 (¬3) رواه مسلم، كتاب الإمارة: 1842 (¬4) المائدة: 70 (¬5) محمد خليفة التونسي: الخطر اليهودي، ص (74).

بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} (¬1). ولقد أرسله الله - عز وجل - مبشرًا بخاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله إلى الناس عامة: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَاتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (¬2). ولقد أيد الله تعالى عيسى - عليه السلام - بالمعجزات آية لقومه، وحجة عليهم، قال عنه سبحانه: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَاكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (¬3). وجدير بالإشارة أنه لم يكن اتجاه معجزات المسيح - عليه السلام - اتجاهًا طبيًا في غالب الأمر نظرًا لانتشار الطب بين بني إسرائيل كما يشاع؛ يقول الدكتور أحمد شلبي (1915 - 2000م) (¬4): «إن الثابت أن معرفة بني إسرائيل بالطب كانت قليلة حينذاك وقبل ذاك ... والذي نراه أن معجزات عيسى في صميمها تتفق مع طبيعة مولده، فمعجزاته من نوع مولده ترمي إلى إحياء الناحية الروحية وإقامة الدليل على وجود الروح، تلك التي أنكرها أكثر بني إسرائيل. فخلق شكل طير من الطين لا حَراك فيه، ثم النفخ فيه فيتحرك ويطير مع أن مادته لم يزد عليها شيء، معناه أن زيادة جديدة طرأت، وهذه الزيادة ليست مادية قط، فلا بد أن تكون روحية، وجسم الميت الذي لا يتحرك ولا يعي، يصبح بعد دعوة عيسى حيًا واعيًا دون زيادة مادية عليه، فمعنى ذلك وجود الروح» اهـ. ولقد جاءهم - عليه السلام - ودعاهم إلى الأخلاق الفاضلة، وأراد أن يوجههم وجهة روحية، وأن يقلل تكالبهم على المال، ومثل هذه الدعوة لا تجد قلبًا سميعًا ولا تلاقي تأييدًا من ¬

(¬1) المائدة: 46 (¬2) الصف: 6 (¬3) آل عمران: 49 - 51 (¬4) د. أحمد شلبي: مقارنة الأديان/المسيحية، ص (66) باختصار.

يهود قال الله تعالى فيهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (¬1). واشتد ارتياب اليهود وغضبهم عندما شاهدوه يكتسح أمامه كل ما يعتزون به من ضمانات؛ إذ يُعلِّم الناس أن الله ليس من المساومين، وأن ليس هناك شعب مختار، وأن الله هو المحب لكل الأحياء، وأنه لا يستطيع اختصاص البعض بالرعايات عدم استطاعة الشمس ذلك مع الناس (¬2). {فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} (¬3)، وتآمرت الطائفة الكافرة على قتله، خاصة بعد أن وبخهم وأنبأهم بأن الله سيدمر لهم مدينتهم وهيكلهم بعد ما اتخذوه سوقًا للصرافة والتعامل بالربا، وملهى لسباق الحمام، ومعبدًا للأوثان، كما جاء في متَّى (¬4): «ودخل يسوع إلى هيكل الله، وأخرج جميع الذين يبيعون ويشترون في (الهيكل)، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، وقال لهم: مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص». ولكنه - عليه السلام - نبأهم بخراب (الهيكل)، ولم ينبئهم بإعادة بنائه مرة أخرى، كما فعل أنبياؤهم السابقون: «... فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل فقال لهم يسوع: أما تنظرون جميع هذه. الحق أقول لكم: إنه لا يُترك ههنا حجر على حجر لا يُنقض!» (¬5). فلما أحس اليهود بالخطر يتهدد أنظمتهم وطقوسهم العفنة «أغروا به الحاكم الروماني. ولكن الرومانيين كانوا وثنيين ولم يكونوا على استعداد للدخول في الخلافات الدينية بين اليهود، ولم تكن دعوة المسيح التي أعلنها إلا إصلاحًا خلقيًا ودينيًا فلم تتصل دعوته بالسياسة، ولم تمس الحكومة من قريب أو من بعيد، ولذلك لم يستحق غضب الرومان. ولكن اليهود تتبعوا عيسى لعلهم يجدون منه سقطة تثير عليه غضب الرومان» (¬6). ¬

(¬1) البقرة: 96، يقول هتلر: «... ولئن تكن غريزة حب البقاء عنده [أي اليهودي] أقوى منها في أي عرق آخر» اهـ[أدولف هتلر: كفاحي، ص (171)]. (¬2) د. أحمد شلبي: مقارنة الأديان/المسيحية، ص (67، 100) بتصرف. (¬3) الصف: 14 (¬4) متى 21: 12 - 13 (¬5) متى 24: 1 - 2 (¬6) د. أحمد شلبي: مقارنة الأديان/المسيحية، ص (67 - 8) بتصرف.

فلما لم يجدوا ما يُغضبوا به عليه الرومان تقوَّلوا عليه وكذبوا: «وأخذوا يتهمونه فيقولون وجدنا هذا الرجل يثير الفتنة في شعبنا ويمنعه من دفع الجزية إلى القيصر ويدَّعي أنه المسيح الملك» (¬1). «ثم كلم [رئيس الكهنة] هيرودس [ملك اليهود] والوالي [الروماني] قائلًا: كيفما كانت الحال فإن بين أيدينا معضلة. لأننا إذا قتلنا هذا الخاطئ خالفنا أمر قيصر. وإن تركناه حيًا وجعل نفسه ملكًا فكيف يكون المآل؟ فوقف حينئذ هيرودس وهدد الوالي قائلًا: احذر من أن يكون عطفك على ذلك الرجل باعثًا على ثورة هذه البلاد. لأني أتهمك بالعصيان أمام قيصر. حينئذ خاف الوالي مجلس الشيوخ وصالح هيرودس وكانا قبل هذا قد أبغض أحدهما الآخر إلى الموت. واتحدا معًا على إماتة يسوع وقالا لرئيس الكهنة: متى علمت أين الأثيم فأرسل إلينا نعطك جنودًا. وقد عمل هذا لتتم نبوءة داود الذي أنبأ بيسوع نبي إسرائيل قائلًا: اتَّحد أمراء الأرض وملوكها على قدُّوس إسرائيل لأنه نادى بخلاص العالم. وعليه فقد حدث تفتيش عام في ذلك اليوم على يسوع في أورشليم كلها» (¬2). قال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬3). وبعد أن رفع الله تعالى المسيح - عليه السلام - أنزل اليهود والرومان الوثنيين بأتباعه أشد ألوان العذاب والاضطهاد، يقول أبو زهرة رحمه الله (¬4): «لم يكن اضطهاد المسيحيين - بعد رفع المسيح - عليه السلام - من الرومان فقط، بل كان من اليهود أيضًا، وأذاهم أمكن، وتنقيبهم عن العقيدة أدخل، لأنهم من الشعب ومخالطوهم ومعاشروهم، فهم بداخلهم أعرف». ¬

(¬1) لوقا 23: 2 (¬2) برنابا: 210: 23 - 31 (¬3) آل عمران: 54 - 57 (¬4) محمد أبو زهرة: محاضرات في النصرانية، ص (31) بتصرف يسير.

وعد الآخرة

ولعل من أبشع حركات الاضطهاد التي عاناها المسيحيون في القرن الأول تلك التي أنزلها بهم نيرون الطاغية Nero Claudius (37 - 68 م)، فقد ألقى بعضهم للوحوش الضارية تنهش أجسامهم، وأمر فطليت أجسام بعضهم بالقار وأشعلت لتكون مصابيح بعض الاحتفالات التي يقيمها نيرون في حدائق قصره (¬1). وعد الآخرة: وحينما جاء وعد الآخرة، تحقيقًا لنبوءة المسيح - عليه السلام -، وذلك في عام 70م، غزا الإمپراطور الروماني تيطس Titus Flavius Vespasianus (39 - 81 م) بجيوشه مدينة القدس على أثر ثورة قام بها اليهود، ودمر المعبد اليهودي تدميرًا، وأحرق المدينة بأكملها، وقتل منهم أعدادًا كبيرة، وهرب من نجا منهم من القتل ليتفرقوا ويتشتتوا في أنحاء متفرقة من الأرض (¬2). وتبعه الإمپراطور هادريانوس Aelius Traianus Hadrianus (76 - 138 م)، والذي أزال في عام 130م معالم المدينة ومعالم الأقصى تمامًا، وأقام مكانه معبدًا وثنيًا للإله چوپيتر Jupiter رب الآلهة الرومانية. كما قام بإبادة البقية الباقية من يهود حيث كان يراهم مصدرًا للثورات والإزعاج المتكرر. ومن حين تدمير الأقصى لم يعد يربط اليهود أية سلطة مركزية، حيث تفرقوا وتشتتوا في أرجاء الأرض، كما أخبر ربنا تبارك وتعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} (¬3). وتوعدهم الله - جل جلاله - على اقتراف المعاصي فقال: {وَإِنْ عُدتُّمْ} أي: إلى الإفساد ¬

(¬1) انظر، د. أحمد شلبي: مقارنة الأديان/المسيحية، ص (94). (¬2) هذا بخلاف وعد الآخرة في قوله تعالى: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104]، والذي يفسره البعض على أنه مجيء اليهود لفيفًا ليستوطنوا أرض فلسطين، وهو ما يحدث منذ عقود، والله أعلم. (¬3) الأعراف: 168

فائدة

في الأرض {عُدْنَا} إلى عقوبتكم، {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} (¬1). ففي الآيات دعاهم الله الرحمن الرحيم إلى التوبة والاستقامة على أمر الله، ولكنهم كما قال العليم الخبير: {كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬2). ... فائدة: يقول الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل (¬3): «تأمل عبارة عيسى - عليه السلام - في الإنجيل: "لا يُترك ههنا حجر على حجر لا يُنقض"، وعبارة القرآن: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}، واستنتج لماذا داخ اليهود بعد حفريات طويلة في العثور على أي أثر للمسجد باستثناء حائط البراق الذي أبقى الله تعالى عليه ليكون آية باقية على رحلة الإسراء التي نسخت حق اليهود في الأرض المقدسة». ويقول محمد حسنين هيكل (¬4): «يقول وليام داريمپل William Dalrymple في كتابه عن القدس بعنوان (المدينة المسحورة) (¬5)، تفاصيل موثقة عن الجهد الذي بذلته الدولة الإسرائيلية من سنة 1948 إلى سنة 1995م، في التنقيب عن آثار تدل على تاريخ يهودي في فلسطين يمكن الإشارة إليه وإشهاره في وجه المتشككين في القصص الأسطوري، ويعطي داريمپل مثالًا لذلك قصة التنقيب عن بقايا هيكل سليمان، ويقول: "كان تقدير العلماء الإسرائيليين أن موقع الهيكل قريب من أسوار مسجد قبة الصخرة، وبدأت الحفريات واستمرت رغم اعتراضات اليونسكو (منظمة الثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization UNESCO)، وعثرت البعثات الإسرائيلية على بقايا معالم أعلنت عنها وهللت لها، ثم اضطرت إلى تغطية الاكتشاف كله بستائر من الصمت، لأن البقايا ¬

(¬1) الإسراء: 8، انظر تفسير السعدي، ص (521). وقال رحمه الله: «وفي هذه الآيات التحذير لهذه الأمة من العمل بالمعاصي، لئلا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل. فسُنَّة الله واحدة لا تتبدل ولا تتغير» اهـ. (¬2) المائدة: 81 (¬3) د. عبد العزيز مصطفى كامل: قبل الكارثة، نذير ونفير، ص (98) الهامش بتصرف يسير. (¬4) محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (1/ 67) الهامش بتصرف يسير. (¬5) أظنه يقصد كتاب: From the Holy Mountain

التي عثر عليها لم تكن إلا آثار قصر لأحد الملوك الأمويين، وهو أمر يدحض الدعاوى اليهودية من الأساس ويكشف أنه ليس هناك ماض ينبني عليه حاضر ومستقبل! ". وكان تعليق العالمة اليهودية الشهيرة الدكتورة شولاميت چيفا Shulamit Geva - أستاذ الدراسات اليهودية في جامعة تل أبيب - قولها بالنص: "إن علم الآثار اليهودي أريد له تعسفًا أن يكون أداة للحركة الصهيونية، تختلق بواسطته صلة بين التاريخ اليهودي القديم والدولة اليهودية المعاصرة". وذلك يتفق تمامًا مع دراسة للأستاذ كيث ويتلم Keith Whitlam نشرها بعنوان يغني عن كل شيء: "اختراع التاريخ اليهودي القديم وخنق التاريخ الفلسطيني كله"!». ويقول الدكتور محمد إسماعيل المقدم (¬1): «ولو ثبت ذلك جدلًا لما ساغ أن يهدم المسجد ليقام مكانه الهيكل، لأن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - نسخت كل الشرائع التي سبقتها، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (¬2) "» اهـ. ولقد كانت آيات الإسراء بمثابة إعلان لليهود بإقالتهم من منصبهم الذي نصبهم الله تعالى إياه؛ يقول صفي الرحمن المباركفوري رحمه الله (1943 - 2006م) (¬3): «يرى القارئ في سورة الإسراء أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط، ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم، ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدي للتى هي أقوم، فربما يظن القارئ أن الآيتين ليس بينهما ارتباط، والأمر ليس كذلك، فإن الله تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس، لأن اليهود سيُعزَلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية، لما ارتكبوا من الجرائم التي لا مجال بعدها لبقائهم على هذا المنصب، وإن الله سينقل هذا المنصب فعلًا إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من أمة إلى أمة، من أمة ملأت تاريخها بالغدر ¬

(¬1) د. محمد إسماعيل المقدم: خدعة هرمجدون، ص (59) الهامش. (¬2) رواه مسلم، كتاب الإيمان: 153 (¬3) صفي الرحمن المبار كفوري: الرحيق المختوم، ص (119 - 20).

يهود الدياسپورا

والخيانة والإثم والعدوان، إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات، ولا يزال رسولها يتمتع بوحي القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم» اهـ. {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (¬1) ... يهود الدياسپورا: لن نتتبع في هذا الفصل هجرة اليهود إلى الجزيرة العربية، لأننا سوف نتعرض لهذه المسألة في الباب التالي. والذي يعنينا هنا هو تتبع هجرة اليهود إلى بلاد أوروپاحيث عرفوا باسم يهود الشتات أو الدياسپورا Diaspora، حيث نمت هناك جذور الصهيونية .. ومن الممكن لنا قبل التوغل إلقاء نظرة عامة على هجرات الجماعات اليهودية عبر التاريخ .. فيقول الدكتور المسيري رحمه الله (¬2): «لقد كان العبرانيون جزءًا من جماعات سامية ضخمة تتحرك في الشرق الأدنى القديم، ابتداءً من الألف الثاني قبل الميلاد ... ونحن نسمِّي هذه المرحلة المرحلة السامية السديمية لأن معالم الأشياء لم تكن واضحة ولأن القبائل والأقوام المهاجرة المتنقلة كانت متداخلة. كما شهدت مرحلة الإمپراطوريات الكبرى، البابلية والآشورية ثم الفارسية واليونانية والرومانية، بدايات الهجرة التي تعاظمت بالتدريج حتى وصلت ذروتها مع نهاية الألف الأول قبل الميلاد ...». «... وينتقل بعض أعضاء الجماعات اليهودية من وطن إلى آخر بحثًا عن الرزق ولتحسين المستوى المعيشي بصفة عامة، أو لأسباب أخرى مثل التهجير والطرد أو الاضطهاد أحيانًا ... وقد اتسمت حياة العبرانيين في عصر الآباء (منذ عام 2000ق. م) بالتنقل البدوي من بلد إلى آخر وبالبقاء على حواف المدن أو على طُرُق التجارة. وفي هذه المرحلة، استوطنت بعض العناصر العبرانية أرض كنعان وفي مصر دون أن تضرب ¬

(¬1) الأنعام: 124 (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ هجرات أعضاء الجماعات اليهودية: مقدمة) باختصار.

جذورًا في أي منهما. وقد خرج العبرانيون من مصر أو هاجروا منها (عام 1645ق. م) ليبدأوا فترة أخرى من التجوال في سيناء انتهت بالتغلغل العبراني في كنعان (عام 1189ق. م) الذي أعقبته فترة من الاستقرار النسبي بعد قيام اتحاد القبائل العبرانية في شكل المملكة العبرانية المتحدة ثم المملكتين العبرانيتين: المملكة الشمالية [يسرائيل] والمملكة الجنوبية [يهودا]. وقد انتهت هذه المرحلة بالتهجير الآشوري [من يسرائيل] ثم التهجير البابلي [من يهودا]. وبعد هذه المرحلة، ينتهي التهجير ليبدأ اليهود في الانتشار في بقاع الأرض بوصفهم جماعات يهودية لا يربطها رابط سوى الانتماء إلى العقيدة الدينية الإثنية نفسها. وتبدأ هذه المرحلة حين فضلت أعداد كبيرة من اليهود الاستمرار في بابل مُكوِّنةً بذلك نواة أول جماعة يهودية تستقر خارج فلسطين بعد مرحلة التهجير البابلي ... ثم قامت الإمپراطورية اليونانية بفرض هيمنتها على أجزاء كبيرة من البحر الأبيض والشرق الأدنى القديم (332ق. م)، وهو ما يسَّر عملية انتقال اليهود وانتشارهم، فاستقرت أعداد كبيرة منهم في مصر، وفي الإسكندرية على وجه الخصوص. كما استقروا في برقة وقبرص وآسيا الصغرى. وقد بدأ الانتشار في أوروپاالغربية في تلك المرحلة أيضًا. وحين قضى الرومان على فلسطين كإحدى نقاط تَجمُّع الجماعات اليهودية وأحد مراكزها، وحتى حين هدم تيطس الهيكل (عام 70م)، لم يؤثر ذلك كثيرًا في حركة تدفُّق اليهود أو على شكلها، إذ إنها بدأت على أية حال قبل ذلك التاريخ، حيث استمر تَدفُّق اليهود خارج فلسطين وإلى مختلف البلدان، خصوصًا إلى أوروپاوحوض البحر الأبيض المتوسط» (¬1). يؤكد على هذه الحقيقة الباحث الأمريكي إيان لوستك بقوله (¬2): «كان عدد كبير من اليهود يقيم خارج أرض إسرائيل منذ أمد بعيد يسبق قضاء الرومان على استقلال اليهود في فلسطين وقتلهم أو طردهم معظم السكان اليهود المقيمين فيها» اهـ. ¬

(¬1) السابق (2/ هجرات أعضاء الجماعات اليهودية حتى بداية العصر الحديث) باختصار وتصرف يسير. (¬2) إيان لوستك: الأصولية اليهودية في إسرائيل، ص (26). Ian S. Lustick: For the Land and the Lord: Jewish Fundamentalism in Israel

وتقول الدكتورة سناء عبد اللطيف (¬1): «وبعد تخريب أورشاليم وهدم الهيكل فر عدد ممن بقوا على قيد الحياة إلى مصر وسوريا، وأخذت القوات الرومانية باقي اليهود أسرى إلى أوروپا، وباعتهم كرقيق في أسواق النخاسة في أوروپا، وقام التجار اليهود الذين كانوا قد استوطنوا أوروپامن قبل بشراء العبيد اليهود وعتقهم، ومن ثم تكونت جاليات يهودية كبيرة في أوروپا، في إيطاليا وإسپانيا وألمانيا حتى الراين» اهـ. «وقد شهدت بداية العصور الوسطى في الغرب (القرن الرابع الميلادي) شيئًا من الاستقرار النسبي بالنسبة إلى الجماعات اليهودية في الغرب المسيحي ثم في الشرق الإسلامي بسبب استقرار الأحوال السياسية والاقتصادية فيها ... وكانت توجد ثلاثة خطوط أساسية للهجرة إلى أوروپا: من فلسطين إلى جنوب إيطاليا ومنها عبر جبال الألپ إلى فرنسا وألمانيا، ومن الإمپراطورية الرومانية الشرقية (بيزنطة) عبر وادي الدانوب إلى وسط أوروپا، ومن العراق ومصر عبر المغرب إلى إسپانيا. وهكذا انتقلت الكثافة السكانية اليهودية (بين عامي 500ق. م-1000م) من الشرق الأوسط إلى أوروپا» (¬2). ... يهود أوروپامن العصور الوسطى (من القرن الخامس الميلادي إلى القرن الخامس عشر) إلى عهد الإصلاح الديني: نضع بدايةً تصورًا عامًا لطبيعة حياة الجماعات البشرية المهاجرة أو المُهجَّرة، والتي يعرِّفها المسيري بـ (الجماعات الوظيفية) .. يقول (¬3): «الجماعات الوظيفية، مصطلح قمنا بوضعه، استنادًا إلى مصطلحات قريبة في علم الاجتماع، لوصف مجموعات بشرية تستجلبها المجتمعات الإنسانية من خارجها، في معظم الأحيان، أو تجندها من بين أعضاء المجتمع أنفسهم من بين ¬

(¬1) د. سناء عبد اللطيف: الجيتو اليهودي، دراسة للأصول الفكرية والثقافية والنفسية للمجتمع الإسرائيلي، ص (24) باختصار. (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ هجرات أعضاء الجماعات اليهودية حتى بداية العصر الحديث) باختصار. (¬3) السابق (1/ الجماعات الوظيفية: مقدمة) باختصار.

الأقليات الإثنية أو الدينية، أو حتى من بعض القرى أو العائلات. ثم يوكل لأعضاء هذه المجموعات البشرية أو الجماعات الوظيفية وظائف شتى لا يمكن لغالبية أعضاء المجتمع الاضطلاع بها لأسباب مختلفة من بينها رغبة المجتمع في الحفاظ على تراحمه وقداسته، ولذا يوكل لأعضاء الجماعات الوظيفية بعض الوظائف المشينة (الربا - البغاء)، أو المتميِّزة (القضاء - الترجمة - الطب) التي تتطلب الحياد والتعاقدية ... وقد يلجأ المجتمع إلى استخدام العنصر البشري الوظيفي لملء فجوة أو ثغرة تنشأ بين رغبات المجتمع وحاجاته من ناحية، ومقدرته على إشباع هذه الرغبات والوفاء بها من ناحية أخرى (الحاجة لمستوطنين جدد لتوطينهم في المناطق النائية). كما أنه قد يوكل لأعضاء الجماعات الوظيفية الوظائف ذات الحساسية الخاصة وذات الطابع الأمني (حرس الملك - طبيبه - السفراء - الجواسيس). ويمكن أن تكون الوظيفة مشينة ومتميِّزة حساسة في آن واحد (مثل الخصيان والوظائف الأمنية على وجه العموم). كما أن المهاجرين عادةً ما يتحولون إلى جماعات وظيفية (في المراحل الأولى من استقرارهم في وطنهم الجديد)، ذلك لأن الوظائف الأساسية في وطنهم الجديد عادةً ما يكون قد تم شغلها من قِبَل أعضاء الأغلبية. ويجب أن نؤكد أننا، حينما نقول "يستجلب المجتمع"، لا نعني أن هذه عملية واعية يقوم بها أعضاء مجتمع ما، فهي في واقع الأمر عملية غير واعية كما هو الحال مع معظم الظواهر الاجتماعية. وكثيرًا ما تكون هذه العملية غير مفهومة لمن يقومون بها، سواء أكان المجتمع المضيف أم الجماعة الوظيفية. بل إن هذه العملية الاجتماعية قد تتم رغم الرفض الواعي لها من قبل المجتمع والجماعة ... ولكننا، لقصور لغتنا البشرية، نضطر إلى الإشارة إلى المجتمع وأعضائه كما لو كان ذاتًا واعية ينجز عملياته بشكل واع. ويتوارث أعضاء الجماعة الوظيفية الخبرات في مجال تخصصهم الوظيفي عبر الأجيال ويحتكرونها، بل يتوحدون بها، وفي نهاية الأمر يكتسبون هويتهم ورؤيتهم لأنفسهم منها بحيث يتم تعريف الإنسان من خلال الوظيفة وحسب لا من خلال إنسانيته الكاملة، فيصبح عضو الجماعة الوظيفية إنسانًا ذا بُعد واحد يمكن اختزال إنسانيته إلى هذا البُعد أو المبدأ الواحد، وهو وظيفته».

والأسباب التي تؤدي إلى ظهور الجماعات الوظيفية عدة، نذكر منها: «وصول المهاجرين؛ فالمهاجرون لا يمكنهم الانخراط في كل الحِرَف والنشاطات الاقتصادية، ولذا فإن عليهم اختيار حِرَف أخرى. وعلى أية حال، فإن هذا أمر حتمي، فحينما يصل المهاجرون أو الوافدون إلى مجتمع ما فإنهم عادةً ما يصلون بعد أن يكون هرمه الاجتماعي قد تَشكَّل وتم شغل الأرض الزراعية (ملكيةً وعمالة)، وبعد أن تكون القطاعات الأولية قد امتلأت، بعد أن يكون جزء كبير من رأس المال قد استُثمر في تشييد البنية التحتية. ولذا، يقوم المهاجرون بالبحث إما عن وظائف قديمة لكنها هامشية أو عن وظائف جديدة تتطلب قدرًا من الجسارة ونوعًا من الخبرة التي لا تتوافر لأعضاء المجتمع، وهى عادةً وظائف تُوجَد في قمة الهرم الإنتاجي ولا علاقة لها بالأرض أو الصناعات الثقيلة أو بالمؤسسات الأساسية المستقرة في المجتمع. ويحاول المهاجرون ارتياد آفاق جديدة مجهولة يحجم عن ارتيادها أعضاء المجتمع المضيف المستقرون، كما يحاولون استغلال الإمكانات التي لم تُستغَل بعد، ويحاولون كذلك توسيع الثغرات الموجودة بالفعل حتى تتاح لهم فرص جديدة للعمل ووظائف لهم بها خبرة، ومن ثم يمكنهم احتكارها» (¬1). ولو تحدثنا عن الجماعات اليهودية خاصة، فنسجِّل الآتي: «يمكن تفسير ظاهرة تحول كثير من الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية بمركَّب من الأسباب، تاريخي واجتماعي وديني. ويمكننا أن نبدأ بالعودة إلى الدولة العبرانية القديمة، وهي دولة لم تكن تتمتع بمستوى تكنولوچي أو حضاري متقدم، ولهذا كانت غير قادرة على تشغيل كل سكانها. كما أنها كانت دولة ضعيفة غير قادرة على حمايتهم، الأمر الذي أسفر عن أسر عشرات وربما مئات الألوف منهم، حيث هُجِّروا إلى بابل وآشور فتحولوا إلى جماعات بشرية غريبة يمكن تجنيدها كمرتزقة أو مستوطنين، كما أنهم تخصصوا هناك في وظائف بعينها دون غيرها. ومما عمَّق هذا الاتجاه، وجود كثير من الجماعات اليهودية في الشرق الأوسط وفي حوض البحر المتوسط، وهي منطقة سيطرت ¬

(¬1) السابق.

عليها عديد من الإمپراطوريات، الواحدة تلو الأخرى، وكانت القوى الإمپراطورية الصاعدة تتحالف مع أعضاء الجماعات اليهودية نظرًا لعدم خشيتها منهم وتجندهم في صفوفها كمرتزقة أو مستوطنين أو حتى جواسيس. وكانت فكرة الوطن الأصلي، مركز اهتمامهم الديني، تساعد على إضعاف علاقتهم بوطنهم الجديد، وعلى عزلتهم عن مجتمعاتهم، وعلى انغلاقهم على أنفسهم. وكان من الممكن أن تختفي هذه الجماعات تمامًا بسقوط الهيكل، ولكن الذي حدث أن فكرة الوطن الأصلي (الحنين إلى صهيون) حلت محل الوطن الأصلي ذاته، وهو ما أعطى أعضاء الجماعات اليهودية تَماسُكًا إثنيًا - ولكنه تَماسُك وهمي لأنه لم يَعُد هناك مركز قومي فعلي يحدد المعايير الدينية أو القومية. وبينما كانت الهويات اليهودية تتشكل في الواقع من خلال تشكيلات حضارية مختلفة، كان أعضاء الجماعات اليهودية يدورون في إطار فكرة الهوية اليهودية الإثنية الدينية الواحدة. وهذه التركيبة مناسبة إلى أقصى درجة للجماعات الوظيفية، ففكرة الوطن تضمن تماسكهم وعزلتهم وتَجرُّدهم اللازم للاضطلاع بوظائفهم المختلفة، بينما يساعد تكيفهم الفعلي على زيادة كفاءتهم وعلى أن يصبحوا في المجتمع دون أن يكونوا منه. وقد دعَّم تدوين التلمود هذه الازدواجية: الاستقلالية الإثنية النفسية من ناحية، والتكيف والاندماج الفعلي من ناحية أخرى؛ فالتلمود يضم التفاصيل الخاصة بشعائر الصلوات في الهيكل وكل التفاصيل الخاصة برداء الكاهن الأعظم والشعائر الخاصة بسنة اليوبيل والسنة السبتية، كما يضم أدق التفاصيل الخاصة بما سيحدث بعد عودة الماشَّيح إلى صهيون وكل الشعائر الخاصة بحياة اليهودي خارج مجتمع الأغيار، أي إن التلمود كرَّس عزلة أعضاء الجماعة وقننها وزود فكرة الهوية اليهودية بإطار واضح وتَحوَّل هو ذاته إلى (وطن اليهود - الوهمي - المتنقل) الذي يشكل نقطة مرجعية نفسية دون أن يكون مأوى حقيقيًا لهم. ولكن أهم العوامل التي أدَّت إلى تَحوُّل كثير من الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية، هو طبيعة المجتمع الإقطاعي في الغرب. وقد أشرنا إلى أن ظهور مثل هذه الجماعات يعود عادةً إلى وجود ثغرة في المجتمع بين رغباته وحاجاته من جهة، ومقدرته

على الوفاء بها من جهة أخرى. وقد كانت مثل هذه الثغرة قائمة في المجتمع الإقطاعي الغربي، حيث كان يوجد نبلاء وفرسان من ناحية وفلاحون من ناحية أخرى. وكان النشاطان الأساسيان هما القتال والزراعة، أما القتال فكان مغلقًا تمامًا بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية لأنها وظيفة كانت مرتبطة تمام الارتباط بطبيعة المجتمع الاقطاعي الغربي المسيحية. ورغم أن الزراعة كانت بديلًا مفتوحًا أمام أعضاء الجماعات اليهودية إلا أنه تم استبعادهم منها تدريجيًا (¬1). أما بخصوص النشاطات التجارية والمالية وبعض الحِرَف فكانت نشاطات هامشية وأحيانًا وضيعة تحتاج لعنصر محايد غريب للاضطلاع بها. وقد قامت كلٌ من المدن المختلفة وأعضاء الجماعات اليهودية بسد هذه الثغرة» (¬2). ولقد أدى تحول اليهود إلى جماعات وظيفية إلى استقرار عدة سمات أساسية، لعل من أهمها: - العلاقة النفعية التعاقدية التي لا تتسم بالتراحم. - العزلة والغربة، وهو ما يؤدي إلى ترسيخ مشاعر السخط والكراهية لدى الشعب. - الانفصال عن الزمان والمكان والإحساس بالهوية (الوهمية). وقد ترجم هذا نفسه إلى عقيدة المشيحانية التي أضعفت أواصر ارتباط اليهود بالمكان الحالي باسم المكان السابق الذي نُفوا منه، وهو أيضًا المكان الذي سيعودون إليه في المستقبل. - ازدواجية المعايير: فقد قسَّمت العقيدة اليهودية العالم في كثير من الأحيان إلى اليهود من جهة والأغيار من جهة أخرى. وكان بإمكان اليهودي أن يقرض الأغيار بالربا، ولكنه يُحرِّم على نفسه أن يفعل ذلك مع اليهود. وكان اليهود يعتبرون أنفسهم شعبًا مقدَّسًا (وهذا يعني أن أعضاء المجتمع مباحون). ولعل هذا يُفسِّر وجود أعضاء الجماعات اليهودية بشكل ملاحظ في جرائم انتهاك الحرمات مثل البغاء ونشر المجلات الإباحية وغير ذلك (¬3). ¬

(¬1) للتوسع، انظر السابق (2/ علاقة الجماعات اليهودية بالزراعة). (¬2) السابق (2/ أسباب تحول بعض الجماعات اليهودية إلى جماعات الوظيفية). (¬3) السابق (2/ السمات الأساسية للجماعات اليهودية كجماعات وظيفية) باختصار وتصرف.

كذلك فإن أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب كانوا يُعَدُّون من غرباء، وحسب القانون (العرف) الألماني، فإن الغريب يتبع الملك ويُوضَع تحت حمايته ويُصبح من أقنانه (أقنان البلاط). ومن هنا، كان لا بد أن يستند وجودهم إلى مواثيق خاصة تمنحهم حقوقًا ومزايا معيَّنة نظير اضطلاعهم بوظائف محدَّدة. ومن ناحية الأساس، كانت هذه الوظائف هي التجارة والربا وجمع الضرائب. ويعني مفهوم أقنان البلاط أن أعضاء الجماعات اليهودية، من خلال تبعيتهم المباشرة للملك، يقعون خارج نطاق العلاقات الإقطاعية، وأنهم بذلك أصبحوا جزءًا من الطبقة الحاكمة أو على الأقل أداة في يدها. ولم يكن اليهود ملكية خاصة للملك أو لغيره بالمعنى المجازي، كما قد يتبادر للذهن لأول وهلة، فقد كانوا ملكية خاصة بالمعنى الحرفي كالعبيد أو المماليك. وقد عبَّر قانون إسپانيا الشمالية عن المفهوم حين نص على أن اليهود «عبيد الملك، وهم دائمًا مِلك الخزينة الملكية»، كما ورد نص في أحد القوانين الصادرة في إنجلترا في القرن الثاني عشر الميلادي، يوضح هذا المفهوم تمامًا، جاء فيه ما يلي: «كل اليهود حيثما كانوا في المملكة هم موالي الملك وتحت وصايته وحمايته، ولا يستطيع أيٌّ منهم أن يضع نفسه تحت حماية أي شخص قوي دون رخصة بذلك من الملك؛ لأن اليهود أنفسهم وكل منقولاتهم مِلك للملك (شاتيل Chattel). ولذلك، إن قام أي فرد باحتجازهم أو احتجاز أموالهم فإن من حق الملك، متى شاء استطاع، أن يطالب بهم باعتبارهم حقًا خالصًا له». وكان يتم شراء أعضاء الجماعات اليهودية وبيعهم ورهنهم وكأنهم أشياء ثمينة. وأحيانًا، كان يتم إهداء يهودي واحد إلى صديق معوز. وكان من الممكن أن يقوم مالك اليهود برهنهم. وإذا قُتل يهودي أو أُلحق به الأذى لا تُدفَع ديته أو التعويض عنه لأهله، وإنما كانت تُدفَع للملك باعتباره مالك اليهود. وفي إسپانيا المسيحية، كان من حق المحاكم اليهودية أن تصدر حكمها بالإعدام على أي يهودي، وأن تقوم بتنفيذ الحكم عليه ولكن بعد أن تدفع ثمنه للملك. وإن ألحقت إحدى المدن الأذى باليهود، كان عليها دفع غرامة للإمپراطور. وكان الملك يتدخل بكل قوته لحماية اليهود. وكان بوسع من ليس لديه يهود

أن يقتنيهم وأن يحصل على المواثيق الإمپراطورية التي تخول له ذلك. وكانت بعض المدن تشتري اليهود المقيمين فيها من الإمپراطور حتى يمكنها طردهم والتخلص من منافستهم. وكان من حق الملك أن يتصرف بشكل مطلق في أملاك اليهود، فكان أحيانًا يهدي كل ممتلكاتهم إلى أحد أصدقائه دون أن يكلف نفسه عناء إخبارهم. وكان التصرف في ملكية اليهود الذين يموتون أو يُقتَلون أمرًا سهلًا للغاية. وكانت حماية الإمپراطور لليهود تمتد لتشمل حرية الحركة وإعفاءهم من كل القيود التي كانت تعوق التنقل والتجارة، كما كانت تشمل مزايا ضخمة تضعهم في مرتبة أعلى من كل طبقات المجتمع المسيحي في العصور الوسطى ربما باستثناء النبلاء، وكانت هناك حالات يتساوى فيها اليهود مع كبار النبلاء (¬1). وكان من بين اليهود من هم في درجة أرقى من الأقنان، وهم من عرفوا باسم يهود البلاط، «وهم وكلاء الحكام ومستشاروهم في الأمور التجارية والمالية في العالم الغربي، وهم من أهم الجماعات الوظيفية الوسيطة في عصر الملكيات المطلقة في أوروپا، خصوصًا في وسطها في القرن السابع عشر. وكانت العلاقة بين يهود البلاط والأمراء كانت علاقة نفعية تمامًا، فهم يستفيدون من علاقتهم بالحاكم ليحققوا الثروات ويحصلوا على المزايا. وهو بدوره يبقي عليهم بمقدار ما يستفيد من وجودهم باعتبارهم مصدرًا لا ينضب للثروة، يعتصر كميات كبيرة من أموالهم عن طريق الضرائب التي يفرضها عليهم ومن خلال الهدايا التي كان يحصل عليها منهم في مناسبة تتويجه وفي غير ذلك من المناسبات. كما أنهم كانوا يشترون منه حقوقهم وامتيازاتهم نظير أموال طائلة. وإلى جانب هذا، كانوا يؤدون العديد من الخدمات للبلاط، أي إنهم كانوا أداة للتاج لا تربطهم به رابطة وثيقة تتجاوز المستوى الاقتصادي النفعي. وكان يهود البلاط مكروهين من الجماهير باعتبارهم أداة الاستغلال المباشرة، ومن البورچوازية المحلية لأنهم يشكلون غريمًا لها، ومن النبلاء وكثير من أعضاء النخبة الحاكمة لأنهم أداة في يد الملك يستخدمها لتدعيم نفوذه على حسابهم. ¬

(¬1) السابق (2/ أقنان البلاط) باختصار.

ومع هذا، لا بد أن نقرر أن يهود البلاط كانوا أقل هامشية من أقنان البلاط والتجار والمرابين اليهود، إذ تحركوا نحو المركز قليلًا من الناحية الوظيفية والاقتصادية والحضارية. فكان يهود البلاط يندمجون حضاريًا في المجتمع الذي يعيشون فيه فيرتدون رداءً أوروپيًا، ويسلكون سلوكًا أوروپيًا، يعيشون خارج الجيتو، ويتمتعون بحرية الحركة، ولا يدفعون أية ضرائب، ويتمتعون بكثير من الحقوق المدنية التي لا يتمتع بها بقية أعضاء الجماعة اليهودية. كما كانوا يُمنحون ألقابًا لا تُمنَح إلا للنبلاء. وكانت مصالحهم الاقتصادية مرتبطة تمامًا بمصالح الملك أو الحاكم أو الدولة، وكثيرًا ما كانت تتعارض مع مصالح الجماعات اليهودية الأخرى، بل كان بعضهم يقف ضد هجرة اليهود إلى بلادهم ويؤلبون الملك ضد المهاجرين الجدد. وقد كان يهود البلاط واعين تمامًا بالتحولات الثقافية والمالية العميقة في المجتمع الأوروپي، ولذا كانوا من أوائل العناصر التي رحبت بحركة التنوير اليهودية وشجعوا دعاتها. ويُلاحَظ أن كثيرًا من أبناء يهود البلاط قد تَنصَّروا، ربما بسبب الجو الثقافي الاندماجي الذي نشأوا فيه. ومع هذا، كان ليهود البلاط موقف القيادة والزعامة بين يهود البلد الذي يعيشون فيه، ولكنها كانت قيادة مفروضة من الخارج، من عالم الأغيار، وتستمد شرعيتها من نجاحها فيه، وكانت قيادتهم مطلقة حتى إن أحد يهود البلاط أصر على أن تكون كل المناصب القيادية في إحدى الجماعات اليهودية مقصورة على أفراد أسرته، وهو أمر لم يكن شاذًا في عصر الملكيات المطلقة. وقد وصف أحدهم روتشيلد بأنه «ملك اليهود، ويهودي الملك»، وهو وصف دقيق لوضع يهود البلاط وعلاقتهم بكلٍّ من النخبة الحاكمة غير اليهودية وأعضاء الجماعة اليهودية. وقد أصبحت وظيفة يهود البلاط وراثية وتحولوا إلى أسر مالية أرستقراطية تتصارع فيما بينها على النفوذ والسلطة وأصبحوا طائفة مغلقة يتزاوج أفرادها فيما بينهم ويستبعدون اليهود العاديين. ويمكن القول بأن صورة يهودي البلاط كعبقري ساحر، وكصاحب نفوذ يُقرِض الملوك والأمراء، قد تجذرت في الوجدان اليهودي في الغرب (¬1). ... ¬

(¬1) السابق (2/ يهود البلاط) باختصار.

نظرة على المجتمعات اليهودية الأوروپية من الداخل

نظرة على المجتمعات اليهودية الأوروپية من الداخل: وبعد أن ألقينا نظرة سريعة على الإطار الحياتي العام للمجتمعات اليهودية الأوروپية، نتخلل قليلًا إلى داخلها .. فلقد كان الطابع الديني يسود المجتمع الأوروپي النصراني واليهودي بشكل عام في العصور الوسطى، وكانت السلطة الحاخامية هي المسيطرة في المقام الأول على الجماعات اليهودية، وهي التي كانت تبث سمومها في العامة الجاهلة أتباع كل ناعق، أولئك الذين أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (¬1). فيذكر إسرائيل شاحاك ونورتون ميزفنسكي أن «أهم خاصيتين يهوديتين جديدتين تبلورتا في هذه الفترة هما انغلاق المجتمع اليهودي والانفصال اللاحق لليهود عن كل الأمم الأخرى، ولأول مرة يشار إلى أفراد الأمم الأخرى باسم الأغيار (غير اليهود، وهو لفظ توراتي). والخاصية الجديدة الثانية كانت قائمة على افتراض أن اليهود يجب أن يتبعوا شريعة الكتاب المقدس التي هي الشريعة الحقيقية. ومع ذلك، طوال الجانب الأعظم من هذه الحقبة، كان هناك الكثير من الخلافات حول التفسيرات المختلفة والمتصارعة للشريعة الموجودة في الكتاب المقدس. وفي بعض الأحيان، تحولت هذه الخلافات إلى حروب أهلية. ولم يكن الصراع الطويل الأمد الذي نشب بين الفريسيين والصدوقيين (¬2) إلا أحدَ أمثلة ذلك» (¬3). ويعرِّف الپروفيسور إسرائيل شاحاك هذه الحقبة من التاريخ اليهودي بكل ما تشمله من عقائد بحقبة (اليهودية الكلاسيكية)، يقول (¬4): «قد لا يكون هناك تعريف أفضل لليهودية ¬

(¬1) البقرة: 78 (¬2) وهي بعض فرق اليهود القديمة. (¬3) إسرائيل شاحاك ونورتون ميزفينسكي: الأصولية اليهودية في إسرائيل (1/ 24). Israel Shahak and Norton Mezvinsky: Jewish Fundamentalism in Israel (¬4) إسرائيل شاحاك: التاريخ اليهودي، والديانة اليهودية، وطأة ثلاثة آلاف عام. أو: اليهود واليهودية، ثلاثة آلاف عام من الخطايا (كما تُسميه الترجمة العربية المتاحة)، ص (33). Israel Shahak: Jewish History, Jewish Religion: The Weight of Three Thousand Years. وإسرائيل شاحاك (1933 - 2001م) هو أستاذ الكيمياء العضوية في الجامعة العبرية بالقدس، ولد في پولندا، واعتقل ثم هرب من معسكرات اعتقال النازي، وذهب إلى فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية. وهو ناشط سياسي ليبرالي ومؤسس الجمعية الإسرائيلية لحقوق الإنسان، وتخصص في البحث عن التاريخ اليهودي والصهيونية وممارسات دولة إسرائيل والتي هو من أشد المناهضين لها، وتميز بالاقتباس من والرجوع إلى الأصول العبرية التي قل من اطلع عليها، مما جعله الرجل الأكثر مقتًا في إسرائيل. يقول إدوارد سعيد - وكان أحد مراسليه -: «... وأتذكر أنه منذ حوالي خمسة عشر عامًا مضت، أعلن عن وفاته، على الرغم من أنه كان بالطبع ما زال حيًا إلى أبعد حد. لقد نشرت الواشنطن پوست قصة وفاته، وبعد أن زار شاحاك بنفسه الجريدة ليعلن أنه لم يمت، قال لأصدقائه مازحًا إنه لم يكن له تأثير قوي على (الپوست) التي لم تنشر أبدًا تصحيحًا لخبر وفاته، لذا فإنه ما زال لدى البعض ميتًا! إنها أمنية حالمة تكشف كيف جعل شاحاك (أصدقاء إسرائيل) يشعرون بعدم الراحة» اهـ[انظر مقدمة إدوارد سعيد لكتاب شاحاك المذكور]. أما نورتون ميزفينسكي: فهو أستاذ التاريخ بجامعة كونكتيكت Connecticut. ولد عام 1932م بولاية آيوا Iowa، وتخرَّج في جامعة آيوا، ثم أكمل دراساته العليا بولاية ويسكونسين-ماديسون Wisconsin-Madison، وعمل بالتدريس في هارفارد وجامعات أمريكية أخرى .. وفي عام 1983م، أصبح عضوًا مشاركًا في مركز دراسات الشرق الأوسط بهارفارد. ويُعتبر ميزفينسكي واحدًا من أنشط اليهود المناهضين للصهيونية، ويقوم بإلقاء المحاضرات ضد إسرائيل والصهيونية، ويهاجم بشدة أنشطة دولة إسرائيل والأسس النظرية للصهيونية [انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (6/ نورتون ميزفينسكي)].

الكلاسيكية أو بالطريقة التي حورها إليها الحاخامات، أفضل من التعريف الأفلاطوني. أو على وجه التحديد ما ادعى هاداس Moses Hadas (1900 - 1966 م) أن اليهودية تبنته من خلال ما وضعه أفلاطون نفسه على أنه أهداف برنامجه، في النص التالي المعروف جيدًا: "بشكل أساسي لا أحد - رجلًا أو امرأة - يمكن أن يحيا بلا شرطي يوجهه، وأنه لا يجب لإنسان أن يكون لديه هذه العادة الذهنية بأخذ أية خطوة، سواء كانت جدية أم هزلية، على مسئوليته الخاصة. في السلم تمامًا كما في الحرب عليه أن يحيا دائمًا وعينيه على ضابطه الأعلى، بمعنى آخر علينا ألا نمرن عقل الفرد على إعمال فكره أو حتى أن يعرف كيفية القيام بهذا" (Laws, 942ab). وإذا استبدلنا كلمة (حاخام) بالـ (شرطي) أو (الضابط)، فسوف يكون لدينا تصور واضح عن اليهودية الكلاسيكية» اهـ.

العقيدة المشيحانية Messianism

والذي يعنينا هنا هو رصد هذه اليهودية الكلاسيكية من خلال زاويتين فقط: - العقيدة المشَّيحانية. - علاقة اليهود بالأغيار. العقيدة المشَّيحانية Messianism: (الماشَّيح Messiah) كلمة عبرية تعني (المسيح المخلِّص)، ومنها (مشيحيوت) أي (المشيحانية) وهي الاعتقاد بمجيء الماشَّيح، والكلمة مشتقة من الكلمة العبرية (مشح) أي (مسح) بالزيت المقدَّس. وكان اليهود، على عادة الشعوب القديمة، يمسحون رأس الملك والكاهن بالزيت قبل تنصيبهما، علامة على المكانة الخاصة الجديدة وعلامة على أن الروح الإلهية أصبحت تحل وتسري فيهما. وكانت كلمة الماشَّيح تشير إلى كل ملوك اليهود وأنبيائهم، بل كانت تشير أيضًا إلى قورش ملك الفرس، أو إلى أي فرد يقوم بتنفيذ مهمة خاصة يوكلها الإله إليه. كما أن هناك في المزامير إشارات متعددة إلى الشعب اليهودي على أنه شعب من المشحاء. وهناك أيضًا المعنى المحدد الذي اكتسبته الكلمة في نهاية الأمر إذ أصبحت تشير إلى شخص مُرسَل من الإله يتمتع بقداسة خاصة، إنسان سماوي وكائن معجز خلقه الإله قبل الدهور يبقى في السماء حتى تحين ساعة إرساله. وهو يُسمَّى (ابن الإنسان) لأنه سيظهر في صورة الإنسان وإن كانت طبيعته تجمع بين الإله والإنسان، فهو تَجسُّد الإله في التاريخ. وهو ملك من نسل داود - عليه السلام -، سيأتي بعد ظهور النبي إليا ليعدل مسار التاريخ اليهودي، بل البشري، فينهي عذاب اليهود ويأتيهم بالخلاص ويجمع شتات المنفيين ويعود بهم إلى صهيون ويحطم أعداء جماعة يسرائيل، ويتخذ أورشليم (القدس) عاصمة له، ويعيد بناء الهيكل، ويحكم بالشريعتين المكتوبة والشفوية ويعيد كل مؤسسات اليهود القديمة مثل السنهدرين، ثم يبدأ الفردوس الأرضي الذي سيدوم ألف عام، ومن هنا كانت تسمية (الأحلام الألفية) و (العقيدة الاسترجاعية). وأصل عقيدة الماشَّيح المخلِّص فارسية بابلية، وقد بدأت هذه العقيدة تظهر أثناء التهجير البابلي، ولكنها تدعمت حينما رفض الفرس إعادة الأسرة الحاكمة اليهودية إلى

يهودا. وقد ضربت هذه العقيدة جذورًا راسخة في الوجدان اليهودي. ويفسر الحاخامات تأخُّر وصول الماشَّيح بأنه ناتج عن الذنوب التي يرتكبها الشعب اليهودي، ولذا فإن عودته مرهونة بتوبتهم. وثمة محاولات قامت بها المؤسسات اليهودية الحاخامية لتهدئة التطلعات المشيحانية المتفجرة [والتي كانت تفرز كل حين بعض الدجالين أدعياء المشيحانية أمثال شبتاي تسِفي Shabbetai Tzevi (1626 - 1676 م) وچيكوب فرانك Jacob Frank (1726 - 1791 م) وغيرهم] .. فركزت على الجانب الإلهي لعودة الماشَّيح، وعلى الماشَّيح من حيث هو أداة الإله في الخلاص. وبناءً على ذلك، أصبح من الواجب على اليهود انتظار عودة الماشَّيح في صبر وأناة، ويصبح من الكفر أن يحاول فرد أو جماعة التعجيل بالنهاية (دحيكات هاكتز Dahikat ha-Ketz) (¬1) . ومما يذكره شاحاك وميز?ينسكي أن «الحاخام موشيه نخمانيدس Moshe Ben Nachman (Nachmanides) [1194 - 1270 م] كان الزعيم اليهودي الوحيد الذي كان يؤمن بأن اليهود يجب عليهم ليس فقط الهجرة ولكن أيضًا أن يقوموا بغزو أرض إسرائيل، وهناك حاخامات آخرون ذوو أهمية في ذاك الوقت وفي أوقات أخرى لمدة قرون عديدة تجاهلوا أو اختلفوا بقوة مع رأي نخمانيدس» (¬2). ولو نظرنا إلى الفكر الكاثوليكي التقليدي، نجد أنه لم يكن فيه - قبل عهد الإصلاح الديني - أدنى مكان لاحتمال العودة اليهودية إلى فلسطين، أو لأية فكرة عن وجود الأمة اليهودية. وكان القساوسة الأوائل يرفضون التفسير الحرفي للتوراة ويفضلون الأساليب الأخرى للتفسيرات اللاهوتية وبخاصة التفسيرات المجازية التي أصبحت الأسلوب الرسمي للتفسير التوراتي كما وضعته الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وكان يعتقد أن الفقرات الواردة في التوراة، وبخاصة في العهد القديم، التي تشير إلى عودة اليهود إلى وطنهم لا تنطبق على اليهود بل على الكنيسة المسيحية مجازًا. أما اليهود فإنهم، طبقًا ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (5/ الماشَّيح والمشيحانية) باختصار وتصرف. (¬2) شاحاك وميزفينسكي: الأصولية اليهودية في إسرائيل (1/ 62).

للعقيدة الكاثوليكية الرسمية، اقترفوا إثمًا فطردهم الله من فلسطين إلى منفاهم في بابل. وعندما أنكروا أن عيسى هو المسيح المنتظر نفاهم الله ثانية، وبذلك انتهى وجود ما يسمى (الأمة اليهودية) إلى الأبد، ولذلك فليس لليهود مستقبل قومي جماعي، ولكنهم كأفراد، يستطيعون أن يجدوا الخلاص الروحي بارتدادهم للمسيحية. والنبوءات المتعلقة بعودة اليهود كانت تؤول على أنها عودة للإسرائيليين من المنفى في بابل. وقد تحقق ذلك في القرن السادس قبل الميلاد حين أعادهم قورش إلى فلسطين. أما الفقرات الأخرى التي تتنبأ بمستقبل مشرق لإسرائيل، فإنها كانت تحمل على أنها تنطبق على (إسرائيل الجديدة) أي الكنيسة المسيحية التي كانت تعتبر إسرائيل (الحقيقة) والوريث المباشر للديانة العبرية. كانت هذه هي فكرة كتاب (مدينة الإله De Citivate Dei) الذي كتبه أوغسطين الملقب بالقديس، والذي يعتبر التحفة الأدبية للاهوت الكاثوليكي. ويعتبر أوغسطين - والذي كتبه في القرن الخامس - واضع العقيدة التي كانت الكنيسة بموجبها تجسد مملكة الله الألفية السعيدة. وبقي الأمر المسلم به أن هذه العقيدة هي الرأي المسيحي التقليدي في اليهود حتى القرن السادس عشر. ونتيجة لذلك كانت فترة العصور الوسطى تميل إلى الفصل بين اليهود المعاصرين والعبرانيين القدامى [الذين كانوا يعتبرون شعبًا مثاليًا] (¬1). يقول الدكتور المسيري (¬2): «وقد اعتبرت الكنيسة نفسها إسرائيل الحقيقية (باللاتينية: Verus Israel)، واعتبر النصارى أنفسهم شعب الرب. كانت الكنيسة ترى نفسها أيضًا إسرائيل الروحية مقابل إسرائيل الجسدية (اليهودية). وقد تطورت صورة اليهود في الوجدان المسيحي، فكان يُرمَز لهم بعيسو (مقابل يعقوب المسيحي)، وبقابيل الذي قتل أخاه هابيل وأصبح كذلك قاتل المسيح» اهـ. وينبع موقف الكنيسة من أعضاء الجماعات اليهودية من فكرتين أساسيتين مختلفتين ومتكاملتين عن اليهود: ¬

(¬1) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (21) بتصرف يسير. (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ الصور الإدراكية النمطية وكلاسيكيات وتاريخ معاداة اليهود حتى بداية القرن الثامن عشر).

- اليهود قتلة المسيح الذين أنكروه، ولذا لا بد من عقابهم على ذلك. - اليهود هم أيضًا الشعب الشاهد الذي عاصر أعضاؤه ظهور المسيح وبداية الكنيسة، وهم بتَمسُّكهم بشعائر دينهم - التي ترمز إلى الشعائر المسيحية منذ القدم - وبتدني وضعهم، يقفون شاهدًا حيًا على صدق الكتاب المقدَّس وعلى عظمة الكنيسة (¬1). وقد تَمثَّل هذا الموقف المزدوج في سياسة الكنيسة التي وضعها البابا جريجوري الأول (الأعظم) Pope Gregory I (The Great) (540 - 604 م) وآخرون من بعده، والتي ترى ضرورة الإبقاء على اليهودية وعلى الشعب اليهودي باعتباره شعبًا شاهدًا سيؤمن في نهاية الأمر بالمسيحية، ولذا ينبغي حماية اليهود من الدمار والإبادة، ولكن ينبغي في الوقت نفسه وضعهم في مكانة أدنى. ولقد أصدر جريجوري الأول مرسومًا بابويًا يتضمن هذه العبارة: «كما أن اليهود لا يحق لهم أن يفعلوا ما لا يُسمَح لهم به حسب القانون، فإنه يتعيَّن ألا يُحرَموا من المزايا التي منحت لهم». ومن ثم مُنع قتل اليهود أو الهجوم عليهم أو حرق معابدهم أو مضايقتهم أثناء تعبُّدهم أو استخدام القوة في تنصيرهم. وأصبح هذا المرسوم أساسًا لكل المراسيم البابوية اللاحقة حتى القرن الخامس عشر الميلادي. ولهذا، حاربت الكنيسة الطرق غير الشرعية لتنصير اليهود قسرًا، معتبرة أن ثمرة هذه العملية لا تشكل أي نصر حقيقي للكنيسة ولا تزيد عظمتها. ولكنها شجعت في الوقت ¬

(¬1) وكان يرى پولس - الملقب بالقديس - أن رفض اليهود قبول مسيحهم المخلِّص هو سر من الأسرار. وهم يحملون الكتاب المقدس الذي يتنبأ بمقدمه منذ أيام المسيح، ومع هذا ينكرونه، ولذا فقد وُصفوا بأنهم «أغبياء يحملون كتابًا ذكيًا»، أي لا يعون فحوى ما يحملون. وتنبأ پولس أيضًا بأن قسوة قلب إسرائيل ستزداد على مر الأيام إلى أن يتنصر الأغيار جميعًا، وحينئذ سيتم خلاص إسرائيل نفسها أي اليهود كشعب بالمعنى الديني. كما يرى أن شتات اليهود لم يكن فقط عقابًا لهم على رفضهم العهد الجديد وعدم إدراك أن العهد الجديد وضَّح المعاني الخفية في العهد القديم بل إن هذا الشتات هو نفسه إحدى الوسائل لنشر المسيحية، كما أن ضعف اليهود وتمسكهم في الوقت نفسه بشعائر دينهم التي ترمز للمسيحية منذ القدم، دون أن يعوها، يجعل منهم شعبًا شاهدًا يقف دليلًا حيًا على صدق الكتاب المقدَّس وعلى عظمة الكنيسة وانتصارها. وبذا، تحوَّل اليهود إلى أداة لنشر المسيحية. [انظر السابق (4/ الشعب الشاهد)].

نفسه إلقاء المواعظ عليهم والإقناع بالأشكال المشروعة الأخرى (¬1). يقول الحاخام يواكيم پرنز (¬2): «ومن الإنصاف أن نلاحظ أن كل بابا منذ أيام جريجوري الأول كان يصدر تحذيرات شديدة اللهجة ضد استعمال القوة للتحول إلى الديانة المسيحية، ولكن هذه التحذيرات لم تكن ذات جدوى، إذ إنه كثيرًا ما استعملت القوة، وأصبح عدد المتحولين بسبب الضغط والتهديد كبيرًا». كذلك يذكر أن «السلطات الكاثوليكية الرسمية تعد تحول اليهود إلى المسيحية أمرًا يدعو للشك، وفي كاتدرائية ريمس Reims هنالك صورة مجسمة لخنزيرة، تُدعى (الخنزيرة اليهودية Judensau) - وقد أصبحت نموذجًا يحتذى به انتشر في العصور الوسطى، ويشاهد في كثير من الكنائس الألمانية والسويسرية - وتحت هذا الرسم هنالك شرح تفسيري يقول: "كما أن الفأر لا يمكن أن يأكل السنور، كذلك لا يمكن لأي يهودي أن يصبح مسيحيًا حقًا"» (¬3). وتجدر الإشارة إلى أن علاقة الكنيسة باليهود كانت مضطربة ولا تسير على وتيرة واحدة، ويلخص هذا الوضع پرنز بقوله (¬4): «عند انتخاب بابا جديد، كانت (السكولا Scholae) في روما - وهي الهيئة التي تمثل المجموعات العرقية والوطنية في المدينة - تجتمع بعد أن يرتدي أفرادها ملابس الأعياد، لتقديم فروض الطاعة والولاء لحاكم الكنيسة الجديد، وكان اليهود يحتلون مركزهم المخصص لهم على طريق مرور موكب البابا ... وهناك كان اليهود يقفون وفي مقدمتهم الرباني العظيم، ومعه أعيان اليهود ¬

(¬1) السابق (4/ العصور الوسطى في الغرب) باختصار. (¬2) يواكيم پرنز: بابوات يهود من جيتو روما، ص (39). ويواكيم پرنز (1902 - 1988م) هو حاخام يهودي صهيوني من أصل ألماني، هاجر إلى الولايات المتحدة، وهناك نصب نائبًا لرئيس المؤتمر الصهيوني العالمي، كما أصبح بعد ذلك قطبًا لامعًا في المنظمة الصهيونية العالمية، إضافة إلى كونه صديقًا حميمًا إلى جولدا مائير Golda Meir (1898 - 1978 م). [انظر، إسرائيل شاحاك: اليهود واليهودية، ثلاثة آلاف عام من الخطايا، ص (114)]. (¬3) السابق، ص (38). (¬4) السابق، ص (26 - 7) باختصار.

علاقة اليهود بالأغيار

ورؤساء الكنس ومُسِنِّي الأسباط، كل منهم ينتظر تلك اللحظة العظيمة التي يتاح له بها مقابلة ذلك الرجل الذي سيصبح ولي نعمته، وكان الرباني الأعظم يحمل درج الكتابات المقدسة التي تحتوي على التوراة ... وأخيرًا يصل الموكب البابوي، وبعد أن يترجل البابا من المحفة البابوية المحمولة على أكتاف رجال البلاط البابوي، يتقدم الرباني الأعظم ومعه درج الكتابات المقدسة ويُقَبِّل خاتم البابا، ويتعهد بولاء الطائفة اليهودية وتأييدها، ويتسلم البابا الدرج المقدس ثم يخاطب جمهور اليهود ... وكان مما يقوله: "إننا نمدح الشريعة المقدسة ونحترمها تلك التي أنزلها الرب القدير على آبائكم عن طريق موسى، ولكننا نستنكر أعمالكم الدينية وكذلك تفسيراتكم الخاطئة للشريعة، وذلك لأن المخلِّص الذي لا زلتم تنتظرونه عبثًا منذ عهد طويل قد ظهر بشخص سيدنا يسوع المسيح، وذلك طبقًا لتعاليم رسلنا وديننا، وهو الذي يقيم مع الأب والروح القدس، ويحكم كإله من جيل إلى جيل، إنني أعترف بكل هذا ولكن لا أقركم على ما تعتقدون". فإذا ما أرجع البابا الدرج بابتسامة رضا، فهذا يدل على الحياة المستمرة لليهود في المدينة المقدسة، عندئذ يتنفس اليهود الصعداء، فهم لا ينتظرون أكثر من ذلك ... والحقيقة أن هذه الاحتفالات لم تكن دومًا خالية من المشكلات، ففي بعض الأحيان كان البابا يرمي الدرج المقدس في الوحل، كدليل على احتقاره لذلك الشعب الذي يقدس هذا الدرج، وعندها كانت جموع الشعب تضج بالضحك والصراخ، بينما يقف اليهود لا حول لهم ولا طول، ولا يستطيعون أن يتفوهوا بأية كلمة أو أن يقوموا بأي عمل، بل تراهم يرتجفون توجسًا لما ينتظرهم من أيام سوداء على يد هذا البابا» اهـ. علاقة اليهود بالأغيار: أدى رسوخ هذه الروح المشيحانية في وجدان الجماعات اليهودية إلى دعم نظرة الاستعلاء والاعتقاد في كونهم شعب الله المختار .. وكما قسَّم الرومان قديمًا الناس إلى رومان وبرابرة، وقسمهم العرب إلى عرب وعجم، قسمهم اليهود إلى يهود وجوييم. وجوييم تعني عندهم وثنيين وكفرة وبهائم وأنجاسًا ... وإليك البيان: يعتقد اليهود، شعب الله المختار، أنه لا يسمح بعبادته ولا يتقبلها إلا من اليهود، فغيرهم إذن جوييم، أي عباد أوثان أو وثنيون، مهما يكن الإله الذي يعبدونه، واليهود

وحدهم لهذا السبب هم المؤمنون، فغيرهم إذن جوييم أي كفرة. كذلك يعتقد اليهود - حسب أقوال التلمود - أن نفوسهم وحدهم مخلوقة من نفس الله، وأن عنصرهم من عنصره، فهم وحدهم أبناؤه الأطهار جوهرًا. كما يعتقدون أن الله منحهم الصورة البشرية أصلًا تكريمًا لهم، على حين أنه خلق غيرهم - الجوييم - من طينة شيطانية أو حيوانية نجسة، ولم يخلق الجوييم إلا لخدمة اليهود، ولم يمنحهم الصورة البشرية إلا محاكاة لليهود، لكي يسهل التعامل بين الطائفتين إكرامًا لليهود، إذ بغير هذا التشابه الظاهري - مع اختلاف العنصرين - لا يمكن التفاهم بين طائفة السادة المختارين وطائفة العبيد المحتقرين (¬1). يقول الحاخام أبرابانيل Isaac Abrabanel (1437 - 1508 م): «خلق الله الأجنبي على هيئة الإنسان ليكون لائقًا لخدمة اليهود الذين خلقت الدنيا لأجلهم، لأنه لا يناسب لأمير أن يخدمه ليلًا ونهارًا حيوان وهو على صورته الحيوانية» اهـ (¬2). ولذلك، فاليهود أصلاء في الإنسانية، وأطهار بحكم عنصرهم المستمد من عنصر الله استمداد الابن من أبيه، وغيرهم إذن الجوييم، أي حيوانات وأنجاس: حيوانات عنصرًا وإن كانوا بشرًا في الشكل، وأنجاس لأن عنصرهم الشيطاني أو الحيواني أصلًا لا يمكن أن يكون إلا نجسًا (¬3). جاء في التلمود: «الفرق بين درجة الإنسان والحيوان هو بقدر الفرق الموجود بين اليهود وباقي الشعوب»، أيضًا: «الإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، فإذا ضرب أُمِّي إسرائيليًا، فكأنما ضرب العزة الإلهية»، و «إذا ضرب أمِّي إسرائيليًا فالأمِّي يستحق الموت»، وقال أبرابانيل: «الشعب المختار فقط يستحق الحياة الأبدية، وأما باقي الشعوب فمثلهم كمثل الحمير»، وقال الربِّي مناحم (¬4): «أيها اليهود إنكم من بني البشر ¬

(¬1) محمد خليفة التونسي: الخطر اليهودي، ص (64 - 5) بتصرف. (¬2) انظر، د. يوسف نصر الله: الكنز المرصود في قواعد التلمود، ص (75). (¬3) محمد خليفة التونسي: الخطر اليهودي، ص (65). (¬4) أظنه مناحم بن شلومو Menahem Ben Shlomo (1249 - 1315 م).

لأن أرواحكم مصدرها روح الله، وأما باقي الأمم فليست كذلك، لأن أرواحهم مصدرها الروح النجسة» اهـ (¬1). ولذلك، فإن اليهود يسرفون في التعالي والقطيعة بينهم وبين غيرهم إلى درجة فوق الجنون. فهم يعتقدون أن خيرات الأرض والعالم أجمع منحة لهم وحدهم من الله، وأن غيرهم من الأمميين وكل ما في أيديهم ملك لليهود، ومن حق اليهود بل واجبهم المقدس معاملة الأمميين كالبهائم، وأن الآداب التي يتمسك بها اليهود لا يجوز أن يلتزموها إلا في معاملة بعضهم بعضًا، ولكن لا يجوز لهم، بل يجب عليهم وجوبًا إهدارها مع الأمميين، فلهم أن يسرقوهم ويغشوهم ويكذبوا عليهم ويخدعوهم ويغتصبوا أموالهم ويهتكوا أعراضهم ويقتلوهم إذا أمنوا اكتشاف جرائمهم، ويرتكبوا في معاملتهم كل الموبقات، والله - في اعتقادهم - لا يعاقبهم على هذه الجرائم، بل يعدها قربات وحسنات يثيبهم عليها ولا يرضى منهم إلا بها، ولا يعفيهم منها إلا مضطرين، قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَامَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬2). يقول إسرائيل شاحاك (¬3): «تحكمت التعاليم الدينية في تفاصيل السلوك اليومي في جميع مناحي الحياة الاجتماعية والخاصة بين اليهود أنفسهم تمامًا كما تحكمت في علاقتهم بغير اليهود. وبهذا فإنه بالمعنى الحرفي للكلمة، لم يكن اليهودي قادرًا في ذلك الوقت على أن يشرب حتى ولو كوب ماء في منزل غير يهودي. ونفس التعاليم السلوكية تجاه غير اليهود طبقت تمامًا من اليمن حتى نيويورك». ولكن نظرًا لكون اليهود في غالب الأحيان في موقف ضعف ومهانة، أباح لهم ¬

(¬1) للتوسع، انظر، د. يوسف نصر الله: الكنز المرصود في قواعد التلمود، ص (73 - 7). (¬2) آل عمران: 75، محمد خليفة التونسي: الخطر اليهودي، ص (65 - 6). وأدلتهم في هذا الباب كثيرة جدًا، للتوسع يمكنك الاطلاع على: الكنز المرصود في قواعد التلمود، ص (73 - 107)، أو فضح التلمود، ص (111 - 48)، أو كتابات إسرائيل شاحاك وغيرها الكثير. (¬3) إسرائيل شاحاك: اليهود واليهودية، ثلاثة آلاف عام من الخطايا، ص (35).

الجيتو اليهودي

حاخاماتهم منافقة الأغيار دفعًا للأذى، وقالوا: «إن النفاق جائز، وإن الإنسان (أي اليهودي) يمكنه أن يكون مؤدبًا مع الكافر ويدعي محبته كاذبًا إذا خاف وصول الأذى منه إليه» (¬1). يقول شاحاك (¬2): «فإن الأطباء اليهود قد أمروا أن يبذلوا قصارى جهدهم من أجل علاج الحكام وأصحاب السلطة، وقد يفسر هذا جزئيًا، لماذا كان يوظف الملوك والنبلاء والباباوات، والمطارنة الأطباء اليهود، وليس فقط الأطباء بل جامعي الضرائب والقروض من اليهود، أو في أوروپاالشرقية اعتُمد على وكلاء أصحاب المزارع في بذل قصارى جهدهم من أجل صالح الملك أو البارون، بطريقة لم يكن متاحًا دائمًا أن يقوم بها المسيحي» اهـ. ... الجيتو اليهودي: من الواضح أن سيطرة العقيدة المشَّيحانية على العقلية اليهودية والموقف العنصري تجاه الأغيار كانا من أهم العوامل التي أقامت سياجًا منيعًا في النفسية اليهودية حال بينها وبين غيرها، ترجم إلى واقع مادي في صورة ما عرف باسم (الجيتو) .. والجيتو هو «الحي المقصور على إحدى الأقليات الدينية أو القومية. ولكن التسمية أصبحت مرتبطة أساسًا بأحياء اليهود في أوروپا. وللكلمة معنيان: عام وخاص. يعني الجيتو بالمعنى العام أي مكان يعيش فيه فقراء اليهود دون قسر من جانب الدولة، أو حي اليهود بشكل عام. ويعود تاريخ هذه الجيتوات إلى الإمپراطورية اليونانية والرومانية. أما الجيتو بالمعنى الخاص الذي أصبح شائعًا، فيعني المكان الذي يُفرَض على اليهود أن يعيشوا فيه، وقد استُخدمت الكلمة بهذا المعنى للإشارة إلى جيتو البندقية (عام ¬

(¬1) انظر، د. يوسف نصر الله: الكنز المرصود في قواعد التلمود، ص (77). (¬2) إسرائيل شاحاك: اليهود واليهودية، ثلاثة آلاف عام من الخطايا، ص (89) بتصرف يسير.

1516م). وأصل الكلمة غير معروف على وجه الدقة، فيُقال: إنها حي اليهود في البندقية نسبة إلى (فلجيتو Villgetto) أو (مصنع المدافع) الذي أقيم بجواره. ويُقال أيضًا: إن الكلمة مشتقة من الكلمة الألمانية (جهكتر أورت Geheckter Ort) التي تعني (المكان المحاط بالأسوار)، أو هي من الكلمة العبرية (جت) أو (جيط) بمعنى (الانفصال) أو (الطلاق) الواردة في التلمود. وربما كان أكثر الافتراضات قربًا من الواقع هو ذلك الذي يعود بالكلمة إلى لفظة (بورجيتو Borghetto) الإيطالية التي تعني القسم الصغير من المدينة (¬1). ولقد تجمع اليهود بمحض إرادتهم في هذه الأحياء - قبل أن يجبروا على التجمع فيها قسرًا في بعض الأحيان - حتى يحافظوا على وحدتهم وعلى أسلوب حياتهم، فقد كانوا يعتبرون ذوبان اليهود في المجتمع خطرًا عظيمًا يعد بمثابة النذير بنهاية اليهودية، أو كما يُطلق عليه (الإبادة الصامتة Silent Holocaust). ومما دعم الحاجة إلى الجيتو كذلك مجموعة الشعائر اليهودية الخاصة، مثل: قوانين الطعام، وتحريم الزواج المختلط، وعدم شرب خمر صنعها واحد من الأغيار، والختان، والنصاب اللازم لصلاة الجماعة، وعادات الدفن والمدافن، وشعائر السبت (¬2). وفي دول شرق أوروپاعامة، وفي روسيا بصفة خاصة، فقد أُطلِق اصطلاح (منطقة الاستيطان اليهودي Pale of Settlement) على مناطق التجمع اليهودي هناك. ولم تأخذ هذه المنطقة شكل الجيتو الأوروپي الذي يقتصر على حي أو شارع في مؤخرة المدينة، ولكن كانت منطقة الاستيطان اليهودي في روسيا عبارة عن مجموعة من القرى أو المدن الصغيرة التي خصصت لكي يسكن فيها اليهود (¬3). يقول الدكتور المسيري (¬4): «كان الجيتو كذلك وسيلة من وسائل الإدارة في غياب ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ الجيتو: تاريخ). (¬2) السابق، بتصرف. (¬3) د. سناء عبد اللطيف: الجيتو اليهودي، ص (22). (¬4) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ الجيتو: تاريخ) بتصرف يسير.

نظام إداري مركزي قوي»، ولكن «يجب التنبيه إلى أنه لا يوجد مسار تاريخي واحد لظاهرة الجيتو، وخصوصًا بعد القرن الخامس عشر الميلادي مع بداية ظهور التشكيلات القومية الغربية المختلفة ومع اختلاف معدلات العلمنة والتحديث والثراء والفقر والصراع الطبقي فيها» اهـ (¬1). ولو أردنا إلقاء نظرة سريعة على الحياة داخل الجيتو، نجد أن الجيتوات كانت «محاطة بأسوار عالية، ولها بوابات تغلق بالمزاليج ليلًا، ويُمنع اليهود من مغادرتها بعد منتصف الليل وفي أيام الآحاد وأعياد المسيحيين، وكانت هناك أحكام دقيقة أخرى تُغلق وتُفتح بمقتضاها هذه البوابات التي يحرسها حراس مسيحيون يتقاضون أجرًا من اليهود. وكانت حارات اليهود في أغلب الأحيان تقع في إحدى المناطق المجاورة أو في أقذر الأحياء وأحقرها داخل المدينة، وكانت شوارع هذه الأحياء ضيقة وغير ممهدة ومتعرجة، وتكثر فيها الحفر المملوءة بالقمامات والفضلات، كما كانت هذه الحارات موحلة في أغلب الأوقات بسبب عدم وجود مجاري في المنازل، ومن ناحية أخرى فقد اتسمت حارات الجيتو بالازدحام الشديد والضجيج المستمر، حيث يوجد الباعة المتجولون في كل مكان ينادون بأعلى صوت ليروِّجوا بضائعهم المحمولة على أكتافهم أو التي وضعوها على عربات اليد أو عربات الكارو التي تجرها الحيوانات، بالإضافة إلى النساء اللاتي يتجمعن بجانب الطرقات وعلى عتبات البيوت ليثرثرن ويحدثن ضوضاء شديدة، والأولاد الذين يتسكعون في شوارع الجيتو ويتبولون في الطرقات. وكانت كثافة السكان عالية جدًا في أحياء الجيتو بسبب الزواج المبكر وزيادة التناسل. وعلى الرغم من الكثافة السكانية العالية، فإن الحكومات كانت تحدد مساحة معينة كي يقام عليها الجيتو (¬2)، ونظرًا لضيق هذه المساحة فقد كان امتداد المنازل يقام بشكل ¬

(¬1) السابق، بتصرف يسير. (¬2) يذكر الكاتب اليهودي عاموس إيلون Amos Elon (1926 - 2009 م) أن «هذا الاكتظاظ لم يكن نتيجة الضغط الخارجي، ولكنه كان انكماشًا داخليًا، ربما كانوا ينكمشون خوفًا من الفضاء المترامي والخلاء الرهيب، وربما من عالم الغرباء». [انظر، د. سناء عبد اللطيف: الجيتو اليهودي، ص (40)، نقلًا عن: الإسرائيليون، المؤسسون والأبناء The Israelis, Founders and Sons، لعاموس إيلون، ص (68)، مترجم عن العبرية، الهيئة العامة للاستعلامات، غير منشور].

رأسي، لذلك فقد تميزت مساكن الجيتو بارتفاعها غير العادي، وقد وصلت في بعض الأحيان إلى عشر طوابق، وكانت بالتالي شديدة الازدحام لدرجة أن أساس أغلب المنازل كان لا يحتمل زيادة عدد الأدوار، وكثيرًا ما كانت تنهار هذه المنازل فوق رءوس السكان، خاصة في احتفالات الزواج التي كانت تتحول إلى نُواح بعد انهيار المنازل التي لا تتحمل كثرة عدد المدعوين. وأحيانًا كانت منازل اليهود في بعض أحياء الجيتو لها سراديب تحت الأرض، أعدها اليهود لكي يختبئوا فيها في حال الهجوم عليهم. أما عن الحجرات التي كان يعيش فيها اليهود في منازل الجيتو، فقد كانت غير صحية على الإطلاق، ورطبة وكريهة الرائحة، ذلك بسبب ارتفاع المنازل غير العادي في هذه الحارات الضيقة، والذي كان يحجب الشمس والهواء عن الحجرات، ويجعل أقبيتها رطبة. وكانت نوافذ الحجرات ليس لها زجاج، بل كان اليهودي يضع بدلًا منه قطعًا من خشب الأرضية أو الخرق. واستخدم بعض اليهود حجراتهم كمكان للعمل والسكن معًا؛ ففي الصباح كانت تستخدم كُورَش، وفي المساء مكانًا للنوم» (¬1). وكان القانون الداخلي الذي ينظم علاقات اليهود فيما بينهم (في الأمور الدينية والشخصية) هو التلمود. أما علاقات الجماعات اليهودية بعضها بالبعض الآخر، فكان ينظمها قانون تحريم الاستيطان. وكان الجيتو يتمتع بقسط وفير من الإدارة الذاتية، شأنه في هذا شأن كثير من المؤسسات في مجتمعات العصور الوسطى. فكانت تديره هيئة إدارية تصل أحيانًا إلى اثني عشر شخصًا، منتخبة في بعض الأحيان ومعينة في البعض الآخر، وإن كانت القيادات المنتخبة تنتمي إلى مجموعة من الأسر المحدودة. وكانت لهذه المؤسسة (القهال Kahal بين الأشكناز Ashkenazi Jews (¬2) ، والماهاماد Mahamad بين السفارد Sephardi Jews (¬3)) قوة تنفيذية ضخمة، فكانت تقوم ¬

(¬1) د. سناء عبد اللطيف: الجيتو اليهودي، ص (26 - 9) باختصار وتصرف يسير. (¬2) وهم اليهود التي ترجع أصولهم إلى ألمانيا الشرقية. (¬3) وهم اليهود الشرقيون، تحديدًا القادمين من إسپانيا والپرتغال. أما اليهود المزراحيون Mizrahi Jews هم اليهود الشرقيون بالمعنى الحرفي؛ أي يهود الشرق الأوسط.

بإتمام عمليات الزواج والطلاق وتنفيذ العقوبات مثل الجلد والسجن (بل الإعدام في حالات نادرة). وكان من حق هذه المجالس أن تصدر قرارًا بالطرد من حظيرة الدين، وكان من حقها النظر في المنازعات بين اليهود والحكم في القضايا حسب الشريعة اليهودية. وكان أعضاء المجلس يعرفون كل صغيرة وكبيرة عن سكان الجيتو بسبب صغر حجمه وقلة عددهم، ولذا كان من السهل التحكم فيهم. وكان اليهودي يتلقى داخل الجيتو التأكيدات بأنه ينتمي إلى الشعب المقدَّس والشعب المختار وأن الجيتو ليس إلا وجودًا مؤقتًا يحفظ فيه الإله الأمة وروحها إلى أن يحين الحين ويشاء إعادة شعبه إلى أرضه المقدَّسة وحريته الكاملة، بل تصبح كل المعاناة والآلام التي يتحملها اليهودي خارج الجيتو من علامات الاختيار والتميز، وكلما زاد الاضطهاد زادت الساعة اقترابًا (¬1). وكان جهل اليهود وحاخاماتهم - وهم القيادة الثقافية للجماعة - مزريًا جدًا؛ يقول إسرائيل شاحاك (¬2): «في معظم الأحوال كانت دراسة جميع اللغات محرمة تمامًا، كما كانت أيضًا محرمة دراسة الرياضيات والعلوم والجغرافيا والتاريخ (حتى التاريخ اليهودي كان مجهولًا) ... بما في ذلك جغرافيا فلسطين وبالتأكيد موقعها، وهذا يظهر من خلال (قبلة) جميع الكنس اليهودية في دول مثل پولندا وروسيا، حيث يفترض أن يصلي اليهود باتجاه القدس، بل إن اليهود الأوروپيين الذين كانت لديهم فكرة غامضة عن موقع القدس، افترضوا أنها دائمًا باتجاه الشمال، في حين كانت في الواقع أقرب قليلًا من الجنوب». ويقول (¬3): «منذ قرنين فقط كانت الغالبية العظمى من اليهود تعيش في حالة كلية من الجهل، ليس فقط فيما يخص وجود القارة الأمريكية، لكن أيضًا فيما يخص تاريخهم، ووضع اليهود في عصرهم، وقد كانوا قانعين تمامًا بأن يظلوا كذلك» اهـ. ولقد حرص كل جيتو على الاحتفاظ باستقلاله والدفاع عن مصالحه تجاه الجيتوات ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ بنية الجيتو) باختصار. (¬2) إسرائيل شاحاك: اليهود واليهودية، ثلاثة آلاف عام من الخطايا، ص (42) الهامش. (¬3) السابق، ص (44).

الأخرى، إذ كانوا يتنافسون فيما بينهم في المجالات نفسها ومن أجل المزايا نفسها التي يحصلون عليها من خلال المواثيق. ومن هنا كان لكل جيتو حق حظر الاستيطان، وهو حق منع أي يهودي آخر من القدوم إلى الجيتو والإقامة فيه إلا بإذن خاص ولمدة محددة ونظير أجر معيَّن (¬1). وتجدر الإشارة كذلك إلى وجود اختلاف واضح بين المكانة الاجتماعية لكل من الغني والفقير داخل جدران الجيتو؛ فكان أغنياء اليهود هم الذين يقومون بالهيمنة على كل شئون الطائفة اليهودية، وكان موكلًا بهم النهوض بالأعباء المالية الملقاة على عاتق الجيتو، وفي مقدمتها جباية الضرائب التي كانت تفرضها الحكومة على اليهود ككل، بالإضافة إلى الهيمنة على المصاريف الداخلية المتمثلة في تكاليف الإنفاق على المعبد والمقابر وإعانات الفقراء ودفع أجور الموظفين. ولم تكن نظرة مؤسسات السلطة تجاه التاجر اليهودي الغني مثل نظرتهم إلى اليهودي الفقير، فكانت الطبقة الفقيرة تعاني من المضايقات والأضرار مضاعفة من تلك التي شعر بها أغنياء اليهود، ويرجع ذلك إلى أن اليهود الأغنياء استطاعوا بسلطان المال أن يتقربوا إلى الحكام ليحصلوا على الإعفاء من تطبيق الكثير من القوانين (¬2). يؤكد هذا إسرائيل شاحاك بقوله (¬3): «ونلاحظ أن الطبقة الحاخامية كانت تتحالف مع اليهود الأثرياء في اضطهاد اليهود الفقراء من أجل مصالحهم الشخصية، إضافة إلى مصالح الدولة التي هي التاج والنبلاء». كذلك فإن العائلات اليهودية الواسعة الثراء استطاعت أن تتخطى أسوار الجيتو وأن تسكن في القصور الفاخرة في الأحياء الراقية من المدن (¬4). كل ذلك أدى في نهاية الأمر إلى «تأصيل خاصية الحقد وكراهية الآخرين في كيان يهود الجيتو حتى أصبحت ضمن مكونات شخصياتهم، فامتلأت نفسياتهم بالحقد على ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ بنية الجيتو). (¬2) د. سناء عبد اللطيف: الجيتو اليهودي، ص (230 - 1) باختصار وتصرف يسير. (¬3) إسرائيل شاحاك: اليهود واليهودية، ثلاثة آلاف عام من الخطايا، ص (91). (¬4) د. سناء عبد اللطيف: الجيتو اليهودي، ص (232 - 3) باختصار وتصرف يسير.

واقع العلاقة بين اليهود والنصارى في المجتمعات الأوروپية

الغير حتى بين اليهود بعضهم وبعض؛ حقد على الغني من الفقير وعلى القوي من الضعيف وعلى السعيد من الحزين» (¬1)، وصدق الله العظيم القائل: {بَاسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (¬2). ... واقع العلاقة بين اليهود والنصارى في المجتمعات الأوروپية: ننتقل إلى واقع العلاقة بين اليهود والنصارى في المجتمعات الأوروپية، فكما يقول يواكيم پرنز (¬3): «إن موقف الكنيسة في القرن الثالث عشر الميلادي الذي أوجب الحظر الصارم على اليهود، وإجبارهم على السكن في الجيتو، وارتداء ملابس مميزة خاصة، ما هو إلا دليل وشاهد على وجود اختلاط واتصال متبادل بين المسيحيين واليهود». ولكن العلاقة كان يسودها الاضطراب في غالب الحال كما أشرنا من قبل، وكما يذكر شاحاك (¬4): «تعرض اليهود خلال فترة اليهودية الكلاسيكية بكاملها إلى الاضطهاد في أغلب الأحيان». ولكن لو بحثنا عن الأسباب نجد أنها ليست كما يروج إليها الصهاينة من كونها لا شيء سوى معاداة السامية القدرية المحتومة وغير المُبَرَّرة! بل إنها ترجع في الواقع إلى عدة أمور سبق ذكرها، ولعل أبرزها كان اشتغال اليهود بالربا؛ فكان المرابي «يلعب دورًا اقتصاديًا أساسيًا في المجتمع الغربي، فإن أراد الأمير الإقطاعي تزويج ابنته أو تجريد حملة في حروب الفرنجة أو تعمير أرض جديدة، أو أزمعت دار البلدية بناء كنيسة أو كاتدرائية، أو واجه أعضاء الطبقات الفقيرة مصاعب شخصية فجائية، في كل هذه الحالات كان المرابي هو الذي يزود المجتمع بالأموال السائلة التي يحتاج إليها والتي تضمن استمراره» (¬5). ¬

(¬1) السابق، ص (363) بتصرف يسير. (¬2) الحشر: 14 (¬3) يواكيم پرنز: بابوات يهود من جيتو روما، ص (37). (¬4) إسرائيل شاحاك: اليهود واليهودية، ثلاثة آلاف عام من الخطايا، ص (103). (¬5) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ جماعة يهودية وظيفية مالية (الربا والإقراض)).

ولقد برز دور اليهود في هذا المجال في الوقت الذي كانت تحرم فيه الكنيسة على النصارى الاشتغال بالربا، وأصدرت عدة قرارات في هذا الشأن، ولكنهم كذلك ما رعوا قراراتهم حق رعايتها، وكانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَاكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ} (¬1). «وقد كُسر احتكار أعضاء الجماعات اليهودية للربا مع ظهور جماعات من المرابين المسيحيين مثل جماعة فرسان المعبد Knights Templar الألمانية، واللومبارد Lombard في إيطاليا، ويبدو أن الكنيسة الكاثوليكية ذاتها كانت متورطة في عمليات الإقراض بالربا وكانت تلتف حول التحريم الذي أصدرته بأن تقوم بإقراض المال المطلوب للمدين الذي يقدم كضمان قطعة أرض تقوم الكنيسة باستثمارها لحسابها وتستولى على ريعها الذي يشكل الفائدة إلى حين استرداد القرض الأصلي. كما ساندت الكنيسة كثيرًا من جماعات المرابين. وقد منح البابا إنوسنت الرابع Pope Innocent IV [1180/ 1190 - 1254 م] في عام 1248م لقب (أبناء الكنيسة الرومانية المميَّزين) للمرابين المسيحيين» (¬2). وكان النظام الإقطاعي في الغرب «يستند إلى شرعية مسيحية ويتطلب يمين الولاء كشرط أساسي للانتماء إليه، وقد وجد أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب أنفسهم خارج كثير من المجالات السياسية والاقتصادية والمدنية المشروعة [إلا إذا تنصروا]. وكانت هذه الظروف سببًا ونتيجة في آن واحد لتحوُّلهم إلى جماعة وظيفية وسيطة تقوم بأعمال التجارة ثم الربا. وربما كان هذا الوضع هو الذي حدَّد موقف أعضاء المجتمع منهم، فكان يُنظَر إليهم من أعلى باعتبارهم أداة يمكن استخدامها أو استبدالها إن دعت الحاجة، كما كان يُنظر إليهم من أسفل باعتبارهم وحوشًا لا بد من ضربها، فهم الأداة ¬

(¬1) التوبة: 34 (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ جماعة يهودية وظيفية مالية (الربا والإقراض)) باختصار.

الواضحة لاستغلال الجماهير التي لم يكن بوسعها فهم آليات الاستغلال والقمع» (¬1). وكان الملوك يبذلون قصارى جهدهم لمنع المرابين اليهود من اعتناق المسيحية، إذ إن هذا يشكل إضعافًا وتبديدًا للأداة التي يستخدمونها. وكان المرابي الذي يَتنصَّر يفقد كل ثروته التي كانت تئول إلى العرش، لأنه لا يحق له أن (يتمتع بثمرة الرذيلة)، أو هكذا كان التبرير والادعاء! وكانوا كذلك يلقون بالمرابي اليهودي إلى الجماهير الغاضبة، كبشًا للفداء، إذا ما ثبت أنه يكلف أكثر مما يفيد (¬2). يقول شاحاك (¬3): «ويروي لنا التاريخ العديد من الروايات المروعة عن الجور والإهانة التي مارسها النبلاء على يهودهم، ولكن الفلاحين كانوا هم الأشد معاناة من الاضطهاد على أيدي كل من ملاك الأراضي واليهود، وقد فرض أنه باستثناء فترات ثورات الفلاحين، فإن النقل الكامل لشرائع الدين اليهودي ضد غير اليهودي كان يقع على الفلاحين». ويقول أيضًا (¬4): «يجب الإشارة إلى أنه في كل أسوأ أشكال الاضطهاد التي تعرض لها اليهود، أي التي كان يُقتل فيها اليهود، فإن الطبقة الحاكمة العليا، الإمپراطورية، والبابا، والملوك والطبقة الأرستقراطية العليا، وكبار رجال الدين، وأيضًا البورچوازية (¬5) الثرية في المدن ذات الحكم الذاتي، كانت دائمًا في صف اليهود. أما الذين ناصبوا العداء فكانوا ينتمون إلى الطبقات المضطَّهدة والأكثر استغلالًا من غيرها، وأولئك ¬

(¬1) السابق (2/ الصور الإدراكية النمطية وكلاسيكيات وتاريخ معاداة اليهود حتى بداية القرن الثامن عشر) بتصرف يسير. (¬2) السابق (2/ جماعة يهودية وظيفية مالية (الربا والإقراض)) بتصرف يسير. (¬3) إسرائيل شاحاك: اليهود واليهودية، ثلاثة آلاف عام من الخطايا، ص (102) باختصار. (¬4) السابق، ص (104 - 5) باختصار. (¬5) البورچوازية Bourgeoisie: مصطلح اشتق من الكلمة الفرنسية القديمة (بورچي Burgeis) التي كانت تطلق على ساكني المدينة، ثم صار المصطلح يرمز إلى طبقة اجتماعية ظهرت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر من الميلاد، وهم التجار وأصحاب رءوس الأموال والمحلات العامة والحرف.

القريبون منهم مثل طرق الرهبان المتسولين. وصحيح أنه في أغلب الأحوال - ولا أعتقد في جميعها - حمت طبقة النخبة اليهود ودافعت عنهم ليس لاعتبارات إنسانية ولا تعاطف مجرد مع اليهود، ولكن للسبب الذي يستخدمه الحكام بشكل عام من أجل تحقيق مصالحهم ... ولهذا السبب فإن جميع المجازر التي تعرض لها اليهود خلال الفترة الكلاسيكية كانت جزءًا من ثورات الفلاحين أو حركات شعبية أخرى، في أوقات كانت الحكومة فيها لسبب ما في غاية الضعف، ويصدق هذا حتى في الحالة الاستثنائية جزئيًا لروسيا القيصرية» اهـ. وكان اليهودي يسقط ضحية الثورات الشعبية لأنه قريب ومتاح ومباح باعتباره عضوًا في جماعة وظيفية، على خلاف الملك الموجود في قصره خلف حراسه، والذي يشكل الهجوم عليه لا مجرد مظاهرة شعبية وإنما ثورةً هائلة (¬1). يقول شاحاك (¬2): «وكحكم عام يمكن استخلاصه، فإن جميع المذابح الكبرى التي تعرض لها اليهود في أوروپاالمسيحية خلال موجة الغزوات الصليبية الأولى لم تكن جيوش الفرسان النظامية تحت قيادة الدوقات والكونتات الكبار هي التي تحرشت باليهود، ولكن الجماهير الشعبية العفوية المكونة على وجه الحصر من الفلاحين والفقراء الذين جاءوا في أعقاب بطرس الناسك». ولكن هذا لا يجعلنا بحال من الأحوال نغفل عن أن ما أصابهم كان جزاء بما كانوا يعملون، فالله تعالى لا يظلم مثقال ذرة، قال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬3). لقد قالوا - لعنهم الله - في تلمودهم: «يجوز أخذ الربا من المرتدين الواقعين في الوثنية»، وقالوا: «يجوز، وفقًا للتوراة، إقراض بربا لآكوم Akum (¬4) . بعض الشيوخ ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ جماعة يهودية وظيفية مالية (الربا والإقراض)). (¬2) إسرائيل شاحاك: اليهود واليهودية، ثلاثة آلاف عام من الخطايا، ص (105). (¬3) النساء: 160 - 161 (¬4) كلمة يطلقها اليهود على النصارى، وهي تعني عبدة النجوم والكواكب.

مع ذلك يحرمون هذا، إلا إذا كانت قضية حياة أو موت. وفي أيامنا الراهنة، مسموح التعامل بالربا لأي سبب» اهـ (¬1). وكان بعض أعضاء الجماعات اليهودية يرون أن الاشتغال بالربا وسيلة من وسائل الانتقام من الأغيار، وطريقة لتوسيع الهوة بين اليهود وغيرهم. وبالتالي لم يَعُد الربا مجرد مهنة أو مصدرًا للدخل وإنما أمرًا مرغوبًا فيه في حد ذاته، وتَحوَّل من مجرد وظيفة إلى فعل رمزي ذي مضمون نفسي مُحدَّد، بل إن بعض المفكرين الدينيين وصف الاشتغال بالربا بأنه طريقة مثالية لتحقيق أرباح سريعة دون إنفاق وقت طويل بما يتيح لليهودي التفرغ لأسمى أهداف حياته، أي دراسة التوراة. وقد فسر بعض الحاخامات ازدهار الدراسات التلمودية في ألمانيا، والدينية على وجه العموم، بأن اليهود كانوا يعملون فيها بالربا أكثر من أي بلد آخر! (¬2). بل وتُعَد مسرحية تاجر البندقية The Merchant of Venice التي كتبها وليام شكسپير William Shakespeare (1564 - 1616 م) تلخيصًا لشخصية اليهودي المرابي الجشع في كل عصر وكل مكان (¬3). ¬

(¬1) انظر، آي. بي. پرانايتس: فضح التلمود، ص (79، 134). I. B. Pranaites: The Talmud Unmasked (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ جماعة يهودية وظيفية مالية (الربا والإقراض)). (¬3) تحكي المسرحية قصة حادثة وقعت في مدينة البندقية في إيطاليا بين تاجر شهم محب للخير اسمه أنطونيو Antonio، وبين مرابٍ يهودي شرير اسمه شيلوك Shylock، وكان اليهودي يغار من أنطونيو ويحقد عليه، وذات مرة اقترض أنطونيو بعض النقود من اليهودي المرابي، فقال له الأخير: «سوف أكتبك من باب المزاح قرارًا بأنك إذا لم تدفع الدين في موعده في يوم كذا وبالمكان الفلاني يكون من حقي اقتطاع رطل من لحمك من المكان الذي أختاره من جسمك»، ومن باب المزاح أيضًا وطيبة القلب كتب أنطونيو على نفسه هذا الإقرار، وهو متأكد أن شيلوك مهما بلغت أحقاده وشروره فلن يصل به الأمر أن يفكر جديًا في تنفيذ هذا الاتفاق الهزلي، لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، وعجز أنطونيو، وعندما احتكما للقضاء طالبت پورشيا Portia محامية أنطونيو بتنفيذ نص الإقرار، وهو أن يأخذ شيلوك رطل لحم من جسد أنطونيو، ولكنها اشترطت ألا ينزف نقطة دم واحدة من جسد أنطونيو، وبالطبع لم يستطع شيلوك تنفيذ هذا الأمر، واتضح للمحكمة سوء نيته، وأنه لم يكن يريد استرداد حقه، ولكنه كان يريد سفك دماء أنطونيو والانتقام منه، فصادرت أمواله كلها جزاء لأحقاده وسوء نيته.

ولقد امتد نشاط المرابي اليهودي إلى بني جلدته، ولكن الإقراض في هذه الحالة كان يأخذ شكلًا خاصًا حتى يتم التحايل على أشكال التحريمات الدينية الخاصة بعدم إقراض اليهودي بالربا؛ فكان المرابي يصبح شريكًا موصيًا أو شريكًا يشترك بالمال لا بالعمل وينال نصيبًا من الربح إذا كسبت التجارة، ولا يخسر شيئًا من ماله إذا لم يربح (¬1). ولكن .. لا يعني ما تقدم سرده تهميش دور الخلفية العقائدية الأصلية التي قامت عليها صور العداء تلك بين اليهود والنصارى، خاصة وأن المناخ العام كان دينيًا بسبب سيطرة الكنيسة والحاخامات كما سبق أن ذكرنا. «ففي القرن الرابع عشر، كانت العروض المسرحية المسماة (آلام المسيح) - والتي كانت تستغرق عدة أيام، وكانت من أكثر الأشكال الفنية الشعبية شيوعًا - تؤكد قسوة اليهود على المسيح وخيانتهم له، الأمر الذي كان يعمِّق كره اليهود في الوجدان الشعبي» (¬2). وقبل هذا الوقت [في القرن الثالث عشر] هاجمت المراجع المسيحية اليهودية مستخدمة إما ذرائع توراتية أو ذرائع عامة، وكان واضحًا أن الحملة المسيحية ضد التلمود جاءت نتيجة لتحول يهود ضالعين جدًا في التلمود إلى المسيحية (¬3)، فكانوا يُعرِّفون القيادات المسيحية وجماعات الرهبان بما جاء في التلمود (وبعض الكتب الدينية اليهودية الأخرى) من هجوم شرس على المسيح والمسيحية وبعض عادات اليهود الأخرى التي تهدف إلى عزلهم عن مجتمع الأغيار (¬4). ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ جماعة يهودية وظيفية مالية (الربا والإقراض)). (¬2) السابق (2/ الصور الإدراكية النمطية وكلاسيكيات وتاريخ معاداة اليهود حتى بداية القرن الثامن عشر) بتصرف يسير. (¬3) إسرائيل شاحاك: اليهود واليهودية، ثلاثة آلاف عام من الخطايا، ص (45) باختصار. (¬4) انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ الصور الإدراكية النمطية وكلاسيكيات وتاريخ معاداة اليهود حتى بداية القرن الثامن عشر).

ولقد أدت بالفعل العزلة النفسية التي عاش فيها اليهود عبر قرون طويلة إلى اتصاف اليهود بعقلية قاسية تميل إلى الشر والهدم وسفك الدماء، وأصبحت الشخصية اليهودية التي عاشت في الجيتو شخصية عدوانية، فقد كان لحارات الجيتو الفضل في الحفاظ على العنصرية اليهودية في شكلها المرضي الذي أصبح داء عضالًا، حتى انقلب إلى موقف رفض للاندماج ثم إلى عداء للإنسانية (¬1). يذكر إسرائيل شاحاك بعض مظاهر هذا العداء فيقول (¬2): «أصبح من المألوف أن يتم البصق عند رؤية كنيسة أو صليب، ويمكن أحيانًا التلفظ ببعض الآيات التوراتية المهينة للأغيار. وأدت هذه العادات إلى الكثير من الحوادث في تاريخ اليهود في أوروپا، أشهرها - والتي ما زالت آثارها واضحة حتى الآن - وقعت في القرن الرابع عشر في پراج، حيث أمر الملك شارلز [الرابع Charles IV (1316 - 1378 م)] ملك بوهيميا، الذي كان الإمپراطور الروماني المقدس أيضًا Holy Roman Emperor، بنصب صليب ضخم وسط جسر مُجرى بناه وما زال قائمًا حتى اليوم، وقد قيل له وقتها إن يهود پراج لديهم عادة البصق كلما مروا بالقرب من الصليب، ولأنه كان مشهورًا بحمايته لليهود، لم يعاقبهم على ذلك، بل حكم على الطائفة اليهودية بدفع نفقات نقش كلمة أدوناي Adonay التي تعني (الرب) بالعبرية، على الصليب بحروف ذهبية، وهذه الكلمة أحد أقدس سبع تسميات للرب، ولا يسمح بإبداء أي نوع من عدم الاحترام أمامهما، ولذلك توقف اليهود عن البصق» اهـ. ولقد وجهت لليهود في هذه الفترة عدة تُهَم، منها نشر الوباء الأسود (الطاعون) وتسميم الآبار والمدن، «ولم يكن هناك تفسير علمي لهذه الظاهرة في العصور الوسطى، فأصابت الناس بالذهول، وفسرته الجماهير بأنه غضب الرب بسبب فساد الناس. كما اتجهت شكوك الناس نحو أعضاء الجماعات اليهودية لأن معدلات الإصابة بين اليهود كانت أقل نسبيًا من المعدلات العامة مع أن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا يعيشون بين الجماهير. ولعل هذا كان يعود إلى عزل اليهود في الجيتو عن بقية السكان وإلى وضعهم ¬

(¬1) د. سناء عبد اللطيف: الجيتو اليهودي، ص (364) بتصرف يسير. (¬2) إسرائيل شاحاك: اليهود واليهودية، ثلاثة آلاف عام من الخطايا، ص (145) الهامش بتصرف.

الطبقي المتميز وقوانين الطعام الخاصة بهم» (¬1). وكان من التهم التي وجهت إليهم كذلك تهمة السحر، ومما رسَّخ هذا الاعتقاد - علاوة على قيام اليهود فعلًا بالأعمال السحرية (¬2) - هو إنتاج المرابي اليهودي الثروة الضخمة عن طريق تحريك بسيط لأمواله لا عن طريق أي جهد مبذول. وكان من أكثر التهم المثيرة للجدل والتي أثارت الكثير من المشاكل هي تهمة الدم: والتي تتلخص في أن اليهودي يقوم بذبح أي شخص غير يهودي نصراني أو مسلم، ليستخدم دمه في صنع فطيرة عيد الفصح، أو مزجه بالشراب أو استخدامه في الولائم والحفلات الكبرى التي لها صبغة دينية، حيث يضعون قطرات من الدم البشري على الخمور .. تقول الدكتورة سناء عبد اللطيف (¬3): «وإن كان بعض الكُتَّاب اليهود ينفون عن الشعب اليهودي هذه التهمة ويعتبرونها افتراءً عليهم، إلا أن كثيرًا منها يبدو ملتصقًا باليهود بالفعل، وذلك بسبب ما كانوا فيه من ظلمات الجهل، والتعلُّق بكثير من البدع والخرافات التي أدَّى فيها حقدهم على البشر دورًا كبيرًا. وقد اعترف بذلك المؤرخ اليهودي برنارد لازار Bernard Lazare [1865 - 1903 م] في كتابه (اللاسامية، تاريخها وأسبابها L'Antisémitisme, son histoire et ses causes) حيث قال: "إن حوادث الدم البشري ليست خرافة، وإن عادة ذبح الأطفال ترجع إلى السحرة اليهود الذين يهتمون بعلوم السحر والشعوذة"، ويقول يهوشافاط هركابي Yehoshafat Harkabi [1921 - 1994 م]: "إن اليهود في الواقع ينكرون استعمالهم دم البشر، لكن الحقيقة أن هذا صحيح، ولا سيما من اعترافات اليهود الذين تركوا دينهم؛ مثل اعترافات الحاخام أبي العافية الذي اعتنق الإسلام، والحاخام تاوينستوس الذي اعتنق المسيحية، والذي شهد بأن اليهود يؤمنون بأن الدم المسيحي ضروري لأداء بعض الطقوس الدينية"». ثم ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ الموت الأسود). (¬2) جاء بسفر أشعياء (57: 3): «أما أنتم فاقتربوا إلى هنا يا بني الساحرة يا نسل الفاسق والزانية». (¬3) د. سناء عبد اللطيف: الجيتو اليهودي، ص (101) بتصرف.

عددت الدكتورة 48 حادثة دم - وذلك على سبيل المثال لا الحصر - في الفترة من 1071 إلى 1911م (¬1). ولعل من أشهر تُهَم الدم حادثة دمشق Damascus Affair التي حدثت في الخامس من فبراير عام 1840م، وراح ضحيتها الراهب الفرنسسكاني توماس وخادمه إبراهيم عمار (¬2). كل هذه الأسباب مجتمعة أدت في النهاية إلى ارتفاع موجة اضطهاد يهود أوروپابشكل عام .. ولقد تعددت صور الاضطهاد وتنوعت: فمن ناحية، تحددت التشريعات المسيحية المتصلة باليهود من خلال قرارات المجمع اللاتراني (¬3) الثالث (1179م) برئاسة البابا ألكسندر الثالث Pope Alexander III (1100/ 1105 - 1081 م)، والرابع (1215م) برئاسة البابا إنوسنت الثالث Pope Innocent III (1161 - 1216 م)، وأخذت شكلها النهائي الذي استمر حتى عصر النهضة. فأكدت مقررات المجلس الثالث منع اليهود من استئجار مسيحيين ومنع المسيحيين من استئجار خادمة أو استخدام ممرضة يهودية أو طبيب يهودي. ولكن المجلس، مع هذا، جعل شهادة المسيحي ضد اليهودي وشهادة اليهودي ضد المسيحي جائزة، كما أوجب حماية اليهود من التعميد القسري ومن أي هجوم عليهم أو مضايقتهم أثناء أدائهم صلواتهم. أما مقررات المجمع الرابع، فطلبت إلى المسيحيين مقاطعة اليهود فيما لو حصلوا على فوائد مرتفعة على النقود التي يقرضونها بالربا، ونصت على منع اليهود من الظهور بملابس الزينة خلال الأيام الثلاثة ¬

(¬1) انظر السابق، ص (103 - 5). (¬2) وقد ذكر المؤرخ الفرنسي أشيل لوران تفاصيل الحادثة في كتابه (العلاقة التاريخية للمسائل السورية منذ عام 1840 إلى 1842م)، والذي ترجمه الدكتور يوسف حنا نصر الله في كتابه (الكنز المرصود في قواعد التلمود) كما تقدم. (¬3) المجامع اللاترانية الكنسية Lateran Councils: هي مؤتمرات كانت تعقدها الكنيسة الكاثوليكية بشكل غير دوري لمناقشة الأمور المهمة، وهي المجامع التي أرست قواعد العقيدة المسيحية الكاثوليكية كما حددت أطرها وحددت علاقة الكنيسة بالسلطة الدنيوية وباليهود.

الأخيرة من أسبوع الآلام، وفي يوم الجمعة الحزينة بنوع خاص. وأصبح من غير الجائز تعيين اليهود في المناصب العامة أو تفضيلهم على المسيحيين. وقرر أنه يتعين على اليهود ارتداء ملابس خاصة بهم وأن يضعوا شارة معينة تميزهم، وأصبحت هذه الشارة تسمى (شارة العار)، وكان الهدف من الزي المميز والشارة منع الاختلاط والحيلولة دون حدوث التزاوج (¬1). وفي هذه الفترة كذلك هوجم التلمود بشدة، وحيث كان العهد القديم مقدسًا لدى النصارى أيضًا، فكل غضبهم كان موجهًا إلى التلمود، باعتباره مصدر الشر الكامن في اليهود. وقد حمل الملوك والبابوات حملات شديدة ضد التلمود، وكانت تصدر مراسيم بتحريم حيازة أو قراءة التلمود، بل وصدرت أوامر بإتلاف نسخ التلمود وحرقها. وفي أواخر العصور الوسطى، اكتفت السلطات الحاكمة والكنسية بالرقابة على طبعه، فأجازت تداول نسخ محدودة بعد حذف فصول عديدة (¬2). وكثيرًا ما كان يتبادل اليهود فيما بينهم - دون علم السلطات - مخطوطات خاصة تضم المحذوفات التلمودية، أي تلك النصوص التي حذفتها الرقابة الحكومية (¬3). كذلك جرت عمليات الطرد للجماعات اليهودية من الدول الأوروپية، كما حدث في إنجلترا وفرنسا وإسپانيا والپرتغال، ولجأت أعداد كبيرة منهم إلى العالم الإسلامي في شمال إفريقيا والدولة العثمانية، وذهب بعض يهود إسپانيا إلى القارة الأمريكية، وذلك حين غزاها الصليبي كريستوفر كولمبس Christopher Columbus (1451 - 1506 م)، ليبدءوا مرحلة جديدة سنتعرض لها بعد قليل (¬4). ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ المجامع اللاترانية الكنسية) بتصرف. (¬2) انظر، ظفر الإسلام خان: التلمود، تاريخه وتعاليمه، ص (40 - 9). (¬3) ويعاد في إسرائيل طبع النسخة الأصلية من التلمود دون تعديل. ولما كانت عملية الطباعة مكلفة وتستغرق وقتًا طويلًا، فقد نشروا كتاب المحذوفات التلمودية في طبعة شرعية رخيصة بعنوان (حسرونوت شاس Hesronot Shas). [انظر، د. عبد الوهاب المسيري: اليد الخفية، ص (25 - 6)]. (¬4) لم تخلُ الكتابات الأندلسية القديمة من إشارات ودلالات على اكتشاف العرب للأمريكتين قبل كريستوفر كولمبس، فضلًا عن تأثير حضارة الإسلام في كولمبس نفسه. [انظر، لطف الله قاري: العرب قبل كولمبس].

الصدع اللوثري

«أما يهود ألمانيا، فكان من الصعب طردهم من بلادهم بصورة كاملة، لأن ألمانيا كانت مقسَّمة إلى عدة إمارات صغيرة ولم تكن بها دولة مركزية قوية. وقد ضمن هذا الوضع استمرارهم إذ كانوا حينما يُطرَدون من إمارة يلجأون إلى أخرى كما كان الحال في إيطاليا، وعلى عكس ما حدث في فرنسا وإنجلترا وإسپانيا حيث كانت توجد سلطة مركزية قوية نسبيًا. ومع ذلك، يمكننا أن نقول: إن معظم المدن الألمانية طردت اليهود في نهاية الأمر. ومع القرن السادس عشر الميلادي، لم تكن هناك جماعات يهودية إلا في فورمز وفرانكفورت، وكانت تُوجَد جيوب يهودية صغيرة متناثرة داخل الإمارات المختلفة. ونتيجة حروب الفرنجة (الصليبية)، ولأسباب أخرى أيضًا، بدأ التجار اليهود بدعوة من الملوك الپولنديين يستوطنون پولندا في القرن الثالث عشر الميلادي، وذلك لتشجيع التجارة» (¬1). ومن المفارقات أنه حين بدأت أوروپافي نبذ اليهود، اكتسب يهود أوروپامركزية بين يهود العالم بسبب ثقلهم السكاني، إذ كانوا يشكلون غالبية يهود العالم (¬2). وفي ظل هذه الأحداث والصراعات، ظهر على الساحة الألماني (المُعتَرِض)، مارتن لوثر .. ... الصَدْع اللوثري: قبل أن نكمل حديثنا نرجع بالأحداث إلى الوراء قليلًا لإلقاء الضوء على طبيعة الحياة الدينية النصرانية في المجتمعات الأوروپية وقتذاك .. فيعتبر تنصر الرومان في عهد الإمپراطور قسطنطين الأول Constantine I (272 - 337 م) تحولًا جذريًا في تاريخ النصرانية، ولقد أبلغ القاضي عبد الجبار المعتزلي (ت. 415هـ) حينما قال (¬3): «فإذا تبينت الأمر وجدت النصارى تروموا ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ العصور الوسطى في الغرب). (¬2) السابق (3/ عصر النهضة (القرنان السادس عشر والسابع عشر)). (¬3) عبد الجبار الهمذاني: تثبيت دلائل النبوة (1/ 158).

ورجعوا إلى ديانات الروم ولم تجد الروم تنصروا»! تقول هيلين إيليربي (¬1): «ولقد رأى هذا الرجل [قسطنطين] في المسيحية وسيلة نافعة في تقوية قدرته العسكرية، وفي توحيد الإمپراطورية الرومانية الواسعة والمضطربة. وأما القصة التي تحدثت عن منام قسطنطين الذي اقتاده إلى قبول المسيحية، حيث إنه رأى في منامه صليبًا في السماء مكتوبًا عليه الكلمات التالية: "في هذه العلامة أنت سوف تنتصر"، فهي مجرد حكاية لأن قسطنطين تحول شخصيًا إلى المسيحية فقط عندما كان على فراش موته (¬2)، فقد اعترف قسطنطين بالمسيحية كمجرد وسيلة للتغلب على التمزق داخل الإمپراطورية الرومانية، وكذلك عوضًا عن الديانة الرومانية الرسمية وبديلًا لها». ويقول أبو زهرة (¬3): «ويسوغ لنا أن نقول أنه كان له في هذا (¬4) أرب خاص، وهو تقريبها [أي المسيحية] من وثنيته، أو على الأقل عندما رجَّح رأي فريق كان يرجح ما هو أقرب إلى وثنيته، وأدنى إلى ما يعرفه من عقيدة، فلم تكن الحجة القوية في جانب ترجيحه على هذا الاعتبار، أو كان متهمًا في ترجيحه بناء على الاعتبار الأول، وسواء أكان هذا أم ذاك، فهو قد رجح ما هو أقرب إلى الوثنية لوثنيته». ويقول الندوي (¬5): «انتصر النصارى في ساحة القتال وانهزموا في معترك الأديان، ربحوا ملكًا عظيمًا، وخسروا دينًا جليلًا، لأن الوثنية الرومية مسخت دين المسيح (¬6)، ¬

(¬1) هيلين إيليربي: الجانب المظلم في التاريخ المسيحي، ص (34). (¬2) تذكر المصادر التاريخية المعتمدة أن القس يوسابيوس النيقوميدي، الآريوسي المتشدد، أسقف القسطنطينية (ت. 341م) قد أثَّر على قسطنطين وعمَّده على عقيدة التوحيد الآريوسية قبل وفاته بوقت قصير في 22 مايو 337م. [انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Eusebius of Nicomedia]. (¬3) محمد أبو زهرة: محاضرات في النصرانية، ص (121). (¬4) أي في اعتماده في مجمع نيقية عقيدة كنيسة الإسكندرية التثليثية الوثنية ونبذه لعقيدة التوحيد الآريوسية (والتي تعمَّد عليها قبيل وفاته كما ذكرنا)، والأمر بإحراق الكتب التي تخالف رأيه. (¬5) أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص (149 - 50) باختصار وتصرف يسير. (¬6) ولا يخفى دور شاءول/شاول Saul (ت. 64/ 65م) - الملقب بالقديس پولس الرسول - الرئيس في إفساد المسيحية الحقة التي أرسل الله تعالى بها عيسى - عليه السلام - ونقلها من عبادة الله وحده إلي تأليه المسيح وجعله ابنًا لله [انظر، أعمال الرسل 9: 20]؛ يقول مايكل هارت: «فالمسيحية لم (يؤسسها) شخص واحد، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= وإنما أقامها اثنان: المسيح - عليه السلام - والقديس پولس، ولذلك يجب أن يتقاسم شرف إنشائها هذان الرجلان. فالمسيح - عليه السلام - قد أرسى المبادئ الأخلاقية للمسيحية، وكذلك نظرتها الروحية وكل ما يتعلق بالسلوك الإنساني، أما مبادئ اللاهوت فهي من صنع القديس پولس، فالمسيح هو صاحب الرسالة الروحية، ولكن القديس پولس أضاف إليها عبادة المسيح. كما أن القديس پولس ألَّف جانبًا كبيرًا من (العهد الجديد) وكان المبشِّر الأول للمسيحية في القرن الأول» اهـ[مايكل هارت: الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ص (23 - 4). Michael H. Hart: The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History]. وشاول هو يهودي من فرقة الفريسيين ألد أعداء المسيح - عليه السلام -[انظر، أعمال 26: 5]، ولد في طرسوس، وكان ممن يضطهدون النصارى ويعذبونهم عذابًا شديدًا، وكان يروي ذلك عن نفسه فيقول: «واضطهدت مذهب يسوع حتى الموت، فاعتقلت الرجال والنساء فألقيتهم في السجون» [أعمال 22: 4] .. ثم يذكر أنه حينما كان يسير في طريقه متوجهًا إلى دمشق مطاردًا أتباع المسيح إذ سطع حوله فجأة نور باهر من السماء، فوقع على الأرض، وسمع صوتًا يقول: «يا شاول، يا شاول، لماذا تضطهدني؟ فقال: من أنت يا سيد؟ فقال: أنا يسوع الذي أنت تضطهده، فقال له وهو مرتعب خائف: يا رب، ماذا تريد أن أعمل؟ ...» فأمره بأن يذهب ليكرِّز بالمسيحية (أي يبشِّر بها). [انظر، أعمال 9: 3 - 6، فصل بعنوان: (اهتداء شاول)!]. ولقد تنازع الناس بين كون پولس يهوديًا حاقدًا تظاهر بالنصرانية ليفسدها، وكونه متنصرًا متحمسًا ذا مواهب شخصية فذة لم يستطع أن يتخلص من آثار سابقة ولم يفقه دعوة المسيح وغاياتها؛ فيقول رحمة الله الهندي (1233 - 1308هـ): «پولس وإن كان عند أهل التثليث في رتبة الحواريين، لكنه غير مقبول عندنا ولا نعده من المؤمنين الصادقين، بل من المنافقين الكذابين ومعلمي الزور والرسل الخداعين، الذين ظهروا بالكثرة بعد عروج المسيح، وهو خرب الدين المسيحي، وأباح كل محرم لمعتقديه، وكان في ابتداء الأمر مؤذيًا للطبقة الأولى من المسيحيين جهرًا. لكنه لما رأى أن هذا الإيذاء الجهري لا ينفع نفعًا معتدًا به، دخل على سبيل النفاق في هذه الملة وادعى رسالة المسيح، وأظهر الزهد الظاهري. ففعل في هذا الحجاب ما فعل، وقبله أهل التثليث لأجل زهده الظاهري، ولأجل فراغ ذمتهم عن جميع التكاليف الشرعية» [رحمة الله الهندي: إظهار الحق (2/ 195)]، كذا يقول الإمام علي بن حزم رحمه الله (384 - 456هـ/994 - 1064م): «وفيما سمعنا علماءهم يذكرونه ولا يتناكرونه معنى أن أحبارهم الذين أخذوا عنهم دينهم والتوراة وكتب الأنبياء عليهم السلام اتفقوا على أن رشوا پولس البنياميني - لعنه الله - وأمروه بإظهار دين عيسى - عليه السلام - وأن يضل أتباعهم ويدخلهم إلى القول بإلاهيته وقالوا له: نحن [نتحمل] إثمك في هذا! ففعل وبلغ من ذلك حيث قد ظهر» [ابن حزم: الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِحَل (1/ 164)]، بل ويقول المؤرخ الأمريكي وِلّ ديورانت (1885 - 1981م): «وقد بقي پولس إلى آخر أيامه يهوديًا في عقله وخلقه» [ول ديورانت: قصة الحضارة (11/ 250). Will Durant: The Story of Civilization]، ويطرح الشيخ محمد أبو زهرة سؤالًا فيقول: «ولقد يعجب الذين درسوا الديانات وعرفوا أحوال رجالها، وأدوارهم، فيقولون: كيف ينتقل رجل من كفر بديانة إلى =

ولم تستطع هذه النصرانية الملقحة بالوثنية المشوهة أن تغير من سيرة الروم المنحطة وأن تبعث فيهم حياة جديدة، حياة دينية نقية طاهرة، بل إنها ابتدعت رهبانية (¬1) [كرد فعل معاكس] لعلها كانت شرًا على الإنسانية والمدنية من بهيمية رومة الوثنية» (¬2). ¬

= اعتقاد شديد بها طفرة، من غير سابق تمهيد، ولكن العجب يزول إذا كان الانتقال مقصورًا على مجرد الانتقال من الكفر إلى الإيمان، فإن لذلك نظائر وأشباهًا، بل العجب كل العجب أن ينتقل شخص من الكفر المطلق بدين إلى الرسالة في الدين الذي كفر به، وناوأه وعاداه، فإن ذلك ليس له نظير وليس له مشابه، ولم يعهد ذلك في أنبياء ورسل قط، وهذه توراة اليهود وأسفار العهد القديم التي يؤمن بها المسيحيون كما رووها، وكما قالوها، ليذكروا لنا رسولًا بعث من غير أن يكون في حياته الأولى استعداد لتلقي الوحي، وصفاء نفس يجعله أهلًا للإلهام؟ ولا يجعل الاتهام والتكذيب يغلبان على رسالته، وأنه إذا لم يكن للرسالة إرهاصات قبل تلقيها، لا يكون على الأقل قبلها ما ينافيها ويناقضها، ولكن پولس أبو العجب استطاع أن يتغلب على ذلك العجب في عصره، وأن يفرض نفسه على المسيحيين من بعده، وأن يحملهم على نسيان العقل عندما يدرسون أقواله وآراءه وتعاليمه» اهـ[أبو زهرة: محاضرات في النصرانية، ص (73)] .. وعلى النقيض، فتذكر الأناجيل أن پولس قد أخلص لدعوته حتى ثار عليه يهود أورشليم وتآمروا على قتله [انظر، أعمال الرسل، الإصحاح 21 وما بعده]، أو كما يُنسب إلى بطرس قوله في حق پولس: «كما هي الحال في جميع رسائله التي تكلم فيها على هذه المسائل فوردت فيها أمور غامضة يحرِّفها الجهال وضعفاء النفوس، كما يفعلون في سائر الكتب المقدسة لهلاك نفوسهم» [رسالة بطرس الثانية 3: 16]. وخلاصة القول، فنقول كما قال الدكتور أحمد القاضي: «أيًا كان الأمر، فقد أحدث [پولس] شرخًا عظيمًا في مسيرة النصرانية، ونقلها نقلة واسعة من ديانة توحيدية إصلاحية موجهة إلى بني إسرائيل خاصة، إلى ديانة أمشاج صبت فيها ثقافات شتى، في محاولته الرامية لاستيعاب الأمم الأخرى، عبر صياغات عقدية دخيلة، بلغة تفهمها الأمم الوثنية» اهـ[د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان (1/ 94)]. (¬1) قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]. يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره: «وقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أي ابتدعتها أمة النصارى، {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم. وقوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ} فيه قولان، أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله. وقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين، أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله، والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله - عز وجل -» اهـ[ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (8/ 29)]. (¬2) وليس أدل على ذلك في عصرنا الحالي من الفضيحة التي فجرتها صحيفة الجارديان الإنجليزية في يوم =

ورهبانية ابتدعوها

ورهبانية ابتدعوها: ولقد جن جنون هذه الرهبانية في العالم النصراني وتخطى حدود القياس، ولقد نقل المؤرخ الأيرلندي وليام هارتپول ليكي (1838 - 1903م) من هذه المضحكات المبكيات شيئًا كثيرًا، وإنا نلتقط هنا بعض الأمثلة وهي قليل من كثير جدًا .. يقول (¬1): «يروي المؤرخون عن الراهب ماكاريوس Macarius of Alexandria [ت. 395م] أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرص جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائمًا نحو ثمانين رطلًا من حديد، وكان صاحبه الراهب يوسيبيوس Eusebius of Vercelli [283 - 371 م] يحمل نحو مائة وخمسين رطلًا من حديد، وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح، وكان الراهب صابينوس Sabinus [ت. 304م] لا يأكل إلا الذرة المتعفنة بمكثها شهورًا في الماء، وقد عبد الراهب يوحنا John of Egypt [ت. 394م] ثلاث سنين قائمًا على رجل واحدة ولم ينم ولم يقعد طول هذه المدة، فإذا تعب جدًا أسند ظهره إلى صخرة (¬2)، وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائمًا، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام. وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر، ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش، وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح ويتأثمون عن غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأتقاهم ¬

= الخميس 4 مارس 2010م في مقالة بعنوان (صدام الفاتيكان بفضيحة شذوذ جنسي Vatican hit by gay sex scandal)، إذ كشف الخبر عن تورط أنچيلو بالدوتشي Angelo Balducci، أحد خواص رجال بنديكت السادس عشر بابا الفاتيكان، في شبكة دعارة للشواذ جنسيًا؛ حيث سجلت الشرطة مكالمات هاتفية له مع توماس شاينيدو إيهيام Thomas Chinedu Ehiem، المرتل في جوقة كاتدرائية القديس بطرس، يتفاوضان فيها على تفاصيل محددة في الرجال الذين سيحضرهم إيهيام له!! (¬1) William E. H. Lecky: History of European Morals, vol. 2 ch. 4 (from Constantine to Charlemagne), p(108 - 112)، وانظر كذلك، أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص (151). (¬2) ينقل ليكي عن الراهب چيروم قوله: «إن عدم تصديق البعض بمثل هذه الأشياء إنما يرجع إلى ضعف إيمانهم، في حين أنها أمور عادية لمن آمن حقًا!» اهـ. [Lecky, p(108), footnote].

الكنيسة تجني أرباحا كبيرة

أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس؛ يقول الراهب أثاناسيوس Athanasius of Alexandria [293 - 373 م]: إن الراهب أنتوني Anthony of Egypt [251 - 356 م] لم يقترف إثم (!) غسل الرجلين طول عمره، وكان الراهب إبراهام Abraham the Poor [ت. 372م] لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين سنة. وكانت بعض الراهبات ترتجفن عند ذكر الاغتسال، وقال الراهب الاكسندر Alexander بعد زمن متلهفًا: "وا أسفاه! لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حرامًا فإذا بنا الآن ندخل الحمامات"، ولقد ظل الراهب سيمون Simon طيلة عام كامل واقفًا على ساق واحدة وقد ملئت الساق الأخرى بتقرحات بشعة المنظر، وكان يقف صاحبه بجانبه يلتقط الديدان التي كانت تسقط من جسده ويضعها في تلك القرح، وكان سيمون يخاطب الديدان قائلًا لها: "كلي ما قد أعطاك الله" ...». ومن يطالع تراجم هؤلاء وأمثالهم في المراجع المختصة، يتعجب من وصفها لهؤلاء (الأقذار) بالقديسين Saints!! {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (¬1). الكنيسة تجني أرباحًا كبيرة: أما عن الكنيسة، فلقد جَنَت أرباحًا كبيرة جدًا بوساطة تكييف عقيدتها وبتبني عقائد رائجة؛ ففي عام 319م أصدر قسطنطين قانونًا أعفى فيه رجال اللاهوت من دفع الضرائب أو من الخدمة في الجيش، وفي عام 355م أعفى الأساقفة من المحاكمة مطلقًا في محاكم مدنية، وفي عام 380م أصدر الإمپراطور ثيودوسيوس Theodosius I (347 - 395 م) مرسومًا جاء فيه: «نحن سوف نؤمن بإله واحد؛ هو الآب والابن والروح القدس، تحت فكرة جلالة متساوية وبثالوث مقدس، نحن نأمر الأشخاص الذين سوف يتبعون هذا القانون، سوف ينالون اسم مسيحيين كاثوليك، أما البقية فهم - على كل حال - الذين حكمنا بأنهم بلا عقل وحمقى، سوف يكابدون من وصمة العقائد الهرطقية، ولن تتسلم أماكن اجتماعهم اسم كنائس، ولسوف يُضرَبون أولًا بالانتقام الرباني، وثانيًا بعقوبتنا الأولية التي سوف نمارسها وفقًا للأحكام الربانية». ¬

(¬1) البقرة: 222

وكان من خلال المناورة السياسية أن ربحت الكنيسة مكانتها بمثابة ديانة رسمية للإمپراطورية الرومانية، وما رافق ذلك من سلطة مدنية وامتيازات (¬1). وطالما حاولت الكنيسة أن تسند وجودها وسلطانها إلى المسيح - عليه السلام -، إما بتأويل كلمات قالها بالفعل تأويلًا يناسب أهدافها، وإما باختراع كلمات لم يقلها وإلصاقها به، كما فعلت في قضية البنوة والتأليه، وإعطاء قانون قيصر شرعية كشريعة الله. فزعمت الكنيسة أن المسيح قال لبطرس كبير الحواريين: «أنت بطرس (¬2)، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولًا في السماوات» (¬3). يقول الدكتور سفر الحوالي (¬4): «والمسيح - عليه السلام - بشر رسول لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، فكيف يجوز أن ينسب إليه أنه يمتلك مفاتيح الملكوت التي لا يملكها إلا الله وحده؟ وإذا كنا ننكر جازمين أن يملكها المسيح فلا معنى للجدال في كونه وهبها لبطرس أو لم يهبها، وكون الكنيسة ورثتها من بطرس أو لم ترثها، فالخطأ هنا أساسي لا يمكن إقراره، كما لا يمكننا أن نقر بأن المسيح إله» اهـ. ولقد رتبت الكنيسة على هذا الزعم أن المكان الذى مات فيه بطرس - وهو روما - لا بد أن يكون مقرًا للنفوذ الديني الذي يبسط ذراعيه على الأرض كلها ممثلًا في ¬

(¬1) هيلين إيليربي: الجانب المظلم في التاريخ المسيحي، ص (42 - 3) باختصار. (¬2) يقول يواكيم پرنز: «وكان بطرس يدعى شمعون، وهو اسم يهودي قديم، لكن تحوله ومنصبه الجديد استدعى تسميته باسم جديد، وقد رأينا من قبل أن الطفل عندما يعمد يعطى له اسم جديد، حتى في التقاليد اليهودية يعد الاسم مقدسًا؛ فهو يشكل ويوضح مصير الشخص واتجاهه ... وهكذا أصبح شمعون يدعى سيفاس، وهي عبارة آرامية تعني الصخرة، وعليه ترجم اسمه إلى اللاتينية والإغريقية باسم پيترا، أي الصخرة، وطبقًا لإنجيل مرقس نرى أنه عندما اعترف شمعون بن يوحنا بيسوع الناصري وآمن به بأنه المسيح الرب الحي، التفت إليه يسوع وقال: "إنك أنت بطرس [الصخرة]، على هذه الصخرة أبني كنيستي" ...». [يواكيم پرنز: بابوات يهود من جيتو روما، ص (63)]. (¬3) متى 16: 18 - 19 (¬4) د. سفر الحوالي: العلمانية، نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، ص (83).

صراع الأباطرة والبابوات

الكنيسة، وإن ما تقوله الكنيسة - وعلى رأسها البابا - واجب الطاعة لأنه من أمر الله (¬1). وأصدر البابا نيكولا الأول Pope Nicholas I (820 - 867 م) بيانًا قال فيه: «إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها. وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكامًا كانوا أو محكومين» (¬2). صراع الأباطرة والبابوات: تقول إيليربي (¬3): «وازدادت الرغبة البابوية للسلطة بشكل مضطرد، وقد اعتقد البابوات في أنفسهم أنهم متفوقون على جميع المخلوقات الآخرين، ولم يدّع البابوات فقط بأن كل شخص هو خاضع للسلطة البابوية، بل إن البابا نفسه لا يحاسب من قبل أحد إلا الرب وحده. وفي عام 1302م [18 نوفمبر] أصدر البابا بونيفاس [الثامن] Pope Boniface VIII [1235 - 1303 م] مرسوم [الواحدة المقدسة/الكنيسة] Unam Sanctam الذي جاء فيه: "وبناء عليه إذا ما أذنبت سلطة أرضية، إنها سوف تحاكم من قبل القوة الروحية .. ولكن إذا ما أذنبت السلطة الروحية العليا، فإنها سوف تحاسب من ¬

(¬1) محمد قطب: مذاهب فكرية معاصرة، ص (27 - 8). يقول الدكتور موريس بوكاي رحمه الله (1920 - 1998م): «أما فيما يتعلق بعشرات السنوات التي تلت رسالة المسيح، فيجب على القارئ معرفة أن الأحداث لم تقع مطلقًا كما قيلت، وأن وصول بطرس إلى روما لم يؤسس مطلقًا الكنيسة، بل على العكس، فبين اللحظة التي غادر فيها المسيح هذه الأرض، وحتى منتصف القرن الثاني - أي طيلة أكثر من قرن كانت هناك معركة بين اتجاهين: أي بين ما يمكن تسميته بـ (المسيحية الپولسية - نسبة إلى پولس)، وبين (اليهودية المسيحية)، ولم يحل الاتجاه الأول محل الثاني، ولم تنتصر الپولسية على اليهودية المسيحية إلا بشكل شديد التدرج» اهـ[موريس بوكاي: القرآن والتوراة والإنجيل والعلم: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، ص (58) بتصرف يسير. Maurice Bucaille: La Bible, le Coran el la science: Les Ecritures saintes examinées à la lumière des connaissances modernes]. (¬2) انظر، ول ديورانت: قصة الحضارة (14/ 355). (¬3) هيلين إيليربي: الجانب المظلم في التاريخ المسيحي، ص (78 - 9).

قِبَل الرب، وليس من قبل أي إنسان .. ولذلك إننا نعلن ونصرح ونحدد ونتفوه: إنه بالإجمال من الضروري لخلاص كل مخلوق بشري أن يكون خاضعًا للحبر الروماني"» اهـ. وكما كانت هيئة الدولة تمثل هرمًا قمته الإمپراطور وقاعدته الجنود، كانت الهيئة الكنسية تمثل هرمًا مقابلًا قمته البابا وقاعدته الرهبان. ونتيجة لمبدأ فصل الدين عن الدولة رعت الإمپراطورية الهرم الكنسي ولم تر فيه ما يعارض وجودها، فرَسَخ واستقر (¬1). وفي القرون الوسطى كانت هناك فترات من الصراع المتبادل بين السلطة الدينية والدنيوية، حيث يتمرد بعض الملوك والأمراء على سلطة البابا، ويشتد آخرون في حربهم للبابوات حتى إنهم ليعزلون البابا أو ينفونه أو يسجنونه! ولكن السلطة الغالبة كانت للكنيسة، تستمدها من سلطانها الروحي الطاغي على قلوب الناس، ومن جيوشها الكثيفة ومن أموالها التي تضارع ما يملكه الملوك وأمراء الإقطاع (¬2)، حتى يقول وِلّ ديورانت (¬3): «وبلغت هذه السياسة البابوية ذروتها حين وضع ليو الثالث Pope Leo III [ت. 816م] التاج على رأس شارلمان Charlemagne [742 - 814 م]، ولم يعد يعترف لشخص ما أنه إمپراطور على الغرب إلا إذا مسحه أحد البابوات» اهـ. ولذلك نلاحظ أن كثيرًا من الأباطرة المتمردين على الكنيسة يفشلون دائمًا في مواجهتها ويرتدون صاغرين إلى الانضواء تحت ظلها، كما أن العالم الغربي المسيحي لم يستطع التخلص من قبضة الكنيسة إلا بعد الثورة الداخلية التي قادها المصلحون الكنسيون، والتي أدت إلى إضعاف الهيكل التنظيمي والسلطة المركزية وتشتيت ولاء الأفراد (¬4). يروي التاريخ الكثير عن قصة النزاع بين الكنيسة وبين الأباطرة والملوك، ومن أشهر ¬

(¬1) د. سفر الحوالي: العلمانية، ص (79). (¬2) محمد قطب: مذاهب فكرية معاصرة، ص (46). (¬3) ول ديورانت: قصة الحضارة (14/ 353). (¬4) د. سفر الحوالي: العلمانية، ص (124).

تسرب مظاهر الضعف والانحراف إلى المراكز الدينية

ما يُروى ذلك الخلاف الذي نشب بين البابا هلدبراند (جريجوري السابع) Ildebrando/Pope Gregory VII (1029 - 1085 م) وهنري الرابع Henry IV (1050 - 1106 م) إمپراطور ألمانيا حول مسألة (التعيينات) أو ما يسمى (التقليد العَلْماني)، فحاول الإمپراطور أن يخلع البابا، وردّ البابا بخلع الإمپراطور وحرمه وأحل أتباعه والأمراء من ولائهم له وألَّبهم عليه، فعقد الأمراء مجمعًا قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمپراطور على المغفرة لدى وصول البابا إلى ألمانيا فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فوجد الإمپراطور نفسه كالأجرب بين رعيته، ولم يكن في وسعه أن ينتظر وصول البابا، فضرب بكبريائه عُرض الحائط واستجمع شجاعته وسافر مجتازًا جبال الألپ والشتاء على أشده، يبتغي المثول بين يدي البابا بمرتفعات كانوسا Canossa في تسكانيا Toscana، وظل واقفًا في الثلج في فِناء القلعة ثلاثة أيام وهو في لباس الرهبان متدثرًا بالخيش حافي القدمين عاري الرأس يحمل عكازه مُظهرًا كل علامات الندم وأمارات التوبة حتى تمكن من الظفر بالمغفرة والحصول على رضا البابا العظيم (¬1). يقول هنري موس (¬2): «ولا شك أن تلك الساعة [أي التي توَّج فيها ليو الثالث شارلمان] كانت من أروع اللحظات في تاريخ البابوية، لا يضارعها من حيث تأثيرها الدرامي سوى ذاك المنظر الآخر الذي حدث ذات شتاء في يوم عاصف تساقط فيه الجليد بفناء قصر كانوسا حيث وقف إمپراطور ذليل ينتظر ثلاثة أيام ليحصل على غفران البابا» اهـ. تسرب مظاهر الضعف والانحراف إلى المراكز الدينية: ولقد تسرب الضعف والانحراف إلى المراكز الدينية حتى صارت تزاحم المراكز الدنيوية وربما تسبقها في فساد الأخلاق والفجور، تقول هيلين إيليربي (¬3): «وقد شغل ¬

(¬1) محمد قطب: مذاهب فكرية معاصرة، ص (46)، نقلاً عن: تاريخ أوروبا، لهربرت فيشر (1865 - 1940م)، الجزء الأول (العصور الوسطى)، ص (260) بتصرف. Herbert Fisher: A History of Europe (¬2) هـ. موس: ميلاد العصور الوسطى، ص (346 - 7). Henry St. Lawrence Beaufort Moss (H. St. L. B. Moss): The Birth of the Middle Ages 395 - 814 (¬3) هيلين إيليربي: الجانب المظلم في التاريخ المسيحي، ص (64).

مهزلة صكوك الغفران

المال مع السلطة دورًا حاسمًا في ارتقاء الناس خلال المراتب اللاهوتية للكنيسة، وأسهم في طبيعة السمعة السيئة لكنيسة العصور الوسطى، وهناك على الأقل أربعون بابا معروفون أنهم شروا طريقهم إلى البابوية، وكانت الاتهامات بالقتل والجرائم داخل الكنيسة تتكدس وتصبح كثيرة جدًا ومتكررة بكثافة كلما حدث تغيير بالبابوية». وينقل الندوي عن الراهب چيروم قوله (¬1): «إن عيش القسوس ونعيمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين، وقد انحطت أخلاق البابوات انحطاطًا عظيمًا، واستحوذ عليهم الجشع وحب المال، حتى كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع، وقد تباع بالمزاد العلني، ويأذنون بنقض القانون، ويمنحون شهادات النجاة وإجازات حِلّ المحرمات والمحظورات كأوراق النقد وطوابع البريد، ويرتشون ويرابون، وقد بذروا المال تبذيرًا حتى اضطر البابا إنوسنت الثامن Pope Innocent VIII [1432 - 1492 م] أن يرهن تاج البابوية! ويُذكَر عن البابا ليو العاشر Pope Leo X [1475 - 1521 م] أنه أنفق ما ترك البابا السابق من ثروة وأموال، وأنفق نصيبه ودخله، وأخذ إيراد خليفته المترقب سلفًا وأنفقه، ويُروى أن مجموع دخل مملكة فرنسا لم يكن يكفي البابوات لنفقاتهم وإرضاء شهواتهم» اهـ. مهزلة صكوك الغفران: ولم يكف الكنيسة ورجالها هذا الفساد كله، فأضافوا إليه مهزلة من أكبر مهازل التاريخ، تلك هى مهزلة صكوك الغفران Indulgences؛ فقد أصدر مجمع لاتيران سنة ¬

(¬1) أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص (155). نشرت جريدة الأهرام في عدد الجمعة 29/ 9/2006م، ص (1)، خبر تحت عنوان: (راعي الكنيسة سارقها .. في أمريكا)، جاء فيه: «أعلن المحققون الأمريكيون أمس أن اثنين من قساوسة الكنيسة الرومانية في ولاية فلوريدا الأمريكية سرقا أكثر من 8.6 مليون دولار من أموال الزكاة والعطايا التي توزع على الفقراء، وقال أحد المحققين: إنه تم اعتقال قسيس عمل راعيًا للكنيسة مدة 4 عقود، في مطار (پالم بيتش Palm Beach) الدولي لدى عودته من أيرلندا، وذلك بتهمة سرقة 8.6 مليون دولار من أموال الكنيسة، وقد عثر على 314 ألف دولار في حوزته، وذكرت الشرطة الأمريكية أن القسيس الآخر هارب ولم يتم العثور عليه، وهو متهم بسرقة مبلغ غير معروف لتمويل مغامرات القمار التي يدمنها في لاس فيجاس وجزر البهاما» اهـ.

1215م القرار التالي لتقرير أن الكنيسة تملك حق الغفران للمذنبين: «إن يسوع المسيح لما كان قد قلد الكنيسة سلطان منح الغفران، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلا منذ الأيام الأولى، فقد أعلم المجمع المقدس وأمر بأن تحفظ للكنيسة هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي والمثبتة بسلطان المجامع، ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون أن الغفران غير مفيد أو ينكرون على الكنيسة سلطان منحه. غير أنه قد رغب في أن يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراز حسب العادة المحفوظة قديمًا والمثبتة في الكنيسة لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل». ولكن الكنيسة لم ترع ذلك التحفظ الوارد في القرار - وهو استخدام هذا السلطان باعتدال واحتراز -، فقد كانت راغبة في زيادة سلطانها - وزيادة أموالها كذلك! - فعمدت إلى منح المغفرة بصكوك تباع بالمال في الأسواق! (¬1). يقول الصك: «ربنا يسوع يرحمك يا ... (¬2) ويشملك باستحقاقات آلامه الكلية القدسية، وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحلك من جميع القصاصات والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها، وأيضًا من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة، ومن كل علة وإن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا والكرسي الرسولي، وأمحو جميع أقذار الذنب وكل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر، وأردك حديثًا إلى الشركة في أسرار الكنيسة، وأقرنك في شركة القديسين، أردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك، حتى إنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح. وإن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة حتى تأتي ساعتك الأخيرة باسم الآب والابن والروح القدس» اهـ (¬3). {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا ¬

(¬1) محمد قطب: مذاهب فكرية معاصرة، ص (63 - 4) بتصرف يسير. (¬2) يترك فراغ يكتب فيه اسم - المغفور له - كما تملأ الاستمارات في المصالح والدواوين! (¬3) انظر، د. أحمد شلبي: مقارنة الأديان/المسيحية، ص (269).

عصر الإصلاح الكنسي: جيرولامو سافونارولا

إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1) وخلاصة القول: أنه «كان للكنيسة أثرها المدمر على المجتمع؛ فبعد ما تسلمت الكنيسة القيادة تهاوت الأعمال والنشاطات في ميادين الطب، والتقنيات، والعلوم، والتعليم، والتاريخ، والفن، والتجارة ... وسقطت، ودخلت أوروپاعصور الظلام. ومع أن الكنيسة جمعت ثروة كبيرة جدًا خلال هذه القرون، لكن كل ما يتعلق بالحضارة قد اختفى» (¬2). عصر الإصلاح الكنسي: جيرولامو سافونارولا: يقول أبو زهرة (¬3): «ولقد بلغ السيل الزُبَى في العصر المشهور في التاريخ الأوروپي بعصر النهضة، وفيه نهضت الإرادة الإنسانية والعقل الإنساني يفرضون وجودهما، وفيه استطاع الأوروپيون أن يروا الله في الإسلام، والتدين الحقيقي فيما يدعو إليه هذا الدين، إذ اتصل الشرق بالغرب. فيما قبس الغرب من دراسات يلقاها على أساتذة من المسلمين بشكل خاص، ومن الشرقيين بشكل عام، وفيه علم أن لا سلطان لأحد من رجال الدين على القلب، وأن لا وساطة بين الله والعبد، وأن الله قريب ممن يدعوه، ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه. حينئذ أخذت الأنظار المتربصة تحصي على رجال الدين ما يفعلون، ووجد من بينهم من استنكروا حالهم، وأخذوا يدعون زملاءهم إلى إصلاح حالهم، ليردوهم إلى حكم دينهم قبل أن يفوت الوقت، ومن قبل أن ينفض الناس، وقبل أن يحملهم العامة على الإصلاح» اهـ. ولقد كان من أبرز هذه الأصوات المنادية بالإصلاح صوت الإيطالي چيرولامو سافونارولا Girolamo Savonarola (1452 - 1498 م)؛ ذلك الراهب الدومينيكاني الذي لمح إليه مكيافيللي الخبيث في مقارنته لموسى - عليه السلام - بـ «الأنبياء غير المسلحين»، ¬

(¬1) التوبة: 31 (¬2) هيلين إيليربي: الجانب المظلم في التاريخ المسيحي، ص (55). (¬3) محمد أبو زهرة: محاضرات في النصرانية، ص (161 - 2).

الذين (فشلوا) في الانتصار لدعوتهم لافتقادهم عنصر القوة! (¬1). فلقد «كتب [سافونارولا] إلى ملوك فرنسا وإسپانيا وألمانيا وبلاد المجر، يرجوهم أن يدعوا إلى عقد مؤتمر عام لإصلاح الكنيسة، وجاء في رسالته: "لقد حان وقت الانتقام؛ وقد أمرني الله أن أكشف عن أسرار جديدة، وأن أظهر للعالم الأخطار التي تهدد سفينة القديس بطرس نتيجة لطول إهمالكم. إن الكنيسة غاصة بكل ما هو ممقوت ومرذول من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، ومع ذلك فإنكم لا تكتفون بالسكوت عن علاج مساوئها بل إنكم تقدمون الولاء والخشوع للمتسببين في هذه الرذائل التي تدنسها"» (¬2). وكان المتسبب الرئيس في هذه الرذائل من وجهة نظره هو البابا إسكندر السادس Alexander VI (1431 - 1503 م)؛ فلقد خاصمه سافونارولا خصومة شديدة، حتى إنه قال في حقه (¬3): «الإسكندر هذا ليس بابا، ولا يمكن أن يكون بابا؛ لأنه يغض الطرف عن الخطيئة المهلكة، خطئية الاتجار بالمقدسات والمناصب الكهنوتية التي ابتاع بها كرسي البابوية، وهو في كل يوم يبيع المناصب الكنسية لصاحب أكبر عطاء؛ وإذا غضضنا النظر عن آثامه الأخرى البادية للعيان، فإني أعلن على رءوس الأشهاد أنه ليس مسيحيًا ولا يؤمن بالله» اهـ. وظل سافونارولا يبارز إسكندر العداء حتى أودت هذه العداوة بحياته؛ حيث حكم عليه البابا بالحرمان والإعدام، ثم أحرق بالنار وألقي برماده في نهر أرنو Arno بجوار الجسر العتيق Ponte Vecchio، عقابًا له على هرطقته وافترائه النبوءات وغيرها من التهم (¬4). وتوالت مساعي الإصلاح والدعوة للجمع بين الدين والدنيا، ويعلق الدكتور مصطفى حلمي على ذلك بقوله (¬5): «لا ندري سبب الوهم القائل بعداء أوروپاللدين أو نبذه، فقد ¬

(¬1) انظر، نيكولو مكيافيللي: الأمير، ص (89). (¬2) انظر، ول ديورانت: قصة الحضارة (18/ 284 - 5). (¬3) انظر السابق (18/ 285). (¬4) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Girolamo Savonarola. (¬5) د. مصطفى حلمي: هكذا علمتني الحياة (1/ 49 - 50).

تبين للدارس أن الغيرة على الدين هي التي دفعت بالمصلحين إلى اتخاذ مواقف المطالبة بإصلاح الكنيسة أو تطبيق الدين في الحياة السياسية كما ورد في دفاع الراهب سافونارولا، لا استبعاده وإهماله والتخلي عنه برمته». ولكن مساعي الإصلاح تلك لم تتوجه إلى المسار السليم، فكما يقول الندوي رحمه الله (¬1): «ولكن حمية الجاهلية والسدود التي أقامتها الحروب الصليبية بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي ودعاية الكهنة ورجال الكنيسة ضد الإسلام وصاحب رسالته - صلى الله عليه وسلم -، وعدم تجشم التعب والمطالعة، وقلة الحرص على النجاة الأخروية والاهتمام بما بعد الموت، زد إلى ذلك تفريط المسلمين في الدعوة إلى الله، ونشر الإسلام في أوروپا ... كل ذلك منعهم من الرجوع إلى الدين الإسلامي والأخذ به في ساعة كانوا يحتاجون إليه حاجة السليم إلى راق والمسموم إلى ترياق» اهـ. ولقد ترجمنا لهذا الراهب الفلورنسي على وجه الخصوص لأنه يُنظر إليه أحيانًا باعتباره بشيرًا لظهور مارتن لوثر Martin Luther (1483 - 1546 م) والإصلاح الپروتستانتي، رغم أنه بقي كاثوليكيًا طيلة حياته؛ فيقول ديورانت (¬2): «كان عنيفًا في اتهاماته عنيدًا في سياسته، لقد كان پروتستانتيًا قبل أن يجيء لوثر، ولكن پروتستانتيته لم يكن لها معنى إلا أنها الدعوة لآراء الكنيسة القائمة، ولكن ذكراه أصبحت قوة تملأ عقول الپروتستانت؛ ولذلك لقبه لوثر بالقديس» اهـ. ولقد علت مع لوثر أصوات أخرى تدعو إلى إصلاح الكنيسة، كان من أشهرها صوت السويسري هولدريش زوينجلي Huldrych Zwingli (1484 - 1531 م)، والفرنسي چون كالفن Jean Calvin (1509 - 1564 م)، ولكن الذي يعنينا هنا، كي لا نحيد عن مسار البحث، هو الحديث بشيء من التفصيل عن مارتن لوثر ودعوته (¬3) .. ¬

(¬1) أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص (158 - 9). (¬2) ول ديورانت: قصة الحضارة (18/ 290). (¬3) التالي مستفاد من: الموسوعة الكاثوليكية، مادة: Martin Luther، ومادة: Protestantism، وموسوعة ويكيپيديا، مادة: Martin Luther، ومادة: Albert of Mainz، ومادة: Exsurge Domine، ومادة: Diet of Speyer، ومحاضرات في النصرانية ص (165) وما بعدها، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والفرق المعاصرة (2/ 615 - 6)، والمسيحية ص (275 - 6) بتصرف.

مارتن لوثر: ترجمة

مارتن لوثر: ترجمة: ولد مارتن لوثر في العاشر من نوفمبر عام 1483م في إيسليبن Eisleben بألمانيا، ونشأ في بيئة كاثوليكية تعج بالخرافات والاعتقادات الزائفة. درس القانون في جامعة إرفورت Erfurt، ولكنه لم يتم دراسته التي رغب فيها والده واتجه إلى الدراسات اللاهوتية، والتحق بدير الرهبان الأوغسطينيين في إرفورت عام 1505م حتى عيِّن قسيسًا بعدها بعامين. وفي عام 1508م بدأ في تدريس اللاهوت في جامعة فتنبرج Wittenberg، والتي أنشأها فريديريك الثالث أمير ساكسونيا Frederick III (1463 - 1525 م) وصارت فيما بعد المهد الأساسي للتعاليم اللوثرية. وفي عام 1510/ 1511م دفعته نزعته الدينية وإخلاصه للكنيسة ورجالها إلى أن يحج إلى روما ليتبرك بالمقر الرسولي بها، إذ منَّى نفسه برؤية القديسين والزهاد من الرهبان والكرادلة. ولكن ما إن حل في روما حتى هاله ما رأى من دعاوى غفران الذنوب، وامتلاك سر التوبة، وحق منح صكوك الغفران، وتفشي مظاهر الفساد والانحلال الخلقي في الطبقات العليا من الكنيسة بوجه أخص. ومن ثم عاد إلى ألمانيا خائبًا رجاؤه، ومستنكرًا ما رأى، وصار منشغلًا بإصلاح هذا الوضع المتردي. ولقد بلغ الأمر مداه حينما أراد البابا ليو العاشر في عام 1516م أن يعيد بناء كنيسة بطرس في روما، وكان ذلك يتطلب مقدارًا من المال غير يسير، فقرر أن يجمعه من صكوك الغفران ببيعها، وأرسل مندوبه الراهب يوحنا تتسل Johann Tetzel (1465 - 1519 م) لبيعها في ألمانيا، فما أن أخذ يعلن عنها حتى ثارت ثائرة لوثر، وكتب في أكتوبر عام 1517م رسالة إلى المطران ألبرخت Albrecht von Barndenburg (1490 - 1545 م) أبدي فيها استياءً شديدًا من هذا الأمر، وأرفق بها نسخة من وثيقته الشهيرة التي تتضمن خمسة وتسعين مبدأ في معارضة الكنيسة 95 Thesen، والتي من أهمها: - جعل الخضوع التام الواجب على المسيحي لنصوص الكتاب المقدس وحدها، بعد

أن كان حق التفسير والفهم لنصوص الكتاب المقدس مقصورًا على رجال الدين، وذلك حتى يكون الدين ما تنطق به أفواههم وليس لأحد أن يعقب على قولهم. فألغى بذلك الحجاب الذي أقيم بين المسيحي وكتابه، وفتح باب التفسير لكل مثقف ذي فهم، وإذا كان ثمة نص لم يفهم توقفوا عن فهمه، فإن أبدى رجل الدين رأيًا في فهمه قبلوه إلا إذا خالف نصًا ظاهرًا لا مجال للتأويل فيه. - عدم الرياسة في الدين، فألغى بذلك الرياسة الكنسية التي تستمد الخلافة من أحد الحواريين أو من المسيح نفسه. - ليس لرجل الدين حق الغفران، إنما يرجع غفران الذنوب إلى عمل الشخص، وعفو الإله، وتوبة العاصي وندمه على ما فات ولومه نفسه على ما كان. - عدم الصلاة بلغة غير مفهومة، وقد كانت صلاة القسيس بلغة لا يفهمها المصلون مقبولة لدى الكاثوليك، لأن أساس ذلك أن عبادة القسيس عبادة لمن هم تحت سلطانه. - إنكار الرهبنة، حيث وجد أن جزءًا من فساد رجال الدين يرجع إلى عدم الزواج، ورأى أن المنع منه لم يكن في المسيحية في عصورها الأولى، فقرر حقهم في الزواج، وتزوج هو فعلًا مع أنه من رجال الدين. وكان زواجه من راهبة تدعى كاترينا Katharina von Bora (1499 - 1552 م). - اعتبار العشاء الرباني مجرد تذكار بالفداء وتذكار للمجيء، وليس كما يعتقد الكاثوليك بأن المسيح يحل في جسد من يأكل العشاء الرباني، والخبز يتحول إلى عظام المسيح المكسورة والخمر يتحول إلى دم المسيح (¬1). - عدم اتخاذ الصور والتماثيل في الكنائس والسجود لها، حيث ذلك قد نهي عنه في التوراة، كما جاء في سفر التثنية: «لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا أو صورة مما في السماء ¬

(¬1) جاء في رسالة پولس لأهل كورنثوس عن العشاء الرباني ما يلي: «لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضًا: إن الرب يسوع في الليلة التي أُسلِمَ فيها أخذ خبزًا. وشكر فكسر وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري. كذلك الكأس أيضًا بعد ما تعشوا قائلًا: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري. فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» [رسالة كورنثوس الأولى 11: 23 - 26].

من فوق وما في الأرض من أسفل وما في الماء من تحت الأرض. ولا تسجد لها ولا تعبدها لأني أنا الرب إلهك إله غيور لا أنسى ذنوب الآباء في البنين إلى الجيل الثالث والرابع من الذين يُغضبونني» (¬1). وعلَّق لوثر نسخة أخرى من وثيقته على باب كنيسة القلعة في فتنبرج، الأمر الذي اعتُبر بمثابة الشرارة الأولى لتأسيس المذهب الپروتستانتي. وفي الوقت ذاته نشط في تأليف الكتب التي تعلن مبادئه، والتي أصبحت حديث الطبقة المتعلمة في ألمانيا مما زاد في التفاف الناس حوله. ولكن لم يُجِب ألبرخت على رسالة لوثر، فكان هو نفسه ممن ينتفعون ببيع صكوك الغفران في تسديد الديون التي طوقته نتيجة دفعه المستمر للرشاوى - وذلك بعلم البابا -، ولكنه دفع في المقابل بالرسالة إلى روما للنظر فيما تحتويه من هرطقة. وجاء رد البابا خلال السنوات الثلاثة اللاحقة متراخيًا وغير حازم، وكان مما وصف به لوثر في عام 1518م أنه «ألماني ثمل سيعود إلى رشده حين يفيق». ولكن حينما راجت دعوته واشتد خطرها أرسل إليه في الخامس عشر من يونيو 1520م مرسوم (تجلى أيها الرب Exsurge Domine) يهدده فيه بالحرمان إن لم يرجع عن واحد وأربعين مبدأ من مبادئه وذلك خلال ستين يومًا من نشر المرسوم وتوزيعه في المناطق المجاورة. يقول المرسوم: «قم يا رب واحكم في قضيتك، إن خنزيرًا يقتحم كرمك. قم يا بطرس وتبصر في قضية الكنيسة الرومانية المقدسة أم الكنائس المكرسة بالدم. قم يا پولس يا من بتعليمك وموتك أنرت وتنير الكنيسة. قوموا يا كل القديسين وكل الكنيسة التي هوجم تفسيرها للكتاب المقدس». وما كان من لوثر إلا أنه قام في اليوم الستين (10 ديسمبر 1520م) بحرق ثلاث مجلدات من القانون الكنسي وبعض كتابات فلاسفة القرون الوسطى، ثم ألقى بالمرسوم البابوي فوق لهيب النار وسط الجموع الحاشدة في فتنبرج قائلًا: «ليت هذه النيران تهلكك [أي البابا] لأنك اعترضت حق الله» (¬2). وجاء رد البابا على ذلك بإصداره ¬

(¬1) التثنية 5: 8 - 9 (¬2) انظر، ملحق كتاب (كيف نفهم الأصولية الپروتستانتية والإيفانجليكية)، لچورچ مارسدن، ص (155).

في 3 يناير 1521م مرسوم (هذا يليق بالبابا الروماني Decet Romanum Pontificem) يقضي بحرمانه. وبعد أن وضع البابا قرار التنفيذ بين يدي السلطة العَلْمانية، عُقِد في العام نفسه مجلس فورمز Reichstag zu Worms برئاسة الإمپراطور شارلز الخامس Charles V (1500 - 1558 م) والذي تقرر فيه أن لوثر خارج عن القانون، وأُمِرَ بمنع كتبه، ونودي بحبسه، وقضى المجلس كذلك بتجريم كل ألماني يقدم للوثر طعامًا أو ملجأ، بل وأباح لأي أحد قتله بدون التعرض لمساءلة قانونية .. إلا أن فريديريك الثالث، والذي كان أحد المقربين للوثر والمؤيدين لأفكاره، قد طلب أن تُعفى إمارته من تنفيذ هذه القرارات، وبالفعل وافق المجلس على طلبه. وفي طريق العودة من المحاكمة، وبتدبير من فريديريك الثالث، اعترضت لوثر جماعة من الفرسان الملثمين قاموا بتهريبه إلى قلعة فارتبرج، وهناك أعفى لحيته وتنكر ومكث أحد عشر شهرًا عرف فيها بأنه أحد النبلاء يدعى چورچ Junker Jorg. وفي فارتبرج قام بعمله الأشهر وهو ترجمة العهد الجديد إلى الألمانية، والذي طبع في سپتمبر 1522م، ثم قام بعد ذلك بترجمة العهد القديم. وقد طبعت ترجمة الكتابين معًا في عام 1534م، وعكف لوثر بقية حياته على تحسين ترجمته للعهدين (¬1). ولقد أدى انتشار تعاليم لوثر في ألمانيا وزيادة عدد مؤيديه إلى جعل مرسوم فورمز Wormser Edikt من الصعب تنفيذه عمليًا، الأمر الذي جعل لهذه المسألة أولوية المناقشة في مجلس سپير Reichstag zu Speyer الأول، والذي عقد في صيف عام 1526م برئاسة الأرشيدوق فرديناند الأول حاكم النمسا Ferdinand I (1503 - 1564 م) ¬

(¬1) يقول رحمة الله الهندي: «وأذكر شيئًا لتوضيح ما قلت من حال ترجمة إمام الفرقة جناب لوثر ... قال وارد الكاثوليكي في كتابه (الأغلاط) المطبوع سنة 1841م في حال الترجمة المذكورة [يعني ترجمة لوثر للإنجيل]: "قال زونكليس [يقصد هولدريش زوينجلي] الذي هو من أعظم علماء الپروتستانت مخاطبًا للوثر: يا لوثر أنت تخرب كلام الله، أنت مخرِّب عظيم ومحرف للكتب المقدسة، ونحن نستحي منك استحياء لأنا كنا نعظمك تعظيمًا في الغاية، وتظهر الآن أنك كذا"» اهـ[رحمة الله الهندي: إظهار الحق (1/ 18 - 9)] باختصار.

بتفويض من أخيه الأكبر الإمپراطور شارلز الخامس الذي انشغل عن الحضور. ولكن نظرًا لعدة أمور حدثت كتهديد الفتح الإسلامي للإمپراطورية وخلاف شارلز الخامس مع البابا كليمنت السابع Pope Clement VII (1478 - 1534 م)، تساهل الكاثوليك بعض الشيء وأرجأوا تنفيذ قرارات فورمز، وسمحوا للمقاطعات الألمانية بحرية الاعتقاد لحين انعقاد المجلس العام، مما خدم مارتن لوثر وأتباعه ودعم بغير قصد نشر أفكارهم، خاصة أن المجلس العام الذي تقرر عقده قد تأخر لمدة عشرين سنة بعدها. ولكن سرعان ما عقد مجلس سپير الثاني في مارس من عام 1529م برئاسة فرديناند الأول كذلك، لمناقشة تداعيات المد الإسلامي الذي بات يهدد هنجاريا (المجر) وفيينا، وكذلك لمواجهة الانتشار المتزايد للتعاليم اللوثرية. ولقد أدان فرديناند في هذا المجلس سوء استغلال الأمراء الألمان لقرارات المجلس الأول، وأصدر قراره بجعل الكاثوليكية هي المذهب الرسمي لكل الإمارات التابعة للإمپراطورية الرومانية المقدسة، مما يعني تحجيم دعوة الإصلاح اللوثرية وتجريم نشر مبادئها والذي يؤدي بالتالي إلى وأدها في مهدها، بل ويعطي الإشارة كذلك لتطبيق مرسوم فورمز المؤجل تنفيذه حتى بدون انتظار انعقاد المجلس العام. وهذا بالطبع أثار حفيظة الأعضاء اللوثريين وأدى بهم إلى كتابة وثيقتهم الشهيرة في 25 إپريل 1529م والتي اعترضوا فيها على جميع قرارات المجلس التي تخالف (كلمة الله) وقرارات مجلس 1526م. ومنذ ذلك الحين سموا الپروتستانت Protestants أي المعترضين، وعرفت عقيدتهم بالپروتستانتية Protestantism. وبعدما يئس طلاب الإصلاح اللوثريين من الحكام ويئسوا من رجال الكنيسة اتجهوا إلى تكوين جماعة ووحدة دينية منفصلة عن الكنيسة، وآراؤها غير خاضعة لها، ورافضة كل ما لها من سلطان، وأنشئوا لهم كنائس ليست معترفة لروما بأي سلطان، وسلطة رجال الدين فيها محدودة، ولرجال الدين من الحقوق ما قرروا من مبادئ، وسميت كنائسهم كنائس إنجيلية، أي إنها لا تخضع إلا لحكم الكتاب المقدس، ويقيد بأحكامه رجل الدين أمام رجل الشعب، وجميعهم مسئول أمام ذلك الكتاب، وليس لرئيس الكنيسة خلافة تجعل كلامه مقدسًا مساويًا لأحكام الكتاب المقدس في الرتبة والاعتبار. ولما أدرك لوثر صعوبة تحقيق دعوة الإصلاح الكنسي، كَرَّس كل جهده لقضايا

مارتن لوثر واليهود

الإيمان في الكنائس الإنجيلية الناشئة، حتى مات في إيسليبن عام 1546م ودفن في كنيسة القلعة في فتنبرج، مخلفًا مجموعة من الكتب والمؤلفات التي تؤصِّل قواعد دعوته. بقي أن نقول: إن الكاثوليك يذكرون لوثر بأنه كان من أصحاب البدع والأضاليل، وأنه زائغ عن طريق الإيمان (¬1)، وهم في الحقيقة ما كذبوا في هذا، بل أقول: إنهم تهاونوا في الحكم عليه؛ إذ إن لوثر هذا ينظر إلى خير البشر محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه شيطان، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أول أبناء إبليس، وأنه - بأبي هو وبأمي - صلى الله عليه وسلم - كان مصابًا بالصرع، وكانت الأصوات التي يسمعها ويدعي أنها وحي جزءًا من مرضه (¬2). أيضًا يرى لوثر أن الإسلام عبارة عن ترقيع مبعثر لمبادئ اليهودية والمسيحية والوثنية، حيث يقول عن الإسلام كما ينقل عنه موقع اللوثريين أون لاين: «Patched together out of the faith of the Jews, Christians, and the heathen» (¬3) ، ألا لعنة الله على الكافرين! ... مارتن لوثر واليهود: أما فيما يتعلق بموقف مارتن لوثر تجاه اليهود، فالأمر كما تذكر ريچينا الشريف (¬4): «يحتاج إلى تحليل أكثر عمقًا ودقة بسبب موقفه المتميز بين جميع المصلحين الپروتستانتيين؛ فلقد اعتبره البعض محبًا للسامية أحيانًا ومعاديًا لها، بل ومبشرًا بالنازية الألمانية اللاسامية في أحيان أخرى بسبب مواقفه من اليهود المتناقضة تمامًا والمثيرة للجدل» اهـ. ولعلنا هنا نسترشد بدراسة چيمس سوان الدقيقة فيما يتعلق بـ (موقف مارتن لوثر تجاه ¬

(¬1) د. أحمد شلبي: مقارنة الأديان/المسيحية، ص (277)، نقلًا عن: شرح رسالة القديس پولس إلى أهل رومية، للدكتور الخوري جرجس فرح، ص (10 - 1، 67). (¬2) انظر، الموسوعة الكاثوليكية، مادة: Mohammed and Mohammedism (¬3) See, ww.lutheransonline.com: Luther on Islam (¬4) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (32).

اليهود)، حيث يقول (¬1): «ولد مارتن لوثر في مجتمع معادٍ لليهود ... ولكن كما يقول مارك إدواردز Mark U. Edwards في كتابه (معارك لوثر الأخيرة Luther's Last Battles): " التقى لوثر مع اليهود في حالات نادرة فقط؛ فهو لم يسكن أبدًا إلى جوارهم، ولكنه وَرِثَ تراثًا يهوديًّا وشعبيًّا معاديًا لهم؛ لقد عاش في مجتمع نصراني كبير، يرى اليهود أناسًا منبوذين، مذنبين لقتلهم المسيح، ولإمكانهم قتل الأطفال النصارى من أجل أغراضهم الشريرة ... ولقد عاش كذلك في مجتمع محلي صغير قام بطرد اليهود قبلها بنحو تسعين سنة". في بداءة حياته الأكاديمية، كان للوثر في اليهود أربعة اعتقادات لاهوتية راسخة، ولم تتغير هذه الاعتقادات طوال هذه الفترة، وهي (¬2): - أن العقاب الإلهي قد حل على شعبه العاصي، وأن الله وحده هو القادر على رفعه عنهم. - اليهود غير قابلين للتنصير القسري، ولا يمكن تخليصهم بفعل بشري. - بسبب عنادهم لله وكفرهم بالمسيح فإن عقيدتهم هي فعليًا عقيدة معادية للنصرانية. - ولكن هذه الأشياء لا تنطبق فقط على اليهود، بل على كل من عادى الرب من البشر، ولذا فإن اليهود والنصارى غير المؤمنين كلاهما مشترك في نفس المعصية. وعلى الرغم من أن موقفه العقدي لم يتغير، فإن نظرته لليهود طرأ عليها بعض التغيير. وبدى هذا التغيير واضحًا في بدايات دراسته اللاهوتية، تحديدًا في الفترة التي احتدم فيها النقاش حول حظر وإتلاف نسخ التلمود حوالي عام 1510م، وكان لوثر حينها يؤازر العالم الألماني چوهان روشلين Johann Reuchlin [1455 - 1522 م] الضليع في العبرية واليونانية، والذي وضع كتابه De Rudimentis Hebraicis الذي يعد أول كتاب في قواعد اللغة العبرية طبع في ألمانيا، ولقد اهتم لوثر كثيرًا بهذا الكتاب نظرًا ¬

(¬1) James Swan: Martin Luther's Attitude Toward the Jews, ch. V (Luther's Early Attitude Toward the Jews) (¬2) كما يذكرها جوردون رَپ في كتابه: مارتن لوثر واليهود. Gordon Rupp: Martin Luther and the Jews

لقيمته الأدبية. ولقد عبَّر لوثر عن تأييده لروشلين في عام 1514م - والذي قد جرى استجوابه قبل محاكم التفتيش بسبب انشغاله بدراسة الأدب العبري - بقوله: "فلنصلِّ جميعًا من أجل روشلين" (¬1). كذلك فلقد استفاد لوثر كثيرًا من تعلمه العبرية، خاصة عام 1519م حينما قدم العالم اليهودي المتنصر ماتيو أدريان Matthew Adrian للتدريس في جامعة فتنبرج، والذي حرص لوثر أشد الحرص على إدراكه والنيل من علمه. ولكن هذا لا يعني الإشارة إلى أن لوثر كان مدافعًا عن اليهودية كديانة، إنما كان اهتمامه الأول - كما يذكر هو نفسه - "حفظ الأدب العبري لأجل الدراسات العلمية، لا لأجل فضائل اليهود واليهودية في حد ذاتها"» (¬2). ولكن على الرغم من ذلك يلاحظ أنه في مطلع عام 1520م، حينما شرع لوثر في ترجمة الإنجيل، يلاحظ أنه قد اتخذ موقفًا مغايرًا تجاه اليهود خلافًا لما كانت عليه ثقافة العصور الوسطى السائدة حينذاك، حيث بدا في كتاباته الميل نحو ملاطفة اليهود واستمالة قلوبهم، وكان مما قاله في شأنهم، وذلك عام 1521م (¬3): «يجب علينا عدم معاملة اليهود بهذه القسوة، لأن سيكون منهم النصارى في المستقبل، وهم يتغيرون في كل يوم». كذلك قال بأسلوبه غير المهذب المعهود (¬4): «يفتخر الكثير من الناس بغباء عجيب حينما يصفون اليهود بأنهم كلاب ومجرمون، أو كما يحلو لهم أن يصفوهم. في حين أنهم لا يدركون من هم في نظر الرب. إنهم ينهالون عليهم بالشتائم بوقاحة، في حين أنه يجب الإشفاق عليهم، والخوف من أن يحل عليهم نفس العقاب الذي حل بهم. إضافةً إلى ذلك، وبثقة شديدة، يعلنون بتهور أنهم هم المباركون وغيرهم هم الملعونون ... ¬

(¬1) Jaroslav Pelikan and Helmut T. Lehmann: Luther's Works, 48:10, CPH: St. Louis, AF: Minneapolis, 1955 - 1986 (¬2) ibid., 47:127 (¬3) ibid., 21:354 (¬4) ibid., 25:428

إنهم يريدون تنصير اليهود بالقوة والتعذيب، في حين أن الرب يقاومهم». وعلى عكس الثقافة السائدة آنذاك، لم يتهم لوثر اليهود على وجه الخصوص بأنهم هم قتلة المسيح، ولكن كان يرى أن أخطاء البشرية جمعاء هي التي أدت إلى مقتله. ويمكن لنا تحليل موقف لوثر من خلال تقسيم كتاباته المتعلقة باليهود وفقًا إلى حقبتين متميزتين: ما قبل عام 1537م وما بعده؛ ففي عام 1523 صنَّف لوثر رسالته (أن عيسى ولد يهوديًا Dass Jesus ein Geborner Jude Sei)، وكانت الدوافع التي أدت بلوثر إلى تأليفها، كما يذكر چيمس سوان (¬1)، هي اتهامه من قبل خصومه أنه ينكر الميلاد المعجز للمسيح - عليه السلام -، وترويجهم لإشاعة تقول إن لوثر يدعي [كما يدعي اليهود لعنهم الله] أن المسيح هو ابن يوسف النجار (¬2). فألف لوثر رسالته وأعلن أنه سيبرئ نفسه مما نسب إليه بإثباته عن طريق مخطوطات التوراة أن المسيح ولد بمعجزة من مريم العذراء، وقال إنه «لعله بفعله هذا يكسب بعض اليهود للدخول في النصرانية» (¬3). ولقد بدت أهداف لوثر التبشيرية في هذه الرسالة واضحة، حيث لم يكن هدفه مجرد إثبات زيف ادعاءات خصومه، بل من أجل مصلحة اليهود أراد إثبات أن المخطوطات قد بشرت بعيسى وبالإنجيل. وكان مما قاله (¬4): «لنبدأ مع اليهود بالرضاعة، وذلك بتعريفهم أن هذا الرجل يسوع هو المسيح الحقيقي، ثم بعدها بإمكانهم شرب النبيذ، ويتعلموا أنه كذلك هو إله حقيقي. بسبب ضلالهم الطريق لمدة طويلة وجب علينا التعامل معهم برفق، فهم كمن لُقِّن بصرامة إستحالة كون الإله إنسانًا (!)». ¬

(¬1) James Swan: Martin Luther's Attitude Toward the Jews, ch. VI (1523: Luther's Book "Jesus Christ was Born a Jew") (¬2) يذكر اليهود - قاتلهم الله - في تلمودهم، أن المسيح - عليه السلام - هو «نجار ابن نجار»، وغيرها من الصفات التي قصدوا بها التحقير والازدراء؛ يقول آي. بي. پرانايتس: «يُعلِّم التلمود أن يسوع المسيح كان ابنًا غير شرعي، حملته أمه خلال فترة الحيض، وأنه مجنون ومشعوذ مضلل، صُلِب ثم دفن في جنهم، فنصبه أتباعه منذ ذاك الحين وثنًا لهم يعبدونه». [انظر، آي. بي. پرانايتس: فضح التلمود، ص (55) وما بعدها]. (¬3) Luther's Works 45:199 (¬4) ibid., 45:229

وكان مما أرشد إليه في السياق ذاته هو «الترفق معهم وإرشادهم عن طريق المخطوطات، ثم سيتنصر بعضهم بمفرده، وذلك بدلًا من محاولة تنصيرهم بالقوة ... وأما لو ظللنا نعاملهم كالكلاب، كيف نتوقع أي خير منهم؟ ولذا فلا بد من التعامل معهم ليس بالقانون البابوي ولكن بقانون الحب المسيحي. ولا بد كذلك من تقبلهم بود، والسماح لهم بالتجارة والعمل معنا، حتى تتوفر لديهم الفرصة لمعاشرتنا، والسماع لتعاليمنا، ومشاهدة حياتنا. وإذا أبدى بعضهم العناد والاعتراض، ففي كل الأحوال لسنا كلنا نصارى صالحين». ثم أنزل بعد ذلك سيلًا من السباب والشتائم على البابوات ورجال الكنيسة الكاثوليك، وذلك بسبب سوء معاملتهم لليهود، وقال ما مفاده استحالة اعتناقه هو شخصيًا النصرانية لو كان ولد يهوديًا في ظل السلطة البابوية. وفي المقابل، لم يترك أعداؤه من البابويين فرصة إلا اغتنموها لوصمه بأنه (يهودي). ثم يطرح لوثر بعد ذلك رؤية (بيولوچية) بعض الشيء، فيقول (¬1): «عندما نميل إلى الافتخار بمكانتنا لدى المسيح لا بد أن نتذكر أننا مجرد أغيار غرباء، في حين أن اليهود تربطهم به علاقة دم ونسب، فهم أقرباء وإخوة لربنا». ويقول كذلك (¬2): «شاء الروح القدس أن ينزِّل الكتب المقدسة إلى العالم عن طريقهم فقط؛ إنهم هم الأطفال، ونحن الضيوف والغرباء، تمامًا مثل المرأة الكنعانية، ولا بد لنا أن نرضى أن نكون كالكلاب التي تأكل الفتات الذي يتساقط من مائدة ساداتهم». ولقد دعا إلى تعظيم العهد القديم (التوراة) حيث قال (¬3): «أنا على اقتناع بأن اليهود إذا سمعوا إلى مواعظنا، ورأوا كيف نتعامل مع العهد القديم، فسوف نكسب الكثير منهم» اهـ. ولكن آماله كانت ساذجة، وقليل كان عدد من تبعه وتنصر؛ ذلك لأن المنهج الذي ¬

(¬1) ibid., 45:200 (¬2) Jewish Encyclopedia: Luther, Martin (xxv. 260) (¬3) Luther's Works 45:200

سلكه للحوار اللاهوتي لم يستطع التغلب على قرون من سوء المعاملة والاضطهاد التي أوقعها النصارى باليهود. لقد فشل لوثر في التأثير على اليهود من خلال كتاباته، وقد عبَّر عن هذا العالم اللاهوتي رولاند باينتون Roland Bainton (1894 - 1984 م) - وهو أحد أشهر كاتبي سيرة لوثر - في كتابه (هنا أقف: حياة مارتن لوثر Here I Stand: A Life of Martin Luther) بقوله: «عندما سعى [لوثر] في تنصير بعض الربِّيين، سعوا في المقابل إلى تهويده!». ولقد وصل لوثر إلى قمة يأسه نحو عام 1536م، وذلك بسبب اعتراض الحاخامات اليهود على رؤية لوثر المسيحية في تفسيره للعهد القديم .. يذكر لوثر مناقشته لثلاثة من علماء اليهود الكبار حول تفسير نبوءة إرميا المبشرة بقدوم المسيح عيسى - عليه السلام -، القائلة (¬1): «ستأتي أيام يقول الرب أقم من نسل داود ملكًا صالحًا، يملك ويكون حكيمًا ويُجري الحق والعدل في الأرض. في أيامه يخلَّص شعب يهوذا ويسكن بنو إسرائيل في أمان، ويكون اسمه الرب الصادق معنا»، فيذكر أنه حينما واجههم بها عجزوا عن الرد، وقالوا له «إنهم يؤمنون بما جاء في تلمودهم، وهو لا يذكر أي شيء عن المسيح (عيسى)» (¬2)، حينها أخذ لوثر على نفسه عهدًا ألا يدخل في أي مناقشة مع اليهود مرة أخرى. وفي هذه الفترة، بدأ لوثر في الاطلاع على عدة مؤلفات معادية لليهود، كتلك التي كتبها العالم الفرنسسكاني نيكولا أوف لايرا Nicholas of Lyra (1270 - 1349 م)، وكمؤلفات يهود متنصرين كپابلو دي سانتا ماريا Pablo de Santa Maria (1351 - 1435 م)، وأنطون مارجاريتا Anton Margaritha (1500 - ؟ م)، وفيكتور فون كاربن Victor von Carben (1422 - 1515 م)، ولقد تركت هذه الكتابات عظيم الأثر في نفسية لوثر (¬3). ¬

(¬1) إرميا 23: 5 - 6 (¬2) Luther's Works 47:191 (footnote 63) (¬3) See, James Swan: Martin Luther's Attitude Toward the Jews, ch. VII (1537: The Josel of Rosheim Controversy)

وفي هذه الفترة كذلك شاعت الأخبار حول قيام اليهود في مقاطعتي مورافيا Moravia وبوهيميا Bohemia بمحاولات لتهويد النصارى، واستجابة بعض النصارى لهذه المحاولات، حيث قاموا بأداء شريعة الختان وتعظيم يوم السبت، والاعتقاد في المشَّيحانية وغيرها، وعرف هؤلاء النصارى باسم السبتيين Sabbatarians. حينها أحس لوثر بالخطر، وشرع في التصدي لهم، فألف في عام 1538م رسالته المختصرة في الرد على السبتيين Brief wider die Sabbather an einen guten Freund، حيث قام فيها بتفنيد شبهاتهم. وشرع بعدها «ألا يكتب أي شيء آخر لا عن اليهود ولا ضدهم» (¬1). ولكنه لم يبقِ على عهده؛ ففي عام 1543م - أي قبيل موته بثلاثة أعوام -كسر حاجز الصمت، وألف رسالته (عن اليهود وأكاذيبهم Von den Jüden und iren Lügen)، والتي تجلى فيها أثر الكتابات المعادية لليهود التي اطلع عليها .. جاءت رسالته هذه كرد على منشور دفعه إليه أحد كونتات مورافيا، هو الكونت شليك Count Schlick، كتبه أحد اليهود، ويحوي هجومًا حادًا على المسيح وأمه مريم عليهما السلام، بل على تفسيرات لوثر للعهد القديم كذلك، فطلب شليك من لوثر قراءته والرد عليه. ولقد جاء رد لوثر هذه المرة في غاية العنف والبذاءة ليس على اليهودية فقط، بل على اليهود أنفسهم، حتى كتب رولاند باينتون قائلًا: «تمنيت أن يموت لوثر قبل كتابته هذه الرسالة» (¬2). يقول لوثر في مقدمة رسالته (¬3): «كنت قد قررت أن لا أكتب أكثر، لا عن اليهود، ولا ضد اليهود، لكن منذ أن علمت أن هؤلاء الناس الأشرار الملعونين لا يتوقفون عن الدعاية لأنفسهم ومحاولة كسبنا نحن المسيحيين أيضًا؛ فإنني نتيجة لذلك سمحت لنفسي ¬

(¬1) Luther's Works 47:133, See, James Swan: ch. VIII (1538: Luther's Treatise "Against the Sabbatarians") (¬2) See ibid., ch. IX (1543: Luther's Treatise "On the Jews and their Lies") (¬3) مارتن لوثر: اليهود وأكاذيبهم، ص (51).

بنشر هذا الكتيب للإعلام بأنني سأكون من الآن فصاعدًا بين أولئك الذين يقاومون مثل هذه النشاطات السامة لليهود، ولكي أنبِّه المسيحيين أن يكونوا على حذرهم منهم». وفي رسالته تلك نعت اليهود بأبشع وأقذر الصفات، و «أنهم والأبالسة سواء، إذا قارنا بينهما» (¬1). وحث النصارى على هدم معابدهم، ومصادرة كتبهم وتلمودهم، ومنعهم من إقامة صلواتهم، «وإذا شاءوا هذا فليصنعوه في مكانهم القديم، أو في مكان آخر لا علم لنا به، نحن المسيحيين» (¬2). ثم ختمها بقوله (¬3): «وفي النهاية أقول لنفسي: إذا كان الله لا يرسل إليَّ (مسيا) (¬4) من عنده يختلف عن (مسيا) الذي ينتظره اليهود ويعلقون عليه رجاءهم، فأفضل لي لو مُسِخت خنزيرًا، فلا أبقى بعد ذلك إنسانًا» اهـ. قلت: آمين!! تقول ريچينا الشريف (¬5): «المأثور عن لوثر أنه لم يكن مهذبًا في ألفاظه وبخاصة حين يهاجم أعداءه، فاللجوء للتعابير الفظة، بل والقذرة، كانت سمة مميزة لأسلوبه وشخصيته البذيئة. وقد كانت عباراته العامية المعادية للكاثوليكية والفرق الپروتستانتية المنافسة له تفوق في ضراوتها عباراته اليهودية. ولم يكن لوثر مثالًا للتسامح الديني، بل مثالًا لعدم التسامح الذي يصل أحيانًا حد التعصب». ولقد كان من آخر أقوال لوثر قبيل موته أنه «سيتفرغ للعمل على طرد اليهود من هذه البلاد»، وكان مما قاله كذلك في آخر خطبه: «لا يغيب عنكم أن في البلاد كثيرًا من اليهود، دأبهم الإضرار بكم، ويتسببون في الكثير من الأذى لكم ... والعلاج هو طردهم من البلاد، فهم أعداؤنا صريح العداء» اهـ (¬6). ... ¬

(¬1) السابق، ص (79). (¬2) انظر السابق، ص (143 - 4). (¬3) السابق، ص (146). (¬4) أي: مسيح. (¬5) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (34). (¬6) انظر خاتمة الترجمة العربية لكتابه (اليهود وأكاذيبهم)، ص (157).

أفكار لوثر أحدثت ثغرا لا يزال يتسع حتى اليوم

أفكار لوثر أحدثت ثغرًا لا يزال يتسع حتى اليوم: لقد أثار كتاب لوثر (عن اليهود وأكاذيبهم) فزع وجدال ليس بين اليهود المعاصرين فحسب، ولكن في الأوساط الپروتستانتية كذلك؛ فلقد ذكر عالما الپروتستانت هاينريش بولينجر Heinrich Bullinger (1504 - 1575 م) ومارتن بوسر Martin Bucer (1491 - 1551 م) أن أفكار لوثر تذكِّرهما بأفكار محاكم التفتيش. كذلك أصدرت كنائس زيوريخ Zürich في وقتها مذكرة جاء فيها: «أنه لو كان صدر هذا من قِبَل قطيع من الخنازير، وليس من راعي كنيسة مشهور، لوجدنا له مبررًا ضعيفًا»، وجاءت هذه المذكرة تحديدًا كرد على رسالته التي صدرت في العام نفسه (عن الاسم الذي لا سبيل لمعرفته Vom Schem Hamphoras) (¬1) . ولكن لم يأخذ أحد توصيات لوثر (بطرد اليهود وهدم معابدهم وإعدام كتبهم ... إلخ) على محمل الجد، ومعظم السلطات لم تضعها موضع التنفيذ، وذلك نظرًا للدور الاقتصادي المهم الذي كان يؤديه اليهود، كما يبين ذلك محرري أعمال لوثر (¬2). وفي الجملة، رفضت السلطات السياسية الپروتستانتية اتباع توصيات لوثر، وهذا ما أثبتته الحقبة التي تلت وفاته. ولكن على الرغم من ذلك، فإن أفكار لوثر التي نشرها في كتابه (أن عيسى ولد يهوديًا) أحدثت - كما تواتر القول - ثغرًا في الفكر النصراني الغربي لا يزال يتسع حتى يومنا هذا. أيضًا، فإنه حتى ذلك التوقيت، كانت الأيديولوچية الصهيونية المعهودة غائبة تمامًا، وأخص بالذكر غير اليهودية منها، ولعل لوثر كان أول من أشار إليها بطريقة غير واعية في كتابه (عن اليهود وأكاذيبهم) حينما قال (¬3): «وغريبة الغرائب أننا إلى اليوم لا نعلم السبب في حلول اليهود بيننا، وأي شيطان جلبهم إلينا. فنحن لم نأت بهم من بيت ¬

(¬1) See, James Swan: Martin Luther's Attitude Toward the Jews, Appendix (1: The Reaction to Luther's Anti-Jewish Writings) (¬2) See, Luther's Works 47:267 (Editors Comment, footnote 173) (¬3) مارتن لوثر: اليهود وأكاذيبهم، ص (113 - 4).

المجتمع النصراني الغربي في بداية عصر النهضة: بداية التزوير التاريخي

المقدس، وفوق كل ذلك لا أحد منا يأخذ بحُجُزاتهم اليوم ليقيموا عندنا وفي أرضنا، فالطرق السريعة مفتوحة لهم إلى أي مكان يريدون أن يرحلوا إليه، ويمكنهم الانتقال إلى بلدهم في أي وقت يشاءون. وإذا هم اختاروا الرحيل عنا، فنحن مستعدون أن نقدم إليهم حسن المعونة، حتى نتخلص منهم. فهم عبء ثقيل علينا في وطننا، بل هم أشبه بالوباء والطاعون، وما رأينا منهم إلا النكبات!»، وقال كذلك (¬1): «... فإذا شاءوا فليعودوا إلى أرض كنعان، ويقيموا أحكام الشريعة، ويُخضِعوا لهم الوثنيين والغرباء. وحينئذ فليمتصوا الغرباء الأجانب بالربا قدر ما يحتمل هؤلاء منهم» اهـ. والأمر كما يقول الباحث محمد السماك (¬2): «إن الأفكار أشبه ما تكون بالفيروسات، فهي تعيش وتنتشر عندما تجد استعدادًا لتقبلها، وهي تموت وتندثر عندما تواجه مناعة ترفضها وتقطع أوصالها». المجتمع النصراني الغربي في بداية عصر النهضة: بداية التزوير التاريخي: ولعل أحد أبرز العوامل التي هيأت البيئة الغربية لتقبل هذه الأفكار هي أطروحات لوثر الأولى حول اليهود، والتي رسخت بفعل ترجمته الحرفية للكتاب المقدس وبفعل الواقع الذي عاشه المجتمع في ظل الطغيان البابوي. ولو أردنا تتبع التغيرات التي طرأت على المجتمع النصراني الغربي في عصر النهضة (القرنان السادس عشر والسابع عشر) لاقتبسنا في المقام الأول من دراسة الباحثة الدكتورة ريچينا الشريف، «الشاقة»، كما يصفها الأستاذ الدكتور مصطفى حلمي (¬3)، فهو بحث نفيس جدًا في بابه، ومن بركة العلم عزوه إلى قائله كما قال الحافظ السيوطي (849 - 911هـ/1445 - 1505م) وغيره. فنقول: لقد اتخذ النسيج الصهيوني شكله الديني والاجتماعي والفكري والسياسي خلال القرون الأربعة لتاريخ أوروپانتيجة تداخل خيوط كثيرة مختلفة من الثقافة الغربية، ¬

(¬1) السابق، ص (125 - 6). (¬2) قاله في مقدمة ترجمته العربية لكتاب جريس هالسل: النبوءة والسياسة، ص (25). Grace Halsell: Prophecy and Politics (¬3) انظر، د. مصطفى حلمي: نكبة فلسطين، ص (28).

وفي طليعتها الخيوط الدينية (¬1). وتكمن أهمية حركة الإصلاح الديني بالنسبة للصهيونية غير اليهودية فيما حققته عن غير قصد وبشكل لاشعوري أكثر مما حققته بأهدافها وإنجازاتها المباشرة (¬2)؛ فإن حركة الإصلاح التي وضعها لوثر بتحديه الصريح للسلطة الدينية القائمة كانت تبشر بعهد جديد من التسامح الذي كان له تأثير إيجابي في الحياة اليهودية. لم تعد الكنيسة الكاثوليكية تُدعى بأنها عالمية، ولم يعد اليهود يُنبذون باعتبارهم الدخلاء الوحيدين. وللمرة الأولى لم يعد اليهود أشد الأقليات الدينية اضطهادًا، إذ واجهت مجموعات مسيحية منشقة كالمعمدانيين Baptists وفرق پروتستانتية أخرى نفس المصير. وخلال الحروب الدينية أصبح ما يتعسر تحقيقه بالعقل والإدراك السليم يحل في ميدان المعارك. وقد تضافر سلام أوجسبرج Augsburg (1555 م) ومجلس ترنت Trent (1545 - 1563 م) ومعاهدات وستفاليا Westphalia (1648 م) على جعل المجتمع الأوروپي عَلْمانيًا، وانبثق التسامح عن الضرورة السياسية (¬3). ولقد أحدث نشر النصوص التوراتية بشكلها الأصلي الذي لم يكن مشوبًا بالتفسيرات الكنسية الرسمية، ثورة في الفكر الپروتستانتي (¬4)؛ حيث جاءت الپروتستانتية بفكرة إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون قيود على التفسيرات التوراتية، فكان كل پروتستانتي حرًا في دراسة الكتاب المقدس واستنتاج معنى النصوص التوراتية بشكل فردي، وهذا بالتالي فتح الباب لبدع في اللاهوت المسيحي، وأصبح التأويل الحرفي البسيط هو الأسلوب الجديد في التفسير بعد أن هجر المصلحون الپروتستانتيون الأساليب التقليدية الرمزية والمجازية (¬5). ولقد أكدت الپروتستانتية الجانب العبراني في المسيحية على حساب ما وسمته بأنه ¬

(¬1) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (19) بتصرف يسير. (¬2) السابق، ص (35). (¬3) السابق، ص (34) بتصرف يسير. (¬4) السابق، ص (35). (¬5) السابق، ص (24) بتصرف يسير.

الجانب الهيليني أو الوثني، وهو ما خلق تعاطفًا مع اليهود ومع الثقافة الدينية اليهودية (¬1). وعندما ترجم الكتاب المقدس للغات القومية أصبح أكثر الآثار الأدبية شيوعًا، وأصبح ما ورد في العهد القديم من تاريخ ومعتقدات وقوانين العبرانيين وأرض فلسطين - التي حكموها لأقل من ألف عام - أمورًا مألوفة في الفكر الغربي، وغدت قصص وشخصيات العهد القديم مألوفة كالخبز، وأضحى كثير من الپروتستانت يرددونها عن ظهر قلب. وأصبح المسيح نفسه معروفًا ليس بأنه ابن مريم فحسب، بل واحد من سلسلة طويلة من الأنبياء العبرانيين. وحل أبطال العهد القديم كإبراهيم وإسحاق ويعقوب محل القديسين الكاثوليك (¬2)، وبالتالي أدى الإعجاب بالماضي اليهودي إلى احترام اليهودية المعاصرة، وكان من نتائج ذلك أن ازداد التسامح في الأراضي الواقعة تحت النفوذ السياسي الپروتستانتي (¬3). ولقد تطور الاهتمام بالتوراة باعتبارها كلمة الله تحت شعار (العودة إلى الكتاب المقدس). وأصبح العهد القديم هو المرجع الأعلى للسلوك والاعتقاد. وحلت كلمة الله المعصومة كما جاءت في الكتاب المقدس، والتي ترجمت إلى لغة الناس العادية محل الكنيسة المعصومة التي يمثلها البابا في روما، ودعي المؤمنون للعودة إلى الكتاب المقدس نفسه باعتباره مصدر المسيحية النقية الثابتة، وإلى فهم النصوص بمعناها الواضح البسيط (¬4). وفي هذه الفترة التي أصبح فيها العهد القديم - كما ذكرنا - مصدر المعلومات التاريخية العامة، بدأت عملية التزوير التاريخي. وقد وجد التزوير الصهيوني الحالي للتاريخ الذي يدعي (حقًا تاريخيًا) في فلسطين مادته المسيحية في التمسك بحرفية ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (3/ الپروتستانتية (القرنان السادس عشر والسابع عشر)). (¬2) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (24) بتصرف. (¬3) السابق، ص (27). (¬4) السابق، ص (23 - 4).

الكتاب. وأخذ التاريخ الشامل لفلسطين يقلص بشكل تدريجي إلى أن اقتصر على القصص المتعلقة بالوجود اليهودي وحده، وأصبح الأوروپيون مهيئين للاعتقاد بأنه لم يكن هناك في فلسطين إلا الأساطير والقصص التاريخية والخرافات الواردة في العهد القديم، والتي لم تعد تؤخذ على حقيقتها، بل اعتبرت تاريخًا صحيحًا؛ فصارت لا هجرة سوى هجرة إبراهيم ولا وجود لمملكة غير مملكة داود التي سبقتها وتلتها ممالك كثيرة، ولم يعد الناس يذكرون من الثورات إلا ثورة المكابيين (167ق. م). وكان يبدو وكأن لا وجود للشعوب الكثيرة التي استوطنت وعاشت في فلسطين، مع أن معظمها عاش فترات أطول من اليهود (¬1). وميزة الأساطير الصهيونية تكمن في الدمج الوثيق بين العناصر القومية والتاريخية والدينية التي تشير إلى العلاقة بين العهد القديم والأرض المقدسة والشعب المختار (¬2). وأدى ذلك بالتالي إلى تطور عدة مفاهيم؛ فلقد أصبحت فكرة أن الحج المقدس يكفر الخطايا مرفوضة، كما أنكرت شفاعة القديسين وتبجيل رفاقهم. لكن ذلك لم يُنس الناس الأرض المقدسة تمامًا، بل إنها حظيت بأهمية جديدة حيث ارتبطت بدلالات صهيونية. وكانت فلسطين باعتبارها أرض الشعب المختار، ماثلة في الخيال الپروتستانتي والطقوس الپروتستانتية، وأصبح الربط بين الأرض وأهل الكتاب يرد في الطقوس والشعائر الپروتستانتية، بل وفي الأسماء التي كان الپروتستانت يطلقونها على أبنائهم. وهكذا أصبحت فلسطين أرضًا يهودية في الفكر المسيحي في أوروپاالپروتستانتية وأصبح اليهود هم الفلسطينيين الغرباء في أوروپاوالذين سيعادون إلى فلسطين عندما يحين الوقت المناسب. وعندما أصبح ذلك جزءًا من طقوس العبادات والصلوات في الكنيسة، اتخذت التعاليم الصهيونية غير اليهودية شكلًا ثابتًا، وحظيت بمكانة راسخة في ضمير أوروپاالقومي (¬3). ¬

(¬1) السابق، ص (25 - 6) باختصار وتصرف. (¬2) السابق، ص (20). (¬3) السابق، ص (24 - 5).

ومن المفاهيم التي تطورت كذلك ظهور الاهتمام بتحقيق النبوءات التوراتية المتعلقة بنهاية الزمان. وكان جوهر (العصر الألفي السعيد) هو الاعتقاد بعودة المسيح المنتظر الذي سيقيم مملكة الله في الأرض والتي ستدوم ألف عام. واعتبر المؤمنون بالعصر الألفي السعيد مستقبل الشعب اليهودي أحد الأحداث المهمة التي تسبق نهاية الزمان. والواقع أن التفسير الحرفي لنصوص سفر الرؤيا قادهم إلى الاستنتاج بأن عودة اليهود كأمة إسرائيل إلى فلسطين هي بشرى الألف عام السعيدة. لكن ارتداد اليهود للمسيحية عنصر مهم لتحقيق ذلك، بل إن بعض الفرق كانت تصر على اعتناق اليهود للمسيحية قبل بعثهم، بينما اعتقد آخرون أن ذلك سيتم بعد عودتهم لفلسطين. وخلال تاريخ الكنيسة المسيحية استمر الاعتقاد الأخروي بعودة المسيح السريعة، وشاع ذلك الاعتقاد في القرن الأول الميلادي وكان يظهر بين فينة وأخرى خلال فترات الاضطراب السياسي والاجتماعي. ولكن الأمر الذي ينبغي ألا يغرب عن البال أن فكرة نهاية الزمان كانت مدمِّرة وتعتبر تهديدًا لأمر الكنيسة في العصور الوسطى. وبعد أن أصبحت المسيحية هي الديانة الرسمية للإمپراطورية الرومانية عام 380م عقد القساوسة الأوائل العزم على استئصال شأفة أفكار وتوقعات المؤمنين بالعصر الألفي السعيد. ويبدو مجازًا بأنها حالة روحية وصلت إليها الكنيسة في عيد العنصرة (¬1)، أي بعد موت وبعث المسيح [وفق اعتقادهم]. وكانت حركة الأقليات شبه الطائفية التي سبقت عهد الإصلاح الديني والتي كانت تعبر عن حنينها للعصر الألفي السعيد مضطرة للبقاء سرية بسبب اضطهاد الكنيسة في روما لها واعتبار تعاليمها كفرًا .. ولكن لم تتعمق حركة بعث الشعب اليهودي في تعاليم هذه الحركات التي كانت تنتظر اعتناق اليهود للمسيحية سريعًا، ومع أن فكرة العصر الألفي السعيد لم تسُد حتى في أوساط الفئات الپروتستانتية الرئيسة (حيث استمر لوثر وكالفن مثلًا على التمسك بتعاليم أوغسطين حول هذه الفكرة)، إلا أنها ظهرت في أوساط الجماهير وتسربت أفكارها إليهم. واستمرت هذه الحركة في استقطاب أنصار لها في كل فترات التاريخ التي تلت ¬

(¬1) وهو عيد حلول الروح القدس على التلاميذ، وميلاد الكنيسة في أورشليم.

ظهور أول أثر أدبي مطبوع عن التفكر في العصر الألفي السعيد

حركة الإصلاح الديني إلى أن بلغت ذروتها في القرن العشرين في مذهب العصمة الحرفية الأمريكي الذي يصر على أن إسرائيل هي التحقيق الواقعي للنبوءة في العصر الحديث (¬1) .. كان مما رسخ الاعتقاد فيه كذلك هو أن حركة الإصلاح نفسها نقطة تحول تشير إلى قرب نهاية الزمان. وقد أثبتت أوروپاالتي كانت تحت وطأة الحروب الطاحنة لعدة قرون، أنها أرض خصبة لمثل هذه العلامات الأخروية. وكان الاضطهاد الشديد الذي يتعرض له كثير من الفرق الپروتستانتية على يد الكنيسة الرسمية يفسر بأنه علامة أخرى من علامات نهاية الزمان. في هذا الإطار حظيت النبوءات التوراتية الكثيرة عن مستقبل إسرائيل بأهمية كبرى وغدا كثير من الفرق مقتنعًا بأن تحقق النبوءات يشمل اليهود المعاصرين بشكل أو بآخر (¬2). وكانت الأفكار الصهيونية عن العصر الألفي السعيد لا تزال تدرج في مراحلها الأولى، ولكن نواتها كانت موجودة في اعتناق أفكار معينة من حركة الإصلاح الپروتستانتية. وقد بقيت الصهيونية غير اليهودية خلال هذه الحقبة محصورة في مجال التأملات الروحية والنقاش اللاهوتي، لكن العناصر الأساسية لموالاة السامية ومعاداتها كانت موجودة فيها وكان هناك مزج غريب بين هذين التيارين اللذين يبدوان متناقضين. كان المصلحون الأوائل يظهرون الحب لشعب الله المختار، ولكنه لم يكن حبًا نابعًا من قلقهم على اليهود، بل لدورهم المرسوم لهم في خطة الله كما أوحى بها وعده لهم. وكان ارتداد اليهود للمسيحية لا يزال الهدف النهائي (¬3). ظهور أول أثر أدبي مطبوع عن التفكر في العصر الألفي السعيد: وفي نهاية القرن السادس عشر تقريبًا ظهر أول أثر أدبي مطبوع عن التفكر في العصر الألفي السعيد وبعث اليهود، وانتشر في أوروپاوبخاصة في الجزر البريطانية، حيث ¬

(¬1) السابق، ص (28 - 9) باختصار. (¬2) السابق، ص (29) بتصرف يسير. (¬3) السابق، ص (31 - 2).

كانت حركة الإصلاح الديني قد وطدت أقدامها منذ أن انفصل الملك هنري الثامن Henry VIII (1491 - 1547 م) عن روما الكاثوليكية (¬1). وفي إنجلترا، وصلت النهضة العبرية، بأفكارها المتداخلة المؤيدة للصهيونية ضمنًا، ذروتها في عهد الثورة الپيوريتانية في القرن السابع عشر. وكانت الپيوريتانية Puritanism تمثل أشد أشكال الپروتستانتية تطرفًا، وقد ظهرت كحركة مناهضة للأصول التي وضعتها الملكة إليزابيث الأولى Elizabeth I (1533 - 1603 م) للكنيسة الإنجليزية، والتي شابهت بعض أصول الكنيسة الكاثوليكية في روما، الأمر الذي رفضه الپيوريتانز بشدة (¬2). ولكن تجدر الإشارة إلى أن الپيوريتانية، شأنها في ذلك شأن العبرية المسيحية إبان مجدها، لم تكن محصورة في إنجلترا وحدها - كما يزعم بعض المؤرخين الصهاينة -، بل امتدت إلى كافة أرجاء أوروپا، حيث كانت الپروتستانتية راسخة الأقدام. ولقد كانت الأفكار الصهيونية راسخة في الإحساس الشعبي في الأراضي المنخفضة الكالفنية، إذ أن اليهود الإسپان الذين فروا هربًا من محاكم التفتيش وجدوا ملاذًا لهم ولقوا كل ترحيب كحلفاء ضد العدو المشترك للملك الإسپاني والكنيسة الكاثوليكية (¬3). ولقد غالى الپيوريتانيون في إجلال الكتاب المقدس مع إعطاء الأولوية للعهد القديم، وكانوا يجمعون بين نزعة حب الخير لليهودية والانطباع بأن اليهود هم خلفاء العبرانيين القدامى. وكان إكبارهم للعهد القديم وأهله ناجمًا عن الاضطهاد الذي قاسوه على يدي الكنيسة الرسمية. وكانت معلوماتهم عن حياة اليهود المعاصرين ضحلة، بل كانت معلوماتهم سطحية مستقاة من اطلاعهم على التوراة العبرية والتماثل بالتالي بين اليهود المعاصرين وبين شعب الله. وقد دفعهم هذا إلى اتباع مواعظ العهد القديم التي هجرها اليهود أنفسهم منذ عهد بعيد. ¬

(¬1) السابق، ص (29 - 30). (¬2) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Puritan. (¬3) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (42).

وخلال تجارب الاضطهاد المرة والحرب الأهلية وجد الپيوريتانيون في العهد القديم بشكل خاص اللغة والأحاسيس التي تنطبق عليهم وتناسبهم تمامًا؛ حيث كانت التجربة الحقيقية للصراع الديني والسياسي والاضطهاد تلك التي جعلت مجازات العهد القديم محتملة الصحة، ودفعتهم لاستعمال لغته والأسماء الواردة فيه باعتبارها أنسب أداة لنقل أفكارهم العنيفة. ولقد جلبت الپيوريتانية لإنجلترا اجتماعيًا وفكريًا الغزو (العبري) الذي كان قد اجتاح القارة الأوروپية. وأصبحت العبرية أمرًا محسوسًا على الشعب وفي حياة الأمة اليومية. كذلك تغلغلت التعابير العبرية في الحديث الإنجليزي، بل إن بعضهم كان يعتبر العبرية اللغة الوحيدة للصلاة وتلاوة الكتاب المقدس (¬1). ولقد واجهت الأفكار الپيوريتانية استياءً عامًا مع بداية ظهورها في بداية القرن السابع عشر، خاصة لدى الملك چيمس الأول King James I (1566 - 1625 م)، حيث رأى أن حمل أفكار العصر الألفي السعيد على محمل الجد يعتبر انتهاكًا شخصيًا واعتداءً على حقوقه الخاصة كحاكم مطلق (¬2). كذلك تعرضت هذه الأفكار للنقد في الپرلمان حيث انطلقت تحذيرات بعض الأعضاء من أنبياء متهودين جدد يطالبون بالبعث اليهودي. ولكن جذور هذه الأفكار الصهيونية رسخت في الحياة الروحية لإنجلترا وانبعثت من جديد ووصلت عصرها الذهبي في العهد الپيوريتاني اللاحق (¬3)، حين أصبحت الپيوريتانية بإيمانها بالعصر الألفي السعيد في مركز القوة، فحينئذ لقيت فكرة البعث اليهودي قبولًا واسع النطاق. ¬

(¬1) السابق، ص (35 - 7) باختصار. (¬2) حتى إنه قد أصدر أوامره لمترجمي النسخة الإنجليزية من الإنجيل المعروفة بنسخة الملك چيمس - والتي استغرق إعدادها الفترة من عام 1604 إلى 1611م - بالحد من تأثير الأفكار الپيوريتانية على هذه الترجمة. [انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Authorized King James Version KJV]. (¬3) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (31).

يوحنا وابن عازر كارترايت وإعادة اليهود إلى إنجلترا

يوحنا وابن عازر كارترايت وإعادة اليهود إلى إنجلترا: وفي عام 1649م، ذروة الحكم الپيوريتاني لإنجلترا، طلب اثنان من الإنجليز الپيوريتان يعيشان في أمستردام - وهما يوحنا وابن عازر كارترايت Joanna and Ebenezer Cartwright - من الحكومة الإنجليزية «أن تصبح الأمة الإنجليزية والسكان الهولنديون أول وأكثر الدول استعدادًا لنقل أولاد وبنات إسرائيل في مراكبها للأرض الموعودة لأجدادهم: إبراهام، إسحاق، ويعقوب، ليتملكوا ميراثهم للأبد». كذلك تضمَّن الطلب أن «يُعاد السماح لليهود بالتجارة والإقامة بينكم في البلاد» (¬1). ومما أكد جدية هذا الاسترحام أنه تضمن طلبًا بأن تقوم الحكومة الإنجليزية بإلغاء قانون النفي الذي وضعه الملك إدوارد الأول Edward I (1239 - 1307 م)، والسماح لليهود بدخول إنجلترا (¬2). وكانت عودة دخول اليهود إلى إنجلترا مقترحة لسببين: أولًا: كان الپيوريتانز يؤمنون بأنه: حيث إن مذهبهم أقرب لليهودية، فإن اليهود حين يحتكون بالپيوريتانية سيتحولون للمسيحية بلا مقاومة. وقد كتب هنري چيسي Henry Jessey (1603 - 1663 م) في عام 1656م قال: «إن الإنجليز أقدر بموهبتهم على إقناع اليهود». ثانيًا: أصَرَّ الإنجيليون المتشددون على أن اليهود لا يستطيعون بدء العودة إلى جبل صهيون بالقدس حتى يكتمل تفرقهم في كل البلاد. ولذا وجب جلبهم إلى إنجلترا قبل إرسالهم إلى فلسطين (¬3). تقول ريچينا الشريف (¬4): «سارت فكرة البعث اليهودي وفكرة إعادة السماح لليهود ¬

(¬1) باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (1/ 137). (¬2) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (39) بتصرف يسير. (¬3) باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (1/ 139). (¬4) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (39).

مناسح بن إسرائيل و (أمل إسرائيل)

بدخول إنجلترا جنبًا إلى جنب. وكان تفسير فقرات معينة من العهد القديم، التي تتضمن أن تشتت اليهود قبل بعثهم شرط ضروري لخلاص إسرائيل النهائي وعودة المسيح المنتظر، تؤكد هذا التناقض الظاهري. وهكذا كان على إنجلترا، البلد الوحيد الذي ليس فيه وجود يهودي ظاهري، أن تكون عونًا لله القوي في الإسراع بالحادث المنتظر. لكن الحركتين من أجل البعث اليهودي والسماح لليهود بدخول إنجلترا لم تكونا من أجل اليهود أنفسهم، بل من أجل الوعد المعطى لهم؛ فقد كان ينظر إلى العودة على أنها اعتناق اليهود للمسيحية لأن هذه هي علامة تحقيق الوعد، وكان الكثير من الپيوريتانيين يعتقدون بدافع من عبريتهم أن من اليسير على اليهود أن يتحولوا للمسيحية وهو الموقف الذي رأيناه في حب لوثر للسامية في المرحلة الأولى من حياته» اهـ. مناسح بن إسرائيل و (أمل إسرائيل): وباقتناع تام منه بأنه مكلف مهمة التعجيل بقدوم المسيح، نشر اليهودي مناسح بن إسرائيل Menasseh Ben Israel (1604 - 1657 م) كبير حاخامات أمستردام، عام 1652م، كتابًا مهمًا بعنوان (أمل إسرائيل Hope of Israel) يدعو فيه إلى إيصال اليهود إلى إنجلترا حتى يكتمل شتاتهم في العالم، قبل أن يبدأ تجمعهم في إسرائيل. وكما شرح في خطاب له لاحق: «فقد كشف سفر التثنية، الإصحاح (28: 64): "ويشتتكم الرب في جميع الشعوب من أقاصي الأرض إلى أقاصيها"، ولقد اقتنعت أن أقصى الأرض قد يكون هو هذه الجزيرة»، أي إنجلترا! ومما دعم رؤية مناسح هو ما قد استنتجه الرحالة اليهودي الپرتغالي أنتونيو دي مونتيزينوس Antonio de Montezinos - الذي التقى به مناسح في عام 1644م - من أن القبائل الهندية في جزر الهند الغربية، هم في الأصل قبيلة رأوبين العبرانية، إحدى القبائل اليهودية العشر المفقودة، وذلك بسبب ممارستهم للطقوس اليهودية على حسب زعمه. وبناءً على طلب المجمع اليهودي الهولندي، وقَّع مونتيزينوس قسمًا على صحة روايته. كذلك كان مبشرو المسيحية الإسپان إلى أمريكا الجنوبية يرددون بأن الهنود الحمر هم

القبائل اليهودية العشر المفقودة والذين عبروا آسيا غربًا إلى الصين ثم إلى أمريكا، بينما يؤيد علماء الإنسانيات نظرية أن الهنود الحمر هم الميكادو Mikado، أي الجيش المغولي الذي عبر مضيق بيرينج Bering Strait. ولكن سرعان ما انتشرت هذه الرواية بين الهولنديين الپيوريتانيين، وتحمست لها طائفة الألفيين الذين كانوا ينتظرون مملكة القديسين، وتبعًا لتفسيرهم لنبوءة الكتاب المقدس، فيجب أن تشمل العودة من المنفى القبائل العشرة المفقودة التي اختفت في القرن العاشر قبل الميلاد. فعند التقائهم مع بني يهوذا، كما كان الحال أيام داود وسليمان، يستطيع المسيح بن داود الظهور على الأرض (¬1). ولقد ربط كتاب مناسح (أمل إسرائيل) بين التفكير اللاهوتي والسياسة العملية؛ فلم يكن يرى أن إعادة السماح لليهود بدخول إنجلترا هدف في حد ذاته ولكنه خطوة نحو إعادة استيطانهم النهائي في فلسطين. ولقد راجت الترجمة الإنجليزية لكتابه ونفدت ثلاث طبعات منه قبل أن تطأ قدما المؤلف أرض إنجلترا عام 1655م، مما يدل على سيطرة الأفكار الصهيونية على عقلية الرأي العام الإنجليزي (¬2). تقول باربرا تخمان (¬3): «هذا الحرص من إنجلترا الپيوريتانية في الاهتمام باستعادة إسرائيل، أصله ديني بلا جدال، كنتاج لسيطرة العهد القديم على العقل والإيمان الخاص بحكم منتصف القرن التاسع عشر، ولكن الدين لم يكن كافيًا، ولم يكن إخاء البريطانيين الروحي مع بني إسرائيل وأفكارهم عن التسامح وآمالهم بعهد المسيح الجديد ستثمر، لولا تدخل السياسة والاقتصاد للتعجيل بالأمور» اهـ. ومما لا شك فيه أن نشر النصوص التوراتية بشكلها الأصلي الذي لم يعد مشوبًا بالتفسيرات الكنسية الرسمية أتاح لبعض الپروتستانت أن يضفوا على الكتاب المقدس صبغة سياسية. ومن المفارقات أن اليهود أنفسهم كانوا يحاولون خلال هذه الفترة أن يجردوا الكتاب ¬

(¬1) باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (1/ 157 - 8) باختصار وتصرف. (¬2) انظر، د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (39 - 40). (¬3) باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (1/ 168 - 9).

المقدس من الصبغة السياسية؛ ففكرة المسيح المنتظر بين اليهود، التي كانت مرتبطة بشكل وثيق بحركة الإصلاح الديني، كانت تعارض التدخل البشري أو الدنيوي لتحقيقها، وتتوقع بدلًا من ذلك أن تتحقق عن طريق التدخل السماوي (¬1). ويلاحظ أن المفهوم السياسي بدأ في التسرب داخل الأفكار الصهيونية غير اليهودية بصورة واضحة في عهد الإنجليزي أوليفر كرومويل Oliver Cromwell (1599 - 1658 م)، والذي ترأس الكومنولث الإنجليزي (¬2) لمدة عشر سنوات (1649 - 1658م)؛ وكان كرومويل حينها في حرب مع الپرتغال، وهي أولى الحروب التجارية من أجل استعادة سيادة بريطانيا البحرية لإصلاح جسور التجارة مع المستعمرات. وقد أفقدت الحرب الأهلية بريطانيا صدارتها التجارية. وكانت طبقة رجال الأعمال والتجار، وأغلبهم من الپيوريتانيين، يغارون من الهولنديين الذين استغلوا الفرصة واقتنصوا مركز الصدارة في التجارة مع المشرق والشرق الأقصى والمستعمرات والأمريكتين. ولقد ساعد على نجاح الهولنديين التجار اليهود الذين جلبوا الفرص من خلال علاقاتهم بجنوب أمريكا وبالمشرق، ولم يغب ذلك عن كرومويل، فاستغل عائلات يهود الأندلس المارانو Marranos (¬3) المقيمين بإنجلترا. وبدأ الاتصال الرسمي مع مناسح في عام 1650م بعد انتشار كتابه مباشرة. وأُرسلت بعثة إلى هولندا لعقد تحالف مع الهولنديين، وكُلفت البعثة التفاوض الجانبي مع مناسح، ¬

(¬1) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (35) بتصرف. (¬2) الكومنولث الإنجليزي: هو الاسم الذي أطلق على الحكومة المشتركة التي حكمت (إنجلترا وأيرلندا واسكتلندا) في الفترة من عام 1649 إلى 1660م. [للتوسع، انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Commonwealth of England]. (¬3) تطلق كلمة مارانو على اليهود المتخفين، في إسپانيا والپرتغال، الذين تراجعوا ظاهريًا عن اليهودية وادعوا اعتناق الكاثوليكية حتى يتمكنوا من البقاء في شبه جزيرة أيبريا مع تراجع الحكم الإسلامي وبعد طرد يهود الپرتغال عام 1480م وطرد يهود إسپانيا عام 1492م. وكلمة مارانو التي أحرزت شيوعًا في القرن السادس عشر ليست معروفة الأصل على وجه التحديد، ولعل الأكثر رجوحًا هو أنها كلمة باللهجة العامة الإسپانية القديمة معناها (خنزير). [للتوسع، انظر، د. عبد الوهاب المسيري: اليد الخفية، ص (81) وما بعدها].

والذي قدم على أثر هذه المفاوضات طلبًا رسميًا لمجلس الدولة لإعادة السماح لليهود بدخول إنجلترا. وتسارعت الأحداث نحو ذروتها. ورفضت هولندا المغرورة الاتحاد مع بريطانيا المبتدئة - حيث لم تكن إمپراطورية بعد -. وبناءً على ذلك، عملت بريطانيا بمبدأ (إن لم تستطع الانضمام إليهم فاهزمهم)، فأصدرت فورًا القانون البحري الذي يمنع السفن الأجنبية من الاتجار مع إنجلترا ومستعمراتها. وأصاب هذا الهولنديين في معيشتهم، وبدأت الحرب مع إنجلترا بعد ذلك بعام. ولتوقعه لذلك، أرسل كرومويل إلى مناسح بن إسرائيل جواز سفر داعيًا إياه للدفاع عن قضيته بنفسه في نفس يوم صدور القانون البحري. وكما أشار المؤرخ الإنجليزي اليهودي سيسل رُوثّ Cecil Roth (1899 - 1970 م)، فإن هذه الصدفة تستحق التدوين. وكان كرومويل متحمسًا لنقل تجار أمستردام اليهود إلى لندن، كإجراء سيفيد إنجلترا في سباقها مع هولندا. ولكن قبل أن يأتي مناسح، اندلعت الحرب الهولندية الإنجليزية، وفي أثناء اندلاعها، لم يُتخذ أي إجراء حيال اقتراحه، حتى انتهت الحرب الهولندية، ولاحت الحرب الإسپانية في الأفق بسبب التنافس التجاري كذلك. وظل كرومويل يضغط لأجل إصدار قرار بشأن إعادة اليهود لبريطانيا، الذين ظلت علاقاتهم التجارية وثيقة بإسپانيا والپرتغال. وفي عام 1654م، دعا كرومويل مناسح مجددًا للقدوم لإنجلترا، وقَبِل الأخير وحضر بصحبة ثلاثة أحبار زملائه بدفاعات جديدة لصالح هدفه. وكان مما ركز عليه مناسح هو «الربح الذي هو أقوى الدوافع على الإطلاق»، وأشار إلى كم يمكن أن تكون أهمية اليهود كقنوات للتأثير في التجارة أمام هولندا وإسپانيا والپرتغال، وتكلم عن الحب الذي يكنه اليهود للكومنولث بسبب كونه أكثر تسامحًا من الممالك الأخرى، وردَّ على الاتهامات التقليدية التي تثار ضد اليهود كتهمة الدم وسعيهم في قتل المسيح وغيرها .. وأثار طبع خطاب مناسح دوامة من الجدل أغرقت فيها العيوب المزايا، وأثيرت التهم القديمة مع تهم جديدة، بما فيها أن كرومويل يهودي وأن اليهود سوف يشترون كنيسة (القديس) پولس ومكتبة بودليان Bodleian Library (¬1) . ¬

(¬1) باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (1/ 159 - 64) باختصار وتصرف.

تقول باربرا تخمان (¬1): «وأيًا كان ما حدث، ففي العاشر من ديسمبر عام 1655م جمع كرومويل لجنة من القضاة ورجال الدين والتجار للنظر في طلب مناسح (¬2). وعلى مدى أربعة عشر يومًا، ظل أعضاء اللجنة منقسمين بين معارض ومؤيد. ولم يتفقوا سوى على أنه لا يوجد سبب قانوني يمنع دخول اليهود إلى إنجلترا ... أما فيما يختص بشروط وشكل تواجد اليهود وإقامتهم، فقد ظلوا غير متفقين؛ فكان رجال الدين الذين كانوا يريدون عودة اليهود يقولون بأن الناس الطيبين في إنجلترا كانوا يصدقون في عودة المسيح، ويصلون من أجلها أكثر من أي شعب آخر، وأنه يجب السماح لليهود بالدخول لأجل تحقيق ظهور المسيح أو التحول، وأنه يجب على إنجلترا أن تكفر عن ذنوبها تجاه اليهود الذين هم أقارب المسيحيين بالدم، وإن لم يكن بالروح والإيمان، وينحدرون من نفس الأب إبراهام. وكان التجار ضد هذا الأمر بشدة، فقد نشر عملاء الهولنديين والإسپان إشاعات عن العواقب الوخيمة لدخول اليهود، والمتمثلة في أن تجارة اليهود ستثري الغرباء وتفقر الإنجليز. وقالوا: إنه فيما يختص بالتحول، فإن الأحرى أن ما سيحدث هو تحول المسيحيين إلى اليهودية وليس العكس، بفعل ميل الشباب الإنجليزي للدعوات الجديدة. وفي نهاية الأمر، لم يُتفق إلا على السماح بعودة دخول اليهود إلى إنجلترا، ولكن بشروط مقيدة ماليًا وتجاريًا، مما جعل الأمر عديم الجدوى لكرومويل ... أما بالنسبة لمناسح، فلم تكن التسوية تعد نجاحًا مرضيًا على الإطلاق. وعاد إلى هولندا مُسِنًّا ومفلسًا ومهزومًا، وبعد أقل من عامين مات عن ثلاثة وخمسين عامًا، وربما بسبب كسر قلبه ... ونتيجة لغياب الحل الحاسم، لم يهاجر الكثير من اليهود إلى إنجلترا. ولكن في عام 1656م، حين دخلت إنجلترا حربها مع إسپانيا، تمكن المارانو من الخروج من تنكرهم الإسپاني وسُمح لهم برغم القلاقل المثارة حولهم بإقامة معابد علانية، كما سُمح لهم ¬

(¬1) السابق (1/ 165 - 8) باختصار وتصرف يسير. (¬2) تذكر ريچينا الشريف أن المؤتمر المنعقد هو مؤتمر وايت هول Whitehall Conference، والذي عُقد في الفترة من 4 إلى 18 ديسمبر عام 1655م لبحث شرعية وظروف تلك العودة. [انظر، د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (41 - 2)].

الصهيونية منذ عصر الاستنارة (القرن الثامن عشر) إلى ظهور المسألتين اليهودية والشرقية

ببعض الحقوق المحدودة كمواطنين إنجليز ... وكان حظًا سعيدًا لليهود حين اختفى الكومنولث. ومنذ ذلك الحين لم يعد هناك قانون في الكتب كي يلغيه شارلز الثاني Charles II [1630 - 1685 م]، فجعل الأمور تمضي بتعقل كما كانت، وتجاهل طلبات إعادة طرد اليهود ... وتواطأ مثل كرومويل، لاستغلال الوضع لصالحه. وتدريجيًا، وعلى مر مائتي عام، تزايد المجتمع اليهودي الشرقي، وعلى الرغم من وجود المعارضين، فقد تم التحرر الاجتماعي سلميًا شيئًا فشيئًا». وتختم تخمان بقولها (¬1): «ومنذ وقت كرومويل، كان كل الاهتمام البريطاني بفلسطين مدفوعًا بهدف الربح التجاري أو الاستعماري، وبهدف ديني موروث من العهد القديم في نفس الوقت. وفي غياب كليهما، كما حدث في القرن الثامن عشر حين كان المناخ الديني باردًا بشكل ملاحظ، لم يتحقق شيء» اهـ. ... الصهيونية منذ عصر الاستنارة (القرن الثامن عشر) إلى ظهور المسألتين اليهودية والشرقية: تذهب باربرا تخمان في دراستها إلى أنه «في عصر الانشقاق في القرن الثامن عشر، ظهرت الأرستقراطية بدلًا من الپيوريتانية، وكان هذا العصر هو عصر الأرستقراطية والحرية، وحكم القانون، وغياب الإصلاح، عصر كلاسيكي بمعنى الكلمة من كل النواحي الأخلاقية والعقلية، وأبعد ما يكون عن العبرية» (¬2). ذلك في حين ذهاب ريچينا الشريف إلى أن «الأفكار الصهيونية التي وضعها أشخاص غير يهود خلال القرن السادس عشر والتي ظهرت بشكل أكثر صراحة في إنجلترا الپيوريتانية في القرن السابع عشر اشتدت شوكتها في عهد ما يسمى بعصر العقل، على الرغم من المعارضة الرسمية لها ... كذلك فإن القرن الثامن عشر لم يكن عصرًا كلاسيكيًا، منظمًا، مهذبًا، عقلانيًا بعيدًا عن الروح العبرية قدر الإمكان» (¬3). ¬

(¬1) السابق (1/ 169). (¬2) السابق (2/ 7). (¬3) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (52) بتصرف.

تقول (¬1): «إن هذه النظرة للحقبة التي أعقبت عودة الملكية إلى إنجلترا سطحية جدًا، ويُظهِر فرانزكوبلر Franz Kobler [1882 - 1965 م] فهمًا عميقًا حين يكتب قائلًا في كتابه (الرؤية كانت هناك The Vision was There): " إن حركتي التنوير الفلسفي والربوبية Deism إبان مجدهما لم تُضْعِفا حركة الإحياء الديني اليهودية، بل أثريتاها عن طريق مزجها بحاسة واقعية مفيدة. وعلى ذلك أخذت الفكرة الأساسية للإحياء الديني تنتقل من جيل لآخر، مع إجراء تعديلات كبيرة عليها، إلى أن أحدثت الثورة الفرنسية تغييرًا جذريًا مفاجئًا"». وكما يقول هيكل (¬2): «وربما تغيب الأسباب عدًا وحصرًا في ضباب الزمن مع كر السنين. لكن الأثر الذي تتركه هذه الأسباب يغوص ويسكن في أعماق ما يمكن تسميته بالوجدان، سواء على المستوى الفردي للناس أو على المستوى الجماعي للأوطان. وهم يطيعون نداءه الخفي والمستتر واثقين بشكل ما أنهم على حق، موقنين بطريقة أو بأخرى أنه سلامتهم وسلامهم» اهـ. وفي هذه الحقبة أقام الأدب حيث ارتحلت العقيدة الدينية، وغدت أفكار العهد القديم أكثر مصادر الإلهام لفناني وشعراء العهد الجديد لا في إنجلترا فحسب، بل في القارة الأوروپية كذلك. ولدى دراسة هذا الأدب يتبين أنه عمل عن غير قصد على استمرار تعزيز الارتباط بين اليهود وفلسطين (¬3). وفي هذه الحقبة كذلك تأججت روح الاستكشافات الجغرافية والتطلعات الإمپريالية الأوروپية، التي توجهت بأنظارها نحو الشرق بكنوزه وثرواته، والذي كان حينها في حوزة رجل أوروپاالمريض المشارف على الهلاك! ومن القوى الأوروپية علت في هذا الوقت ثلاثة: البريطانية والفرنسية والروسية، «وكان الأمر الذي يقض مضاجع أوروپافي القرن التاسع عشر هو طموح روسيا للتقدم جنوبًا، وهي التي كانت تنتظر بفارغ الصبر في عهد نيكولا الأول Nicholas I ¬

(¬1) السابق. (¬2) محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (1/ 27). (¬3) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (52 - 3، 58) باختصار وتصرف.

[1796 - 1855 م] سقوط الإمپراطورية العثمانية أملًا في أن يمهد ذلك لها الطريق للتوسع في اتجاه البلقان. ومع بداية القرن التاسع عشر كانت قوة روسيا في المنطقة تنذر بالخطر، لا بسبب وجود أسطولها في البحر الأسود فحسب، بل لأنها كانت قد احتلت بعض أراضي الإمپراطورية العثمانية على أثر سلسلة من الحروب (الروسية-التركية). فضلًا عن ذلك، فإن روسيا كانت قد حصلت على حق حماية مصالح جميع رعايا السلطان من الأرثوذكس» (¬1). ولذلك كان عظيم الأثر في بروز فكرة البعث القومي اليهودي من جديد بقوة في الثقافة الغربية الأوروپية، خاصة أنه كان «أكثر الأوقات ملاءمة من الناحية السياسية؛ فخلال القرن التاسع عشر أصبح الوجود اليهودي في فلسطين، بغض النظر عن دلالاته النبوئية الدينية السابقة، ودلالاته في مناصرة النفعية والسامية، قضية سياسية بالنسبة للدول الأوروپية التي كانت تصبو إلى التوسع فيما وراء البحار، وإقامة الإمپراطوريات. وتم ربط الأفكار الدينية والإنسانية بذكاء مع السياسة الواقعية القائمة على الحصول على نفوذ في الشرق الأدنى أو تقويته. وأصبحت السلطات الدينية والدنيوية تتاجر بالأفكار الصهيونية، نظرًا لجدواها المحتملة في الوضع السياسي السائد. ووجدت فلسطين نفسها تدور فجأة في فلك السياسة الأوروپية وواقعة تحت قوى النفوذ المتصارعة للدول الرئيسة جميعًا (وهي فرنسا وبريطانيا وروسيا)، وكان ذلك تحت شعار (المسألة الشرقية The Eastern/Oriental Question)» (¬2) . وكانت الكتلة اليهودية الأوروپية قد بلغ تعدادها في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر الميلادي مليونًا وسبعمائة وخمسين ألفًا (من جملة مليونين ومائتين وخمسين ألفًا) (¬3)، مما جعل القوى السياسية الأوروپية تنظر إليها على أنها ثروة بشرية ثمينة من ¬

(¬1) السابق، ص (79). (¬2) السابق، ص (78 - 9) بتصرف يسير. والمسألة الشرقية هي مسألة تتعلق بوجود العثمانيين المسلمين في أوروپاومحاولة الدول الأوروپية الكبرى طردهم منها وتصفية أملاكهم. (¬3) انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (3/ عصر الاستنارة (القرن الثامن عشر)).

بوناپارت وتلاقي المسألتين اليهودية والشرقية

الممكن استغلالها لتحقيق الطموحات التوسعية في بلاد المشرق العربي، خاصة أنه، من ناحية أخرى، بعد رواج الأفكار الليبرالية للثورة الفرنسية بين الشعوب الأوروپية النصرانية على اختلاف طبقات أفرادها، نمت جذور مشكلة أخرى، وهي ما عرف باسم (المسألة اليهودية The Jewish Question) (¬1) ، التي أخذت في التجذُّر والتشعب حتى استفحل أمرها، وصارت عبئًا على التربة الأوروپية، حتى ظهرت الحلول لاقتلاعها، وكان أبرز هذه الحلول هو الحل الاندماجي (الليبرالي) والحل الصهيوني (العقائدي/السياسي)، وكما يقول الدكتور حسن ظاظا (¬2): «كثرت الحلول المقترحة لها، وقُدِّر لأسوأ هذه الحلول - وهو الحل الصهيوني - أن يشق طريقه إلى مسرح الحوادث فيرتع عليه حتى الآن». وكان أول من لجأ إلى هذا الحل الصهيوني هو الإمپراطور الفرنسي، السفاح ناپليون بوناپارت Napoléon Bonaparte (1769 - 1821 م). ... بوناپارت وتلاقي المسألتين اليهودية والشرقية: حينما اندلعت الثورة الفرنسية، مَنَحَت اليهود كل حقوق المواطنين، وهو ما عبَّر عنه شعار «لليهود أفرادًا كل شيء، ولليهود جماعة لا شيء». ولم تجر إثارة أي جدل بشأن اليهود السفارد الذين كانوا يتحدثون إما اللغة الفرنسية أو اللادينو Ladino - وهي رطانة إسپانية قريبة الشبه بالفرنسية -، وكانوا يعملون في التجارة الدولية وفي الصناعة، ويتمتعون بمعظم حقوق المواطنين الفرنسيين، وكان نظامهم التعليمي متطورًا. أما اليهود الأشكناز، فكانوا محور المناقشة بسبب تَميُّزهم الوظيفي والثقافي، كما كانوا محط احتقار إخوانهم من السفارد .. وإلى جانب هذا، كان اليهود الأشكناز محط كراهية عميقة من الجماهير المسيحية. وعشية الثورة الفرنسية نوقشت المسألة اليهودية الأشكنازية، والتي تم طرحها على ¬

(¬1) سيأتي التعريف بها في موضعه. (¬2) د. حسن ظاظا: الشخصية الإسرائيلية، ص (42).

النحو التالي: هل اليهود فرنسيون أم إنهم أمة داخل أمة؟ وعزف أعداء اليهود على نغمة (الخطر اليهودي) وأشاروا إلى أن اليهود جسم متماسك غريب منبوذ، ولذا فلا بد من التخلص منه. أما العقلانيون، فكانوا يطرحون الخط الاندماجي الذي يرى أن مشكلة اليهود الأشكناز ليست مسألة كامنة في طبيعتهم وإنما تنبع من وضعهم الشاذ ومن إنكار حقوقهم السياسية والمدنية، وأن الحل يكمن في تحديث اليهود وإعتاقهم، أي إعطائهم حقوقهم كاملة وتشجيعهم على الاندماج مقابل أن يتخلوا عن خصوصيتهم اللغوية والثقافية والإثنية في الحياة العامة. وهذا هو المعنى الذي تضمنته عبارة اليهودي الألماني موسى مندلسون Moses Mendelssohn (1729 - 1786 م) رائد حركة التنوير اليهودية (الهسكالاه Haskalah)، قال: «كن يهوديًا في بيتك، ومواطنًا مخلصًا في الطريق». وحاول الأشكناز من جانبهم الإبقاء على عزلتهم المتمثلة في القهال وفي رفض المؤسسات الحديثة التي أنشأتها الثورة. ومما زاد المسألة اليهودية الأشكنازية تفاقمًا، أن كثيرًا من الفلاحين الفرنسيين الذين اشتروا أراضي كبار الملاك التي صادرتها الثورة اقترضوا الأموال اللازمة لإتمام هذه العملية من المرابين اليهود، ولكنهم عجزوا عن تأدية ديونهم، وهو ما جعل أعضاء الجماعة اليهودية محط السخط الشعبي في الفترة ما بين (1802 - 1805م). ومن هنا طرحت المسألة اليهودية نفسها على ناپليون. وقد كان لدى ناپليون بعض الخبرة بشأن أبعاد المسألة اليهودية، وكان قد انتهى لتوه من تنظيم علاقة الدولة بالكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الپروتستانتية، ولم يبق سوى تنظيم علاقتها باليهودية. فأوقف كل الديون، ثم دعا عام 1806م إلى عقد مجلس ضم مائة عضو من وجهاء اليهود في الأراضي الخاضعة لحكم فرنسا. وترأس مجلس الوجهاء يهودي سفاردي من بوردو Bordeaux، وطرح عليهم اثنى عشر سؤالًا عن موقف اليهود من بعض القضايا الاجتماعية والاقتصادية والدينية المهمة المتعلقة بعلاقتهم بوطنهم (¬1). ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ فرنسا منذ الثورة) باختصار وتصرف.

وكانت الأسئلة هي: 1 - هل تعدد الزوجات مباح في الشريعة اليهودية؟ 2 - هل يملك اليهودي حق الطلاق بدون الرجوع إلى القضاء الفرنسي؟ 3 - هل يجوز زواج اليهودية من مسيحي، وكذلك العكس؟ 4 - هل يعتقد اليهودي الفرنسي أن المسيحي الفرنسي غريب من الجوييم؟ 5 - ما الروابط التي تربط يهود فرنسا بالوطن حسب الشريعة اليهودية؟ 6 - هل يلتزم اليهودي الفرنسي بكل واجبات المواطن حتى الخدمة العسكرية؟ 7 - من الذي ينتخب الحاخاميين؟ 8 - هل يملك الحاخام سلطة محاكمة اليهودي ومعاقبته خارج قوانين الدولة؟ 9 - هل اختيار الحاخام وسلطته نابعان من الدين، أم هي مجرد تقاليد؟ 10 - هل هناك حرف وأعمال يحرمها الدين اليهودي على أتباعه؟ 11 - هل تحرم الشريعة الربا بين اليهود؟ 12 - هل تبيح هذه الشريعة لليهودي الربا من غير اليهود؟ ورفع السنهدرين مقرراته إلى لجنة پرلمانية اجتمعت يوم 25 مارس، ثم عادت إلى الاجتماع يوم 6 إپريل، فأقرت الإجابات التي صدرت عن هذا السنهدرين الحديث، وأدخلتها ضمن قوانين الأحوال الشخصية للدولة. وتتلخص الإجابات المذكورة فيما يلي: - تعدد الزوجات محرم على اليهود بفتوى من الربي چرشوم Gershom (960/ 1040 - ؟ م). - لا مانع من أن تكون أحكام الطلاق لليهود صادرة من محاكم الدولة. - الزواج اليهودي رباط قانوني بين الزوجين مطابق لقوانين البلاد. - الزواج المختلط بين اليهود وغيرهم صحيح مدنيًا باطل دينيًا. - مفروض على اليهودي اعتبار مواطنه غير اليهودي أخًا له كابن دينه. - يعتبر اليهود أوطانهم التي ولدوا فيها أو هاجروا إليها كأرض آبائهم تمامًا.

- لا تحرم الشريعة اليهودية أي نوع من الحرف أو الفنون أو الأعمال. - توصي الديانة اليهودية بممارسة الزراعة والصناعة والحرف كما صنع الآباء في فلسطين. - الربا محرم على اليهود فيما بينهم، وكذلك مع أبناء الأمم الأخرى المسيحيين. ونلاحظ من خلال هذه الإجابات - ومن تحريم المناقشة على اليهود غير الفرنسيين كذلك -، أن هذا السنهدرين كان ديپلوماسيًا أكثر منه شرعيًا، وبصراحة كان ينافق الإمپراطور، بهدف اكتساب حقوق مدنية في الدستور الفرنسي، ولوكان ثمن ذلك إجابات تتضمن كثيرًا من الغش والانحراف عن منطوق الشريعة ومفهومها في العقل اليهودي (¬1). وبحلول عام 1811م، كان قد تم تطبيع أعداد كبيرة من اليهود في فرنسا إلى حد كبير، وبرغم كل التعثرات، فإن فرنسا أثبتت قدرة غير عادية على استيعاب اليهود وهضمهم، حتى أن اليهود كانوا يعبِّرون عن دهشتهم لهذه المقدرة، فكانوا يشيرون إلى فرنسا بأنها «البلد الذي يأكل اليهود!». ومما يجدر ذكره أن ناپليون -كما تبنَّى في إطار محاولته تأسيس الدولة الفرنسية الحديثة سياسة تهدف إلى دمج أعضاء الجماعات اليهودية ودعاهم إلى نبذ خصوصيتهم - تبنَّى سياسة مغايرة تمامًا في إطار سياسته الإمپريالية؛ إذ دعاهم للعودة إلى فلسطين لإحياء تراثهم العبري القديم مستخدمًا ديباجات صهيونية تؤكد أن اليهود ليسوا أقليات دينية تندمج في أوطانها وإنما شعب عضوي يجب أن يُرحَّل إلى فلسطين (¬2). تقول ريچينا الشريف (¬3): «قلة فقط هم الذين لا يجهلون الآن حقيقة أن ناپليون بوناپارت كان أول رجل دولة يقترح إقامة دولة يهودية في فلسطين قبل وعد بلفور بمائة ¬

(¬1) د. حسن ظاظا: الشخصية الإسرائيلية، ص (55 - 7) باختصار وتصرف يسير. (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ فرنسا منذ الثورة) بتصرف. (¬3) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (74).

وثماني عشرة سنة، بل إن وايزمان وصف ناپليون بأنه "أول الصهيونيين الحديثين غير اليهود"» اهـ. كانت فكرة ناپليون (العبقرية) في ربط وتوليف واستغلال الظواهر البادية مع مقدمات القرن التاسع عشر تتمثل في عدة خطوات: 1 - استعمال ظاهرة الوطنية في إيقاظ وعي يهودي يلتقط فكرة حق تقرير المصير، ويطالب بوطن قومي لليهود ينقذهم من الشتات ويريحهم - ويريح أوروپاأكثر - من عبء موجات الهجرة المتدفقة من يهود الشرق. 2 - اللعب على الوتر الديني اليهودي، وأساطيره، لتكون فلسطين - وهي وقتئذ من أملاك الخلافة العثمانية التي يتسابق الكل على إرثها - وطن اليهود الموعود والمختار. 3 - فإذا نشأت دولة يهودية برعاية فرنسا في فلسطين، فتلك إذن نقطة بداية مهمة لخططها الإمپراطورية في قلب أملاك الخلافة العثمانية. 4 - وإذا نجحت هذه التوجهات فإن فرنسا تكون قد بدأت عملية إرث الخلافة، وتكون قد حصلت على النصيب الأكبر من التركة قبل أن تتنبه القوى الأخرى وتتحرك. وحتى إذا تحركت فإن فرنسا سوف تكون بالفعل هناك قبل الكل وفي موقع أقوى وأفضل. وكانت حملته الشهيرة على مصر (1798م) - حملة النيل كما سماها - تستهدف غرضين في نفس الوقت (¬1): ¬

(¬1) يقول أبو فهر رحمه الله: «كان أول من حرَّض فرنسا على اختراق دار الإسلام في مصر، هو الفيلسوف الرياضي الألماني جوتفريد فيلهيلم (لايبنتس) Gottfried Wilhelm Leibniz [1646 - 1716 م]، وكان قد التحق بالسلك الديپلوماسي، وقضى أربعة أعوام في پاريس (1672 - 1676م) في بلاط لويس الرابع عشر Louis XIV [1638 - 1715 م]، فقدم إليه في سنة 1672م تقريرًا يحرِّضه فيه على اختراق دار الإسلام في مصر، ويقول له فيه: "إنكم تضمنون بذلك بسط سلطان فرنسا وسيادتها في بلاد المشرق (أي في دار الإسلام) إلى ما شاء الله، وتكسبون عطف المسيحية وتستحقون ثناءها، وهنالك لا تخسرون عطف أوروپا، بل تجدونها مجمعة على الإعجاب بكم"». ثم يعلق أبو فهر قائلًا: «فأعجب لفيلسوف رياضي ألماني لم تشغله رياضته ولا فلسفته عن تحريض فرنسا على غزو مصر، لتكسب عطف المسيحية الشمالية وتستحق ثناءها، وتضمن بسط سلطانها على دار الإسلام إلى ما شاء الله!! وذلك قبل حملة ناپليون بأكثر من مائة سنة» اهـ[انظر، أبو فهر محمود شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص (114 - 5) بتصرف يسير].

1 - احتلال مصر كبداية لعملية إرث الخلافة، والزحف منها إلى فلسطين والشام. 2 - ثم العمل على قطع طرق المواصلات البريطانية، وهو يومئذ عقد من اللآلئ حبة بعد حبة، وآخرها أغلى الجواهر في التاج البريطاني، وهي الهند. وفي سبيل تحقيق أغراضه، لم يتردد ناپليون أمام الموانع والذرائع؛ فعند غزو مصر كان ادعاؤه أنه الصديق الصدوق لخليفة المسلمين العثماني، وأنه الحريص على تثبيت سلطانه المهدد من المماليك في الداخل أو الملوك المسيحيين في الخارج، ووصل ناپليون إلى حد ادعاء الإسلام إيمانًا - كما قال! - بصدق وصفاء تعاليمه. ولم يخف عليه خطورة التقاء الضلعين (المصري والسوري)؛ فلقد أدرك ناپليون أن التقاء الزاوية الجنوبية الشرقية للبحر المتوسط ودخولها في إطار سياسي واحد يجعل كل ضلع منها تأمينًا للضلع الثاني، وهو ما سعى إليه على مر العصور فراعنة مصر وأباطرة الإغريق وقياصرة الرومان وأكاسرة الفرس، بل والفاتحون المسلمون كذلك، ولكن لم يكن ذلك من مصلحة ناپليون. ولذا، ولكي يضمن عدم التقاء الضلعين عربيًا وإسلاميًا، فإن عليه أن يزرع عند نقطة التقائهما، أي عند مركز الزاوية، شيئًا آخر لا هو عربي ولا هو إسلامي. لكن هذا الزرع لا يمكن خلقه من العدم، وإنما يحتاج خلقه إلى بذور وإن كانت من چينات حفريات الأنثروپولوچيا بحيث يمكن غرسها في التربة، فإن جرى ريها وأورق بعضها فحينئذ قد يصعب التمييز بين الأصيل والدخيل، وبين الطبيعي والهجين. ولذا، عندما بدأ ناپليون زحفه من مصر إلى الشام داخلًا من فلسطين، توقفت جيوشه عند أسوار القدس وعكا ويافا، وغيرها من حصون المسلمين. وهنا أزاح ناپليون ورقته الإسلامية وأخرج ورقة ثانية يهودية! وكانت ورقة ناپليون اليهودية التي أظهرها أمام أسوار القدس، نداء إلى يهود العالم لم يوزع في فلسطين وحدها، وإنما جرى توزيعه في الوقت نفسه في فرنسا، وإيطاليا، والإمارات الألمانية، وحتى في إسپانيا، الأمر الذي يشير إلى أن القضية أكبر وأوسع من ظرف محلي واجهه ناپليون حينما استعصت عليه أسوار القدس. كان نداء ناپليون إلى يهود العالم على النحو التالي: "من ناپليون بوناپارت القائد

الأعلى للقوات المسلحة للجمهورية الفرنسية في إفريقيا وآسيا إلى ورثة فلسطين الشرعيين: أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد، الذي لم تستطع قوى الفتح والطغيان أن تسلبه نسبه ووجوده القومي، وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد فقط. إن مراقبي مصائر الشعوب الواعين المحايدين - وإن لم تكن لهم مقدرة الأنبياء مثل أشعياء ويوئيل - قد أدركوا ما تنبأ به هؤلاء بإيمانهم الرفيع أن عبيد الله سيعودون إلى صهيون وهم ينشدون، وسوف تعمهم السعادة حين يستعيدون مملكتهم دون خوف. انهضوا بقوة أيها المشردون في التيه. إن أمامكم حربًا هائلة يخوضها شعبكم بعد أن اعتبر أعداؤه أن أرضه التي ورثها عن الأجداد غنيمة تقسم بينهم حسب أهواءهم ... لا بد من نسيان ذلك العار الذي أوقعكم تحت نير العبودية، وذلك الخزي الذي شل إرادتكم لألفي سنة. إن الظروف لم تكن تسمح بإعلان مطالبكم أو التعبير عنها، بل إن هذه الظروف أرغمتكم بالقسر على التخلي عن حقكم، ولهذا فإن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل، وهي تفعل ذلك في هذا الوقت بالذات، وعلى الرغم من شواهد اليأس والعجز. إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به، ويمشي بالنصر أمامه وبالعدل وراءه، قد اختار القدس مقرًا لقيادته، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق المجاورة التي استهانت طويلًا بمدينة داود وأذلتها. يا ورثة فلسطين الشرعيين ... إن الأمة الفرنسية التي لا تتاجر بالرجال والأوطان كما فعل غيرها، تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء. انهضوا وأظهروا أن قوة الطغاة القاهرة لم تخمد شجاعة أحفاد هؤلاء الأبطال الذين كان تحالفهم الأخوي شرفًا لإسپرطة وروما، وأن معاملة العبيد التي طالت ألفي سنة لم تفلح في قتل هذه الشجاعة. سارعوا! إن هذه هي اللحظة المناسبة - التي قد لا تتكرر لآلاف السنين - للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي سلبت منكم لآلاف السنين وهي وجودكم السياسي كأمة بين الأمم، وحقكم الطبيعي المطلق في عبادة إلهكم

إنجلترا تتلقف الراية

يهوه، طبقًا لعقيدتكم، وافعلوا ذلك في العلن وافعلوه إلى الأبد. بوناپارت" (¬1). وهكذا تجيء (ورقة ناپليون) اليهودية تصورًا للمستقبل ورؤية - ولكنها لم تكن (رؤية نبي)، وإنما كانت رؤية إمپراطور يملك حسًّا استراتيچيًا نابهًا وبعيدًا -، وربما لا تتحقق بسرعة، لكنها قابلة للتحقيق في مستقبل الأيام، وبها قد ينشأ وطن يهودي يكون ضمانًا إضافيًا إذا أمكن، ويكون عازلًا إذا اقتضت الضرورات! وفي صياغتها فإن صاحبها استخدم مطالب الإمپراطورية ودروس التاريخ والأسطورة الدينية القديمة وحوَّلها إلى استراتيچية. والثابت أن ناپليون لم يتخل عن تقديراته الاستراتيچية حتى بعد أن اضطر إلى التسلل ليلًا من مصر والعودة إلى فرنسا، وراح يواصل من پاريس صراعه للسيطرة على أوروپا، إلى حيث تحمله جياده وتصل مرامي مدافعه! (¬2). ... إنجلترا تتلقف الراية: إن عجلة التاريخ لم يتوقف دورانها، ولقد استطاعت بريطانيا دحر خطط ناپليون، واستفتحت بتدمير الأميرال هوراشيو نيلسون Horatio Nelson (1758 - 1805 م) لأسطول ناپليون عند مصب النيل في معركة أبي قير (1 - 2 أغسطس 1798م)، وختمت ¬

(¬1) تقول باربرا تخمان: «هذا الإعلان لم يعثر عليه أبدًا، وإنما بقي محتواه غير معلوم حتى وجدت نسخة منه مترجمة إلى الألمانية، ووجدت طريقها إلى النور عام 1940م في أرشيف عائلة فينيسية ذات أصل يهودي كانت مع ناپليون في حملته. وحتى حينه كانت فكرة وجود الإعلان معروفة فقط عن طريق ذكرها في (لومونيتور Le Moniteur) عدد مايو 1799م، وهي السجل الفرنسي الرسمي ... وربما يكون [ناپليون] قد مزق النص الأصلي لوعده العظيم لليهود في خضم مرارته، وبلا شك فقد حاول أن يغطي الموضوع كله لرفضه أن يذكِّره شيء بالمغامرة المهينة» اهـ[باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (2/ 23، 28)]. (¬2) مستفاد من: محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (1/ 29 - 37) باختصار وتصرف.

بتدمير دوق ولنجتون الأول، آرثر ويليسلي Arthur Wellesley, 1st Duke of Wellington (1769 - 1852 م) لجيوش ناپليون على سهول بلچيكا في معركة ووترلو Waterloo (18/ 6/1815 م). لكن الرؤى الاستراتيچية الواسعة للفاتحين (!) الكبار لا تموت بموتهم، وإنما تبقى في حافظة التاريخ بعدهم تنتظر غيرهم ممن يجدون الجرأة والجسارة على استعادتها من جديد جزئيًا أو كليًا (¬1). وهكذا، فإن بعد سنوات قليلة من الفوضى والارتباك استقر حلم جمع الزاوية الشرقية الجنوبية للبحر الأبيض بضلعيها المصري والسوري في يد سِرْشِشْمَة (¬2) ألباني منشَق، المكيافيللي (¬3) المحارب لدعوة التوحيد (¬4)، محمد علي پاشا (1769 - 1849م). لقد وضع محمد علي حدًّا لآمال الدول الغربية التي كانت تترقب اللحظة المواتية لاقتسام تركة الرجل المريض المحتضر، «وكان هذا الوضع السياسي في الشرق يتطلب من بريطانيا أن تبذل قصارى جهدها لإبقاء الإمپراطورية العثمانية سليمة؛ فقد كانت بريطانيا بحاجة إلى من تحميه في الشرق الأدنى ليرعى مصالحها في المستقبل هناك. وبالمقارنة بالفرنسيين الذين كانوا يتمتعون بنفوذ محلي باعتبارهم حماة الكاثوليك، والروس الذين كانوا يدعمون اليونان الأرثوذكس، فلم يكن لبريطانيا من تشمله بحمايتها بسبب الدين المشترك. وكانت مخاوف بريطانيا على مركزها في الشرق الأدنى مركزة على فرنسا وروسيا اللتين كانتا تتلهفان على موت رجل أوروپاالمريض أملًا في الحصول على نصيبهما من تركة الإمپراطورية» (¬5). ¬

(¬1) السابق (1/ 38) بتصرف. (¬2) سِرْشِشْمَة: درجة بسيطة يلقَّب بها قائد عدد من الجنود في الدولة العثمانية. (¬3) مما يروى أنه قيل لمحمد علي ذات مرة أن مكيافيللي ألَّف كتابًا اسمه الأمير، فكلَّف أحد النصارى المحيطين به - وقد اعتاد أن يكون أغلب مرافقيه من النصارى واليهود - واسمه أرتين أفندي بترجمة هذا الكتاب، وأن يوافيه كل يوم بصفحة مترجمة، فلما وصل إلى الصفحة العاشرة توقف عن المواصلة قائلًا بأنه يمتلك من الحيل ما لم يخطر لمكيافيللي على بال!! [انظر، د. علي الصلابي: الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، ص (407)]. (¬4) انظر في ذلك، د. محمد إسماعيل المقدم: خواطر حول الوهابية، ص (54) وما بعدها. (¬5) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (80) بتصرف يسير.

ولقد شهد القرن الثامن عشر صحوة إفانجليكية (¬1) إنجليزية عادت فيها - كما تذكر تخمان - (¬2) «حركة الپندول إلى الناحية الأخرى من بعد الهيلينية التي اتسم بها القرن الثامن عشر، إلى النزعة العبرية الجادة مرة أخرى». تقول (¬3): «لقد عادت هذه النزعة الدينية إلى المسيحية بعد صدمة الثورة الفرنسية (الملحدة) لتدفئ القلوب المسيحية الباردة وتملأها بالورع. وبدأت هذه الصحوة التبشيرية تؤثر بشكل كبير في الطبقة العليا التي أصبحت تهيء نفسها معنويًا وسياسيًا - بحرص شديد - بسبب الخوف مما كان يحدث في فرنسا. ومن أجل تجنب الابن الفظيع للمدرسة العقلانية، الثورة، فقد كانت هذه الطبقة مستعدة للانضمام اللافكري إلى المذهب الإيفانجليكاني حتى لو تطلب الأمر الإيمان والأعمال الصالحة والارتياب في كل ما هو ملحد. وأصبح الذهاب إلى الكنيسة والوعظ والإيمان المطلق بالكتاب المقدس من مظاهر الذوق الرفيع مرة أخر، لقد اقتطف تريفيليان G. M. Trevelyan [1876 - 1962 م] نصًّا من أرشيف السجل السنوي في إنجلترا لسنة 1798م يقول: "لقد أصابت الدهشة أفراد الطبقة الدنيا في جميع أنحاء إنجلترا حينما رأوا الساحات المؤدية إلى الكنائس مليئة بالعربات، وهذا المظهر الجديد جعل أهل الريف البسطاء يتساءلون عما يحدث". كل ما في الأمر أنه قد ظهرت روح الپيوريتانز مرة أخرى Neo Puritanism، وأصبح على إنجلترا أن تحقن نفسها بجرعة من الورع مرة أخرى. وكان الإيفانجليكيون مثل الپيوريتانز محلًا للسخرية بسبب هذه النزعة الدينية، والشعور بأن لديهم مهمة دينية معينة، والوعظ المستمر والتعبد أيام الآحاد والتحدث بالكتاب المقدس. وهناك أمزوحة قيلت عن صراع الپيوريتانز مع الأسرة الحاكمة: إن أحد طرفي الصراع مخطئ ولكنه ¬

(¬1) الإفانجليكية أو الإنجيلية: هي حركة دينية نصرانية پروتستانتية ظهرت في إنجلترا في عام 1730م، وتتميز تعاليمها بالتشديد على المعنى الحرفي لنصوص الكتاب المقدس. (¬2) باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (2/ 44). (¬3) السابق (2/ 45 - 6).

رومانسي، والطرف الآخر على صواب ولكنه مثير للاشمئزاز» اهـ (¬1). ولقد أدَّى دور البطولة في هذه الفترة (القرن التاسع عشر تحديدًا) لورد شافتسبري السابع، أنطوني أشلي كوپر Anthony Ashely-Cooper, 7th Earl of Shaftesbury (1801 - 1855 م)، وصهره وزير الخارجية لورد پالمرستون الثالث، هنري چون تمپل Henry John Temple, 3rd Viscount Palmerston (1784 - 1865 م) .. يقول المسيري (¬2): «يمكن القول: إن لورد شافتسبري السابع هو أهم مفكر صهيوني استعماري غربي غير يهودي في هذه المرحلة وواحد من أهم الشخصيات الإنجليزية في القرن التاسع عشر ... وكان تفكير شافتسبري خليطًا مدهشًا من العناصر الاجتماعية والدينية والتاريخية، يتداخل في عقله الوقت الحاضر بالزمان الغابر بالتاريخ المقدس». وتقول ريچينا الشريف (¬3): «كان لورد شافتسبري شأنه شأن الكثير ممن سبقوه، يتصور قيام دولة يهودية في فلسطين. وكان شافتسبري ككرومويل مهتمًا باليهود كشعب، ولكن تركيزه كان منصبًا على إعادة هذا الشعب لفلسطين. وكان يختلف عن كرومويل في أنه لم يناد بالخلاص المدني أو السياسي لليهود في إنجلترا، محتجًا بأن السماح لهم بدخول الپرلمان دون أداء القسم "على الإيمان الصادق بالمسيحية" يعتبر خرقًا للمبادئ الدينية. وحين أقر الپرلمان (قانون الخلاص) عام 1861م لم يكن المبشرون الإنجيليون المعروفون بحبهم (لشعب الله القديم) هم الذين أيدوا إعطاء اليهود حق المواطنة الكاملة، بل الليبراليون الذين كانوا أقل منهم تقوى بكثير. وفي عام 1839م نشرت صحيفة (كوارترلي ريفيو Quarterly Review) الإنجليزية المعروفة مقال شافتسبري المكون من 30 صفحة عن (دولة وآمال اليهود State and Prospects of the Jews)، والذي لخص فيه فكرته عن العودة ¬

(¬1) باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (2/ 45 - 6). (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (99) باختصار. (¬3) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (62) بتصرف يسير.

اليهودية. وكان قيام واحدة من أكثر المجلات نفوذًا بنشر مقال يؤيد عودة اليهود دليلًا آنذاك على التأييد الذي لم يعد مقتصرًا على مجموعات دينية معينة، بل تعداها إلى الاعتراف الشعبي العام. وفي هذا المقال عبر شافتسبري عن اهتمامه بالجنس العبري وعارض بشدة فكرة الخلاص والدمج بحجة أن اليهود سيبقون غرباء في كل مكان إلا في فلسطين. وكان انشغال شافتسبري المستمر بعودة اليهود إلى فلسطين كشعب هو الذي جعله النصير الرئيس لمثل هذه الخطة قبل أن تنتشر في أوساط المؤسسة البريطانية الاستعمارية والسياسية. وكان أشد اقتناعًا من الپيوريتانيين الذين سبقوه بأن الوسيلة البشرية قد تحقق أهدافًا سماوية - وهو المبدأ الذي لم يكن مقبولًا لدى غالبية اليهود آنذاك -، وجعل شافتسبري أكبر همه إقناع قرنائه الإنجليز بأن اليهود ليسوا أهلًا للخلاص فحسب، ولكنهم عنصر حيوي في أمل المسيحية بالخلاص على الرغم من أنهم متعجرفون، سود القلوب، ومنغمسون في الانحطاط الخلقي والعناد والجهل بالإنجيل. وكانت فلسطين في مخيلة شافتسبري بلدًا مهجورًا، وكان هو واضع شعار "وطن بدون شعب لشعب بدون وطن" الذي حوله الصهيونيون فيما بعد إلى "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"» اهـ. ترى باربرا تخمان أن دوافع لورد شافتسبري كانت دينية صرفة، فتقول (¬1): «أصبح [شافتسبري] أكثر الشخصيات غير السياسية نفوذًا في العصر الفيكتوري [عصر الملكة فيكتوريا Queen Victoria (1819 - 1901 م)] بعد داروين. لقد كانت دوافعه دينية، وليست إمپريالية مثل دوافع وزير الخارجية. لقد كان شافتسبري يمثل الكتاب المقدس، وپالمرستون، إذا جاز لنا القول، يمثل السيف». وتنقل عنه قوله: «أنا إفانجليكي الإفانجليكيين» (¬2)، وتقول (¬3): «وقد أسس حياته على الاتباع الحرفي للكتاب المقدس. وكان يقول عنه "إنه كلام الله المكتوب من أول حرف فيه إلى آخر حرف ومن آخر حرف إلى أول حرف ... ولا شيء غير النص المقدس ¬

(¬1) باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (2/ 41). (¬2) السابق (2/ 48). (¬3) السابق (2/ 42) بتصرف يسير.

يمكنه تفسير نص مقدس آخر. لقد كنت سأرفضه لو أنه جاء لي من عند إنسان. ولكني أقبله وأؤمن به وأباركه حيث إنه نص مقدس ... ومثل بني إسرائيل فإنني أحني الرأس وأتعبد". وكما يقول لكاتب مذكراته الذي اختاره وهو إدوين هودر Edwin Hodder [1837 - 1904 م]، فإن الإيمان بعودة المسيح "كان دائمًا مبدًا محركًا في حياتي، فأنا أرى كل شيء يحدث في العالم يمهد لهذا الحدث العظيم". وبالنسبة له فإن اليهود هم ببساطة الأداة التي من خلالها يمكن أن تتحقق بشارة الكتاب المقدس. اليهود بالنسبة له ليسوا شعبًا، ولكن خطًا جماعيًا في حق المسيح، ويجب أن يتم إقناعهم بالإيمان به حتى يمكن للعجلة التي سوف تؤدي إلى الرجوع الثاني للمسيح وخلاص البشرية أن تدور» اهـ. ولكن يشير الدكتور المسيري إلى أنه «على الرغم من أن شافتسبري كان يستخدم ديباجة تبشيرية واضحة، فإنه كان مدركًا ضرورة تأكيد الأبعاد الجغرافية والسياسية والنفعية لمشروعه حتى يلقى قبولًا لدى صناع القرار الغربي» (¬1). وتؤكد ذلك جريس هالسل (1923 - 2000م) بقولها (¬2): «وجد [شافتسبري] في انتقال اليهود إلى فلسطين مكاسب تجارية. ورأى أن إقامة نقطة ارتكاز يهودية قوية في فلسطين تحت سيطرة بريطانيا تمكن بريطانيا من التفوق على فرنسا والهيمنة على الشرق الأدنى. كما توفر لبريطانيا ممرًا بريًا مباشرًا إلى الهند، وتفتح أسواقًا كبيرة أمام مصالحها الاقتصادية». وأيًا كان الأمر، فقد كان الوقت أكثر الأوقات ملاءمة من الناحية السياسية للورد شافتسبري وزملائه المتدينين لتشجيع الاستيطان اليهودي في فلسطين؛ فقد تضافرت خلال القرن التاسع عشر ثلاثة عوامل على اهتمام بريطانيا بفلسطين، وهي: - ميزان القوى الأوروپي. - وتأمين الهند المهددة من قبل فرنسا وروسيا. - وطريق العبور الآمن للهند عبر سورية. ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (101). (¬2) جريس هالسل: يد الله، لماذا تضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل، ص (78). وأصل تسمية الكتاب: دفع يد الله، تعالى الله عن ذلك. Grace Halsell: Forcing God's Hand

جذور المسألة اليهودية

ومنذ ذلك الحين بدأ ما وصفه وليام آر. پولك William R. Polk في كتابه (الستار الخلفي للتراچيديا Backdrop to Tragedy) بـ «الاتحاد العجيب بين سياسة الإمپراطورية ونوع من الصهيونية المسيحية الأبوية التي تتجلى في السياسة البريطانية فيما بعد» (¬1). والمتأمل يجد أن «المقدمات التي وضعوها وتتابع الأحداث السياسية والعسكرية أضفت على آرائهم عن الآخرة صبغة من الواقعية وولدت بين الجماهير اعتقادًا بأن ما كان يحدث أمام أبصارهم هو تسلسل أحداث سفر الرؤيا التي وردت في النبوءات على آخر الزمان» (¬2). ولكن ما لا شك فيه أن تطور المسألة اليهودية في أوروپازاد من الضغط على إنجلترا لاتخاذ خطوات سياسية أكثر إيجابية، ونحن لا يمكننا وضع تصور صحيح لمجريات الأحداث دون التوقف بعض الشيء لنبش جذور هذه المسألة اليهودية، والتي نمت بذرتها الأولى بين يهود پولندا وروسيا، أو يهود اليديشية (¬3) أو شرق أوروپاكما يطلق عليهم .. جذور المسألة اليهودية: يرجع تواجد اليهود في روسيا إلى القرن التاسع الميلادي حين توسعت مملكة الخزر اليهودية في وادي فولجا Volga ومناطق أخرى من روسيا. وقد اشترك يهود الخزر، حسبما ورد في الموروثات الشعبية الروسية، في المناظرة الدينية التي عقدت بين ممثلي الديانات الثلاث عام 986م أمام أمير كييف Kiev، وقد اعتنق بعدها المسيحية وأصبحت الأرثوذكسية هي الدين الرسمي لروسيا. وبعد أن استقر اليهود في المدينة ¬

(¬1) انظر، د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (63). (¬2) السابق، ص (58 - 9). (¬3) يهود اليديشية: هو مصطلح استخدمه يهود إنجلترا من السفارد وغيرهم، للإشارة إلى المهاجرين الأشكناز الجدد من روسيا وپولندا. واللهجة اليديشية التي تميز بها يهود شرق أوروپا، هي خليط من اللغة الألمانية أضيف إليها بعض الكلمات السلافية والعبرية، وكتبت بالحروف العبرية حتى أصبح يشار إليها باللغة اليديشية Yiddish language. وأصبحت هذه اللهجة، التي يُقال لها لغة، سمتهم الثقافية الأساسية التي حملوها معهم أينما ذهبوا.

باعتبارها مركزًا تجاريًا يربط بين منطقة البحر الأسود وآسيا وغرب أوروپاوأصبح لهم جيتو خاص بهم، قوبلوا بعداوة شديدة من بلد اعتنق المسيحية لتوه ويضم طبقة تجار بدائية للغاية (¬1). أما في پولندا، فتعود أصول اليهود إلى القرن الثاني عشر - أي وقت الحروب الصليبية -، حين بدأت تهاجر جماعات من اليهود الألمان مع التجار الألمان، واستوطنت پولندا بدعوة من حكامها لتشجيع حركة التجارة. وهم يشكلون أغلب يهود العالم (¬2). ومما شجع اليهود على الهجرة إلى پولندا، تدنِّي وضعهم في أوروپاالغربية إبان حروب الفرنجة، وفقدانهم وظيفتهم كتجار، وتَحوُّلهم إلى مرابين وتجار صغار. كما أن پولندا كانت البلد الوحيد تقريبًا في أوروپاالذي لا يتوقف فيه حق المواطنة على الانتماء إلى الكنيسة، كما كان الحال في بقية أوروپا؛ حيث كانت پولندا إمپراطورية تعددية تضم پولنديين كاثوليك وألمان وأوكران (¬3)، كما ضمت الأرثوذكس والفلمنك واليهود والأرمن والتتر المسلمين واليهود القرّائين ممن كانوا من أصل خزري ويتحدثون التركية، أي إن السكان كانوا يتبعون عددًا كبيرًا من الديانات وكانوا يتحدثون اثنتى عشرة لغة (¬4). وتحت حكم سيچسموند الأول Sigismund I (1467 - 1548 م) ملك پولندا ودوق ليتوانيا انتشرت الپروتستانتية في پولندا، الأمر الذي أدَّى إلى خلق جو من التعددية والتسامح. واستمر سيچسموند في سياسة تشجيع التجارة، فأصدر مراسيم تؤكد المزايا التي حصل عليها أعضاء الجماعة اليهودية. وأكد سيچسموند الثاني (1520 - 1572م) حقوق أعضاء الجماعة اليهودية، وزادت أهمية الدور الذي كانوا يلعبونه في الأعمال ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ روسيا من القرن التاسع حتى التقسيم الأول لپولندا) باختصار. (¬2) السابق (4/ يهود اليديشية أو يهود شرق أوروپا). (¬3) أو روثينيان، حيث كانت أوكرانيا قديمًا تسمى روثينيا. (¬4) السابق (4/ پولندا حتى القرن السادس عشر) بتصرف.

المالية كملتزمي ضرائب وصيارفة يعملون في الأمور المالية، وكان منهم عدد كبير من الأطباء (¬1). وجدير بالذكر أن المستوى المعيشي ليهود اليديشية حتى بداية القرن الثامن عشر، كان مرتفعًا قياسًا إلى عامة الشعب من الفلاحين والأقنان، بل إلى أعضاء الطبقات الوسطى الهزيلة في پولندا. وكان لا يفوقهم في مستواهم المعيشي سوى النبلاء الپولنديين (شلاختا Szlachta). بل إن النخبة الثرية بين اليهود كانت تعيش في مستوى اقتصادي يفوق صغار النبلاء (¬2). ولكن رغم استمرار سياسة التسامح هذه، استمر تدهور وضع أعضاء الجماعة اليهودية، وزادت محاولات الحد من نشاطهم التجاري والحرفي، وبدأت المدن تعطي نفسها السلطة القضائية على اليهود فأصدرت قرارات للحد من حرية إقامتهم فيها. وفي عام 1633م أسس أول جيتو. ونتيجة ضعف نفوذ الملك، وتَصاعُد نفوذ النبلاء، أصبح هؤلاء حماة الجماعة اليهودية واقترنت مصالح الأرستقراطية الاقتصادية بأعضاء الجماعة. وأدَّى هذا التقارب بين النبلاء واليهود إلى تغيير وضع يهود پولندا بشكل جوهري. ولا يمكن فهم التطورات اللاحقة التي أدَّت إلى ظهور الصهيونية إلا بفهم طبيعة هذا التحول (¬3) .. فمن منظور التطور السياسي اللاحق لپولندا، ومن منظور تبلور المسألة اليهودية في شرق أوروپاوظهور الصهيونية، كانت طبقة النبلاء هي أهم طبقات المجتمع الپولندي، وهي طبقة لم تكن قط تابعة للملك وإن كان قد نجح بعض الوقت في فرض سلطته عليها. وإذا كان التطور اللاحق في معظم أرجاء أوروپاهو تَعاظُم سلطة الملك داخل النظام الإقطاعي وتقليم أظافر النبلاء الإقطاعيين وتأسيس الدولة المطلقة تحت حكم الملوك المطلقين، فإن العكس هو الذي حدث في پولندا إذ تعاظم نفوذ النبلاء حتى أصبحوا الحكام الحقيقيين وأصحاب القرار في الدولة الپولندية. ¬

(¬1) السابق (4/ پولندا من القرن السادس عشر حتى انتفاضة القوزاق Cossacks). (¬2) السابق (4/ يهود اليديشية أو يهود شرق أوروپا). (¬3) السابق (4/ پولندا من القرن السادس عشر حتى انتفاضة القوزاق) باختصار.

ولعل تَزايُد نفوذ النبلاء يعود إلى سمة فريدة في پولندا بين الدول الغربية، وهي تعددية الإمپراطورية الپولندية إثنيًا وجغرافيًا ودينيًا (¬1). وكان النبلاء في پولندا، برغم سطوتهم وقوة نفوذهم، يتبعون قوانين جامدة، فكانوا يتمتعون بمكانتهم (إذا كانوا من صلب إحدى الأسر النبيلة) ما داموا لا يعملون بالتجارة، وكان اشتغالهم بالتجارة يعني فقدانهم مكانتهم ووضعهم. ولذا، كان يوجد نبلاء فقراء (النبلاء الحفاة) مُعْدِمُون يفضلون الجوع والفاقة على العمل بالتجارة. وأدَّى ذلك إلى التحالف بين قطاعات منهم وبين اليهود كعنصر تجاري نشيط يمتلك الخبرات والأموال المطلوبة للأعمال التجارية. وبلغت أهمية أعضاء الجماعة اليهودية درجة كبيرة حتى إنه حينما فكرت أعداد منهم في الهجرة إلى الدولة العثمانية في القرن السادس عشر، منعهم ملك پولندا بالإقناع والقوة. وكان أعضاء الجماعة اليهودية يستقرون في مدن صغيرة أسسها النبلاء، فكانوا يمنحونهم حق السكنى فيها نظير الدفاع عنها، وهي المدن التي عُرفت باسم (الشتتل Shtetl). وكان سكان هذه المدن من اليهود أساسًا. وكانت حاجة النبلاء الإقطاعيين إلى المال تزداد يومًا بعد يوم، فكانوا يقترضون من اليهود. وأدى هذا كله إلى ظهور نظام الأرندا Arenda (الاستئجار) كشكل أساسي من أشكال الإقطاع الاستيطاني. فكان النبيل الإقطاعي يستدين من المرابي اليهودي مبالغ طائلة للوفاء باحتياجاته بضمان ضيعته وغلتها وعوائدها. وبالتدريج، اضطلع أعضاء الجماعة اليهودية بعملية استئجار المزرعة وإدارتها نيابةً عن النبيل الإقطاعي الغائب في وارسو Warsaw (عاصمة پولندا)، والذي كان يترك زمام الأمور في يد الوكيل. لكل ما تقدَّم، أصبحت السلطة المباشرة شبه المطلقة في يد اليهودي الذي كان يدير الضيعة، فهو الذي يُطبِّق القانون ويقرر العقوبات والغرامات وينفذها بمساعدة الجنود الپولنديين (¬2). ¬

(¬1) السابق (4/ النبلاء الپولنديون (شلاختا)) بتصرف يسير. (¬2) السابق (4/ پولندا من القرن السادس عشر حتى انتفاضة القوزاق) باختصار.

ويمكن أن نرى هنا الجذور الحقيقية للمسألة اليهودية؛ إذ إن تحول اليهود إلى أداة استغلال، أو إلى جماعة وظيفية وسيطة، يعني أنهم كانوا يقفون ضد أغلبية طبقات المجتمع لا يرتبط مصيرهم بمصيره، وخصوصًا أن الطبقة التي ارتبطوا بها لم تكن طبقة وطنية، بل طبقة مرتبطة بالنفوذ الأجنبي. ولذا، فحينما ظهرت طبقة بورچوازية وطنية في پولندا، لم يكن بإمكان اليهود أن ينخرطوا في سلكها فظلوا خارجها. كما ارتبطوا بطبقة كانت عمليًا مسئولة عن ضعف پولندا وتَحوُّلها من دولة عظمى إلى دويلة صغيرة ثم عن اختفائها نهائيًا مع بداية القرن التاسع عشر. واختفت طبقة النبلاء مع تقسيم پولندا وتحول كثير من النبلاء إلى مهنيين (¬1). ولقد تعرَّض تماسُك يهود اليديشية لعدة هجمات وضربات من الخارج، كانت أولاها هجمات شميلنكي عام 1648م التي بدأت تُخلخل وضع الجماعة اليهودية (¬2)، ثم كانت الضربة الثانية تقسيم پولندا (الأول والثاني والثالث) في الفترة ما بين (1772 - 1795م) ¬

(¬1) السابق (4/ النبلاء الپولنديون (شلاختا)). (¬2) انتفاضة شميلنكي: هي انتفاضة شعبية جرت في أوكرانيا ضد الاستعمار الاستيطاني الپولندي وقوات الاحتلال التي كانت تحميه وكل المؤسسات التي تتبعه (الكنيسة الكاثوليكية والوكلاء اليهود)، قادها بوجدان شميلنكي Bohdan Chmielnicki (1595 - 1657 م). وتعد هذه الانتفاضة من أهم الحوادث التاريخية التي أثرت في الجماعات اليهودية في شرق أوروپا. وقد كانت انتفاضة شميلنكي في جوهرها شكلًا من أشكال الثورة الشعبية لا تختلف عن مثيلاتها من ثورات الفلاحين ضد الإقطاعيين ووكلائهم. وهي عادةً ثورات تأخذ في البداية شكل غضب شعبي عارم ورغبة شديدة في الانتقام، وهو في جوهره رد فعل لا عقل له لعملية القمع القاسية اللاعقلانية التي كانت تُمارَس ضد الفلاحين. وحسبما جاء في المصادر اليهودية المعاصرة، فقد أُبيد نحو ثلث يهود أوكرانيا. ولكن المؤرخين يميلون الآن إلى القول بأن هذه الأرقام مُبالَغ فيها، كما يميلون إلى أن أعدادًا كبيرة من اليهود فرَّت ثم عادت بعد أن هدأت الأحوال قليلًا. وربما يفسر هذا استمرار تزايد أعداد اليهود بعد الانتفاضة. وتنظر الدراسات الصهيونية إلى هذه الحادثة نظرة اختزالية كوميدية؛ إذ تُصوِّر اليهود باعتبارهم أقلية صغيرة يعيش أعضاؤها آمنين في مدنهم الصغيرة يتحدثون اليديشية، لا علاقة لهم بعالم الأغيار، وفجأة يهب هذا العالم ويذبح آلاف اليهود (وتبدو الواقعة بأسرها وكأنها شيء فجائي ليس له سبب واضح لأننا لا ندرك دور اليهود الوظيفي أو علاقتهم بالأغيار الپولنديين). ومن ثم فإن انتفاضة شميلنكي تصبح (مذبحة شميلنكي) ويُقارَن شميلنكي بهتلر. [انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ انتفاضة شميلنكي)] ..

والذي انتهى باختفاء پولندا عام 1795م بوصفها وحدة سياسية مستقلة، وبتقسيمها بين الإمپراطورية الروسية والإمپراطورية النمساوية وألمانيا (پروسيا Prussia). وكانت الأراضي التي ضمتها روسيا تضم أكبر عدد من يهود اليديشية. وكانت البلاد الثلاثة التي اقتسمت پولندا فيما بينها بلادًا زراعية متخلفة. ومع هذا، بدأت تظهر فيها، بتشجيع من الملكيات المطلقة، اتجاهات نحو التصنيع. وكانت حكومات البلاد الثلاثة يحكمها حكام مطلقون مستنيرون (فريدريك الثاني في پروسيا Friedrich II (1712 - 1786 م)، وچوزيف الثاني في النمسا Joseph II (1741 - 1790 م)، وكاترين الثانية في روسيا Catherine II (1729 - 1796 م))، فتبنت هذه الحكومات مقياس مدى نفع اليهود وإمكانية إصلاحهم وتقليل عزلتهم. فتم تقسيمهم إلى نافعين وغير نافعين. وكان الهدف هو إصلاح اليهود، وزيادة عدد النافعين بينهم، وطرد الضارين منهم أو منع زيادة عددهم. وارتبطت هذه العملية بعملية إعتاق اليهود، فلم يكن يُعتَق منهم سوى النافعين. وتتميَّز الدول الثلاث بأن الدولة المركزية فيها كانت مطلقة ومستنيرة على عكس البيروقراطيات التابعة لها، التي كانت متخلفة وغير مستنيرة بالمرة ومليئة بالأحقاد ضد الأقليات، وخصوصًا في ظروف التحول الاجتماعي. ولذا، فحينما حاولت الدولة إصلاح اليهود بإصدار قرارات كانت البيروقراطية تعوق تنفيذ هذه القرارات. ولقد تلقَّى يهود اليديشية هذه الضربات من الخارج، في مرحلة كانت اليهودية تمر فيها بأخطر أزماتها الداخلية ابتداءً من القرن الثامن عشر (¬1)؛ فلقد كان معظم الجماهير اليهودية في تلك المرحلة قد ابتعد عن مراكز الدراسات التلمودية والتقاليد الثقافية الحاخامية التي كانت قد بدأت تفقد صلتها بالواقع، وأصبحت غير قادرة على الاستجابة للحاجة الروحية لدى الجماهير اليهودية، الأمر الذي أدَّى إلى انتشار القبَّالاه (¬2). ورغم ¬

(¬1) السابق (4/ يهود اليديشية أو يهود شرق أوروپا). (¬2) القبَّالاه Kabbalah: هي مجموعة التفسيرات والتأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود. والاسم مشتق من كلمة عبرية تفيد معنى التواتر أو القبول أو التقبل أو ما تلقاه المرء عن السلف. [للتوسع، انظر المرجع نفسه (5/ القبَّالاه: تاريخ)].

أن اليهود كانوا وسطاء ممثلين للإقطاع الپولندي، فإنهم اكتسبوا كثيرًا من صفات الفلاحين الأوكرانيين والپولنديين بكل خرافاتهم ونزعاتهم الدينية الغيبية، بل تأثروا بتقاليدهم الدينية المسيحية، وخصوصًا بجماعات المنشقين الدينيين الروس وبالـ (خليستي Khlysty) على وجه التحديد. وتزامن ظهور الحركة مع التدهور التدريجي للاقتصاد الپولندي إذ طُرد كثير من يهود الأرندا وأصحاب الحانات من القرى والمدن الصغيرة. وتسبَّب كل ذلك في ازدياد تَغلغُل الرؤى القبَّالية، الأمر الذي جعل أعضاء الجماعة اليهودية تربة خصبة للنزعات المشيحانية. ولذلك، ترك شبتاي تسِفي أعمق الأثر في بعض قطاعاتهم، وأصبحت پولندا، وخصوصًا پودوليا Podolia، مركزًا للحركات الشبتانية والفرانكية على وجه الخصوص. وفي نهاية الأمر، ظهرت الحسيدية في المناطق الزراعية في پولندا التي ضُمَّت فيما بعد إلى روسيا (وهي أوكرانيا وروسيا البيضاء). وكانت القيادة الاجتماعية للحركة الحسيدية هي الطبقة الوسطى الصغيرة من بقايا يهود الأرندا ومستأجري الحانات وأصحاب المحال الصغيرة والباعة المتجولين (¬1). ومما أدَّى كذلك إلى تفاقم الأوضاع السيئة الانفجار السكاني الذي حدث بين يهود العالم الغربي، وخصوصًا يهود اليديشية، إذ زاد عدد يهود العالم، في الفترة ما بين (1850 - 1935م) ستة أضعاف. وحيث لم يكن يهود الغرب يتزايدون، بل كانوا آخذين في التناقص، فإن نسبة الزيادة بين يهود اليديشية كانت في واقع الأمر أكثر من ستة أضعاف (¬2). ورغم المحاولات التي قامت بها حكومات البلاد الثلاثة لتحديث اليهود وتنويرهم، لم يُقدَّر للاتجاه الاندماجي الاستمرار لعدة أسباب: - كان الاندماجيون بين اليهود شريحة اجتماعية صغيرة للغاية، تَوَجُّهها الثقافي پولندي ويتركز معظم أعضائها في وارسو أو في غيرها من كبريات المدن. أما الجماهير ¬

(¬1) السابق (4/ پولندا من انتفاضة القوزاق إلى التقسيم). والحسيديم Hasidim أو الحريديم Haredim هي طائفة يهودية أرثوذكسية صوفية متشددة، وحريدي تعني تقي. (¬2) السابق (4/ يهود اليديشية أو يهود شرق أوروپا).

اليهودية العريضة، فكانت جماهير فقيرة تتحدث اليديشية ولم تتأثر بالقيم التحديثية والقومية الجديدة، كما كانت تعيش داخل مدنها الصغيرة (الشتتل) بمعزل عن الحضارة القومية. وكانت أعداد الجماعة اليهودية في پولندا من الضخامة بحيث إن اليهودي كان يُولَد ويَكْبَر ويموت دون أن يضطر إلى الاحتكاك بشكل دائم ويومي مع الحضارة الأم. وأصبحت الجماهير اليهودية ذات ثقافة فلاحية طابعها مسيحي. وحينما نقول ثقافة فلاحية في پولندا، فنحن نقصد أنها ثقافة متخلفة إلى حدٍّ ما، ومنعزلة عن الثقافة العالية وضمن ذلك الثقافة التلمودية نفسها. فانتشرت بين اليهود المعتقدات الشعبية والخرافات، وهو ما جعلهم أقل تَقبُّلًا لمحاولات التحديث والتنوير. - ومن أهم العناصر التي أفشلت محاولات الاندماج ميراث الجماعة اليهودية التاريخي والاقتصادي الذي جعلها بمعزل عن التطور القومي الپولندي، بل وضعها في مجابهته وجعل يهود پولندا أعداءً لكل الطبقات الأخرى باستثناء بعض قطاعات من طبقة النبلاء. ومعنى هذا أنه كان هناك أساس ثقافي واقتصادي قوي للمواجهة بين البورچوازية الپولندية وأعضاء الجماعة اليهودية يحتاج إلى فترة طويلة من الكفاح القومي المشترك حتى يتسنى التوصل إلى أساس مشترك للكفاح والاندماج. - أيضًا كان أعضاء الجماعة مركزين في مناطق حدودية تتصارع عليها دول ذات ثقافات مختلفة بل متصارعة؛ فكان هناك أولًا پولندا نفسها، ثم روسيا التي كانت تشجع الثقافة الروسية وعمليات (الترويس). ومن الناحية الأخرى، كان هناك ألمانيا والنمسا ذات الثقافة الألمانية. وكان اليهود أنفسهم يتحدثون اليديشية. وبعد كل تقسيم، كان يتعيَّن على اليهود، كنوع من الدواعي الأمنية، إعادة صياغة أنفسهم بما يتفق مع ثقافة الدولة المهيمنة. ومثل هذا الجو الذي لا يتسم بالتحدد الثقافي لا يساعد كثيرًا على تحديد شخصية اليهود الثقافية ولا على الولاء أو الانتماء القومي (¬1). وفي عام 1780م، بدأت الحركة القومية الپولندية تأخذ طابعًا معاديًا لليهود (باعتبارهم جماعة وظيفية مالية)، فطالبت بصبغ التجارة والصناعة بالطابع الپولندي، ¬

(¬1) السابق (4/ پولندا من انتفاضة القوزاق إلى التقسيم).

واتهمت رأس المال اليهودي بأنه غريب وبأن الجماهير اليهودية معادية للحضارة الحديثة جاهلة بها. وتم تأسيس أحزاب قومية شعبية پولندية جعلت الحرب ضد دمج اليهود هدفًا أساسيًا لها. وبسبب توجهها القومي الواضح، ألقت الكنيسة الكاثوليكية في پولندا بثقلها وراء الحركات الشعبية المناهضة لليهود. وكانت كل هذه الحركات تهدف إلى طرد أعضاء الجماعة اليهودية من قطاعات اقتصادية معيَّنة، وهو أمر ممكن من الناحية النظرية، ولكن لم يقابله اتجاه مماثل نحو خلق فرص اقتصادية جديدة في مجالات أخرى. والواقع أن الهدف كان طرد اليهود ونقلهم لا دمجهم في المجتمع. ومن هنا كان تأييد الحكومة الپولندية للحركة الصهيونية ولجهودها الرامية إلى تهجير اليهود إلى فلسطين (¬1). وفي روسيا، ظلت المشكلة قائمة دون حل. وكلما احتدمت الأزمة، كانت الحكومة الروسية تشكل لجنة لدراسة الموقف لترفع بدورها توصياتها للحكومة. وكانت هذه التوصيات تنبع من جهل عميق بآليات الظواهر الاجتماعية ويتولى تنفيذها جهاز تنفيذي متعصب جاهل فاسد يتسم بعدم الكفاءة. وظل التناقض الأساسي في سياسة الحكومة القيصرية بين رغبتها في التحديث والتنمية الاقتصادية من جهة والشكل الاستبدادي السياسي الذي يُفشل كل المحاولات التي تستهدف حل المسألة اليهودية من جهة أخرى. وقد تعثر تمامًا تحديث اليهود بل تحديث المجتمع ككل، في أواخر القرن التاسع عشر (¬2). وأدى ذلك بطبيعة الحال إلى هجرة أعداد كبيرة من يهود اليديشية، وخصوصًا في الفترة ما بين (1881 - 1914م)، وهم بذلك يكوِّنون الأغلبية الساحقة من يهود تلك البلاد التي كانت تضم جماعات يهودية صغيرة جدًا قبل وفود يهود اليديشية. وأدَّى وفودهم إلى زيادة معدلات معاداة اليهود نظرًا لتخلفهم وتميزهم الوظيفي والإثني. ومن هنا كان رد الفعل العنصري في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، الأمر الذي أدَّى إلى ¬

(¬1) السابق (4/ پولندا بعد التقسيم حتى الحرب العالمية الثانية) باختصار. (¬2) السابق (4/ روسيا من القرن التاسع حتى التقسيم الأول لپولندا) باختصار.

ونعود إلى إنجلترا ..

طرح الفكرة الصهيونية في إنجلترا في بداية الأمر، ثم بقية دول غرب أوروپاومنها إلى وسطها فشرقها (¬1). ... ونعود إلى إنجلترا .. فبعد مساعي كرومويل لدى سلطات لندن لإصدار قرارًا بإزاحة جميع الحواجز من طريق استقرار اليهود في إنجلترا، تم الاعتراف بهم في عصر شارلز الثاني، وحصلوا في عام 1673م على وعد بحرية العبادة، وأُعيد تأكيد هذا الوعد عام 1685م. وبالتدريج، ازداد يهود إنجلترا أهمية بتزايد أهمية لندن كمركز للتجارة العالمية. واستقرت أعداد صغيرة من اليهود الأشكناز (ممن أتوا من ألمانيا ووسط أوروپا) في إنجلترا، ولكن ظلت الأغلبية العظمى من أعضاء الجماعة اليهودية فيها من السفارد. ولم يُفرَض على أعضاء الجماعة اليهودية السكنى في جيتو خاص بهم، بل ألغيت معظم القيود المفروضة عليهم، كما حصلوا على حقوق المواطنة بالتدريج ابتداءً من عام 1718م. ولم تقم ضد يهود إنجلترا أية حركات شعبية عنيفة. ولعل هذا يعود إلى أنه حينما أُعيد توطين اليهود، تم توطينهم كعنصر تجاري مُستوعَب في التشكيل التجاري الأكبر. ولذا، فإنهم لم يكونوا متميِّزين وظيفيًا، ولم يكن لهم حقوق خاصة، كما لم يكونوا موضوعين تحت حماية الملك أو غيره من السلطات، وإنما كانوا جزءًا لا يتجزأ من المجتمع. وساعد كل ذلك على نمو الجماعة اليهودية في إنجلترا وعلى تزايد حجم المهاجرين اليهود. وكان أغلب اليهود الأشكناز أقل في المرتبة الاجتماعية من السفارد، وعمل قطاع كبير منهم كباعة متجولين في القرى والمناطق الريفية، وبالتالي نمت تجمعات من يهود الأشكناز في كثير من المدن الريفية والموانئ والمراكز الصناعية. وأتاحت الحروب الناپليونية لبعض العائلات اليهودية الأشكنازية، مثل عائلتي روتشيلد وجولدسميد Goldsmid، احتلال مواقع مرموقة في المجتمع الإنجليزي ¬

(¬1) السابق (4/ يهود اليديشية أو يهود شرق أوروپا) باختصار وتصرف يسير.

بفضل خدماتهم المالية المهمة، الأمر الذي أعطى ثقلًا للحركة المطالبة بانعتاق اليهود. وفي عام 1890م، تم إلغاء آخر القيود الدينية على اعتلاء مناصب ووظائف سياسية، وبالتالي أصبح انعتاق اليهود كاملًا. واحتل بعض أعضاء الجماعة مواقع ومراكز مهمة في الإدارات والوزارات البريطانية اللاحقة. ولكن، مع نهاية القرن التاسع عشر، تغيَّر التكوين الإثني ليهود إنجلترا نتيجة تَدفُّق جحافل يهود اليديشية من شرق أوروپاووسطها على إنجلترا، وغيرها من الدول، بسبب تَعثُّر التحديث كما ذكرنا آنفًا. وأدى ذلك إلى زيادة عدد يهود إنجلترا من يهود اليديشية خمسة عشر ضعفًا فيما يقارب أربعين عامًا. وخلق هذا جوًا من القلق في إنجلترا، وسادت شائعات تقول إن عدد المهاجرين بلغ 750 ألف. وكان يهود اليديشية تجارًا صغارًا متخلفين يحملون معهم إحساسًا جيتويًا عميقًا بعدم الأمن والطمأنينة. وأدَّى تواجدهم بهذه الأعداد الضخمة إلى ازدياد البطالة وازدحام المدن والجريمة. وأدَّى هذا الوضع إلى توتر العلاقات بين اليهود الإنجليز (السفارد والأشكناز المندمجين في المجتمع) وبين الوافدين الجدد من شرق أوروپا، إذ كان اليهود الإنجليز يعتبرون اليهود المتحدثين باليديشية عنصرًا غريبًا متخلفًا وعنصريًا يهدد مواقعهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية. ويضاف إلى هذا أنهم أحضروا معهم المسألة اليهودية من شرق أوروپا. وكان يهود اليديشية بدورهم ينظرون إلى اليهود الإنجليز باعتبارهم باردين ومندمجين في مجتمعهم، منعزلين تمامًا عن الحركات السائدة بين أعضاء الجماعات اليهودية في شرق أوروپا. ولذا، ظل الفريقان كلٌّ منهما بمعزل عن الآخر، كما أنهم لم يتزاوجوا فيما بينهم. وأدَّى وفود العناصر اليديشية إلى قيام محاولات لوقف سيل الهجرة عن طريق تأليف لجنة ملكية لدراسة القضية (¬1)، وهنا يأتي دور لورد پالمرستون الثالث، هنري چون تمپل .. ¬

(¬1) السابق (4/ إنجلترا منذ عصر النهضة) باختصار وتصرف.

لورد پالمرستون الثالث

لورد پالمرستون الثالث: يمكن القول إن پالمرستون تبنى بالكامل رؤى ناپليون، وأمسك أكثر بإمكانياتها، وراح يمهد الأرض لتحقيقها لاحقًا بالعدو الفرنسي وسابقًا له. يقول هيكل (¬1): «وكانت ميزة بريطانيا في فترة صعودها أنها تحفظ الدرس من أعدائها وتطبق ثقافتهم بأحسن منهم؛ فكانت الپرتغال هي السابقة على الطرق البحرية بين القارات، وجرت بريطانيا وراءها ولحقتها وسبقتها. وكانت إسپانيا هي السابقة إلى استعمار العالم الجديد في أمريكا، وجرت بريطانيا وراءها ولحقتها وسبقتها. وكانت فرنسا - ناپليون - هي السابقة نحو مصر والواعية - في العصر الاستعماري - بأهمية الزاوية الاستراتيچية التي تجمعها مع سوريا، وجرت بريطانيا وراءها ولحقتها وسبقتها!». كان پالمرستون - شأنه شأن كل ساسة جيله في هذا الوقت - يعرف ما فيه الكفاية عن المسألة اليهودية. وبالطبع فإنه كوزير لخارجية بريطانيا ثم رئيس لوزرائها كان مشغولًا بالمسألة الشرقية، لكن أوراقه لا تظهر أنه ربط بين المسألتين إلا بعد أن قام به ناپليون. ويبدو أن پالمرستون اكتفى ذلك الوقت بهزيمة الخطط الفرنسية واطمأن، وإن كانت فكرة الوطن القومي لليهود قد طرحت عليه من بعض الپروتستانت الذين رأوا فيها تحقيقًا لنبوءة العهد القديم. وإن كانت هذه الدعاوى التبشيرية قد وصلت إلى سمع پالمرستون، فليس مؤكدًا أنها وصلت إلى عقله. وكانت تلك هي المهمة التي يجب أن يتولاها أحد، وبالفعل تولاها لورد شافتسبري. كان لورد شافتسبري صهرًا قريبًا لپالمرستون، وفي الوقت ذاته صديقًا مقربًا من اللورد روتشيلد وعائلته - وهم بين أكثر يهود الغرب الأغنياء والمأزومين من موجات هجرة يهود الشرق إلى غرب أوروپا، وأشدهم حماسة في العمل على (تصدير الفائض) منهم إلى فلسطين - وقد بدأ شافتسبري محاولاته لإقناع پالمرستون بالدعاوى المقدسة، ثم وجد ¬

(¬1) محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (1/ 39) بتصرف يسير.

كانت الأهداف الثلاثة على النحو التالي

أن الأساطير القديمة عاجزة، فبدأ يضيف إليها ذرائع سياسية يستطيع رئيس وزراء بريطانيا أن يتفهمها ويستوعبها. وكتب شافتسبري في يومياته (14 يونيو 1838م) ما نصه: «أمس تناولت العشاء مع پالمرستون، ورحت بعد العشاء أحدثه عن مأساة اليهود وعذابهم، وكان يستمع إليّ وعيناه نصف مُغمضتين يمسك بيده كأس براندي Brandy يرشف منه ما بين وقت وآخر. وعندما تركت حديث المأساة اليهودية ورحت أحدثه عن المصالح والمزايا التجارية والمالية التي تنتظر بريطانيا في الشرق، لمعت عيناه، وتبدى اهتمامه، وترك كأس البراندي على المائدة بجانبه وراح يسمعني» اهـ (¬1). إن الوثائق البريطانية في تلك الفترة حافلة بالشواهد على تطور فكر رئيس وزراء بريطانيا حتى وصل إلى تحديد ثلاثة أهداف للسياسة البريطانية في الشرق الأوسط، وحتى راح يبني وراء هذا الفكر تحالفًا من القوى الأوروپية الكبرى تؤيده قبل أن يضيع إرث الخلافة على الجميع. كانت الأهداف الثلاثة على النحو التالي: 1 - إخراج محمد علي من سوريا لفك ضلعي الزاوية المصرية-السورية. 2 - حصر محمد علي داخل الحدود المصرية وراء صحراء سيناء، وتحويل هذه الصحراء إلى نوع من (سدادة الفلين) تقفل عنق الزجاجة المصرية التي يمثلها وادي النيل (والتشبيه من خطاب لروتشيلد موجَّه إلى پالمرستون بتاريخ 21 مايو 1839م). 3 - قبول وجهة النظر القائلة بفتح أبواب فلسطين لهجرة اليهود إليها وتشجيعهم على إنشاء شبكة من المستعمرات الاستيطانية فيها ليكون منها ذات يوم عازل يحجز مصر عن سوريا، ويمنع لقاءهما في الزاوية الاستراتيچية الحاكمة (¬2). وهكذا، وكما تقدم، وجد پالمرستون ضالته المنشودة - لإيجاد موطئ قدم في الإرث العثماني - في اليهود، فصاروا هم الأقلية التي تدعي بريطانيا حمايتها، كما ادعت فرنسا ¬

(¬1) انظر السابق. (¬2) السابق (1/ 40).

وروسيا حماية أقلياتها من الكاثوليك والأرثوذكس. تذكر ريچينا الشريف أنه «في عام 1838م، وبناء على إلحاح شافتسبري، نفذ لورد پالمرستون قرارًا سابقًا بفتح قنصلية بريطانية في القدس وتعيين نائب قنصل هناك، وهو وليام تانر يونج William Tanner Young، وهو إنجيلي متدين وصديق للورد شافتسبري» (¬1). وتقول باربرا تخمان (¬2): «لقد كتب اللورد پالمرستون خطابًا لسفيره في القسطنطينية عن اليهود، وسط محاولاته لمنع انهيار مفاجئ للإمپراطورية العثمانية. قال في خطابه: "يوجد في الوقت الحالي بين اليهود المتفرقين في أنحاء أوروپاشعور قوي أن الوقت يقترب بالنسبة لأمتهم كي تعود إلى فلسطين ... وسيكون مهمًا للغاية بالنسبة للسلطان أن يشجع اليهود للعودة والاستقرار في فلسطين؛ لأن الثروة التي سيعودون بها إلى فلسطين سوف تزيد من الموارد الموجودة في البلاد التي يحكمها السلطان، ومن ناحية أخرى، فإن اليهود إذا عادوا تحت تصديق ودعوة وحماية السلطان، سوف يكونون بمثابة اختبار لأي نوايا سيئة مستقبلية من ناحية محمد علي أو خليفته ... وعليّ لأنصح سيادتكم بشدة أن تشيروا على الحكومة التركية بتقديم كل التشجيع ليهود أوروپابالعودة إلى فلسطين". ولقد كان خطاب پالمرستون بتاريخ 11 أغسطس سنة 1840م، وفي 17 أغسطس نشرت (التايمز) خطة رائدة "لزرع اليهود في أرض آبائهم"، وأن هذه الخطة، كما تقول الجريدة، تمر الآن بفحص سياسي جاد. لقد أشادت الجريدة بأن مجهودات اللورد آشلي [لورد شافتسبري] صاحب الخطة مجهودات عملية وحكيمة. وقد نشرت الجريدة إحصائية كان يقوم بها آشلي عن رأي اليهود، لكي يعرف شعورهم نحو موضوع العودة إلى الأرض المقدسة، ومتى سيكونون مستعدين للعودة، وما إذا كان اليهود (ذوو المال والجاه) سوف يشاركون في العودة ويستثمرون رأس المال الذي لديهم، لو تم إقناع الباب العالي أن يعد اليهود بتوفير القانون والعدالة والأمن لهم ولأراضيهم، وأن حقوق اليهود وامتيازاتهم "سوف يتم تأمينها تحت حماية القوة الأوروپية". ولم يكن هناك شك ¬

(¬1) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (81) بتصرف يسير. (¬2) باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (2/ 39 - 40) باختصار.

حلقة الوصل بين الصهيونيتين (اليهودية وغير اليهودية): بنيامين زئيف

حول مَن القوة الأوروپية التي تقصدها (التايمز)!» اهـ. ... حلقة الوصل بين الصهيونيتين (اليهودية وغير اليهودية): بنيامين زئيف: كما تبين مما سبق، «أدى ظهور محمد علي المفاجئ وقيامه بتكوين إمپراطوريته الصغيرة، إلى تبلور الفكرة الصهيونية بين غير اليهود، وتحولت من مجرد فكرة إلى مشروع استعماري محدد؛ إذ بدأت تُطرَح فكرة تقسيم الدولة العثمانية، ومن ثم اكتسبت الصيغة الصهيونية الأساسية مضمونًا تاريخيًا وبُعدًا سياسيًا، وأصبح بالإمكان دمج المسألة اليهودية مع المسألة الشرقية (¬1). ولكن ثمة أسباب عديدة جعلت الفكرة الصهيونية غير قادرة على التحقق، من أهمها أن دعاة الفكر الصهيوني كانوا من غير اليهود أو من أعداء اليهود، الأمر الذي جعل المادة البشرية المستهدفة (أي اليهود) يرفضون الدعوة إلى استيطان فلسطين. كما أنه لم يكن هناك أية أطر تنظيمية تضم كل الجماعات اليهودية. وعلاوة على ذلك كان هناك يهود الغرب المندمجون الذين كانوا يرون أن المشروع الصهيوني يهدد وجودهم ومكانتهم وكل ما حققوه من مكاسب (¬2). وكانت استجابة اليهود للفكر الاسترجاعي الپروتستانتي فاترةً لوقت طويل، فلم يرتفع صوت يهودي مرحبًا بالفكرة أو مؤيدًا لها، فظلت الدعوة إلى إنهاء وضع (النفي) مسعى غير يهودي بالدرجة الأولى. ولكن مع انتصاف القرن التاسع عشر، ومع تفاقم المسألة اليهودية في شرق أوروپا، ومع انتشار الفكر الإمپريالي، بدأ بعض المفكرين اليهود في الاستجابة بطريقة أكثر إيجابية للصيغ الصهيونية غير اليهودية (¬3)، خاصة وقد قامت - في روسيا على وجه الخصوص - حركات منظمة لاضطهاد اليهود والتنكيل بهم (پوجرومز)، ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (6/ الفكر الصهيوني والحركة الصهيونية: تاريخ موجز). (¬2) السابق (6/ العقد الصامت). (¬3) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (94).

وذلك بسبب تعثر تحديث اليهود ورفضهم الاندماج في المجتمع، مما تمخض عن إنشاء جمعيات صغيرة عرفت باسم (أحباء صهيون Hibbat Zion) نبعت من أوديسا Odessa في روسيا، والتي بدورها قامت بتهويد المفاهيم الصهيونية من خلال بعض المفاهيم اليهودية أو شبه اليهودية مثل: رفض الاندماج، والإيمان بأن معاداة اليهود ظاهرة أزلية، ورفض الانتظار السلبي للماشَّيح، وكذلك حل المسألة اليهودية هنا في الأرض وفي هذه الأيام وليس هناك في السماء أو في آخر الأيام. وكانت هذه الجمعيات تسعى إلى حل مشكلة يهود شرق أوروپاعن طريق جهودهم الذاتية، أي دون الاعتماد على الدول الغربية، وذلك لتهجير من يريد منهم إلى أية بقعة في العالم وتوطينه، ثم استقر الاختيار على فلسطين - وهذا ما عرف بـ (التيار الصهيوني التسللي) -، علمًا بأنهم لاقوا معارضة من دعاة الاندماج من أثرياء اليهود (¬1). وتجدر الإشارة إلى أنه حتى ذلك الوقت لم تكن الصهيونية كـ (مصطلح) متعارف عليه رسميًا، إلا بعد ما صاغه المفكر اليهودي النمساوي ناثان بيرنباوم (1864 - 1937م) مؤسس جمعية كاديما Kadimah، أول جمعية (يهودية/صهيونية) طلابية في فيينا؛ فقد صك بيرنباوم هذا المصطلح في إپريل من عام 1890م في مجلته (الانعتاق Selbstemanzipation!) (¬2) ، وقد شرح معناه في خطاب له بتاريخ 6 نوفمبر 1891م قال فيه: «إن الصهيونية هي إقامة منظمة تضم الحزب القومي السياسي بالإضافة إلى الحزب ذي التوجه العملي (أحباء صهيون) الموجود حاليًا» (¬3). وفي هذه الفترة دخلت صهيونية غير اليهود وصهيونية يهود شرق أوروپاطريقًا مسدودًا، ولكن هذا لم يمنع من ظهور بعض علاقات التعاون الودية بين كلتا الصهيونيتين، والتي تمثلت على سبيل المثال في مساعي الصهيوني اليهودي، زعيم الجماعة اليهودية في إنجلترا موسى مونتفيوري Moses Montefiore (1784 - 1885 م)، ¬

(¬1) انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ أوديسا) و (6/ أحباء صهيون). (¬2) والتي أسسها أثناء فترة دراسته في عام 1885م، ثم تحول اسمها بعد ذلك عام 1894م إلى (الصحيفة القومية اليهودية اليومية Jüedische Volkszeitung). (¬3) انظر السابق (6/ الصهيونية: تاريخ المفهوم والمصطلح)، وموسوعة ويكيپيديا، مادة: Nathan Birnbaum.

هرتزل: ترجمة

وكذلك مساعي الصهيوني غير اليهودي، عضو الپرلمان الإنجليزي، وأحد أصدقاء لورد شافتسبري المقربين لورانس أوليفانت Laurence Oliphant (1829 - 1888 م)، ولكن تلك لم تكن القاعدة العامة، إلى أن ظهر على الساحة السياسية اليهودي النمساوي-المجري، ثيودور هرتزل، ليقدم الحل للإشكالات الحادثة بين الفريقين .. هرتزل: ترجمة: وُلد ثيودور هرتزل عام 1860م لأب تاجر ثري. وكان يحمل ثلاثة أسماء، أهمها اسمه الألماني ثيودور، وثانيها اسمه العبري بنيامين زئيف Benjamin Ze'ev، وثالثها اسمه المجري تيفادار Tivadar. والتحق ثيودور الصغير بمدرسة يهودية وعمره ست سنوات لمدة أربعة أعوام انقطعت بعدها علاقته بالتعليم اليهودي. ولذا، لم يُقدَّر له أن يدرس العبرية، بل لم يكن يعرف الأبجدية نفسها. والتحق بعد ذلك بمدرسة ثانوية فنية، ومنها التحق بالكلية الإنجيلية عام 1876م وعمره خمسة عشرة سنة (أي أنه التحق بمدرسة مسيحية پروتستانتية، ولعله تَلقَّى تعليمًا دينيًا مسيحيًا هناك)، وأنهى دراسته عام 1878م. ثم التحق بجامعة فيينا وحصل على دكتوراة في القانون الروماني عام 1884م وعمل بالمحاماة لمدة عام، ولكنه فضل أن يكرس حياته للأدب والتأليف. ومع هذا، ظلت عقليته أساسًا عقلية قانونية تعاقدية. وكان هرتزل يرفض الدين اليهودي والتقاليد الدينية اليهودية. والواقع أن زوجته كان مشكوكًا في يهوديتها، وقد رفض حاخام فيينا إتمام مراسم زواج هرتزل لها حينما اكتشف ذلك. كما أن هرتزل لم يُخَتِّن أولاده وقد تنصر معظمهم بعد وفاته. ولم يكن الطعام الذي يُقَدَّم في بيته (كوشير Kosher) أي مباحًا شرعًا، وكان يحتفل بعيد الميلاد (الكريسماس). ومن الناحية الثقافية، فإن هرتزل كان ابن عصره، يجيد الألمانية والمجرية والإنجليزية والفرنسية. ويبين أحد مؤرخي الحركة الصهيونية أن اتخاذ هرتزل دور الداندي Dandy (أي الوجيه الذي يبالغ في الأناقة) وتَظاهُره بأنه من الأرستقراطيين هو القناع الذي كان يختبئ وراءه ليهرب من هويته اليهودية. وكان هرتزل لا يعرف العبرية، وقد تساءل علنًا وبسخرية (في المؤتمر الصهيوني الثالث 1899م) عما يُسمَّى بـ (الثقافة اليهودية). وحينما

قرَّر مجاملة حاخامات مدينة بازل، اضطر إلى تأدية الصلاة في كنيس المدينة قبيل افتتاح المؤتمر الصهيوني الأول (1897م)، كما اضطر إلى تعلُّم بضع كلمات عبرية لتأدية الصلاة. وكان المجهود الذي بذله في تعلُّمها أكبر من المجهود الذي بذله في إدارة جلسات المؤتمر بأسرها (حسب قوله). ولكن، ورغم ابتعاده عن الثقافة اليهودية، نجده متأثرًا بعقيدة الماشَّيح المخلِّص، ونجد أن ذكرها يتواتر في مراسلاته ومذكراته بأسلوب ينم عن الإيمان بها وإن كان الأمر لا يخلو من السخرية منها في آن واحد. وكان اهتمامه ينصب على الماشَّيح الدجال شبتاي تسِفي. وقد استخدم هرتزل كلمة (الخروج) التوراتية [نسبة إلى سفر الخروج] ليشير إلى مشروعه الاستيطاني، الأمر الذي يدل على أن الأسطورة التوراتية كانت تشكل جزءًا من إطاره الإدراكي (¬1). ولقد نشط هرتزل على الساحة السياسية في أعقاب قضية دريفوس Dreyfus Affair، والتي اتُهم فيها ضابطًا يهوديًا بالجيش الفرنسي هو ألفريد دريفوس Alfred Dreyfus (1859 - 1935 م)، حيث أدانته المحاكم الفرنسية بالخيانة العظمى، وتسليم وثائق عسكرية في زمن الحرب إلى قيادة الجيش الألماني. وكانت قضية دريفوس من أحرج الأزمات التي هزت فرنسا، والتي انقسم فيها الناس بين مدافع عن دريفوس Dreyfusard ومناهض له Anti-Dreyfusard. وكان ممن دافعوا عنه وهو في سجنه المحامي والأديب الفرنسي إميل زولا (1804 - 1902م)، وكان أهم ما كتبه في القضية حينها رسالة توجه بها إلى الرئيس الفرنسي بعنوان (أنا أتهم ... !، رسالة إلى رئيس الجمهورية)، ونشرتها جريدة (لورور) الفرنسية في عدد 87 الصادر في يوم الخميس 13 يناير 1898م (¬2). يقول الدكتور حسن ظاظا (¬3): «لم يكن تحريك زولا للقضية يهدف إلى إنقاذ هذا ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (6/ هرتزل: حياته (1860 - 1904م)) باختصار. (¬2) Emile Zola: J'Accuse ... !, Lettre au Président de la République. L'Aurore, Numéro 87, Janvier 13, 1898 (¬3) د. حسن ظاظا: الشخصية الإسرائيلية، ص (78) بتصرف يسير.

الضابط السجين، ولكنه كان حركة أساسية في برنامج سياسي يقوم على الاشتراكية والديمقراطية، المناهضة للفكر الرجعي ممثلًا في البرچوازية والكنيسة ... فكان يمنح صداقته وتأييده ليهود فرنسا، تدعيمًا لركائز سياسية واجتماعية يريد منها كسب أنصار جدد للاشتراكية الليبرالية التي كان يدعو لها» اهـ. وعلى النقيض، كان يقود الكاتب الفرنسي إدوار دريمون Edouard Drumont (1844 - 1917 م) في الوقت نفسه معركة عكسية بكتابه الخطير (فرنسا اليهودية La France Juive) الصادر في عام 1886م، أي قبل صدور الحكم على دريفوس ببضع سنوات - إذ أن الحكم قد صدر على أثر المحاكمة الأولى [سنة 1894م]- واشتهر الكتاب بأنه من أُمَّات الكتب التي تأخذ مسلك اللاسامية (¬1). وفي أثناء هذه المعركة الطاحنة، كان هرتزل يقيم في پاريس، ويعمل مراسلًا لصحيفة نمساوية تصدر في فيينا باسم (نويه فراي پرِسه Neue Frie Presse)، والتي قد كلفته بمتابعة أخبار المحاكمة وتبعاتها. وفي الفترة ما بين ربيع عام 1895م وشتائه، اختمرت فكرة الدولة اليهودية في عقل هرتزل، حيث رأى أنها الحل الجذري لإنهاء المسألة اليهودية، وذلك عن طريق إبعادهم عن الأمم الأخرى. يقول المسيري (¬2): «ومن الطريف أن التواريخ الصهيونية ترى أن واقعة دريفوس هي التي هزت هرتزل وأعادته إلى يهوديته، ولكن المقالات التي كتبها لصحيفته عام 1894م تدل على أنه كان مقتنعًا بأن الضابط اليهودي كان مذنبًا، ولعل اقتناعه بوجاهة الاتهامات هو الذي قاده إلى الصهيونية؛ فالكره العميق لليهود واليهودية هو الأساس العميق الكامن للصهيونية» اهـ. وقد قرَّر هرتزل أن يسجل أفكاره في كتيب، ففعل ذلك في خمسة أيام ونشره موجزًا في جريدة (التاريخ اليهودي The Jewish Chronicle) [في عددها الصادر يوم ¬

(¬1) انظر السابق، ص (79). (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (6/ أفكار هرتزل).

الجمعة 17 يناير 1896م، تحت عنوان: حل للمسألة اليهودية A Solution of the Jewish Question]، ثم نشره في 14 فبراير من العام نفسه بعنوان (دولة اليهود: محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية Der Judenstaat: Versuch einer modernen Losung der Judenfrage). وقد ألَّف هرتزل الكتيب بالألمانية ونشر منه بين عامي 1896 و1904م خمس طبعات بالألمانية وثلاثًا بالروسية وطبعتين بكلٍّ من العبرية واليديشية والفرنسية والرومانية والبلغارية (¬1). وكانت النقطة التي ارتكز عليها هرتزل هي تقوية الروح القومية اليهودية والتي رأى أنها الحل الأمثل لتوحيد صف الجماعات اليهودية باختلاف اتجهاتها تحت لواء الصهيونية: «دع جميع الذين يريدون أن ينضموا إلينا أن يصطفوا خلف أعلامنا، وأن يحاربوا في سبيل قضيتنا بالصوت والعلم والعمل» (¬2). ويظهر ذلك في قوله (¬3): «إننا شعب .. وشعب واحد»، وفي قوله (¬4): «إن الفكرة التي طورتها في هذا الكتيب فكرة موغلة في القدم، هي فكرة استعادة الدولة اليهودية. إن العالم يردد صيحات صاخبة ضد اليهود، وهذه الصيحات هي التي أيقظت الفكرة من سباتها»، وفي قوله كذلك (¬5): «إن شخصيتنا القومية مشهورة تاريخيًا شهرة لا مراء فيها، وعلى الرغم من كل إذلال فإنها أقوى من أن تجعل القضاء عليها أمرًا مرغوبًا فيه»، بل في قوله أيضًا (¬6): «أما فلسطين فإنها وطننا التاريخي الذي لا تمحى ذكراه»، وغيرها .. يقول حاييم وايزمان (¬7): «لم يكن كتاب هرتزل عن المملكة اليهودية هو الذي عاد على اليهود بالنفع الجزيل، وإنما كانت خدمة هرتزل لليهود ولفكرة الصهيونية أنه دعا إلى ¬

(¬1) السابق، بتصرف. (¬2) ثيودور هرتزل: الدولة اليهودية، ص (83). (¬3) السابق، ص (60). (¬4) السابق، ص (49). (¬5) السابق، ص (80). (¬6) السابق، ص (84). (¬7) مذكرات وايزمان، ص (17).

تحقيق فكرة ربط يهود العالم كلهم في پرلمان واحد، وكان هذا عن طريق المؤتمرات اليهودية التي كان هرتزل أول من دعا إليها وأول من حققها. فكانت تلك المؤتمرات الصهيونية العالمية التي تعقد كل عام، أو كلما دعت إليها الضرورة، والتي كان يحضرها ممثلون عن يهود العالم أجمع، هي الپرلمان اليهودي العام الذي ربط بين اليهود بعضهم ببعض، على اختلاف بلدانهم وتراخي ديارهم». وكما يقول ياكوف رابكن (¬1): «تقدم الصهيونية إذن إلى مؤسسيها الأوائل أملًا برفض الاندماج الفردي لحساب رؤيا كلية لاندماج جماعي، وتوحيد الشعب اليهودي» اهـ. ويظهر أن هرتزل قد توصل إلى فكرته القومية من خلال معرفته بالفكر والحضارة الألمانية التي ينتمي إليها (وهذا ما ذهب إليه الزعيم الصهيوني ناحوم جولدمان Nahum Goldmann (1895 - 1982 م))؛ إذ يرى الألمان أن جميع الأشخاص المنحدرين من العرق الألماني، أو الذين تربطهم قرابة الدم بالأصل الألماني يكون ولاؤهم الأول لألمانيا، ويجب أن يصبحوا مواطنين في الدولة الألمانية، وطنهم الحقيقي. وحتى إذا كانوا قد نشأوا وترعرعوا، هم وآبائهم وأجدادهم تحت سماوات أجنبية أو بيئات غربية، فإن حقيقتهم الأساسية تبقى ألمانية. لذا، يمكن القول بأن الحركة الصهيونية بدأت تاريخها مع اكتشافها لليهود كـ (فولك Volk) أو كشعب عضوي: كيان جماعي له تاريخه الخاص وتراثه الحضاري المتميز بل وسماته البيولوچية الخاصة به (¬2)، وكما يقول رابكن (¬3): «لم تكن الصهيونية لتنجح إلا بإضافة جانب عرقي إلى ظاهرة العلمنة العامة مع ذلك» اهـ. ولكن هرتزل يتجاوز في كتيبه عن الأسباب الواقعية وراء العداء الغربي للسامية، ويشخصها على أنها مسألة أبدية لا حل لها، فتجده يقول (¬4): «إن المسألة اليهودية توجد ¬

(¬1) ياكوف رابكن: المناهضة اليهودية للصهيونية، ص (26). (¬2) انظر، د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (153 - 4). (¬3) ياكوف رابكن: المناهضة اليهودية للصهيونية، ص (27). (¬4) ثيودور هرتزل: الدولة اليهودية، ص (59).

حيثما يوجد عدد ملحوظ من اليهود، وحيث تختفي هذه المشكلة فمعناها أن اليهود قد هاجروا وحملوها معهم. ومن الطبيعي أننا نرحل إلى الأماكن التي لا نلقى فيها الاضطهاد، حتى إذا حللنا هنالك فإن مجرد وجودنا في حد ذاته يولد الاضطهاد». وقبل أي يطرح هرتزل حلَّه للمسألة - والذي حاول إضفاء صبغة عملية وواقعية عليه: «خشية أن يظن البعض أني أؤلف يوتوپيا» (¬1) -، وجَّه نقدًا للمحاولات الاستيطانية الصهيونية في عصره (محاولة التسلليين من شرق أوروپابدعم أثرياء الغرب المندمجين) ووصفها بأنها محاولات مستحيلة دخلت طريقًا مسدودًا، فقال (¬2): «إن الأساليب المصطنعة التي استخدمت حتى الآن للتغلب على متاعب اليهود إما بالغة التفاهة كالمحاولات الاستعمارية ...» (¬3)، ويعلل ذلك بقوله بأن «التسلل من شأنه أن ينتهي نهاية سيئة. إنه يستمر إلى اللحظة التي لا يمكن تجنبها، عندما يشعر السكان المحليون أنهم مهددون فيجبرون الحكومة على إيقاف أي تدفق جديد لليهود، وبالتالي فإن الهجرة لا جدوى منها ما لم تقم على أساس من هيمنة مضمونة» (¬4). ثم قدَّم الحل البديل، وهو الحل الاستعماري الغربي، فقال (¬5): «إن الجمعية اليهودية سوف تتعامل مع الملاَّك الحاليين للأرض، وستضع نفسها تحت حماية القوى الأوروپية، إذا أثبتوا أنهم متعاطفون مع الخطة»، وكان هذا مربط الفرس الذي لم يتنبه إليه أي مفكر صهيوني يهودي من قبله. وهكذا كان هرتزل يعد بمثابة الحلقة المفقودة بين الصهيونيتين اليهودية وغير اليهودية؛ فعن طريق تقوية الروح القومية، رأى أنه من الممكن إيجاد تفاهم ضمني بين يهود غرب أوروپاويهود اليديشية تتعهد الحركة الصهيونية من خلاله بإخلاء أوروپامن يهودها، أو ¬

(¬1) السابق، ص (51). واليوتوپيا Utopia: مفهوم فلسفي يطلق على الأفكار المثالية التي لا يمكن تطبيقها في المجتمع نظرًا لبعدها عن الواقع الحقيقي. (¬2) السابق، ص (75). (¬3) المقصود بها الاستيطانية التسللية. (¬4) السابق، ص (83). (¬5) السابق.

على الأقل من الفائض البشري اليهودي. وهذا بالتالي يؤدي إلى رضوخ اليهود إلى الحل الاستعماري الغربي كحل (وحيد) للمسألة اليهودية. ولقد تلقَّف وليام هشلر William Hechler (1845 - 1931 م) - القس الإنجليكاني الملحق بالسفارة البريطانية في فيينا - كتيب هرتزل، وعاونه في عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل بسويسرا عام 1897م، والذي فيه حوَّل خطة تحقيق المشروع الصهيوني إلى برنامج سياسي. تقول باربرا فيكتور (¬1): «من وجهة نظر المحترم [أي هشلر]، كانت الخطة المقترحة من قبل هرتزل لوطن يهودي في فلسطين دليلًا ملموسًا على أن النبوءة التوراتية بشأن عودة اليهود إلى الأرض المقدسة ستنصب على المجيء الثاني للمسيح ... في بداية علاقتهما، ارتاب هرتزل من مُحاوره الذي كان يشُك بأنه يغذي مشاعر معادية للسامية. ففي الحقيقة، حاول هيشلر مرارًا إقناع هرتزل، أو على الأقل، حمله على أن (يُدرِج الله) في مفهومه للدولة اليهودية. ومع ذلك، طوَّر الرجلان علاقات صداقة متينة ... واستمرت تلك الصداقة إلى حين الموت المبكر لهرتزل في سن الرابعة والأربعين. وبينما كان يحتضر، استدعى هذا الأخير هيشلر إلى قرب سريره وهمس في أذنه: "أوصل شعلة الصهيونية إلى العالم المسيحي"» اهـ. ولقد وضعت الحركة الصهيونية نصب عينها بعد انعقاد مؤتمرها الأول القيام بمهام ثلاث هي: استعمار فلسطين، ومحاولة خلق شعب يهودي واحد متجانس، وإنشاء حركة تكون بمنزلة (رأس الرمح) في البرنامج الصهيوني الاستعماري. وتضمَّن هذا البرنامج تشجيع الاستعمار الصهيوني في فلسطين، وتأسيس منظمة تربط يهود العالم عن طريق مؤسسات محلية أو دولية طبقًا لقانون كل دولة، وتقوية الشعور القومي اليهودي، والحصول على موافقة حكومية لبلوغ الأهداف الصهيونية، وصولًا إلى «إنشاء وطن للشعب اليهودي في فلسطين يحميه القانون» (¬2). ¬

(¬1) باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (216) باختصار. (¬2) من الواضح أن المؤتمر الصهيوني الأول كان معلومًا لدى الجميع وقراراته كانت معلنة، ولذا لا مجال لدينا للتسليم لما قاله التونسي في ترجمته للپروتوكولات: «أما أول مؤتمراتهم فكان في مدينة بازل بسويسرا سنة 1897م برئاسة زعيمهم هرتزل، وقد اجتمع فيه نحو ثلثمائة من أعتى حكماء صهيون كانوا يمثلون خمسين جمعية يهودية، وقد قرروا في المؤتمر خطتهم السرية لاستعباد العالم كله تحت تاج ملك من نسل داود، وكانت قراراتهم فيه سرية محوطة بأشد أنواع الكتمان والتحفظ إلا عن أصحابها بين الناس، أما غيرهم فمحجوبون عنها ولو كانوا من أكابر زعماء اليهود، فضلًا عن فضح أسرارها لغير اليهود. ولكن الله قدر أن ينفضح بعضها وما يزال سائرها سرًا، وإن كان فيما ظهر منها ما يكشف بقوة ووضوح عما لا يزال خافيًا» [انظر الترجمة، ص (37 - 8)]. أيضًا ما قاله في ص (39 - 40) أنه عندما وقعت الپروتوكولات في يد سرچي نيلوس: «افتضحت نيات اليهود الإجرامية، وجنّ جنونهم خوفًا وفزعًا، ورأوا العالم يتنبه إلى خططهم الشريرة ضد راحته وسعادته .... واشتد هلعهم لذلك كله، فقام زعيمهم الكبير الخطير ثيودور هرتزل أبو الصهيونية، وموسى اليهود في العصر الحديث يلطم ويصرخ لهذه الفضيحة، وأصدر عدة نشرات يعلن فيها أنه قد سرقت من (قدس الأقداس) بعض الوثائق السرية التي قصد إخفاؤها على غير أصحابها ولو كانوا من أعاظم اليهود، وأن ذيوعها قبل الأوان يعرض اليهود في العالم لشر النكبات، وهب اليهود في كل مكان يعلنون أن الپرتوكولات ليست من عملهم، لكنها مزيفة عليهم» اهـ. يقول الدكتور المسيري معلقًا: «وهذا تخريف ما بعده تخريف، فوقائع هذا المؤتمر الأول وما تلاه من مؤتمرات موجودة في كتب بالألمانية والعبرية والإنجليزية والفرنسية وتُرجم بعضها إلى العربية، ونحن نعرف الكثير الكثير عن هذا المؤتمر الذي دعا له هرتزل، وكذلك جميع المؤتمرات التالية. فنحن نعرف، على سبيل المثال لا الحصر، أن المؤتمر الصهيوني الأول (1897م)، قد حضره ما بين 200 و250 مندوب، نعرف عنهم كل ما يلزم من تفاصيل للقيام بعمليات التحليل والتفسير»، ويقول كذلك: «لم يشر هرتزل إلى الپروتوكولات أدنى إشارة في يومياته المفصلة التي دون فيها أدق تفاصيل حياته» اهـ[د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (73، 76)].

وكثَّف هرتزل في هذه المرحلة جهوده الديپلوماسية للحصول على (براءة) تضمن أي كيان صهيوني يقام في فلسطين، فحصل على نوع من الاعتراف الأوروپي بالمنظمة الصهيونية العالمية رغم معارضة يهود غير صهاينة رأوا في الصهيونية خطرًا عليهم في أوطانهم (¬1). ولكن برغم عصرية حلِّه وحداثته إلا أن بصيرته خانته، إذ بدأ نشاطه السياسي بطريقة تقليدية؛ فتوجَّه للقيادات اليهودية التقليدية (الحاخامات والأثرياء) أصحاب النفوذ التقليدي، والذين نظروا إليه بنوع من الفتور أو الاشمئزاز. ¬

(¬1) انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (6/ العقد الصامت).

وعند هذا الحد أدرك هرتزل أن القيادات اليهودية الغربية غير جادة وغير قادرة. ولكنه مع هذا تعلَّم منها الكثير. ولعل هذا ساعده في تطوير الخطاب الصهيوني المراوغ. ومع ذلك كانت الاستجابات سلبية في كل مكان. ولذا قرر هرتزل - على حد قوله - أن يتوجَّه إلى الشعب. والشعب هنا لا يعني الجماهير اليهودية وإنما يعني حركة أحباء صهيون والحركات المتناثرة ذات الأهداف المماثلة، والتي تدعم موقفه التفاوضي أمام عالم الصهيونية غير اليهودية، عالم الاستعمار الغربي. ولكنه كان يرفض النزعات الصهيونية السابقة عليه؛ فصهيونية أثرياء يهود الغرب المندمجين (صهيونية الإنقاذ التي تأخذ شكل صدقات) غير صالحة لأن المشروع الصهيوني مشروع ضخم يتجاوز الجهود الفردية. أما بالنسبة للتسلل، فقد ساهم الصهاينة التسلليون ولا شك في إلقاء الضوء على فكرة تأسيس الدولة، كما أن أخطاء التسلليين أثناء الممارسة قد تفيد في تنفيذ المشاريع الضخمة المقبلة. ولكن التسلل، مع هذا، بَذَر الشك في نفوس الناس بشأن المشروع الصهيوني ككل .. ولقد أثار هرتزل قضية مهمة أخيرة، هي أن التسلليين ليس عندهم أية سيادة قومية، ولذلك فهم تحت رحمة الپاشا العثماني، كما أنهم يفتقدون أساس القوة. ولذا، فلن يمكنهم الحصول على الاستقلال، وسوف يظل الاستيطان التسللي استيطانًا «يائسًا جبانًا». وحتى لو وصل التسلليون إلى مستوى كاف من القوة، وحتى لو وهن الباب العالي إلى الحد الذي يسمح للصهاينة بإعلان استقلالهم، فإن هذه المحاولة لن تنجح لأن القوى العظمى الغربية لن تعترف بالكيان الجديد. انطلاقًا من كل هذا، طرح هرتزل رؤيته الصهيونية الجديدة الحديثة التي خرجت بالصهيونية من إطار المعبد اليهودي والاجتهادات الدينية وجو شرق أوروپاالخانق ودخلت بها جو الإمپريالية الحديث، فطالب بأن يُنظَر إلى المسألة اليهودية كمشكلة سياسية دولية تجتمع كل الأمم المتحضرة لمناقشتها وإيجاد حل لها. وقد أدار هرتزل المحرك عن طريق خطابه المراوغ، وقد لاحظ قيادات أحباء صهيون حتى قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، كيف تحوَّل هرتزل إلى بطل أسطوري، وكيف أن الموقف العام للصهيونية تغيَّر تمامًا بعد ظهوره، وأن الاهتمام بالصهيونية والتعاطف

الموقف اليهودي الأرثوذكسي تجاه (البدعة) الصهيونية

معها قد ازداد. وهكذا، وجدوا أنهم إن لم ينضموا إليه لاكتسحهم النسيان، فليس عندهم ما يقدمونه للجماهير سوى (التسلل المميت) (¬1). الموقف اليهودي الأرثوذكسي تجاه (البدعة) الصهيونية: بقي أن نشير إلى الموقف اليهودي الأرثوذكسي تجاه (البدعة) الصهيونية؛ فلقد كان الفكر اليهودي الأرثوذكسي معاديًا تمامًا للصهيونية (في حينها)، حيث كان الإيمان بعودة الماشَّيح يعني الانتظار في صبر وأناة إلى أن يأذن الإله بالعودة. وعلى المؤمن الحق أن يقبل المنفى، إما عقابًا على ذنوب يسرائيل أو كجزء من التكليف الإلهي، عليه ألا يحاول التعجيل بالنهاية (دحيكات هاكتز)، وإلا فهو مهرطق يرتكب جريمة (¬2). يقول ياكوف رابكن (¬3): «ونجد في التلمود جدلًا يتعلق بحق الإقامة على الصعيد الفردي في أرض إسرائيل. لكن هناك موافقة على المنع من الإقامة فيها بكثافة. وتشرح مصادر حاخامية عديدة هذه الأيمان عبر القرون بمعنى نبوي، قائلة: "لو أن جميع الأمم شجعت اليهود على الإقامة في أرض إسرائيل، فلا بد مع ذلك، من العزوف عن هذا الأمر خوفًا من ارتكاب خطايا أخرى تكون نتيجتها معاقبتهم بنفي أشد". وهذا الشرح هو أساس مهم لمناهضة الصهيونية من قبل حاخامين عديدين في بداية القرن العشرين». ويذكر إسرائيل شاحاك ونورتون ميزفينسكي أنه «في أوائل القرن التاسع عشر قام مندلسون ومؤيدون آخرون للتنوير اليهودي، وكذلك معارضوهم مثل الحاخام سامسون رفائيل هيرش Samson Raphael Hirsch [1808 - 1888 م] الأب الروحي للأرثوذكسية المعاصرة في ألمانيا، بالاتفاق على والاستمرار في تحريم ¬

(¬1) السابق (6/ موقف هرتزل من التيارات الصهيونية قبله) باختصار. (¬2) انظر السابق (5/ اليهودية الأرثوذكسية والصهيونية). وقد جاء مثل هذا المعنى في رسالة بعث بها صحافي يهودي إلى هرتزل يذكره فيها بأن تعاليم التلمود «تحظر على اليهود أن يأخذوا فلسطين بالقوة أو يقيموا لهم دولة هناك» [انظر، د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (136)]. (¬3) ياكوف رابكن: المناهضة اليهودية للصهيونية، ص (112).

الهجرة بناء على المواثيق الثلاثة (¬1). وكتب هيرش في عام 1837م يقول: "إن الله أمر اليهود بألا يقوموا أبدًا بإنشاء دولتهم بأنفسهم ومن خلال جهودهم". وكان الحاخامات في وسط أوروپاأكثر تطرفًا. وفي عام 1837م في نفس العام الذي حظر فيه هيرش على اليهود إعلان دولة يهودية، حدث زلزال في شمال فلسطين قتل الغالبية العظمى من سكان مدينة صفد، والذين كان الكثير منهم من اليهود، وكانوا قد هاجروا حديثًا إلى فلسطين. وقد أرجع الحاخام موشيه تيتلباوم Moshe Teitelbaum [1759 - 1841 م]- وهو حاخام پولندي شهير - هذا الزلزال إلى عدم رضاء الله عن الهجرة اليهودية الزائدة إلى فلسطين. وقال تيتلباوم: "ليست مشيئة الله أن نذهب إلى أرض إسرائيل عن طريق جهودنا ومشيئتنا"» (¬2). وينقل المسيري عن (موسوعة الصهيونية وإسرائيل Encyclopedia of Zionism and Israel) أن المنظمات اليهودية الرئيسة (كافة) قد اتخذت من الصهيونية موقفًا معارضًا أو موقفًا غير صهيوني (أي غير مكترث). وقد دفعت المعارضة اليهودية القيادة الصهيونية لنقل مقر انعقاد المؤتمر الأول (1897م) من ميونخ إلى بازل. وأعلنت اللجنة التنفيذية لمجلس الحاخامات في ألمانيا، عشية انعقاد المؤتمر، اعتراضها على الصهيونية على أساس أن فكرة الدولة اليهودية تتعارض مع عقيدة الخلاص اليهودية. كما اتخذت المنظمتان اليهوديتان الرئيستان في إنجلترا (مجلس مندوبي اليهود البريطانيين، والهيئة ¬

(¬1) وردت المواثيق الثلاثة في فقرة تلمودية شهيرة في الجزء المسمى (كيتوبوت) ص (111)، والتي تتردد في أجزاء أخرى من التلمود، ويتعارض اثنان منها بوضوح مع المعتقدات الصهيونية. قالوا: «يقول الله إنه فرض على اليهود ثلاثة مواثيق: الأول: أنه يجب على اليهود ألا يتمردوا على غير اليهود. والثاني: يجب ألا يقوم اليهود بالهجرة الجماعية إلى فلسطين قبل مجيء المسيح. والميثاق الثالث يفرض على اليهود عدم الإلحاح في الصلاة طلبًا لقدوم المسيح، حتى لا يأتي قبل موعده المحدد» (!!). [انظر، شاحاك وميزفينسكي: الأصولية اليهودية في إسرائيل (1/ 59)]. (¬2) نفسه (1/ 61 - 2) بتصرف يسير.

المرحلة البلفورية

اليهودية الإنجليزية) مواقف مماثلة. وأعرب مؤتمر الحاخامات الأمريكيين المركزي عن معارضته التفسير الصهيوني لليهودية باعتبار أن الصهيونية تؤكد الانتماء القومي. وعارض حاخام فيينا (مسقط رأس هرتزل) فكرة إنشاء دولة يهودية لأنها فكرة معادية لليهود وتُرجع كل شيء إلى العرق والقومية. وقد تبنت اللجنة اليهودية الأمريكية موقفًا مناهضًا للصهيونية عام 1906م، ثم انتهجت نهجًا غير صهيوني استمر حتى أواخر عام 1940م (¬1). ولكن هذا لم يعارض تكوين الجناح الأرثوذكسي المتدين لحركة المزراحي (أو المزراشي The Mizrachi) الصهيونية في عام 1902م بقيادة الربِّي إسحاق يعقوب رينز Yitzchak Yaacov Reines (1839 - 1915 م)، للتعبير عن مخاوف المتدينين من سيطرة العَلْمانيين على الحركة الصهيونية (¬2)، وكما يقول ياكوف رابكن (¬3): «اكتسب الدين أهمية إضافية بالنسبة إلى الصهاينة مهما كانت ممارستهم للشعائر اليهودية، لأنه يقدم الشرعية التاريخية الوحيدة لحقوق اليهود على أرض إسرائيل» اهـ. ... المرحلة البلفورية: بسبب افتقار الصهاينة إلى أية قاعدة قوية بين الجماهير اليهودية، كان عليهم أن يعتمدوا على قوة كبيرة غير يهودية يمكنها الاستفادة منهم ومن خدماتهم، فقدموا أنفسهم من البداية على أنهم يمكنهم أن يلعبوا دور الوسيط بين القوى الاستعمارية من جهة، واليهود من جهة أخرى، لتجنيدهم وتوطينهم في أحد المواقع التي تهم تلك القوى، وقد تم عرض الوساطة دون موافقة الجماعات اليهودية ذاتها. ولكن بمجرد أن نال الصهاينة الموافقة على خطتهم توجهوا إلى الجماعات اليهودية العاجزة، معلنين شرعيتهم الجديدة ¬

(¬1) انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (6/ الرفض اليهودي للصهيونية والتوحد الكامل معها). (¬2) انظر السابق (6/ تاريخ الصهيونية في روسيا). (¬3) ياكوف رابكن: المناهضة اليهودية للصهيونية، ص (55).

ومكانتهم المكتسبة، ومن ثم تسلموا قيادتها (¬1). ولم يكن هرتزل منظِّرًا من الدرجة الأولى، ولكنه كان صحفيًا يرصد الأحداث بذكاء ويتسم بحس عملي فائق، ولذلك فإنه بعد أن قضى بضع سنوات يغازل ألمانيا و (الباب العالي) (¬2) اكتشف أن الطريق إلى فلسطين يبدأ من لندن، فحمل أمتعته وذهب إلى هناك حيث وجد چوزيف شامبرلين Joseph Chamberlain (1836 - 1914 م) (وزير المستعمرات البريطانية في وزارة بلفور) شخصًا متفهمًا لمشروعه، متقبلًا للفكرة المبدئية وهي حل مسألة يهود شرق أوروپاعلى الطريقة الاستعمارية، أي نقلهم إلى الشرق. ولكن وقت تقسيم الدولة العثمانية لم يكن قد حان بعد، ولذا اقترح وزير المستعمرات على هرتزل أن يبحث عن أي أرض أخرى داخل الإمپراطورية الإنجليزية (قبرص - ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (112 - 3). (¬2) نشير هنا إلى موقف السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله (1842 - 1918م) من مساعي هرتزل لديه للحصول على أرض فلسطين، يقول رحمه الله في مذكراته ص (141): «وانتظم يهود العالم، وسعوا - عن طريق المحافل الماسونية - للعمل في سبيل الحصول على (الأرض الموعودة)! وجاءوا إليَّ بعد فترة وطلبوا مني أرضًا لتوطين اليهود في فلسطين مقابل أموال طائلة وبالطبع رفضت» اهـ. ولقد أورد هرتزل في مذكراته معلومات مفصَّلة عن هذا الحدث، فيقول في ص (29) من الترجمة العربية: «قال السلطان [عبد الحميد]: إنه لن يتخلى أبدًا عن القدس، فإن جامع عمر يجب أن يبقى بيد المسلمين دائمًا»، كذلك قال في ص (35): «قال السلطان لصديقه [نيولينسكي]: "إذا كان صديقك [أي هرتزل]، فانصحه أن لا يسير أبدًا في هذا الأمر، لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدًا من البلاد، لأنها ليست لي، بل لشعبي. لقد حصل شعبي على هذه البلاد بإراقة دمه، وقد غذَّاها فيما بعد بدمائه أيضًا. وسوف نغذيها، بل لن نسمح لأحد باغتصابها منَّا ... فليحتفظ اليهود بملايينهم، أما إذا سقطت الدولة [العثمانية] وتم تقسيمها فقد يحصل اليهود على فلسطين بلا مقابل. إننا لن نقسم هذه الدولة إلا على جثتنا، ولن أقبل تشريحنا لأي غرض كان» اهـ. ويحضرني موقف مشابه للملك عبد العزيز رحمه الله (1876/ 1880 - 1953م) تذكره جريس هالسل، فتقول: «خلال الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية اجتمع الرئيس روزفلت Franklin D. Roosevelt [1882 - 1945 م] في أعالي البحار مع الملك عبد العزيز آل سعود. قال روزفلت للعاهل السعودي: إن هتلر والنازيين اضطهدوا اليهود. فاليهود يحتاجون إلى وطن .. ولكن ماذا عن فلسطين؟ لقد رد الملك عبد العزيز قائلًا: ليس الفلسطينيون هم الذين اضطهدوا اليهود. النازيون هم الذين فعلوا ذلك. إن من الخطأ معاقبة الفلسطينيين بسبب ما فعله النازيون. لا يمكن أن أوافق على سلخ وطن عن شعب لإعطائه لشعب آخر» اهـ[جريس هالسل: يد الله، ص (85)].

العريش - شرق إفريقيا). وبعد عدة دراسات واقتراحات واتصالات، استقر الرأي على شرق إفريقيا بناءً على نصيحة شامبرلين، ولكن الخطة لم يُكتب لها النجاح (¬1). وهنا نشير إلى مسألة، وهي أن المشاريع الاستعمارية البريطانية لحل المسألة اليهودية لم تستقر على فلسطين في بادئ الأمر، بل إن هرتزل نفسه حينما طرح الفكرة كان يقارن بين حلَّين: «فلسطين أم الأرچنتين؟»، فتجده يقول (¬2): «وهناك الآن منطقتان موضوعتان في الاعتبار: فلسطين والأرچنتين. ففي كلا البلدين هناك تجارب استعمارية هامة، ولكن على أساس مبدأ خاطئ من التسلل التدريجي لليهود ... هل نختار فلسطين أم الأرچنتين؟ إننا سنأخذ ما يعطى لنا، وما يختاره الرأي العام اليهودي، وسوف تقرر الجمعية كلا الأمرين. إن الأرچنتين من أكثر بلاد العالم خصوبة، وهي تمتد على مساحات شاسعة، وفيها عدد قليل من السكان، ومناخها معتدل. وجمهورية الأرچنتين سوف تحصل على مكاسب كبيرة إذا تنازلت لنا عن قطعة من أراضيها. ولعل التسلل الحالي لليهود أثمر بعض الاستياء، ومن الضروري أن نوضح للجمهورية أن الحركة الجديدة تختلف اختلافًا جوهريًا ...». يقول الدكتور المسيري (¬3): «ويبدو أن هرتزل كان يرفض في بادئ الأمر (الخروج) على الطريقة الصهيونية الاستيطانية، شأنه في هذا شأن يهود الغرب المندمجين. وقد نشر في المجلة التي كان يكتب فيها عام 1892م تقارير تفصيلية عن أحوال الاستيطان اليهودي في الأرچنتين. وقد سافر زميل له مندوبًا عن يهود برلين ليدرس احتمالات توطين اليهود في البرازيل. كما كان هرتزل يعرف عن مشروع توطين اليهود في الأحساء في الجزيرة العربية، فكتب مقالًا عام 1892م يرفض فيه فكرة عودة اليهود إلى فلسطين وقال: "إن الوطن التاريخي لليهود لم يَعُد ذا قيمة بالنسبة لهم، ومن الطفولي أن يستمر اليهودي في البحث عن موقع جغرافي لوطنه". كما سخر في مقال له من إحدى مسرحيات الكاتب ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (71 - 2). (¬2) ثيودور هرتزل: الدولة اليهودية، ص (83 - 4) باختصار. (¬3) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (6/ أفكار هرتزل) بتصرف يسير.

الفرنسي ألكسندر دوما (الأب) Alexandre Dumas, père [1802 - 1870 م] لما تحتويه من أفكار وحلول صهيونية. ولكن هذا كان قبل أن يكتشف الاستعمار الغربي» اهـ. ولذلك، فإنه من الممكن لنا تسمية الاتجاه الذي كان يسلكه الزعماء الصهاينة الأوائل بأنه (صهيونية بلا صهيون)! ونحن لن نتوقف لاستعراض الأماكن المقترحة لتنفيذ المشروع الصهيوني ومناقشة آراء المؤيدين والمعارضين لها، ولكن نذكر أنه في نهاية المطاف استقرت بريطانيا على المشروع الصهيوني الفلسطيني. ويرجع هذا إلى عدة عوامل، كما يذكر هيكل (¬1): «إن الزعيم الصهيوني ناحوم سوكولوف، رفيق هرتزل في فكرة تأسيس الدولة، كتب في مذكراته يقول إنه فكر طويلًا وتأمل في الأسباب التي دعت إنجلترا إلى التحمس للمشروع الصهيوني في فلسطين ومساندته. وقال في مقدمة هذه المذكرات: "إنني سألت نفسي كثيرًا عن أسباب تأييد إنجلترا لحركتنا وتوصلت إلى أربعة أسباب أرتبها كما يلي: 1 - الطابع الإنجيلي للشعب الإنجليزي. 2 - تأثير الإنجيل في الأدب الإنجليزي. 3 - محبة فلسطين عند الإنجليز. 4 - السياسة الإنجليزية في الشرق الأدنى طوال القرن التاسع عشر". ومن البدهي أن الأسباب الثلاثة الأولى تنتمي إلى عالم التأليف والإنشاء، وأما السبب الرابع فهو وحده السبب الذي ينتمي إلى عالم الحقائق والمصالح». يقول وايزمان (¬2): «وللقارئ أن يسأل: ولماذا كانت حماسة الإنجليز لليهود، وشدة عطفهم على أماني اليهود في فلسطين؟ والجواب على ذلك أن الإنجليز لا سيما من كان منهم من المدرسة القديمة، هم أشد الناس تأثرًا بالتوراة، وتديُّن الإنجليز هو الذي ¬

(¬1) محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (1/ 42). (¬2) مذكرات وايزمان، ص (44).

ساعدنا على تحقيق آمالنا، لأن الإنجليزي المتدين يؤمن بما جاء في التوراة من وجوب عودة اليهود إلى فلسطين. وقد ساعدتنا الكنيسة الإنجليزية في هذا الباب أكبر المساعدات» اهـ. ولعل الذي أدى بهرتزل في نهاية المطاف أن يقبل المشروع الفلسطيني هو أنه كما قال (¬1): «إن اسم فلسطين في حد ذاته سيجتذب شعبنا بقوة ذات فاعلية رائعة». ولكن حتى عندما وقع الاختيار على فلسطين، فلم يأل هرتزل جهدًا في تأكيد الطبيعة اللادينية لهذا الاختيار. إذ أخبر البابا پيوس العاشر Pope Pius X (1835 - 1914 م) أن الصهاينة «لا يطالبون بالقدس» أو مثل هذه الأماكن المقدسة، وإنما ينصب جُلّ اهتمامهم على «الأرض العَلْمانية فقط». وكانت كلماته قاطعة بشكل أكبر عندما أكد لأحد الكاردينالات أنه لا يتطلع إلى أرض إسرائيل التاريخية، بل «يطالب فقط بالأرض الدنيوية» (¬2). يقول وايزمان (¬3): «... فهو [أي هرتزل] كان وراء فكرة، إلا أنه لم يكن قد حصر هذه الفكرة ضمن حدود وقيود كما فعلنا نحن يهود الشرق، نحن الذين بشرنا بفلسطين وباللغة العبرية ولا شيء آخر غير فلسطين وغير لغة اليهود ودين اليهود وتقاليد اليهود ... وكان على هذا كله أن ينتظر حتى تختمر فكرة الصهيونية وحتى تعمل عملها في نفوس اليهود ثم حتى يقوم على تحقيقها أولئك الذين آمنوا بالصهيونية على أنها قومية، والقومية لها وطن واحد، وكان وطن اليهود هو فلسطين، ولا شيء غير فلسطين» اهـ. وفي هذه الفترة، كانت قد شكَّلت حكومة آرثر چيمس بلفور Arthur James Balfour (1848 - 1940 م) - الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء آنذاك - لجنة خاصة لمناقشة هجرة يهود شرق أوروپاإلى إنجلترا، والتي كان لا بد الحد منها بسبب المشاكل التي بدأت تسببها. وعليه أصدرت حكومته في الفترة ما بين (1903 - 1905م) ما عرف باسم (قانون الغرباء) لمنع دخول اليهود إنجلترا. وقد أدى موقفه هذا إلى الهجوم عليه من قبل ¬

(¬1) ثيودور هرتزل: الدولة اليهودية، ص (84). (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (134 - 5). (¬3) مذكرات وايزمان، ص (15 - 6) باختصار.

المؤتمر الصهيوني السابع (1905م) حيث وصفت تصريحاته بأنها «معاداة صريحة للشعب اليهودي بأسره»، كما هاجمته الصحافة البريطانية أيضًا (¬1). وقد تجلت في هذه الفترة جهود حاييم وايزمان (والذي كان قد ترك انطباعًا جيدًا بسبب اكتشافه لمادة الأسيتون) لدى حكومة بلفور، «وقد اقترح وايزمان وغيره من الصهاينة حل المشكلة (من أعلى) من ناحية المصالح الإمپريالية، وليس من (أسفل)، من ناحية الجماهير اليهودية» (¬2). يقول وايزمان (¬3): «وكانت مقابلتي الأولى للورد بلفور في عام 1906م ... وكانت (إنجليزيتي) في ذلك الزمن لا تزال ضعيفة، ومع ذلك كان يتتبع كلامي في عناية واهتمام وعطف. وقد افتتح بلفور الحديث معي بسؤالي: "لماذا يوجد يهود معارضون فكرة أوغندا؟ إن الحكومة البريطانية معنية بكل إخلاص وعطف باليهود وآمانيهم، فلماذا لا تتعاونون معنا؟ "، وهنا اندفعت أنا في الشرح والبيان ... قلت له إن الصهيونية حركة سياسية قومية، ولكن لها ناحيتها الروحية. وقلت إنه لن يكتب النجاح للصهيونية السياسية القومية إلا إذا عنينا أولًا بناحيتها الروحية وأثرنا بذلك الحاسة الدينية في اليهود. وهل هناك ما يصلح لتحقيق هذا كله إلا فلسطين؟» (¬4). ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (4/ إنجلترا منذ عصر النهضة) و (6/ چيمس بلفور) بتصرف. (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (113). (¬3) مذكرات وايزمان، ص (20 - 1) باختصار. (¬4) يقول المسيري: «وافقت إنجلترا على توطين بعض اليهود في تلك الرقعة من إفريقيا [أوغندا]. وقد وافق المؤتمر الصهيوني السادس (1903م) بأغلبية 295 صوتًا مقابل 17 صوتًا على تشكيل لجنة لتقصي الحقائق (لدراسة إمكانيات الاستيطان اليهودي هناك). وعندما انسحب بعض أعضاء الوفود احتجاجًا على القرار، أعيد التصويت مرة أخرى ليحصل القرار المقترح على موافقة الأغلبية مرة ثانية، وهذا ما لا تذكره المراجع الصهيونية ليبينوا مدى تمسك اليهود بأرض الميعاد. وكان من بين مؤيدي مشروع أوغندا في المؤتمر الأعضاء الذين مثَّلوا المستوطنين الصهاينة في فلسطين. وفي المؤتمر الصهيوني السابع (1905م) رفض المجتمعون مشروع أوغندا بعد أن قدمت لجنة تقصي الحقائق، التي بعث بها المؤتمر السادس إلى المنطقة، تقريرًا سلبيًا، أي إن أساس الرفض لم يكن دينيًا، ولا يعبِّر عن تمسك ديني بأرض الميعاد» اهـ[د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (135) بتصرف يسير].

يقول القس الأيرلندي مايكل پريور (¬1): «وكان وايزمان يعلم جيدًا الفائدة التي كانت ستعود على إنجلترا من دعمها للصهيونية. وكان يعتقد أنه من البدهي أن تحتاج إنجلترا لفلسطين لحماية المدخل إلى مصر، وأنه إذا تم فتح فلسطين للمستوطنات اليهودية "سيربح الإنجليز حاجزًا فعالًا وسيكون لدينا وطن"» اهـ. ولكن توقف دور إنجلترا قليلًا بسبب دخولها في صراعات داخلية في انتخابات عام 1906م بين الحزب الليبرالي بقيادة هنري كامپبل-بانرمان Henry Campbell-Bannerman (1836 - 1908 م) والحزب المحافظ بقيادة بلفور، والتي فاز فيها الحزب الليبرالي بغالبية ساحقة .. في هذه الفترة (والتي نسي فيها بلفور فكرته الصهيونية إلى حد كبير)، وجَّه وايزمان جهوده إلى ما سماه بـ (الصهيونية العملية)، يقول (¬2): «وكانت الفترة الواقعة بين عامي 1906 و1914م، أي بين بدء تطور فكرة الصهيونية من فكرة روحية سياسية إلى فكرة عملية، وبين تاريخ الحرب العالمية الأولى، فترة حاسمة في تاريخ اليهود ... وكانت سنة 1906م هي السنة التي اعتزمت فيها أن أوقف فيها حياتي على الصهيونية ... وكنا نحن - يهود روسيا -، أصحاب الصهيونية العملية، نؤمن بوجوب احتلال أراضي فلسطين، والعمل على إحياء التقاليد اليهودية بين يهود العالم، وإحياء وتعميم اللغة العبرية، ثم ربط يهود العالم بفكرة وطنهم ووطنهم هو فلسطين ... وفي سنة 1907م، تلك التي خطت فيها الصهيونية خطوة واسعة إلى الأمام، كان قد صار واجبًا عليّ أن أذهب أنا بنفسي إلى فلسطين وأدرس الحالة هناك، ثم نأخذ في العمل المجدي الذي يمكن أن نعتمد عليه للخطوات الحاسمة في المستقبل ... وقد ذهبت بالفعل إلى فلسطين، وقضيت هناك بضعة أسابيع، ثم عدت لأعمل، ولأواظب على العمل الذي يصلح لوثبات المستقبل، وفي الفترة التي انقضت بين سنتي 1907 و1914م، أرسلنا إلى فلسطين موجات جديدة من المهاجرين الأشداء، الممتلئين حماسة لفكرة وطنهم القومي، وأوجدنا حركة عمالية واسعة، وأنشأنا مستعمرات قوية، وقوينا المستعمرات الضعيفة ... ¬

(¬1) مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، ص (152). (¬2) مذكرات وايزمان، ص (22 - 5) باختصار.

وبالفعل، لقد وجدنا في فلسطين حين أخذنا وعدنا وجئنا إليها بعد الحرب لتنفيذ الوعد، أساسًا يصلح للبناء عليه. وشعرنا أننا لسنا بادئين، وإنما كنا نكمل بناءنا الذي بدأناه» اهـ. وأثناء الحرب العالمية الأولى طلبت الحكومة البريطانية سنة 1915م من السير هربرت صامويل Herbert Samuel (1870 - 1963 م) أن يضع تصورًا لما ينبغي أن يكون عليه أمر فلسطين بعد النصر. وكتب هربرت صامويل بوصفه عضوًا في وزارة الحرب - إلى جانب كونه يهوديًا وصهيونيًا أيضًا - مذكرة بعنوان (مستقبل فلسطين) تاريخها 5 فبراير 1915م، توصل فيها إلى نتيجتين: 1 - إنه مهما يكن من شأن أية اتفاقات مع فرنسا، فإن فلسطين يجب أن تخرج من هذه الاتفاقيات، لأن سيطرة دولة أوروپية عظمى على موقع قريب من قناة السويس إلى هذه الدرجة يشكل تهديدًا مستمرًا ومخيفًا لخطوط المواصلات الإمپراطورية (البريطانية). إن الحزام الصحراوي الذي تمثله سيناء استطاع أن يؤدي دوره كحاجز استراتيچي كافٍ ضد الأتراك، لكنه ليس كافيًا للصمود أمام حملة عسكرية تقوم بها دولة أوروپية قوية. ولا نستطيع أن نفترض أن علاقاتنا الطيبة مع فرنسا سوف تستمر كذلك طوال الوقت. 2 - إن الحل الذي يوفر أكبر فرصة للنجاح ولضمان المصالح البريطانية هو إقامة اتحاد يهودي كبير تحت السيادة البريطانية في فلسطين. إن فلسطين يجب أن توضع بعد الحرب تحت السيطرة البريطانية، ويستطيع الحكم البريطاني فيها أن يعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية في شراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة والمساعدة على التطور الاقتصادي بحيث يتمكن اليهود من أن يصبحوا أكثرية في البلاد. هذا مع ملاحظة أن هناك عطفًا واسع الانتشار وعميق الجذور في العالم الپروتستانتي لفكرة إعادة الشعب العبراني إلى الأرض التي أعطتها له النبوءات القديمة (¬1). وفي عام 1916م جاءت الوزارة البريطانية الجديدة برئاسة دافيد لويد چورچ David Lloyd George (1863 - 1945 م)، والتي عُيِّن بلفور وزيرًا لخارجيتها، فعاد بلفور ¬

(¬1) محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (1/ 111).

لاهتماماته الصهيونية القديمة، في وقت كان يتلفظ فيه رجل أوروپاالمريض أنفاسه الأخيرة .. وكان قد «تلقَّى بلفور تعليمًا دينيًا من أمه في طفولته، وتشبَّع بتعاليم العهد القديم، خصوصًا في تفسيراتها الحرفية الپروتستانتية. ورؤية بلفور لليهود متأثرة بالرؤية الألفية الاسترجاعية التي تراهم باعتبارهم شعبًا مختارًا ومجرد وسيلة للتعجيل بالخلاص» (¬1). تقول ريچينا الشريف (¬2): «وارتباط بلفور الصريح بالصهيونية الذي تجلى بوضوح عندما كان وزيرًا للخارجية في عهد لويد چورچ يلقي ظلالًا على علاقته المبكرة بالمرحلة الهرتزلية. ومع أنه بقي يعبر عن تأييده للصهيونية طوال حياته إلا أن ميوله الصهيونية المبكرة تكشف بوضوح عن المزج بين اللاسامية بالنسبة للمسألة اليهودية والعنصرية بالنسبة للتاريخ بشكل عام. كان بلفور، كشامبرلين، يؤمن بالمزايا الفريدة للجنس الأنجلوساكسوني، وكانت وطنيته العنصرية المكشوفة تدفعه إلى اللاسامية كما يتضح من المناقشات حول قانون الغرباء عام 1905م. لم يكن بلفور رئيس الحكومة التي قدمت القانون فحسب، ولكنه قام شخصيًا بدور فعال في تبنيه في مجلس العموم. وحين كان المشروع أمام اللجنة، رد بلفور على السير شارلز ديلك Sir Charles Dilke, 2nd Baronet (1843 - 1911 م) بقوله: "لقد أدان المبجل بارونيت الروح اللاسامية التي ألحقت الخزي الشديد بالسياسة الحديثة لدول أخرى في أوروپا، وأعلن أن يهود هذه البلاد يعدون عنصرًا مهمًا في المجتمع، ولم يكن على استعداد لإنكار أي من هذين الأمرين. لكنه كان يرى أنه ليس من مصلحة حضارة هذا الوطن أن يكون فيه كثير من الأشخاص الذين يبقون، نتيجة تصرفاتهم، شعبًا مستقلًا ويعتنقون دينًا يختلف عن دين الغالبية العظمى من مواطنيهم ولا يتزاوجون إلا من بني جنسهم. ليس من مصلحة الوطن أن يكونوا فيه مهما بلغت درجة وطنيتهم وقدرتهم وجدهم وانغماسهم في الحياة القومية". لم يترك هذا التصريح أدنى ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (6/ چيمس بلفور). (¬2) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (106 - 7) بتصرف يسير.

شك في أن السبب لإلقائه هو الحد من هجرة اليهود من أوروپاالشرقية وإنقاذ إنجلترا من "المآسي الأكيدة التي أصابت البلاد نتيجة هجرة هي في معظمها يهودية"، وكان رد فعل المؤتمر الصهيوني السابع هو "اتهام بلفور باللاسامية الصريحة ضد الشعب اليهودي كله". وحتى في عام 1914م اعترف بلفور لوايزمان بأنه كان يشارك كوزيما فاجنر Cosima Wagner [(1837 - 1930 م)، وهي معروفة بكونها أحد أشهر الشخصيات المعادية للسامية] كثيرًا من مشاعرها اللاسامية. وكان بلفور قد التقى بها في بايروت Bayreuth وبحث معها محنة اليهود في ألمانيا. وإعلان بلفور، الذي يعتبر تجسيدًا للصهيونية السياسية، كما أن شجبه العلني المتكرر لاضطهاد اليهود في أوروپاالشرقية حيث "كانت معاملة الجنس اليهودي عارًا على المسيحية" لا يعفيانه من لاساميته. وعلى النقيض من ذلك فإن مواقف بلفور الغامضة المبهمة من المسألة اليهودية تدفعنا إلى القناعة بأن الصهيونية والعنصرية واللاسامية إنما هي جوانب لظاهرة واحدة. فطبيعة الصهيونية لم تكن ملائمة للاسامية فحسب، ولكنها كانت تشجعها». يقول المسيري (¬1): «وقد يبدو الأمر لأول وهلة وكأنه نوع من التناقض الواضح الذي يقترب من الشيزوفرينيا ... ويتجلى هذا المزيج من الكره والإعجاب من جانب بلفور في تلك المقدمة التي كتبها لمؤلَّف سوكولوف (تاريخ الصهيونية History of Zionism) حيث يبدي معارضته لفكرة المُستوطَن البوذي أو المُستوطَن المسيحي؛ فالمسيحية والبوذية في رأيه هما مجرد أديان، ولكنه يقبل فكرة المُستوطَن اليهودي لأن "العرق والدين والوطن" أمور مترابطة بالنسبة إلى اليهود كما أن ولاءهم لدينهم وعرقهم أعمق بكثير من ولائهم للدولة التي يعيشون فيها» اهـ. وقبيل إعلان وفاة دولة الخلافة رسميًا، «طُرحت واقعيًا ضرورة الاتفاق على خطوط عامة لقسمة التركة. ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (6/ چيمس بلفور) بتصرف يسير.

وكانت لندن وپاريس قد اتفقتا على خطوط رئيسة: إنه لا بد من فصل بين الساحل والداخل (¬1) في خريطة جديدة للعالم العربي. فالقوى الأوروپية يمكن أن تتقاسم النفوذ في الساحل المطل على البحر الأبيض والمحيط به. وأما الداخل بكل ما فيه من الصحاري والقبائل فأمره معقد ويمكن تركه للعرب إذا ما ساعدوا على هزيمة تركيا. وهكذا أضيف إلى تقسيم العالم العربي خط رأسي مواز للخط الأفقي. الخط الرأسي يعزل الساحل عن الداخل. والخط الأفقي يعزل مصر عن سوريا (بوطن قومي لليهود في فلسطين طبقًا للسياسة البريطانية من پالمرستون إلى لويد چورچ). وكانت فرنسا تريد سوريا الشمالية وتعتقد أن لها حقوقًا تاريخية في بيروت وجبل لبنان وما حولها إلى وديان الشام، بما في ذلك دمشق وحمص وحلب وحماة والموصل (شمال العراق). وفي مقابل ذلك فإن بريطانيا كانت تريد إلى جانب مصر والسودان منطقة ما بين النهرين (العراق) والخليج. كما أن عينها كانت على فلسطين، فهي لازمة لخطتها في الفصل ما بين مصر وسوريا» (¬2). ولقد حصلت فرنسا بموجب معاهدة سايكس-پيكو التي عقدت بين فرنسا وإنجلترا في 3 يناير 1916م، على الضوء الأخضر لاحتلال قلقيلية وسوريا ولبنان، أما إنجلترا فحصلت على البصرة وبغداد والمنطقة الجنوبية من الشرق الأوسط. كما حصلت أيضًا على حيفا وعكا، أما باقي أراضي فلسطين فأصبحت تقع تحت حكم دولي غير محدد. ومهما كانت نوايا بريطانيا (استبعاد فلسطين من المنطقة العربية أم لا)، فإنه لا يتم ¬

(¬1) يقول هيكل: «على أي خريطة للعالم العربي يلمح أي باحث مهتم أن هناك سياسة غربية ثابتة تستهدف عزل (الساحل) عن (الداخل) .. هكذا في البحر الأبيض، وفي الخليج، وفي المحيط. و (الساحل) في أكثر الأحيان للغالبين أو معهم. و (الداخل) متروك لتناقضات أهله وخلافاتهم» اهـ[محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (1/ 77)]. (¬2) محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (1/ 93) باختصار.

احترام الوعود والتصريحات التي تمَّت تحت ضغوط الحرب؛ إلا إذا كانت تخدم المصالح بعد نهاية الحرب. وبما أن معاهدة (سايكس-پيكو) لم تنص على أن لفرنسا مصالح في فلسطين، رأت إنجلترا أن هذه المنطقة حيوية لمصالحها الاستراتيچية وحاجز لحماية مصر، وتحمي قناة السويس التي تؤدي إلى الهند .. ومع نهاية الحرب، أصبح تداخل مصالح الإنجليز والصهاينة حقيقة؛ ففلسطين اليهودية سوف تخدم كحامية محلية تدافع عن المصالح البريطانية في قناة السويس، وكذلك كجزيرة سياسية صغيرة تُكِنّ الولاء لبريطانيا وسط دول عربية مستقلة حديثًا. وكان من البديهي أن لا يقبل عرب فلسطين الحلم الصهيوني، وبذلك أصبحت المساندة الإنجليزية ضرورية لتحقيق هذا الحلم (¬1). تقول ريچينا الشريف (¬2): «التقت المصالح البريطانية والصهيونية في النهاية، ففي عام 1917م كان احتلال فلسطين ضرورة استراتيچية لبريطانيا، لكن المطالبة بذلك على أساس الفتح العسكري وحده لم تكن تتفق مع مبدأ الرئيس الأمريكي وودرو ولسن Woodrow Wilson [1856 - 1924 م] الذي ينص على عدم السماح بالاستيلاء على الأرض بالحرب، فضلًا عن أن ذلك كان يثير الرأي العام العالمي ضدها. لذلك كان الضم الصريح غير وارد، وكان السبيل الوحيد المتاح لبريطانيا هو ربط أهدافها الحربية بمبدأ تقرير المصير. وهكذا وجد الصهيونيون البريطانيون غير اليهود أن من المناسب جدًا وضع فلسطين تحت الوصاية من أجل أصحابها الذين ورد ذكرهم في العهد القديم (شعب الله القديم). ولم يسبب ذلك راحة للضمير البريطاني فحسب، ولكنه ترك الباب مفتوحًا كذلك لمصالح بريطانيا المستقبلية في المنطقة» اهـ. ننقل أحداث هذه الفترة التاريخية الحاسمة من مذكرات وايزمان حيث يروي فيقول (¬3): «لقد حان الوقت لإعلان الحكومة البريطانية كلمتها الأخيرة في القضية. وقد وعد بلفور بأن يفعل هذا، وطلب من - أنا حاييم وايزمان - أن أكتب البيان الذي يجب ¬

(¬1) مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، ص (153 - 4) باختصار. (¬2) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (111) باختصار وتصرف يسير. (¬3) مذكرات وايزمان، ص (64 - 9) باختصار.

أن تذيعه الحكومة البريطانية، ووعد بأن يعرض البيان الذي أكتبه أنا على وزارة الحرب للموافقة عليه. وقد تعاون أعضاء اللجنة السياسية الصهيونية برئاسة سوكولوف على وضع صيغة البيان واشتركت أنا فيه. وبعد بحث طويل اتفقنا على صيغته وسلمناه في 18/ 7/1917م للورد بلفور، وهذا هو نصه: "إن حكومة جلالته بعد النظر في غايات المؤسسة الصهيونية تقبل مبدأ الاعتراف بفلسطين وطنًا قوميًا للشعب اليهودي في أن يبني حياته القومية في فلسطين تحت حماية تقام بعد عقد الصلح ونهاية الحرب في مصلحة الحلفاء. وترى حكومة جلالته، صيانةً لهذا المبدأ، أن تمنح الحكم الذاتي الداخلي للقومية اليهودية في فلسطين مع حرية الهجرة لليهود، وتأسيس منظمة قومية يهودية لإعادة بناء التطورات الاقتصادية للبلاد. أما شروط ومظاهر ذلك الحكم الذاتي وبراءة تأسيس المنظمة القومية اليهودية، فترى حكومة جلالته أن تبحث فيما بعد الدرس الوافي، مع ممثلين عن المؤسسة الصهيونية". ولكن بقي أن توافق عليه وزارة الحرب، فلقد كانت في بريطانيا في الحرب الأولى مثلما كان لها في الحرب الثانية وزارتان؛ الأولى الوزارة العامة، والأخرى وزارة الحرب. وقد دلتني تحرياتي على أن الوزارتين موافقتان على النص، وأن الموافقة الأخيرة مضمونة إلا إذا تدخل المعارضون اليهود في الأمر. وفي 18 سپتمبر سنة 1917م علمت أن البيان وضع أمام الوزارة العامة لبحثه وكان متغيبًا عن الاجتماع بلفور ولويد چورچ. فلما عرض البيان للبحث اعترض إدوين مونتاجو Edwin Montagu [1879 - 1924 م]- وهو عضو يهودي في الحكومة - على البيان وعلى عرضه على الوزارة (¬1)، فسحب من الأجندة ... وفي ذلك اليوم الذي سحب فيه البيان من أمام الوزارة بسبب تدخل مونتاجو اليهودي، طلبت أنا واللورد روتشيلد مقابلة بلفور، فحدد لنا ميعادين لذلك، فقابلته أنا في 19 ¬

(¬1) حيث كان يرى أنه معادٍ للسامية.

سپتمبر، وقابله روتشلد في 20 منه ... ولما قابلت بلفور أبدى لي كل عطف، وقال لي: "أنا لم أتأثر قط بمسلك مونتاجو ولم تتبدل عواطفي". ولما قابله روتشلد، قال له روتشلد: "عندي ما يقنعني بأن عضوًا في الوزارة يعمل ضدنا". فأجابه بلفور: "لا تهتم بذلك، فإن مونتاجو عضوًا في الحكومة لا في الوزارة". لما وضع بياننا أمام وزارة الحرب [4 أكتوبر 1917م]، وقف إدوين مونتاجو وألقى خطابًا مؤثرًا ينقض فيه البيان، والفكرة التي يرمي إليها، وبلغ من تأثره، وهو يتكلم، ويحذر من بغية أعمال الصهيونيين أنه بكى ... وفي يوم 9 أكتوبر 1917م، استطعت أن أبرق إلى [لويس] برانديس [الزعيم الصهيوني البارز] في أمريكا لأقول: اقترحت الوزارة بعد مداولات واتصالات، أن تعدل البيان كما يلي: "تنظر حكومة جلالته بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للجنس اليهودي وسوف تبذل أحسن جهودها لتسهيل تنفيذ ذلك، ويجب أن يكون مفهومًا أنه لن يجري شيئًا مما عسى أن يمس أو يؤثر في اتفاق الطوائف الأخرى في فلسطين المدنية والدينية. كما أن تحقيق هذه الغاية يجب أن لا يؤثر على الحقوق السياسية لليهود في خارج فلسطين". وقد طلبت في البرقية أن يسعى برانديس للحصول في الحال على موافقة ويلسون على هذا البيان الذي وافقت عليه حكومة جلالته. وقد كان تدخل مونتاجو هو السبب في تغيير هام في البيان، أما التغيير الأول: فهو أننا ذكرنا في بياننا "حق اليهود في إقامة حياتهم القومية في فلسطين"، بينما أن بيان الحكومة تكلم عن إنشاء وطن قومي في فلسطين. والفرق بين النصين كبير؛ ففي بياننا اعتراف بأن فلسطين كانت لنا في الماضي، وأننا عائدون إليها لإعادة بناء حياتنا القومية فيها، فأين هذا من إنشاء وطن قومي لنا في فلسطين؟ والتغيير الثاني: أننا تكلمنا في بياننا عن الشعب اليهودي، وتكلم بيان الحكومة عن الجنس اليهودي. إلا أننا، نحن دعاة الصهيونية، لم نسكت ... وأخيرًا اضطرت الوزارة إلى أن تؤلف لجنة يهودية قوامها أربعة أعضاء من الصهيونيين وأربعة أعضاء غير صهيونيين، وعرضت علينا نص بيانها لنحكم له أو عليه.

وقد اقترحت أنا تغيير كلمة إنشاء وطن قومي في فلسطين، واستبدالهما بكلمة: إعادة إنشاء. ذلك أن كلمة (إعادة) هنا تثبت حقوقنا الماضية في فلسطين. واقترحت كذلك استبدال كلمة الجنس اليهودي بكلمة الشعب اليهودي وقد فاز الجزء الثاني من اقتراحي بالقبول» اهـ. يقول مايكل پريور (¬1): «أما بالنسبة للمعنى الذي يجب إعطاؤه لـ (الوطن القومي اليهودي)، رد لويد چورچ على وايزمان: "كنا نعني دولة يهودية"، وتم التأكيد على هذا أثناء الحديث مع رئيس الوزراء وبلفور وتشرشل [Winston Churchill (1874 - 1965 م)] ووايزمان. وفكرة أن الإنجليز كانوا يستعملون كلمة (وطن قومي) بدلًا من (دولة) كان أسلوبًا يهدف إلى عدم إثارة المعارضة العربية؛ وهذا يتضح جيدًا في مذكرة هربرت يونج Herbert Young من وزارة الخارجية الذي كتب عام 1921م: "يجب القول بأن أخذ المعارضة الفلسطينية في عين الاعتبار كان مشكلة تتعلق بالأسلوب وليس أبدًا بالاستراتيچية؛ حيث كانت الاستراتيچية العامة هي تشجيع الهجرة التدريجية لليهود إلى فلسطين، حتى يصبح هذا البلد به أغلبية يهودية ... إلا أنه كان علينا التساؤل عما إذا كنا في وضع يسمح لنا بأن نقول للعرب ما نقصده بسياستنا وماذا تعني هذه السياسة بالفعل؟ ". ويبدو أن كلمة (وطن قومي) هي تعبير يقلل من شدة معنى مصطلح (دولة). أثناء المؤتمر الصهيوني الأول في 1897م، حدد هرتزل بنفسه هدف الصهيونية بأنه إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، ثم عاد وكتب في يومياته يوم 3 سپتمبر 1897م "في بازل أنشأت الدولة اليهودية"» اهـ. تقول ريچينا الشريف (¬2): «تختلف وجهات نظر المؤرخين حول السبب الذي حدا بالحكومة البريطانية أخيرًا، برئاسة لويد چورچ، لإصدار وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917م، وتتفاوت الأسباب بين دوافع حب اليهود والاهتمام بمصلحة الدولة واستراتيچية الحرب. وتختلف التفسيرات الرسمية كثيرًا كما تختلف تفسيرات المراقب العادي. قد تكون جميع ¬

(¬1) مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، ص (160 - 1) باختصار. (¬2) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (112).

هذه العناصر موجودة ولكنها كانت بحاجة إلى عامل يقلب الميزان لصالح الوعد، ولكن ينبغي البحث عن السبب الأساسي للميول الصهيونية لدى الأفراد الكثيرين الذين كان لهم ضلع في صنع القرار وصياغته». ويقول وايزمان (¬1): «إن لويد چورچ لا يعنيه من اليهود لا ماضيهم ولا حاضرهم ولا مستقبلهم، وإنما هو رجل متعصب، فهو يفضل إعطاء فلسطين لليهود على أن تذهب فلسطين إلى فرنسا الكاثوليكية. وفرنسا الكاثوليكية عند لويد چورچ هي دولة كافرة» اهـ. ولم يكن يخفى تصور بلفور حول مستقبل سكان فلسطين العرب فقد جاء في مذكرته (بالنسبة لسوريا وفلسطين وما بين النهرين): «ليس في نيتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين ... إن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية. وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيدة أم سيئة، فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد والحاجات الحالية وآمال المستقبل، وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة» (¬2). يقول هيكل (¬3): «إن أهل المنطقة المعنية: مصر وسوريا وفلسطين، لم يتصل بهم أحد في ذلك الوقت ولا سمع رأيهم، ولم يفاوضهم طرف أو يشركهم في رسم الخرائط وتخطيط الحدود. فالرياح في العادة لا تسأل الأرض التي تلقي عليها أحمالها من البذور - أو غيرها مما تحمله - عن شعورها أو فكرها أو مطلبها، وإنما هي قوة واحدة عاتية ترمي بما عندها، وأرض رخوة موحلة تتلقاه سواء أرادت أم لم ترد!». وكما يقول پريور (¬4): «في هذه الوثيقة [وعد بلفور] وعد شعبٌ، شعبًا ثانيًا، بإعطائه أرض شعب ثالث!» اهـ. فور انتهاء الحرب العالمية الأولى، شرع المنتصرون في تقسيم غنيمة الحرب. و «طبقًا لقرار مؤتمر سان ريمو San Remo [20/ 4/1920 م] لدول الحلفاء في ¬

(¬1) مذكرات وايزمان، ص (30). (¬2) انظر، د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (108). (¬3) محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (1/ 51). (¬4) مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، ص (158).

الحرب العالمية الأولى، وفي سياق اقتسام مناطق النفوذ في العالم بين الدول الاستعمارية الكبرى، وُضعت فلسطين عام 1920م تحت الانتداب البريطاني (في حين وضعت سوريا تحت الانتداب الفرنسي)، ورأت الحكومة البريطانية أن تحصل على تصديق دولي لهذا القرار، فعرضته على عصبة الأمم التي أصدرت صك الانتداب عام 1922م، وضمَّنته بريطانيا نص وعد بلفور، فأصبح بذلك وثيقة دولية، وأصبحت بريطانيا مسئولة عن تنفيذه أمام عصبة الأمم. وتجاهل صك الانتداب واقع فلسطين التاريخي والقومي، والأكثرية العربية الساحقة فيها التي لم يأت ذكرها إلا بشكل عرضي ومنقوص، رغم أن عددهم كان يفوق عندئذ 90% من مجموع السكان، بينما يمثل اليهود 10% فقط ولا تتجاوز أملاكهم 2% من الأراضي. كما جاء الصك مخالفًا بوضوح لميثاق عصبة الأمم نفسها الذي أعطى السكان الأصليين حقهم في اختيار الدولة المنتدبة طبقًا لرغبتهم. واتبعت سلطات الانتداب سياسة موالية للصهيونية، فعُيَّن الصهيوني السير هربرت صامويل مندوبًا ساميًا بريطانيًا، وتم إفساح المجال لعمل المؤسسات الصهيونية المختلفة، كما مُنحت عدة امتيازات للمستوطنين الصهاينة مكنتهم من السيطرة على كثير من المصالح الاقتصادية الحيوية في فلسطين، وجرى تعاون واسع بين سلطات الانتداب والوكالة اليهودية. وفي ظل هذه الأوضاع، تزايد النشاط الصهيوني واتجه إلى وسيلتين: الأولى: تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين على أوسع نطاق، والثانية: تشجيع انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود بالطرق المختلفة: كشراء الأراضي، ومنح القروض لليهود، وتقديم المساعدات لتشييد المستعمرات. ومن ناحية أخرى، شجعت سلطات الانتداب تأسيس المنظمات العسكرية الصهيونية، مثل: الهاجاناه Haganah، إتسل Etsel، وليحي Lehi. وشاركت هذه السلطات في تدريب أفرادها وتطوير وسائلها، وتسترت على نشاطها الإرهابي ضد السكان العرب [المسلمين]» (¬1). ... ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (6/ الانتداب) بتصرف يسير.

الصهيونية والنازية، وفاق أم شقاق؟!

الصهيونية والنازية، وفاق أم شقاق؟! ننتقل إلى ألمانيا لنناقش مسألة هي من الأهمية بمكان وقد تكون غائبة عن أذهان الكثيرين؛ ألا وهي حقيقة العلاقة بين الصهيونية والنازية .. فعلى الرغم من الدعاية الصهيونية الشرسة وتأكيد احتكار اليهود لدور الضحية في عملية الإبادة التي قام بها النازيون ضد كثير من الشعوب والأقليات الإثنية والدينية والعرْقية، فإن ثمة علاقة وطيدة بين الصهيونية والنازية تستحق الدراسة، خاصة وأن الموضوع يثير الآن شيئًا من الدهشة على الرغم من أنه لم يكن كذلك في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين. فنقول: من الملاحظ أنه توجد أصول فكرية مشتركة وتماثل بنيوي بين كلتا الأيديولوچيتين النازية والصهيونية؛ فأدولف هتلر، الزعيم النازي (¬1) الذي كان يؤمن بتفوق الجنس الآري على باقي الأجناس، كان يرى أن «العقيدة الدينية اليهودية تشتمل على توجيهات بعضها يتعلق بحفظ الدم اليهودي نقيًا» (¬2)، وكان كذلك يصف الدولة اليهودية [أو المشروع الصهيوني] أنها «الجهاز الحي المُعَدّ لحفظ العرق وإنمائه» (¬3). ولكن على الرغم من هذا الإعجاب الواضح بالمشروع، كان هتلر يكن كراهية عميقة لليهود كأفراد؛ يقول (¬4): «كنت أعتبر اليهود مواطنين لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولكن اختلاطي بأعداء السامية من مفكرين وساسة جعلني أشد تحفظًا في الحكم على أعداء اليهود، وما لبثت أن وجدتني في عداد المعنيين بالمسألة اليهودية بعد أن لمست بنفسي ¬

(¬1) كلمة (نازي NAZI) مأخوذة بالاختصار والتصرف من أول مقطعين من العبارة الألمانية (ناشيونال سوشياليزمس Nationalsozialismus) أو (الاشتراكية القومية)، والتي تشير إلى (الحزب القومي الاشتراكي العمالي الألماني Nationalsozialistische Deutsche Arbeiterpartei NSDAP) الذي ترأسه أدولف هتلر. (¬2) أدولف هتلر: كفاحي، ص (175). (¬3) السابق، ص (171). (¬4) السابق، ص (19).

تكتل الإسرائيليين وتجمعهم في حي واحد من أحياء فيينا، ومحافظتهم الشديدة على تقاليدهم وعاداتهم وطقوسهم. وقد زاد في اهتمامي بمسألتهم ظهور الحركة الصهيونية وانقسام يهود فيينا إلى فئتين: فئة تحبذ الحركة الجديدة وتدعو لها، وفئة تشجبها. وقد أطلق خصوم الصهيونية على أنفسهم اسم (اليهود الأحرار)، إلا أن انقسامهم هذا لم يؤثر في التضامن القائم بينهم، مما حملني على الاعتقاد أن انقسامهم مصطنع وأنهم يلعبون لعبتهم، لا في النمسا فحسب، بل في العالم كله. وهي لعبة سداها ولحمتها الكذب والرياء مما يتنافى والطهارة الخلقية، طهارة الذيل التي يدعيها اليهود. وطهارة الذيل هذه، وكل طهارة أخرى يدعيها اليهود، هي ذات طابع خاص، فبعدهم عن النظافة البعد كله أمر يصدم النظر منذ أن تقع العين على يهودي، وقد اضطررت لسد أنفي في كل مرة ألتقي أحد لابسي القفطان، لأن الرائحة التي تنبعث من أردائهم تنم عن العداء المستحكم بينهم وبين الماء والصابون» اهـ (¬1). كذلك ففي أثناء محاكمات نورمبرج Nürnberger Prozesse (¬2) كان الزعماء النازيون يؤكدون، الواحد تلو الآخر، أن الموقف النازي من اليهود تمت صياغته من خلال الأدبيات الصهيونية، خصوصًا كتابات مارتن بوبر Martin Buber (1878 - 1965 م) عن الدم والتربة. وقد أشار ألفريد روزنبرج Alfred Rosenberg (1893 - 1946 م)، أهم المنظِّرين النازيين، إلى أن «بوبر على وجه الخصوص هو الذي أعلن أن اليهود يجب أن يعودوا إلى أرض آسيا، فهناك فقط يمكنهم العثور على جذور الدم اليهودي». ولعله، بهذا، كان يشير إلى حديث بوبر عن اليهود باعتبارهم آسيويين حيث يقول «لأنهم إذا كانوا ¬

(¬1) وقد سُئل هتلر عن سبب معاداته لليهود، فكانت إجابته قصيرة، بقدر ما كانت قاسية وواضحة، قال: «لا يمكن أن يكون هناك شعبان مختاران، ونحن وحدنا شعب الإله المختار. هل هذه إجابة شافية عن السؤال؟». [انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ النازية الصهيونية: الأصول الفكرية المشتركة والتماثل البنيوي)]. (¬2) تعد محاكمات نورمبرج (20/ 11/1945 - 1/ 10/1946م) من أشهر المحاكمات التي شهدها التاريخ المعاصر، وقد عقدت لمقاضاة قادة ألمانيا النازية على أعمالهم العدوانية الوحشية وتجاربهم الطبية غير الإنسانية التي أجروها أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م).

قد طُردوا من فلسطين، ففلسطين لم تُطرَد منهم». وكان سترايخر Julius Streicher (1885 - 1946 م) يؤكد أثناء محاكمته أنه تعلم فكرة النقاء العرْقي من النبي عزرا: «لقد أكدت دائمًا حقيقة أن اليهود يجب أن يكونوا النموذج الذي يجب أن تحتذيه كل الأجناس، فلقد خلقوا قانونًا عنصريًا لأنفسهم، قانون موسى الذي يقول "إذا دخلت بلدًا أجنبيًا فلن تتزوج من نساء أجنبيات" (¬1)». وكانت الأدبيات الصهيونية الخاصة بنقاء اليهود العرْقي ثرية إلى أقصى حد في أوروپاحتى نهاية الثلاثينات (¬2). وفي المقابل، كما سبق لنا القول، فإن هرتزل - كما يرى ناحوم جولدمان - قد توصل إلى فكرته القومية من خلال معرفته بالفكرة والحضارة الألمانية. وكان رواد الصهيونية من اليهود ملمين بالتقاليد الحضارية الألمانية ويكنون لها الإعجاب ولا يكنون احترامًا كبيرًا للحضارات السلافية، وقد غيَّر هرتزل اسمه من (بنيامين) إلى (ثيودور) حتى (يؤلمن) اسمه، وسمَّى ماكس نوردو Max Nordau (1849 - 1923 م) نفسه بهذا الاسم لإعجابه الشديد بالنورديين .. ولا يختلف زعماء يهود اليديشية عن ذلك، فلغتهم اليديشية هي رطانة ألمانية أساسًا. وكذلك كانت لغة المؤتمرات الصهيونية الأولى هي الألمانية، كما توجه الزعماء الصهاينة أول ما توجهوا لقيصر ألمانيا لكي يتبنى المشروع الصهيوني ... وهكذا (¬3). ولكن العلاقة بين النازية والصهيونية تتعدى مجرد التماثل البنيوي، والتأثير والتأثر الفكري، إذ ثمة علاقة فعلية وُجدت على عدة مستويات: وأدناها هو كيفية استغلال النازيين للدعاية الصهيونية في الترويج لرؤيتهم الإجرامية. وقد تناول الكاتب الأمريكي اليهودي بنيامين ماتوفو Benyamin Matuvo هذا الجانب من العلاقة في دراسته (الرغبة الصهيونية والفعل النازي The Zionist Wish ¬

(¬1) يقصد ما جاء في عزرا: 10: 10 - 12 (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ النازية الصهيونية: الأصول الفكرية المشتركة والتماثل البنيوي) باختصار وتصرف يسير. (¬3) انظر السابق.

and The Nazi Deed)، حيث يؤكد أن الصهيونية مسئولة - إلى حد كبير - عن الجريمة النازية، لأن الصهاينة نشروا في ألمانيا ذاتها المزاعم الصهيونية الخاصة بالتميز اليهودي العرقي والانفصال القومي عن كل أوروپا. ويوثق الكاتب مقولته بالإشارة إلى عدد من التصريحات التي أدلى بها زعماء الصهاينة، فيشير - على سبيل المثال - إلى خطبة ألقاها ناحوم جولدمان في جامعة هايدلبرج Heidelberg عام 1920م (ثلاثة عشر عامًا قبل ظهور كتاب هتلر كفاحي). وقد زعم جولدمان، في خطبته هذه «أن اليهود شاركوا، بشكل ملاحظ للغاية، في الحركة التخريبية، وفي إسقاط الحكومة في نوفمبر 1918م». وقد أكد جولدمان أيضًا أنه لا توجد أية عوامل مشتركة بين يهود ألمانيا والألمان، وأن الألمان عندهم الحق في أن يمنعوا اليهود من الاشتراك في شئون (الفولك) الألماني (¬1). وقد قام الصهاينة الألمان بتطوير الأيديولوچيا الصهيونية والوصول بأطروحاتها إلى نتائجها المنطقية، أي تصفية الجماعات اليهودية في المنفى (أي العالم) تمامًا وإنشاء الدولة الصهيونية. وابتداءً من العشرينات، بدأ الزعماء الصهاينة في ألمانيا يطلقون التصريحات الصهيونية التي تؤكد الهوية اليهودية العضوية الخالصة وتنكر على اليهود انتماءهم إلى الأمة الألمانية. ولقد شبه وايزمان علاقة الألمان باليهود بصورة مجازية استقاها من عملية الهضم، فقال: «إن أي بلد يود تحاشي الاضطرابات المعوية عليه أن يستوعب عددًا محدودًا فقط من اليهود». وكان يرى أن عدد اليهود في ألمانيا أكبر من اللازم، أو بعبارة أخرى يوجد فائض بشري يهودي. وفي الفترة نفسها، وصف چاكوب كلاتزكين Jakob Klatzkin (1882 - 1948 م) اليهود بأنهم جسم مغروس وسط الأمم التي يعيشون بين ظهرانيها، ولذا فإن من حقهم أن يحاربوا ضد اليهود من أجل تماسُكهم القومي. وهذه كلها موضوعات قديمة مطروحة في كتابات هرتزل ونوردو، الأبوين الروحيين للصهيونية على وجه العموم والصهيونية الألمانية على وجه الخصوص، ولكنها اكتسبت أهمية خاصة من سياقها الزماني ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (156) بتصرف.

والمكاني في ضوء ما حدث بعد ذلك. وهي لا تختلف في جوهرها عن قول إرنست يونجر Ernst Jünger (1895 - 1998 م) (المفكر القومي العضوي الذي ألهم النازيين) أن «اليهود يتوهمون أن بوسعهم أن يصبحوا ألمانيين في ألمانيا، ولكن هذا أمر غير قابل للتحقق. فاليهود يواجهون خيارًا نهائيًا: إما أن يكونوا يهودًا في ألمانيا، أو لا يكونوا» اهـ. وفي ضوء هذا التوجه الصهيوني، لم يكن من الغريب أن يرى هتلر حين وصل إلى الحكم أن كثيرًا من الصهاينة على استعداد لتَفهُّم وجهة نظره، فقد صرح الحاخام الصهيوني يواكيم پرنز في يناير 1933م أنه لا مكان يمكن لليهود أن يختبئوا فيه. وقال: «بدلًا من الاندماج، نرى نحن الصهاينة أنه يجب الاعتراف بالأمة اليهودية وبالعرْق اليهودي». وحينما قام النازيون في 31 يناير 1933م بحرق الكتب التي كانوا يرونها هدامة، كتبت يوديش روندشاو Jüdische Rundschau (المجلة الناطقة باسم الاتحاد الصهيوني) تقول إن «كثيرًا من المؤلفين اليهود خونة تنكَّروا لجذورهم لأنهم شتتوا جهودهم بإسهامهم في الثقافة الألمانية غير اليهودية». وفي نبرة ترحيب واضحة، صرح إميل لودفيج Emil Ludwig [الكاتب اليهودي الألماني (1881 - 1948م)] بأن ظهور النازيين دفع بالآلاف من اليهود إلى حظيرة اليهودية مرة أخرى بعد أن كانوا قد ابتعدوا عنها. وقال: «ولذا، فأنا شخصيًا ممتن لهم». وترد نفس الفكرة النازية الصهيونية على لسان الشاعر الصهيوني حاييم بياليك Hayyim Nahman Bialik (1873 - 1934 م) إذ يرى أن الهتلرية أنقذت يهود ألمانيا، ويضيف: «أنا أيضًا مثل هتلر أُومِنُ بفكرة الدم». ولم تكن هذه المقالات والتصريحات سوى افتتاحيات تمهيدية للإعلان الصهيوني الألماني الرسمي الذي أصدرته المنظمة الصهيونية في ألمانيا، في 21 يونيو 1933م، بعد وصول النازيين إلى السلطة (إعلان الاتحاد الصهيوني بشأن وضع اليهود في دولة ألمانيا الجديدة Ausserung der Zionistischen Vereinigung für Deutschland zur Stellung der Juden im Neuen Deutschen Staat)،

والذي حدَّد طبيعة علاقة الصهاينة بالنظام النازي بشكل واضح لا إبهام فيه. وقد اتخذ الإعلان شكل مذكرة أُرسلت مباشرةً إلى الحزب النازي وهتلر وتم من خلالها تحديد المقولات المشتركة بين النازيين والصهاينة. ولقد أوضحت المذكرة نقط الالتقاء الفلسفية والنظرية بين الصهيونية والنازية؛ فأكدت أن الصهيونية مثل النازية تمزج الدين بالقومية، فالأصل والدين ووحدة المصير والوعي الجماعي يجب أن تكون كلها ذات دلالة حاسمة في صياغة حياة اليهود. وتؤكد المذكرة أن المنظمة تقبل مبدأ العرْق، أحد ثوابت الرؤية النازية، كأساس لتصنيف الأفراد والجماعات المختلفة، ولإنشاء علاقة واضحة مع الشعب الألماني وحقائقه القومية والعرْقية. كما تقوم المذكرة بتعريف اليهود تعريفًا عرْقيًا، مبينة أن هدف الصهيونية هو التصدي للزيجات المختلطة والحفاظ على نقاء الجماعة اليهودية. وقد طرحت المنظمة الصهيونية نفسها باعتبارها الحركة الوحيدة القادرة على أن تأتي بحل للمسألة اليهودية يحوز رضا الدولة النازية الجديدة ويتفق مع خُططها، حل يهدف إلى بعث اليهود من الناحية الاجتماعية والثقافية والأخلاقية في إطار فكرة الشعب العضوي ويتبع النموذج النازي. وتمضي المذكرة قائلة إن الصهيونية تأمل أن تحظى بالتعاون مع حكومة معادية لليهود بشكلٍ أساسي، إذ لا مجال للعواطف عند تناول المسألة اليهودية، فهي مسألة تهم كل الشعوب (وخصوصًا الشعب الألماني) في الوقت الراهن. وفي نهاية المذكرة/الإعلان، شجب الصهاينة جهود القوى المعادية للنازية وهتلر، والتي كانت قد طالبت في ربيع عام 1933م بمقاطعة ألمانيا النازية اقتصاديًا. ومما يجدر ذكره أن هذه الوثيقة لم تُكتَشف إلا عام 1962م ولم تُعط الذيوع الذي تستحقه، رغم أنها تلقي الكثير من الضوء على علاقة النازيين بالصهاينة. وربما لو عرف مؤرخو الإبادة النازية في الشرق والغرب بها لنظروا إلى الإبادة النازية لليهود نظرة مختلفة بعض الشيء. وحينما استولى النازيون على السلطة، سمحوا للصهاينة بالقيام بنشاطاتهم الحزبية، سواء اتخذت شكل اجتماعات أو إصدار منشورات أو جمع تبرعات أو تشجيع الهجرة أو

التدريب على الزراعة والحرف، أي إنهم سمحوا لهم بنشاط صهيوني خارجي كامل. كما كانت المجلات الصهيونية هي المجلات الوحيدة غير النازية المسموح لها بالصدور في ألمانيا. وقد تمتعت هذه المجلات بحريات غير عادية؛ فكان من حقها أن تدافع عن الصهيونية كفلسفة سياسية مستقلة. وحتى عام 1937م، لم يتأثر عدد صفحات يوديش روندشاو بالقرارات الاقتصادية التقشفية التي تقرر بمقتضاها إنقاص عدد صفحات كل المجلات (وضمنها المجلات الآرية). كما نشرت دور النشر الألمانية أعمال حاييم وايزمان ودافيد بن جوريون David Ben-Gurion (1886 - 1973 م) وآرثر روپين Arthur Ruppin (1876 - 1943 م) .. وكما يذكر إدوين بلاك Edwin Black مؤرخ (اتفاقية النقل/الهعفراه) (¬1)، إن «الصهيونية هي الفلسفة السياسية المستقلة الوحيدة التي وافق عليها النازيون» اهـ (¬2). ولكن يُثير بعض الدارسين تساؤلًا بخصوص المقاومة اليهودية والصهيونية للنازيين؛ فيُبيِّن ماريك إيديلمان Marek Edelman (1919/ 1922 - 2009 م)، أحد قواد تمرد جيتو وارسو Warsaw Ghetto، في حديث له مع مجلة هآرتس أن الأبطال الحقيقيين للمقاومة كانوا أعضاء حزب البوند واليهود المعادين للصهيونية والشيوعيين والتروتسكيين والصهاينة اليساريين، أما أعضاء التيار الصهيوني الأساسي فكان موقفهم هو موقف الحياد إياه. وكلما كان النضال ضد النازية يزداد ضراوة، كان الصهاينة يزدادون ابتعادًا عن بقية اليهود. ¬

(¬1) اتفاقية النقل/الهعفراه The Transfer Agreement/Haavrah: هي معاهدة وقَّعها المستوطنون الصهاينة مع النازيين عام 1933م، وكانت تقضي بأن تسمح السلطات الألمانية لليهود الذين يقررون الهجرة من ألمانيا إلى فلسطين بنقل جزء من أموالهم إلى هناك، ثم يسمح باستعمال هذا المبلغ فقط لشراء تجهيزات وآلات زراعية مختلفة من ألمانيا ويتم تصديرها إلى فلسطين. وهناك تقوم الشركة ببيع هذه البضائع وتسدد بأثمانها المبالغ المستحقة لمودعيها بعد وصولهم كمهاجرين إلى فلسطين، وتحتفظ بالفرق كعمولة أو ربح لها. [انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ معاهدة الهعفراه (الترانسفير))]. (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ النازية والصهيونية: العلاقة الفعلية) باختصار وتصرف يسير.

كذلك، فثمة نظرية تذهب إلى أن المقاومة لم تكن على أية حال لتجدي فتيلًا، وذلك لأن الأغلبية الساحقة من الشعب الألماني لم تكن تمانع في الإبادة، فضلًا عن أن آلة الحرب والمخابرات والإبادة الألمانية كانت على درجة عالية من الكفاءة والقدرة على الفتك (¬1). والموضوع خلافي للغاية، وقد بيَّنا عدم اكتراث الصهاينة بالمقاومة اليهودية وغير اليهودية للنازيين. ولكن يبدو أن المسألة كانت تتخطى مجرد عدم الاكتراث بمصير اليهود وعدم الاشتراك في المقاومة، إذ يبدو أن الصهاينة اكتشفوا، أثناء الإرهاب النازي ضد اليهود، ذلك التناقض العميق بين فكرة الدولة اليهودية ومحاولة إنقاذ اليهود. وقد حدد بن جوريون القضية بشكل قاطع (في 7 ديسمبر 1937م) حين أكد أن المسألة اليهودية لم تَعُد مشكلة آلاف اليهود المهدَّدين بالإبادة وإنما هي مشكلة الوطن القومي أو المستوطن الصهيوني. وقد أدرك بن جوريون خطورة فصل مشكلة اللاجئين اليهود عن المشروع الصهيوني والتفكير في توطين اللاجئين في أي مكان إن لم تستوعبهم فلسطين. وأكد بن جوريون أنه «إن استولت الرحمة على شعبنا ووجه طاقاته إلى إنقاذ اليهود في مختلف البلاد فإن ذلك سيؤدي إلى شطب الصهيونية من التاريخ». وفي العام التالي صرح بن جوريون أمام زعماء الصهيونية العمالية: «لو عرفت أن من الممكن إنقاذ كل أطفال ألمانيا بتوصيلهم إلى إنجلترا، في مقابل أن أنقذ نصفهم وأنقلهم إلى فلسطين فإني أختار الحل الثاني، إذ يتعين علينا أن نأخذ في اعتبارنا، لا حياة هؤلاء الأطفال وحسب، بل كذلك تاريخ شعب إسرائيل». وإذا كان بن جوريون على استعداد بالتضحية بنصف الأطفال اليهود من أجل الوطن القومي الصهيوني فإن إسحق جرونباوم Yitzhak Gruenbaum (1879 - 1970 م) (رئيس لجنة الإنقاذ بالوكالة اليهودية) قد تجاوز الحدود تمامًا؛ ففي حديث له أمام اللجنة التنفيذية الصهيونية في 18 فبراير 1943م، صرح قائلًا أنه لو سُئل إن كان من الممكن ¬

(¬1) السابق (2/ مقاومة الجماعات اليهودية للنازية) باختصار وتصرف يسير.

التبرع ببعض أموال النداء اليهودي الموحد لإنقاذ اليهود فإن إجابته ستكون «كلاَّ ثم كلاَّ» بشكل قاطع. وأضاف: «يجب أن نقاوم هذا الاتجاه نحو وضع النشاط الصهيوني في المرتبة الثانية ... إن بقرة واحدة في فلسطين أثمن من كل اليهود في پولندا». وكان وايزمان قد عبَّر عن نفس الفكرة النفعية عام 1937م حينما قال: «إن العجائز سَيَمُتْن، فهنَّ تراب وسيتحمَّلْن مصيرهنَّ، وينبغي عليهنَّ أن يفعلن ذلك». وانطلاقًا من هذه الرؤية المتمركزة حول المشروع الصهيوني وليس الإنسان اليهودي، أدَّت الحركة الصهيونية دورًا حاسمًا في تدمير جميع المحاولات الرامية إلى توطين اليهود في أماكن مختلفة من العالم، حتى يضمن الصهاينة تدفق المادة البشرية اليهودية على فلسطين. ولهذا، التزمت جولدا مائير، مندوبة الحركة الصهيونية في فلسطين، الصمت الكامل حيال مداولات مؤتمر إفيان Evian Conference (6 - 15 يوليو 1938م) باعتبارها أمرًا لا يخصها، وقد فسَّرت موقفها هذا فيما بعد، بأنها لم تكن تدري شيئًا عن عمليات الإبادة النازية!! وقد اكتشف النازيون أيضًا عمق تناقض مصالح الصهاينة مع اليهود واتفاق الموقف النازي مع الموقف الصهيوني؛ فاليهودي الصهيوني الذي يخدم هويته العضوية هو شخص يستحق الاحترام، على عكس اليهودي المتألمن المندمج الذي يتمسح في الهويات العضوية للآخرين ولا ينجح بطبيعة الحال في اكتسابها، لأنه حبيس هويته اليهودية، شاء أم أبى. ولعل هذا يُفسِّر السبب في أن النازيين اعتبروا أن عدوهم الحقيقي هو اليهود الأرثوذكس والجماعة المركزية للمواطنين اليهود من أتباع العقيدة اليهودية. ولعله يفسر أيضًا لم كانت علاقة الدولة النازية بالمنظمات الصهيونية تتسم بشيء من الود والتفاهم؛ فبينما كان الأرثوذكس والإصلاحيون يطالبون بمنح اليهود حقوقهم كمواطنين، وباندماجهم في مجتمعاتهم، كان الصهاينة يعارضون الاندماج ويعارضون منح اليهود أي حق، إلا حق الهجرة إلى الوطن القومي اليهودي. لكل هذا قام النظام النازي بتشجيع النشاط الصهيوني ودعم المؤسسات الصهيونية

أمريكا تتلقف الراية

والسماح للمنظمات الصهيونية بممارسة جميع أنشطتها من تعليم وتدريب على الاستيطان ونشر مجلاتها، بينما مُنع الاندماجيون والأرثوذكس من إلقاء الخطب، أو الإدلاء بتصريحات، أو جمع التبرعات أو مزاولة أي نشاط آخر (¬1). ... أمريكا تتلقف الراية: كتب أحاد هاعام Ahad Ha'am (1856 - 1927 م) يقول: «إن المستوطنين اليهود الجدد في فلسطين كانوا عبيدًا في التيه، وفجأة وجدوا أنفسهم وسط حرية بلا حدود، بل وسط حرية لا رادع لها. وقد أحدث هذا التحول المفاجئ في نفوسهم ميلًا إلى الاستبداد كما هي الحال حين يصبح العبد سيدًا. وهم يعاملون العرب بكثير من العداء والشراسة، ويمتهنون حقوقهم بصورة فجة وغير مقبولة، ثم يوجهون لهم الإهانات دون مبرر كاف، ويفاخرون بما يفعلون. يتصرفون وكأن العرب كلهم همج متوحشون يعيشون كالحيوانات دون فهم لحقيقة ما يجري حولهم» اهـ (¬2). لا يتسع المقام لسرد جرائم اليهود تجاه الشعب الفلسطيني الأعزل لأن الأمر سيطول، وهو واضحٌ ومشاهد، وقد أفاضت فيه الأبحاث والدراسات الموثقة، وليس (هولوكوست غزة) منا ببعيد! (27/ 12/2008 - 18/ 1/2009م). لكن العجيب أنك ترى وسط هذه الاعتداءات الصارخة إصرار اليهود على احتكار دور الضحية واستمالة عواطف الغرب، وتأمل قول وايزمان قديمًا (¬3): «زعماء فلسطين كانوا يتعمدون إثارة الاضطرابات، وتقتيل اليهود بدون تمييز لبعث الرعب في قلوب اليهود في الخارج، ¬

(¬1) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (2/ النازية والصهيونية: العلاقة الفعلية) باختصار وتصرف يسير. (¬2) انظر، محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (1/ 66). وأحاد هاعام تعني في العبرية (واحدًا من الناس)، وكان ذلك (اسم القلم) لواحد من أبرز الكتاب والمفكرين اليهود، وأوسعهم نفوذًا في ذلك الوقت، واسمه الحقيقي آشر هيرش چينسبرج Asher Hirsch Ginsberg. (¬3) مذكرات وايزمان، ص (117).

وإيهامهم بأنهم سيلقون في فلسطين من ضروب الاضطهاد ما اعتادوا أن يلقوه في روسيا في عهد القيصرية» اهـ. وحتى لا نغفل وننجرف وراء التيار المقيِّد للصراع في إطار (عربي-إسرائيلي) قومي مجرد، حيادًا عن الساحة العقدية الأصلية، ندلل بخبر نشرته (مفكرة الإسلام) في 18 مايو 2007م جاء فيه: «أكد السكرتير التنفيذي لجمعية اتحاد الكنائس في غزة (قسطنطين الدباغ)، أن توجُّه المؤسسات الغربية الداعمة للاتحاد لم تتغير عقب الحصار الغربي الذي فُرض على الشعب الفلسطيني. وقال الدباغ في تصريحات لصحيفة (فلسطين) اليومية: إنّ الدعم الذي يتلقاه الاتحاد من المؤسسات الغربية مثل السوق الأوروپية والكنائس التي تنتمي لمجلس الكنائس العالمي، مستمر ولم يتأثر بالحصار. ويأتي استمرار الدعم المقدَّم لاتحاد الكنائس فيما تعاني الجمعيات الإسلامية الفلسطينية - التي تقدم خدمات للعائلات الفقيرة والأيتام - بشدة في تحصيل الأموال من الخارج؛ بسبب الحصار الاقتصادي، ورفض البنوك التعامل مع هذه الجمعيات» اهـ. فهذه إشارة سريعة، بعدها نقول: قد تقدم الحديث عن المساعي الاستعمارية الغربية في حلّ رابطة المسلمين وإسقاط دولة الخلافة وإحياء النعرة القومية (الجاهلية المنتنة) بدلًا منها، فكان كما يقول هيكل (¬1): «كان التفكير الذي ورد في مناقشات مجلس الحرب هو أن يكون هناك (موزاييك Mosaic) من القوميات والأديان في منطقة الساحل». وقد لاقت هذه الدعوة قبولًا لدى بعض العرب، كالشريف حسين بن علي حاكم مكة (1254 - 1350هـ/1854 - 1931م)، فكان هو أول من نادى من الحجاز باستقلال العرب عن الدولة العثمانية، وقاد الثورة ضدها في عام 1916م، والتي عرفت في التاريخ باسم (الثورة العربية الكبرى). يقول هيكل (¬2): «يستطيع أي قارئ لمجموعات الوثائق البريطانية لرئاسة مجلس ¬

(¬1) محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (1/ 101). (¬2) السابق (1/ 100).

الوزراء ولوزارة الخارجية ولوزارة المستعمرات ولوزارة الحربية ولوزارة شئون الهند، أن يكتشف بدون عناء أن السياسة البريطانية، لم يكن في نواياها ولا في خططها ما يشير إلى أنها تريد أن تفي بكل التعهدات التي قطعتها على نفسها أثناء الحرب. يستوي في ذلك تلك العهود التي اتفقت عليها مع فرنسا بمقتضى اتفاقية سايكس-پيكو، أو تلك التي أعطتها لقيادات الثورة العربية في ذلك الوقت». ويقول مايكل پريور (¬1): «تعارضت مبادرات إنجلترا للوفاء بضمانات استقلال الدول العربية بعد الحرب، مع بنود معاهدة سايكس-پيكو؛ حيث وقعت إنجلترا في مأزق مأساوي تمثل في مساندتها للقضية الصهيونية - وفي الوقت ذاته - وعودها بضمان حقوق السكان الأصليين الفلسطينيين» اهـ. وأمام تصاعُد الرفض (العربي/الإسلامي) للسياسة البريطانية في فلسطين وللإرهاب الذي تمارسه المنظمات الصهيونية، ولمواجهة الانتفاضات المتتالية، أوفدت بريطانيا عدة لجان لدراسة الأوضاع في فلسطين واقتراح حلول لمشكلتها، ودرجت الحكومة البريطانية أيضًا، خلال فترة الانتداب، على إصدار (الكتب البيضاء) لمعالجة الأوضاع المتفجرة في فلسطين (¬2). وكان منها الكتاب الأبيض الصادر في أكتوبر 1930م، والمعروف باسم (كتاب پاسفيلد الأبيض Passfield White Paper)، وقد رفضت الوثيقة وجهة النظر القائلة بأن إنشاء وطن قومي لليهود هو الواجب الأساسي لنظام الانتداب. وقد تعرَّضت هذه السياسة لنقد عنيف من بعض الساسة البريطانيين الذين رأوا فيها اتجاهًا إلى تخلِّي الحكومة البريطانية عن التزاماتها الواردة في صك الانتداب. كذلك قدَّم ¬

(¬1) مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، ص (155). (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (6/ الانتداب) بتصرف يسير. والكتاب الأبيض: عبارة تُطلَق على مجموعة الوثائق التي تتضمن تقرير السياسة البريطانية فيما يتصل بموضوع ما والتي تقوم الحكومة بتقديمها إلى الپرلمان. وقد أدَّت هذه الوثائق دورًا مهمًا في تاريخ الانتداب البريطاني في فلسطين إذ صدر منها ست في الفترة من عام 1922 إلى 1939م [انظر السابق (6/ الكتاب الأبيض)].

وايزمان استقالته من رئاسة الوكالة اليهودية احتجاجًا على ما اعتبره إنكارًا لحقوق وآمال (الشعب اليهودي) في إنشاء وطن قومي. وفي مايو 1939م صدر (كتاب ماكدونالد الأبيض MacDonald White Paper)، والذي تضمن «أن الحكومة البريطانية قد تبنت سياسة جديدة غير سياسة التقسيم، وأن حكومة صاحب الجلالة تعلن - حتى تزيل أية شكوك - أنها لا تتبنَّى أية سياسة ترمي لجعل فلسطين دولة يهودية»، ذلك لأن «هذا يُعدُّ منافيًا لالتزاماتها تجاه العرب بمقتضى صك الانتداب، إذ أن هدف الحكومة البريطانية هو خَلْق دولة مستقلة خلال عشر سنوات ... يمكن فيها تأمين الحقوق الأساسية لكل من العرب واليهود، وستكون الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي إلقاء مسئولية الإدارات الحكومية على عاتق كل من اليهود والعرب وفقًا لنسبتهم العددية». وقد قرَّرت الحكومة في هذه الوثيقة وَقْف الهجرة اليهودية لا على أسس اقتصادية هذه المرة، ولكن على أساس مبدأ سياسي «ذلك أن الحكومة لا تستطيع أن ترى في وثيقة الانتداب أيَّ دليل على أن الهجرة يجب أن تستمر إلى الأبد ... أو أن قدرة البلاد الاقتصادية على امتصاصها يجب أن تكون المعيار الوحيد، إذ أن خوف العرب من الهجرة اليهودية غير المحدودة يجب أيضًا أن يؤخذ بعين الاعتبار عند وضع سياسة الهجرة». وقد اعتادت الحركة الصهيونية أن تنظر لهذه الوثيقة باعتبارها بداية (الخيانة النهائية) للالتزامات الواردة في إعلان بلفور (للشعب اليهودي) وللانتداب البريطاني على فلسطين. وأعلنت الحرب ضد الانتداب البريطاني على فلسطين منذ صدورها (¬1). تقول جريس هالسل (¬2): «استنادًا إلى صحيفة دافار الإسرائيلية Davar فإن ستانلي جولدفوت Stanley Goldfoot - سكرتير مؤسسة هيكل القدس The Jerusalem Temple Foundation - هو الذي وضع القنبلة التي دمرت جناحًا في فندق الملك ¬

(¬1) السابق (6/ الكتاب الأبيض) باختصار. (¬2) جريس هالسل: النبوءة والسياسة، ص (122) بتصرف يسير.

داود في القدس في 22 يوليو 1946م، وكانت تقيم في الفندق السكرتارية العامة لهيئة الانتداب البريطاني، كما كان ينزل فيه عدد من ضباط الأركان العسكرية العامة. لقد أسفرت تلك العملية عن مقتل حوالي 100 بريطاني ومسئولين آخرين، وكما خطط الصهيونيون فقد أدى ذلك إلى تسريع الانسحاب البريطاني من فلسطين» اهـ. ووعيًا منه بأن المصالح البريطانية قد تتعارض مع مصالح الصهيونية، بدأ دافيد بن جوريون في تحفيز اليهود الأمريكان والحصول على مساندة أكبر من الولايات المتحدة، بينما كان يواصل وايزمان في الوقت ذاته عمله الديپلوماسي في لندن التي كانت في حرب. وبموت الرئيس فرانكلين روزفلت، تولى نائبه هاري ترومان Harry S. Truman (1884 - 1972 م) مقاليد البيت الأبيض، وأثبت فورًا أنه مؤيد غيور للقضية الصهيونية (¬1). وفي 24 إپريل 1945م، كتب لتشرشل يطلب منه أن يرفع القيود ¬

(¬1) تقول ريچينا الشريف: «ومما لا ريب فيه أن خلفية ترومان الدينية أدَّت دورًا مهمًا في حياته فيما بعد، وعلى وجه العموم كان ترومان كإبراهام لينكولن Abraham Lincoln (1809 - 1865 م) الذي علم نفسه بنفسه؛ فقد درس التوراة بنفسه، وكان يؤمن بالتبرير التاريخي لوطن قومي يهودي، وكانت لديه قناعة أن وعد بلفور حقق آمال وأحلام الشعب اليهودي القديمة. وقصة حياة ترومان الشخصية، الحافلة بالاقتباسات والإشارات التوراتية الضمنية، تشير إلى ميله للإسهاب في ذكر التعاليم اليهودية المسيحية» اهـ[د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (143) باختصار]. وتقول باربرا فيكتور: «في الرابعة عشرة من عمره، كان ترومان قد قرأ لمرَّات أربع الكتاب المقدس من أوله إلى آخره. ومن الواضح أن معرفته بالماضي التوراتي في الشرق الأوسط، بعد أن عقد علاقات مع المحترم بيللي جراهام Billy Graham، أثرت فيه بشدة حين قرر ما كان سيفعله بشأن فلسطين. وكان ترومان يميل على نحو خاص إلى المزمور الذي كان يرمز إلى هذه المسيرة: "على أنهار بابل هناك جلسنا، فبكينا عندما تذكرنا صهيون" [المزمور 137: 1] ... ولقد ردَّ ترومان على المسيحيين غير الإنجيليين الذين اتهموه بأنه لم يعترف بإسرائيل إلا لاستمالة الناخبين اليهود في الولايات المتحدة، بأنه لطالما اعتُبِر مثل (قورش)، الإمپراطور الفارسي الذي انتصر على الطاغية البابلي نبوخذنصر وسمح لليهود عام 538ق .. م بالخروج من السبي والعودة إلى صهيون. ففي الواقع، عندما أثنى أحد أنصار ترومان عليه ذات يوم، لدوره الحاسم في إنشاء دولة إسرائيل، أجاب: "أجل، لقد كان حاسمًا كإبليس! أنا قورش الأمريكي" ... قبل أن يدخل عالم السياسة، حينما كان صانع قمصان في كنساس، طالما قال ترومان أنه كان لديه شريك يهودي، هو [إدوارد/إدي چاكوبسون Edward Jacobson (1891 - 1955 م)]. حينما سُئِل إن كان ذاك الرجل قد حظي بأي تأثير على قراره، ردَّ وعينه تلمع: "حسن، لقد كان لإدي علاقة كبيرة بالقرار الذي اتخذته بصدد إسرائيل"» اهـ[باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (168 - 9) باختصار وتصرف يسير].

المفروضة على هجرة اليهود - الذين استأصلهم القمع النازي عديم الرحمة - إلى فلسطين. وكنا نتوقع [واللفظ لمايكل پريور] أن يكون ترومان أول من يقبل في أمريكا حوالي ثلاثمائة ألف من اليهود الناجين من البربرية النازية والذين كانوا ينتظرون ذلك في العديد من معسكرات الإيواء. ولكن حققت خطته ميزيتين: حصل على دعم الصهاينة، وجنَّب أمريكا وطأة الهجرة اليهودية. وقال في أكتوبر 1945م وهو يوجه حديثه إلى الديپلوماسيين العرب: «أنا متأسف أيها السادة، فأنا ملتزم أمام مئات الآلاف من المواطنين الذين يريدون نجاح الصهيونية، وليس لديّ مئات الآلاف من العرب ضمن دوائري الانتخابية» (¬1). وأمام عدم إمكانية التوصل لاتفاق بشأن فلسطين، أعلنت حكومة إنجلترا يوم 18 فبراير 1947م «أن الحل الوحيد يكمن في تقديم المشكلة للأمم المتحدة». وفي 29 نوفمبر 1947م أصدرت هيئة الأمم المتحدة قرار التقسيم، ومما جاء في توصيات لجنة الأمم المتحدة، أن يأخذ الصهاينة 57% من الأرض التي كانت معظمها أراضي صالحة للزراعة، وكان معظمها يقطنها سكان عرب، أما الدولة الفلسطينية فتأخذ 43% من الأرض. برغم أن اليهود عام 1948م لم يمتلكوا إلا 6.6% من فلسطين. هذا بالإضافة إلى أن اليهود لم يكونوا يمثلون إلا ثلث الشعب (من 500.000 إلى 600.000 يهودي مقابل 1.4 مليون فلسطيني) .. كذلك تم منح صحراء النقب لليهود على الرغم من أن مائة ألف بدوي كانوا يزرعون جزءًا كبيرًا من الأراضي، بينما كان حوالي 475 يهودي فقط يعيشون في أربعة مستوطنات! وفور الموافقة على قرار التقسيم، أعلن الإنجليز أمام تصاعد الأعمال الهجومية الشبيهة بالحرب الأهلية ضد بريطانيا، أنهم ينهون الانتداب في فلسطين وأنهم سيغادرون المنطقة فورًا. وانتهى الانتداب البريطاني في 15 مايو 1948م (¬2)، وكان قد أعلن بن جوريون في الرابع عشر من الشهر نفسه قيام دولة إسرائيل. ¬

(¬1) انظر، مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، ص (165). (¬2) انظر السابق، ص (166 - 8).

يقول وايزمان (¬1): «في يوم 14/ 5/1948م، كان ترومان ومستشاروه على اتصال دائم لبحث الموقف في فلسطين ... وكان الانتداب البريطاني في فلسطين لم يبق له من العمر سوى ساعات معدودة. وفي يوم 14 مايو عقد مجلس المنتخبين اليهود جلسة تاريخية في تل أبيب وأعلنوا للعالم استقلال الدولة اليهودية منذ الساعة التي ينتهي فيها الانتداب على فلسطين. وقد وصلت إلى ليك سَكسس Lake Success أنباء غير رسمية عن إعلان اعتراف أمريكا بالدولة اليهودية، قبل دقائق معدودة من السادسة حسب توقيت أمريكا، وقد تشكك الممثلون، والوفود في هيئة الأمم المتحدة في صحة تلك الأنباء، وكان وفد أمريكا نفسه يجهلها، وأخيرًا وبعد اضطرابات وتباين في الأنباء، وقف الأستاذ چيسوپ Philip C. Jessup [1897 - 1986 م] في هيئة الأمم، وتلا البيان التالي الصادر من البيت الأبيض: "لقد بلغ مسامع الحكومة الأمريكية أنه قد أعلن في فلسطين قيام دولة يهودية فيها، وقد طلبت الحكومة المؤقتة في فلسطين أن نعترف بها، إن الحكومة الأمريكية تعترف بأن الحكومة المؤقتة المذكورة هي السلطة المشروعة لدولة إسرائيل". وهذا البيان التاريخي لم يدل على نضوج السياسة الأمريكية فحسب، وإنما أضاف إلى هذا أنه توَّج مساعي أمريكا الطويلة في سبيل الأماني الصهيونية بأحسن تاج ... وكان يوم 15/ 5/1948م يومًا تاريخيًا؛ فلقد توالت فيه اعترافات الدول بنا، وفي ذلك اليوم نفسه، تسلمت أنا البرقية التالية: "بمناسبة إقامة الدولة اليهودية نرسل إليك بأحسن تحياتنا. إنك قد عملت في سبيل خلق هذه الدولة ما لم يعمله أحد آخر من الأحياء. وكان عزمك وصلابتك قوة لنا. ونحن نتطلع إلى اليوم الذي نراك فيه رئيسًا للدولة" ... وبعد يومين وصلت إليّ أنباء، وأنا في الفندق في أمريكا بأن مجلس المنتخبين اختارني رئيسًا للدولة» اهـ. ... ¬

(¬1) مذكرات وايزمان، ص (211 - 3) باختصار.

الصهيونية في أمريكا: نبذة تاريخية

الصهيونية في أمريكا: نبذة تاريخية: يرجع تاريخ اليهود في أمريكا إلي عهد المبشر كريستوفر كولمبس، حيث يذكر هنري فورد أنه (¬1): «كان قد تم طرد أكثر من ثلاثمائة يهودي من إسپانيا في يوم 2 أغسطس 1492م، وفي اليوم التالي - أي في 3 أغسطس 1492م - بدأ كولمبس رحلته متجهًا نحو الغرب، وكان قد أخذ معه في هذه الرحلة بعض اليهود. ولم يكن أولئك اليهود الذين صحبهم كولمبس في رحلته نحو الغرب من اليهود الذين تم طردهم من إسپانيا بحيث يكون وجودهم في ركاب رحلة كولمبس مجرد مصادفة عشوائية، لا، لقد كان زعماء اليهود في إسپانيا متعاطفين مع خطط وآمال كولمبس إلى حد كبير منذ وقت طويل سابق لتاريخ طردهم الجماعي من إسپانيا، ويعترف كولمبس نفسه أنه كان يتحدث مرارًا وتكرارًا مع الزعماء اليهود، وكانت أول رسالة يبعث بها إلى إسپانيا أثناء قيامه بالرحلة موجهة إلى شخص يهودي شرح له كولمبس ما تم إنجازه من مراحل رحلته. ولقد كانت أموال أثرياء اليهود هي التي مكنت كولمبس بالفعل من تحقيق أولى رحلاته من أجل اكتشاف مجال جديد لمعارف العالم وثرواته باكتشاف ذلك النصف الآخر من العالم المتمثل في اكتشاف الأمريكتين، ولقد اختفت تلك القصة الشائعة التي كانت تقول إن مجوهرات الملكة إيزابيلا Isabella I of Castile [1451 - 1504 م] هي التي كانت مصدر تمويل رحلة كولمبس بعد التحريات والبحث العلمي الدقيق. وبدءًا من هذه البداية أخذ اليهود عمومًا يتطلعون باهتمام متزايد إلى أمريكا باعتبار أنها ميدان واعد ومثمر، وبدأت هجرة اليهود بقوة وكثافة تتجه نحو أمريكا الجنوبية، وتتجه أساسًا إلى البرازيل، ونظرًا لاشتراك اليهود الذين استقروا في البرازيل في حرب نشبت بين البرازيليين والهولنديين فلقد اضطر يهود البرازيل إلى الهجرة إلى نيوأمستردام New Amsterdam في أمريكا الشمالية، التي تغير اسمها إلى نيويورك New York بعد ذلك، ولم يكن حاكم نيو أمستردام الهولندي پيتر ستويفزنت Peter Stuyvesant ¬

(¬1) هنري فورد: اليهودي العالمي، ص (30 - 5) باختصار. Henry Ford: The International Jew

[1612 - 1672 م] يوافق على وجود اليهود بكثرة في الولاية التي يحكمها، وكان يأمرهم باستمرار بمغادرة ولايته ولكن اليهود كانوا قد اتخذوا احتياطهم ضد عدم الترحيب بوجودهم في تلك الولاية، إذ توجه مديرو الشركات بالولايات إلى الحاكم وأبلغوه أن وجود اليهود ضروري بالولاية، وذلك لضخامة رءوس الأموال اليهودية المستثمرة في هذه الشركات وامتلاك اليهود لمعظم الأسهم بها. وعلى كل حال أصر حاكم الولاية على منع اليهود من أن يتولوا الوظائف العامة، وحرم عليهم تراخيص محلات البيع بالتجزئة مما كان له تأثيره على أن يتجه اليهود نحو التجارة الخارجية التي سيطروا عليها واحتكروا الاستيراد والتصدير بسبب العلاقات والروابط التي تربطهم بيهود أوروپا. وهكذا تسبب پيتر ستويفزنت حاكم ولاية نيويورك بتضييقه الخناق على اليهود أن يتجه اليهود إلى مجالات أعمال جعلت من نيويورك ميناء أمريكا الرئيس. ولا عجب إذن أن يعتبر الكُتَّاب والمفكرون إزاء هذا الوضع المزدهر لليهود في أمريكا أن نيويورك هي أرض الميعاد التي كان يتحدث عنها أنبياء اليهود، وغدت نيويورك في نظرهم هي (القدس الجديدة). ولقد ذهب بعض اليهود إلى حد أبعد من ذلك، ذهبوا إلى حد أن أطلقوا على قمم جبال روكي تسمية (جبال صهيون)، ولقد كان يزكي هذا الاعتبار لديهم أن يضعوا في اعتبارهم ثروات اليهود الذين يعيشون على السواحل الأمريكية» اهـ. لم يكن لدى الحكومة الأمريكية حتى الحرب العالمية الأولى أدنى اهتمام بالصهيونية كحركة سياسية، ولكنها كحركة روحية كانت تشكل عنصرًا مهمًا في الفكر الأمريكي والحياة السياسية منذ الأيام الأولى للاستيطان الأوروپي في العالم الجديد خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر. وكانت العناصر اليهودية في الواقع أكثر وضوحًا في العالم الجديد. وكان الحجيج يحملون معهم الثقافة العبرية. وكما هي الحال في إنجلترا، كان اللاهوت الپيوريتاني يعتمد على النص الحرفي والتسليم بما في العهد القديم. وكان الپيوريتانيون يحسون أن تجاربهم الأمريكية تجعلهم متماثلين مع المنفيين والمقيمين العبرانيين الذين ذكرتهم التوراة، فقد أصبحت أمريكا (كنعان الجديدة)، كما أن هؤلاء فروا، كالعبرانيين القدامى، من عبودية فرعون (الملك چيمس الأول ملك

إنجلترا) من أرض مصر (إنجلترا) بحثًا عن ملاذ في الأرض الجديدة الموعودة من الاضطهاد الديني. وعندما أعلنوا الحرب على الهنود الحمر أصحاب البلاد كانوا يستحضرون العهد القديم (¬1)، كما تقول مونيكا سچو Monica Sjoo (1938 - 2005 م) وباربرا مُر Barbara Mor في كتابهما (الأم الكونية العظمى The Great Cosmic Mother): «قد صاغوا من أساطير مملكة إسرائيل فلسفة الأخلاق اللازمة للاستعمار والقتل والنهب. وعلى المستوى الأخلاقي، لم يستسهل المستعمر الپيوريتاني قتل الهندي الأحمر إلا لأنه كان يعتقد بأنه كان يقتل كنعانيًا فلسطينيًا» اهـ (¬2). وأصبحت التوراة مصدرًا لأسمائهم ودليلًا لتشريعهم، وغدوا يطلقون على أطفالهم أسماء البطارقة العبرانيين، وأضحت مدنهم ومستوطناتهم تحمل أسماء بيت لحم وعدن والخليل ويهودا وسالم وصهيون، بل والقدس. وأخذت أسماء أماكن فلسطين التي تكررت في التوراة تطلق من جديد على المستعمرات المحتلة حديثًا، وتغلغل التماثل الپيوريتاني مع الشخصيات العبرية التوراتية في الحياة القومية الحديثة في أمريكا المستعمرة، وأصبح هذا الإرث جزءًا لا يتجزأ لما يسمى بالتقاليد الأمريكية. وعندما انتهى عهد لاهوت القرن السابع عشر، بدأت فلسطين كوطن لليهود تحتل مكانة خاصة في الثقافة الأمريكية، وبقيت عودة اليهود إلى هذا (الوطن التقليدي) فكرة محببة ومبدأ مسلمًا به في كل من الأدبين الديني والشعبي. وكان الفكر الأمريكي عن فلسطين في بدايته مستمدًا من هذه المصادر التقليدية والأدبية (¬3). يقول محمد السماك (¬4): «وإذا كانت محاكم التفتيش الكاثوليكية قد دفعت باليهود إلى أوروپاهربًا بدينهم، فإن الصراع الديني في أوروپانفسها حمل في مطلع القرن السابع عشر المتهودين الجدد إلى العالم الجديد. وكما كانت لهجرة يهود الأندلس آثارٌ مباشرة ¬

(¬1) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (123 - 4) باختصار. (¬2) انظر، محمد عبد الحليم عبد الفتاح: الاختراق اليهودي للفاتيكان، ص (116) باختصار وتصرف يسير. (¬3) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (124). (¬4) محمد السماك: الصهيونية المسيحية، ص (56).

على حركة الإصلاح الديني وعلى حكومات الدول التي هاجروا إليها (وخاصة في فرنسا وبريطانيا وهولندا وبلچيكا)، كذلك كان لهجرة أتباع الدين الجديد من الپروتستانت والتطهيريين [الپيوريتانيين] آثار مباشرة على بلورة الشخصية الأمريكية بالصورة التي تقوم عليها حتى اليوم» اهـ. ومع نهاية القرن الثامن عشر أصبح الاعتقاد بالبعث اليهودي يشكل جانبًا مهمًا من اللاهوت الپروتستانتي الأمريكي، حيث احتلت معتقدات المسيح المنتظر والعصر الألفي السعيد مكانًا بارزًا. واتخذت الإنجيلية في الولايات المتحدة شكلًا أكثر هيمنة مما كانت عليه الحال في إنجلترا، وبلغت ذروتها في ثقافة شعبية متميزة كانت تتضمن كثيرًا من تعاليم الصهيونية الروحية والدينية. وعلى ذلك فمنذ فجر التاريخ الأمريكي كان هناك ميل مسيحي قوي للاعتقاد بأن مجيء المسيح المنتظر يجب أن ينتظر عودة الدولة اليهودية. لم يكن ذلك الرأي إجماعيًا بين اللاهوتيين المسيحيين، ولكنه كان يشكل جزءًا من مصفوفة التاريخ الفكري الأمريكي التي كانت تتضمن دائمًا خيطًا من العصر الألفي السعيد في الفكر الأمريكي المسيحي (¬1). وفي القرن التاسع عشر، حدث ما يمكن اعتباره الانشقاق الكبير بين منظِّري الألفية؛ فقد أخذ البريطانيون من لاهوتيي هذه الحركة بالرأي الذي يقول إن اليهود سوف يتحولون إلى المسيحية، وأنهم سوف يندمجون في الكنيسة قبل عودتهم إلى فلسطين، وإن هذه العودة سوف تتم كمسيحيين، وليس كيهود. أما الأمريكيون منهم، فأخذوا بالرأي الذي يقول إن اليهود سيعودون إلى فلسطين كيهود وقبل تحولهم إلى المسيحية، وأنهم سيبقون حتى بعد التحول إلى المسيحية، وبعد العودة إلى فلسطين، منفصلين عن الكنيسة (¬2). وكان أبرز رواد هذا الفكر هو چون نيلسون داربي John Nelson Darby (1800 - 1882 م)، والذي يعتبر «الأب الشرعي للحركة الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة» (¬3). ¬

(¬1) د. ريچينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، ص (124). (¬2) محمد السماك: الدين في القرار الأمريكي، ص (28 - 9). (¬3) السابق، ص (29).

وداربي هو لاهوتي (إنجليزي/أيرلندي) تعلم في كلية ترينيتي Trinity في دبلين Dublin، ثم عُيِّن قسيسًا في كنيسة أيرلندا، وكان أحد مؤسسي حركة (الإخوة الپليموث Plymouth Brethren)، وهي حركة إفانجليكية تأسست في أواخر العشرينات من القرن التاسع عشر، وتعتبر مدينة پليموث الإنجليزية هي أقوى مراكزها. ونتيجة خلافات شديدة مع أفراد الجماعة الإنجليزية، انفصل عنها داربي، وارتحل إلى الولايات المتحدة حيث قام بنشر أفكاره ونظرياته حول التفسير الحرفي للنبوءات التوراتية، وعرف أتباعه باسم الإخوة الداربيين Darbyite Brethren. ويعتبر داربي الأب الروحي للحركة التدبيرية Dispensationalism، والتي تقول بأن كل شيء مدبَّر ومبرمج، وأن على الإنسان العمل على تحقيق البرنامج الإلهي وفقًا للتفسير الحرفي للنبوءات التوراتية (¬1). وبعد وفاة داربي، تبنى دعوته من بعده سايروس سكوفيلد Cyrus Scofield (1843 - 1921 م) صاحب إنجيل سكوفيلد الشهير. تقول جريس هالسل (¬2): «إن نظام الإيمان عند سكوفيلد لم يبدأ معه، إنما يعود إلى چون نيلسون داربي»، وتذكر كذلك أنه «لاحقته الفضائح منذ سنواته الأولى في ولاية تنيسي Tennessee، وكونت شخصيته العنيدة. كان مدمنًا على الكحول، وواجه مشاكل عائلية. قاتل سكوفيلد في الحرب الأهلية الأمريكية، ومارس الحقوق في ولاية كنساس، ثم ترك بصورة مفاجئة تلك الولاية في عام 1877م متخليًا عن زوجته وطفليه، وسط اتهامه بأنه اختلس هبات سياسية مقدمة إلى شريك له ... وسجن سكوفيلد في مدينة سانت لويس في عام 1879م بتهمة التزوير، وفي السجن جرى تحوله الديني متأثرًا بچيمس بروكس James H. Brookes [1830 - 1897 م] أحد تلامذة داربي القدريين، وفي عام 1882م أصبح أسقف أپرشية دالاس الأولى» (¬3). ولقد جمع سكوفيلد نظريات وآراء وأفكار داربي وصاغ منها إنجيله، حتى إن مؤرخ ¬

(¬1) للتوسع، انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: John Nelson Darby، ومادة: Plymouth Brethren. (¬2) جريس هالسل: النبوءة والسياسة، ص (42). (¬3) جريس هالسل: يد الله، ص (55).

تلك الحقبة من الحركة الأصولية الإنجيلية كلارنس باس Clarence B. Bass يقول [في كتابه: خلفيات الحركة التدبيرية Backgrounds to Dispensationalism]: «إن المقارنة بين ملاحظات سكوفيلد وأعمال داربي تظهر بوضوح تام أن سكوفيلد لم يكن مجرد تلميذ لأعمال داربي، ولكنه كان يقلِّد ويستعير أفكاره وكلماته وعباراته». وفي عام [1896م] نشر سكوفيلد أول مؤلف له، وكان عنوانه (تقسيم كلمة الحق بحق Rightly Dividing the Word of Truth)، وفي هذا المؤلف طرح سكوفيلد المبادئ اللاهوتية للأصولية الإنجيلية التدبيرية، وقد اعتمد على هذا المؤلَّف في كتابة إنجيله الذي أصبح فيما بعد المعتمد الرسمي والأساس ومصدر إلهام من جاء بعده من القساوسة الأصوليين في الولايات المتحدة حتى اليوم (¬1). تقول جريس هالسل (¬2): «تكمن شهرة سكوفيلد المتواصلة في إنجيله المرجعي الذي صدر في عام 1909م، والذي وصفه أحد العلماء بأنه ربما يكون الوثيقة الأكثر أهمية في كل الأدبيات الأصولية». ويشير چوزيف كنفيلد Joseph Canfield في كتابه (سكوفيلد العجيب وكتابه The Incredible Scofield and His Book) إلى خطر قيام سكوفيلد بزرع آرائه الشخصية في الإنجيل، وهذا يعني - كما كتب كنفيلد - أن «العامة فشلت في التمييز بين كلمات سكوفيلد وكلمات الروح القدس» (¬3). تقول هالسل - على لسان أحد الإنجيليين - (¬4): «وفيما كان سكوفيلد يقرأ الكتاب المقدس شعر بأن بعض الفقرات التي كان يقرؤها كانت تكشف له عن خطوات معينة يحتاج المسيحيون إلى اتخاذها من أجل تسريع عودة المسيح، وفي الوقت الذي كانت هذه الكلمات تبدو واضحة له، كان واثقًا من أن الكثيرين غيره ربما لم يكونوا على هذا ¬

(¬1) محمد السماك: الدين في القرار الأمريكي، ص (34 - 5) بتصرف. (¬2) جريس هالسل: يد الله، ص (55). (¬3) جريس هالسل: النبوءة والسياسة، ص (43). (¬4) جريس هالسل: يد الله، ص (49).

القدر من الاستيعاب. وهكذا من أجل إظهار هذه المعاني، ومن أجل أن يجعل الكتاب المقدس واضحًا كالبلور حول ما يريده الله قبل أن يرسل ابنه في رحلة العودة، فكر سكوفيلد بإدخال ملاحظاته وأفكاره الخاصة. وهكذا أصبح بإمكاننا أن نفهم أحداث اليوم في ضوء ما سبق للكتاب المقدس أن أخبرنا به» اهـ. ولقد شهدت الحركة الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة انحسارًا واضحًا في الفترة بين عامي 1918 و1948م، وذلك عندما أعطت الولايات المتحدة الأولوية في سياستها الخارجية لمصالحها النفطية ولحاجتها الاستراتيچية لاحتواء النفوذ السوفيتي في العالم العربي. ولقد ولت الحركة اهتماماتها في هذه الحقبة للانعكاسات السلبية للحرب العالمية الأولى، وللانهيار الاقتصادي الذي تعرض له الاقتصاد الأمريكي، ولنظرية داروين حول النشوء والتطور. كان التحدي المحلي داخل المجتمع الأمريكي الذي واجهته، هو كيفية مقاومة الانحدار الخلقي، فغابت إسرائيل عن الاهتمام المركزي الذي كان قد ساد في القرن السابق (¬1). ولكن شهدت الفترة نفسها صعودًا قويًا للحركة الصهيونية اليهودية في الولايات المتحدة، والتي اتخذت نسقًا دينيًا، وذلك نتيجة تأسيس منظمة مزراحي أمريكا Mizrahi على يد مائير بار-إيلان (برلين) Meir Bar-Ilan (Berlin) (1880 - 1949 م)، وذلك عام 1911م، والتي صارت بمرور الوقت الأساس المادي لمنظمة المزراحي العالمية نظرًا لقوتها المالية والعددية والتنظيمية. وبار-إيلان هو زعيم صهيوني ديني، وكان من دعاة التشدد مع العرب والبريطانيين، كما كان من أنصار الحرب على مظاهر عدم التدين بين المستوطنين الصهاينة، وقد أطلق اسمه على إحدى الجامعات في إسرائيل. وهذا دليل مهم على التوجه الديني لليهود الأمريكيين (¬2). ولقد تلاقت مصالح الحركة الصهيونية اليهودية مع المصالح الخارجية للإدارة ¬

(¬1) محمد السماك: الدين في القرار الأمريكي، ص (37). (¬2) انظر، د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (6/ مائير بار إيلان، وتاريخ الصهيونية في الولايات المتحدة).

الأمريكية، ويحدثنا هيكل عن هذه الفترة البالغة الأهمية فيقول (¬1): «إن الحركة الصهيونية - وبالذات على أيام هرتزل - نزعت إلى الشك في أن أمريكا مركزًا منافسًا أكثر منها مركزًا مساعدًا على مشروعها الصهيوني. وكان قلق المنظمات الصهيونية من البديل الأمريكي شديدًا، لأن اليهود الذين سبقوا بالهجرة إلى أمريكا بدءوا يكتبون إلى عائلاتهم وإلى أصدقائهم يدعونهم إلى القارة الجديدة وينصحونهم بأن أمريكا هي في الواقع (إسرائيل الموعودة). وكان ذلك يأخذ من المشروع الصهيوني ولا يعطيه، فاليهود الذين ذهبوا إلى أمريكا تخلَّوْا تمامًا عن فكرة العودة إلى فلسطين، وراحوا يدعون غيرهم إلى التخلي أيضًا. وبعد فترة من المنافسة بين المركز الصهيوني الأوروپي الداعي إلى الهجرة لفلسطين وبين المركز اليهودي الجديد في أمريكا المطالب بالهجرة عبر المحيط، فإن الحركة الصهيونية في أوروپاأدركت أن عليها أن تتنازل أو تدخل في صدام يهودي-يهودي. ومع الاضطرابات التي سادت أوروپافي أعقاب حرب السبعين (¬2)، فإن الحركة الصهيونية الأوروپية بدأت تدرك أن المركز اليهودي الجديد في أمريكا يمكن أن يكون قوة دعم لها، وليس مجرد منافس يعترض خططها، خصوصًا مع إدراك القيادة الصهيونية في أوروپاإلى حقيقة أن هناك قدرة استيعابية محدودة لفلسطين، ثم إنه ليس من مصلحة المهاجرين اليهود حصرهم جميعًا في الشرق. وكان مما ساعد على مد الجسور بين يهود أمريكا وبين الحركة الصهيونية في أوروپاظهور عدد من الشخصيات اليهودية المؤثرة في المجتمع الأمريكي، وهي شخصيات تستطيع بعقيدتها الدينية وولائها العرقي أن تصبح مددًا لليهود في دولة تقوى اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا بسرعة كبيرة. وهكذا، فإنه في سنوات ما بين الحربين أصبح يهود أمريكا قوة دعم مادي ومعنوي مفيد للحركة الصهيونية ¬

(¬1) محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (1/ 164 - 5) باختصار. (¬2) حرب السبعين: هي حرب اندلعت بين فرنسا وپروسيا في الفترة من 19 يوليو 1870 إلى 10 مايو 1871م، وانتهت بانتصار ساحق للألمان وتوحد الإمپراطورية الألمانية تحت قيادة فيلهلم الأول Wilhelm I (1797 - 1888 م). [للتوسع، انظر (تاريخ أوروپا) لهربرت فيشر، الجزء الثاني (العصر الحديث)، ص (286) وما بعدها.

الأوروپية. لكن الأمر حتى ذلك الوقت لم يتعد كتابة المقالات وإقامة الحفلات وجمع التبرعات». ثم يقول (¬1): «إن دخول الولايات المتحدة الأمريكية إلى ساحة الحرب العالمية الثانية - وقيادة معسكر الحلفاء فيها بواقع الأمور - أتى بالولايات المتحدة إلى قلب الشرق الأوسط، وهو من أهم وأخطر ميادين الحرب وساحاتها العسكرية والسياسية. ولقد أظهرت الدراسات - وفقًا لما تقول به الوثائق الأمريكية - حقيقتين حول السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط: أولاهما: أن المنطقة سوف تصبح في مستقبل قريب جدًا أهم منابع النفط في وقت تتضاءل فيه الموارد الأمريكية نسبيًا وترتفع تكاليف استغلالها. وثانيتهما: أن المنطقة هي قلب العالم الاستراتيچي بعد الحرب، وبالتالي فهي مكان يتحتم على الولايات المتحدة أن ترتب نفسها لوجود طويل فيه، كما أن عليها أن تخلق أسبابًا وظروفًا ملائمة لهذا الوجود الطويل على كل المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية. وهكذا، فإن أول ظهور للدبابات الأمريكية كان على مسرح الشرق الأوسط مشاركة في معركة العلمين [23/ 10 - 5/ 11/1942م]، كما أن السلاح الأمريكي وصل إلى الفيلق اليهودي الذي توجه بسرعة إلى فلسطين، ثم إن الأسلحة الصغيرة الأمريكية بدأت توزع على المستوطنين في المستعمرات حتى يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم إذا وصل الغزاة الألمان إلى أسوار مستعمراتهم في فلسطين. كان واضحًا في ذلك الوقت أمام الحركة الصهيونية وغيرها ممن تعنيهم موازين القوى في العالم، أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تخرج من الحرب العالمية الثانية متربعة على قمة العالم سواء من الناحية الاقتصادية أو العسكرية، أو الثأثير الدولي الواسع بما في ذلك سلطة رسم خرائط ما بعد الحرب. وكان على الحركة الصهيونية أن ترتب نفسها بهذه الحقيقة الجديدة الحاكمة في عالم متغير. ¬

(¬1) السابق (1/ 165 - 70) باختصار وتصرف.

وكانت وسيلتها التي طرحت نفسها - تلقائيًا ومنطقيًا - هي أن يكون يهود أمريكا هم الجسر الذي يعبر عليه مشروع إقامة الوطن اليهودي في فلسطين من أحضان أوروپاإلى حِضْن أمريكا. ومن الواضح أن يهود أمريكا أصبحوا على استعداد لأسباب كثيرة: بينها بداية معرفة تبلورت لديهم بما حدث لليهود في ألمانيا ثم في أوروپاالتي خضع معظمها للاحتلال النازي سنوات الحرب. وكانت المعلومات في هذا الشأن متوفرة من قبل الحرب عن طريق موجة الهجرة في الثلاثينات، وقد حملت إلى الشواطئ الأمريكية يهودًا من طراز ألبرت أينشتاين Albert Einstein [1879 - 1955 م] وحتى طراز هنري كسنچر. ثم لحق بذلك ما تسرب من معلومات عما كان يجري وراء دخان الحرب. ومن نتيجة ذلك أنه تولد لدى يهود الولايات المتحدة إحساس بنوع ما من عقدة الذنب، وظنوا أن في استطاعتهم التعويض عنه بدمج شبه كامل بين الحركة الصهيونية في أوروپاوبين نظيرتها الأمريكية التي كانت قوتها تتنامى. ولم تكن الحركة الصهيونية في أوروپاتريد من يهود أمريكا مجرد حفلات تجمع فيها التبرعات، وإنما كانت تريد منهم أن يحملوا قوة الولايات المتحدة أو الجزء الأكبر منها وراء المشروع الإسرائيلي، وذلك بالتأييد السياسي والدعم العملي اقتصاديًا كان أو عسكريًا. وكانت أهم مقولات الحركة الصهيونية الأوروپية لنظيرتها الأمريكية في تحديد الواجبات المستقبلية هي القول بأن "يهود أوروپااستطاعوا الحصول على الوعد بالدولة - وعد بلفور - وقد أوشكوا على تحقيق قيام الدولة بمقتضاه، وعلى يهود أمريكا أن يستكملوا الطريق بتحقيق هدفين تحددا بوضوح، وهما: - تأكيد وتثبيت قيام الدولة. - تحقيق اعتراف العرب بقيامها باعتبار أن ذلك هو الضمان الشرعي الوحيد لبقائها. فمن الممكن للطرف الأقوى أن يفرض على طرف أضعف منه أمرًا واقعًا يريده، لكن ذلك لا يحقق لهذا المراد شرعيته، وإنما تستقر الشرعية حين يقدم الضعيف اعترافه بالأمر الواقع وإن كان مفروضًا عليه.

ثلاثة مؤشرات (1948 - 1967 - ؟؟؟؟)

وكان اجتماع فندق بلتيمور Baltimore بنيويورك [والذي عقد في الفترة من 9 إلى 11 مايو عام 1942م] هو الموعد الذي التقت فيه وامتزجت كل التنظيمات الصهيونية [ذات الطابع النظري الفلسفي] في أوروپاو [العملي] في أمريكا. وجاءت المادة الثامنة منه تعلن أن "هناك نظامًا عالميًا جديدًا سوف ينشأ بعد انتهاء هذه الحرب. وفي ظل هذا النظام العالمي الجديد فإن الصلة بين الشعب اليهودي وبين أرضه في فلسطين لا بد أن تتأكد وتحقق ذاتها بقيام دولة إسرائيل لنعطي اليهود حقوقهم التي هي مطلب شرعي وتاريخي لهم بعد ألفي سنة من الغياب في التيه". ثم مضى بيان المؤتمر يحدد ثلاثة أهداف للمستقبل القريب يتحمل مسئوليتها يهود أمريكا أكثر من غيرهم: - فتح أبواب الهجرة في فلسطين أمام اليهود دون أي قيود يضعها طرف محلي أو دولي. - ضرورة مساعدة المجتمع الصهيوني في إنشاء الدولة، وذلك عن طريق مساعدات مادية وسياسة وعسكرية كافية لتحقيق هذا المطلب. - اعتبار الدولة اليهودية المنتظرة جزءًا من بناء العالم الديمقراطي الجديد الذي ستكون قيادته دون منازع للولايات المتحدة الأمريكية. وكانت أصوات يهودية ارتفعت بالاعتراض على قرارت المؤتمر، لتخوفها من احتمال أن يؤدي برنامج بلتيمور إلى إدخال يهود أمريكا في مشاكل كبيرة بعد الحرب. لكن أصوات التحفظ والاعتراض ضاعت في الهواء، وأقرت معظم التجمعات اليهودية في الولايات المتحدة قرارات مؤتمر بلتيمور، وخرجت نشيطة تتبناها وتعمل على تحقيقها» اهـ. ... ثلاثة مؤشرات (1948 - 1967 - ؟؟؟؟): دخلت الأيديولوچية الصهيونية الاستعمارية العَلْمانية في أزمة؛ فمع تصاعد أعمال العنف الإسرائيلي غير المبررة، مع ما يقابلها من تأييد سلطوي غربي أعمى، بدأت

البلابل تثار لدى الرأي العام المتخبِّط، وبدأت الأيديولوچية تفقد شرعيتها شيئًا فشيئًا، ومن ثم أخذت في البحث عن مصدر تستمد منه شرعية جديدة لمواجهة انهيار محقق .. ولقد جاءت الأحداث بترتيب الله العليم الحكيم مزيَّنة في أعين الصهاينة، وموافقة (ظاهرًا) لما ذهبوا إليه في مخيلاتهم؛ فبعد أن أعلنت إسرائيل قيام دولتها في 1948م، بادر زعماء الصهيونية المسيحية بالإعلان - كما جاء على لسان الرئيس الأمريكي السابق چيمي كارتر Jimmy Carter - بأنه: «يعني خلق إسرائيل في عام 1948م العودة أخيرًا إلى أرض الميعاد التي أُخرج منها اليهود منذ مئات السنين ... إن إقامة الأمة الإسرائيلية هو تحقيق للنبوءة التوراتية والتنفيذ الجوهري لها» (¬1). وحينها كتب الطبيب الإنجيلي المبشِّر الدكتور لمويل نيلسون بيل Dr. Lemuel Nelson Bell [1894 - 1966 م]، رئيس تحرير مجلة (المسيحية اليوم Christianity Today) (¬2) يقول: «حقيقة أن توجد القدس الآن، للمرة الأولى منذ ألفي عام، بين ¬

(¬1) انظر، جريس هالسل: يد الله، ص (63). ولكن حينما اقترب كارتر من نهاية سنته الأولى في السلطة، انقلب أصدقاؤه المسيحيون الإنجيليون عليه مستاءين ومصابين بخيبة أمل جراء انحرافاته؛ من جهة، كانت سياسته الخارجية تسير في تعارض مع الميثاق الإبراهيمي، وهو ما بات جليًا حينما قاد مبادرة للسلام بين إسرائيل ومصر، أرغمت الدولة اليهودية على إعادة أرض استُولي عليها أثناء حربي 67 و73م، وهي صحراء سيناء. ومن جهة أخرى، كانت الإجراءات الداخلية بعيدة عن إرضاء اليمين المسيحي الذي اعتبر اهتمام كارتر بحقوق الإنسان وميوله الليبرالية، وخاصة موقفه من حرية الاختيار؛ أي دعمه للإجهاض، منافية لبعض معاييرهم الأخلاقية الأساسية [انظر، باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (202)]. ولقد أصدر كارتر مؤخرًا كتاب بعنوان (فلسطين: السلام وليس الفصل العنصري Palestine: Peace Not Apartheid)، ومنذ صدور الكتاب لم تتوقف الحملات الصهيونية القاسية على كارتر من قبل اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة؛ حيث سارع كينيث شتاين Kenneth W. Stein المدير السابق لمركز كارتر إلى إعلان قطيعته مع الرئيس السابق معتبرًا أن الكتاب مليء بالأخطاء، في حين أن دنيس روس الموفد الخاص السابق إلى الشرق الأوسط في عهد بيل كلينتون اتهم كارتر بأنه نسخ خرائط ونشرها في كتابه وهي ليست ملكه .. واعتبر مركز سيمون فيزنتال Simon Wiesenthal (1908 - 2005 م) - أحد أبرز المجموعات العالمية للدفاع عن مصالح اليهود في العالم الذي يتخذ من لوس أنچليس مقرًا له - في بيان أن چيمي كارتر أصبح أحد أشرس منتقدي إسرائيل [انظر، (مفكرة الإسلام)، 10 ديسمبر 2006م]. (¬2) والذي تزوجت ابنته من الإنجيلي الشهير بيللي جراهام، مؤسس المجلة.

أيدي اليهود وحدها يثير القارئ المولع، الذي هو أنا، بالكتاب المقدس وينعش إيمانه بصحة وملائمة رسالته» (¬1). وما لبث أن تعزز هذا الموقف بانتصار إسرائيل في حربها (الوقائية) في مايو عام 1967م على مصر وسوريا والأردن، والتي عرفت باسم (حرب الأيام الستة) أو (نكسة 67). يقول مايكل پريور (¬2): «لم يتم الاستناد الصريح على الكتاب المقدس بشكل بارز لدعم القومية الصهيونية إلا قبيل عام 1967م». وتقول باربرا فيكتور (¬3): «في عام 1967م، حينما هزمت إسرائيل الجيوش العربية إبان حرب الأيام الستة، مستولية على القدس وسواها من الأراضي (الأرض التوراتية لإسرائيل)، رأى المسيحيون الإنجيليون في ذلك علامة على أن الأيام الأخيرة كانت قريبة. منذ نشوء إسرائيل في 1948م - النشوء الذي وصفه أتباع حركة البرنامج الإلهي بـ (أهم علامة على قيام الساعة)، بل بالعلامة الكبرى -، لم تكن حماسة المسيحيين الأصوليين قد بلغت قط تلك الذرى. في الولايات المتحدة، حتى العَلْمانيون، الذين أصابتهم الهلاوس جراء التهديد السوفيتي هلّلوا لذلك الانتصار، معتبرين أن الدولة اليهودية كانت آخر معقل للديمقراطية في تلك المنطقة المضطربة من العالم. في الواقع، سادت الغبطة العالم بأسره. أخيرًا وبعد اضطهادٍ لليهود على مدى ألفيتين، أخذت الكنائس الواحدة تلو الأخرى تبدي ندمها وتتعهد بأن تعترف في تعاليمها بـ (تحالف الله الأبدي مع الشعب اليهودي)، و (مساهمة اليهودية في الحضارة العالمية وفي العقيدة المسيحية)» اهـ. أما على الجانب اليهودي، «فبعد احتلال ما تبقى من فلسطين في حرب يونيو 1967م، طرأ تحول على مواقف معظم الأحزاب الدينية الصهيونية وغير الصهيونية، من اعتبار هذه الحرب معجزة وإشارة ربانية إلى اعتبارها بداية الخلاص. ¬

(¬1) انظر، باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (167). (¬2) مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، ص (137). (¬3) باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (218).

وفي الأوساط الدينية غير الصهيونية انطلق الصوت الجديد من الولايات المتحدة، موطن زعيم حركة (الحاباد Chabad)، الحاخام مناحم مندل شنيرسون Menachem Mendel Schneerson [1902 - 1994 م] بالقول: "صحيح أن دولة إسرائيل بوصفها كيانًا صهيونيًا تعبير عن الكفر والتمرد على إرادة الله، ولذلك فهي بالتأكيد ليست تعبيرًا عن الخلاص. لكن، ومن ناحية أخرى، فإن أرض إسرائيل بسيادة يهودية تنطوي على معان ذات أهمية". ولذلك تدعو هذه الحركة إلى عدم التنازل عن أيٍّ من الأراضي التي احتُلت عام 1967م، وذلك من منطلق أحكام الشريعة الدينية» (¬1). كما رأى أتباع الحاخام إبراهام كوك (¬2) أنه «حتى إن كان العَلْمانيون يستوحون أفكارهم من القومية والاشتراكية الأوروپية، من وجهة نظر عالمية موضوعية، فإن روح أعمالهم مستوحاة من الإرادة الإلهية التي يخفيها الحافز العَلْماني الظاهر. وحتى إن أرادوا أن ينفوا نهائيًا قدوم المسيا مرة أخرى، فإن أعمالهم كانت تعجل بقدومه دون أن يعلموا ذلك؛ حيث كانوا يطبقون الخطة الإلهية. وكان يتعين على اليهودية الدينية أن تتخلل القومية العَلْمانية الملحدة إلى البريق الإلهي في قلب الصهيونية. فروح الله هي روح إسرائيل (القومية اليهودية)» (¬3). ولقد تلي ذلك انحسار تدريجي للأصوات اليهودية المناهضة للصهيونية .. يقول المسيري (¬4): «وقد تم في نهاية الأمر استيعاب الغالبية الساحقة من يهود ¬

(¬1) انظر، د. عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (2/ 439). يقول مايكل پريور: «ويرى والدمان Waldman أن القانون الإلهي هو الذي يفرض أن لا يترك اليهود شبرًا من أرض الوعد: "أعطانا الله عام 1967م فرصة فريدة إلا أن الإسرائيليين لم يجيدوا استغلالها. لم يحتلوا الأرض التي أتوا لغزوها ... وكأنهم رفضوا هدية الله، مع شكره في نفس الوقت. هذا ما أدى إلى إنزال معاناة حرب يوم كيپور Yom Kippur [10 رمضان 1393هـ/6 أكتوبر 1973م] على إسرائيل عقابًا لها"» اهـ[انظر، مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، ص (203)]. (¬2) سيأتي الحديث عنه بعد قليل. (¬3) انظر، مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، ص (191). (¬4) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (114 - 6) باختصار وتصرف يسير.

العالم في المنظومة الصهيونية من خلال: - جعل الصهيونية من نفسها جزءًا من الاستراتيچية الغربية العامة، إذ أصبحت دولة عميلة استوعبت الفائض البشري اليهودي وحوَّلته إلى كتلة بشرية متماسكة تخدم المصالح الغربية. وبالتالي لم يعد هناك أي تناقض بين أن يكون اليهودي صهيونيًا يدين بالولاء للدولة الصهيونية وأمريكيًا يدين بالولاء للولايات المتحدة، فالولاء للواحد يصُب في الولاء للآخر. - نجاح الصهيونية في تهدئة روع يهود الغرب المندمجين في مجتمعاتهم والذين كانوا يعارضون المشروع الصهيوني لأنه يطلب منهم ترك أوطانهم والاستيطان في فلسطين، إذ طرحت مفاهيم كثيرة مثل (صهيونية الدياسپورا) أي صهيونية اليهودي الذي يود أن يؤيد الحركة الصهيونية دون أن يهاجر. - نجاح الصهيونية في صهينة العقيدة اليهودية ذاتها بأن أعادت تفسير كثير من المفاهيم الدينية اليهودية خاصة فكرة العودة، فبعد أن كانت العودة محرَّمة إلا تحت قيادة الماشَّيح (المسيح المخلِّص اليهودي في آخر الأيام وحين يأذن الإله)، أفتى بعض الحاخامات أنه يمكن العودة والاستيطان في فلسطين إعدادًا لمقدم الماشَّيح. وبذلك، أصبحت الدولة اليهودية دولة يتغير مضمونها السياسي بتغيُّر مضمون المخاطب أيضًا: - فإذا كان اليهودي المخاطب يهوديًا متدينًا، فإن اليهود يصبحون شعبًا مقدسًا، مكروهًا من الأغيار بسبب قداسته، وسيتم نقله من المنفى إلى فلسطين استجابة للحلم الأزلي بالعودة وتحقيق رسالة اليهود ولتأسيس دولة يهودية تُطبِّق قوانين الشريعة اليهودية. - وإذا كان اليهودي المخاطَب اشتراكيًا ثوريًا، فإن الشعب اليهودي يُنقَل بسبب تركيبه الطبقي غير السوي في المنفى، وسيُوطَّن في فلسطين ليصبح تركيبه الطبقي عادي وليُطبِّع الشخصية اليهودية ولتأسيس دولة العمال والفلاحين التي ستحقق المُثُل الاشتراكية وتُثوِّر الشرقي العربي. - وإذا كان اليهودي المخاطب مهتمًا بالهُوية اليهودية، فالشعب اليهودي يُنقل من

نظرة إلى داخل المجتمع الإسرائيلي

المنفى لأنه إن استمر في البقاء فيه سيندمج وينصهر ولأن هُويته الإثنية العضوية لا يمكن أن تتحقق إلا في أرضه، داخل دولة يهودية خالصة تكون بمنزلة مركز روحي وثقافي ليهود العالم. - أما إذا كان اليهودي المخاطَب ليبراليًا ديمقراطيًا، فالشعب اليهودي يُنقَل لأنه شعب ليبرالي عادي يود أن يكون مثل كل الشعوب، خصوصًا الشعوب الغربية، وهو يُنقَل ليؤسس دولة ديمقراطية عَلْمانية تسودها القيم الليبرالية الغربية. وآليات نقل اليهود ليست الاستعمار الغربي أو العنف والإرهاب وإنما هي "القانون الدولي العام" متمثلًا في وعد بلفور (في الصياغة الصهيونية الليبرالية العَلْمانية)، أو "تنفيذًا للوعد الإلهي مع الإله" (في الصياغة الدينية)، أو بسبب "قوة اليهود الذاتية" (في الصياغة الداروينية)» اهـ. نظرة إلى داخل المجتمع الإسرائيلي: لو أردنا إلقاء نظرة إلى داخل المجتمع الإسرائيلي، فسنلاحظ صعود نجم الحريديم، وذلك رغم تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الإسرائيلي؛ حيث يشير إسرائيل شاحاك ونورتون ميزفينسكي إلى أن «الخط الفاصل بين اليهود التقليديين واليهود العَلْمانيين في الغالب يفتقد الوضوح، ولكن تشير الدراسات إلى أن 25% إلى 30% من اليهود الإسرائيليين هم من العَلْمانيين، و50 إلى 55% من التقليديين، وحوالي 20% متدينين» (¬1). وقد قدَّم هارولد فيش Harold Fisch أستاذ الأدب الإنجليزي - وهو أحد أهم منظِّري الصهيونية الإثنية الدينية الجدد، الذي هاجر إلى إسرائيل عام 1958م حيث درَّس في جامعة بار-إيلان وأسَّس معهد اليهودية والفكر الحديث - قدَّم تفسيرًا [مطوَّلًا] لهذه الظاهرة (¬2)، ولقد علَّق عليه الدكتور المسيري فقال (¬3): ¬

(¬1) شاحاك وميزفينسكي: الأصولية اليهودية في إسرائيل (1/ 37 - 8)، وكانت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في عام 1999م. (¬2) للاطلاع، انظر، د. عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (2/ 436 - 9). (¬3) السابق (2/ 439).

«... لكل هذا، بدأت المؤسسات الدينية الصهيونية تطرح نفسها كبديل، وتبدي استعدادها للإمساك بزمام القيادة، ولم تَعُد تقنع بدور الشريك الضعيف. وعلى كلٍّ .. إذا كانت إسرائيل دولة حقًا كما تدَّعي، فمن أحق بالحديث باسمها وإدارتها من المتدينين الصهاينة، الذين يرفعون لواء الدين القومي والقومية الدينية، ويُعرِّفون اليهودي تعريفًا يحل مشكلة المعنى بالنسبة له، ويسوِّغ وجوده في فلسطين في خط النار داخل الحروب المتكررة (فالشعب المختار - حسب تفسيرهم - شعب كُتبت عليه مجابهة الأغيار، ولا يمكن أن يقنع بالحياة الرخوة الهينة التي يبشر بها اللادينيون)؟!» اهـ. وكما كانت حرب 1967م - كما يذكر إيان لوستك - (¬1) هي «الحافز المباشر لنشوء الأصولية اليهودية المعاصرة»، فيُعتبر الحاخام الأشكنازي إبراهام إسحاق كوك Abraham Isaac Kook (1865 - 1935 م) هو «الشخصية المحورية لهذا التحول الرئيسي في التأويل التقليدي لليهودية» (¬2). ونترك الصفحات التالية لإسرائيل شاحاك ونورتون ميزفينسكي ليحدثانا عن تاريخ صعود الحركة الأصولية اليهودية المعاصرة .. يقول شاحاك وميزفينسكي (¬3): «والأصولية اليهودية تعرَّف هنا على نحو موجز على أنها الإيمان بأن الأرثوذكسية اليهودية، القائمة على التلمود البابلي وبقية الكتابات التلمودية ومجمل الشريعة (الهالاخاه Halakha)، ما زالت صالحة وسوف تظل كذلك أبدًا. ويؤمن الأصوليون اليهود بأن مرجعية الكتاب المقدس نفسه ترجع للتفسير الصحيح له في التلمود. ولا توجد الأصولية اليهودية في إسرائيل فقط، ولكن في كل بلد به مجتمع يهودي كبير العدد. وفي بلاد أخرى غير إسرائيل، حيث يشكل اليهود أقلية صغيرة بالنسبة لمجمل السكان، فإن الأهمية العامة للأصولية اليهودية تكون مقتصرة بشكل رئيس على حشد الدعم المالي والسياسي للأصوليين في إسرائيل. أما أهميتها في إسرائيل فإنها أكبر إلى حد بعيد؛ لأن معتنقيها يؤثرون في الدولة بطرق عديدة». ¬

(¬1) إيان لوستك: الأصولية اليهودية في إسرائيل، ص (26). (¬2) مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، ص (189). (¬3) شاحاك وميزفينسكي: الأصولية اليهودية في إسرائيل (1/ 33 - 4).

ويستكمل الكاتبان حديثهما فيقولان (¬1): «قام الحاخام إبراهام إسحاق كوك، الذي كان رئيس الحاخامات في فلسطين وأبرز الحاخامات المؤيدين للصهيونية، بابتكار هذه الأيديولوچية في أوائل العشرينيات وقام بتطويرها بعد ذلك، وكان الحاخام الأكبر كوك، كما كانوا يطلقون عليه، مؤلِّفًا غزير الإنتاج، واعتبره أتباعه ملهمًا من قِبَل الله. وبعد وفاته في عام 1935م وصل إلى مرتبة القديس في أوساط الحزب الديني القومي، كما وصل أيضًا ابنه وخليفته في زعامة الحزب الحاخام تسِفي يهودا كوك الأصغر Tzevi Yehuda Kook [1891 - 1981 م] إلى منزلة القداسة. وفي أوائل عام 1974م، وفور صدمة حرب أكتوبر 1973م، وقبل وقت قليل من توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار مع سوريا، قام أتباع الحاخام كوك مع مباركة وإرشاد زعيمهم الروحي بتأسيس جماعة جوش إيمونيم Gush Emunim (أي جماعة المؤمنين). وكانت أهداف جوش إيمونيم تتمثل في بناء مستوطنات جديدة والتوسع فيما هو موجود من المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة. وبمساعدة شيمون پيريز Shimon Peres، الذي أصبح في صيف 1974م وزيرًا للدفاع والشخص المسئول عن الأراضي المحتلة، نجحت جوش إيمونيم في وقت قصير بلغ بضع سنوات في تغيير سياسة الاستيطان الإسرائيلية. والمستوطنات اليهودية، التي تواصل الانتشار عبر الضفة الغربية واحتلال جانب كبير من قطاع غزة، تقدم شهادة حية ودليلًا بينًا على نفوذ جوش إيمونيم داخل المجتمع الإسرائيلي وعلى السياسات الحكومية الإسرائيلية. وتعتبر كتابات الحاخام كوك الأكبر نصوصًا مقدسة، وربما تكون أكثر غموضًا حتى من كتابات القبَّالاه الأخرى، والمعرفة المتعمقة بالكتابات التلمودية وكتابات القبَّالاه، بما في ذلك التفسيرات المعاصرة لكلتيهما، وكذلك الممارسة الخاصة، تعتبر شروطًا أساسية لفهم كتابات كوك. ولقد قام أتباع الحاخامين كوك (الأب والابن) بتطبيق المفاهيم على الحروب الإسرائيلية؛ فقام أحدهم، على سبيل المثال، بالإشارة إلى أن حرب 1967م كانت ¬

(¬1) السابق (2/ 35 - 61) باختصار.

(تحولًا ميتافيزيقيًا)، وأن الانتصارات الإسرائيلية حولت الأرض من قوة للشيطان إلى دائرة إلهية. وهذا يثبت أن (الحقبة المسيانية) جاءت. لم يشتق واضعو أيديولوچيات جوش إيمونيم، وخاصة الحاخام كوك الأكبر، أفكارهم فقط من التقاليد اليهودية، ولكنهم أيضًا كانوا مبدعين. والكيفية التي قاموا بها بتطوير المفهوم الخاص بالمسيح هي خير دليل على ذلك؛ فلقد تنبأ الكتاب المقدس بمسيح واحد فقط، أما التصوف اليهودي فقد تنبأ بمسيحَين، فتبعًا للقبَّالاه تختلف شخصية كل مسيح منهما عن الآخر، فالمسيح الأول، وهو شخصية عسكرية يطلق عليها (ابن يوسف)، سوف يمهد الطريق للخلاص، أما المسيح الثاني الذي يكون شخصية روحية ويطلق عليه (ابن داود)، فهو الذي يخلص العالم من خلال صناعة المعجزات المرئية للناظرين. ويؤمن أتباع جوش إيمونيم بأن المعجزات تحدث في أزمنة مختلفة. وتشير القبَّالاه إلى أن المسيحَين سوف يكونان فردَين. أما الحاخام كوك الأكبر فإنه بدَّل هذه الفكرة من خلال توقعه والدفاع عن فكرة تقول "بأن المسيح الأول سوف يكون شخصية جماعية (أو أشخاصًا متعددين) "، وهو يقصد بذلك شعب إسرائيل كله! ويطلق الحاخام كوك على مجموعة أتباعه اسم (أبناء يوسف). ويواصل زعماء جوش إيمونيم، على طريق الحاخام كوك الأكبر، اعتبار حاخاماتهم - وربما كل الأتباع أيضًا، تجسيدًا على الأقل لأحد المسيحَين المتنبأ بظهورهما. ويؤمن أعضاء جوش إيمونيم بأن هذه الفكرة يجب ألا يكشف عنها للغرباء. كما يؤمنون أيضًا بأن طائفتهم معصومة من الخطأ؛ بسبب الإرشاد الإلهي المعصوم الذي يقود خطاها. وقد اشتق الحاخام كوك هذا المفهوم من نبوءة الكتاب المقدس التي تقول إن المسيح (الآتي بالخلاص) سوف يكون "راكبًا على حمار، وعلى جحش بن أتان" (¬1). اعتبرت القبَّالاه هذه الآية دليلًا على وجود مسيحَين، أحدهما يركب على حمار والآخر على جحش. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: كيف يمكن للمسيح الجماعي (أي الذي هو ¬

(¬1) زكريا 9: 9

عبارة عن مجموعة من الأشخاص) أن يركب على حمار واحد؟ أجاب كوك عن السؤال بالقول بأن الحمار هو اليهود الذين يفتقرون إلى الحكمة والإيمان الصحيح (¬1). وافترض كوك أن المسيح الجماعي سوف يمتطي هؤلاء اليهود، وهذا يعني أن المسيح سوف يستغلهم من أجل مكاسب مادية وسوف يخلصهم إلى المدى الذي يمكن أن يخلصوا به. وفكرة الخلاص عبر الاتصال بشخصية روحانية قادرة كانت دائمًا موضوعًا شائعًا عبر كل أنواع حركات التصوف اليهودي. وهذا ينطبق ليس فقط على البشر وآثامهم ولكن أيضًا على الحيوانات والجماد. وفي إسرائيل، تحتوي الكتب الشعبية للأطفال المتدينين على الكثير من القصص التي تعبر عن هذه النقطة، وإحدى القصص الأكثر شيوعًا تتحدث عن بطة برية فاضلة تم اصطيادها وذبحها وتحويلها إلى طبق شهي لكي يتناوله حاخام مقدس، فهذه البطة تعتبر قد تم تخليصها من خلال أكلها بواسطة رجل مقدس. ويطبق أعضاء جوش إيمونيم هذا المذهب على الصراع على الأرض المقدسة. فيزعمون أن ما يبدو في ظاهره مصادرة للأرض المملوكة للعرب من أجل إقامة مستوطنات يهودية عليها، ليس عملًا من أعمال السرقة ولكنه تطهير لها من الخطيئة، ومن خلال هذا المنظور فإن الأرض يتم تخليصها من خلال نقلها من الدائرة الشيطانية إلى الدائرة الإلهية. ويؤمن أتباع جوش إيمونيم بأنه طالما لديهم الحق في الوصول للحقيقة الكاملة والوحيدة على نحو يفوق بقية اليهود فهم أفضل منهم، ويعتقد حاخامات جوش إيمونيم فيما يلي بالنسبة للحمار المسياني: نظرًا لرتبته المتواضعة في ترتيب الكائنات، فإن الحمار يجب أن يظل غافلًا عن الهدف النبيل لراكبه الملهم. وهذا هو الحال على الرغم من أن الحمار يفوق راكبه في الحجم والقوة، والراكب الإلهي في هذا السياق يقود الحمار نحو خلاصه. ¬

(¬1) وسبحان الله العظيم القائل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 9].

وبسبب هدفه النبيل، فإن الراكب يمكنه أن يركل الحمار أثناء الرحلة من أجل التأكد من أن الحمار لا ينحرف عن الدرب المقدَّر. وبنفس الطريقة يؤكد حاخامات جوش إيمونيم أن هذه الطائفة المسيانية يجب عليها أن تعامل وتقود اليهود مثل الحمار، والذين أفسدتهم الحضارة الغربية الشيطانية بعقلانيتها وديمقراطيتها، والذين يرفضون التخلي عن عاداتها البهيمية واعتناق الإيمان الحقيقي. ومن أجل ذلك فإن استخدام القوة أمر جائز إذا اقتضت الضرورة» اهـ. طالما سعت الأحزاب الدينية في السيطرة على شئون البلاد الداخلية، حتى يذكر إسرائيل شاحاك أن الحزب الديني القومي قام باستئجار مخبرين سريين من أجل التجسس على الوزراء لمعرفة من منهم ينتهك التعاليم الدينية اليهودية، واستمر هذا التجسس بينما كانت حكومتا رابين وپيريز في السلطة، وقام رابين Yitzhak Rabin [1922 - 1995 م] وپيريز أثناء وجودهما في السلطة بالحصول على نتائج التحريات السرية واستمرا في محاولة جعل وزرائهما لا ينتهكون أية شرائع دينية علنًا (¬1). ولقد حظي الطلب الحريدي بجعل الهالاخاه قانونًا لدولة إسرائيل في السنوات الحديثة بدعم متزايد من قبل الأعضاء الأكثر ورعًا من الحزب الديني القومي. وخصائص هذا الطلب نوجزها على النحو التالي: - إن السلطة السياسية لله يجب الاعتراف بها رسميًا وقضائيًا. والحاخامات المرسومون، الذين هم وكلاء الله المعتمدون، يجب أن يكونوا أصحاب القرار. - يجب على الحاخامات أن يشرفوا على كل المؤسسات الاجتماعية وأن يفصلوا في كل المسائل وأن يصدروا القرارات المتعلقة بالخدمات الاجتماعية ولهم الحظر على أي من المواد المطبوعة والمسموعة والمرئية. - كل التكاليف الدينية الخاصة بيوم السبت، والواجبات الدينية الأخرى، والفصل بين النساء والرجال في الأماكن العامة، واحتشام المرأة في سلوكها وملبسها يجب أن تطبق بواسطة القانون. يجب على الأفراد أن يكونوا ملزمين تبعًا للقانون بالإبلاغ عن كل ¬

(¬1) انظر، شاحاك وميزفينسكي: الأصولية اليهودية في إسرائيل (1/ 95).

الانتهاكات التي يلاحظونها إلى السلطات الحاخامية (¬1). يقول الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل (¬2): «ويبدو أن الدولة اليهودية حريصة على تشجيع هؤلاء المتدينين بما يعينهم على التفرغ لمهامهم الدينية؛ فهناك الآن 60% من المتدينين غير منشغلين بعمل ويتلقون نفقاتهم من الدولة في مقابل 12% من العَلْمانيين، والدولة تنفق 116 ألف شيكل على الطالب المتدين في مقابل 3600 شيكل على الطالب العَلْماني. وهناك 62% من المتدينين يتلقون إعفاءات ضريبية من الدولة في مقابل 10% من العَلْمانيين» اهـ. ومما يعد لافتًا للنظر، ذلك التنظيم الإرهابي اليهودي الأرثوذكسي المسمى (يد للأخوة/يد لاحيم Yad L'Achim)، الذي يرأسه حاليًا الحاخام شالوم ليفشيتس Shalom Dov Lifshitz، والذي تأسس سنة 1950م بهدف تعليم المهاجرين اليهود الجدد إلى إسرائيل التعاليم اليهودية الأرثوذكسية، ثم صب جل اهتمامه على مكافحة ظاهرة اعتناق اليهود لديانات أخرى خاصة الإسلام والنصرانية، وإكراه اليهود العَلْمانيين على الالتزام باليهودية، بل ومكافحة زواج الإسرائيليات من العرب كذلك. ويلجأ التنظيم للعنف المسلح، والخطف والتعذيب، وله شعار موجه للمسلمين والمسيحيين، عبارة عن ذراع يهودية تحمل لوحي التوراة، ومكتوب أسفلهما بخط بارز: «لن نفرط في يهودي واحد»، ويقوم بتوزيع منشورات في الشوارع تحمل أرقام هواتف تدعو للإبلاغ عن أي يهودي ارتد عن دينه. وعلى الرغم من أن تقرير الحالة الدينية الأمريكي اتهم (يد للأخوة) بممارسة الإرهاب والإكراه الديني والعنف المسلح ضد مخالفيهم في العقيدة اعتبارًا من 1998م فصاعدًا، فإن اللوبي اليهودي في الكونجرس نجح في رفع اسم التنظيم من تقرير الحالة الدينية الأمريكي اعتبارًا من 2001م حتى اليوم (¬3). ¬

(¬1) انظر السابق (1/ 110 - 1). (¬2) د. عبد العزيز مصطفى كامل: حُمَّى سنة 2000، ص (130 - 1)، نقلًا عن جريدة (الحياة) 21/ 2/1999م. (¬3) انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Yad L'Achim، والتقرير المنشور بجريدة (المصري اليوم)، عدد الخميس 13/ 5/2010م، ص (12)، بعنوان: تنظيم يهودي يطارد المتحولين للإسلام والمسيحية في إسرائيل، إعداد محمد عبود، الصحافي الباحث في الشئون الإسرائيلية.

قضية تامارين

قضية تامارين: أما على الجانب التعليمي، فلنا في (قضية تامارين) خير برهان على هيمنة الأصولية على المجتمع اليهودي .. يقول مايكل پريور (¬1): «ما دور النصوص المقدسة في تكوين القيم والمبادئ الأخلاقية؟ لتقويم تأثير التحيُّزات العِرْقِيَّة والدينية المكتسبة على الحكم الأخلاقي، قام عالم الاجتماع النفسي الإسرائيلي چورچ تامارين George Tamarin بإجراء دراسة حول تأثير الإفراط في حب الوطن (الشوفينية Chauvinism) على الحكم الأخلاقي. وقد درس التحيز في أيديولوچية الشباب الإسرائيلي، وتأثير التعليم غير النقدي لمفاهيم مثل الشعب المختار، وأعلوية (الديانات التوحيدية)، وأعمال الإبادة الجماعية التي قام بها أبطال الكتاب؟ واختار تامارين سفر يشوع لأنه يحتل مكانة مهمة في المناهج التعليمية الإسرائيلية في التاريخ القومي والأساطير القومية الإسرائيلية على حد سواء. وقسَّم عينة الدراسة إلى مجموعتين وهما: المجموعة الرئيسة، ومجموعة مكملة. وطلب من المجموعة الرئيسة التعليق على هذه الآيات من كتاب يشوع الذي يقرءونه كثيرًا: "فنفخ الكهنة في الأبواق فهتف الشعب عند سماع صوتها هتافًا شديدًا فسقط السور في مكانه. فاقتحم الشعب المدينة لا يلوي أحدهم على شيء واستولوا عليها. وقتلوا بحد السيف إكرامًا للرب جميع ما في المدينة من رجال ونساء وأطفال وشيوخ حتى البقر والغنم والحمير" (¬2). "واحتل يشوع في ذلك اليوم مقيدة وضربها بحد السيف وقتل ملكها وكل نفس فيها ولم يبق فيها باقيًا، وفعل بملكها كما فعل بملك أريحا. ثم اجتاز يشوع ورجاله من مقيدة إلى لبنة وحاربها. فأسلمها الرب أيضًا إلى أيدي بني إسرائيل، هي وملكها، فضربوها بحد السيف وقتلوا كل نفس فيها ولم يُبقوا فيها باقيًا، وفعلوا بملكها كما فعل بملك أريحا. واجتاز يشوع ورجاله من لبنة إلى لخيش وأحاط بها وحاربها. فأسلم الرب ¬

(¬1) مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، ص (49 - 52) بتصرف يسير. (¬2) يشوع 6: 20 - 21

الموقف حيال يشوع والجيش الإسرائيلي

لخيش إلى أيدي بني إسرائيل، فاستولوا عليها في اليوم الثاني وضربوها بحد السيف وقتلوا كل نفس فيها كما فعلوا بلبنة" (¬1). ومسح في دراسته تسع مجموعات من التلاميذ تبلغ أعمارهم ما بين 8 سنوات ونصف إلى 14 سنة، يمثلون كل ألوان الطيف في مدارس إسرائيل: المدن، القرى، الموشاف، الكيپوتز، المدارس الدينية، مراكز الشباب ... ومجموعة غير متناسقة من مدارس متنوعة. وكانت الأسئلة المطروحة على التلاميذ هي: السؤال الأول: في رأيكم، هل أحسن يشوع وبنو إسرائيل التصرف أم لا؟ اشرحوا وجهة نظركم. السؤال الثاني: لنفترض أن الجيش الإسرائيلي حاصر قرية عربية في إحدى المعارك. هل ترون أنه سيكون من الجيد أن يعامل السكان كما عامل يشوع سكان مدينة أريحا ومقيدة؟ اشرحوا لماذا. وأثناء دراسته، فرق تامارين بين الموافقة التامة والموافقة الجزئية والرفض التام، وتنقسم الإجابات كالتالي: الموقف حيال يشوع والجيش الإسرائيلي . . . . . . . . . . . . . . . . .. . موافقة تامة % ... موافقة جزئية % ... رفض تام % س1: حيال يشوع ............................ 66 ............. 8 ............... 26 س2: حيال الجيش الإسرائيلي والقرية العربية ... 30 ............. 8 ................ 62 ويستنتج تامارين أن هذا الاختبار أثبت وجود سلوك عالي التحيز لدى عدد معتبر من جيل المستقبل الذين تم استجوابهم؛ بحيث يبرر التوجهات العنصرية (دينية، وعرقية ¬

(¬1) يشوع 10: 28 - 32

الموقف حيال القتل الجماعي

قومية، وتبرير استراتيچي للإبادة ... وما إلى ذلك). أما المجموعة المكملة فقد تم تقسيمها إلى مجموعتين فرعيتين. وتم دعوة المجموعة الفرعية الأولى إلى الإجابة على السؤال الأول انطلاقًا من نص يشوع. أما المجموعة الفرعية الثانية، فقد عرض عليها الصيغة (الصينية) لسفر يشوع: "ذهب الچنرال لين - الذي أسس الإمپراطورية الصينية منذ 3000 عام - يحارب من أجل غزو بلد ما. وصل هو وجيشه أمام مدن كبيرة بها أسوار كبيرة ومحصنة. وظهر إله الحرب الصيني في حلم للچنرال لين ووعده بالنصر وأمره بقتل كل السكان لأنهم لم يكونوا يدينون بنفس الديانة. واستولى لين وجيوشه على المدن وقتلوا كل نفس من رجال ونساء وأطفال وشيوخ وعجول وغنم وحمير. وبعد أن دمروا المدن استكملوا مسيرتهم وغزوا العديد من الدول". سأل تامارين هذه المجموعة الفرعية وقال: "هل تعتقدون أن الچنرال لين وجيوشه أحسنوا التصرف؟ اشرحوا لماذا". وتنقسم الإجابات كالتالي: الموقف حيال القتل الجماعي . . . . . . . . . . . . . موافقة تامة % ... موافقة جزئية % ... رفض تام % س1: حيال يشوع ....... 60 ............. 20 ............... 20 س2: حيال الچنرال لين ... 7 ............. 18 ............... 75 ووفقًا لتامارين، فإن هذه النتائج تؤكد بلا شك تأثير التعصب الوطني والأفكار القومية المتشددة والدينية على الحكم الأخلاقي. هذا ويوضح تحليل الإجابات ما يلي: "إن تعليم الكتاب المقدس الخالي من النقد الموضوعي، خاصة بالنسبة لتلاميذ صغار السن حتى وإن لم يكن كنص مقدس وإنما كتاريخ وطني، مع أخذ موقف محايد بشأن السياق التاريخي أو الأسطوري للمضمون،

يؤثر بشكل عميق على تكون التحيُّزات ... وهذا الأمر يَعُم أيضًا الطلبة الذين لا يتلقون تعليمًا دينيًا؛ لأن مثل هذا التعليم يُنَمِّي خصائص سلبية وعدوانية تجاه الغريب. ويُعَدُّ كلًا من تمجيد حب الوطن كقيمة عليا مع اعتبار الذوبان [ذوبان اليهود في البلاد التي يعيشون فيها]- وهو الشر الأعظم -، وتأثير القيم الحربية في التعليم الأيديولوچي، مصادر للنزعات العنصرية". وبالنسبة لتامارين، فإن هذه النتائج تتهم بصورة قاسية نظام التعليم في إسرائيل وتدعو المسئولين عن هذا النظام إلى الاستفادة من هذه النتائج التي تفرض نفسها. وكانت هذه الدراسة سبب في شهرة الكاتب غير المتوقعة وغير المرغوب فيها في الوقت ذاته، حيث أدى ما سُمِّيَ بـ (قضية تامارين) إلى فقدان تامارين لمنصبه الهام كأستاذ في جامعة تل أبيب. وفي رسالة قدمها لرئاسة الجامعة قال منددًا إنه لم يتخيل أبدًا أن يكون الضحية الأخيرة لغزو يشوع لأريحا!» اهـ. نخلص من هذه الإشارات السريعة إلى أن ما تقوم به الأحزاب العَلْمانية في إسرائيل من تقديم تنازلات للأحزاب الدينية - رغم التنافر الحاصل بين الفريقين - سببه قدرة الأحزاب الدينية «على تقديم حجج (مقنعة) لوجوب السيطرة اليهودية الأبدية على أرض إسرائيل وإنكار حقوق أساسية للفلسطينيين. وهذه الحجج لا توضع فقط في إطار الأمن القومي، ولكن من خلال الحق الذي يمنحه الله لليهود لامتلاك هذه الأراضي» (¬1). يقول الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل (¬2): «هناك اتفاق بين الساسة المتنفذين في الدولة العبرية على أن العمل لاستكمال (مشروع إسرائيل الكبرى) (¬3) هدف كبير واعد، ¬

(¬1) شاحاك وميزفينسكي: الأصولية اليهودية في إسرائيل (1/ 51). (¬2) د. عبد العزيز مصطفى كامل: حُمَّى سنة 2000، ص (35). (¬3) دع عنك ما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت Ehud Olmert في الرابع عشر من سپتمبر 2008م من انتهاء «حلم إسرائيل الكبرى لليهود»، فكما قال البعض: «فلا يزال العلم الإسرائيلي ذو الخطين الأزرقين - اللذين يرمزان إلى نهري النيل والفرات - يرفرف على دولة الاحتلال وسفاراتها في دول العالم، كذلك ما زالت اللافتة المنصوبة على الكنيست الإسرائيلي متضمنة الوعد المذكور في التوراة، كذلك تلك العملة المعدنية الإسرائيلية التي يتعامل بها اليهود لتذكرهم كل يوم، بل كل لحظة، وهم يتعاملون بها، بالحلم الحقيقي!».

زواج مصالح ... ولكن!

ولكنه بعيد آجل، ولا بد من الوصول إليه عبر مراحل في الزمان والمكان. غير أن هناك مفهومين سائدين ومختلفين في الوسيلة التي يمكن من خلالها الوصول إلى تنفيذ الهدف، وأحد هذين المفهومين يتبناه (الصقور) وتمثلهم (كتلة الليكود) التي تضم بعض الأحزاب اليمينية والدينية، والآخر يتبناه (الحمائم) ويمثلهم (حزب العمل) الذي يضم يساريين وليبراليين. وبأدنى قدر من الفهم يستطيع المراقب لسياسات الاتجاهين أن يدرك أنهما يتبادلان الأدوار على حسب ما تقتضيه المرحلة في كل ظرف. لكن الحزبين في النهاية يعملان لأهداف مشتركة وإن اختلفت الوسائل». ثم يقول (¬1): «إن الفارق بين المفهومين في نهاية المطاف هو بين زعامة أكولة عجولة نهمة تريد أن تأكل العرب بيديها وأسنانها وأرجلها أيضًا، وبين زعامة تتعالى في كبرياء أنِفَة فلا تحب أن تأكل العرب إلا بالشوكة والسكين!» اهـ. ... زواج مصالح ... ولكن! كما رأينا كيف فُسِّرت حرب فلسطين عام 1948م بأنها المؤشر الأول من ثلاثة مؤشرات دالة على تحقيق الإرادة الإلهية بقدوم المسيح، وكان المؤشر الثاني احتلال القدس في عام 1967م. وبقي مؤشر ثالث منتظر، وهو تدمير المسجد الأقصى لبناء الهيكل على أنقاضه وإقامة ملك داود .. ولقد اتفق الصهاينة من اليهود والنصارى على صحة هذه المؤشرات الثلاثة، ولكن بقيت قضية أصلية لم تحسم بعد! وهي هوية المسيح المنتظر؛ فاليهود تقول: إنه المسيح (ابن داود) الذي لم يُبعث بعد، في حين أن النصارى تقول: إنه المسيح بن مريم - عليه السلام -، والذي حينما يأتي ستؤمن له الصفوة اليهودية التقية، ثم بعدها سيبيد كل من لا يؤمن بالنصرانية، هذا باختصار. وكلا الفريقين يغض طرفه عن هذه المعضلة (المستحيل) حلها، ويتعامل مع الآخر بسذاجة ومكر أبله!؛ «ففرح النصارى باليهود ورعايتهم لهم هو أشبه بفرح علماء المختبرات بالعثور على الفئران أو الضفادع أو الحيات النادرة التي لا ¬

(¬1) السابق، ص (42).

يمكن إنجاح التجارب إلا بها، وهذه المخلوقات على وضاعتها وحقارتها، وخطورتها تلقى كل الرعاية والحرص، لا حبًا فيها ولكن، لأن الاختبارات لن تُجاز إلا بها! فالمسيح لن يأتي إلا بعد خروج الدجال، والدجال لن يأتي إلا بعد عودة اليهود إلى القدس وهدمهم للأقصى وبنائهم للهيكل وذبحهم للبقرة ... إلخ» (¬1)، ذلك في حين أن «اليهود يستثمرون عقيدة النصارى بخبث ودهاء، وينظرون إليهم على أنهم (بلهاء) إذ يقتنعون بالتعاون حاليًا معهم على هدم المسجد الأقصى، وإعادة بناء الهيكل، باعتباره القدر المتفق عليه بينهما، في حين يُؤَجَّل حسم نقاط الخلاف بينهما إلى ما بعد مجيء المسيح المنتظر» (¬2). والعجيب أنهم يسعون في الأمر وكأنهم يريدون أن يتحكموا فى صناعة الأقدار واستخراجها عنوة من مكنون الغيب ومستور القضاء إلى عالم الشهادة، ولو أحسنوا التفريق بين الأمور (الكونية القدرية) والأمور (الشرعية الإرادية) لأدركوا أن الأمور الكونية القدرية واقعة لا محالة، وأنها لا تُستدعى قهرًا من عالم الغيب إلى عالم الشهادة (¬3). وتأمل معي ما صرَّح به السفاح أرييل شارون في مقابلة له، حيث قال: «حينما يأتي المُخَلِّص سنطرح عليه السؤال؛ سنسأله إن كانت هذه رحلته الأولى إلى الأرض المقدسة، أم أنه سبق وزار البلاد. في الأثناء، ليس لمصلحتنا رفض الأصدقاء الوحيدين والحلفاء المخلصين لنا، خصوصًا وأن لدينا عدوًا مشتركًا: الإسلام» (¬4). وفي المقابل يقول أحد الإنجيليين: «في الوقت الحاضر نحتاج إلى جميع الأصدقاء لدعم إسرائيل، فإذا جاء المسيح، يومذاك نفكر بالأمر. أما الآن فلنمجد الرب ولنرسل الذخيرة إلى إسرائيل» (¬5). وبحسب ديفيد هاريس David A. Harris، المدير التنفيذي للجنة الأمريكية ¬

(¬1) السابق، ص (229). (¬2) د. محمد إسماعيل المقدم: خدعة هرمجدون، ص (20، 29) باختصار. (¬3) السابق، ص (25) بتصرف. (¬4) انظر، باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (36). (¬5) انظر، جريس هالسل: يد الله، ص (92).

اليهودية American Jewish Committee AJC، فإن الاستعداد للاصطفاف مع اليمين المسيحي، پراجماتي في الأساس: «ربما تأتي نهاية الأزمنة غدًا، لكن إسرائيل على المحك الأول» (¬1). ولذلك، فإني لم أجد لتعريف هذا التحالف (المؤقت) أدق من وصف جريس هالسل له بأنه «زواج مصلحة» (¬2)؛ إذ تذكر هالسل أن هذا الزواج إنما هو نوع من «السامية الفلسفية التي تدعو إلى اعتبار اليهود الشركاء المحبوبين، ليس لأنهم يهود ويمارسون اليهودية، ولكن لأن لهم دورًا في خلاص المسيحيين» (¬3). فاليهود شعب - كما يتواتر القول على لسان الإنجيليين - «يبارك الله مباركيه ويلعن لاعنيه»، وهذا أصلٌ أقاموه اعتمادًا على ما جاء في سفر التكوين من قول الرب لإبراهيم - عليه السلام -: «ارحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة، وأبارك مباركيك وألعن لاعنيك، ويتبارك بك جميع عشائر الأرض» (¬4). يقول الإنجيلي الأمريكي الشهير چيري فالويل Jerry Falwell (1933 - 2007 م): «نحن إلى جانب إسرائيل لا لأننا نعتقد بأنهم أكثر ذكاءً، أو لديها شيء خاص أو محبوبة أكثر، وإنما لأن الله اختار إبراهام لافتداء العالم أجمعين، وليس اليهود فحسب. بكلام آخر، نحن نساند دولة إسرائيل والشعب اليهودي من أجل تحررنا أيضًا، بما أن الشعب اليهودي هو مفتاح هذا التحرر» اهـ (¬5). إذن، فإن حب الإنجيليين لليهود هو حب لشعب (مخلِّص) لا حب لأفراد، ولذا فلا عجب حينما تجد الإنجيليين ذاتهم يصدرون تصريحات مشبعة بمعاني الحقد والكراهية ¬

(¬1) انظر، ستيفن والت وچون ميرشايمر: اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية، ص (207). Stephen Walt and John Mearsheimer: The Israel Lobby and the US Foreign Policy (¬2) انظر، جريس هالسل: يد الله، ص (95). (¬3) انظر السابق، ص (76). (¬4) التكوين 12: 1 - 3 (¬5) انظر، باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (178).

لليهود (كأفراد)، كما يقول، على سبيل المثال، چيري فالويل في كتابه (اسمعي، أمريكا! Listen, America!): «سيبقى اليهود عميان طالما أنهم لا يتحولون إلى المسيحية» (¬1). وكما يلاحظ الباحث (الإسرائيلي/الأمريكي) چيرشوم جورنبرج Gershom Gorenberg، أن اللاهوت القدري لا يتوقع مصيرًا سعيدًا لليهود: «فاليهود، في نهاية الأزمنة، إما يموتون، وإما يرتدون». وحذر من أن المسيحيين الصهاينة، في شكل خاص، «لا يحبون الشعب اليهودي. يحبوننا كشخصيات في روايتهم، في مسرحيتهم ... وهي مسرحية من خمسة فصول، يختفي فيها اليهود في الفصل الرابع»! (¬2). ولكن رغم ذلك تشير جريس هالسل إلى أنه «لم يكن كل الأصوليين المسيحيين لاساميين. فكما هو متوقع في كل جماعة، توجد اختلافات شخصية وسياسية بينهم، الأمر الذي يجعل التعميم خاطئًا وخطيرًا» (¬3)، ويؤيد ذلك ما تذكره باربرا فيكتور من أنه في «عام 2000م كان هذا الانفراج بين المسيحيين الإنجيليين واليهود قد استقر جيدًا، بحيث إن مجموعة مهمة من الحاخامات والباحثين اليهود المؤثرين وقَّعوا إعلانًا لاهوتيًا يدعو اليهود إلى الكف عن تنمية الخوف والريبة حيال النصارى، والاعتراف بالجهود المبذولة من قبل الكنيسة منذ المحرقة لإصلاح العقيدة المسيحية الخاصة باليهودية. هذا الإعلان كان بعنوان: Dabru Emet، وهو تعبير توراتي يعني (تبادلوا الكلمات الصادقة). وقد نُشِر في لوحات إعلانية مدفوعة الأجر في نيويورك تايمز وبالتيمور صن The Baltimore Sun، ومن ثم نُشِر من قِبَل معهد الدراسات اليهودية والمسيحية Institute for Christian and Jewish Studies ICJS، المنظمة البين-دينية المستقلة في بالتيمور» (¬4). ¬

(¬1) انظر، جريس هالسل: يد الله، ص (79). (¬2) انظر، والت وميرشايمر: اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية، ص (208). (¬3) جريس هالسل: يد الله، ص (77). (¬4) باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (261).

وأيًا كان الأمر، فإن هذه الفروقات، أي كون القوم ساميين أم لا، لا تفيد الكثير من زاوية الرصد العامة التي نرصد بها الوضع السائد المتغاضى عنه، وكما تذكر هالسل، «فإن العديد من اليهود الصهيونيين يقولون إنهم مسرورون لتصرف المسيحيين بهذه الحرارة. إنهم ينسبون الفضل إلى المسيحية الصهيونية في مساعدة الصهيونية اليهودية الحديثة لتحقيق هدفها: خلق دولة يهودية حيث لا يرحب بغير اليهودي مواطنًا فيها»، وتبرهن على ذلك بقولها: «في السادس من فبراير 1985م، ألقى سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu خطابًا أمام المسيحيين الصهاينة قال فيه: "لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل، وهذا الحلم الذي يراودنا منذ 2000 سنة، تفجر من خلال المسيحيين الصهيونيين"، وقال كذلك: "المسيحيون ساعدوا على تحول الأسطورة الجميلة إلى دولة يهودية"» اهـ (¬1). ولكن لا نغفل عن التذكير بأن الذي دعم بقوة الخطوات العملية نحو التعجيل بوقوع (المؤشر الثالث) هو - كما تصف هالسل - تجاوز شهرة عقيدة هرمجدون (¬2) ما يسمى ¬

(¬1) جريس هالسل: النبوءة والسياسة، ص (160 - 1) بتصرف يسير. وأعطيكم مثالًا على ذلك الشوق القديم لأحفاد القِرَدة!؛ فعندما قال لهم موسى - عليه السلام -: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} ماذا قالوا؟ {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} ثم قالوا: {يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 21، 22، 24]. (¬2) معركة هرمجدون: عقيدة (مسيحية/يهودية)، جاء ذكرها بسفر الرؤيا (16: 16)، وهي تنبئ بحدوث معركة كونية فاصلة في نهاية الزمان بين قوى الخير والشر، وسوف تقوم تلك المعركة في فلسطين في منطقة وادي مجدو. تعلق جريس هالسل فتقول: «ينظر القدريون [أي الإنجيليون] نظرة ضيقة لله وللبلايين الستة من البشر على الأرض. إنهم يعبدون إلهًا قبليًا لا يهتم إلا بشعبين فقط هما اليهود والمسيحيون. ويقولون إن كل ما هو مهم لهم كمسيحيين يتمحور حول إسرائيل. إنهم يتمسكون بفكرة تقول: إن الله وضع اليهود على مسار (أرضي)، ووضع المسيحيين على مسار (سماوي). أما الباقون من البشر فإن شاشة الرادار الإلهي (!) لا تسجل وجودهم إلى أن يدعوهم الله للتقدم إلى محرقة هرمجدون» اهـ[جريس هالسل: يد الله، ص (109) باختصار].

(المعتوهين) ووصولها إلى أعلى مستوى في السلطة الحكومية! (¬1). تقول (¬2): «في الستينات كنت أعمل كاتبة في البيت الأبيض، عندما انفجرت إحدى حروب الشرق الأوسط (حرب يونيو 1967م). لم أكن أعرف الكثير عن الشرق الأوسط خارج قصص العهد القديم. ومع وصول الرئيسين چيمي كارتر ورونالد ريجان Ronald Reagan [1911 - 2004 م] إلى سدة الرئاسة أصبح يتردد على مسامعي مزيد من الكلام عن هرمجدون». ويقول محمد السماك (¬3): «طبعًا كان يمكن أن يبدو كل هذا السيناريو، وكل هذا الكلام مجرد خزعبلات دينية، أو مجرد هلوسة دينية، ولكن عندما يكون من بين المؤمنين بها إيمانًا شديدًا وصادقًا شخصيات كالرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان، ووزير دفاعه كسپار وينبرجر Caspar Weinberger [1917 - 2006 م] وغيرهما من كبار الشخصيات الأمريكية السياسية والعسكرية التي تتبوأ مراكز قيادية، فإنها تأخذ بعدًا خاصًا. وعندما تتولى هذه الشخصيات توزيع نسخ من كتاب هال ليندسي (¬4) على كل أعضاء البيت الأبيض، وموظفي الپنتاجون وقادة الجيوش الأمريكية، وعلى جميع أعضاء الكونجرس (الشيوخ والنواب)، وعلى حكام الولايات المتحدة وكل الشخصيات ¬

(¬1) جريس هالسل: يد الله، ص (18). (¬2) السابق، ص (11). (¬3) محمد السماك: الصهيونية المسيحية، ص (84). (¬4) كتاب هال ليندسي (كوكب الأرض القديم الرائع The Late, Great Planet Earth)، استنادًا إلى صحيفة نيويورك تايمز (عدد 24 نوفمبر 2004م)، كان في السبعينات من القرن الماضي أكثر الكتب غير الأدبية Nonfiction مبيعًا، فقد بيع منه حوالي 18 مليون نسخة، كما ترجم إلى عدة لغات. ولقد تأثر ليندسي بمدرسة وليام بلاكستون William E. Blackstone (1841 - 1935 م)، والذي يمكن اعتباره اللاهوتي الأول في الولايات المتحدة الذي عمل على تفسير الأحداث السياسية الراهنة - في زمانه - في ضوء التأويلات التوراتية. تقول جريس هالسل: «إن شهرة هذه الكتب تشير إلى أنها انتقلت من الجمهور المسيحي إلى الجمهور العَلْماني من خلال الإقبال عليها في محلات تجارية مثل وال مارت Wal-Mart، وهذا يعني أنها تفشَّت في ثقافتنا"» اهـ[جريس هالسل: يد الله، ص (17) باختصار].

النافذة، عندما يحدث ذلك بهذه العلانية (المجهولة في المشرق العربي على الأقل) فإن السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط تصبح مجرد ترجمة لهذا المفهوم الإنجيلي المتهود للمسيحية» اهـ. ومردّ ذلك في حقيقة الأمر إلى مدى اقتراب الإيفانجليكيين من سدة الحكم، وكما يذكر چون ميكلثوايت وأدريان وولدريدچ (¬1) «كانت حقبة ريجان بمثابة المرة الأولى التي يكون أحدهم فيها في البيت الأبيض، وهو إحساس لم يتكرر حتى حلول إدارة چورچ بوش الابن». يقول ميكلثوايت وولدريدچ: «حتى أواسط السبعينات، كانت صلات المسيحيين الإفانجليكيين بالديمقراطيين أوثق من صلاتهم بالجمهوريين. فاتجهت أصوات أغلبية الإيفانجليكيين لچيمي كارتر في سنة 1976م. إلا أن انحراف الديمقراطيين جهة اليسار أثار حفيظة الإيفانجليكيين ... وكان كارتر أثار حفيظة عدو عنيد؛ فالديانة الإيفانجليكية كانت تتقدم ... وكان الإيفانجليكيون بداية يقاومون إغراء التدخل في عالم قيصر (العالم الأرضي). وفي أوائل السبعينات، أخذ القسس يعظون الناس بأهمية الخلاص الفردي لا العمل الجماعي. كان چيري فالويل يقول: "ليس مطلوبًا من الوعاظ أن يكونوا ساسة، بل روحانيين". إلا أن فالويل وجماعته وجدوا أنفسهم يتورطون شيئًا فشيئًا في عالم السياسة بعد أن استفزتهم الدوامة التي تجر البلاد لأسفل. يقول فالويل: "الشيطان حشد قواه لكي يدمر أمريكا، وأراد الرب أصواتًا ترتفع لتخلص الشعب من الاضمحلال الخلقي الروحي" ... وفي 1979م، أضفى المحافظون واليمين الديني صفة رسمية على الرباط الذي جمعهما» اهـ (¬2). ¬

(¬1) چون ميكلثوايت وأدريان وولدريدچ: أمة اليمين، قوة المحافظين في أمريكا، ص (111). John Micklethwait and Adrian Wooldridge: The Right Nation, Conservative Power in America (¬2) السابق، ص (101 - 3) باختصار. تقول باربرا فيكتور: «رأى فالويل وسواه من المسيحيين الإنجيليين المؤثرين بأن الوقت قد حان للانخراط بفاعلية في الانتخابات الرئاسية القادمة لعام 1980م. مثلما صرح بذلك چيري فالويل حينها: " ... الرئيس كارتر مسيحي صالح، ولكنه لم يقرأ الكتب المقدسة جيدًا ليدرك المكانة الجوهرية الآيلة لإسرائيل وللشعب اليهودي في المخطط الإلهي، ولم يدرك على نحو خاص التهديد الذي يشكله الإسلام على النصارى". بعد بضعة أشهر من تلك الصدمة النفسية الجماعية التي أصابت البلاد برمّتها، دخل اليمين الديني رسميًا في الحلبة السياسية عازمًا على أن يجعل من أمريكا قدسًا جديدة» اهـ[باربرا فيكتور: الحرب الصليبية الأخيرة، ص (207)].

العلاقة (الأمريكية-الإسرائيلية) أشبه بالزواج الكاثوليكي

ولكن هنا تجدر الإشارة إلى أمر مهم؛ وهو أن الموقف الأمريكي تجاه المسألة الإسلامية العامة والفلسطينية الخاصة لا يختلف الكثير بين الديمقراطيين الليبراليين والجمهوريين المحافظين. ولذا فإن الخلاف الداخلي الكائن بالفعل بين الاتجاهين لا يعنينا كثيرًا في هذا الباب، فإن الغاية الخارجية واحدة وإن اختلفت السياسات، والغاية - وفق المذهب المكيافيللي - تسوِّغ الوسيلة! ولقد فصَّلنا الحديث عن الموقف تجاه المسألة الإسلامية في الفصل الأول، أما فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، فلنا في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2008م خير برهان .. العلاقة (الأمريكية-الإسرائيلية) أشبه بالزواج الكاثوليكي: يقول ستيفن والت، عميد كلية كنيدي في جامعة هارفارد، وچون ميرشايمر، پروفيسور العلوم السياسية في جامعة شيكاجو، في بحثهما البالغ الأهمية (اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية) - وكان تاريخ صدوره 27 أغسطس 2007م - (¬1): «يمكننا أن نكون واثقين من أن المرشحين سيتكلمون بصوت واحد حول موضوع واحد؛ ففي 2008م، كما في أعوام الانتخابات السابقة، سيذهب المرشحون الجديون إلى أعلى منصب في البلاد، إلى أبعد ما يكون في التعبير عن التزامهم الشخصي العميق بدولة أجنبية واحدة - إسرائيل -، بالإضافة إلى تصميمهم على الحفاظ على الدعم الأمريكي الذي لا يلين للدولة اليهودية ... : أعلن السيناتور چون ماكين John McCain (الجمهوري عن أريزونا Arizona) أنه "عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن إسرائيل، لا يمكننا ببساطة المساومة" ... وتحدثت السيناتور هيلاري كلينتون Hillary Clinton (الديمقراطية عن نيويورك) في نيويورك أمام المجلس المحلي لـ (لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية، أيپاك American Israel Public Affairs Committee AIPAC)، ¬

(¬1) والت وميرشايمر: اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية، ص (17 - 9) باختصار.

ذات النفوذ الكبير في كل من إسرائيل والولايات المتحدة (¬1)، وقالت إن "ما هو حيوي ... في هذه اللحظة من الصعوبة الكبرى التي تواجهها إسرائيل والمخاطر الكبرى عليها ... هو أن نؤازر صديقتنا وحليفتنا، وأن نقف إلى جانب قيمنا الخاصة. فإسرائيل منارة لما هو حق في محيط تظلله أخطاء راديكالية، والتطرف، والاستبداد، والإرهاب". وتحدث أحد منافسيها على تسمية الحزب الديمقراطي لانتخاب الرئاسة، السيناتور باراك [حسين] أوباما Barack Hussein Obama (الديمقراطي عن إيلينويز Illinois) (¬2) ، بعد ذلك بشهر أمام حضور للأيپاك في شيكاجو. فأوباما، الذي سبق وأدلى بإشارة موجزة إلى المعاناة الفلسطينية، في ظهور له في إحدى الحملات في مارس 2007م، لم يحمل لبسًا في إشادته بإسرائيل، وأوضح في شكل ظاهر أنه لن يفعل أي شيء لتغيير السياسة الأمريكية-الإسرائيلية» اهـ. وقد أشار إلى ذلك بوضوح أيضًا خبير شئون الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية ستيفن كوك Steven A. Cook في حواره مع جريدة (المصري اليوم) في عدد الجمعة 31/ 10/2008م، أي قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية بأربعة أيام، والتي اكتسح فيها المرشح الديمقراطي أوباما خصمه الجمهوري ماكين (¬3)، حيث ¬

(¬1) من بين مختلف المنظمات اليهودية التي تشكل السياسة الخارجية جزءًا مركزيًا من برنامجها، فإن الأيپاك هي بوضوح الأهم والأكثر شهرة. وعندما سألت مجلة (فورتشن Fortune) في 1997م أعضاء في الكونجرس وموظفيهم عن أقوى اللوبيات في واشنطن، حلَّت أيپاك الثانية بعد الاتحاد الأمريكي للأشخاص المتقاعدين American Association of Retired Persons AARP. وفي 1991م، قال الرئيس السابق للجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب، لي هاملتون Lee H. Hamilton، الذي خدم في الكونجرس على مدى 34 عامًا: «ما من مجموعة لوبي تضاهيها .... إنها من نسيج نادر» اهـ[انظر، والت وميرشايمر: اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية، ص (179)]. (¬2) في حواره مع صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية قال: «قبل كل شيء يتوجب معرفة الحقائق كما هي، أنا لست مسلمًا ولم أكن أبدًا ولم أتعلم أبدًا في مدرسة دينية إسلامية، ولم أحلف على القرآن، بل أنا ملتزم بالمسيحية». See, Yedioth Ahronoth (www.ynetnews.com): Obama: My commitment to Israel is unshakable, February 28, 2008 (¬3) ولقد وصف الكاتب أنيس منصور (1924 - 2011م) مهمة أوباما الجديدة بأنها «مثل أعباء الأنبياء»!! قال الله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}. [هود: 24، وانظر مقالته في جريدة الأهرام، بتاريخ 20 يناير 2009م].

قال: «العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية لن تختلف سواء كان الرئيس المقبل أوباما أو ماكين». وحتى في ظل ما تردد كثيرًا في الأوساط السياسية والإعلامية - العربية على وجه أخص - بشأن توتر العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية ووصولها إلى درجات تدن غير مسبوقة منذ تصريحات رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو المتعلقة باستمرار بناء المستوطنات، مزامنة مع زيارة چوبايدن Joe Biden نائب الرئيس الأمريكي للمنطقة في مارس من عام 2010م، مما وجه (صفعة) - برأي البعض - للإدارة الأمريكية بأكملها. فالصفعة الحقيقية كانت من نصيب مروجي الفكرة أنفسهم!؛ فقد كان واضحًا للعيان أن زيارة نتنياهو لأمريكا في 24/ 3/2010م وخطابه أمام المؤتمر السنوي لمنظمة أيپاك الصهيونية عكست دفء العلاقات الثنائية، كما أنها عززت قوة اللوبي الإسرائيلي داخل المجتمع الأمريكي، خاصة مع إلقاء وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون الكلمة الافتتاحية، رغم كل ما قيل عن انفعالها وغضبها ومكالمتها الهاتفية الثائرة ذات الثلاثة والأربعين دقيقة مع نتنياهو بسبب تصريحات المستوطنات .. حتى إنه عقَّب ناثان براون Nathan J. Brown، أستاذ العلوم السياسية ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة چورچ واشنطن، عقَّب على هذه الأحداث ولخص طبيعة العلاقات الثنائية بقوله: «لا شيء يغير صلابة وعمق العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، فلا تصدقوا أن هناك توترًا بل موازنات سياسية، وليس هناك انفصال أو شقاق، فالعلاقة أقرب إلى الزواج الكاثوليكي، الذي لا يمكن أن ينفصل فيه الزوجان، رغم كل خلافاتهما الزوجية البسيطة» اهـ (¬1). وليس أوضح من اتخاذ أمريكا «المسار الحذر Cautious line» (¬2) في متابعة تداعيات المجزرة الإسرائيلية تجاه أسطول الحرية البحري Gaza Freedom Flotilla صبيحة يوم الاثنين 31 مايو 2010م، والذي توجه لكسر الحصار الشائن عن قطاع غزة ¬

(¬1) انظر، جريدة (المصري اليوم)، عدد الاثنين 29/ 3/2010م، ص (15). (¬2) See, Reuters (www.reuters.com): Obama: Use flotilla tragedy for Mideast peace, June 3, 2010

اللوبي الإسرائيلي وتأثيره في قرارات الولايات المتحدة

وإمداد أهله بالمعونات الإنسانية الحياتية، حيث انقضت القوات المحتلة الغاشمة على السفينة التركية وفتحت نيرانها الهيستيرية على الرَكْب وأوقعت فيهم تسعة قتلى وعشرات المصابين (¬1). واكتفى أوباما بوصف الحادث بـ (المأساوي)، وأنه من الضروري انتظار نتائج التحقيق الإسرائيلي في الحادث، مضيفًا أن لدى إسرائيل قلق أمني (شرعي)، وأنه يجب استغلال هذه المأساة من أجل دفع عملية السلام في الشرق الأوسط (¬2)!! اللوبي الإسرائيلي وتأثيره في قرارات الولايات المتحدة: ولعلنا لإيضاح هذا الأمر الذي (قد) يرتاب فيه البعض، نتوقف مع سؤال طرحه والت وميرشايمر في بحثهما، حيث قالا (¬3): «ما الذي يفسر هذا السلوك؟ لماذا يوجد هذا الحد الضئيل من الاختلاف بين أولئك الطامحين إلى الرئاسة فيما يتعلق بإسرائيل، بينما توجد اختلافات عميقة فيما بينهم تقريبًا حول كل قضية مهمة أخرى تواجه الولايات المتحدة؟». ويرجع الكاتبان السبب - في المقام الأول - إلى قوة اللوبي الإسرائيلي وتأثيره في قرارات الولايات المتحدة المتعلقة بسياستها الخارجية على وجه الخصوص، ¬

(¬1) يروي أحد المشاركين في أسطول الحرية بعض الأحداث الدموية التي تعرضت لها القافلة على أيدي اليهود الصهاينة فيقول: «بدأ الكومندوز في الضرب العشوائي وأسقطوا القتلى والجرحى ... وواصلوا ضربهم لدرجة أنهم كانوا يصوبون أسلحتهم ويطلقون النار في المصابين الذين لم يموتوا بعد ... ولم يكن هذا المشهد أفظع من لحظة تصويب شرطي إسرائيلي السلاح على عين طفلة رضيعة عبر شعاع أخضر يخرج من السلاح وكان يتحرك على جبهتها، مما دفع الأم إلى الصراخ وأخفت ابنتها في ملابسها. وحاول عدد من الركاب التدخل لحماية الرضيعة، فانهال الإسرائيليون عليهم بالضرب. واستمر هذا المشهد لأكثر من 6 ساعات، وحينما سطعت الشمس وأوجعت حرارتها المصابين، حاولنا إقناعهم بنقلهم لعلاجهم، إلا أنهم رفضوا وتركوهم تحت الشمس حتى لقوا حتفهم، ووصلت درجة الوحشية بهم إلى تقييد الجميع بمن فيهم المصابون ...». [انظر نص الحوار مع جريدة (المصري اليوم)، عدد 3/ 6/2010م، ص (7)]. (¬2) See, CNN (www.cnn .. com): Obama: Israel has 'legitimate security concerns', June 3, 2010 (¬3) والت وميرشايمر: اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية، ص (19).

فيقولان (¬1): «السبب الحقيقي لهذا القدر من المراعاة التي يبديها السياسيون الأمريكيون، هو قوة اللوبي الإسرائيلي داخل معظم مراكز القرار في الإدارة الأمريكية. فاللوبي (¬2) هو ائتلاف متفلت لأفراد ومجموعات تعمل بنشاط لتحريك السياسة الخارجية الأمريكية في اتجاه موال لإسرائيل. وهو ليس حركة واحدة موحدة بزعامة مركزية، وهو ليس بالتأكيد دسيسة أو مؤامرة تسيطر على سياسة الولايات المتحدة الخارجية (¬3). إنه، ببساطة، مجموعة مصالح قوية، مؤلفة من يهود وأمميين معًا، هدفها المتعارف عليه دفع قضية إسرائيل داخل الولايات المتحدة، والتأثير في السياسة الخارجية الأمريكية من خلال وسائل يعتقد أعضاؤها أنها مفيدة للدولة اليهودية. ولا تتوافق مختلف المجموعات التي تشكل اللوبي على كل مسألة تعني إسرائيل، على الرغم من أنها تتشاطر الرغبة في التسويق لعلاقة مميزة بين الولايات المتحدة والدولة العبرية. وعلى غرار الجهود التي تبذلها مجموعات إثنية وذات مصالح أخرى، فإن نشاطات مختلف عناصر اللوبي الإسرائيلي، هي أشكال مشروعة من المشاركة السياسية الديمقراطية، وتتوافق في الجزء الأكبر منها مع التقليد الأمريكي الطويل الأمد لنشاطات مجموعات المصالح. وكون اللوبي الإسرائيلي أصبح، تدريجًا، إحدى أقوى مجموعات المصالح في الولايات المتحدة، فإن المرشحين إلى المناصب العليا، يصغون إلى رغباته بعناية. فالأفراد والمجموعات الذين يشكلون اللوبي، يهتمون بشدة بإسرائيل، ولا يريدون من السياسيين الأمريكيين انتقادها، حتى عندما يكون للنقد ما يسوِّغه، وقد يكون حتى في مصلحة إسرائيل نفسها. بل إن هذه المجموعات تريد من المسئولين الأمريكيين معاملة ¬

(¬1) السابق، ص (20 - 1). (¬2) كلمة لوبي Lobby تعني في الأصل مداخل القصور أو الفنادق الكبرى وممراتها، وهي بذلك ترمز إلى وكلاء ووسطاء المصالح التي تتعقب الساسة عند دخولهم أو خروجهم من الاجتماعات لتنفرد بهم دقيقة أو دقيقتين، تهمس إليهم بالكلمات أو بالوعود إذا ما سايروا وساعدوا. وتستخدم هذه الكلمة في السياسة للإشارة إلى الجماعات أو المنظمات التي تحاول التأثير على صناعة القرار في هيئة أو جهة معينة. (¬3) ويمكن لنا عن طريق استحضار الصورة الشمولية لتواريخ الجماعات اليهودية التي طرحناها في هذا الفصل وضع هذا الكلام في نصابه.

إسرائيل كما لو أنها الولاية الواحدة والخمسين! ومبرر هذا أن الديمقراطيين والجمهوريين معًا يخشون قبضة اللوبي. وهم يعرفون جميعًا أن أي سياسي يعترض على سياسته، لا يملك حظًا كبيرًا في أن يصبح رئيسًا» اهـ. ثم يناقش البحث المبررات التي تعلل بها الإدارة الأمريكية تأييدها المطلق لإسرائيل، فيقول (¬1): «ربما قال البعض إن مرد الأمر، هو أن إسرائيل تشكل ورقة استراتيچية حيوية للولايات المتحدة. ويقال، فعلًا، إنها شريك لا يمكن الاستغناء عنه في (الحرب على الإرهاب). وسيجيب آخرون بأن هناك قضية أخلاقية قوية في توفير الدعم المطلق لإسرائيل، كونها الدولة الوحيدة في المنطقة التي (تشاركنا قيمنا نفسها). إلا أن أيًا من هذه الحجج لا يصمد أمام التمحيص المنصف ...» وعند تمحيص المبرر الاستراتيچي، يذكر البحث أنه إبان تصاعد تهديد السوفيت للمصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، «قررت إدارة كنيدي John F. Kennedy [1917 - 1963 م] أن إسرائيل تستأهل مزيدًا من الدعم في ضوء المساعدة السوفيتية المتزايدة لمصر وسوريا والعراق. وشدد الزعماء الإسرائيليون تكرارًا على إمكانيات قيمتهم كحليف، وقوَّى انتصارهم المذهل في حرب الأيام الستة في 1967م هذه المزاعم من خلال العرض الحي لبأس إسرائيل العسكري ... رأى نيكسون Richard Nixon [1913 - 1994 م] وكسنچر في الدعم المتزايد لإسرائيل، وسيلة فعالة لمواجهة النفوذ السوفيتي عبر المنطقة. واتخذت صورة إسرائيل بوصفها (ورقة استراتيچية) جذورها في السبعينات، وأضحت قانون إيمان مع منتصف الثمانينات. سارت قضية القيمة الاستراتيچية لإسرائيل في خط مستقيم من 1967 إلى 1989م. فإسرائيل، بأدائها دور الوكيل الأمريكي في الشرق الأوسط، ساعدت الولايات المتحدة على احتواء التوسع السوفيتي في تلك المنطقة المهمة، كما مهدت الطريق لواشنطن، ظرفيًا، في التعاطي مع أزمات إقليمية أخرى» (¬2). ¬

(¬1) السابق، ص (20). (¬2) السابق، ص (86).

ولكن، «حتى لو شكلت إسرائيل حليفًا قيمًا للولايات المتحدة إبان الحرب الباردة، فإن هذا التبرير انتهى مع انهيار الاتحاد السوفيتي. واستنادًا إلى المؤرخ الضليع (!) في قضايا الشرق الأوسط برنارد لويس (وهو نفسه مؤيد بارز لإسرائيل)، "مهما تكن قيمة إسرائيل كورقة استراتيچية إبان الحرب الباردة، فإن هذه القيمة انتهت مع انتهاء الحرب الباردة نفسها". وخلص العالم السياسي برنارد ريتش Bernard Reich من جامعة چورچ واشنطن، ومؤلف عدة كتب عن العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، إلى الاستنتاج نفسه في 1995م، ملاحظًا أن "لإسرائيل أهمية عسكرية أو اقتصادية محدودة للولايات المتحدة ... إنها ليست دولة حيوية استراتيچيًا". وأعطى خبير الدفاع في جامعة برانديس Brandeis، روبرت آرت Robert J. Art، الفكرة نفسها في 2003م، ملاحظًا أنه "لإسرائيل قيمة استراتيچية صغيرة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وهي تشكل بأشكال عدة، عبئًا استراتيچيًا". ومع تراجع هاجس الحرب الباردة لتصير أمرًا من التاريخ، أصبح يصعب تفويت أهمية إسرائيل الاستراتيچية المتراجعة. ووفَّرت حرب الخليج في 1991م، في الواقع، دليلًا إلى أن إسرائيل أصبحت ثقلًا استراتيچيًا ... ولم تغب هذه النقطة كذلك عن برنارد لويس الذي كتب: "ظهر هذا التغير [في قيمة إسرائيل الاستراتيچية] بوضوح في حرب الخليج ... عندما أصبح أقصى ما ترغب فيه الولايات المتحدة من إسرائيل هو البقاء خارج النزاع: أن تكون صامتة، هادئة، وغير مرئية بقدر الإمكان ... فإسرائيل لم تعد ورقة، بل خروج عن الصدد، بل إن البعض قال إنها مصدر إزعاج"» (¬1). أضف إلى ذلك أنه «حتى 11 سپتمبر 2001م، لم يوفر خطر الإرهاب والمشكلات التي تسببها هذه (الدول المارقة) المختلفة، سندًا عقليًا استراتيچيًا مُلزمًا للدعم الأمريكي غير المشروط للدولة اليهودية. وتشرح هذه المخاوف لماذا أرادت إسرائيل المساعدة من ¬

(¬1) السابق، ص (96 - 7) باختصار.

الولايات المتحدة، لكنها لا تعلل الاستعداد الأمريكي لتوفير هذه المساعدة بمثل هذا السخاء الذي تقوم به» (¬1). يقول المسيري (¬2): «ما لم يطرأ لمثل هؤلاء [المنادين بمقولة قوة اللوبي الصهيوني] على بال أن من المحتمل أن الولايات المتحدة لا تدرك مصالحها بهذه الطريقة التي يتصورون أنها عقلانية بل لعلها ترى أن "عدم الاستقرار أو عدم الاستقرار المحكوم" Controlled Instability أفضل وضع بالنسبة لها، وأن وضع التجزئة العربية هو ما يخدم مصالحها، وأن إسرائيل هي أداتها في خلق حالة عدم الاستقرار المحكوم هذه، وهي الخادم الحقيقي لمصالحها» اهـ. ينتقل والت وميرشايمر بعد ذلك إلى تمحيص المبرر الأخلاقي، فيقولان (¬3): «وقيل: إن مردّ عدائها [المجموعات الإرهابية المدعومة من قبل الدول المارقة] لإسرائيل والولايات المتحدة، هو نفورها من قيم الغرب اليهودية-المسيحية، وثقافته، ومؤسساته الديمقراطية. بعبارات أخرى، إنهم يكرهون الأمريكيين "لما نحن عليه"، وليس "لما نفعله". وهم يكرهون إسرائيل، بالطريقة نفسها، لأنها غربية أيضًا، وحديثة، وديمقراطية، وليس لأنها احتلت أرضًا عربية، بما في ذلك أماكن مقدسة إسلامية مهمة، ولأنها ظلمت سكانًا عربًا ... وبدلًا من النظر إلى إسرائيل بوصفها المصدر الرئيس لعلاقات أمريكا المضطربة مع العالمين العربي والإسلامي، يصور هذا السند العقلاني الجديد إسرائيل على أنها حليف رئيس في (الحرب الشاملة على الإرهاب). لماذا؟ لأنه يقال إن أعداءها هم أنفسهم أعداء أمريكا. وعلى حد ما ذكره أرييل شارون في خلال زيارة الولايات المتحدة أواخر 2001م، إثر الهجمات الرهيبة على مركز التجارة العالمي والپنتاجون: "أنتم في أمريكا تخوضون حربًا ضد الإرهاب. ونحن في إسرائيل نخوض حربًا ضد الإرهاب! إنها الحرب نفسها"». ¬

(¬1) السابق، ص (99). (¬2) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (168). (¬3) والت وميرشايمر: اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية، ص (100).

وبعد أن أفاض الباحثان في عرض البراهين والأدلة البالغة الدقة (¬1)، يخلصان إلى القول بأنه «لا يمكن للحجج الأخلاقية أو الاستراتيچية التي يستحضرها مؤيدو إسرائيل، أن تعلل العلاقة الأمريكية المميزة مع الدولة اليهودية على مر العقود الثلاثة الماضية. ويصح هذا بنوع خاص في فترة ما بعد الحرب الباردة عندما تبخر التعليل العقلاني الاستراتيچي في شكل كبير، وتقوض التعليل العقلاني الأخلاقي من خلال الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. وبرغم ذلك، تستمر العلاقة في النمو والتعمق ... ولأن القضية الاستراتيچية والأخلاقية تتزايد ضعفًا، فلا بد من وجود أمر آخر وراء هذا النمط العجيب من الدعم الأمريكي المتزايد لإسرائيل» اهـ (¬2). إذن، فإن هذا التأييد المطلق غير المنطقي يرجع في الأساس - كما تقدم القول - إلى قوة نفوذ اللوبي الإسرائيلي وتأثيره في السياسة الخارجية للولايات المتحدة على وجه الخصوص، «فالمجموعات والأفراد الذين يشكلون اللوبي الإسرائيلي، هم في موقع مميز في شكل استثنائي للتأثير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وما يميزه باختصار، هو فعاليته الاستثنائية» (¬3). ولقد أشار المسيري إشارة مهمة فقال (¬4): «لا يهتم الناخب الأمريكي كثيرًا بقضايا السياسة الخارجية ولا يفهمها كثيرًا، ولذا فإن أقلية مثل الجماعة اليهودية عندها هذا الاهتمام بإسرائيل وسياسة الولايات المتحدة تجاهها يمكنها أن تمارس نفوذًا قويًا في تحديد السياسة الخارجية الأمريكية» اهـ. ومن المهم أن نشير إلى أن اللوبي يستفيد من غياب معارضة فاعلة له، وعلى ما شرحه ¬

(¬1) وذلك على الرغم من تأييدهما لإسرائيل، وتأمل قولهما: «ولعرض مثال شخصي، فإن مؤلفي هذا الكتاب هما مؤيدان لإسرائيل؛ بمعنى أننا ندعم حقها في الوجود، ونعجب بالكثير من إنجازاتها، ونريد لمواطنيها أن يتمتعوا بحياة آمنة ومزدهرة، ونعتقد أنه على الولايات المتحدة أن تهُبّ لنجدة إسرائيل في حال تعرُّض بقائها للخطر» اهـ[انظر، نفسه، ص (174)]. (¬2) السابق، ص (169 - 70). (¬3) السابق، ص (226). (¬4) د. عبد الوهاب المسيري: الپروتوكولات واليهودية والصهيونية، ص (167).

أحد السيناتورات، «ليس هناك شعور مضاد ... فإذا قمت بالتصويت بعكس الضغط الهائل الذي تمارسه الأيپاك، فلن يقول لك أحد: هذا رائع» ... ولا يزال تقويم روبرت ترايس Robert Trice في 1981م للمجموعات العربية-الأمريكية، صحيحًا اليوم: «إن وقعها على معظم أوجه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، لا يزال لا يُعتد به» (¬1). وأظن أن هذا يعطينا فهمًا أوضح لما قاله هاري ترومان في حديثه إلى الديپلوماسيين العرب - وقد تقدم -، قال: «أنا متأسف أيها السادة، فأنا ملتزم أمام مئات الآلاف من المواطنين الذين يريدون نجاح الصهيونية، وليس لديّ مئات الآلاف من العرب ضمن دوائري الانتخابية» اهـ (¬2). ختامًا، لا نغفل عن الإشارة إلى أن «بعض أهم المجموعات في اللوبي - بما في ذلك الأيپاك ومؤتمر الرؤساء Conference of Presidents CoP - أصبح، مع مرور الزمن، إلى يمين المحافظين، وهو اليوم بقيادة متشددين يساندون مواقف نظرائهم الصقور في إسرائيل» (¬3)، فضلًا عن أنه قد «تدعَّم انجرار اللوبي إلى اليمين ببروز المحافظين الجدد» (¬4). وهذا إن دل على شيء فهو يدل على ثقل اليمين المحافظ وقوة تأثيره في المجتمع الأمريكي، وهو ما يصب بالتالي في القرارات الخارجية للإدارة الأمريكية. ولقد أشار ميكلثوايت وَوُولدريدچ إشارة بالغة الدلالة حينما قالا (¬5): «لم يكن ضروريًا لبوش أن يفوز في انتخابات 2004م حتى تظل أمريكا أسيرة أمة اليمين. ونرى أن انتصار الديمقراطيين في انتخابات 2004م ما كان ليغير موقف أمريكا المحافظ. فالديمقراطيون ¬

(¬1) والت وميرشايمر: اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية، ص (213 - 4) باختصار. (¬2) انظر، مايكل پريور: الكتاب المقدس والاستعمار، ص (165). ولكن هذا لا يجعلنا نغفل عن اعتقاد ترومان العميق في الصهيونية كدين، وقد تقدم. (¬3) انظر، والت وميرشايمر: اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية، ص (191). (¬4) السابق، ص (195). (¬5) ميكلثوايت وَوُولدريدچ: أمة اليمين، قوة المحافظين في أمريكا، ص (32 - 3) باختصار.

سيتحولون إلى حزب محافظ، نسبيًا بالمعايير الأوروپية في المستقبل المنظور. فهم كالجمهوريين، يعتمدون على الشركات الكبرى والأثرياء من الأفراد. ولا سبيل لأن يفوزوا بانتخابات إلا إذا تمكنوا من (استعادة المحافظين في القلب)» اهـ. ونحن عند اعتمادنا هذه الرؤية المستقبلية التي تضع القرار بين يدي أناس ذوي (ثقافة هرمجدونية) تصور (مسيح السلام) بأنه «چنرال بخمسة نجوم، يمتطي جوادًا ويقود جيوش العالم كلها مسلحًا برءوس نووية، ليقتل المليارات من الناس»، فحينها نستطيع القول بأنه قد صدق اليهودي أحاد هاعام حينما خشي هذا المستقبل المفجع فقال: «إذا كان ذلك هو المسيح، فلا أريد أن أرى قدومه» اهـ. ***

الباب الثاني حصان فارسي

الباب الثاني حصان فارسي الفصل الأول: تشيع أم رفض؟ وقفة تاريخية تأصيلية الفصل الثاني: عقيدة أهل المذهب الفقهي الخامس الفصل الثالث: شبهات وردودها

الفصل الأول: تشيع أم رفض؟ وقفة تاريخية تأصيلية

الفصل الأول: تشيع أم رفض؟ وقفة تاريخية تأصيلية

- - {تشيع أم رفض؟ وقفة تاريخية تأصيلية} - - «.. وكأنهم أرادوا تطييب نفوس أتباعهم بتحسين هذا الاسم لهم» [القفاري] (¬1) قبل النبش في جذور التشيع، نكمل سريعًا تتبع المسار التاريخي لهجرة اليهود وشتاتهم في الأرض، والذي قد بدأناه في الباب السابق. وقد أرجأنا تتبع هجرة اليهود إلى الجزيرة العربية إلى هذا الموضع من البحث، وكان ذلك لغرض .. فيقول المستشرق اليهودي إسرائيل وُلفنسون أبو ذؤيب Israel Wolfensohn (1899 - 1980) (¬2) : «تذكر لنا صحف العهد القديم من أخبار بني إسرائيل أن بلاد طور سيناء وشمال الجزيرة بوجه عام كانت ملجأ يقصد إليه كثير من بني إسرائيل الذين كانوا يفرون من وجه الملوك والحكام الظالمين، ثم في عهد الملك بختنصر فإنه حين غزا أورشليم قصدت جموع من اليهود أرض الجزيرة ...»، إلى أن قال (¬3): «والخلاصة أن عناصر إسرائيلية يظن أنها قد هاجرت من ديارها إلى الأقاليم العربية في عصور مختلفة ولأسباب شتى غير أنها بادت كما بادت قبائل عربية كثيرة ولم يبق من آثارها سوى اسمها» اهـ. ولقد قصد الكثير منهم نواحي خيبر والمدينة وما جاورها، وذلك كما يقول الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله (¬4) «لما كانوا وعدوا به من ظهور رسول الله، وكانوا يقاتلون المشركين من العرب فيستنصرون عليهم بالإيمان برسول الله قبل ظهوره، ¬

(¬1) د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (1/ 172). (¬2) د. إسرائيل ولفنسون (بن زئيف Ben Ze'ev): تاريخ اليهود في بلاد العرب، في الجاهلية وصدر الإسلام، ص (18). (¬3) السابق، ص (20). (¬4) ابن قيم الجوزية: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (2/ 358).

ويعدونهم بأنه سيخرج نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله - عز وجل - نبيه سبقهم إليه من كانوا يحاربونهم من العرب، فحملهم الحسد والبغي على الكفر به وتكذيبه ...». قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬1). ولقد تلخص موقف اليهود تجاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته فيما ترويه لنا أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها، حيث تقول: «كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ونزل قُباء غدا عليه أبي وعمي مُغَلِّسَيْنِ، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالَّيْن ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك؟ أجاب: عداوته والله مابقيت» (¬2). فهذا بيت القصيد: «عداوته والله مابقيت»! ولقد تنوعت مظاهر هذا العداء وتعددت، وكان منها الظاهري والباطني، وأظهرها كان إنكار دلائل نبوة هذا الرسول النبي الأمي، {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} (¬3)، فقد قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬4)، ولو أنهم أعملوا عقولهم لقالوا كيف يمكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن أن التبشير به قد تم في كتبهم لولا أن ذلك حق؟! فما كان يتجرأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذا الإعلان الذي يمكن أن يُكَذَّب فيه بسهولة من قِبَل كل من اليهود والنصارى لولا أنه من عند الله الذي يعلم أنه الحق، ولكنهم كما قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (¬5). وقد يحيد بنا الطريق قليلًا عن مسار البحث، وذلك لحاجتنا لاستعراض بعض هذه ¬

(¬1) البقرة: 89 (¬2) السيرة لابن هشام (2/ 91 - 2). (¬3) الأعراف: 157 (¬4) البقرة: 146 (¬5) الأعراف: 179

الدلائل الواضحة التي لا تزال موجودة إلى اليوم في كتبهم المحرفة، فإن الحق تتعدد شواهده وتزداد محامده .. فمن تلك البشريات النبوية في العهد القديم (التوراة)، ما جاء في سفر التثنية من قول الرب لموسى: «سأقيم لهم نبيًا من بين إخوتهم مثلك وألقي كلامي في فمه فينقل إليهم جميع ما أكلمه به. وكل من لا يسمع كلامي الذي يتكلم به باسمي أحاسبه عليه (¬1). وأي نبي تكلم باسمي كلامًا زائدًا لم آمره به، أو تكلم باسم آلهة أخرى، فجزاؤه القتل» (¬2). يقول ابن القيم رحمه الله (¬3): «فهذا النص مما لا يمكن لأحد منهم جحده وإنكاره، ولكن لأهل الكتاب فيه أربع طرق: أحدها: حمله على المسيح، وهذه طريق النصارى، وهو دليل يخالف معتقدهم في المسيح. وأما اليهود فلهم فيه ثلاث طرق: أحدها: على حذف أداة الاستفهام والتقدير: «أأُقيم لبني اسرائيل نبيًا من إخوتهم، لا أفعل هذا»، فهو استفهام إنكار حذفت منه أداة الاستفهام. الثاني: أنه خبر ووعيد، ولكن المراد به (شموئيل النبي)، فإنه من بني إسرائيل. والبشارة إنما وقعت بنبي من إخوتهم وإخوة القوم هم بنو أبيهم وهم بنو إسرائيل. الثالث: أنه نبي يبعثه الله في آخر الزمان يقيم به ملك اليهود ويعلو به شأنهم، وهو ينتظرونه الآن ويسمونه المنتظر. قال المسلمون: البشارة صريحة في النبي العربي الأمي محمد - صلى الله عليه وسلم - ابن عبد الله، لا تُحْتَمَل على غيره» اهـ. قلت: وذلك لعدة أمور، منها: قوله: «نبيًا .. مثلك»: فلقد جاء في سفر التثنية كذلك أنه «لم يظهر بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى، الذي خاطبه الرب وجهًا لوجه» (¬4)، ¬

(¬1) وفي بعض النسخ: «... سأكون أنا المنتقم». (¬2) التثنية 18: 18 - 20 (¬3) ابن قيم الجوزية: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، ص (316 - 7). (¬4) التثنية 34: 10

ويقر ذلك چيمس دُوو James L. Dow في قاموس (كولينز چم للإنجيل Collins Gem, Dictionary of the Bible) ص (403) بقوله ما نصه: «The only man of history who can be compared even remotely to him [i.e. Moses] is Mahomet»، أي إن الرجل الوحيد في التاريخ الذى يمكن مقارنته بموسى - عليه السلام - حتى في أبعد التفاصيل- هو محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولقد أشار الرب - جل جلاله - إلى هذا في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} (¬2). وفي قوله: «من بين إخوتهم»: الخطاب موجه لقوم موسى (بني إسرائيل) ككل. ولذا فالمقصود بـ (إخوتهم) هم العرب ذرية إسماعيل - عليه السلام -، كما جاء لفظ (الإخوة) بهذا الاستعمال الحقيقي في حق إسماعيل - عليه السلام - في سفر التكوين: «وأمام جميع إخوته يسكن» (¬3). ومعلوم أن رسولنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو من ذرية إسماعيل - عليه السلام -، وأنه - صلى الله عليه وسلم - استجابة الله تعالى لدعاء إبراهيم الخليل - عليه السلام - حينما قال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (¬4). ¬

(¬1) See, Ahmad Deedat: What the Bible Says About Muhammad, p(14). وقد عقد الشيخ ديدات (1918 - 2005م)، وكذا رحمة الله الهندي - رحمهما الله - مقارنة قيمة في أوجه الشبه بين موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم. انظرها في كتاب ديدات السابق، و (إظهار الحق)، لرحمة الله الهندي (2/ 200 - 1). (¬2) المزمل: 15 (¬3) التكوين 16: 12 (¬4) البقرة: 129، وللنصارى اعتراضان على هذا القول، الأول: أنه جاء في الإصحاح نفسه: «يقيم لكم الرب إلهكم نبيًا من بينكم، من إخوتكم بني قومكم مثلي ...» [التثنية 18: 15]، فلفظ (من بينكم) يدل دلالة ظاهرة على أن هذا النبي يكون من بني إسرائيل لا من بني إسماعيل. والثاني: أن عيسى - عليه السلام - نسب هذه البشارة إلى نفسه كما جاء في إنجيل يوحنا أنه قال: «ولوكنتم تصدقون موسى لصدقتموني، لأنه كتب فأخبر عني» [يوحنا 5: 46]. ونحن لو سلمنا جدلًا أن عبارة «من بينكم، من بين إخوتكم بني قومكم» صحيحة وغير مضافة - تحريفًا - للنص الأصلي، فقد أجاب عن ذلك رحمة الله الهندي بقوله: «إن اللفظ المذكور لا ينافي مقصودنا، لأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة وبها تكامل أمره، وقد كان حول المدينة بلاد اليهود كخيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم، فقد قام من بينهم، ولأنه إذا كان من إخوتهم - أي العرب - فقد قام من بينهم .. أما عن الاعتراض الثاني: أن آية الإنجيل هكذا: "ولوكنتم تصدقون موسى لصدقتموني، لأنه كتب فأخبر عني"، وليس فيها تصريح بأن موسى - عليه السلام - كتب في حقه في الموضع الفلاني، بل المفهوم منه أن موسى كتب في حقه، وهذا يصدق إذا وجد في موضع من مواضع التوراة إشارة إليه، ونحن نسلم هذا الأمر، لكنا ننكر أن يكون قوله إشارة إلى هذه البشارة للوجوه التي عرفتها» اهـ[رحمة الله الهندي: إظهار الحق (2/ 204 - 5) باختصار].

أما عن قوله: «وألقي كلامي في فمه»: فلقد جاء بسفر أشعياء في فصل بعنوان (مصير أورشليم) ما يلي: «ثم تُناولونه لمن لايعرف القراءة وتقولون له: اقرأ هذا، فيجيب: لا أعرف القراءة» (¬1)، والمشهور من صحيح السيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمِّيًا لا يعرف القراءة والكتابة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل - عليه السلام - وهو يتعبد فى غار حراء، وقال له: اقرأ. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما أنا بقارئ. فضمَّه جبريل - عليه السلام - ضمة شديدة، ثم أطلقه وقال له: اقرأ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما أنا بقارئ. وفعل ذلك ثلاثًا، وفي الثالثة قال له: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَا وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬2). هكذا أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلا ما أُلقي في فمه من كلام الله تعالى، قال - جل جلاله -: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} (¬3). وقوله: «فينقل إليهم جميع ما أكلمه به»: فلقد جاءت الأوامر في القرآن الكريم على السياق التالي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬4)، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬5)، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (¬6) ... إلخ، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم -: {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬7). بل وقوله: «الذي يتكلم به باسمي»: فيلاحظ أن القرآن الكريم يبدأ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. وعن قوله: «وكل من لا يسمع كلامي الذي يتكلم به باسمي أحاسبه عليه»، وفي بعض النسخ: «... سأكون أنا المنتقم»، فيقول رحمة الله الهندي (¬8): «فهذا الأمر لما ذكر ¬

(¬1) أشعياء 29: 12 (¬2) العلق: 1 - 5 (¬3) النحل: 103 (¬4) الإخلاص: 1 (¬5) الأنعام: 162 (¬6) البقرة: 219 (¬7) النجم: 3 - 4 (¬8) رحمة الله الهندي: إظهار الحق (2/ 199).

لتعظيم هذا النبي المبشر به فلا بد أن يمتاز ذلك المبشر به بهذا الأمر عن غيره من الأنبياء، فلا يجوز أن يراد بالانتقام من المُنكِر العذاب الأخروي الكائن في جهنم، أو المحن والعقوبات الدنيوية التي تلحق المنكرين من الغيب، لأن هذا إنكار لا يختص بإنكار نبي دون نبي، بل يَعُم الجميع، فحينئذ يراد بالانتقام الانتقام التشريعي، فظهر منه أن هذا النبي يكون مأمورًا من جانب الله بالانتقام من منكره. فلا يصدق على عيسى - عليه السلام - لأن شريعته خالية عن أحكام الحدود والقصاص والتعزير والجهاد» اهـ. وفي النهاية تختم البشارة بقوله: «وأي نبي تكلم باسمي كلامًا زائدًا لم آمره به، أو تكلم باسم آلهة أخرى، فجزاؤه القتل»، يقول رحمة الله الهندي (¬1): «صرح في هذه البشارة بأن النبي الذي ينسب إلى الله ما لم يأمره يقتل، فلو لم يكن محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًا حقًا لكان يُقتَل، وما قُتِل بل قال الله في حقه: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (¬2)، ولم يقدر على قتله أحد حتى لقي الرفيق الأعلى، وعيسى - عليه السلام - قُتِل وصُلِب على زعم أهل الكتاب. فلو كانت البشارة في حقه لزم أن يكون نبيًا كاذبًا كما يزعمه اليهود والعياذ بالله» اهـ. كذلك فإن من تلك البشريات النبوية في العهد القديم، ما جاء بسفر التثنية أيضًا من قول: «وهذه هي البَرَكة التي بارك بها موسى رجُل الله بني إسرائيل قبل موته. فقال: أقبل الرب من سيناء، وأشرق لهم من جبل سعير وتجلَّى من جبل فاران، وأتى من رُبى القدس وعن يمينه نار شريعة لهم» (¬3)، وفي بعض النسخ: «وعن يمينه نار مشتعلة». ومعلوم أن جبل الطور بسيناء هو المكان الذى كلَّم الله تعالى فيه موسى - عليه السلام - (¬4)، وآتاه الألواح، {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (¬5). أما سعير فهي قرية بفلسطين، تقع في جنوب الضفة الغربية إلى الشمال الشرقي من مدينة الخليل، وهي مكان ولادة عيسى - عليه السلام -. وأما فاران فهي سلسلة الجبال الواقعة بمكة المكرمة، وورد بسفر التكوين أن فاران هو المكان الذي ترك فيه إبراهيم - عليه السلام - زوجته هاجر وولده ¬

(¬1) السابق (2/ 202). (¬2) المائدة: 67 (¬3) التثنية 33: 1 - 2 (¬4) مريم: 52، القصص: 46، سفر الخروج 19: 20 وما بعدها. (¬5) الأعراف: 154

إسماعيل عليهما السلام (¬1)، وقد قال تعالى على لسان إبراهيم: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (¬2). كذلك فإن وادي بكة الذي فيه الكعبة بيت الله الحرام، وأول بيت وضع للناس كما أخبر ربنا جل وعلا: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} (¬3)، قد جاء ذكره في (المزمور 84: 6) في نسخة الملك چيمس KJV هكذا: «Who passing through the valley of Baca make it a well»، وكما يتضح من العبارة أن (بكة) هو اسم علم يكتب بحرف كبير Capital Letter لتمييزه. ذلك في حين أن النسخ العربية - وبعض الأجنبية كذلك - حرفت الاسم (بكة) إلى (وادي البكاء valley of weeping) تارة، و (وادي الجفاف dry valley of Baca) تارة أخرى، بل و (وادي البلسان valley of balsam-trees) تارة ثالثة، رغم أنه معلوم من قواعد اللغة أن أسماء الأعلام لا تترجم وإنما تنقل كما هي! كذلك فإننا لو أكملنا العبارة في بعض النسخ العربية فسنجدها تقول: «هنيئًا للذين عزتهم بك وبقلوبهم يتوجهون إليك. يعبرون في وادي الجفاف فيجعلونه عيون ماء بل بركًا يغمرها المطر. ينطلقون من جبل إلى جبل ليروا إله الآلهة في صهيون» (¬4)، أليست هذه صفة الحجيج إلى بيت الله الحرام، ينتقلون من جبل إلى جبل؟ الصفا والمروة؟؟ فمن أين جاء ذكر (صهيون) إذن؟! ولو بحثنا قليلًا لوجدنا في (دائرة المعارف الكتابية Encyclopaedia Biblica) ذكر ما نصه (¬5): «أما البلسان الحقيقي الذي ذكره المؤلفون القدماء فهو (بلسم مكة) الذي ما زالت مصر تستورده من شبه الجزيرة العربية كما كان الأمر قديمًا ... وشجرة البلسان لا تنمو الآن في فلسطين، وقد بحث عنها دكتور پوست Post وغيره من علماء النبات في ¬

(¬1) سفر التكوين 21: 19 - 21 (¬2) إبراهيم: 37 (¬3) آل عمران: 96 (¬4) المزمور 84: 6 - 8 (¬5) دائرة المعارف الكتابية (2/ 189)، مادة: (بلسان).

الغور وفي جلعاد، ولم يعثروا لها على أثر، كما لم يعثروا عليها فيما حول أريحا التي يذكر پليني [Pliny the Elder (23 - 79 م)] أنها كانت موطن الشجرة. ويقول استرابو [Strabo (63/ 64 ق. م-24م)] إنها كانت تنمو حول بحر الجليل وكذلك حول أريحا ولكنهما وغيرهما من الكتاب القدماء اختلفوا في وصف الشجرة مما يدل على أنهم كانوا ينقلون عن مصادر غير موثوق بها» اهـ. ولكن انظر معي ما جاء في دائرة المعارف نفسها، في النسخة العربية ذاتها، مادة: (بكا - وادي البكاء)، حيث تقول: «يقول المرنم: "عابرين وادي البكاء يصيرونه ينبوعًا" (مز 84: 6)، فهو وادي الدموع. ولا تذكر هذه الكلمة (البكاء) كاسم علم إلا في معركة داود مع الفلسطينيين، عندما سأل الرب: هل يصعد إليهم؟ فقال له الرب: لا تصعد بل در من ورائهم وهلم عليهم مقابل أشجار البكا ... (2 صم 5: 23و24، 1 أخ 14: 14و15) (¬1)، ولعل المقصود بها أشجار البلسان لأنها تفرز مادة صمغية وكأنها الدموع ...»، إلى أن تقول: «ولكن الأرجح أن وادي البكا (مز 84: 6) ليس موضعًا جغرافيًا معينًا ولكنه تصوير مجازي لاختبار المؤمنين الذين كل قوتهم في الرب، والذي بنعمته يجدون أحزانهم وقد تبدلت إلى بركات» اهـ (¬2). وغضت النسخة العربية الطرف عما ذكرته النسخة الإنجليزية الأصلية في الموضع ذاته، من أن توماس شايني Thomas K. Cheyne (1841 - 1915 م) - أحد محرري الموسوعة - يفترض وجود تلاعب قد حدث بالاسم (بَكائِم)، حيث تقول ما نصه (¬3): «Cheyne ... supposes a play on the name Beka'im». ومعلوم أن (-إم - im) في اللغة العبرية هي زيادة Suffix تلحق بالكلمة في حال جمع ¬

(¬1) وفي النسخة العربية التي بحوزتي: «أشجار البلسم» [صموئيل الثاني 5: 23، وأخبار الأيام الأول 14: 14]، وفي نسخة الملك چيمس KJV: «mulberry trees»، وفي نسخ أخرى: «balsam trees»، هكذا غير مميزة بحرف كبير Capital Letter. (¬2) دائرة المعارف الكتابية (2/ 187)، مادة: (بكا - وادي البكاء). (¬3) Encyclopaedia Biblica: vol. 1, p(454): BACA

المذكر، وكما جرت العادة في استخدام صيغة الجمع للتوقير والتعظيم (¬1)، فيصير المراد هنا الاسم (بكة Baca). فما القول في هذا؟ أرى أن القول قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (¬2). أيضًا، نلاحظ في الفقرة السابقة من سفر التثنية أن عبارة «وأتى من رُبى القدس» يقابلها في النسخ الإنجليزية: «he came with ten thousands of saints»، عدا - فيما وجدت - نسخة يونج Young's جاء فيها: «and has come with myriads of holy ones»، وسكتت نسخة داربي Darby عن هذه العبارة. والمعنى أنه: «جاء ومعه عشرة آلاف قديس». فالملاحظ أن الترجمة العربية أسقطت هذه العبارة من النص، وكيف ذلك؟ ألا ينقلان من أصل واحد؟! نعم وإنما وقع ذلك لطمس حقيقة المراد من الآية؛ ذلك لأن أتباع موسى - عليه السلام - المخلصين كان عددهم سبعين رجلًا (¬3)، وأتباع عيسى - عليه السلام - المخلصين كان عددهم اثني عشر حواريًّا (¬4)، في حين أنه كما هو معلوم من السيرة النبوية أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين فتحوا مكة في رمضان في العام الثامن من الهجرة كان عددهم عشرة آلاف صحابي، وقد جعلها الله - عز وجل - علامة بارزة لأهل الكتاب، لما تبع ذلك من ظهور للإسلام وانتشار لدعوته (¬5). ¬

(¬1) ومثال ذلك كلمة (إلوهِم Elohim) العبرية التي تطلق عادة لوصف إله إسرائيل الواحد، وكلمة (مُحَمَّدِم Muhummedim) الثابتة في المخطوطة العبرية لسفر نشيد الأنشاد Song of Solomon (5: 16)، والتي تعني (الشخص كثير الحمد، محمود الصفات، كثير الخصال الحميدة)، وترجمت إلى (وهو شَهيٌّ كُلُّه altogether lovely)، في قوله: «رِيقُهُ أعذَبُ ما يكون، وهو شَهيٌّ كُلُّهُ. هذا حبيبي، هذا رفيقي، يا بنات أورشليم». ولا دافع لهذا إلا نفي صفة النبوة عن رسول الله محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) البقرة: 79 (¬3) الأعراف: 155، سفر الخروج 24: 1، سفر العدد 11: 16 (¬4) متى 10: 1 (¬5) قال ابن كثير رحمه الله: «قال مالك رحمه الله: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: "والله إن لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا". وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظَّمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نوَّه الله بذكرهم في الكتب المنزَّلة والأخبار المتداولة؛ ولهذا قال هاهنا: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}، ثم قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29]» اهـ[ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (7/ 362)] .. وحقيقة أعجبني تعليق البعض حينما قال: «والغريب أن الكتب المقدسة تصفهم بالقديسين، وبعض من يدعي الإسلام يصفهم بالمرتدين والمنافقين!».

كذلك نلاحظ في الفقرة ذاتها التعاقب الزمني لمبعث الأنبياء الثلاثة: موسى وعيسى ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين، فتقول: «أقبل الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتجلَّى من جبل فاران»؛ وللحافظ ابن رجب الحنبلي (736 - 795هـ) كلامٌ نفيسٌ في المسألة، فيقول رحمه الله تعليقًا على ما رواه البخاري من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى، كرجل استعمل عمالًا، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط. ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط. ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس، على قيراطين قيراطين، ألا لكم الأجر مرتين. فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاء، قال الله: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا، قال: فإنه فضلي أعطيه من شئت» (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء: 3459، ويذكر إنجيل متَّى رواية مشابهة جاءت على لسان عيسى - عليه السلام - جاء فيها: «فإن ملكوت السماوات يشبه رجلًا رب بيت خرج مع الصبح ليستأجر فعلة لكرمه. فاتفق مع العملة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه. ثم خرج نحو الساعة الثالثة، ورأى آخرين قيامًا في السوق بطالين. فقال لهم اذهبوا أنتم أيضًا إلى الكرم فأعطيكم ما يحق لكم فمضوا. وخرج أيضًا نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل كذلك. ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قيامًا بطالين فقال لهم لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطالين. قالوا له لأنه لم يستأجرنا أحد قال لهم اذهبوا أنتم أيضًا إلى الكرم فتأخذوا ما يحق لكم .. فلما كان المساء قال صاحب الكرم لوكيله ادع الفعلة وأعطهم الأجر مبتدئًا من الآخرين إلى الأولين. فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا دينارًا دينارًا. فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا هم دينارًا دينارًا. وفيما هم يأخذون تذمروا على رب البيت. قائلين هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة وقد ساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر. فأجاب وقال لواحد منهم يا صاحب ما ظلمتك أما اتفقت معي على دينار. فخذ الذي لك واذهب فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك. أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بما لي أم عينك شريرة لأني أنا صالح. هكذا يكون الآخرون أولين والأولون آخرين لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون». [متى 20: 1 - 16].

يقول رحمه الله (¬1): «فمدة هذه الأمم الثلاث كيوم تام، ومدة ما مضى من الأمم في أول الدنيا كليلة اليوم، فإن الليل سابق النهار، وقد خُلِقَ قبله على أصح القولين، وتلك الليلة السابقة كان فيها نجوم تضيء، ويُهتدى بها، وهم الأنبياء المبعوثون فيها. وقد كان فيهم أيضًا قمرٌ منيرٌ وهو إبراهيم الخليل - عليه السلام -، إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء ... وأما ابتداء رسالة موسى - عليه السلام - فكانت كابتداء النهار، فإن موسى وعيسى ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم - هم أصحاب الشرائع، والكتب المتَّبَعَة، والأمم العظيمة. وقد أقسم الله بمواضع رسالاتهم في قوله - سبحانه وتعالى -: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (¬2)، وفي التوراة: "جاء الرب من طور سيناء، وأشرق من سعير، واستعلن من جبال فاران"، ولهذا سمَّى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - سراجًا منيرًا، لأن نوره للدنيا كنور الشمس وأعمُّ وأعظمُ وأنفعُ. وكانت مدة عمل بني إسرائيل إلى ظهور عيسى كنصف النهار الأول، ومدة عمل أمة عيسى - عليه السلام - كما بين الظهر والعصر، ومدة عمل المسلمين كما بين العصر إلى غروب الشمس، وهذا أفضل أوقات النهار، ولهذا كانت الصلاة الوسطى العصر على الصحيح، وأفضل ساعات الجمعة ويوم عرفة من العصر إلى غروب الشمس. فلهذا كان خير قرون بني آدم القرن الذي بُعِثَ فيه محمد - صلى الله عليه وسلم -» اهـ. لعلنا نكتفي بهاتين الإشارتين الصريحتين من التوراة، لنتناول بعض البشريات النبوية في العهد الجديد (الإنجيل): فلقد أخبر المسيح - عليه السلام - بني إسرائيل بأن الله سيستبدل بهم قومًا آخرين، كما جاء بمتَّى: «أما قرأتم في الكتب المقدسة: الحجر الذي رفضه البناءون صار رأس الزاوية؟ هذا ما صنعه الرب، فيا للعجب! لذلك أقول لكم: سيأخذ الله ملكوته منكم ويسلمه إلى شعب يجعله يُثمِر. من وقع على هذا الحجر تهشم. ومن وقع هذا الحجر عليه سحقه» (¬3). ¬

(¬1) ابن رجب الحنبلي: فتح الباري (4/ 338 - 40) باختصار. (¬2) التين: 1 - 3 (¬3) متى 21: 42 - 44

ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من الزاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» (¬1). يقول رحمة الله الهندي (¬2): «ولا يصدق هذا الوصف على عيسى - عليه السلام - لأنه قال: "ومن سمع أقوالي ولم يؤمن بي لا أدينه، لأني ما جئت لأدين العالم بل لأخلص العالم" (¬3)، وصدقه على محمد - صلى الله عليه وسلم - غير محتاج إلى البيان، لأنه كان مأمورًا بتنبيه الفجار الأشرار، فإن سقطوا عليه ترضضوا، وإن سقط هو عليهم سحقهم» اهـ. كذلك فلقد جاء بإنجيل يوحنا ما يلى: «وأنا أطلب إلى الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد» (¬4): فيلاحظ العلماء أن كلمة (مُعَزِّي Comforter) يقابلها في النص اليوناني كلمة (فارقليط Paraclitos)، ويقول أهل اللغة أن كلمة Paraclete/Paraclitos هي في الأصل كلمة Periclyte/Periclitos، وهي الكلمة التي يعتقد أن السيد المسيح - عليه السلام - تلفظ بها، وهي كلمة سريانية أو أرامية بمعنى أحمد أو الإنسان الذي يحمد حمدًا كثيرًا. يقول رحمة الله الهندي (¬5): «قد وصلت إليَّ رسالة صغيرة في لسان أردو من رسائل القسيسين في سنة ألف ومائتين وثمان وستين من الهجرة، وكانت هذه الرسالة طبعت في كلكته وكانت في تحقيق لفظ فارقليط، وادعى مؤلفها أن مقصوده أن ينبه المسلمين على سبب وقوعهم في الغلط من لفظ (فارقليط)، وكان ملخص كلامه: "أن هذا اللفظ معرَّب من اللفظ اليوناني، فإن قلنا إن هذا اللفظ اليوناني الأصل (پاراكليطوس) فيكون بمعنى المعزي والمعين والوكيل، وإن قلنا إن اللفظ الأصل ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب المناقب: 3535 (¬2) رحمة الله الهندي: إظهار الحق (2/ 228). (¬3) يوحنا 12: 47 (¬4) يوحنا 14: 16 (¬5) رحمة الله الهندي: إظهار الحق (2/ 231 - 3) باختصار وتصرف يسير.

(پيريكليطوس) يكون قريبًا من معنى محمد وأحمد، فمن استدل من علماء الإسلام بهذه البشارة فهم أن اللفظ الأصل (پيريكليطوس) ومعناه قريب من معنى محمد وأحمد، فادعى أن عيسى - عليه السلام - أخبر بمحمد أو أحمد، لكن الصحيح أنه (پاراكليطوس) " انتهى ملخصًا من كلامه. فأقول: إن التفاوت بين اللفظين يسير جدًا وإن الحروف اليونانية كانت متشابهة، فتبدل پيريكليطوس بپاراكليطوس في بعض النسخ من الكاتب قريب القياس، ثم رجح أهل التثليث المنكرين هذه النسخة على النسخ الأخر، ومثل هذا الأمر من أهل الديانة من أهل التثليث ليس ببعيد، بل لا يبعد أن يكون من المستحسنات! والأمر الثاني: أن البعض ادعوا قبل ظهور محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم مصاديق لفظ فارقليط، مثلًا منتنس المسيحي الذي كان في القرن الثاني من الميلاد، ادعى في قرب سنة 177 من الميلاد في آسيا الصغرى الرسالة وقال: إني هو الفارقليط الموعود به الذي وعد بمجيئه عيسى - عليه السلام -، وتبعه أناس كثيرون في ذلك كما هو مذكور في بعض التواريخ. وذكر وليم ميور (¬1) حاله وحال متبعيه في القسم الثاني من الباب الثالث من تاريخه بلسان أردو المطبوع سنة 1848 من الميلاد هكذا: "أن البعض قالوا: إنه ادعى أني فارقليط يعني المعزي روح القدس وهو كان أتقى ومرتاضًا شديدًا ولأجل ذلك قبله الناس قبولًا زائدًا" انتهى كلامه. فعلم أن انتظار فارقليط كان في القرون الأولى المسيحية أيضًا ولذلك كان الناس يدعون مصاديقه وكان المسيحيون يقبلون دعاويهم. وقال صاحب لُب التواريخ (¬2): "أن اليهود والمسيحيين من معاصري محمد [- صلى الله عليه وسلم -] كانوا منتظرين لنبي فحصل لمحمد من هذا الأمر نفع عظيم لأنه ادعى أني هو ذاك المنتظر" انتهى ملخص كلامه. فأقول: إن اللفظ العبراني الذي قاله عيسى - عليه السلام - مفقود، واللفظ اليوناني الموجود ترجمة، لكني أترك البحث عن الأصل، وأتكلم على هذا اللفظ اليوناني الأصل پيريكليطوس، فالأمر ظاهر، وتكون بشارة المسيح في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - بلفظ هو قريب من محمد وأحمد، وهذا وإن كان قريب القياس بلحاظ عاداتهم، لكني أترك هذا الاحتمال ¬

(¬1) أحسبه يقصد المستشرق الاسكتلندي وليام موير William Muir (1819 - 1905 م). (¬2) وهو يحيى بن عبد اللطيف القزويني (ت. 960هـ).

لأنه لا يتم عليهم إلزامًا، وأقول: إن كان اللفظ اليوناني الأصل پاراكليطوس كما يدعون فهذا لا ينافي الاستدلال أيضًا، لأن معناه المعزي، والمعين، والوكيل - على ما بيَّن صاحب الرسالة -، أو الشافع كما يوجد في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816م، وهذه المعاني كلها تصدق على محمد - صلى الله عليه وسلم -» اهـ. لكن النصارى يصرون رغم ذلك على إنكار كون المُعَزِّي هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ويقولون إن المراد هو روح القدس جبريل - عليه السلام -، قياسًا على نصوص أخرى، منها ما جاء بيوحنا: «ولكن المُعَزِّي، وهو الروح القدس، الذي أرسله الآب باسمي، سيعلمكم كل شيء ويجعلكم تتذكرون كل ما قلته لكم» (¬1). وغير أن آثار الوضع واضحة، فهو أيضًا ادعاء باطل من وجوه: منها أنه جاء في رسالة يوحنا الأولى: «أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم» (¬2)؛ فيلاحظ أن كلمة (أرواح) جاءت في العبارة مرادفة لكلمة (أنبياء)، ويلاحظ أيضًا أن العبارة حذرت من خروج أنبياء كذبة، ولكنه تحذير عام، وبالتالي فلا بد من وجود أنبياء صادقين في المقابل. ولقد طالب كاتب الرسالة بضرورة التمييز بين هذين النوعين من الأنبياء، ووضع في رسالته المعيار لاختبار صدق نبوة المدعين كما يلي: «بهذا تعرفون روح الله، كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله» (¬3). وانظروا القرآن الكريم وتصفحوا، كم مرة ذكر فيها أن عيسى بن مريم هو المسيح - عليه السلام -؟ قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} (¬5) ... فوفقًا للمقياس الذى وضعه يوحنا في رسالته يتضح بالمطابقة أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو المُعزِّي الآخر. ¬

(¬1) يوحنا 14: 26 (¬2) رسالة يوحنا الأولى 4: 1 (¬3) رسالة يوحنا الأولى 4: 2 (¬4) آل عمران: 45 (¬5) النساء: 171

ولقد جاء بإنجيل يوحنا: «صدقوني، من الخير لكم أن أذهب، فإن كنت لا أذهب لا يجيئكم المعزي، أما إذا ذهبت فأرسله إليكم» (¬1)، وتشير العبارة السابقة إلى أن هذا المُعَزِّي لن يظهر إلا بعد رحيل المسيح - عليه السلام -، في حين أنه قد دلت بعض نصوص الإنجيل على مجيء الروح القدس قبل ولادة المسيح - عليه السلام -، كقوله: «وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس» (¬2)، بل وإنه قد جاء في حياته أيضًا، وذلك في قوله: «وحل الروح القدس عليه في صورة جسم كأنه حمامة» (¬3). غير أن ما يستقيم فهمه من تعليق المسيح - عليه السلام - مجيء المعزي الآخر بذهاب الأول - أي عيسى - عليه السلام - أنه لا بد أن يكون رجلًا (¬4) له نفس الطبيعة: يأكل (¬5)، ويشرب (¬6)، ويبكي (¬7) ... إلخ، وهل الروح القدس رجل يأكل ويشرب ويبكي ... ؟ أم إنه لم يكن المعزي الآخر؟!: {قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا} (¬8). يقول موريس بوكاي (¬9): «إن وجود كلمتي (الروح القدس) في النص الذي نملك اليوم قد يكون نابعًا من إضافة لاحقة إرادية تمامًا تهدف إلى تعديل المعنى الأول لفقرة تتناقض - بإعلانها بمجيء نبي بعد المسيح - مع تعاليم الكنائس المسيحية الوليدة التي أرادت أن يكون المسيح هو خاتم الأنبياء ... ولكي تكون لنا فكرة صحيحة عن المشكلة، يجب الرجوع إلى النص اليوناني الأساسي، والنص اليوناني الذي رجعنا إليه هو نص Novum Testamentum Graece طبعة نستلى وألاند Nestle et Aland 1971، وما يهم هو أن المعروض هنا عن الدلالة المحددة لفعلي (يسمع) و (يتحدث) يسري على ¬

(¬1) يوحنا 16: 7 (¬2) لوقا 1: 67 (¬3) لوقا 3: 22 (¬4) أعمال الرسل 2: 22 (¬5) مرقس 11: 12 - 14 (¬6) يوحنا 19: 28 (¬7) يوحنا 11: 35 (¬8) الإسراء: 95 (¬9) موريس بوكاي: القرآن والإنجيل والتوراة والعلم، ص (110 - 1) باختصار.

أيكسر الباب أم يفتح؟

كل مخطوطات إنجيل يوحنا، ومن ضمنها الحالة المعنية هنا - أي النص الذي نحن بصدد مناقشته -. وفعل (يسمع) هو فعل (Akouo) باليونانية، ويعني استقبال الصوت، أما فعل (يتحدث) فهو فعل (Laleo) باليونانية، ومعناه العام إصدار أصوات وخاصة أصوات الكلام، ويتكرر هذا الفعل كثيرًا في النص اليوناني، وذلك للإشارة إلى التصريح الجليل للمسيح في أثناء تبشيره، إذن يبدو أن الاتصال بالناس المقصود هنا لا يكمن مطلقًا في إلهام من عمل الروح القدس، إنما هو اتصال ذو طابع مادي واضح، وذلك بسبب مفهوم إصدار الصوت، وهو المفهوم المرتبط بالكلمة اليونانية التي تعرفه» اهـ. ولكن نلاحظ أن المسيح - عليه السلام - قد وعد بأن هذا المعزي سيجيء «ليمكث معكم إلى الأبد»، فما هو المراد من قوله «إلى الأبد»؟ والمراد أنه سيمكث معنا بشريعته وتعاليمه، وقد قال الله تعالى في حق نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه {رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬2)، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حق الفرقة الناجية: «ما أنا عليه وأصحابي» (¬3)، وقال الله - جل جلاله -: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬4) اهـ. ... أيُكسَر الباب أم يُفتَح؟ لقد سلك اليهود وسائل عديدة ومتغايرة ومتنوعة للكيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه ومقاومتهم، إلا أن هذه الوسائل لم تفلح ولم تؤت ثمارها المرجوة منها، وهي القضاء على جماعة المسلمين ودولتهم وكيانهم السياسي، فما سبب ذلك؟ بسبب تلك التربية النبوية الرشيدة التي غرست معاني الإيمان في القلوب وحققت العبودية الخالصة لله، وحاربت الشرك بجميع أشكاله، وعلمت الصحابة - رضي الله عنهم - الأخذ بأسباب النهوض والتمكين المعنوية والمادية، فقد ربَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على العزة، ¬

(¬1) الأحزاب: 40 (¬2) المائدة: 3 (¬3) رواه الترمذي، كتاب الإيمان: 2641، وحسنه الألباني. (¬4) التوبة: 100

والنخوة، والرجولة، والشجاعة، ورفض الذل، ومقاومة الظلم، وعدم الاستسلام لمؤامرات اليهود وغيرهم، بل مقاومتها والقضاء عليها وعلى أهلها، فثابروا وصابروا حتى انتصروا على أعدائهم. لقد كان مكر اليهود في غاية الدهاء تكاد تزول منه الجبال، ولكنه لم يفلح مع الرعيل الأول بسبب القيادة النبوية والمنهج الرباني الذي سار عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وصدق من لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم -، القائل: «إذا أصاب أحدكم مصيبة، فليذكر مصيبته بي [أي بوفاته - صلى الله عليه وسلم -]، فإنها من أعظم المصائب» (¬2)؛ قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وما نفضنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا» اهـ (¬3). وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، قال: «بينا نحن جلوس عند عمر، إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة؟ قال: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، تكفرها الصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابًا مغلقا، قال عمر: أيُكسَر الباب أم يُفتَح؟ قال: لا، بل يكسر، قال عمر: إذًا لا يغلق أبدا، قلت: أجل» (¬4). فلقد دل قول حذيفة على أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان بمثابة الباب المُغلَق في وجه ¬

(¬1) د. علي الصلابي: السيرة النبوية، عرض وقائع وتحليل أحداث، ص (353). (¬2) رواه الدارمي، كتاب المقدمة: 85، وإسناده صحيح. (¬3) رواه ابن ماجه، كتاب الجنائز: 1631 وصححه الألباني. فائدة: يقول الأستاذ سعيد حوى رحمه الله تعليقًا على قول أنس: «قوله: وما نفضنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا، فيه رد على من ادعى أن حال الصحابة ورقيهم الروحي لا يُفَسَّر بوجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسهم، وهو قول انتشر في هذا العصر ويكفي في رده قوله - جل جلاله -: {وَيُزَكِّيهِمْ}، كما أن في هذا الحديث ما يدل على أن الرقي القلبي منوط بالاجتماع مع أهل الحق والارتباط الروحي فيهم، ومن ههنا نؤكد على الانتساب للعلماء العاملين والربانيين المخلصين، ونؤكد على الأخذ منهم ومجالسة الصالحين من عباد الله» اهـ[سعيد حوى: الأساس في السنة وفقهها (2/ 1046)]. (¬4) رواه البخاري، كتاب الفتن: 7096

حقيقة موقف كعب الأحبار من مقتل أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -

الفتن، وهذا ما أخبر به حذيفة - رضي الله عنه - حينما سُئل «من الباب؟ قال: عمر» (¬1). فبمقتله - رضي الله عنه - على يد أبي لؤلؤة فيروز المجوسي لعنه الله (¬2)، خرجت إلينا فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرا (¬3)، فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي (¬4)، فتن يرقق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مُهْلِكَتي! ثم تنكشف، ثم تجيء فتنة فيقول المؤمن: هذه هي، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر (¬5). حقيقة موقف كعب الأحبار من مقتل أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -: كعب الأحبار، أبو إسحاق، هو - كما يذكر الذهبي - «كعب بن ماتع الحِمْيَريُّ اليماني العلامة الحبر، الذي كان يهوديًا فأسلم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقدم المدينة من اليمن في أيام عمر - رضي الله عنه -، فجالس أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان يحدِّثهم عن الكتب الإسرائيلية، ويحفظ عجائب، ويأخذ السنن عن الصحابة. وكان حسن الإسلام، متين الديانة، من نبلاء العلماء ... توفي بحمص ذاهبًا للغزو في أواخر خلافة عثمان - رضي الله عنه -، ¬

(¬1) السابق. (¬2) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأبو لؤلؤة كافر باتفاق أهل الإسلام كان مجوسيًا من عباد النيران وكان مملوكًا للمغيرة بن شعبة ... وكان قد رأى ما عمله المسلمون بأهل الذمة وإذا رأى سبيهم يقدم إلى المدينة يبقى في نفسه من ذلك ... فقتل عمر بغضًا في الإسلام وأهله وحبًا للمجوس وانتقامًا للكفار لما فعل بهم عمر حين فتح بلادهم وقتل رؤساءهم وقسم أموالهم كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في الحديث الصحيح حيث يقول: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله»، وعمر هو الذي أنفق كنوزهما، وهذا الحديث الصحيح مما يدل على صحة خلافته وأنه كان ينفق هذين الكنزين في سبيل الله الذي هو طاعته وطاعة رسوله وما يقرب إلى الله، لم ينفق الأموال في أهواء النفوس المباحة فضلًا عن المحرمة» اهـ[ابن تيمية: منهاج السنة النبوية (6/ 371 - 2) باختصار، والحديث رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير: 2864]. (¬3) الحديث رواه مسلم، كتاب الإيمان: 118 (¬4) الحديث رواه الترمذي، كتاب الفتن: 2194، وصححه الألباني .. (¬5) الحديث رواه مسلم، كتاب الإمارة: 1844

فلقد كان من أوعية العلم» (¬1). وقد اتهم كعب الأحبار بالتآمر لقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، حيث جاءت رواية في الطبري تشير إلى هذا الاتهام، فتقول الرواية (¬2): «... ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين، اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله - عز وجل - التوراة. قال عمر: آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكني أجد صفتك وحليتك، وأنه قد فنى أجلك، قال: وعمر لا يحس وجعًا ولا ألمًا، فلما كان من الغد جاءه كعب، فقال: يا أمير المؤمنين، ذهب يومان وبقي يوم وليلة، وهي لك إلى صبيحتها، قال: فلما كان الصبح، خرج إلى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالًا، فإذا استوت، جاء هو فكبَّر. قال: ودخل أبو لؤلؤة في الناس، في يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات، إحداهن تحت سرته، وهي التي قتلته» اهـ. وقد بنى بعض المفكرين المحدثين على هذه الرواية نتيجة، مفادها اشتراك كعب الأحبار في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -، وهذا الاتهام باطل لأمور كثيرة، من أهمها: 1 - أن هذه القصة لو صحت لكان من المنتظر من عمر - رضي الله عنه - أن لا يكتفي بقول كعب، ولكن لجمع طائفة ممن أسلم من اليهود وله إحاطة بالتوراة مثل عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -، ويسألهم عن هذه القصة، وهو لو فعل لافتضح أمر كعب، وظهر للناس كذبه، ولتبين لعمر - رضي الله عنه - أنه شريك في مؤامرة دبرت لقتله، أو أنه على علم بها، وحينئذ يعمل عمر - رضي الله عنه - على الكشف عنها بشتى الوسائل. 2 - أن هذه القصة لو صحت أيضًا لكان معناها أن كعبًا يكشف عن نفسه بنفسه، وذلك باطل لمخالفته لطباع الناس، إذ المعروف أنه من اشترك في مؤامرة، يبالغ في كتمانها بعد وقوعها، تفاديًا من تحمل تبعاتها. ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء (3/ 489 - 91) باختصار. (¬2) ابن جرير الطبري: تاريخ الرسل والملوك (4/ 191).

جذور البلاء

3 - إن ما يُعرَف عن كعب الأحبار من دينه وخلقه وأمانته وتوثيق أكثر أصحاب الصحاح له، يجعلنا نحكم بأن القصة موضوعة عليه، ونحن ننزه كعبًا أن يكون شريكًا في قتل عمر، أو يعلم من يدبر أمر قتله ثم لا يكشف لعمر عنه، كما ننزهه أن يكون كذابًا وضاعًا، يحتال على تأكيد ما يخبر به من مقتل عمر نسبته إلى التوراة وصوغه في قالب إسرائيلي. 4 - يضاف إلى هذا أن جمهور المؤرخين لم يذكروا القصة، بل لم يشيروا إليها، فابن سعد في الطبقات لم يشر قط إلى الحادثة، كذلك ابن عبد البر في الاستيعاب، والسيوطي في تاريخ الخلفاء، وغيرهم .. وقال الحافظ ابن كثير إن وعيد أبي لؤلؤة كان يوم الثلاثاء عشية وطعنه صبيحة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة (¬1)، لم يكن إذن بين التهديد والتنفيذ سوى ساعات معدودات، فكيف ذهب كعب الأحبار إلى عمر؟ وقال له ما قال: اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، من أين لكعب هذه الأيام الثلاثة إذا كان التهديد في الليل والتنفيذ صبيحة اليوم التالي؟ أليس هذا دليلًا على أن القصة لم تثبت بصورة تجعل المحقق يطمئن إلى ذكرها هذا إذا لم تكن منتحلة مصنوعة كاد بها بعض الناس لكعب لينفروا منه المسلمين، وهذا ما تطمئن إليه النفس ويميل إليه القلب، وبخاصة بعد ما عرفنا أن كعبًا كان حسن الإسلام، وكان محل ثقة كثير من الصحابة حتى رووا عنه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ... جذور البلاء: في كتب التاريخ الإسلامي - المصادر القديمة - روايات مختلفة عن نشاط سري لأفراد وجماعات من الموالي أظهروا الإسلام وأخفوا معتقداتهم القديمة بغية تحطيم ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية (7/ 137). (¬2) د. علي الصلابي: فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ص (663 - 7) باختصار وتصرف.

الدولة الإسلامية من داخلها وإثارة الفتنة والفرقة بين المسلمين، وذلك ببث العقائد الفاسدة، ونشر الإشاعات بدوافع نفسية أو عرقية، بعد ما عجزت تلك الفئات عن مجابهة المسلمين في العلن، وكان اليهود [والفرس] في مقدمة هؤلاء نظرًا لحقدهم المكين على المسلمين والإسلام (¬1). «وكان سبب احتراق اليهود على المسلمين أنهم هدموا أساسهم، وقطعوا جذورهم، واستأصلوهم استيصالًا تحت راية النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كان أسلافهم من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة يقطنون المدينة، ومن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمن الفاروق عمر - رضي الله عنه -، حيث نفذ فيهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته حيث قال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا" (¬3)، فطهر عمر - رضي الله عنه - جزيرة العرب من نجاستهم ودسائسهم ولم يترك لأحد من اليهود أن يسكن في الجزيرة طبقًا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬4). أما الفرس، «فقد قاوم أسلافهم زحف الإسلام وامتداد رسالته بأسلحتهم ودسائسهم جيشًا لجيش، وجهادًا لجهاد، ومعركة بعد معركة، حتى هزمهم الله في كل موقف، وخذلهم في كل ملحمة. فباتوا ينتظرون الفرص السانحة، ويترقبون للمسلمين الأولين ما يترقبه المبطلون لأهل الحق في كل زمان ومكان. فلما لم ينالوا منها شيئًا، وطالت عليهم خلافة أمير المؤمنين عمر، واتسعت الفتوح في زمنه، وانتشرت كلمة الإسلام في آفاق ¬

(¬1) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (240) بتصرف. (¬2) رواه البخاري، كتاب الجزية والموادعة: 3168، وقال ابن حجر رحمه الله: «قال الأصمعي: جزيرة العرب ما بين أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولًا، ومن جدة وما والاها إلى أطراف الشام عرضًا، وسميت جزيرة العرب لإحاطة البحار بها، يعني بحر الهند وبحر القلزم وبحر فارس وبحر الحبشة، وأضيفت إلى العرب لأنها كانت بأيديهم قبل الإسلام وبها أوطانهم ومنازلهم، لكن الذي يمنع المشركون من سكناه، منها الحجاز خاصة وهو مكة، والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب، لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها مع أنها من جملة جزيرة العرب، هذا مذهب الجمهور» اهـ من (فتح الباري) (6/ 171). (¬3) رواه مسلم: كتاب الجهاد والسير: 1767 (¬4) إحسان إلهي ظهير: الشيعة والسنة، ص (55).

مترامية الأطراف، تآمروا حينئذ على سفك دم عمر، وقد ظن المجوس الذين قتلوا عمر أنهم قد قتلوا الإسلام بقتله، ولكن ما لبثوا أن علموا أنهم باءوا من هذه بمثل الذي باءوا به من تلك، وحفظ الله رسالته، وحاط دعوة الحق بعين عنايته وجميل رعايته، وعادت جيوش الإسلام في خلافة ذي النورين توغل فيما وراء إيران، وتفتح لكلمة الله آفاقًا أخرى متجاوزة الحد المنيع الذي كانوا يسمونه (باب الأبواب)، حينئذ أيقن المجوس واليهود أن الإسلام إذا كان إسلامًا محمديًا صحيحًا لا يمكن أن يحارب وجهًا لوجه في معارك شريفة سافرة، ولا سبيل إلى سحقه باغتيال أئمته وعظمائه. فأزمعوا الرأي أن يتظاهروا بالإسلام، وأن ينخرطوا في سلكه، وأن يكونوا الطابور الخامس (¬1) في قلعته» (¬2). يقول الإمام ابن حزم (¬3): «إن الفرس كانوا ذوي سعة وعلو يد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسها بحيث إنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدون سائر الناس عبيدًا لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكان العرب عند الفرس أقل الأمم خطرًا، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، وفي كل ذلك يظهر الله الحق» اهـ. وقد كان لحلول اليهود إلى بلاد فارس منذ أن سباهم بُخْتَنَصَّر، ولامتزاج الدم اليهودي بالفارسي، دور كبير في تأثر ديانة الفرس باليهودية، بل وفي تسرب بعض عقائد ¬

(¬1) نشأ مصطلح (الطابور الخامس Quinta Columna/Fifth Column) أثناء الحرب الأهلية الإسپانية التي نَشِبَت عام 1936م واستمرت ثلاث سنوات (17/ 7/1936 - 1/ 4/1939م) وبلغ عدد ضحاياها نحو خمسمائة ألف قتيل. وأول من أطلق هذا التعبير هو الچنرال الإسپاني إيميليو مولا Emilio Mola (1887 - 1937 م)، وكان أحد قادة القوات الوطنية الزاحفة على مدريد، وكانت تتكون من أربعة طوابير من الثوار، فقال: «إن هناك طابورًا خامسًا يعمل مع الوطنيين [الثوار] لجيش الچنرال فرانكو Francisco Franco [1892 - 1975 م] ضد الحكومة الجمهورية»، ويقصد به مؤيدي ثورة فرانكو من الشعب .. ثم ترسخ هذا المعنى في الاعتماد على الجواسيس في الحروب، واتسع ليشمل المنافقين مروجي الإشاعات ومنظمي الحروب النفسية، وهذا من التغيير الدلالي للألفاظ. (¬2) انظر مقدمة محب الدين الخطيب لكتاب (مختصر التحفة الاثني عشرية). (¬3) ابن حزم: الفِصَل (2/ 91).

القذيفة الأولى

المجوس إلى اليهودية، واستمرت آثار هذا (التراكم الچيولوچي) في مختلف حقب التاريخ. القذيفة الأولى: أطلقها ابن السوداء عبد الله بن سبأ، وهو يهودي يمني، قيل صنعاني، وقيل حِمْيَري، وقيل غير ذلك (¬1) .. وكان ابن السوداء - سوَّد الله وجهه - حاقدًا على الإسلام وأهله، وقد أزعجه انتشار دعوته وقوة شوكته، فأراد به كيدًا، فلم يجد أقوى من نهج سلفه شاءول الذي هدم به دين النصارى (¬2)، فأظهر الإسلام في عهد عثمان - رضي الله عنه -، وبدأ ينخر كالسوس في العود، «وخلاصة ما جاء به أن أتى بمقدمات صادقة وبنى عليها مبادئ فاسدة راجت لدى السذج والغلاة وأصحاب الأهواء من الناس. وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبَّس فيها على من حوله حتى اجتمعوا عليه» (¬3). فطرق باب القرآن يتأوله على زعمه الفاسد حيث ادَّعى رجعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمدًا يرجع، وقال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (¬4)، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى» (¬5). كما سلك طريق القياس الفاسد في ادعاء إثبات الوصية لعلي - رضي الله عنه - بقوله: «إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد»، ثم قال: «محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء» (¬6)، وذكر جماعة من أهل العلم أنه كان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون ما قاله في الإسلام في علي بن أبي طالب. ¬

(¬1) للتوسع، انظر، د. سليمان بن حمد العودة: عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام، ص (38) وما بعدها. (¬2) راجع المسألة في الباب الأول، فصل: الصهيونية رؤية مغايرة، الهامش. (¬3) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (242 - 3). (¬4) القصص: 85 (¬5) تاريخ الطبري (4/ 340). (¬6) السابق.

وحينما استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه المرسوم، وهو خروج الناس على الخليفة عثمان - رضي الله عنه -، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم حيث قال لهم: «من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتناول أمر الأمة!»، ثم قال لهم بعد ذلك: «إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر» (¬1). وهو بهذا أراد أن يوقع في أعين الناس بين اثنين من الصحابة، حيث جعل أحدهما مهضوم الحق وهو عليّ، وجعل الثاني مغتصبًا وهو عثمان. ثم إنه أخذ بعد ذلك يحض أتباعه على إرسال الرسائل بأخبار سيئة مفجعة عن مصرهم إلى بقية الأمصار، فيتخيل أهل البصرة مثلًا أن حال أهل مصر على أسوأ ما يكون من قِبَل واليهم، ويتخيل أهل مصر أن حال أهل الكوفة على أسوأ ما يكون من قِبَل أميرهم، وكان أهل المدينة يتلقون الكتب من الأمصار بحالها وسوئها من أتباع ابن سبأ. وهكذا يتخيل الناس في جميع الأمصار أن الحال بلغ من السوء ما لا مزيد عليه. والمستفيد من هذا الحال هم السبئية، لأن تصديق ذلك من الناس يفيدهم في إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلامي. ولقد شعر عثمان - رضي الله عنه - بأن شيئًا ما يحاك في الأمصار وأن الأمة تمخض بشرٍّ فقال: «والله إن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها» (¬2). ورتع ابن سبأ في مصر، وهناك أخذ ينظم حملته ضد عثمان - رضي الله عنه - ويحث الناس على التوجه إلى المدينة لإثارة الفتنة بدعوى أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، ووثب على وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد غشَّهم بكتب ادَّعى أنها وردت من كبار الصحابة، حتى إذا أتى هؤلاء الأعراب المدينة النبوية واجتمعوا بالصحابة لم يجدوا منهم تشجيعًا، حيث تبرءوا مما نسب إليهم ¬

(¬1) السابق (4/ 340 - 1). (¬2) السابق (4/ 343).

من رسائل تؤلب الناس على عثمان، كما قالت عائشة رضي الله عنها: «لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا» (¬1). ووجد الأعراب عثمان مقدِّرا للحقوق، بل وناظرهم فيما نسبوا إليه، وردَّ عليهم افتراءهم، وفسَّر لهم صدق أعماله حتى قال أحدهم وهو مالك الأشتر النخعي: «لعله قد مكر به وبكم» (¬2). لكن لم يقف الأمر عند المناظرة، بل كان السبئية ينوون تنفيذ خطتهم على مراحل، فهم قصدوا في تلك المرحلة أن يذكروا لعثمان أخطاء له يقرُّونه بها، ويزعمون بعد ذلك للناس أنه لم يخرج عنها، وأنه لم يتب، فيحلَّ لهم بذلك دمه، فرجعوا بعد مناظرتهم لعثمان إلى أمصارهم وتواعدوا أن يعودوا إلى المدينة في شوال سنة (35هـ/655م)، أي في السنة نفسها (¬3). روى الطبري بسنده عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري قال (¬4): «... ثم رجع الوفد المصريون راضين (¬5)، فبينا هم في الطريق إذا هم براكب يتعرض لهم ثم يفارقهم، ثم يرجع إليهم ثم يفارقهم ويتبينهم (¬6)، قالوا له: ما لك، إن لك لأمرًا! ما شأنك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان عليه ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية (7/ 195)، وقال: «وهذا إسناد صحيح إليها» اهـ. (¬2) تاريخ الطبري (4/ 383). ولمعرفة هذه الافتراءات وما جاء في الرد عليها، راجع (العواصم من القواصم)، للقاضي ابن العربي وتعليق محب الدين الخطيب، ص (61 - 110)، و (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة)، لمحمد أمحزون، ص (301 - 36). (¬3) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (245) بتصرف. (¬4) تاريخ الطبري (4/ 355 - 6)، ويقول الدكتور محمد أمحزون: «وهي من أصح الروايات» [انظر السابق، ص (246)]. (¬5) كان الزاحفون على مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فريقين: رؤساء خادعين على درجات متفاوتة، ومرءوسين مخدوعين وهم الكثرة التي بُثَّت فيها دعايات مغرضة. [انظر: العواصم من القواصم، ص (125) الهامش]. (¬6) ولا يتعرض لهم ثم يفارقهم ويكرر ذلك إلا ليلفت أنظارهم إليه، ويثير شكوكهم فيه. وهذا ما أراده مستأجرو هذا الرجل لتمثيل هذا الدور، ومدبرو هذه المكيدة لتجديد الفتنة بعد أن صرفها الله وأراح المسلمين من شرورها. [انظر: العواصم من القواصم، ص (126) الهامش].

خاتمه إلى عامله بمصر أن يصلبهم أو يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، فأقبلوا حتى قدموا المدينة، فأتوا عليًّا فقالوا: ألم تر إلى عدو الله! إنه كتب فينا بكذا وكذا، وإن الله قد أحل دمه، قم معنا إليه، قال: والله لا أقوم معكم، إلى أن قالوا: فلم كتبت إلينا؟! (¬1) فقال: والله ما كتبت إليكم كتابًا قط! فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قال بعضهم لبعض ألهذا تقاتلون، أو لهذا تغضبون؟ فانطلق علي فخرج من المدينة إلى قرية، فانطلقوا حتى دخلوا على عثمان فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا، فقال: إنما هما اثنتان أن تقيموا عليَّ رجلين من المسلمين أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو (¬2) ما كتبت ولا أمللت ولا علمت، وقد تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرجل وقد ينقش الخاتم على الخاتم، فقالوا: فقد والله أحل الله دمك ونقضت العهد والميثاق، فحاصَروه». يقول محب الدين الخطيب (¬3): «وأعجب العجب أن قوافل الثوار العراقيين التي كانت متباعدة في الشرق عن قوافل الثوار المصريين في الغرب عادتا معًا إلى المدينة في آن واحد، أي أن قوافل العراقيين التي كانت بعيدة مراحل متعددة عن قوافل المصريين ولا علم لها بالرواية المسرحية التي مثلت في البويب رجعت إلى المدينة من الشرق وقت رجوع المصريين من الغرب ووصلتا إلى المدينة معًا كأنما كانوا على ميعاد! ومعنى هذا أن الذين استأجروا الراكب ليمثل دور حامل الكتاب أمام قوافل المصريين استأجروا راكبًا آخر خرج من المدينة قاصدًا قوافل العراقيين ليخبرهم بأن المصريين اكتشفوا كتابًا بعث به عثمان إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح - رضي الله عنه - عامِلَهُ في مصر فيه أمره بقتلهم» اهـ. روى الطبري (¬4): «... فافترق أهل المدينة لخروجهم، فلما بلغ القوم عساكرهم كرُّوا بهم فبغتوهم، فلم يفاجأ أهل المدينة إلا والتكبير في نواحي المدينة، فنزلوا في ¬

(¬1) الذين نظر بعضهم إلى بعض هم من الفريق المخدوع يتعجب كيف لم يكتب عليّ إليهم وقد جاءهم كتابه. [انظر السابق، ص (125) الهامش] .. (¬2) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «البينة على المُدَّعِي واليمين على المُدَّعَى عليه». [رواه الترمذي، كتاب الأحكام: 1341 وصححه الألباني]. (¬3) العواصم من القواصم، ص (127) الهامش بتصرف يسير. (¬4) تاريخ الطبري (4/ 351).

مواضع عساكرهم وأحاطوا بعثمان وقالوا: من كف يده فهو آمن، وصلى عثمان بالناس أيامًا ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحدًا من كلام، فأتاهم الناس فكلموهم وفيهم علي فقال: ما ردَّكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ قالوا: أخذنا مع بريد كتابًا بقتلنا، وأتاهم طلحة فقال البصريون مثل ذلك، وأتاهم الزبير فقال الكوفيون مثل ذلك، وقال الكوفيون والبصريون: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعًا، كأنما كانوا على ميعاد، فقال لهم علي: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا؟ هذا والله أمر أبرم بالمدينة»، فأفصحوا عن هدفهم وقالوا جهرة: «ضعوه ما شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا ونحن نعتزله» (¬1). يقول محب الدين الخطيب (¬2): «الذين شاركوا في الجناية على الإسلام يوم الدار طوائف على مراتب: فيهم الذين غلب عليهم الغلو في الدين، وفيهم الذين ينزعون إلى عصبية يمنية على شيوخ الصحابة من قريش، وفيهم الموتورون من حدود شرعية أقيمت على بعض ذويهم، وفيهم من أثقل كاهله خير عثمان ومعروفه نحوه، فكفر معروف عثمان عندما طمع منه بما لا يستحقه من الرئاسة والتقدم بسبب نشأته في أحضانه، وفيهم من أصابهم من عثمان شيء من التعزير لبوادر بدرت منهم تخالف أدب الإسلام، وفيهم المتعجلون بالرياسة قبل أن يتأهلوا لها اغترارًا بما لهم من ذكاء خلاب أو فصاحة لا تغذيها الحكمة فثاروا متعجلين بالأمر قبل إبانة (¬3)، وبالإجمال فإن الرحمة التي جبل ¬

(¬1) السابق. (¬2) العواصم من القواصم، ص (58) الهامش باختصار. (¬3) ولقد أشار الدكتور سليمان بن حمد العودة إلى بُعْدٍ آخر لا يقل أهمية عما ذكرناه آنفًا، وهو دور المرتدين في إشعال هذه الفتنة؛ فبعد أن أشار إلى اتخاذ أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لسياسة كلها حذر وحيطة من أصحاب الردة، وأنه كان لا يستعين في حربه بأحد منهم حتى مات، ثم جاء من بعده عمر - رضي الله عنه - واستعمل المرتدين ولكن لم يطمعهم في الرياسة، ثم ازدادت زاوية الانفراج في خلافة عثمان - رضي الله عنه - إذ يرى أن عامل الزمن قد عفى على تلك الحركة وأن صلاح المرتدين كاف لأن يندمجوا في المجتمع فاستعمل المرتدين استصلاحًا لهم .. يقول: «نعم إننا ونحن نسجل شهادة التاريخ لصلاح نفسيات بعض المرتدين وحسن إسلامهم فإن ذلك لا يعني أن جميع المرتدين كانوا على هذا المستوى، ومن هنا فلا بد أن نضع اندماج المرتدين في المجتمع ضمن أحد المؤشرات لتشكل هذا المجتمع وطبيعة بنيته ...».ثم يضرب لذلك عدة أمثلة، ثم يقول: «هذه لمسات موجزة عن حالة المجتمع الإسلامي قبل أحداث الفتنة علها أن تضيء لنا الطريق حتى إذا أتينا على أحداث الفتنة الكبرى كان لنا ما نتكئ عليه من رصيد الواقع، غير مغرقين في الواقع ومتجاهلين لدور عبد الله بن سبأ اليهودي في تحريك الفتنة واستغلال أجوائها، وغير متكلفين في التعليل فننسب إليه ما هو أكبر منه» اهـ[د. سليمان العودة: عبد الله بن سبأ، ص (35 - 6) باختصار].

عليها عثمان وامتلأ بها قلبه أطمعت الكثير فيه، وأرادوا أن يتخذوا من رحمته مطية لأهوائهم». ويقول الدكتور محمد أمحزون (¬1): «لقد كان مجيء عثمان مباشرة بعد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - واختلاف الطبع بينهما مؤديًا إلى تغير أسلوبهما في معاملة الرعية، فبينما كان عمر قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه ولمن تحت يده، كان عثمان ألين طبعًا وأرق في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه أو يأخذ الناس بما يأخذهم به حتى يقول نفسه: "يرحم الله عمر، ومن يطيق ما كان عمر يطيق؟! " (¬2)» اهـ. واستمر الحصار من أواخر ذي القعدة إلى الثامن عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وكان عثمان - رضي الله عنه - في أثناء الحصار في غاية الشجاعة وضبط النفس، فهو هادئ أشد ما يكون الهدوء مطمئن النفس غاية الاطمئنان رغم قسوة الظروف ورغم الحصار، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نبأه بهذا الأمر من قبل، فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: «كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له، فإذا هو أبو بكر، فبشرته بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي: افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله، ثم قال: الله المستعان» (¬3). أيضًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: «يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يومًا [أي ¬

(¬1) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (267). (¬2) تاريخ الطبري (4/ 401). (¬3) رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة: 3693

الخلافة] فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه» (¬1). وروى ابن عساكر (ت. 571هـ) في تاريخه عن نافع قال (¬2): «دخل ابن عمر على عثمان وعنده المغيرة بن الأخنس، فقال: انظر ما يقول هؤلاء، قال: يقولون: اخلعها ولا تقتل نفسك، فقال ابن عمر: إذا خلعتها أمخلَّد أنت في الدنيا؟ قال: لا، قال: فإن لم تخلعها هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال: لا، قال: فهل يملكون لك جنة ونارًا؟ قال: لا، قال: فلا أرى لك أن تخلعها، ولا أرى لك أن تخلع قميصًا قمَّصه الله، فتكون سُنَّة، كلما كره قوم إمامهم أو خليفتهم خلعوه». وروى أحمد في مسنده عن مسلم أبي سعيد مولى عثمان بن عفان أن عثمان - رضي الله عنه - أعتق عشرين مملوكًا ودعا بسراويل فشدها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام وقال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البارحة في المنام ورأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وإنهم قالوا لي: اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه فقُتِل وهو بين يديه (¬3)، وسقطت قطرة من دمه على المصحف على قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬4)، قال أحمد: «قالت عمرة: فما مات منهم رجل سويًا» اهـ (¬5). وقد يقول قائل: كيف قُتِل عثمان وبالمدينة جماعة من كبار الصحابة - رضي الله عنهم -؟؟ وقد أجاب ابن كثير رحمه الله عن هذا موضحًا ما يلي (¬6): أولًا: أن كثيرًا منهم بل أكثرهم أو كلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الأمر إلى قتله، فإن أولئك الأحزاب لم يكونوا يحاولون قتله عينًا، بل طلبوا منه أحد أمور ثلاثة: إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم (¬7)، أو يقتلوه، فكانوا يرجون أن يسلم إلى الناس ¬

(¬1) رواه ابن ماجه، كتاب المقدمة: 112، وصححه الألباني. (¬2) ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق (39/ 356)، ترجمة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. (¬3) المسند (1/ 72)، وفي إسناده ضعف. (¬4) البقرة: 137 (¬5) رواه أحمد في (الزهد): 678 (¬6) ابن كثير: البداية والنهاية (7/ 197 - 8). (¬7) مروان بن الحكم (ت. 65هـ) من خلفاء بني أمية ولد بعد الهجرة بسنتين ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال عروة بن الزبير: «كان مروان لا يتهم في الحديث». [انظر، ابن حجر: تهذيب التهذيب (10/ 92)]. ولقد زعم الثوار أن مروان زور على عثمان كتابه إلى مصر، وأرادوا أن يسلمه إليهم ليعاقبوه. [انظر: البداية والنهاية (7/ 180)].

بيعة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -

مروان أو أن يعزل نفسه ويستريح من هذه الضائقة الشديدة، وأما القتل، فما كان يظن أحد أنه يقع ولا أن هؤلاء يجترءون عليه إلى ما هذا حده حتى وقع ما وقع. الثاني: أن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة ولكن لما وقع التضييق الشديد عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم، ففعلوا فتمكن أولئك مما أرادوا، ومع هذا ما ظن أحد من الناس أنه يقتل بالكلية. الثالث: أن هؤلاء الخوارج لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام الحج ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة بل لما اقترب مجيئهم انتهزوا فرصتهم قبحهم الله وصنعوا ما صنعوا من الأمر العظيم. الرابع: أن هؤلاء الخوارج كانوا قريبًا من ألفي مقاتل من الأبطال وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة لأن الناس كانوا في الثغور وفي الأقاليم في كل جهة. الخامس: أن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار يحاجفون عن عثمان - رضي الله عنه - لكي تقدم الجيوش من الأمصار لنصرته، فما فجئ الناس إلا وقد ظفر أولئك بالدار من خارجها وأحرقوا بابها وتسوروا عليه حتى قتلوه. قال القاضي ابن العربي (468 - 543هـ) (¬1): «وأمر عثمان كله كان سُنَّة ماضية، وسيرة راضية، فإنه تحقق أنه مقتول بخبر الصادق له بذلك، وأنه بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه شهيد» اهـ. ... بيعة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: في تلك الظروف الدقيقة التي مرَّت بها الدولة الإسلامية إثر مقتل عثمان - رضي الله عنه - كان المسلمون في حاجة ماسة إلى خليفة يملأ الفراغ السياسي، فوقع الاختيار على عليٍّ - رضي الله عنه -، وكانت بيعته بيعة شرعية لا يسع أحدًا من المسلمين نكثُها، قال شيخ الإسلام ¬

(¬1) ابن العربي: العواصم من القواصم، ص (138).

ابن تيمية (¬1): «المنصوص عن أحمد تبديع كل من توقف في خلافة علي، وقال: هو أضل من حمار أهله، وأمر بهجرانه، ونهى عن مناكحته، ولم يتردد أحمد ولا أحد من أئمة السنة في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه، ولا شكُّوا في ذلك» اهـ. ولا يدور الإشكال هنا حول استحقاق علي - رضي الله عنه - الخلافة، فكلام شيخ الإسلام رحمه الله قد أغلق الباب في المسألة، ولو أن أحدًا طعن في ذلك لما صح انتسابه إلى السنة والجماعة. لكن الإشكال الذي نواجهه يدور حول سلوك بعض الباحثين من أهل السنة المسلك الرافضي الذي يخلط بين بيعة علي - رضي الله عنه - وبين قتال الفتنة الذي كان الخلاف حوله اجتهاديًا مصلحيًا تضاربت فيه الآراء بين الصحابة، وكان الإمساك عنه أولى وأحوط، وحقيقة أفجعني ما صرح به أحد المنتسبين إلى التيار الإسلامي إلى إحدى الصحف حيث قال (¬2): «ومن المستقر أيضًا في الفكر الذي ربيت عليه أن عليًّا كرَّم الله وجهه (¬3) كان أصلح وأتقى من معاوية الذي اغتصب الخلافة، ثم حوَّل المسلمين إلى أدوات له ثم ملَّكهم لذريته الفاسدة وهذا تاريخ ثابت ..». وقبل ذلك بنحو ثلاث سنوات حرر أحد الصحافيين الأقزام ملفًا خاصًا بعنوان: (من عائشة أم المؤمنين إلى عثمان ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 438). (¬2) انظر، جريدة (المصري اليوم)، عدد السبت 11/ 4/2009م، والكلام للأستاذ يوسف ندا. (¬3) يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: «وقد غلب هذا في عبارة كثير من النُّسَّاخ للكتب، أن يفرد علي - رضي الله عنه -، بأن يقال: - عليه السلام -، أو: كرَّم الله وجهه، وهذا وإن كان معناه صحيحًا، لكن ينبغي أن يُسَاوى بين الصحابة في ذلك؛ فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان بن عفان أولى بذلك منه، رضي الله عنهم أجمعين» ـ[تفسير ابن كثير (6/ 478 - 9)]، وقد علَّق الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله على هذا بقوله: «وقد ساقه السَّفاريني [ت. 1188هـ، يقصد قول ابن كثير المتقدِّم] في (غذاء الألباب) [1/ 25] ثم قال: "قد ذاع ذلك وشاع، وملأ الطروس والأسماع. قال الأشياخ: وإنما خُصَّ علي - رضي الله عنه - بقول: كرَّم الله وجهه؛ لأنه ما سجد إلى صنم قَط، وهذا إن شاء الله لا بأس به، والله الموفق"اهـ. قلت: أما وقد اتخذَته الرافضة أعداء علي - رضي الله عنه - والعترة الطاهرة فلا؛ منعًا لمجاراة أهل البدع، والله أعلم. ولهم في ذلك تعليلات لا يصح منها شيء ومنها: لأنه لم يطَّلع على عورة أحد أصلًا، ومنها: لأنه لم يسجد لصنم قَط .. وهذا يشاركه فيه من وُلِدَ في الإسلام من الصحابة - رضي الله عنهم -، علمًا أن القول بأي تعليل لابد له من ذكر طريق الإثبات ... وفي سياق بعض الأحاديث تجد قولهم: "كرَّم الله وجهه" عند ذكر علي - رضي الله عنه -، ولا نعرف هذا في شيء من المرفوع، ولا أنه من قول ذلك الصحابي، ولعله من النسَّاخ. والأمر يحتاج إلى الوقوف على النُسَخ الخَطِّية الأولى» اهـ[د. بكر أبو زيد: معجم المناهي اللفظية، ص (454 - 5) باختصار].

وهذه المسائل الأربعة هي

الخليفة الراشد، وحتى الأب الرئيس والابن الوريث، أسوأ عشرة شخصيات في الإسلام)!! نشرته جريدة (الغد) المصرية في ملحق خاص مجاني مكون من ثماني صفحات (¬1)، واستند الكاتب في تحريره إلى ركام من الكذب والأغاليط التي شحنت بها الكتب والأسفار دون أي تمحيص أو تدقيق منه، ولكن وفق المنهج الانتقائي المعهود بمن هم على شاكلته. لذا رأيت أن نتوقف قليلًا لتأصيل أربع مسائل، وذلك معذرةً إلى ربي، ودفاعًا عن أُمِّي وصحابة رسولي - صلى الله عليه وسلم -، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله .. وهذه المسائل الأربعة هي: - أولًا: تدوين التاريخ. - ثانيًا: عدالة الصحابة. - ثالثًا: حقيقة الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. - رابعًا: موقف أهل السنة والجماعة من الفتنة. أولًا: تدوين التاريخ: إن الأمر الذي لا بد أن يعيه الباحثون في التاريخ الإسلامي أن الحقائق التاريخية الناصعة فيه ينبغي استخراجها من الأنقاض، أنقاض الأوهام والمفتريات وأنقاض الأهواء والبدع والعصبيات والمذهبيات وما يتعلق بها، مما افتراه المفترون ووضعه الوضاعون من بين رواة الأخبار. وإذا أخذنا الحديث النبوي وما لحقه من وضع وتحريف، فإن الذين تورطوا في ذلك ليسوا قِلَّة حتى احتاجوا من جهابذة العلماء إلى تصانيف خاصة بهم كالمجروحين والمتروكين والضعفاء. على أن غالبية النصوص والروايات التاريخية إنما دونت بعد نشأة الفرق المتمذهبة، وظهور أصحاب الأهواء والبدع والزنادقة. ومعلوم أن من أسباب الكذب حرص أصحاب البدع والأهواء على دعوة الناس إلى بدعهم، ودعوة الفرق ذات الآراء السياسية إلى آرائها. ¬

(¬1) وذلك في عددها رقم (81) الصادر يوم الأربعاء 11 رمضان 1427هـ/4 أكتوبر 2006م.

لقد أثار انتشار الإسلام وامتداد الفتوح الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة شرقًا وغربًا حفيظة أعداء الإسلام، وراموا كيده والنيل من المسلمين، وكانت وسيلتهم في البداية مجابهة المسلمين في ميادين القتال، ولكن جهودهم باءت بالفشل حيث توالت عليهم الضربات في مواقع: القادسية ونهاوند وتُستَر ... إلخ، فرأوا أن كيد الإسلام بالحيلة والوقيعة أنجع، فأخذوا يحيكون مخططاتهم في الخفاء لهدم الإسلام وتفتيت وحدة المسلمين. ومن ضمن خططهم تزييف الأخبار وترويج الشائعات الكاذبة التي استهدفت النيل من الإسلام بتشويه سيرة الصحابة - رضي الله عنهم - إذ إن التشكيك في ثقتهم وعدالتهم هو تشكيك بالتالي في صحة الإسلام وعدم صلاحيته (¬1). غير ذلك فإن القدح في أهل خير القرون الذين صحبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو بمثابة القدح فيه - صلى الله عليه وسلم -، قال الإمام مالك (93 - 179هـ) وغيره من أئمة العلم: «هؤلاء - يعني الرافضة ومن على شاكلتهم من الزنادقة - طعنوا في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلًا صالحًا لكان أصحابه صالحين» (¬2). وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الكذب له أسباب تقتضيه منها (¬3): - الزندقة والإلحاد في دين الله. - نصرة المذاهب والأهواء. - الترغيب والترهيب لمن يظن جواز ذلك. - الأغراض الدنيوية لجمع الحطام. - حب الرياسة بالحديث الغريب. ويعرض ابن خلدون للدوافع والأسباب التي تقود إلى الوضع والكذب في الأخبار فيذكر منها (¬4): ¬

(¬1) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (38 - 9). (¬2) انظر، ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 429). (¬3) السابق (18/ 46). (¬4) مقدمة ابن خلدون، ص (46 - 7) بتصرف.

- التشيعات للآراء والمذاهب. - الثقة بالناقلين: ويرجع هذا إلى عدم التثبت من هوية الرواة ونقلة الأخبار والثقة العمياء بما يروونه. - الذهول عن المقاصد: ويرجع هذا إلى عدم معرفة الناقل بمقاصد ما سمع أو نقل، وتوهمه الصدق فيما نقله. - الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع: لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع، فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتصنع على غير حق في نفسه. - تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التَّجِلَّة والمراتب: وهذا يعني محاولة بعض المتملقين التقرب لأصحاب السلطة والنفوذ والجاه بأن يضعوا أحاديث تقربهم من الحكام والأكابر مما يؤدي بهم إلى إشاعة أخبار كاذبة لنيل رضاهم. - جهل المؤرخين بطبائع العمران: فابن خلدون يرى أن لكل ظاهرة في الوجود سواء كانت طبيعية أو اجتماعية قوانين تحكمها. والمقصود بالظواهر الطبيعية: ظواهر علم الفلك والطبيعة وما له علاقة بسنن الحياة بالنسبة للإنسان والحيوان والنبات. يقول محب الدين الخطيب (¬1): «إن التاريخ الإسلامي لم يبدأ تدوينه إلا بعد زوال بنى أمية وقيام دول لا يسُر رجالها التحدث بمفاخر ذلك الماضي ومحاسن أهله. فتولى تدوين تاريخ الإسلام ثلاث طوائف: - طائفة كانت تنشد العيش والجدة من التقرب إلى مبغضي بني أمية بما تكتبه وتؤلفه. - وطائفة ظنت أن التدوين لا يتم، ولا يكون التقرب إلى الله، إلا بتشويه سمعة أبي بكر وعمر وعثمان وبنى عبد شمس جميعًا - رضي الله عنهم -. - وطائفة ثالثة من أهل الإنصاف والدين، كالطبري وابن عساكر وابن الأثير وابن كثير .. رأت أن من الإنصاف أن تجمع أخبار الإخباريين من كل المذاهب والمشارب كأبي مخنف لوط بن يحيى وهشام الكلبي والواقدي وسيف بن عمر العراقي .. ولعل بعضهم اضطر إلى ذلك إرضاء لجهات كان يشعر بقوتها ومكانتها». ¬

(¬1) العواصم من القواصم، ص (177) الهامش بتصرف.

ويعقب الدكتور محمد أمحزون فيقول (¬1): «وقد أثبت هؤلاء أسماء رواة الأخبار التي أوردوها ليكون الباحث على بصيرة من كل خبر بالبحث عن حال رواته. وقد وصلت إلينا هذه التركة لا على أنها هي تاريخنا، بل على أنها مادة غزيرة للدرس والبحث يستخرج منها تاريخنا. وهذا ممكن ميسور إذا تولاه من يلاحظ مواطن القوة والضعف في هذه المصادر وفق المقاييس الشرعية، فيستخلص بذلك حقيقة ما وقع، ويجردها عن الذي لم يقع، مكتفيًا بأصول الأخبار الصحيحة مجردة عن التحريفات الطارئة عليها، وإن الرجوع إلى كتب الحديث وملاحظات الأئمة والعلماء مما يسهل هذه المهمة» اهـ. ولقد أفاد الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله (1333 - 1420هـ/1914 - 1999م) في مقدمة تحقيقه لكتاب (اقتضاء العلم العمل) للخطيب البغدادي (392 - 462هـ) (¬2) بقوله: «قد يقول قائل: إذا كان المؤلف [يعني الخطيب] بتلك المنزلة العالية في المعرفة بصحيح الحديث ومطروحه، فما لنا نرى كتابه هذا وغيره من كتبه قد شحنها بالأحاديث الواهية؟ والجواب: أن القاعدة عند علماء الحديث أن المحدث إذا ساق الحديث بسنده، فقد برئت عهدته منه، ولا مسئولية عليه في روايته مادام أنه قد قرن معه الوسيلة التي تُمَكِّن العالِم من معرفة ما إذا كان الحديث صحيحًا أو غير صحيح، ألا وهي الإسناد: (من أسند فقد أحالك). نعم، كان الأولى بهم أن يُتبِعوا كل حديث ببيان درجته من الصحة أو الضعف، ولكن الواقع يشهد أن ذلك غير ممكن بالنسبة لكل واحد منهم، وفي جميع أحاديثه على كثرتها لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن، ولكن أذكر منها أهمها، وهي أن كثيرًا من الأحاديث لا تظهر صحتها أو ضعفها إلا بجمع الطرق والأسانيد، فإن ذلك مما يساعد على معرفة علل الحديث، وما يصح من أحاديث لغيره، ولو أن المحدثين كلهم انصرفوا إلى التحقيق وتمييز الصحيح من الضعيف لما استطاعوا - والله أعلم - أن يحفظوا لنا هذه الثروة الضخمة من الأحاديث والأسانيد، ولذلك انصبَّت همم جمهورهم على مجرد ¬

(¬1) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (47). (¬2) انظر مقدمة الألباني رحمه الله، ص (5 - 6)، تحت عنوان: فائدة.

ثانيا: عدالة الصحابة

الرواية إلا فيما شاء الله، وانصرف سائرهم إلى النقد والتحقيق مع الحفظ والرواية، وقليل ما هم، {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (¬1)» اهـ. ولقد دلنا على ذلك ما قاله الإمام الطبري رحمه الله في مقدمة تاريخه، قال (¬2): «وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رُويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها. فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا من الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قِبَلنا، وإنما أتى من قِبَل ناقليه إلينا، وإنَّا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدِّي إلينا» اهـ. ... ثانيًا: عدالة الصحابة: تعريف الصحابي: الصحبة لغة: يتحقق مدلولها في شخصين بينهما ملابسة ما، كثيرة أو قليلة، حقيقية أو مجازًا، قال تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} (¬3)، وجاء في لسان العرب (¬4): «صاحبه أي عاشره ورافقه ولازمه». الصحبة اصطلاحًا: قال ابن حجر (¬5): «وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به، ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن لم يره لعارض كالعمى، ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافرًا ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى، وقولنا (به) يخرج من لقيه مؤمنًا بغيره، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة، وهل يدخل من لقيه منهم وآمن بأنه سيبعث أو لا يدخل؟ محل احتمال، ومن هؤلاء بحيرا الراهب ونظراؤه. ويدخل فى ¬

(¬1) البقرة: 148 (¬2) تاريخ الطبري (1/ 8). (¬3) الكهف: 34 (¬4) ابن منظور: لسان العرب (1/ 519)، مادة: (ص ح ب). (¬5) ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 19 - 20).

طبقات الصحابة

قولنا (مؤمنًا به) كل مكلف من الجن والإنس، وخرج بقولنا (ومات على الإسلام) من لقيه مؤمنًا به ثم ارتد ومات على ردته - والعياذ بالله - ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت، سواء اجتمع به مرة أخرى أم لا، وهذا هو الصحيح المعتمد» اهـ. وقد انتهى معاصرو النبي - صلى الله عليه وسلم - بمضي مائة وعشر سنين من هجرته - صلى الله عليه وسلم -، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام، فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد» (¬1)، وكان ذلك في سنة 10هـ (¬2). طبقات الصحابة: الطبقة الأولى: قوم أسلموا بمكة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم. الطبقة الثانية: أصحاب دار الندوة، وذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما أسلم وأظهر إسلامه، حمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دار الندوة، فبايعه جماعة من أهل مكة. الطبقة الثالثة: المهاجرة إلى الحبشة. الطبقة الرابعة: الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند العقبة يقال فلان عَقَبيّ. الطبقة الخامسة: أصحاب العقبة الثانية، وأكثرهم من الأنصار. الطبقة السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقُباء، قبل أن يدخلوا المدينة ويبني المسجد. الطبقة السابعة: أهل بدر الذين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم: «وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (¬3). الطبقة الثامنة: المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية. ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة: 564 (¬2) انظر، ابن حجر: فتح الباري (2/ 75). (¬3) رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 2494

عدالة الصحابة

الطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله تعالى فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬1). الطبقة العاشرة: المهاجرة إلى الحديبية والفتح، منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبو هريرة وغيرهم - رضي الله عنهم -. الطبقة الحادية عشرة: فهم الذين أسلموا يوم الفتح، وهم جماعة من قريش. الطبقة الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرها وعدادهم في الصحابة، منهم السائب بن يزيد، وعبد الله بن ثعلبة بن أبي صغير ومنهم أبو الطفيل عامر بن واثلة [آخر الصحابة موتًا، ت. 110هـ (¬2)]، وأبو جُحيفة وهب بن عبد الله (¬3). عدالة الصحابة: العدل لغة: قال ابن منظور (¬4): «هو الذي لا يميل به الهوى في الحكم»، وقال الزبيدي (1145 - 1205هـ) (¬5): «والعدل من الناس المرضي قوله وحكمه، وقال الباهلي: رجل عدل رضي ومقنع في الشهادة». العدل في اصطلاح المحدثين: قال ابن الصلاح (577 - 643هـ) (¬6): «أن يكون الراوي مسلمًا بالغًا عاقلًا سالمًا من أسباب الفسق وخوارم المروءة» اهـ. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُدعَى نوحٌ يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمته: هل بلَّغَكُم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتشهدون أنه قد بلَّغ ويكون الرسول عليكم شهيدًا، فذلك قول الله جل ذكره: {وَكَذَلِكَ ¬

(¬1) الفتح: 18 (¬2) انظر، ابن حجر: فتح الباري (2/ 75)، وأحمد شاكر: الباعث الحثيث، ص (156). (¬3) ابن حجر: الإصابة (1/ 4 - 5) بتصرف يسير. (¬4) ابن منظور: لسان العرب (11/ 430)، مادة: (ع د ل). (¬5) المرتضى الزبيدي: تاج العروس (15/ 471)، مادة: (ع د ل). (¬6) مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، ص (66).

جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬1) والوسط: العدل» (¬2). يقول الإمام القرطبي (ت. 671هـ) (¬3): «الصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله، وهذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم، إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم فيلزم البحث عن عدالتهم، وهذا مردود، فإن خيار الصحابة كعلي وطلحة والزبير وغيرهم - رضي الله عنهم - ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى: {مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬4)، وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك، وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب». ويقول الحافظ ابن حجر (¬5): «اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة. وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلًا نفيسًا في ذلك فقال: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم، فمن ذلك قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬6)، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬7)، وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} (¬8)، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ ¬

(¬1) البقرة: 143 (¬2) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن: 4487 (¬3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (19/ 350 - 1). (¬4) الفتح: 29 (¬5) ابن حجر: الإصابة (1/ 22). (¬6) آل عمران: 110 (¬7) البقرة: 143 (¬8) الفتح: 18، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل النار أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة» [رواه الترمذي، كتاب المناقب: 3860، وصححه الألباني]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر»، وكان هذا من المنافقين الذين خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمه الجد بن قيس، يقول جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: «فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: والله! لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم. قال وكان الرجل ينشد ضالة له» [رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: 2780].

عقيدتنا في الصحابة

وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬1)، في آيات يطول ذكرها، وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها، وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق». بل يقول الدكتور عثمان الخميس (¬2): «ومن الأمور التي تدل على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - بشكل مجمل وعام، ما قام به أهل العلم من تمحيص الروايات التي رواها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فما وجدوا صحابيًا كذب كذبة واحدة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل مع انتشار البدع في آخر عهد الصحابة - رضي الله عنهم - كبدعة القدرية والشيعة والخوارج لم يكن صحابيٌّ واحد من أولئك القوم أبدًا، وهذا دليل على أن الله اصطفاهم واختارهم لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -» اهـ. أيضًا فلا بد من الانتباه إلى أنه لا يلزم من العدالة العصمة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «كل ابن آدم خطَّاء» (¬3)، وأخطاء الصحابة - رضي الله عنهم - مغمورة في بحور حسناتهم، وكانت قائمة على اجتهاد وتأويل، لم يقصدوا معصية ولا محض دنيا، وهؤلاء يصح القول في حقهم: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث». وأما القول بأنه يلزم من العدالة أن يتساووا في المنزلة فهذا أيضًا غير صحيح ولا يلزم، قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (¬4)، وإذا كان الأنبياء لا يتساوون في الفضل كما قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} (¬5)، فالصحابة - رضي الله عنهم - كذلك (¬6). عقيدتنا في الصحابة: يقول الإمام الطحاوي - رحمه الله - في عقيدته (¬7): «ونحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نفرط ¬

(¬1) التوبة: 100 (¬2) عثمان الخميس: حقبة من التاريخ، ص (160). (¬3) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة: 2499، وحسنه الألباني. (¬4) الحديد: 10 (¬5) البقرة: 253 (¬6) عثمان الخميس: حقبة من التاريخ، ص (162) بتصرف. (¬7) العقيدة الطحاوية، ص (27 - 8).

حكم سب الصحابة

فى حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان» اهـ. حكم سب الصحابة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» (¬2). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3): «قال القاضى أبو يعلى: الذي عليه الفقهاء فى سب الصحابة: إن كان مستحلًا لذلك كفر، وإن لم يكن مستحلًا فسق ولم يكفر، سواء كفرهم أو طعن فى دينهم مع إسلامهم. وقال مالك: من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - قُتِل، ومن سب أصحابه أُدِّب. وقال أبو طالبٍ: سألت أحمد عمن شتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: القتل أَجْبُن عنه، ولكن أضربه ضربًا نكالًا، وقال عبد الله: سأَلت أبي [أي أحمد] عمن شتم رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أرى أن يُضرب، قلت له: حدٌّ؟ فلم يقف على الحد، إلا أنه قال: يُضرَب، وقال: ما أراه على الإسلام، وقال الميموني: سمعت أحمد يقول: ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية، وقال لي: يا أبا الحسن، إذا رأيت أحدًا يذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوءٍ فاتهمه على الإسلام، وقال الحارث بن عتبة: إن عمر بن عبد العزيز أتى برجل سب عثمان فقال: ما حملك على أن سببته قال: أبغضه. قال: وإن أبغضت رجلًا سببته؟ قال: فأمر به فجلد ثلاثين سوطًا» اهـ. ويقول الدكتور محمد أمحزون (¬4): «وأما الخوض في السب باسم النقد العلمي أو حرية البحث في تاريخ صدر الإسلام فلم يخرج قِيد أُنْمُلَة عن السب القديم، وكل ما ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة: 3673. (¬2) رواه مسلم، كتاب الإيمان: 75 (¬3) ابن تيمية: الصارم المسلول، ص (444 - 5) باختصار. (¬4) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (105).

ثالثا: حقيقة الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما

فعله الطاعنون الجدد أنهم أحيوا هذا السب الذي أماته أهل السنة لما كانت الدولة دولتهم والسلطان سلطانهم، وكان أهل الزندقة والبدع مقموعين. وهذا السب إنما أحيي حديثًا على يد طوائف الكفار الحاقدين على الإسلام، ومن قلَّدهم من أبناء هذه الأمة إما جهلًا وإما افتتانًا بالغرب ومناهجه، الواقعون في حرمات الله باسم حرية الرأي والبحث العلمي، ناسين أو متناسين أن للمنهج العلمي في الإسلام وتاريخه قواعد وأصولًا وضوابط شرعية يجب على الباحث أن يلتزم بها، ويكون بحثه واجتهاده في نطاقها حتى لا تجيء نتائج أبحاثه ودراساته مناقضة للواقع وللقواعد الشرعية والأحكام الإسلامية». ولله در الإمام أبي زرعة الرازي (ت. 264هـ) إذ يقول: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهم يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة» اهـ (¬1). ... ثالثًا: حقيقة الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما: بداءة نقول: يلزم دارس التاريخ أن يدرس الظروف التي وقعت فيها أحداثه، والحالة النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي اكتنفت تلك الأحداث، والأحداث التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ قبل أن يحكم عليها، حتى يكون حكمه أقرب إلى الصواب. ونكتفي هنا بمثال واحد لبيان الطريقة المثالية في معالجة القضايا والأخطاء، ألا وهو موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - من صنيع حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - حين أرسل كتابًا مع امرأة من المشركين ليخبرهم بمسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة. ومن هذه الحادثة نستطيع أن نحدد ثلاث مراحل للمعالجة العادلة للخطأ أو الحادث: - المرحلة الأولى: مرحلة التثبت من وقوع الخطأ أو وقوع الحادث، وفي هذا الحادث تم التثبت عن طريق أوثق المصادر ألا وهو الوحي. ¬

(¬1) انظر، ابن حجر: الإصابة (1/ 22).

- المرحلة الثانية: مرحلة التثبت وتبين الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ، وهذا الأمر متمثل في قوله - صلى الله عليه وسلم - لحاطب: «ما حملك على ما صنعت؟» (¬1)، وهذه المرحلة مهمة، لأنه إذا تبين بعد طرح هذا السؤال أن هناك عذرًا شرعيًا في ارتكاب الخطأ تنتهي القضية عند هذا الحد، فإذا لم يكن العذر مقنعًا من الناحية الشرعية فإنه يصار إلى: - المرحلة الثالثة: وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيِّرة لمرتكب الخطأ، وحشدها إلى جانب خطئه، فقد ينغمر هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته. وهذا الذي سلكه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع حاطب - رضي الله عنه - حيث قال لعمر عندما استأذن في قتل حاطب: «أليس من أهل بدر؟»، ثم قال: «لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم» (¬2). ولذا، ينبغي أن نعلم أن تلك الأحداث الواقعة في صدر الإسلام لا يبررها غير ظروفها التي وقعت فيها، فلا تحكم عليها بالعقلية أو الظروف التي نعيش فيها نحن أو بأية ظروف يعيش فيها غير أصحاب تلك الأحداث، لأن الحكم حينئذ لن يستند إلى مبررات موضوعية، وبالتالي تكون نظرة الحاكم إلى هذه الوقائع لم تستكمل وسائل الحكم الصحيح، فيصدر الحكم غير مطابق للواقع (¬3). ولو تأملنا حادثة مقتل عثمان - رضي الله عنه - لوجدنا أن قتل الخليفة لم يكن هو الغاية التي يقصدها من خطط لهذا الحصار، وإلا لو كان كذلك لهان الأمر، وسكنت الفتنة، واستبدل خليفة بخليفة وعادت الأمور إلى نصابها، ولكن بعض رواد الفتنة كانت لهم غاية أبعد أثرًا وأعمق غورًا من قتل الخليفة واستبدال آخر به، إن غايتهم هي هدم حقيقة الإسلام والنيل من عقيدته وتشويه مبادئه في شخص الخليفة المقتول، وإثارة الأحقاد والخلافات بين المسلمين (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب المغازي: 3983 (¬2) السابق، وعند الترمذي عن جابر - رضي الله عنه - أن عبدًا لحاطب جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكو حاطبًا، فقال: «يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كذبت، لا يدخلها، فإنه قد شهد بدرًا والحديبية». [الترمذي، كتاب المناقب: 3864 وصححه الألباني]. (¬3) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (23 - 4) بتصرف. (¬4) السابق، ص (351) بتصرف.

لقد كان مقتل عثمان سببًا مباشرًا في خلق أزمة أخرى، أو بالأحرى فتنة ثانية تضاربت فيها الآراء وتباينت فيها وجهات النظر، واختلفت الاجتهادات في الوسيلة للانتقام من الخوارج الذين قتلوا عثمان - رضي الله عنه -. فرأت طائفة من الصحابة أن أول واجب على الأمة هو الثأر لخليفتها الشهيد والقصاص من القتلة الآثمين، ورأى آخرون أن أول ما ينبغي هو اجتماع الكلمة واستتباب الأمن، والصبر حتى تهدأ الأحوال وتنكشف ذيول المؤامرة، ثم يكون استئصال شأفتها وقطع دابر دواعيها. ورأت طائفة ثالثة أن الخليفة المظلوم لم يحتمل ذلك الحصار الآثم، ويمنع أتباعه المؤمنين من ذلك إلا حرصًا على ألا تراق قطرة دم أو تثور أدنى فتنة بين أمة الإسلام، فالأولى بمن بعده أن يؤثروا العافية، وألا يكونوا طرفًا في أي نزاع، خاصة وأن الأحاديث الواردة في هذا الباب تنهى عن القتال في الفتنة (¬1). والطائفة الأولى: كانت طائفة معاوية وطلحة والزبير وعائشة ومن كان على رأيهم، فكان معاوية - رضي الله عنه - يرى وجوب التعجيل بقتل قتلة عثمان - رضي الله عنه -، وذلك لأن معاوية وعثمان رضي الله عنهما أبناء عمومة. ولم يكن معاوية مدعيًا الخلافة ولا منكرًا حق علي - رضي الله عنه - فيها، وإنما كان ممتنعًا عن بيعته وعن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلبًا عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون، مستفيدًا من طاعة الناس له بعد أن بقي واليًا فيها زهاء عشرين سنة (¬2)، قال ابن كثير (¬3): «قال معاوية: لا أبايعه [أي عليًّا] حتى يسلمني قتلة عثمان فإنه قتل مظلومًا، وقد قال الله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (¬4)»، وروى الدِّينَوَري (ت. 282هـ) في أخباره الطوال أن معاوية كتب إلى علي رضي الله عنهما عندما طلب منه الدخول في البيعة قائلًا: «فإن كنت صادقًا فأمكِنَّا من قتلة عثمان ¬

(¬1) السابق، ص (451). (¬2) السابق، ص (524) بتصرف. (¬3) ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 21). (¬4) الإسراء: 33

نقتلهم به، ونحن أسرع الناس إليك» (¬1)، وقال ابن حزم (¬2): «لم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان - رضي الله عنه - على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه عن ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك، كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول وقال له: كبِّر كبِّر (¬3)، وروى: الكِبَر الكِبَر، فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة ابنا مسعود وهما ابنا عم المقتول، لأنهما كانا أسن من أخيه، فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه، وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط، فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما حُرِم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لهم أجرًا واحدًا وللمصيب أجرين» اهـ. أما عن طلحة والزبير وعائشة - رضي الله عنهم -، فهم أيضًا لم ينازعوا عليًا الخلافة أو يطعنوا في إمامته، وإنما خرجوا مطالبين بدم عثمان يريدون الإسراع في تنفيذ حد القصاص على قتلته، ولقد روى الإمام الطبري بسند صحيح عن الأحنف بن قيس قال (¬4): «خرجنا حجاجًا فقدمنا المدينة، فبينا نحن في منازلنا نضع رحالنا إذ أتانا آت فقال: إن الناس قد فزعوا واجتمعوا في المسجد، فانطلقنا إلى المسجد، - فذكر الحديث في مناشدة عثمان الصحابة، وإقرارهم بمناقبه -، قال الأحنف بن قيس: فلقيت طلحة والزبير فقلت: لا أرى هذا الرجل إلا مقتولًا، فمن تأمراني أن أبايع؟ فقالا: عليًا، فقلت: أتأمراني بذلك وترضيانه لي؟ فقالا: نعم. فخرجت حتى قدمت مكة، فأنا كذلك إذ قيل: قُتِلَ عثمان بن عفان، وبها عائشة أم المؤمنين فأتيتها فقلت لها: أنشدك الله، من تأمريني أن أبايع؟ فقالت عليًا، فقلت: أتأمريني بذلك وترضينه لي؟ قالت نعم. فخرجت، فقدمت على ¬

(¬1) أبو حنيفة الدينوري: الأخبار الطوال، ص (162). (¬2) ابن حزم: الفِصَل (4/ 124). (¬3) أي اترك الأمر لمن هو أكبر منك سنًا .. (¬4) تاريخ الطبري (4/ 497 - 8).

عليٍّ بالمدينة فبايعت ثم رجعت إلى أهل البصرة، ولا أرى إلا الأمر قد استقام، فبينا نحن كذلك إذ أتاني آتٍ فقال: هذه عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير قد نزلوا الخريبة (¬1)، فقلت: فما جاء بهم؟ قال: أرسلوا إليك يستنصرون على دم عثمان قتل مظلومًا». ولما قدمت عائشة رضي الله عنها البصرة، وبلغ عثمان بن حُنَيف - رضي الله عنه - وهو والي البصرة من قِبَل عليٍّ خبر قدومها، أرسل إليها يستفسرها عن سبب خروجها، فكان جوابها: «إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله، مع ما نالوه من قتل أمير المسلمين بلا ترة ولا عذر، فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلُّوا البلد الحرام والشهر الحرام ... فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم، وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا، وقرأت {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (¬2)، ننهض في الإصلاح ممن أمر الله - عز وجل - وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - الصغير والكبير والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ونحضكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم على تغييره» (¬3). ولما أرسل عليٌّ القعقاع بن عمرو للإصلاح مع أصحاب الجمل قال لطلحة والزبير: «إني سألت أم المؤمنين ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان، قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ قالا: قتلة عثمان - رضي الله عنه -، فإن هذا إن ترك كان تركًا للقرآن وإن عمل له كان إحياءً للقرآن» (¬4). وعندما سُئِلَ الزبير عن سبب خروجهم إلى البصرة قال: «ننهض الناس فيدرك بهذا الدم لئلا يبطل، فإن في إبطاله توهين سلطان الله بيننا أبدًا، إذ لم يفطم الناس عن أمثاله ¬

(¬1) موضع بالبصرة. (¬2) النساء: 114 (¬3) تاريخ الطبري (4/ 462). (¬4) السابق (4/ 488).

لم يبق إمام إلا قتله هذا الضرب» اهـ (¬1). والطائفة الثانية: وهم علي - رضي الله عنه - وشيعته، فكانوا يرون تأخير تتبع قتلة عثمان بعد حسم أمر الخلافة والتملك من زمام الأمور، حيث إن قتلة عثمان لهم قبائل تدافع عنهم، والأمن غير مستتب، ومازالت الفتنة قائمة (¬2). يروي لنا الطبري رحمه الله (¬3): «اجتمع الناس إلى عليٍّ بعد ما دخل بيته طلحة والزبير في عدة من الصحابة فقالوا: يا علي! إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم [إشارة إلى السبئية وأنصارهم من الأعراب والعبيد] قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلُّوا بأنفسهم، فقال علي: يا إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم! ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعًا لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا. قال: فلا والله لا أرى إلا رأيًا ترونه إن شاء الله. إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة، وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض من أخذ بها أبدا. إن الناس من هذا الأمر [أي من القصاص من قتلة عثمان] إن حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا، حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق فاهدءوا عني ماذا يأتيكم ثم عودوا». فلا ريب أن عليًا - رضي الله عنه - كان ينتظر حتى يستتب له الأمر، ثم ينظر في شأن قتلة عثمان، فحين طالب الزبير وطلحة ومن معهم بإقامة حد القصاص عليهم اعتذر لهم بأنهم كثير، وأنهم قوة لا يستهان بها، وطلب منهم أن يصبروا حتى تستقر الأوضاع وتهدأ الأمور، فتؤخذ الحقوق. ومعلوم قطعًا أن عليًا - رضي الله عنه - كان في موقفه أسَدَّ رأيًا وأصوب قيلًا، لأنه لو أسرع إلى ¬

(¬1) السابق (4/ 461). (¬2) ولذلك لما وصلت الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، لم يقتل كل قتلة عثمان أيضًا، لماذا؟ لأنه صار يرى ما كان يراه علي - رضي الله عنه -. وقُتِلَ آخرهم في زمان الحجاج في خلافة عبد الملك بن مروان. [انظر، ابن العربي: العواصم من القواصم، ص (168)]. (¬3) تاريخ الطبري (4/ 437).

تنفيذ القصاص في قتلة عثمان لتعصبت لهم قبائل وصارت حربًا أهلية، وقد حدث هذا عندما تعاطى طلحة والزبير القود من قتلة عثمان بالبصرة، فغضب لهم آلاف من الناس وتعصبوا لهم، واجتمعوا على حرب طلحة والزبير (¬1). وقد قال لهما القعقاع بن عمرو: «قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة إلا رجلًا فغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم ذلك الذي أفلت [يعني حرقوص بن زهير] فمنعه ستة آلاف وهم على رجل، فإن تركتموه كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا (¬2) عليكم، فالذي حذرتم وقربتم به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهون، وأنتم أحميتم مضر وربيعة من هذه البلاد فاجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء، كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير. فقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: فتقول أنت ماذا؟ قال: أقول هذا الأمر دواؤه التسكين، وإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا (¬3) فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر هذا الرجل وعافية وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا الثأر، وبعثة الله في هذه الأمة هزاهزها (¬4) فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم تكونون، ولا تعرضونا للبلاء ولا تعرضوا له فيصرعنا وإياكم، وأيم الله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه وإني لخائف ألا يتم حتى يأخذ الله - عز وجل - حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي حدث أمر ليس يقدّر، وليس كالأمور، ولا كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة الرجل. فقالوا: نعم، إذًا قد أحسنت وأصبت المقالة، فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر. فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه» (¬5). ¬

(¬1) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (467 - 8). (¬2) من الإدالة وهي الغلبة. (¬3) أي عاهدتمونا. (¬4) أي فتنها. (¬5) تاريخ الطبري (4/ 488 - 9).

أما الطائفة الثالثة: وهم جل الصحابة - رضي الله عنهم - كسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وسلمة بن الأكوع وغيرهم ... وهؤلاء اعتزلوا الفتنة اعتمادًا على أصل شرعي ثابت بنصوص صريحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعضها أوامر عينية في حق المخاطبين بها، وهذا الأصل هو ترك القتال في الفتنة. روى البخاري بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ومن تشَرَّف تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذًا فليَعُذ به» (¬1)، قال ابن حجر (¬2): «وفيه التحذير من الفتنة والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها» اهـ. وقد روى أبو نُعَيْم (336 - 430هـ) في الحلية عن ابن سيرين (ت. 110هـ) قال: «لما قيل لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ألا تقاتل؟ إنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟ قال: لا أقاتل حتى يأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر، فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد» (¬3)، وفي زيادة رواها ابن عساكر في تاريخه والغزالي في الإحياء أن سعدًا - رضي الله عنه - ضرب لهم مثلًا وقال: «مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة (¬4)، فبينا هم كذلك يسيرون هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق والتبس عليهم، فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين فأخذوا فيه فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: الطريق ذات الشمال، فأخذوا فيه فتاهوا وضلوا، وقال الآخرون: كنا على الطريق حيث هاجت الريح، فننيخ (¬5)، فأناخوا، وأصبحوا، وذهبت الريح، وتبينت الطريق، فهؤلاء هم أهل الجماعة، قالوا: نلزم ما فارقنا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن حتى نلقاه» (¬6). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الفتن: 7081 (¬2) ابن حجر: فتح الباري (13/ 31). (¬3) أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 94) عن ابن سيرين. (¬4) المحجة البيضاء الواضحة. (¬5) أي نبرك ونجلس. (¬6) تاريخ ابن عساكر (39/ 496) عن ميمون بن مهران، و (الإحياء) للغزالي (2/ 233)، واللفظ لابن عساكر.

وقعة الجمل (36هـ)

وروى ابن كثير (¬1): «دخل سعد على معاوية، فقال: ما لك لم تقاتل معنا؟ فقال: إني مرَّت بي ريح مظلمة فقلت اخ اخ، فأنخت راحلتي حتى انجلت عني ثم عرفت الطريق فسرت، فقال معاوية: ليس في كتاب الله (اخ اخ)، ولكن قال الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬2)، فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية، فقال سعد: ما كنت لأقاتل رجلًا قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي"، فقال معاوية: من سمع هذا معك؟ فقال: فلان وفلان وأم سلمة. فقال معاوية: أما إني لو سمعته منه - صلى الله عليه وسلم - لما قاتلت عليًا. وفي رواية من وجه آخر: أن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجة حجها معاوية، وأنهما أقاما إلى أم سلمة فسألاها فحدثتهما بما حدَّث به سعد، فقال معاوية: لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادمًا لعلي حتى يموت. وفي إسناد هذا ضعف والله أعلم» اهـ. وقعة الجمل (36هـ): كما تبين لنا من رواية الطبري عن القعقاع بن عمرو أن الفريقين أشرفا على الصلح نزولًا على رأي علي - رضي الله عنه -، وكان مما دل على ذلك أيضًا ما رواه الإمام الطبري أن عليًّا - رضي الله عنه - لما أراد الخروج إلى البصرة قام إليه ابن لرفاعة بن رافع فقال: «يا أمير المؤمنين أي شيء تريد؟ وإلى أين تذهب بنا؟ فقال علي: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منَّا وأجابونا إليه» (¬3). وروى أيضًا أن آخر قام إليه في هذا المسير فقال: «ما أنت صانع يا أمير المؤمنين إذا لقيت هؤلاء القوم؟ قال: بان لنا ولهم أن الإصلاح والكف أحوط، فإن تابعوا فذاك، وإن أبوا إلا القتال فصدع لا يلتئم، قال: فإذا ابتلينا بذلك فما حال قتلانا وقتلاهم؟ قال: من أراد الله نَفَعَهُ ذلك، وكان بمنجاة» (¬4). ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 77). (¬2) الحجرات: 9 (¬3) تاريخ الطبري (4/ 479). (¬4) السابق (4/ 496).

ولم يكن هذا رأي علي وحده، فقد رُوي عن ابنه الحسن - رضي الله عنه - أنه كان يحلف: «والله ما أردنا إلا الإصلاح» (¬1). أيضًا كان هذا رأي طلحة والزبير رضي الله عنهما، وقد أشار البعض عليهما بانتهاز الفرصة من علي فقالا: «إنا وهم مسلمون، وهذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن أو يكون فيه من رسول الله سنة، وقد زعم قوم أنه لا ينبغي تحريكه اليوم [أي أمر القصاص] وهم عليٌّ ومن معه، فقلنا نحن: لا ينبغي لنا أن نتركه اليوم ولا نؤخره. فقال علي: هذا الذي ندعوكم إليه من إقرار هؤلاء القوم شر، وهو خير من شر منه، وقد جاءت الأحكام بين المسلمين بإيثار أعمها منفعة وأحوطها» (¬2). وروى الطبري أنه قيل للزبير قبل يوم الصلح: «إن الرأي أن تبعث ألف فارس إلى علي قبل أن يوافي إليه أصحابه، فقال: إنا لنعرف أمور الحرب ولكنهم أهل دعوتنا - ديننا - وهذا أمر حدث لم يكن قبل اليوم، من لم يلق الله فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة، وقد فارقنا وفدهم على أمر، وأنا أرجو أن يتم لنا الصلح فأبشروا واصبروا» (¬3). فلا يمكن أن يفهم عاقل يقف على النصوص السابقة أن زعماء الفريقين هم الذين حركوا معركة الجمل وأوقدوا نارها، وكيف يتأتَّى ذلك وكلا الطرفين كانت كلمة الصلح قد نزلت من نفوسهم وقلوبهم منزلًا حسنا، ولكنهم قتلة عثمان أصحاب ابن سبأ - عليهم من الله ما يستحقون - هم الذين أشعلوا فتيلها وأججوا نارها حتى يفلتوا من حد القصاص (¬4). روى الطبري (¬5): «... فلما نزل الناس واطمأنوا خرج علي وخرج طلحة والزبير فتواقفوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه، فلم يجدوا أمرًا هو أمثل من الصلح ووضع الحرب حين رأوا الأمر قد أخذ في الانقشاع وأنه لا يدرك، فافترقوا عن موقفهم على ذلك ورجع ¬

(¬1) السابق (4/ 483). (¬2) السابق (4/ 495). (¬3) السابق. (¬4) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (440). (¬5) تاريخ الطبري (4/ 505 - 6).

علي إلى عسكره وطلحة والزبير إلى عسكرهما، وأرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه ما خلا أولئك الذين حاصروا عثمان، فباتوا على الصلح وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السر واستسروا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر». وفي رواية (¬1): «تكلم ابن السوداء فقال: يا قوم إن عزَّكم في خلطة الناس فصانعوهم وإذا التقى الناس غدًا فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بدًا من أن يمتنع ويشغل الله عليًا وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون، فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون»، «فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم، انسلوا إلى ذلك الأمر انسلالًا وعليهم ظلمة، فخرج مضريهم إلى مضريهم وربعيهم إلى ربعيهم ويمانيهم إلى يمانيهم فوضعوا فيهم السلاح فثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بهتوهم» (¬2). ويقول ابن حزم (¬3): «فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم، فبيَّتوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم، فدفع القوم عن أنفسهم في دعوى حتى خالطوا عسكر علي، فدفع أهله عن أنفسهم، وكل طائفة تظن - ولا شك - أن الأخرى بدأتها القتال». يقول الدكتور أمحزون (¬4): «وجدير بالإشارة أن أثر السبئية في الجمل وإشعال نار الفتنة مما يكاد يجمع عليه المؤرخون والعلماء سواءً أطلقوا عليهم اسم الغوغاء أو المفسدين أو الأوباش أو أصحاب الأهواء أو أسماهم البعض قتلة عثمان أو أطلقوا عليهم صراحة السبئية» اهـ. وفي أثناء تلك المعركة المؤسفة التي لم تكن برضا الطرفين من الصحابة، كان ¬

(¬1) السابق (4/ 494). (¬2) السابق (4/ 506). (¬3) ابن حزم: الفِصَل (4/ 123). (¬4) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (444).

علي - رضي الله عنه - يتوجع على قتلى الفريقين ويقول: «وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة» (¬1). وعن مجاهد بن جبر (ت. 104هـ) أن محمد بن أبي بكر أو محمد بن طلحة قال لعائشة يوم الجمل: «يا أم المؤمنين، ما تأمريني؟ قالت: يا بني! إن استطعت أن تكون كالخير من ابني آدم فافعل» (¬2). ولما انتهت المعركة أخذ علي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما وأرسلها معززة مكرمة إلى المدينة كما قد أمره النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد روى أحمد بسنده عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي بن أبي طالب: «إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر. قال: أنا يا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فأنا أشقاهم يا رسول الله، قال: لا، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها» (¬3). وكانت عائشة رضي الله عنها إذا قرأت {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (¬4) بكت حتى يبتل خمارها (¬5)، وفي رواية ابن أبي شيبة (159 - 235هـ) أنها كانت تقول: «وددت أني كنت غصنًا رطبًا ولم أسر مسيري هذا» (¬6). وروى أيضًا ابن أبي شيبة عن أبي جعفر قال: «جلس علي وأصحابه يبكون طلحة والزبير» (¬7) اهـ. فمن خلال هذا العرض السريع للأحداث يتبين بما لا يدع مجالًا للشك أثر ابن سبأ وأعوانه في موقعة الجمل، حيث لم يقتصر دورهم عند إثارة الفتنة الأولى التي كانت سببًا في مقتل عثمان - رضي الله عنه -، وإنما لعبوا دورًا خطيرًا في الفتنة الثانية التي اندلعت بسبب مقتل ¬

(¬1) رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 720)، كتاب الجمل، باب مسيرة عائشة وعلي وطلحة والزبير، رقم: 76 وسنده جيد. (¬2) السابق (8/ 719) رقم: 67 (¬3) المسند (6/ 393). (¬4) الأحزاب: 33 (¬5) الذهبي: سير أعلام النبلاء (2/ 177). (¬6) ابن أبي شيبة: المصنف (8/ 718)، كتاب الجمل، باب مسيرة عائشة وعلي وطلحة والزبير، رقم: 62 (¬7) السابق (8/ 709) رقم: 18

معركة صفين (37هـ)

عثمان، مما كان له أسوأ النتائج على وحدة المسلمين وخلافاتهم. ومن خلال هذا العرض أيضًا يتضح بما لا يدع مجالًا للريب حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الإصلاح وجمع الكلمة، وهذا هو الحق الذي تنطق به الروايات والنصوص، وتسير في اتجاهه الفطرة والعقل السليم (¬1). معركة صِفِّين (37هـ): لما انتهت واقعة الجمل أرسل علي - رضي الله عنه - جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يدعوه إلى بيعته، فطلب معاوية عمرو بن العاص ورءوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوه حتى يقتل قتلة عثمان أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان (¬2). وراج عند العوام والجهلة من أهل الشام أن لعلي يدًا في قتل عثمان، وذلك لأربعة أمور: الأمر الأول: عدم قتله قتلة عثمان. الأمر الثاني: معركة الجمل. الأمر الثالث: تركه المدينة وسكنه بالكوفة، والكوفة هي معقل قتلة عثمان. الأمر الرابع: أن في جيش علي من هو متهم بقتل عثمان (¬3). وقد أجاب الإمام ابن أبي العز الحنفي (731 - 792هـ) عن هذه الشبهة بقوله (¬4): «وكان في عسكر علي - رضي الله عنه - من أولئك الطغاة الخوارج الذين قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه، ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله» اهـ. بل وكيف يكون لعلي - رضي الله عنه - يد في قتل عثمان وهو القائل: «اللهم إني أبرأ إليك من دم ¬

(¬1) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (447). (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية (7/ 254) بتصرف. (¬3) عثمان الخميس: حقبة من التاريخ، ص (121) بتصرف. (¬4) ابن أبي العز الحنفي: شرح العقيدة الطحاوية، ص (510).

عثمان» (¬1)، وهو القائل أيضًا: «اللهم العن قتلة عثمان»! (¬2). فلما امتنع معاوية - رضي الله عنه - عن البيعة، استخلف علي - رضي الله عنه - على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عامر البدري الأنصاري، وخرج بجيش قوامه مئة ألف إلى صِفِّين في الشام. وبلغ معاوية أن عليًا تجهز وخرج بنفسه لقتاله فأشار عليه رجاله أن يخرج هو أيضًا بنفسه، فخرج الشاميون نحو صفين، والتقى الجيشان، ونشب القتال. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3): «وأما قول القائل: إن عليًا بدأهم بالقتال، قيل له: وهم أولًا امتنعوا من طاعته ومبايعته وجعلوه ظالمًا مشاركًا في دم عثمان، وقبلوا عليه شهادة الزور ونسبوه إلى ما هو بريء منه»، قال ابن العربي (¬4): «قالوا: لا نبايع من يؤوي القتلة». وقال (¬5): «وأما الصواب فيه فمع علي، وتهمة الطالب للقاضي لا توجب عليه أن يخرج عليه، بل يطلب الحق عنده، فإن ظهر له قضاءٌ وإلا سكت وصبر، فكم من حق يحكم الله فيه. وإن لم يكن له دين فحينئذ يخرج عليه، فيقوم له عذر في الدنيا. ولئن اتُّهِم عليٌّ بقتل عثمان فليس في المدينة أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو متهم به، أو قُل معلوم قطعًا أنه قتله، لأن ألف رجل جاءوا لقتل عثمان لا يغلبون أربعين ألفا!». قال ابن حجر العسقلاني (¬6): «ذهب جمهور أهل السنة إلى تصويب من قاتل مع علي لامتثال قوله تعالى {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (¬7) الآية، ففيها الأمر بقتال الفئة الباغية، وقد ثبت أن من قاتل عليًا كانوا بغاة، وهؤلاء مع هذا التصويب متفقون على أنه لا يُذَم واحد من هؤلاء، بل يقولون: اجتهدوا فأخطأوا»، وقال ¬

(¬1) تاريخ الطبري (4/ 444). (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية (7/ 243). (¬3) ابن تيمية: منهاج السنة (4/ 410). (¬4) ابن العربي: العواصم من القواصم، ص (162). (¬5) السابق، ص (164 - 5) باختصار، وقد تقدم الكلام عن أسباب مقتل عثمان على الرغم من وجود جماعة من كبار الصحابة - رضي الله عنهم - بالمدينة، راجع كلام الحافظ ابن كثير. (¬6) ابن حجر: فتح الباري (13/ 67). (¬7) الحجرات: 9

قضية التحكيم (37 هـ)

(¬1): «اتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عُرِفَ المُحِقُّ منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله عن المخطئ في الاجتهاد» اهـ. قضية التحكيم (37 هـ): انتهت معركة صِفِّين بالتحكيم؛ فكما روى الإمام أحمد عن حبيب بن أبي ثابت قال: «أتيت أبا وائل في مسجد أهله أسأله عن هؤلاء القوم الذين قتلهم عليٌّ بالنهروان، فيما استجابوا له وفيما فارقوه وفيما استحل قتالهم، قال: كنا بصِفِّين فلما استحرَّ القتل بأهل الشام اعتصموا بتَلٍّ، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلى عليٍّ بمصحف وادعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك، فجاء به رجل، فقال: بيننا وبينكم كتاب الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} (¬2)، فقال عليٌّ: نعم أنا أولى بذلك، بيننا وبينكم كتاب الله» (¬3). وقد شهد زعماء الفريقين على عقد التحكيم، وكانت كتابته يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين للهجرة، وكان نص الوثيقة: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى عليٌّ على أهل الكوفة ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين، إنا ننزل عند حكم الله - عز وجل - وكتابه ولا يجمع بيننا غيره، وإن كتاب الله - عز وجل - بيننا من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله - عز وجل - وهما أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص القرشي عملا به، وما لم يجدا في كتاب الله - عز وجل - فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة. وأخذ الحكمان من عليٍّ ومعاوية ومن الجندين من العهود والميثاق والثقة من الناس، أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله وميثاقه أنَّا على ما في هذه الصحيفة، وأن قد وجبت قضيتهما على المؤمنين، فإن الأمن والاستقامة ووضع ¬

(¬1) السابق (13/ 34). (¬2) آل عمران: 23 (¬3) المسند (3/ 486)، وإسناده صحيح.

السلاح بينهما أينما ساروا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم وشاهدهم وغائبهم، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة ولا يردَّاها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا، وأجل القضاء إلى رمضان وإن أحبَّا أن يؤخرا ذلك أخراه على تراض منهما، وإن توفي أحد الحكمين فإن أمير الشيعة يختار مكانه، ولا يألوا من أهل المعدلة والقسط، وإن مكان قضيتهما الذي يقضيان فيه مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام وإن رضيا وأحبا فلا يحضرهما فيه إلا من أرادا، ويأخذ الحكمان من أرادا من الشهود ثم يكتبان شهادتهما على ما في هذه الصحيفة، وهم أنصار على من ترك ما في هذه الصحيفة، وأراد فيه إلحادًا وظلمًا، اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة» (¬1). ولما لحادث التحكيم من أهمية في التاريخ السياسي للدولة الإسلامية، فإنه من الضروري إجلاء حقيقة وقائعه، حيث أسيء تصوير هذا الحادث بقدر ما أسيء تفسيره، فنتج عن الأمرين خلط كثير وإساءة إلى مكانة الصحابة وقدرهم، حيث باتت القصة الشائعة بين الناس عن حادث التحكيم تتهم بعضهم بالخداع والغفلة، وتتهم آخرين بالصراع حول السلطة، وقد ذكر الرواية المشهورة بطولها الإمام الطبري في تاريخه من طريق أبي مخنف لوط بن يحيى عن أبي جناب الكلبي (¬2). قال القاضي ابن العربي (¬3): «وقد تَحَكَّم الناس في التحكيم فقالوا فيه مالا يرضاه الله، وإذا [لاحظتموه] بعين المروءة - دون الديانة - رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل متين». وقال ابن تيمية (¬4): «ومعاوية لم يَدَّع الخلافة، ولم يُبايَع له بها حين قاتل عليًا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا عليًا وأصحابه بالقتال ولا ¬

(¬1) تاريخ الطبري (5/ 53 - 4). (¬2) انظر السابق (5/ 70 - 1). (¬3) ابن العربي: العواصم من القواصم، ص (172). (¬4) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (35/ 72).

يعلوا. بل لما رأى علي - رضي الله عنه - وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة، رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة» اهـ. ودليل ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن زياد بن الحارث قال: «كنت إلى جنب عمار بن ياسر بصفين وركبتي تمس ركبته، فقال الرجل: كفر أهل الشام، فقال عمار: لا تقولوا ذلك، نبيُّنا ونبيُّهم واحد، وقبلتنا وقبلتهم واحدة، ولكنهم قوم مفتونون جاروا عن الحق، علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا إليه» (¬1). ولو افتُرِضَ - جدلًا - أن معاوية - رضي الله عنه - قد اتخذ قضية القصاص والثأر لعثمان ذريعة لقتال علي - رضي الله عنه - طمعًا في السلطان، فماذا سيحدث لو تمكن عليٌّ من إقامة الحد على قتلة عثمان؟ حتمًا ستكون النتيجة خضوع معاوية لعليٍّ ومبايعته له، لأنه التزم بذلك في موقفه من تلك الفتنة، كما أن كل من حارب معه كانوا يقاتلون على أساس إقامة الحد على قتلة عثمان، على أن معاوية إذا كان يخفي في نفسه شيئًا آخر لم يعلن عنه، سيكون هذا الموقف بالتالي مغامرة، ولا يمكن أن يقدم عليها إذا كان ذا مطامع. وحاشانا أن نقول ذلك، فلقد كان معاوية - رضي الله عنه - من كُتَّاب الوحي، ومن أفاضل الصحابة، وأكثرهم حلمًا، فكيف يُعتَقَد أن يقاتِل الخليفة الشرعي ويهرق دماء المسلمين من أجل مُلك زائل (¬2)، وهو القائل: «والله لا أخير بين أمرين، بين الله وبين غيره، إلا اخترت الله على ما سواه» (¬3)، وسوف يأتي بعد قليل بعض الحديث عن مناقبه - رضي الله عنه -. وبإخضاع الرواية الجائرة الشائعة عن التحكيم للدراسة والتحليل يلاحظ عليها أنها لا تصح سندًا ولا متنًا: فسندًا: لأن فيها راويين متهمين في عدالتهما، أحدهما: أبو مخنف لوط بن يحيى (ت. 157هـ)، قال عنه الإمام الذهبي: «أبو مخنف إخباري تالف، لا يوثق به، تركه أبو حاتم وغيره»، وقال الدارقطني (ت. 385هـ): «ضعيف»، وقال ابن عدي (ت. 365هـ): ¬

(¬1) ابن أبي شيبة: المصنف (8/ 722) كتاب الجمل، باب ما ذكر في صفين، رقم: 5 (¬2) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (464) بتصرف يسير. (¬3) انظر، الذهبي: سير أعلام النبلاء (3/ 151).

«شيعي محترق صاحب أخبارهم»، وقال ابن معين (ت. 233هـ): «ليس بثقة»، وقال مرة: «ليس بشيء»، وقال أبو حاتم (ت. 277هـ): «متروك الحديث»، وسُئل عنه مرة فنفض يده وقال: «أحد يسأل عن هذا!» (¬1)، وقال ابن كثير (¬2): «هو متهم فيما يرويه، ولا سيما في باب التشيع». وأما الثاني فهو: يحيى بن أبي حية أبو جناب الكلبي (ت. 147هـ)، قال فيه ابن سعد (ت. 230هـ) (¬3): «ضعيف»، وقال ابن أبي حاتم (ت. 327هـ) (¬4): «قال ابن معين: ضعيف الحديث، وكان يحيى القطان [ت. 198هـ] يضعفه» اهـ. أما متنًا: فلأن الخلاف لم يكن أصلًا على الحكم كما أفضنا؛ قال ابن العربي (¬5): «هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع» اهـ. أيضًا، فإن معاوية - رضي الله عنه - قد تولى حكم الشام نائبًا عن عمر - رضي الله عنه - وبقي في ولايته إلى أن مات عمر، وتولى عثمان - رضي الله عنه - أمر الخلافة فأقرَّهُ في منصبه، ثم قُتِلَ عثمان وتولى علي - رضي الله عنه - الخلافة فلم يقر معاوية في عمله (¬6)، حيث أصبح معزولًا بعد انتهاء ولايته بمقتل الخليفة الذي ولاه. وبذلك فقد معاوية مركزه ومنصبه كوالٍ لبلاد الشام، وإن لم يفقد مركزه الفعلي أو الواقعي كحاكم غير مولَّى للشام بحكم اتباع الناس إياه، واقتناعهم بالسبب الذي جعله يرفض بيعة علي - رضي الله عنه -، وهو المطالبة باقتضاء حقه في القصاص من قتلة عثمان باعتباره واليًا للدم. وإذا كان الأمر كذلك - وهو الثابت تاريخيًا - فإن قرار الحكمين - أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما - إذا تضمن فيما تزعم رواية أبي مخنف المكذوبة عزل ¬

(¬1) انظر، الذهبي: ميزان الاعتدال (5/ 508)، ابن حجر: لسان الميزان (4/ 584). (¬2) ابن كثير: البدية والنهاية (8/ 274). (¬3) ابن سعد: الطبقات الكبرى (6/ 342). (¬4) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل (9/ 138 - 9). (¬5) ابن العربي: العواصم من القواصم، ص (177). (¬6) ابن كثير: البدية والنهاية (7/ 229).

كل من علي ومعاوية، فقد ورد العزل في حق معاوية في غير محله، لأنه إذا تصورنا أن يعزل الحكمان عليًا من منصب الخلافة - إذا فرضنا جدلًا أنهما كانا يحكمان فيها -، ولكن عمَّ يعزلان معاوية؟! هل كانا يملكان عزله عن قرابته أو منعه من المطالبة بحقه فيها؟! وهل عهد التاريخ في حقبة من حقبه أن يُعزل ثائر عن زعامة الثائرين معه بقرار يصدره قاضيان؟! ولا شك أن هذا عامل آخر يؤيد بطلان القصة الشائعة عن قضية التحكيم والقرار الصادر فيها (¬1). وما صح هو ما رواه ابن العربي رحمه الله، فقال (¬2): «ذكر الدارقطني بسنده إلى حُضين بن المنذر (¬3): لما عزل عمرو معاوية جاء [أي حضين] فضرب فسطاطه قريبًا من فسطاط معاوية، فبلغ نبؤه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا [أي عن عمرو بن العاص] كذا وكذا، فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه. فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولكن قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذين تُوُفِّيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يستعن بكما ففيكما المعونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما ...». وليس من شك في أن أمر الخلاف الذي رأى الحكمان رده إلى الأمة أو إلى أهل الشورى ليس إلا أمر الخلاف بين علي ومعاوية حول قتلة عثمان، وهو ما أطبقت على ذكره المصادر الإسلامية (¬4). يقول محب الدين الخطيب (¬5): «فرواية الدارقطني هذه - وهو من أعلام الحديث - عن رجال عدول معروفين بالتثبيت، ويقدرون مسئولية النقل هي التي تتناسب مع ماضي ¬

(¬1) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (517 - 9) بتصرف. (¬2) ابن العربي: العواصم من القواصم، ص (178 - 9). (¬3) تابعي ثقة، كان صاحب راية علي يوم صفين (ت. 97هـ). (¬4) د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (524) بتصرف. (¬5) قاله في تعليقه على (مختصر التحفة الاثني عشرية)، لمحمود شكري الألوسي، ص (357).

رابعا: موقف أهل السنة والجماعة من الفتنة

عمرو وأبي موسى وأيامهما في الإسلام ومكانتهما من النبي - صلى الله عليه وسلم - وموضعهما من ثقة الفريقين بهما واختيارهما من بين السادة القادة المجرَّبين» اهـ. ... رابعًا: موقف أهل السنة والجماعة من الفتنة: يتلخص موقف أهل السنة والجماعة في وجوب الكف عمَّا شجر بين الصحابة، والاشتغال بنشر فضائلهم وإذاعة مناقبهم في العالمين، قال ابن كثير (¬1): «سُئِلَ الإمام أحمد عما جرى بين علي ومعاوية فقرأ {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2) [وكذا نُقِلَ عن غير واحد من السلف]، وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية، فقال له: ولم؟ قال: لأنه قاتل عليًا، فقال له أبو زرعة: ويحك، إن رب معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فأيشٍ دخولك أنت بينهما؟ رضي الله عنهما». وسُئِل بعضهم أيضًا فقال: «تلك دماء قد طهَّر الله منها يدي، فلا أخضب بها لساني» (¬3). وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه قال: «الناس على ثلاث منازل، فمضت منزلتان، وبقيت واحدة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. ثم قرأ: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬4)، قال: فهؤلاء المهاجرون، وهذه منزلة قد مضت، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬5)، قال: هؤلاء الأنصار، وهذه منزلة قد مضت. ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 130) بتصرف يسير. (¬2) البقرة: 134 (¬3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (19/ 383). (¬4) الحشر: 8 (¬5) الحشر: 9

بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬1)، قال: قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. يقول: أن تستغفروا لهم» (¬2). وقال القرطبي (¬3): «لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله - عز وجل -، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة ولنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبِّهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم». وقال (¬4): «قال المحاسبي [ت. 243هـ]: فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم. وقد سُئِل الحسن البصري عن قتالهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا، قال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف عندما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيًا منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله - عز وجل -، إذ كانوا غير متهمين في الدين، ونسأل الله التوفيق». وقال ابن تيمية (¬5): «وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة ولا القرابة ولا السابقين ولا غيرهم، بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، والله تعالى يغفر لهم بالتوبة، ويرفع بها درجاتهم، ويغفر لهم بحسنات ماحية، أو بغير ذلك من الأسباب، قال تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ. لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬6)». وقال الذهبي (¬7): «كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم - رضي الله ¬

(¬1) الحشر: 10 (¬2) ابن تيمية: الصارم المسلول، ص (449). (¬3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (19/ 382). (¬4) السابق. (¬5) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (35/ 69). (¬6) الزمر: 33 - 35 (¬7) الذهبي: سير أعلام النبلاء (10/ 92).

عنهم - أجمعين، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا فينبغي طيه وإخفاؤه بل إعدامه لتصفو القلوب وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى بشرط أن يستغفر لهم كما علَّمنا الله تعالى». ورحم الله الإمام أبا حاتم بن حبان (ت. 354هـ) إذ يقول (¬1): «الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه، فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه، وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه» اهـ. ونؤمن أن كلا الفريقين كان على الحق، وكلاهما مثاب، بدليل الآتي: - كلا الفريقين كان مجتهدًا، متأولًا، عالمًا، لا متبعًا لهوى، ولا قاصدًا معصية، ولا محض دنيا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» (¬2). - قوله - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج: «تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين، يقتلها أولى الطائفتين بالحق» (¬3)، فهذا دليل على أن كلا الفريقين كان على الحق ولكن أحدهما كان أقرب ¬

(¬1) ابن حبان البُستي: روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، باب الزجر عن التجسس وسوء الظن. (¬2) رواه البخاري، باب الاعتصام بالكتاب والسنة: 7352. وقال محيي السنة البغوي رحمه الله (436 - 516هـ) تعليقًا على الحديث: «وقوله في الحديث: "وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" لم يُرِد أنه يؤجر على الخطأ، بل يؤجر في اجتهاده في طلب الحق، لأن اجتهاده عبادة، والإثم في الخطأ عنه موضوع إذا لم يألُ جهدَه، وهذا فيمن كان جامعًا لآلة الاجتهاد، فأما من لم يكن محلًا للاجتهاد فهو متكلف لا يُعذَر بالخطأ في الحكم، بل يُخاف عليه أعظم الوزر، روي عن بريدة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به. ورجل عرف الحق، فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار"» اهـ[البغوي: شرح السنة (10/ 117)، والحديث رواه أبو داود، كتاب الأقضية: 3573، وصححه الألباني]. (¬3) رواية مسلم، كتاب الزكاة: 1065

للحق من الآخر، ولما كان يوم النهروان (38هـ) وانتصر علي - رضي الله عنه - على الخوارج، صار يبحث - رضي الله عنه - في القتلى عن ذا الثدية - والذي أخبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى (¬1) -، حتى وجده فيهم، وسجد لله شكرًا إذ علم أنه أولى الطائفتين بالحق. أيضًا، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمار بن ياسر - رضي الله عنه -: «تقتلك الفئة الباغية» (¬2)، وكان عمار في جيش علي - رضي الله عنه - يوم صِفِّين، والذي قتله من جيش معاوية - رضي الله عنه - لم يكن صحابيًا. - وقال - صلى الله عليه وسلم - عن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -: «شهيد يمشي على وجه الأرض» (¬3)، وقد قُتل - رضي الله عنه - يوم الجمل بسهم غير مقصود أصابه في قدمه مكان إصابة قديمة فمات منها - رضي الله عنه -. - وسأل ابن عباس علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: «إلى أين يدخل قاتل ابن صفية؟ قال: النار» (¬4)، وفي رواية أنه قال: «بشر قاتل ابن صفية بالنار»، ثم قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن لكل نبي حواريًا، وحواريَّ الزبير» (¬5). ومعلوم أن طلحة والزبير رضي الله عنهما من العشرة المبشرين بالجنة، ومعلوم أيضًا أنهما كانا في فريق معاوية - رضي الله عنه -، فكيف يبشرهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة إن لم يكونا على حق؟ - قال الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬6)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬7): «فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغي مؤمنين إخوة، بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين. وليس كل ما كان ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب الزكاة: 1066 (¬2) رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة: 2916 (¬3) رواه ابن ماجه، كتاب المقدمة: 125، وصححه الألباني. (¬4) صحيح، أورده ابن حجر في (الإصابة) (2/ 216)، وقد قتله يوم الجمل رجل يقال له ابن جرموز، كما يذكر ابن حجر في الرواية ذاتها عن ابن عباس أنه قال للزبير يوم الجمل: «أجئت تقاتل ابن عبد المطلب؟ قال: فرجع الزبير فلقيه ابن جرموز فقتله، قال: فجاء ابن عباس إلى علي فقال: إلى أين يدخل قاتل ابن صفية؟ قال: النار»، ومعلوم أن ابن جرموز هذا لم يكن صحابيًا. (¬5) المسند (1/ 89)، وإسناده حسن. (¬6) الحجرات: 9 - 10 (¬7) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (35/ 72).

بغيًا وظلمًا أو عدوانًا يخرج عموم الناس عن الإيمان، ولا يوجب لعنتهم، فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون؟!»، ثم قال رحمه الله: «وحديث: إذا اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون، كذب مفترى، لم يروه أحد من أهل علم الحديث، ولا هو في شيء من دواوين الإسلام المعتمدة». - أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» (¬1)، ففيه قال الإمام النووي (¬2): «اعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة - رضي الله عنهم - ليست بداخلة في هذا الوعيد، ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم، وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية، ولا محض دنيا، بل اعتقد كل فريق أنه المحق، ومخالفه يأثم، فوجب عليه قتاله ليرجع إلى الله، وكان بعضهم مصيبًا وبعضهم مخطئًا معذورًا في الخطأ، لأنه اجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه. وعلي - رضي الله عنه - هو المحق المصيب في تلك الحروب، هذا مذهب أهل السنة، وكانت القضايا مشتبهة حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين، ولم يقاتلوا، ولم يتيقنوا الصواب، ثم تأخروا في مساعدته منهم». وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» (¬3)، فالمراد به الكفر الأصغر غير المخرج من الملة (¬4)، قال النووي رحمه الله (¬5): «وأما قتاله بغير حق فلا يكفر به ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة: 2888 (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم (18/ 11). (¬3) رواه مسلم، كتاب الإيمان: 64 (¬4) فائدة: قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «الكفر أصل ذو شُعَب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من الكفر، والصدق شعبة من الإيمان، والكذب شعبة من الكفر ...» وكذا إلى أن قال رحمه الله: «والمعاصي كلها شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان» اهـ[ابن قيم الجوزية: الصلاة وحكم تاركها، ص (36)]، وإذا تقرر ما سبق، فلا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر بالعبد أن يصير كافرًا الكفر المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنًا، حتى يقوم به أصل الإيمان. [انظر، د .. محمد يسري إبراهيم: الإحكام في قواعد الحكم على الأنام، ص (34، 40 - 1)]. (¬5) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 54) باختصار.

عودة إلى البدء: استمالة السبئية لشيعة علي - رضي الله عنه -

عند أهل الحق كفرًا يخرج به من الملة إلا إذا استحله» اهـ. وختامًا: اعلم - عَلَّمَنِي الله وإياك - أن الخوض في هذه المسألة مشروط بالآتي: إخلاص في النية، وصفاء في العقيدة، وسلامة في الفهم، ودقة في النقل، بيانًا للحق بأسانيده، وإبطالًا للباطل، وذبًا عن أعراض الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين، ودفعًا للشبهات التي شاعت بين الناس، وتلطخت بها مناهج التعليم، واستغلها أعداء الإسلام للطعن في أصول الدين. أما الخوض فيها بلا داعي مثلما يفعله بعض الدعاة من تخصيص مجالس لعوام الناس للخوض فيما شجر بين الصحابة فهو مخالف لهدي السلف، والله المستعان. ... عودة إلى البدء: استمالة السبئية لشيعة علي - رضي الله عنه -: شيعة الرجل كما يقول الزبيدي (¬1): «أتباعه وأنصاره، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم الشيعة وكل من عاون إنسانًا وتحزب له فهو شيعة له، وأصله من المشايعة وهي المطاوعة والمتابعة» اهـ. وقد شاع استعمال الكلمة عند اختلاف معاوية مع علي بعد مقتل عثمان - رضي الله عنهم -، فكان يقال عن أنصار علي - رضي الله عنه - إنهم شيعته، كما كان الحال مع أنصار معاوية - رضي الله عنه -. ثم اختص بهذه اللفظة كل من يوالي عليًا وأولاده ويعتقد الاعتقادات المخصوصة والمستقاة من دسائس عبد الله بن سبأ اليهودي وغيره من الذين أرادوا هدم عمارة الإسلام وكيانه وتشويه عقائده وتعليماته، كما قال ابن الأثير (¬2): «وأصل الشيعة الفرقة من الناس وتقع على الواحد والاثنين والجمع والذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد، وقد غلب هذا الاسم على كل من يزعم أنه يتولى عليًا - رضي الله عنه - وأهل بيته حتى صار لهم اسمًا خاصًا» اهـ. لقد كان الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما فرصة ذهبية لكل حاقد متربص للإسلام؛ فبعد ¬

(¬1) الزبيدي: تاج العروس (11/ 257)، مادة: (ش ي ع). (¬2) ابن الأثير: النهاية، ص (500).

أن أشعل ابن السوداء لعنه الله نار الفتنة، تبعه مدعو الإسلام من المجوس واليهود وتظاهروا بنصرة علي - رضي الله عنه -، واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل البيت واستبشاع ظلم أمير المؤمنين، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن طريق الهدى .. يقول شاه عبد العزيز الدهلوي رحمه الله (ت. 1239هـ) (¬1): «أرسل ابن سبأ بعض أتباعه إلى العراق وأذربيچان، وراج مذهبه واشتهر وذاع وانتشر، فقد بدأ أولًا بتفضيل الأمير، وثانيًا بتكفير الصحابة، وثالثًا بألوهية الأمير، ودعا الناس على حسب استعدادهم، وربط رقاب كل من اتبعه بحبل من حبال الغواية، فهو قدوة لجميع فرق الرافضة، وإن كان أكثر أتباعه وأشياعه من تلك الفرق يذكرونه بالسوء لكونه قائلًا بألوهية الأمير ويعتقدون أنه مقتدى الغلاة فقط، ولذا ترى أخلاق اليهود وطبائعهم موجودة في جميع فرق الشيعة، وإذا تفكرت في سورة البقرة وحفظت ما ذكر الله تعالى فيها من صفات اليهود الذميمة، ترى جميعها مطابقة لصفات هذه الفرقة مطابقة النعل بالنعل». ويخُصُّ رحمه الله جماعة من أتباع ابن سبأ بالذكر فيقول: «جماعة ممن ضعف إيمانهم من أهل النفاق، وهم قتلة عثمان الذين انخرطوا في عسكر الأمير وعدوا أنفسهم من شيعته خوفًا من عاقبة ما صدر منهم من تلك الجناية العظمى، وهذه الفرقة هم رؤساء الروافض وأسلافهم ومسلمو الثبوت عندهم، فإنهم وضعوا بناء دينهم وإيمانهم في تلك الطبقة على رواية هؤلاء الفساق المنافقين ومنقولاتهم، فلذا كثرت روايات هذه الفرقة عن الأمير بواسطة هؤلاء الرجال. وقد ذكر المؤرخون سبب دخول أولئك المنافقين في هذا الباب، وقالوا إنهم - أي المنافقين - قبل وقوع التحكيم كانوا مغلوبين لكثرة (الشيعة الأولى) في عسكر الأمير وتغلبهم، ولما وقع التحكيم رجع الشيعة الأولى من دومة الجندل - التي كانت محل التحكيم - إلى أوطانهم وشرعوا في ترويج أحكام الشريعة والإرشاد ورواية الأحاديث وتفسير القرآن المجيد، كما أن الأمير - رضي الله عنه - دخل الكوفة واشتغل بمثل هذه الأمور، ولم يبق في ركاب الأمير إذ ذاك من الشيعة الأولى إلا القليل ممن كانت له دار في الكوفة، فلما رأت هاتيك الفرقة الضالة المجال في إظهار ضلالتهم أظهروا ما كانوا ¬

(¬1) محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية (المنحة الإلهية تلخيص ترجمة التحفة الاثنى عشرية)، ص (61 - 3) باختصار وتصرف يسير.

يخفونه من إساءة الأدب في حق الأمير وسب أصحابه وأتباعه الأحياء منهم والأموات، ومع هذا كان لهم طمع في المناصب أيضًا لأن العراق وخراسان وفارس والبلاد الأخرى الواقعة في تلك الأطراف كانت باقية بعد في تصرف الأمير وحكومته، والأمير - رضي الله عنه - عاملهم كما عاملوه، كما وقع ذلك لموسى - عليه السلام - مع اليهود ولنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مع المنافقين» اهـ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (¬1): «ولما أحدثت البدع الشيعية في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ردها، وكانت ثلاثة طوائف: غالية وسبابة ومفضلة: فأما الغالية: فإنه حرقهم بالنار، فإنه خرج ذات يوم من باب كندة فسجد له أقوام فقال: ما هذا؟ فقالوا: أنت هو الله، فاستتابهم ثلاثًا فلم يرجعوا، فأمر في الثالث بأخاديد فخدت وأضرم فيها النار ثم قذفهم فيها وقال: لما رأيت الأمر أمرًا منكرا ... أججت ناري ودعوت قنبرا (¬2) وأما السبابة: فإنه لما بلغه من سب أبا بكر وعمر طلب قتله، فهرب منه إلى قرقيسيا وكلمه فيه، وكان علي يداري أمراءه لأنه لم يكن متمكنًا ولم يكونوا يطيعونه في كل ما يأمرهم به. وأما المفضلة: فقال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفترين، وروي عنه من أكثر من ثمانين وجهًا أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر". وفي صحيح البخاري عن محمد بن الحنيفة أنه قال لأبيه: "يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال أبو بكر، قال ثم من؟ قال عمر" (¬3). ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (35/ 184 - 6). (¬2) قال ابن حزم: «يريد قنبرًا مولاه وهو الذي تولى طرحهم في النار نعوذ بالله من أن نفتتن بمخلوق أو يفتتن بنا مخلوق فيما جل أو دق فإن محنة أبي الحسن - رضي الله عنه - من بين أصحابه - رضي الله عنهم - كمحنة عيسى - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه من الرسل عليهم السلام» اهـ[ابن حزم: الفِصَل (4/ 142)]، وفي صحيح البخاري أنه لما بلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تعذبوا بعذاب الله، ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من بدل دينه فاقتلوه» [البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم: 6922]. (¬3) البخاري، كتاب فضائل الصحابة: 3671

ولكن من هم (الشيعة الأولى)؟

وفي الترمذي وغيره أن عليًا روى هذا التفضيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)». ولكن من هم (الشيعة الأولى)؟ الشيعة الأولى هم شيعة علي - رضي الله عنه - العامة الذين كانوا على جانب عن هؤلاء الغالية والسبابة، والذين كانوا دائمًا يسعون إلى الصلح واجتناب القتال والجدال قدر الاستطاعة وحسب المقدور، ولو أن قليلًا منهم تأثروا بأفكار هؤلاء المخبثين، وانخدعوا بأباطيلهم وأكاذيبهم ووقعوا في شراكهم وحبائلهم. ولذلك لم يكن شيعة علي الأولى يطعنون في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يسبونهم ولا يشتمونهم، بل أكثر من ذلك كانوا يقدمون أبا بكر وعمر على عليٍّ - رضي الله عنه - (¬2). يقول ابن تيمية (¬3): «كانت الشيعة المتقدمون الذين صحبوا عليًا أو كانوا في ذلك الزمان لم يتنازعوا في تفضيل أبي بكر وعمر، وإنما كان نزاعهم في تفضيل علي وعثمان، وهذا مما يعترف به علماء الشيعة الأكابر من الأوائل والأواخر»، ثم ينقل عن واحد منهم - وهو شريك بن عبد الله القاضي (ت. 177هـ) - أنه سأله سائل: «أيهما أفضل؟ أبو بكر أم علي؟ فقال له: أبو بكر، فقال له السائل: تقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال له: نعم، إنما الشيعي من قال مثل هذا، والله لقد رقى علي هذه الأعواد، فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، أفكنا نرد قوله؟ أفكنا نكذبه؟ والله ما كان كذابًا» اهـ. ولقد أقر بذلك شيخ الرافضة أحمد الوائلي (1347 - 1424هـ) حيث قال (¬4): «إني خلال مراجعتي كتب التاريخ لم أر في الفترة التي تمتد من بعد وفاة النبي حتى نهاية خلافة الخلفاء من عمد إلى الشتم من أصحاب الإمام، وإنما هناك من قيَّم الخلفاء وقيَّم ¬

(¬1) روى الترمذي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ طلع أبو بكر وعمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين، يا علي لا تخبرهما». [الترمذي، كتاب المناقب: 3665، وصححه الألباني]. (¬2) انظر، إحسان إلهي ظهير: الشيعة التشيع: فرق وتاريخ، ص (145). (¬3) ابن تيمية: منهاج السنة (1/ 13 - 4). (¬4) أحمد الوائلي: هوية التشيع، ص (38).

تبرؤ شيعي

الإمام، وحتى في أشد جمحات عاطفة الولاء لم نجد من يشتم أحدًا ممن تقدم الإمام بالخلافة ... يضاف لذلك أنه حتى في الفترة الثانية - أي في عهود الأمويين - كان معظم الشيعة يتورعون عن شتم أحد من الصحابة أو التابعين». ويقول الدهلوي (¬1): «ولما ظهرت [أي السبئية]، ما ارتضى الشيعة المخلصون بلقب (الشيعة)، فتركوه تحرزًا عن الالتباس، وكراهة للاشتراك الأسمى مع أولئك الأرجاس، ولقبوا أنفسهم بأهل السنة والجماعة. فما وقع في بعض الكتب من أن فلانًا كان من الشيعة مثلًا لا ينافي ما وقع في غيرها من أنه من رؤساء أهل السنة والجماعة، حيث إن المراد بالشيعة هناك الشيعة الأولى، وكان أهل السنة منهم، وكيف لا وهم يرون فرضية حب أهل البيت؟!» اهـ. ... تبرؤ شيعي: طالما كانت هناك محاولات من قبل كُتَّاب الرافضة للتبرؤ من عبد الله بن سبأ بزعم أنه شخصية وهمية لا وجود لها اخترعها أهل السنة للتشنيع على الشيعة، وتابعهم في القول بنفي وجوده عدد من كُتَّاب أهل السنة الذين يجهلون ما يرمي إليه الرافضة من إنكارهم لهذه الشخصية. وعبد الله بن سبأ هو أحد الأسباب التي ينقم من أجلها أغلب الشيعة على أهل السنة. ولا شك أن الذين تحدثوا عن ابن سبأ من أهل السنة لا يحصون كثرة ولكن لا يعول الشيعة عليهم لأجل الخلاف معهم. ولكن نقول لهم: أثبت كثير من مؤرخي الشيعة ومحدثيهم هذه الشخصية في كتبهم في القديم وفي الحديث أيضًا، وعلى سبيل المثال لا الحصر: - روى المجلسي (1037 - 1111هـ) (¬2): «... وانصرف القوم الذين كانوا من أهل ساباط إلى أهلهم وأخبروهم بما كان وبما جرى، فاضطربوا واختلفوا في معنى أمير ¬

(¬1) محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (7). (¬2) محمد باقر المجلسي: بحار الأنوار (41/ 214).

المؤمنين، فقال المخلصون منهم: إن أمير المؤمنين - عليه السلام - عبد الله ووليه ووصي رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال بعضهم: بل هو النبي صلى الله عليه وآله، وقال بعضهم: بل هو الرب، وهو عبد الله بن سبأ وأصحابه». - ويقول النوبختي (ت. 310هـ) (¬1): «فلما قُتل علي - عليه السلام - افترقت الأمة التي أثبتت له الإمامة من الله ورسوله فرضًا واجبًا فصاروا فرقًا ثلاثة: فرقة منها قالت: إن عليًا لم يُقتل ولم يمت ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملأ الأرض عدلًا وقسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا، فهي أول فرقة قالت في الإسلام بالوقف بعد النبي صلى الله عليه وآله من هذه الأمة، وأول من قال منها بالغلو. وهذه الفرقة تسمى (السبأية) أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وقال إن عليًا - عليه السلام - أمره بذلك، فأخذه علي فسأله عن قوله هذا فأقر به، فأمر بقتله، فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين! أتقتل رجلًا يدعو إلى حبكم أهل البيت، وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك؟ فسيَّره إلى المدائن. وحكى جماعة من أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهوديًا فأسلم ووالى عليًا وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى - عليه السلام - بهذه المقالة، فقال في إسلامه في علي بن أبي طالب بمثل ذلك، وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي - عليه السلام - وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه وأكفرهم، فمن هاهنا قال من خالف الشيعة: إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية». - ويقول ابن أبي الحديد الرافضي المعتزلي (ت. 656هـ) (¬2): «وأول من جهر بالغلو في أيامه عبد الله بن سبأ»، ويقول أيضًا (¬3): «فلما قُتل أمير المؤمنين - عليه السلام - أظهر مقالته ¬

(¬1) الحسن بن موسى النوبختي: فرق الشيعة، ص (32 - 3). (¬2) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة (5/ 5) باب ذكر الخبر عند ظهور الغلاة. (¬3) السابق (5/ 7). يقول محمود شكري الألوسي رحمه الله: «قال الجد قدَّس الله روحه [وهو الشهاب محمود الألوسي (1217 - 1270هـ) صاحب تفسير (روح المعاني)]: وعندي أن ابن أبي الحديد في بعض عباراته - وكان يتلون تلون الحرباء - كان من هذه الفرقة - أي الشيعة الغلاة القائلين بألوهية علي - رضي الله عنه -، وكم له في قصائده السبع الشهيرة من هذيان، كقوله يمدح أمير المؤمنين - رضي الله عنه -: "ألا إنما الإسلام لولا حسامه كعطفة عنز أو قلامة ظافر"، وقوله أيضًا: "يجل عن الأعراض والأين والمتى ويكبر عن تشبيهه بالعناصر)». يقول محب الدين الخطيب تعليقًا: «وأصرح من ذلك في شرك ابن أبي الحديد ووثنيته، قوله يخاطب عليًا - رضي الله عنه -: تقيلتَ أخلاق الربوبية التي عذرت بها من شك أنك مربوب» اهـ[محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (9 - 10)].

عام الجماعة (41هـ)

وصارت له طائفة وفرقة يصدقونه ويتبعونه». - وقد ذكره محمد بن عمر الكَشي (ت. 350هـ) في (الرجال) (¬1)، وكذا ابن المطهر الحُلِّي (¬2) وحسن بن داود الحلي (647 - 707هـ) (¬3) وأبو جعفر الطوسي (385 - 460هـ)، والذي عقَّب بقوله (¬4): «عبد الله بن سبأ غالٍ ملعون حرقه أمير المؤمنين علي - عليه السلام - بالنار، كان يزعم أن عليًا - عليه السلام - إله، وأنه نبي، ذكره الكشي في رجاله وروى في ذمه روايات عديدة، وقد ألفت في ترجمة عبد الله بن سبأ مؤلفات عديدة تنم عن ذمه وأنه ملعون». - ويقول علي آل محسن (¬5): «إن المشهور الذي كاد أن يكون إجماعًا بين علماء وفقهاء الإمامية، أن عبد الله بن سبأ شخصية كان لها وجود، وقد نص العلماء قديمًا وحديثًا على ذلك في كتبهم الرجالية المعروفة» اهـ. ... عام الجماعة (41هـ): بعد مقتل أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله، بايع أهل الكوفة ابنه الحسن - رضي الله عنه - سنة 40هـ، وفي فترة خلافته أظهر السبئية العقائد التي طالما أخفوها خوفًا من بطش علي - رضي الله عنه -، وحذرًا من يقظته ومراقبته الأفكار الهدامة ومن يريد بثها في صفوف شيعته، ومعاقبتهم معاقبة شديدة .. يقول النوبختي (¬6): «ولما بلغ عبد الله بن سبأ وأصحابه وهو بالمدائن نعي علي قال للذي نعاه: كذبت يا عدو الله، ولو ¬

(¬1) رجال الكشي، ص (70). (¬2) رجال الحلي (خلاصة الأقوال في معرفة الرجال)، ص (237). (¬3) رجال ابن داود، ص (254). (¬4) رجال الطوسي، ص (51). (¬5) علي آل محسن: لله وللحقيقة، ص (37)، فصل: عبد الله بن سبأ. (¬6) النوبختي: فرق الشيعة، ص (33).

جئتنا بدماغه في سبعين صرة، وأقمت على قتله سبعين عدلًا ما صدقناك، ولعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل، وأنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملك الأرض. ثم مضى وأصحابه من يومهم حتى أناخوا بباب علي، فاستأذنوا عليه استئذان الواثق بحياته، الطامع في الوصول إليه، فقال لهم من حضره من أهله وأصحابه وولده: سبحان الله! أما علمتم أن أمير المؤمنين قد استشهد؟ قالوا: إنا لنعلم أنه لم يقتل، ولا يموت حتى يسوق العرب بسيفه وسوطه، كما قادهم بحجته وبرهانه، وإنه ليسمع النجوى ويلمع في الظلام كما يلمع السيف الصقيل الحسام!». وكذا قال الشهرستاني (479 - 548هـ) (¬1): «إنما أظهر عبد الله بن سبأ هذه المقالة بعد انتقال علي - رضي الله عنه - واجتمعت عليه جماعة» اهـ. ولقد حاربهم الحسن - رضي الله عنه - وحارب أفكارهم وعقائدهم، ولكن - والقول لإحسان إلهي ظهير رحمه الله (1941 - 1987م) - (¬2) «لم يكن محاربته إياهم مثل محاربة أبيه، فبدأ السبئية يزرعون بذور الفتنة والفساد، ويبثون سموم الخلاف والشقاق والفرقة بكل حرية وانطلاقة». ولقد كان حكم الحسن - رضي الله عنه - لمدة ستة أشهر، ثم تنازل لمعاوية - رضي الله عنه - بالخلافة، حقنًا لدماء المسلمين وإخمادًا لنار الفتنة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (¬3). قال ابن كثير (¬4): «فانتهى الحال إلى أن خلع الحسن نفسه من الخلافة وسلم الملك إلى معاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك في ربيع الأول من هذه السنة 41هـ، ودخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس خطبة بليغة بعدما بايعه الناس. واستوثقت له الممالك شرقًا وغربًا، وبعدًا وقربًا، وسمي هذا العام عام الجماعة لاجتماع الكلمة فيه على أمير واحد ¬

(¬1) عبد الكريم الشهرستاني: المِلَل والنِحَل (1/ 174). (¬2) إحسان إلهي ظهير: الشيعة والتشيع، ص (150). (¬3) رواه البخاري، كتاب الصلح: 2704 (¬4) ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 21).

مناقب أمير المؤمنين معاوية - رضي الله عنه -

بعد الفرقة»، وقال (¬1): «فلما استقرت الخلافة لمعاوية كان الحسين يتردد إليه مع أخيه الحسن فيكرمهما معاوية إكرامًا زائدًا ويقول لهما: مرحبًا وأهلًا، ويعطيهما عطاء جزيلًا». وقد ذكر رحمه الله أنه «لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس في الفضل والفقه والعلم. وفي رواية أنها قالت له: بالأمس تقاتلنه واليوم تبكينه؟» اهـ (¬2). مناقب أمير المؤمنين معاوية - رضي الله عنه -: وهذا يدفعنا أن نذكر على عجالة بعض مناقب أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وعن أبيه، ليتبين لنا ما يفعله المبطلون من تشويه للحقائق وقلب للأمور رأسًا على عقب: قال ابن كثير رحمه الله: «قال ابن عساكر: وأصح ما روي في فضل معاوية حديث أبي جمرة عن ابن عباس، أنه كان كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلم، أخرجه مسلم في صحيحه، وبعده حديث العرباض: "علِّم معاوية الكتاب"، وبعده حديث ابن أبي عميرة: "اللهم اجعله هاديًا مهديًا"، قلت: وقد قال البخاري في كتاب المناقب: ذكر معاوية بن أبي سفيان: حدثنا ابن مريم ثنا نافع بن عمر ثنا ابن أبي مليكة: قال: قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ ما أوتر إلا بواحدة، قال: أصاب، إنه فقيه (¬3)، وسُئِل عبد الله بن المبارك: أيهما أفضل، معاوية أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز، وقال أيضًا: ماذا أقول في رجل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمع الله لمن حمده، فقال معاوية: ربنا ولك الحمد، وسُئِل المعافى بن عمران: أيهما أفضل، معاوية أم عمر بن عبد العزيز؟ فغضب وقال للسائل: أتجعل رجلًا من الصحابة مثل رجل من التابعين، معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحيه (¬4). ¬

(¬1) السابق (8/ 150 - 1) باختصار. (¬2) السابق (8/ 130). (¬3) ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 122 - 3). (¬4) السابق (8/ 130).

الشيعة بعد عام الجماعة

وقال الأعمش عن مجاهد، إنه قال: لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي (¬1)، وقال رجل لمعاوية: يا أمير المؤمنين ما أحلمك؟ فقال: إني لأستحيي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد في رعيتي (¬2)» اهـ. ... الشيعة بعد عام الجماعة: يذكر النوبختي أنه بعد الصلح «لزمت فرقة القول بإمامة الحسن بن علي بعد أبيه إلا شرذمة منهم، فإنه لما وادع الحسن معاوية وأخذ منه المال الذي بعث به إليه على الصلح طعنوا فيه وخالفوه ورجعوا عن إمامته، فدخلوا في مقالة جمهور الناس، وبقي سائر أصحابه على القول بإمامته إلى أن قُتِل، فإنه لما تنحى عن محاربة معاوية وانتهى إلى مظلم ساباط، وثب عليه رجل من بني أسد يقال له الجرَّاح بن سنان، فأخذ بلجام دابته، ثم قال: الله أكبر! أشركت كما أشرك أبوك من قبل! وطعنه بمغول في أصل فخذه، فقطع الفخذ إلى العظم، فاعتنقه الحسن وخرَّا جميعًا، فاجتمع الناس على الجرَّاح فوَطِئُوه حتى قتلوه، ثم حملوا الحسن على سرير وقد أثخنته الجراح، فأتوا به إلى المدائن، فلم يزل يعالج بها في منزل سعد بن مسعود الثقفي حتى صحت جراحته، ثم انصرف إلى المدينة، فلم يزل جريحًا من طعنته، سقيمًا في جسمه، كاظمًا لغيظه، متجرعًا لريقه على الشجا والأذى من أهل دعوته، حتى توفي - عليه السلام - في آخر صفر من سنة سبع وأربعين، وهو ابن خمس وأربعين سنة وستة أشهر» اهـ (¬3). ويمكن لنا القول بأن شيعة علي - رضي الله عنه - افترقت بعد عام الجماعة إلى ثلاث فرق: فرقة تركوا التشيع ولحقوا بركب أهل السنة وثبتوا مع الحسن بعد هذا الصلح وبايعوا معاوية - رضي الله عنه -، وأطاعوه وأخلصوا له الوفاء طيلة حياتهم، وفرقة قالت بإمامة الحسين من ¬

(¬1) السابق (8/ 132). (¬2) السابق (8/ 135). (¬3) النوبختي: فرق الشيعة، ص (36).

وفاة أمير المؤمنين معاوية - رضي الله عنه - وخلافة يزيد

بعد الحسن رضي الله عنهما، ومنها انبثقت الإسماعيلية والإمامية الاثنا عشرية، وفرقة مالت عن الحسن والحسين وقالت بإمامة محمد بن الحنفية، وعرفت بعد ذلك بالكيسانية .. وبين هذه وتلك منازل شتى. ولكن قبل أن نستطرد في الحديث عن الفرقة الثانية، نقف مع خلافة يزيد بن معاوية وبعض ما أثير حولها من إشكالات، وما تبعها من أحداث .. ... وفاة أمير المؤمنين معاوية - رضي الله عنه - وخلافة يزيد: توفي أمير المؤمنين معاوية - رضي الله عنه - بدمشق في رجب سنة ستين، وكان ابنه يزيد غائبًا فصلى عليه الضحاك بن قيس بعد صلاة الظهر بمسجد دمشق، ثم دفن، قيل بدار الإمارة وهي الخضراء، وقيل بمقابر باب الصغير، وعليه الجمهور فالله أعلم. ولما حضر يزيد ترجل عند القبر ثم دخل فصلى على أبيه بعد ما دفن ثم انفتل. فلما خرج من المقبرة أتى بمراكب الخلافة فركب، ثم دخل البلد وأمر فنودي في الناس إن الصلاة جامعة، ودخل الخضراء فاغتسل ولبس ثيابًا حسنة، ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين - وكان معاوية - رضي الله عنه - قد أوصى له بالخلافة - فقال بعد حمد الله والثناء عليه: «أيها الناس، إن معاوية كان عبدًا من عبيد الله أنعم الله عليه ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده ودون من قبله ولا أزكيه على الله - عز وجل -، فإنه أعلم به، إن عفا عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه، وقد وليت الأمر من بعده، ولست آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئًا كان»، وقال لهم في خطبته هذه: «وإن معاوية كان يغزيكم في البحر، وإني لست حاملًا أحدًا من المسلمين في البحر، وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم ولست مشتيًا أحدًا بأرض الروم، وإن معاوية كان يخرج لكم العطاء أثلاثًا، وأنا أجمعه لكم كله»، فافترق الناس عنه وهم لا يفضلون عليه أحدًا (¬1). وفي هذه الخطبة شرح يزيد سياسته في قيادة الأمة، ووضح خطته التي سيلتزمها أثناء خلافته، وهي سياسة استطاع أن يكسب بها قلوب أهل الشام، وقد أجمعت غالبية الأمة ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 143) بتصرف يسير.

ولماذا أوصى معاوية - رضي الله عنه - لابنه يزيد بالخلافة؟

على بيعة يزيد، أو بمعنى آخر جددت له البيعة بعد وفاة أبيه، ولم يعارض إلا الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما (¬1). ولماذا أوصى معاوية - رضي الله عنه - لابنه يزيد بالخلافة؟ يقول محب الدين الخطيب (¬2): «مبدأ الشورى في انتخاب الخليفة أفضل بكثير من مبدأ ولاية العهد. لكن معاوية كان يعلم بينه وبين نفسه أن فتح باب الشورى في انتخاب من يخلفه سيحدث في الأمة الإسلامية مجزرة لا ترفأ فيها الدماء إلا بفناء كل ذي أهلية في قريش لولاية شيء من أمور هذه الأمة. ومعاوية أحصف من أن يخفى عليه أن المزايا موزعة بين هؤلاء الشباب القرشيين، فإذا امتاز أحدهم بشيء منها على أضرابه ولداته، فإن فيهم من يمتاز عليه بشيء آخر منها. غير أن يزيد - مع مشاركته لبعضهم في بعض ما يمتازون به - يمتاز عليهم بأعظم ما تحتاج إليه الدولة، أعني القوة العسكرية التي تؤيده إذا تولى الخلافة، فتكون قوة الإسلام. كما تؤيده إذا أوقع الشيطان الفتنة على هذا الكرسي بين المتزاحمين عليه، فيكون ما لا يحب كل مسلم أن يكون». ويقول محمد الخضري بك (1872 - 1927م) (¬3): «إن هذه الطريقة كانت لازمة في هذه المرحلة لصلاح أمر المسلمين ولمّ شعثهم، فإن الطامعين في الخلافة كثيرون وكلهم جديرون بها ... بالإضافة إلى اتساع المملكة الإسلامية وصعوبة المواصلات بين أطرافها، وعدم وجود قوم معينين يرجع إليهم الانتخاب، فإن الاختلاف لا بد واقع، ونحن نشاهد أنه مع تفوق بني عبد مناف على سائر قريش واعتراف الناس لهم بذلك، وهم جزء صغير من قريش، فإنهم تنافسوا الأمر وأهلكوا الأمة بينهم، فلو رضي الناس عن أسرة ودانوا لها بالطاعة، واعترفوا باستحقاق الولاية لكان هذا خير ما يفعل لضم شعث المسلمين ... إن أعظم من ينتقد معاوية في تولية ابنه هم الشيعة، مع أنهم يرون انحصار الأمر في آل علي، ويسوقون الخلافة في بنيه يتركها الأب منهم للابن، وبنو ¬

(¬1) د. علي الصلابي: خلافة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -، ص (35 - 6). (¬2) انظر، هامش (العواصم من القواصم)، لابن العربي، ص (215). (¬3) محمد الخضري بك: الدولة الأموية، ص (318).

العباس أنفسهم ساروا على هذه الخطة فجعلوا الخلافة حقًا من حقوق بيتهم لا يعدوهم إلى غيرهم، والنتيجة أن ما فعله معاوية كان أمرًا لا بد منه مع الحال التي كانت عليها الأمة الإسلامية». ويقول ابن خلدون (¬1): «والذي دعا معاوية - رضي الله عنه - لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع واتفاق أهوائهم، باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواه وهم عصابة قريش وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع، وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا، لعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة» اهـ. ولقد ركَّز يزيد في أخذ البيعة من النفر الذين لم يبايعوه في حياة أبيه، وكان أهمهم عنده الحسين بن علي، وكان إصرار يزيد على طلب البيعة من الحسين وابن الزبير رضي الله عنهما هو الشرارة الأولى في الفتنة التي اندلعت بين المسلمين، فقد شعر كل منهما بأنه مطلوب، وأنه إذا لم يبايع فسيكون ضحية طيش يزيد، وأن سيوف أعوان الخليفة الجديد أصبحت مسلولة عليهما، فعادا إلى البيت الحرام، ولجآ إلى مكة المكرمة يطلبان فيها الأمان، ويحتميان بحمى الله فيها، ولئن أصاب يزيد حين أبقى عمال أبيه على الولايات ليضمن استقرار الأمور فيها، فقد خانته عبقريته في إصراره على طلب البيعة من الحسين وابن الزبير، حيث كان إصراره هذا موحيًا بعدم تأمين الحياة لهما، وبأن بقاءهما في عهد يزيد محفوف بالمخاطر، وذلك أدى بهما إلى أن يبحثا عن الأمان، ولم يجداه إلا في تجييش أنصارهما، وحشدهم في مكان يصعب على يزيد وأعوانه أن يقتحموه، وكان ذلك في مكة المكرمة، في جوار بيت الله الذي قال فيه: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (¬2)، ولم يكن لهذا التجمع وذلك الحشد نتيجة سوى المواجهة التي أودت بحياة الآلاف من المسلمين، وكان على رأس هؤلاء جميعًا الحسين بن علي - رضي الله عنه - حيث قُتِل في كربلاء ¬

(¬1) مقدمة ابن خلدون، ص (263). (¬2) آل عمران: 97

موقف أهل السنة من يزيد بن معاوية

شهيدًا على يد فئة ظالمة من جيوش يزيد (¬1)، وكانت كما قال - رضي الله عنه -: «كربٌ وبلاء» (¬2). لقد كانت غلطة من يزيد بدأ بها حياته، وظلت تلاحقه حتى مماته، ولم يستطع التخلص منها، وبدأت سلسة الأخطاء تتوالى في حياة الخليفة، وكلما ادلهمت الأمور من حوله، عظمت الأخطاء، وتضخمت المشكلات، وكلما أراد حل مشكلة، عرض لها بمشكلة أخطر منها وأفظع، فمن الإصرار على عدم البيعة إلى تكوين جبهة معارضة تستعد للقتال، ومنها إلى معركة كربلاء، ثم تتمخض هذه المعركة عن قتل ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتؤدي إلى غضب المسلمين، وإعلان ابن الزبير - رضي الله عنه - الخروج على الخليفة، وتستمر العداوة والبغضاء حتى تكون وقعة الحرّة (63هـ)، وتتشوه صورة الخليفة في أعين المسلمين، ثم يتوفى بعد ذلك بقليل، أين غاب حلم معاوية عن ولي عهده؟ أغلب الظن أن الذي ورط يزيد في هذه الأخطاء الشنيعة هو غياب المستشارين الحكماء عن مجلسه، وحداثه سنه، وقلة خبرته. كما أن يزيد كان يفتقد حلم أبيه، وتنقصه قوة إرادته في الحلول السلمية. لقد كانت الكوارث الكبرى في عهد يزيد: مقتل الحسين - رضي الله عنه -، ووقعة الحرّة بالمدينة، وحصار مكة للوصول لابن الزبير، لقد وصم يزيد عهده بوصمة لن يمحوها ماء البحار، ولن تزيل حرارتها عذوبة الأنهار (¬3). موقف أهل السنة من يزيد بن معاوية: بداءة، فإن الكلام في الناس كما يقول ابن تيمية (¬4) «يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع»؛ يقول شيخ الإسلام رحمه الله (¬5): «افترق الناس في يزيد بن معاوية إلى ثلاث فرق: طرفان ووسط. ¬

(¬1) د. علي الصلابي: خلافة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -، ص (38). (¬2) انظر، ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 170). (¬3) د. علي الصلابي: خلافة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -، ص (38 - 9). (¬4) ابن تيمية: منهاج السنة (4/ 337). (¬5) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 481 - 3) باختصار.

فأحد الطرفين قالوا: إنه كان منافقًا خالصًا، وإنه سعى في قتل سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تشفيًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتقامًا منه، وأخذًا بثأر جده عتبة، وأخي جده شيبة، وخاله الوليد بن عتبة، وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر وغيرها، وقالوا: تلك أحقاد بدرية، وآثار جاهلية، وأشياء من هذا النمط. والطرف الثاني: يظنون أنه كان رجلًا صالحًا وإمامَ عدلٍ، وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وكلا القولين ظاهر البطلان عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور وسير المتقدمين. والقول الثالث: أنه كان ملكًا من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يولد إلا في خلافة عثمان، ولم يكن كافرًا، ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين، وفعل ما فعل بأهل الحرَّة، ولم يكن صاحبًا ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة. ثم افترقوا ثلاث فرق: فرقة لعنته، وفرقة أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد، وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين. قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: إن قومًا يقولون: إنهم يحبون يزيد، فقال: يا بني، وهل يحب يزيدَ أحدٌ يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا أبت، فلماذا لا تلعنه؟ فقال: يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا؟!». ولما سُئِلَ شيخ الإسلام «ما تقولون في يزيد؟ قال: لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلًا صالحًا فنحبه، ونحن لا نسب أحدًا من المسلمين بعينه. ولما قيل له: أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالمًا؟ أما قتل الحسين؟ فقال: نحن إذا ذُكِرَ الظالمون - كالحجاج بن يوسف وأمثاله - نقول كما قال الله في القرآن: {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (¬1)، ولا نحب أن نلعن أحدًا بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن ذلك القول أحب إلينا وأحسن» اهـ (¬2). ¬

(¬1) هود: 18 (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 487) باختصار.

وأما ما يدوَّن في كتب المبتدعة من ادعاء أنه أهان نساء آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنهن أُخِذن إلى الشام مسبيات، وأُهِنَّ هناك ... فهذا كله كلام باطل لا أصل له، يقول شيخ الإسلام (¬1): «إن يزيد لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل، ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق، والحسين - رضي الله عنه - كان يظن أن أهل العراق ينصرونه ويفون له بما كتبوا إليه (¬2)، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل، فلما قتلوا مسلمًا وغدروا به وبايعوا ابن زياد أراد الرجوع، فأدركته السرية الظالمة، فطلب أن يذهب إلى يزيد أو يذهب إلى الثغر أو يرجع إلى بلده، فلم يمكنوه من شيء من ذلك حتى يستأسر لهم، فامتنع فقاتلوه حتى قتل شهيدًا مظلومًا - رضي الله عنه -، ولما بلغ ذلك يزيد أظهر التوجع على ذلك وظهر البكاء في داره، ولم يسب له حريمًا أصلًا، بل أكرم أهل بيته وأجازهم حتى ردهم إلى بلدهم». كذلك يقول رحمه الله (¬3): «وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صَرْفًا ولا عَدْلا». ويقول الحافظ ابن كثير (¬4): «قد أخطأ يزيد خطأ فاحشًا في قوله لأميره مسلم بن عقبة في وقعة الحرَّة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام، وهذا خطأ كبير فاحش، مع ما انضم إلى ذلك من قتل خلق من الصحابة وأبنائهم» اهـ. ولكن صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أول جيش من أمتي يركبون البحر قد أوجبوا، وأول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم» (¬5)، وكان هذا الجيش بقيادة يزيد بن معاوية، وذلك - كما يذكر ابن حجر - سنة 52هـ (¬6). فخلاصة القول: أن أمره إلى الله تبارك وتعالى، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ¬

(¬1) ابن تيمية: منهاج السنة (4/ 472). (¬2) ولكنهم كما قال عنهم الفرزدق الشاعر (38 - 110هـ) للحسين - رضي الله عنه -: «القلوب معك والسيوف مع بني أمية». [ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 167)]. (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 487) باختصار. (¬4) ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 222). (¬5) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير: 2924 (¬6) انظر، ابن حجر: فتح الباري (6/ 102 - 3).

رأي الإمام ابن تيمية في خروج الحسين - رضي الله عنه -

وتلميذه الحافظ الذهبي (¬1): «لا نسُبُّه ولا نُحِبُّه» اهـ. رأي الإمام ابن تيمية في خروج الحسين - رضي الله عنه -: قال ابن تيمية رحمه الله: «لما أراد الحسين - رضي الله عنه - أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبًا كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج، وغلب على ظنهم أنه يُقتَل، حتى إن بعضهم قال: أستودعك الله من قتيل. وقال بعضهم: لولا الشفاعة لأمسكتك ومصلحة المسلمين، والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد لكن الرأي يصيب تارة ويخطئ أخرى، فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قتلوه مظلومًا شهيدًا، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار ذلك سببًا لشر عظيم. وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن، كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن، وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد، ولهذا أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على الحسن بقوله: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (¬2)، ولم يثن على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نزع يد من طاعة، ولا مفارقة للجماعة» اهـ (¬3). ... ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء (4/ 36). (¬2) رواه البخاري، كتاب الصلح: 2704 (¬3) ابن تيمية: منهاج السنة (4/ 530 - 1) .. يقول الدكتور عبد الله بن عمر الدميجي: «الخروج في العرف الشرعي كلمة تطلق على أحوال متفاوتة، وتسري عليها أحكام مختلفة؛ فقد يكون المراد بالخروج هو عدم الإقرار بإمامة الإِمام، وقد يكون بالتحذير منه ومن طاعته ومساعدته والدخول عليه، وقد يراد به المقاتلة والمنابذة بالسيف، وهذا الأخير هو المراد في أكثر عبارات السلف حينما ينصُّون على تحريم الخروج والنهي عنه عند ذكر عقائدهم. وبناء على تفاوت هذه الأحوال؛ فإنه تعتريه الأحكام الخمسة، نظرًا لاختلاف الأسباب والملابسات، فقد يكون محرمًا وكبيرة من الكبائر، وقد يكون مكروهًا، وقد يكون مباحًا، وقد يكون مندوبًا، وقد يكون واجبًا، لذلك فمن الخطأ إطلاق القول فيه بحكم خاص دون مراعاة للأسباب والملابسات الداعية إلى ذلك. ولهذا فإنه عند إرادة إطلاق الحكم الشرعي على هذه القضية فإنه يجب أن ينظر إلى جميع أطرافها بالمنظار الشرعي، ومن ثم يتبين الحكم» اهـ[من كتابه: الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة، (ص490 - 1)، دار طيبة، ط. الثانية].

جيش التوابين

جيش التوابين: بعد موت يزيد بن معاوية وفرار عبيد الله بن زياد، عم الاضطراب أنحاء البلاد، وشرع أنصار الحسين يتصلون ببعضهم البعض بهدف وضع خطة للثأر لدمه، إذ بعد استشهاده هزتهم الفاجعة، وندموا على تقاعسهم عن نصرته والدفاع عنه، معترفين بخطيئتهم بحماسة شديدة، لذلك لم يجدوا وسيلة يكفرون بها عن هذا التقصير، ويتوبون إلى الله بها من هذا الذنب الكبير سوى الثأر للحسين (¬1). وأخذوا يعقدون الاجتماعات برئاسة سليمان بن صرد الخزاعي - رضي الله عنه - لدراسة الموقف، وأسلوب العمل الذي سيتبعونه، وغلب على هذه الاجتماعات موضوع التوبة والغفران، ثم شرعوا في تجييش الناس، وخرج التوابون من معسكرهم في النخيلة في شهر ربيع الأول 65هـ. يقول ابن كثير رحمه الله (¬2): «وقد كان سليمان بن صرد الخزرجي صحابيًا جليلًا نبيلًا عابدًا زاهدًا، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث فى الصحيحين وغيرهما وشهد مع علي صِفِّين، وكان أحد من كان يجتمع الشيعة في داره لبيعة الحسين، وكتب إلى الحسين فيمن كتب بالقدوم إلى العراق، فلما قدمها تخلوا عنه، وقُتِلَ بكربلاء بعد ذلك، ورأى هؤلاء أنهم كانوا سببًا في قدومه، وأنهم خذلوه حتى قتل هو وأهل بيته، فندموا على ما فعلوه معه، ثم اجتمعوا في هذا الجيش وسموا جيشهم جيش التوابين، وسموا أميرهم سليمان بن صرد أمير التوابين، فقُتِل سليمان - رضي الله عنه - في موقعة عين وردة سنة خمس وستين، وقيل سنة سبع وستين، والأول أصح، وكان عمره يوم قتل ثلاثًا وتسعين سنة رحمه الله» اهـ. ¬

(¬1) د. علي الصلابي: خلافة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -، ص (94) بتصرف يسير. (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 255) بتصرف يسير.

أسباب فشل حركة التوابين

أسباب فشل حركة التوابين: يحصرها الدكتور علي الصلابي في عدة نقاط، نذكر منها (¬1): - قلة عددهم إذا قورنوا بجيش الشام، فكان عدد التوابين أربعة آلاف مقاتل، بينما كان جيش خصومهم الذين اشتبكوا معهم عشرين ألفًا، عدا من كان ينتظر مع عبيد الله بن زياد على سبيل الاحتياط. - ضعف التوابين من الناحية العسكرية، فلا نستطيع أن نقارن أي واحد من قادة التوابين بقدرة ابن زياد من حيث الخبرة والقدرة العسكرية. - تخاذل بعض التوابين عن الاشتراك، فعندما أحصى ابن صرد من بايعوا وجدهم ستة عشر ألفًا عدا أهل المدائن والبصرة الذين لم يتم تنسيقهم مع الآخرين، مع أن المشتركين في القتال هم أربعة آلاف. - تثبيط المختار الثقفي الناس عن سليمان بن صرد - رضي الله عنه -. في ثقيف كذاب ومبير: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2): «وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سيكون في ثقيف كذاب ومبير" (¬3)، فكان الكذاب المختار بن أبي عبيد [1 - 67هـ]، وكان يتشيع للحسين، ثم أظهر الكذب والافتراء على الله. وكان فيها الحجاج بن يوسف [41 - 95هـ]، وكان في انحراف عن علي وشيعته، وكان مبيرًا» اهـ. ولقد ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي على مسرح الأحداث بعد موت يزيد بن معاوية، وكان ممن وقعوا في شباك السبئية، فأظهر نفس العقائد التي تلقنها من عبد الله بن سبأ اليهودي الماكر الخبيث، ولم يجد ورقة رابحة لنشر أفكاره سوى الادعاء بالمطالبة بدم الحسين - رضي الله عنه - وآل البيت، فتولى قيادة جيش التوابين بعد مقتل سليمان بن ¬

(¬1) د. علي الصلابي: خلافة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -، ص (96) باختصار. (¬2) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، ص (349). (¬3) مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 2545، والمبير: المهلك.

صرد - رضي الله عنه -، وادعى أن لديه تفويضًا بذلك من محمد بن علي بن أبي طالب الملقب بمحمد بن الحنفية، وكان على جانب من الذكاء والفطنة مراوغًا ماكرًا غير صادق في تشيعه، بل قرر أن يركب تيار التشيع ليصل إلى هدفه وهو الحكم والسلطان بأي وجه. وإليه تنسب الفرقة الكيسانية، ولقب كيسان المنسوب إليه مختلف في أصله، يقول عبد القاهر البغدادي (ت. 429هـ) (¬1): «وكان المختار يقال له كيسان، وقيل إنه أخذ مقالته عن مولى لعلي - رضي الله عنه - كان اسمه كيسان». ويقول النوبختي (¬2): «وهو [المختار] الذي طالب بدم الحسين بن علي وثأره، حتى قتل قتَلَتَه ... وادَّعى أن محمد بن الحنفية أمره بذلك، وأنه الإمام بعد أبيه. وإنما لقِّب المختار كيسان بصاحب شرطته المكنى بأبي عمرة، وكان اسمه كيسان، وكان أشد إفراطًا في القول والفعل والقتل من المختار، وكان يقول إن محمد بن الحنفية وصي علي بن أبي طالب، وإنه الإمام، وإن المختار وصي محمد بن الحنفية وعامله» اهـ. قال ابن كثير (¬3): «لما رجع أصحاب سليمان بن صرد مغلوبين إلى الكوفة وجدوا المختار بن أبى عبيد مسجونًا فكتب إليهم يعزيهم في سليمان بن صرد ويقول: أنا عوضه، وأنا أقتل قتلة الحسين، فكتب إليه رفاعة بن شداد وهو الذي رجع بمن بقي من جيش التوابين: نحن على ما تحب. فشرع المختار يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا، وقال لهم فيما كتب به إليهم خفية: أبشروا، فإني لو قد خرجت إليهم جردت فيما بين المشرق والمغرب من أعدائكم السيف فجعلتهم بإذن الله ركامًا وقتلهم أفرادًا وتوأما، فرحب الله بمن قارب منهم واهتدى، ولا يبعد الله إلا من أبى وعصى. فلما وصلهم الكتاب قرءوه سرًا وردوا إليه إنا كما تحب، فمتى أحببت أخرجناك من محبسك (¬4)، فخرج واجتمعت الشيعة عليه وكثر أصحابه وبايعوه في السر». ¬

(¬1) عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفِرَق، ص (27). (¬2) النوبختي: فرق الشيعة، ص (33 - 4). (¬3) ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 264) بتصرف يسير. (¬4) كان قد حبسه عبيد الله بن زياد وضربه مائة جلدة لعزمه على نصرة مسلم بن عقيل، فأرسل ابن عمر - رضي الله عنه - إلي يزيد بن معاوية يتشفع فيه، فأرسل يزيد إلى ابن زياد فأطلقه.

ثم يعلق رحمه الله بقوله (¬1): «وهذا المقام للشيعة فيه غرام وأي غرام، إذ فيه الأخذ بثأر الحسين وأهله من قتلتهم والانتقام منهم، ولا شك أن قتل قتلته كان متحتمًا، والمبادرة إليه كانت مغنمًا، ولكن إنما قدَّره الله على يد المختار الكذاب الذي صار بدعواه إتيان الوحي إليه كافرًا، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " (¬2)، وقال تعالى في كتابه الذي هو أفضل ما يكتبه الكاتبون: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬3)، وقال بعض الشعراء: ما من يد إلا يد الله فوقها ... ولا ظالم إلا سيُبلى بظالم وسيأتي في ترجمة المختار ما يدل على كذبه وافترائه، وادعائه نصرة أهل البيت، وهو في نفس الأمر متستر بذلك ليجمع عليه رعاعًا من الشيعة الذين بالكوفة، ليقيم لهم دولة ويصول بهم ويجول على مخالفيه صولة». ويترجم ابن كثير للمختار الثقفي فيقول (¬4): هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عميرة بن عوف بن عفرة بن عميرة بن عوف بن ثقيف الثقفي، أسلم أبوه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، فلهذا لم يذكره أكثر الناس في الصحابة، وإنما ذكره ابن الأثير في الغابة (¬5). وقد كان عمر - رضي الله عنه - بعثه في جيش كثيف في قتال الفرس سنة ثلاث عشرة، فقتل يومئذ شهيدًا وقتل معه نحو من أربعة آلاف من المسلمين. وكان له من الولد صفية بنت أبي عبيد، وكانت من الصالحات العابدات. وهي زوجة عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكان عبد الله لها مكرمًا ومحبًا وماتت في حياته. وأما أخوها المختار هذا فإنه كان أولًا ناصبيًا (¬6) يبغض عليًا بغضًا شديدًا، فما زالت الشيعة تبغضه حتى كان من أمر مسلم بن عقيل بن أبي طالب ما كان. ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 274). (¬2) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير: 3062 (¬3) الأنعام: 129 (¬4) ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 289 - 91) باختصار. (¬5) انظر، ابن الأثير: أسد الغابة (5/ 207). (¬6) النصب لغة: إقامة الشيء ورفعُهُ، ومنه ناصب ناصِبة الشر والحرب. والنواصب هم المتدينون ببغض علي - رضي الله عنه -، لأنهم نصبوا له، أي عادوه، وهذا أصل التسمية، فكل من أبغض آل البيت فهو من النواصب.

وكان يظهر المدح لابن الزبير في العلانية ويسبه في السر، ويمدح محمد بن الحنفية ويدعو إليه، وما زال حتى استحوذ على الكوفة بطريق التشيع وإظهار الأخذ بثأر الحسين، وبسبب ذلك التفَّت عليه جماعات كثيرة من الشيعة، وأخرج ابن المطيع عامل ابن الزبير منها، واستقر ملك المختار بها، ثم كتب إلى ابن الزبير يعتذر إليه ويخبره أن ابن مطيع كان مداهنًا لبني أمية، وقد خرج من الكوفة وأنا ومن بها في طاعتك، فصدقه ابن الزبير لأنه كان يدعو إليه على المنبر يوم الجمعة على رءوس الناس ويظهر طاعته. ثم شرع في تتبع قتلة الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابن زياد، فقتل منهم خلقًا كثيرا، وظفر برءوس كبار منهم كعمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذين قتلوا الحسين، وشمر بن ذي الجوشن أمير الألف الذين ولوا قتل الحسين، وسنان بن أبي أنس، وخولي بن يزيد الأصبحي وخلق غير هؤلاء، وما زال حتى بعث سيف نقمته إبراهيم بن الأشتر في عشرين ألفًا إلى ابن زياد وكسر جيشه، واحتاز ما في معسكره، ثم بعث برأس ابن زياد ورءوس أصحابه مع البشارة إلى المختار، ففرح بذلك فرحًا شديدًا، وطابت نفس المختار بالملك، وظن أنه لم يبق له عدو ولا منازع، فلما تبين ابن الزبير خداعه ومكره وسوء مذهبه، بعث أخاه مصعبًا أميرًا على العراق، فسار إلى البصرة فجمع العساكر فما تم سرور المختار حتى سار إليه مصعب بن الزبير من البصرة في جيش هائل فقتله واحتز رأسه. ثم زالت دولة المختار كأن لم تكن، وفرح المسلمون بزوالها، وذلك لأن الرجل لم يكن في نفسه صادقًا، بل كان كاذبًا يزعم أن الوحي يأتيه على يد جبريل. قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير حدثنا عيسى القارئ أبو عمير بن السدي عن رفاعة القبابي قال: دخلت على المختار فألقى لي وسادة وقال: لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لألقيتها لك، قال: فأردت أن أضرب عنقه، قال: فذكرت حديثًا حدثنيه أخي عمر بن الحمق، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما مؤمن أمن مؤمنًا على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء» (¬1)، وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه، فقال: صدق، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} (¬2). ¬

(¬1) رواه أحمد في مسنده (5/ 224) من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي - رضي الله عنه -. (¬2) الأنعام: 121

انحراف عقدي

وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني عنده، وكان يتعاهد مبيتي بالليل، قال: فقال لي: اخرج فحدِّث الناس، فقال: فخرجت فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي؟ فقلت: الوحي وحيان، قال الله تعالى: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} (¬1)، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (¬2)، قال: فهمُّوا أن يأخذوني، فقلت: ما لكم وذاك! إني مفتيكم وضيفكم، فتركوني. وإنما أراد عكرمة أن يعرض بالمختار وكذبه في ادعائه أن الوحي ينزل عليه» اهـ. ... انحراف عقدي: يقول إحسان إلهي ظهير رحمه الله (¬3): «ومن الكيسانية تفرعت فروع كثيرة، وتفرقت فرق متعددة مثل الكرابية والحربية والرزارمية والبيانية والرواندية وأبو المسلمية والهاشمية والحارثية وغيرها، ويجمع هذه الفرق كلها القول بإمامة محمد بن الحنفية والاعتقاد بالعقائد التي زرع بذورها السبئية وعبد الله بن سبأ، الغيبة والرجعة والتناسخ (¬4) وغيرها، ¬

(¬1) يوسف: 3 (¬2) الأنعام: 112 (¬3) إحسان إلهي ظهير: الشيعة والتشيع، ص (169)، بتصرف. (¬4) تناسخ الأرواح: من العقائد الفاسدة التي يقصد بها انتقال الروح من بدن قد مات صاحبه إلى بدن آخر لمخلوق حي، إنسانًا كان أم حيوانًا، وذلك لمنح الروح الفرصة بعد الفرصة لكي تتطهر من أدرانها على أساس أن الحياة قصيرة ولا بد من إعطاء الروح وقتًا كافيًا لكي تتحرر من أخطائها. ويعرف التناسخ بتجوال الروح، أو تكرار المولد. ويعد قانون الجزاء الهندوسي (الكارما) هو الأساس الفلسفي الذي قامت عليه عقيدة التناسخ، وقد تأثر بها المانوية من المجوس، وكان من أكبر لوازمها عندهم الاعتقاد بعدم انقطاع النبوة والرسالة، فيعتقدون أنه إذا مات رسول حلت روحه في بدن آخر مختار لحمل الرسالة وتولي أدائها، وهذا ما ترك آثاره السيئة على الأمة الإسلامية فظهرت دعاوى النبوة المزعومة في التاريخ الإسلامي وبخاصة بين غلاة الشيعة. وأول من قال بتناسخ الأرواح بعد الإسلام السبئية، وذلك في محاولة منهم لتزييف المفاهيم الأساسية لحدود العلاقات بين الله تبارك وتعالى والنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وتبنى القول بهذه العقيدة الفرق الباطنية من أمثال النصيرية والدروز، إلا أنه يقتصر على الأجسام الإنسية فقط عند الدروز، وكانت من أهم الآثار الاعتقادية لنظرية التناسخ القول بالحلول .. أيضًا، فإن اليهود يؤمنون بالتناسخ، حيث يذكر تلمودهم: «بعد موت اليهودي تخرج روحه وتشغل جسمًا آخر، فإذا مات أحد الجدود تخرج روحه وتشغل أجسام نسله حديثي الولادة، وهذا التناسخ قد فعله الله رحمة باليهود، لأنه أراد سبحانه وتعالى أن يكون لكل يهودي نصيب في الحياة الأبدية» اهـ[انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (2/ 1022 - 3)، والكنز المرصود في قواعد التلمود، ص (66 - 7)].

وصار التشيع مأوى وملجأ لكل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزرادشتية وهندية، ومن كان يريد استقلال بلاده والخروج على مملكته، وكل هؤلاء كانوا يتخذون حب أهل البيت ستارًا يضعون وراءه كل ما شاءت أهواؤهم. وبدأ التشيع الأصلي يذوب، والشيعة الأولى ينقرضون إلا القليل، وعلى رأسهم أولاد علي وبنو هاشم، وبدأت أفكار السبئية تتسرب إليهم وتتغلب عليهم، خصوصًا شهادة الحسين - رضي الله عنه - جعلت الموالين لعلي وأولاده وحتى بعض الطالبيين أيضًا يحسون بالحرمان الكبير واليأس الكثير، ويجدون أنفسهم تواقة إلى الانتقام وخصوصًا قلب نظام الحكم القائم المتهم بقتل الحسين وأهله في كربلاء، وبدأ بعض الجهلة والمغفلين ينقمون كل ما يتصل بالحكام ويبغضون كل ما يرى برأيهم وحتى العقائد والمعتقدات، فلما رأى هؤلاء أن ولاة الأمر يعظمون أبا بكر وعمر وعثمان وبقية أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه أمهات المؤمنين بدءوا يتبرءون منهم ويتكلمون فيهم. لا لأنهم يجدون عليهم شيئًا، بل كرهًا لكل ما يسمعونه على المنابر وفي المحاريب. هذا وبلغ الأمر بعد تطور الشيعة إلى حد أنهم بدءوا ينكرون المسَلَّمات والأسس التي عليها يقوم المذهب الإسلامي الحنيف والشريعة السماوية السمحاء، فقط لأن الحكام يتمسكون بها ويعتقدونها، مثل القرآن، الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسنة رسول الله التي جعلها الله بيانًا لهذا القرآن» اهـ. وما أشبه هذه (المرحلية) التي مر بها تاريخ التشيع - فيما أرى - بما حدث مع قوم نوح - عليه السلام -؛ قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (¬1)، وقد روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود: كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع: كانت لهذيل، وأما يغوث: فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق: فكانت لهمدان، وأما نسر: فكانت لحِمْيَر، لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا ¬

(¬1) نوح: 23

يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخ العلم عُبِدَت» (¬1). فهذا تمامًا ما فعله الفريق الخادع من السبئية شياطين الإنس مع الفريق المخدوع؛ فلقد أخفوا على العوام أغراضهم الخبيثة، ونفخوا فيهم سمومهم، واتبعوا معهم سياسة النفس الطويل، حتى صار التشيع جيلًا بعد جيل وكأنه تنزيل من رب العالمين!! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله» (¬2)، ولقد ذكرنا ما كانت عليه شيعة علي - رضي الله عنه - بعد عام الجماعة من انقسام؛ فقلنا: إن منهم من ترك التشيع وبايع معاوية، ومنهم من ركب جواد الطبع فقال بإمامة الحسين بعد الحسن، أو مال عنهما وقال بإمامة محمد بن الحنفية. ولو كان هؤلاء وآباؤهم من أهل الاعتصام بالكتاب لما طعنوا في حق أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - (¬3)، ولما وجدتهم بعد وفاة كل إمام من أئمتهم المختارين يتصارعون حول من يخلفه، فانقسموا بذلك إلى فرق شتى، انقسامًا أشبه ما يكون بالانشطار الذرِّي! بل وصارت كل فرقة تنكر على الأخرى، بل وتُكَفِّرها. ولذلك اختلف العلماء في حصر عدد فرق الشيعة، فلا يوجد قول فصل في عددهم. يقول شاه عبد العزيز الدهلوي (¬4): «اعلم أن القدر المشترك في جميع فرق الشيعة ¬

(¬1) البخاري، كتاب تفسير القرآن: 4920 (¬2) رواه مسلم، كتاب الحج: 1218 (¬3) روى البخاري في صحيحه عن محمد بن الحنفية قوله: «قلت لأبي [أي عليّ]: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين» [البخاري، كتاب فضائل الصحابة: 3671]. يقول الشيخ العثيمين - رحمه الله - في شرح الواسطية: «صار في تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما آثار نقلية، وفيه أيضًا دليل عقلي، وهو إجماع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، فإن إجماعهم على ذلك يستلزم أن عثمان أفضل من علي وهو كذلك، لأن حكمة الله - عز وجل - تأبى أن يولى على خير القرون رجلًا وفيه من هو أفضل منه، كما جاء في الأثر: "كما تكونون يولَّى عليكم"، فخير القرون لا يولي الله عليهم إلا من خيرهم» اهـ[شرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين، ص (345)]. (¬4) محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (209).

المجمع عليه بينهم إنما هو كون الأمير - رضي الله عنه - إمامًا بلا فضل، وإمامة الخلفاء الثلاثة باطلة ولا أصل لها ... وأما بعد هذا القدر المشترك، فلهم اختلاف كثير فيما بينهم بحيث إن بعضهم يضللون ويكفرون ويبطلون بعضًا آخرين ويشنعون عليهم. وكفى الله المؤمنين القتال، فقد سقط عن أهل السنة عبء تلك المجادلة الباطلة» اهـ. ولقد تتبع أئمة السلف والخلف مسار هذه الحركات الباطنية على مر العصور في كتب الفرق والمذاهب، والذي يعنينا في هذا المقام هو قول الإمام ابن الجوزي رحمه الله (¬1): «اعلم أن القوم أرادوا الانسلال من الدين فشاوروا جماعة من المجوس والمزدكية والثنوية وملحدة الفلاسفة في استنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين عليهم حتى أخرسوهم عن النطق بما يعتقدونه من إنكار الصانع وتكذيب الرسل وجحد البعث وزعمهم أن الأنبياء ممخرقون ومنمسون (¬2) ورأوا أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - قد استطار في الأقطار وأنهم قد عجزوا عن مقاومته، فقالوا: سبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم أزكاهم عقلًا وأتحفهم رأيًا وأقبلهم للمحالات والتصديق بالأكاذيب، وهم الروافض، فنتحصن بالانتساب إليهم ونتودد إليهم بالحزن على ما جرى على آل محمد من الظلم والذل ليمكننا شتم القدماء الذين نقلوا إليهم الشريعة، فإذا هان أولئك عندهم لم يلتفتوا إلى ما نقلوا، فأمكن استدراجهم إلى الانخداع عن الدين، فإن بقي منهم معتصم بظواهر القرآن والأخبار أوهمناه أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن وأن المنخدع بظواهرها أحمق وإنما الفطنة في اعتقاد بواطنها، ثم نبث إليهم عقائدنا ونزعم أنها المراد بظواهرها عندكم، فإذا تكثرنا بهؤلاء سهل علينا استدراج باقي الفرق». ويقول عبد القاهر البغدادي (¬3): «وذكر أصحاب التواريخ أن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم ولم يجسروا على إظهاره خوفًا من سيوف المسلمين، فوضع الأغمار منهم أساسًا من قَبِلَها منهم صار في الباطن إلى تفضيل أديان المجوس وتأولوا آيات القرآن وسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - على موافقة ¬

(¬1) ابن الجوزي: تلبيس إبليس، ص (103). (¬2) ممخرقون: أي مكذبون مموهون، ومنمسون: أي ملبسون على الناس الحق بالباطل. (¬3) عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفِرَق، ص (266 - 9) بتصرف.

مع الاثني عشرية

أساسهم ... وقال أصحاب التواريخ إن دعوة الباطنية ظهرت أولًا في زمان المأمون وانتشرت في زمان المعتصم ... وقالوا إن الذين أسسوا دعوة الباطنية جماعة منهم ميمون بن ديصان المعروف بالقداح، وادعى أنه من نسل عقيل بن أبي طالب تارة، وأنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق تارة أخرى. ثم ظهر في دعوته إلى دين الباطنية رجل يقال له حمدان قرمط، وإليه تنسب القرامطة (¬1) .. ثم لما تمادت الأيام بهم ظهر المعروف منهم بسعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان القداح فغير اسم نفسه ونسبه وقال لأتباعه أنا عبيد الله بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، ثم ظهرت فتنته بالمغرب، وأولاده - أي الفاطميون - مستولون على أعمال مصر». وقال ابن القيم (¬2): «وكان هؤلاء زنادقة، يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض. وينتسبون إلى أهل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو وأهل بيته برآء منهم نسبًا ودينًا، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان، ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، لا يحرمون حرامًا، ولا يحلون حلالًا، وفي زمنهم ولخواصهم وضعت رسائل إخوان الصفا» اهـ. قال عبد القاهر البغدادي (¬3): «وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمال والقطر» اهـ. ... مع الاثني عشرية: بعد أن استعرضنا المراحل المهمة التي مر بها تاريخ التشيع، نتوقف للتعريف بإحدى هذه الفرق الباطنية والتي خرجت من رحم التشيع للحسين بن علي رضي الله عنهما، وهي فرقة الرافضة الاثنا عشرية. وهذا التخصيص واقعي نظرًا لكون هذه الفرقة هي الواجهة البارزة ¬

(¬1) ومن أبشع جرائم القرامطة ما فعلوه في عام 317هـ عندما وصلوا مكة يوم التروية، فقتلوا الحجاج في المسجد الحرام، واقتلعوا الحجر الأسود الذي بقيَ بحوزتهم حتى عام 335هـ. (¬2) ابن قيم الجوزية: إغاثة اللهفان (2/ 263). (¬3) عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفِرَق، ص (266).

للتشيع في عصرنا الحاضر، فهي المنتشرة في منطقة إيران وما حولها من بلاد الخليج وشرق المملكة العربية السعودية وفي لبنان والعراق ... كما هو معلوم. وما عاد خافيًا على أحد تلك المساعي الجادة لنشر المذهب الرافضي والتغلغل داخل كيان المجتمع المصري، وذلك لادعائهم - كما يذكر شيخهم الورداني (¬1) - أن «التشيع في مصر هو الأصل، والتسنُّن وافد». وهذه المساعي تؤدى من خلال عدة توجهات منها الترويج لمقولة: «إن مصر سنِّية المذهب وشيعية الهوى»، بل عن طريق التستر بعباءة التصوف في محاولة لاستبدال الأسود بالأخضر! (¬2)، إذ لا سبيل لهم في الوقت الراهن إلا ذلك، كما يقول الورداني (¬3): «إن حركة المد والجذر في العلاقات المصرية الإيرانية تضع الشيعة في مصر أمام خيار واحد وهو الالتزام بالتقية حتى تنفرج الأوضاع». ومن معالم هذا التوجه تأسيسهم لـ (لمجلس الأعلى لرعاية آل البيت)، والذي تصدر عنه جريدة اسمها (صوت آل البيت). والمجلس - كما يذكر رئيسه محمد الدريني - (¬4) «يسعى لتنفيذ عدة مشاريع فكرية وثقافية وإعلامية للرد على الأعمال المطروحة والمدعومة وهابيًا وسعوديًا وباقي القوى المتحالفة والوفية لقتلة آل البيت، كما أن لديه تطلعات وطموحات لأن يقوم بدوره تجاه فقراء السادة الأشراف ونصر الذين حرمت عليهم الصدقات ... كما أن المجلس معني بمقاضاة الأزهر حتى يعود إلى سيرته الأولى في تقديم الفكر المستنير البعيد عن الغلو والتطرف لا سيما وأن المذهب الجعفري ¬

(¬1) صالح الورداني: الشيعة في مصر، ص (6). (¬2) وهذا يظهر جليًا في حرصهم الشديد على شد الرحال إلى القبر المزعوم للإمام الحسين - رضي الله عنه - للاحتفال بذكرى مولده وإحياء ذكرى عاشوراء، فضلًا عن احتفالاتهم الأخرى في مشاهد آل البيت المزعومة، ومشاركتهم - مؤخرًا - للطرق الصوفية في الاحتفال بمولد الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، بل وحرصهم على التميز باللون الأسود كدليل على محبتهم وحزنهم على ما أصاب آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفق ما يزعمون. الأمر الذي أثار حفيظة المتصوفة لتمسكهم الشديد باللون الأخضر فجعلهم قالوا قولتهم باللهجة العامية: «الحسين عندنا أخضر مش أسود»! ونحن من جانبنا لا نقر بالطبع هذا أو ذاك، نسأل الله الهداية لنا وللجميع. (¬3) صالح الورداني: الشيعة في مصر، ص (181). (¬4) نقلًا عن حوار أجراه معه الإعلامي الشيعي حيدر السلامي، وذلك في عام 2007م في أغلب الظن.

المنسوب إلى الإمام جعفر الصادق - عليه السلام - هو مذهب رئيسي وهو أبو المذاهب ومسموح به بفتوى الأزهر الذي أصبح وهابيًا الآن وأصبحت لمساته تجاه العنف والتطرف واضحة ... عجبًا يا أخي على الأزهر وأهله، واسمحوا لي أن لا أقول عنه الأزهر، ونحن بصدد رفع قضية عليه فإما أن يعيدوا الأزهر فاطميًا وإما يغيروا اسمه إلى الأزهر الوهابي أو السعودي ...». كذلك فمن الأدلة الواضحة على هذا التوجه تلك العلاقة المريبة القائمة بين إيران والطريقة العزمية بصفة خاصة والتواجد المنتظم للقائم بأعمال السفارة الإيرانية في احتفالاتها، فضلًا عن زيارات شيخ الطريقة علاء أبي العزائم المتكررة إلى إيران، وتنظيمه لأول احتفال مصري بمولد الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في 25/ 6/2010م، وسط تغطية إعلامية إيرانية واسعة وغياب متعمد لأغلب مشايخ الطرق الصوفية مخافة اتهامهم بالتشيع. ولم يفته - كعادته - الهجوم الحاد على الجماعات السلفية التي كما يدعي «اتخذت من المذهب الوهابي فكرًا لها تخصص في تحقير رموز آل البيت» (¬1)، ودعا الأزهر الشريف ومجمع البحوث الإسلامية إلى مصادرة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعدم السماح بنشرها. ولم يقف عند هذا الحد، بل في حوار لاحق له صرح أبو العزائم بتكفير بني أمية؛ حيث نقلت عنه جريدة (الدستور) قوله (¬2): «"أن بني أمية لم يكتفوا بسب الإمام علي والإمام الحسين على المنابر بل إنهم حشدوا الجيوش لقتلهم وهو ما يعتبر كفرًا سافرًا"، وشدد على "أنهم ليسوا مسلمين على الإطلاق وأنهم كانوا طامعين في الحكم والسلطة ولم يكن يهمهم الإسلام وعزته ورفعته". واختتم أبو العزايم كلامه بالإشارة إلى "أن بني أمية وعلى رأسهم أبو سفيان وابنه معاوية ليسوا من الصحابة ولا يستحقون شرف أن نقول لقب سيدنا قبل النطق ¬

(¬1) انظر، جريدة (المصري اليوم)، أعداد 26 - 27/ 6/2010م، ص (3). وسوف يأتي في الفصل التالي مبحث في موقف أهل السنة (والوهابية السائرين على دربهم) من آل البيت - رضي الله عنهم -. (¬2) انظر، جريدة (الدستور)، عدد الاثنين 19/ 7/2010م، ص (1)، وانظر كذلك تقرير بعنوان: هل يهدد أبو العزائم الأمن القومي؟!، كتبه شريف عبد العزيز، ونشره موقع (مفكرة الإسلام)، بتاريخ 30/ 7/2010م.

وبداية: متى كانت بداية ظهورهم؟

باسمهم خاصة وأنهم من الطلقاء الذين عفا عنهم الرسول - عليه السلام - بعد فتح مكة كما أنهم لم يشاركوا في غزوة بدر"» اهـ. {وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (¬1) وقبل أن نتناول عقائد القوم من كتبهم المعتمدة - وذلك كي يتبين لنا هل الخلاف بيننا وبينهم أصلي كما نعتقد أم فرعي كما يدعي الكثير -، نقف بعض الوقفات التاريخية السريعة مع هذه الفرقة، إذ لا يصح لمن يتصدى لدراسة فرقة معينة وتقويمها أن يغفل عن تاريخ هذه الفرقة. وبداية: متى كانت بداية ظهورهم؟ يذكر صاحب (التحفة الاثنى عشرية) أن بداية ظهورهم كانت في عام مائتين وخمسة وخمسين من الهجرة (¬2). وإن كان الظن - والله تعالى أعلم - أن بداية ظهورهم كانت في عام 260هـ، أي حين وفاة الإمام الحادي عشر الحسن بن علي العسكري، حيث وقعوا في حيرة فيمن يخلفه، خاصة أنه قد مات ولم يكن له ولد على الأرجح كما سيأتي، فادعوا أنه ولد له ولد في عام 255هـ، وهو المهدي الذي اختفى في السرداب كما سيأتي بيانه، ومن حينها استقر أمرهم وتميزوا عن باقي الشيعة بكونهم الاثنى عشرية، وهم الذين يتبادر إليهم الذهن حين إطلاق لفظة الشيعة. ولماذا عُرفوا في التاريخ بالإمامية الاثنى عشرية؟ لقد اصطلحوا على هذه التسمية لاعتقادهم ثبوت الإمامة في اثني عشر رجلًا من ذرية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والإمامة وجودها واجب في كل زمان، ولو أردنا الدقة لقلنا إنهم أُلزِمُوا بهذا العدد لا أكثر - كما سيأتي بيانه -. ¬

(¬1) يوسف: 18 (¬2) انظر، محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (22).

والأئمة على الترتيب هم: م ... اسم الإمام ... كنيته ... لقبه ... سنة ميلاده ووفاته 1 ... علي بن أبي طالب ... أبو الحسن ... المرتضى ... قبل الهجرة - 40هـ 2 ... الحسن بن علي ... أبو محمد ... الزكي ... - 53هـ 3 ... الحسين بن علي ... أبو عبد الله ... الشهيد ... 4 - 61هـ 4 ... علي بن الحسين ... أبو محمد ... زين العابدين ... - 94هـ 5 ... محمد بن علي ... أبو جعفر ... الباقر ... - 114هـ 6 ... جعفر بن محمد ... أبو عبد الله ... الصادق ... - 148هـ 7 ... موسى بن جعفر ... أبو إبراهيم ... الكاظم ... - 183هـ 8 ... علي بن موسى ... أبو الحسن ... الرضا ... - 202هـ 9 ... محمد بن علي ... أبو جعفر ... الجواد ... - 220هـ 10 ... علي بن محمد ... أبو الحسن ... الهادي ... - 254هـ 11 ... الحسن بن علي ... أبو محمد ... العسكري ... - 260هـ 12 ... محمد بن الحسن ... أبو القاسم ... المهدي ... يزعمون أنه ولد سنة 255هـ ويقولون بحياته إلى اليوم. ولقد عرفوا كذلك بالرافضة، وذُكر في ذلك أقوال؛ فقال الأشعري رحمه الله (ت. 324هـ) (¬1): «إنما سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر». وقيل لرفضهم زيد بن علي بن الحسين، والذي ينتسب إليه الزيدية، وهم أقرب فرق الشيعة لأهل السنة، وأكثرهم اعتدالًا، فهم لا يكفرون الصحابة، وتشيعهم نحو الأئمة لا يتسم بالغلو. قال الأشعري (¬2): «وكان زيد بن علي يفضل علي بن أبي طالب على سائر أصحاب ¬

(¬1) أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، ص (16). (¬2) السابق، ص (65).

الإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه -

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتولى أبا بكر وعمر، ويرى الخروج على أئمة الجور، فلما ظهر في الكوفة في أصحابه الذين بايعوه سمع من بعضهم الطعن على أبي بكر وعمر فأنكر ذلك على من سمعه منه، فتفرق عنه الذين بايعوه فقال لهم: رفضتموني. فيقال إنهم سموا الروافض لقول زيد لهم: رفضتموني». يقول شيخ الإسلام ابن تيمية تعقيبًا على كلام الأشعري (¬1): «قلت: الصحيح أنهم سُموا رافضة لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما خرج بالكوفة أيام هشام بن عبد الملك» اهـ. ولقد عقد المجلسي في (بحاره) فصلًا بعنوان: (فضل الرافضة ومدح التسمية بها)، روى فيه «عن محمد [ابن عبد الله الحنظلي]، عن وكيع عن سليمان الأعمش قال: دخلت على أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام قلت: جعلت فداك إن الناس يسمونا روافض، وما الروافض؟ فقال: والله ما هم سموكموه، ولكن الله سماكم به في التوراة والإنجيل على لسان موسى ولسان عيسى عليهما السلام، وذلك أن سبعين رجلًا من قوم فرعون رفضوا فرعون ودخلوا في دين موسى فسماهم الله تعالى الرافضة، وأوحى إلى موسى أن أثبت لهم في التوراة حتى يملكوه على لسان محمد صلى الله عليه وآله» (¬2). يقول الدكتور ناصر القفاري (¬3): «وكأنهم أرادوا تطييب نفوس أتباعهم بتحسين هذا الاسم لهم!» اهـ. الإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه -: ولقد عرفوا أيضًا بالجعفرية (¬4)، لانتسابهم كغيرهم من الفرق الضالة للإمام جعفر ¬

(¬1) ابن تيمية: منهاج السنة (2/ 130). (¬2) المجلسي: بحار الأنوار (65/ 97). (¬3) د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (1/ 172). (¬4) أيضًا قيل بوجود فرقة مستقلة تسمى الجعفرية، يرتبون الإمامة نحو ترتيب الاثنى عشرية، بيد أنهم يقولون إن الإمام بعد الحسن العسكري أخوه جعفر، وقد اتفقوا على ذلك واختلفوا في أنه هل وُلِدَ وَلَدٌ للعسكري اسمه محمد أم لا. [انظر، محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (23)].

الصادق - رضي الله عنه -، وذلك لنسبه ومكانته وفضله في الإسلام؛ فهو الإمام المبجَّل، إمام زمانه، العالم العابد الزاهد التقي الورع، جعفر، ولقبه الصادق، ابن إمام زمانه في العلم والأدب والدين، الإمام محمد، ولقبه الباقر، ابن إمام التابعين في زمانه، الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأمه: هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وأبوها هو القاسم بن محمد من كبار علماء المدينة في زمانه. وأمها (أم أم فروة): هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - (¬1). وهذا يعني أن أخوال أم فروة وأعمامها بَكريون، ولذلك لما سُئل الإمام جعفر رحمه الله عن أبي بكر قال: «أيسُب الرجل جده؟! أبو بكر جدي»، وقال أيضًا: «ولدني أبو بكر الصديق مرتين». وقال عنه الإمام أبو حنيفة رحمه الله: «ما رأيت أحدًا أفقه من جعفر بن محمد»، وقال عن السنتين اللتين تتلمذ فيهما على يديه: «لولا السنتان لهلك النعمان» (¬2). ويقول الإمام الشهرستاني (¬3): «أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ذو علم غزير في الدين، وأدب كامل في الدنيا، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات» اهـ. فالإمام جعفر هو من أئمة أهل السنة الأعلام، افترى عليه الرافضة الكذب، ورووا عنه آلاف آلاف الروايات المكذوبة (¬4)، ونسبوا إليه كتاب الجفر (¬5)، والذي يحتوي على ¬

(¬1) انظر، النوبختي: فرق الشيعة، ص (77). (¬2) انظر: الإمام جعفر الصادق، للشيخ صالح الدرويش، وراجع ترجمته في (السير)، للذهبي (6/ 255 - 64). (¬3) الشهرستاني: المِلَل والنِحَل (1/ 166). (¬4) وهذا لا اعتراض عليه في حين أنهم يشنون حربًا شديدة على أبي هريرة - رضي الله عنه - لكونه من المكثرين في الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: كيف يمكن له أن يروي كل هذه الأحاديث! حتى إنه تجرأ أحد الزنادقة بكتابة مقالة بجريدة (الفجر) المصرية تحمل عنوان (سقوط أكبر راوي لأحاديث الرسول)، وذلك في عدد (96) الصادر يوم الاثنين 9/ 4/2007م. (¬5) الجفر: هو ولد الشاة، وقد سمي الكتاب جفرًا نسبة للجلد الذي كتب عليه، وهو نوعان: الجفر الأبيض والجفر الأحمر. جاء في الكافي عن أبي العلاء قال: «سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول: إن عندي الجفر الأبيض، قال: فقلت: أي شيء فيه؟ قال: زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم عليهم السلام والحلال والحرام، ومصحف فاطمة، ما أزعم أن فيه قرآنًا ... ، وعندي الجفر الأحمر. قال: قلت: وأي شيء في الجفر الأحمر؟ قال: السلاح، وذلك إنما يفتح للدم، يفتحه صاحب السيف للقتل. فقال له عبد الله بن أبي اليعفور: أصلحك الله، أيعرف هذا بنو الحسن؟ فقال: أي والله كما يعرفون الليل أنه ليل والنهار أنه نهار، ولكنهم يحملهم الحسد وطلب الدنيا على الجحود والإنكار، ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيرًا لهم» اهـ[الكليني: الأصول من الكافي (1/ 240)].

ما يسمونه بعلم أسرار الحروف، علمًا بأن الذي وضعه هو هارون بن سعيد العجلي (ت. 145هـ) وهو رأس الزيدية، وزعم أنه يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم، ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص، وأنه وقع ذلك لجعفر الصادق ونظائره عن طريق الكشف والكرامة (¬1). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2): «ونحن نعلم من أحوال أمتنا، أنه قد أُضيف إلى جعفر الصادق، وليس هو بنبي من الأنبياء، من جنس هذه الأمور ما يعلم كل عالم بحال جعفر - رضي الله عنه - أن ذلك كذب عليه، فإن الكذب عليه من أعظم الكذب، حتى ينسب إليه أحكام الحركات السفلية ... والعلماء يعلمون أنه برئ من ذلك كله»، ويقول رحمه الله (¬3): «وأما الكذب والأسرار التي يدعونها عن جعفر الصادق، فمن أكبر الأشياء كذبًا حتى يقال: ما كذب على أحد ما كذب على جعفر - رضي الله عنه -»، فالإمام جعفر بريء من هؤلاء وأمثالهم براءة الذئب من دم يوسف - عليه السلام -. ويعرف الرافضة أنفسهم كذلك بالموسوية، لانتسابهم إلى الإمام الكاظم موسى بن جعفر، وذلك لتمييز أنفسهم عمن انتسب إلى غيره كالإسماعيلية المنتسبين إلى أخيه إسماعيل بن جعفر. ¬

(¬1) انظر: مقدمة ابن خلدون، ص (415) .. قال: «وهذا الكتاب لم تتصل روايته ولا عرف عينه وإنما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل ولو صح السند إلى جعفر الصادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه فهم أهل الكرامات» اهـ[نفسه، ص (416)]. (¬2) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى (1/ 397) باختصار. وقد أورد بعضهم عن جعفر الصادق أنه سُئل: «فما تقول في علم النجوم؟ قال: هو علم قلَّت منافعه، وكثرت مضراته، لأنه لا يُدفع به المقدور، ولا يتقي به المحذور، وإن أخبر المنجم بالبلاء، لم ينجه التحرز من القضاء، وإن أخبر هو بخير لم يستطع تعجيله، وإن حدث به سوء لم يمكنه صرفه، والمنجم يضاد الله في علمه بزعمه أنه يرد قضاء الله عن خلقه» اهـ[انظر، المجلسي: مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول (26/ 470)]. (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 78).

الأصابع الخفية المؤسسة لعقيدة الشيعة الإمامية

الأصابع الخفية المؤسسة لعقيدة الشيعة الإمامية: ونحن هنا، والكلام يدور حول التسمية، يفرض علينا سؤال نفسه، والذي يتبين لنا بالإجابة عليه بعض الأصابع الخفية المؤسسة لعقيدة الشيعة الإمامية: والسؤال هو: لماذا الإمام علي - رضي الله عنه - وآل بيته؟ ولقد أجاب المستشرق الهولندي ريَنْهارت دوزي Reinhart Dozy (1820 - 1883 م) عن هذا بقوله: «كانت الشيعة في حقيقتها فرقة فارسية، وفيها يظهر أجلى ما يظهر ذلك الفارق بين الجنس العربي، الذي يحب الحرية، وبين الجنس الفارسي الذي اعتاد الخضوع كالعبيد. لقد كان مبدأ انتخاب خليفة للنبي أمرًا غير معهود ولا مفهوم، لأنهم لم يعرفوا غير مبدأ الوراثة في الحكم، لهذا اعتقدوا أنه ما دام محمد [- صلى الله عليه وسلم -] لم يترك ولدًا يرثه، فإن عليًا هو الذي كان يجب أن يخلفه وأن الخلافة يجب أن تكون وراثية في آل علي. ومن هنا فإن جميع الخلفاء - ما عدا عليًا - كانوا في نظرهم مغتصبين للحكم لا تجب لهم طاعة. وقوَّى هذا الاعتقاد عندهم كراهيتهم للحكومة وللسيطرة العربية، فكانوا في الوقت نفسه يلقون بأنظارهم النهمة إلى ثروات سادتهم. وهم قد اعتادوا أيضًا أن يروا في ملوكهم أحفادًا منحدرين من أصلاب الآلهة الدنيا، فنقلوا هذا التوقير الوثني إلى علي وذريته. فالطاعة المطلقة للإمام الذي من نسل علي كانت في نظرهم الواجب الأعلى، حتى إذا ما أدى المرء هذا الواجب، استطاع بعد ذلك بغير لائمة ضمير أن يفسر سائر الواجبات والتكاليف تفسيرًا رمزيًا وأن يتجاوزها ويتعداها. لقد كان الإمام عندهم هو كل شيء، إنه الله قد صار بشرًا! فالخضوع الأعمى المقرون بانتهاك الحرمات ذلك هو الأساس في مذهبهم» (¬1). وسوف يتضح هذا أكثر عند حديثنا عن اعتقاد الشيعة في أئمتهم. يقول محمد سرور بن نايف (¬2): «الزعامة الدينية في بلاد فارس كانت تتمثل في قبيلة ¬

(¬1) إحسان إلهي ظهير: الشيعة والتشيع، ص (172 - 3)، نقلًا عن: مقالات في تاريخ الإسلام، لدوزي. (¬2) محمد سرور بن نايف زين العابدين (عبد الله الغريب): وجاء دور المجوس، ص (22، 39، 61 - 2) بتصرف.

من القبائل، فالسيطرة الدينية قديمًا كانت لقبيلة (ميديا)، وفي عصر أتباع زرادشت [؟ ق. م] أصبحت السيطرة لقبيلة (المغان). ورجال القبيلة الدينية هم ظل الله في الأرض، وقد خلقوا لخدمة الآلهة، والحاكم يجب أن يكون من هذه القبيلة، وتتجسد فيه الذات الإلهية، وتتولى هذه العائلة شرف سدانة بيت النار. إن عبادة الله عن طريق القبيلة هو الذي دفع الفرس إلى التشيع لآل البيت، لا حبًا بآل البيت ولكن لأن هذا التصور يلائم عقيدة المجوس، ففي تشيعهم لآل البيت إحياء لعقائد زرادشت وماني [ت. 273م] ومزدك [ت. 529م]، وكل الذي فعلوه أنهم استبدلوا المغان بآل البيت، وقالوا للناس بأن آل بيت رسول الله هم ظل الله في الأرض، وأن أئمتهم معصومون، وتتجلى فيهم الحكمة الإلهية. لكن لا بد لنا من التفريق بين الفرس المجوس الذين كادوا للإسلام وتآمروا عليه، والفرس الذين دخلوا في دين الله، وحسن إسلامهم، وذادوا عن الإسلام بسيوفهم وعلمهم ومالهم، فكان على رأسهم الصحابي الجليل سلمان - رضي الله عنه - وغيره من أعلام السلف. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزلت عليه سورة الجمعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}، قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على سلمان، ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء"» اهـ (¬1). قلت: ولقد جاء في كتب الشيعة المعتبرة ما يدل على ذلك، منها: - تكفيرهم للصحابة - رضي الله عنهم - إلا عدد قليل مختلف فيه، ومن بينهم سلمان الفارسي - رضي الله عنه - (¬2). - اعتقادهم أن النار محرمة على كسرى ملك الفرس؛ حيث روى المجلسي عن عمار الساباطي قوله: «قدم أمير المؤمنين - عليه السلام - المدائن فنزل بإيوان كسرى، وكان معه دلف بن مجير ... ثم نظر - عليه السلام - إلى جمجمة نخرة ... ودعا بطشت فيه ماء، فقال للرجل: دع هذه الجمجمة في الطشت، ثم قال: أقسمت عليك يا جمجمة لتخبريني من أنا ومن أنت؟ ¬

(¬1) الحديث رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن: 4897 (¬2) انظر، الكليني: الروضة من الكافي (8/ 245) رقم: 341، وسنذكر نص الرواية في حديثنا عن عقيدة الشيعة في أهل السنة.

فقالت الجمجمة بلسان فصيح: أما أنت فأمير المؤمنين وسيد الوصيين وإمام المتقين، وأما أنا فعبد الله، وابن أمة الله كسرى أنوشيروان، فقال له أمير المؤمنين - عليه السلام -: كيف حالك؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني كنت ملكًا عادلًا شفيقًا على الرعايا رحيمًا، لا أرضى بظلم، ولكن كنت على دين المجوس، وقد ولد محمد صلى الله عليه وآله في زمان ملكي، فسقط من شرفات قصري [ثلاث] وعشرون شرفة ليلة ولد، فهممت أن أومن به من كثرة ما سمعت من الزيادة من أنواع شرفه وفضله ومرتبته وعزه في السماوات والأرض ومن شرف أهل بيته، ولكني تغافلت عن ذلك وتشاغلت عنه في الملك، فيا لها من نعمة ومنزلة ذهبت مني حيث لم أومن، فأنا محروم من الجنة بعدم إيماني به، ولكني مع هذا الكفر خلصني الله تعالى من عذاب النار ببركة عدلي وإنصافي بين الرعية، وأنا في النار والنار محرَّمة عليَّ، فواحسرتاه لو آمنت، لكنت معك يا سيد أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله ويا أمير أمته» (¬1). - ما رواه المجلسي أن «القائم [أي المهدي] يسير في العرب بما في الجفر الأحمر ... فأمر أصبعه على خلقه فقال هكذا، يعني الذبح» (¬2)، وروى: «ما بقي بيننا وبين العرب إلا الذبح» (¬3)، وروى أيضًا: «اتق العرب فإن لهم خبر سوء، أما إنه لم يخرج مع القائم منهم واحد» (¬4). ولماذا يُعمِل المهدي سيفه في العرب؟ أليس الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمير المؤمنين وذريته من العرب؟! أم إنها العصبية الفارسية تجاه العرب. - اتخاذهم من يوم مقتل عمر - رضي الله عنه - عيدًا، ولقد رووا أحاديث في فضل ذلك اليوم، منها ما رواه المجلسي ونعمة الله الجزائري عن أبي الحسن العسكري أنه قال: «ولقد حدثني أبي - عليه السلام - أن حذيفة بن اليمان دخل في مثل هذا اليوم [أي الموافق ليوم مقتل عمر - رضي الله عنه -] على جدي رسول الله صلى الله عليه وآله (¬5)، قال حذيفة: رأيت أمير المؤمنين - عليه السلام - ¬

(¬1) المجلسي: بحار الأنوار (41/ 213 - 4) باختصار. (¬2) السابق (52/ 313). (¬3) السابق (52/ 349). (¬4) السابق (52/ 333). (¬5) فائدة: يقر الرافضة في كتبهم بأن ليس لهم أسانيد صحيحة متصلة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيروي الكليني عن محمد بن الحسن قوله: «قلت لأبي جعفر الثاني: جعلت فداك إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم ولم ترو عنهم، فلما ماتوا صارت الكتب إلينا، فقال: حدثوا بها فإنها حق» [الكليني: الأصول من الكافي (1/ 53)]، كما يقر بذلك الحر العاملي (1033 - 1104هـ) فيقول: «... والفائدة في ذكره [أي السند] مجرد التبرك باتصال سلسلة المخاطبة اللسانية، ودفع تعيير العامة [أي أهل السنة] الشيعة بأن أحاديثهم غير معنعنة، بل منقولة من أصول قدمائهم» [الحر العاملي: وسائل الشيعة (30/ 258)، وانظر الفائدة التاسعة (30/ 250 - 65)]. يقول الدكتور ناصر القفاري: «بدأ الشيعة في عصر ابن المطهر يحاولون وضع مقاييس لنقد الحديث عندهم وتقسيمه إلى صحيح وغيره. وفي ظني أن من أسباب هذا الاتجاه هو النقد الموجه لهم من ابن تيمية وغيره في هذا، ومما يشعر بهذا هو التوافق الزمني بين رد ابن تيمية [أي في منهاج السنة] ووضعهم لهذا الاصطلاح، وهذه مسألة مهمة لم أر من نبه عليها» [القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (1/ 279)] .. علمًا بأنه لم يكن معهودًا عند الصحابة وأوائل التابعين - أي في مجتمع ساد فيه الصدق والعدالة - علم الأسانيد والروايات، وإنما، وكما قال ابن سيرين، «لما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم» اهـ[انظر: تاريخ الطبري (8/ 353)، أحداث سنة 194].

وولديه يأكلون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يبتسم في وجوههم ويقول لولديه الحسن والحسين: كُلا هنيئًا لكما بركة هذا اليوم وسعادته فإنه اليوم الذي يهلك الله فيه عدوه وعدو جدكما، وإنه اليوم الذي يقبل الله أعمال شيعتكما ومحبيكما واليوم الذي يصدق فيه قول الله - جل جلاله - {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} (¬1)، واليوم الذي نسف فيه فرعون أهل البيت وظالمهم وغاصبهم حقهم واليوم الذي يقدم الله إلى ما عملوا {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} (¬2). قال حذيفة: فقلت: يا رسول الله، وفي أمتك وأصحابك من ينتهك هذه المحارم؟ قال: نعم يا حذيفة جِبْت من المنافقين يرتاس عليهم ويستعمل في أمتي الرؤيا [أي الرياء] ويحمل على عاتقه درّة الخزي ويصد الناس عن سبيل الله يحرف كتاب الله ويغير سنتي ويشتمل على إرث ولدي وينصب نفسه علمًا ويتطاول على إمامة من بعدي ويستخلب أموال الناس من غير حلها وينفقها في غير طاعة الله ويكذبني ويكذب أخي ووزيري ويحسد ابنتي عن حقها فتدعو الله - عز وجل - عليه فيستجيب دعاءها في مثل هذا اليوم. ¬

(¬1) النمل: 52 (¬2) الفرقان: 23

قال حذيفة - رضي الله عنه -: فقلت: يا رسول الله، فادع ربك ليهلكه في حياتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا حذيفة لا أحب أن أجترئ على قضاء الله - عز وجل - لما قد سبق في علمه لكن سألت الله - عز وجل - أن يجعل لليوم الذي يهلكه فيه فضيلة على سائر الأيام ليكون ذلك سُنَّة يستن بها أحبائي وشيعة أهل بيتي [ومحبوهم]، فأوحى الله إليَّ جل من قائل: يا محمد، إنه قد سابق علمي أن تمسَّك وأهل بيتك مِحَن الدنيا وبلاؤها، وظلم المنافقين والغاصبين من عبادي من نصحت لهم وخانوك، ومحضت لهم وغشوك، وصافيتهم وكشحوك، وأرضيتهم وكذبوك وجنيتهم وأسلموك، فإني بحولي وقوتي وسلطاني لأفتحن على من يغصب بعدك عليًا وصيك حقًا ألف باب من النيران من أسفل الفيلوق، ولأصلينه وأصحابه قعرًا يشرف عليه إبليس آدم فيلعنه، ولأجعلن ذلك المنافق عبرة في القيامة كفراعنة الأنبياء وأعداء الدين في المحشر، ولأحشرنهم وأولياءهم وجميع الظلمة والمنافقين إلى جهنم زرقًا كالحين أذلة حيارى نادمين ولأضلنهم فيها أبد الآبدين. يا محمد، إن مرافقك ووصيك في منزلته يمسه البلوى من فرعونه وغاصبه الذي يجترئ ويبدل كلامي ويشرك بي ويصد الناس عن سبيلي وينصب نفسه عجلًا لأمتك ويكفر بي في عرشي، إني قد أمرت سبع سماواتي وشيعتك ومحبيك أن يعيِّدوا في اليوم الذي أهلكته فيه، وأمرتهم أن ينصبوا كرسي كرامتي بإزاء البيت المعمور، ويثنوا عليّ ويستغفروا لشيعتك ولمحبيك من ولد آدم. يا محمد، وأمرت الكرام الكاتبين أن يرفعوا القلم عن الخلق في ذلك اليوم ولا [يكتبوا] شيئًا من خطاياهم كرامة لك ولوصيك. يا محمد إني قد جعلت ذلك اليوم يوم عيد لك ولأهل بيتك ولمن يتبعهم من المؤمنين وشيعتهم، وآليت على نفسي بعزتي وجلالي وعلوي في مكاني لأحبون من يعيِّد في ذلك اليوم محتسبًا في ثواب الحافين، ولأشفعنه في ذوي رحمه، ولأزيدن في ماله إن وسع على نفسه وعياله، ولأعتقن من النار في كل حول مثل ذلك اليوم آلافًا من شيعتكم ومحبيكم ومواليكم، ولأجعلن سعيهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا، وعملهم مقبولًا. قال حذيفة: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله فدخل بيت أم سلمة. ورجعت عنه وأنا غير شاك في أمر الثاني [أي عمر - رضي الله عنه -] حتى رأيت بعد وفاة رسول الله صلى الله

عليه وآله وأتيح الشر وعاود الكفر وارتد عن الدين وشمر للملك وحرَّف القرآن ...» (¬1). كذلك فهم يطلقون لقب (بابا شجاع الدين) على الملعون أبي لؤلؤة المجوسي قاتل عمر - رضي الله عنه - (¬2)، وأقاموا له في مدينة كاشان الإيرانية في منطقة تسمى (باغي فين) مشهدًا فيه قبر وهمي يزار من قِبَل الإيرانيين، وتلقى فيه الأموال والتبرعات. - من الشواهد كذلك جعلهم الإمامة بعد الحسين - رضي الله عنه - في ابنه علي الملقب بزين العابدين، وذلك لأن أمه - كما يذكر النوبختي - (¬3) «چهانشاه (¬4)، وهي ابنة يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز بن هرمز، وكان كسرى آخر ملوك الفرس». وهم ما ادعوا ذلك إلا لرؤيتهم أن الدم الذي يجري في عروق علي بن الحسين وفي أولاده دم إيراني من سلالة الساسانيين المقدسين عندهم، فقالوا: «وكان يقال له [أي زين العابدين]- عليه السلام -: ابن الخيرتين، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله: "إن لله من عباده خيرتين"، فخيرته من العرب قريش، ومن العجم فارس، وكانت أمه بنت كسرى» (¬5). وسوف تتبين لنا بصورة أوضح معالم هذه الأصابع الخفية حينما نتناول بعض عقائد الشيعة الإمامية في الفصل التالي. ... ¬

(¬1) المجلسي: بحار الأنوار (95/ 352 - 3) باب فضل اليوم التاسع من شهر ربيع الأول وأعماله، ونعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية (1/ 108 - 10). (¬2) يطلقون هذا اللقب على من قال فيه عمر - رضي الله عنه -: «الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام». [رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة: 3700]. (¬3) النوبختي: فرق الشيعة، ص (69). (¬4) قال المجلسي: «أمه خولة بنت يزدجرد ملك فارس، وهي التي سماها أمير المؤمنين - عليه السلام - شاه زنان، ويقال: بل كان اسمها برة بنت النوشجان، ويقال: كان اسمها شهربانو بنت يزدجرد». [المجلسي: بحار الأنوار (46/ 8)]. (¬5) المجلسي: بحار الأنوار (46/ 8).

الفصل الثاني: عقيدة أهل المذهب الفقهي الخامس

الفصل الثاني: عقيدة أهل المذهب الفقهي الخامس

«والأدلة على بطلان مذهب الرافضة لا تحصى إلا بالمشقة، ألا فليدخلوا في الإسلام!» [الحذيفي]

- - {عقيدة أهل المذهب الفقهي الخامس} - - «وغلو الرافضة في حب علي - رضي الله عنه - حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله، أكثرها تُشينه وتؤذيه، ثم لهم خرافات لا يسندونها إلى مستند، ولهم مذاهب في الفقه ابتدعوها، وخرافات تخالف الإجماع، في مسائل كثيرة يطول ذكرها، خرقوا فيها الإجماع، وسوَّل لهم إبليس وضعها، على وجه لا يستندون فيه إلى أثر ولا قياس، بل إلى الواقعات» [ابن الجوزي] (¬1) «والأدلة على بطلان مذهب الرافضة لا تُحصى إلا بالمشقة، ألا فليدخلوا في الإسلام!» [الحذيفي] (¬2) نتناول في هذا الفصل بعض الأصول والاعتقدات التي تفردت بها الشيعة الإمامية، ونحصر المناقشة في النقاط التالية: - عقيدة الإمامة. - عقيدة التقية. - عقيدة البداء. - عقيدة الرافضة في القرآن. - عقيدة الطينة. ¬

(¬1) ابن الجوزي: تلبيس إبليس، ص (96 - 7) باختصار. (¬2) خطبة الحذيفي الشهيرة (أخرجوا اليهود والنصارى والروافض من جزيرة العرب)، والتي ألقاها بحضرة الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني في 15 ذو القعدة 1418هـ، والتي منع بسببها من صعود منبر المسجد النبوي.

عقيدة الإمامة

- عقيدة الرافضة في أهل السنة. - عقيدة الرجعة. - زواج المتعة وبعض المسائل المتعلقة به. - نظرية الخمس. - أقوال علماء أهل السنة في الرافضة. ... عقيدة الإمامة: الإمامة عند الشيعة «هي الأصل الذي تدور عليه أحاديثهم وترجع إليه عقائدهم، وتلمس أثره في فقههم وأصولهم وتفاسيرهم وسائر علومهم» (¬1)، يعرِّفها محمد الحسين آل كاشف الغطاء بقوله (¬2): «الإمامة منصب إلهي كالنبوة، فكما أن الله سبحانه يختار من يشاء من عباده للنبوة والرسالة، ويؤيده بالمعجزة التي هي كنص من الله عليه، فكذلك يختار للإمامة من يشاء، ويأمر نبيه بالنص عليه، وأن ينصبه إمامًا للناس من بعده للقيام بالوظائف التي كان على النبي أن يقوم بها، سوى أن الإمام لا يوحى إليه كالنبي، وإنما يتلقى الأحكام منه مع تسديد إلهي، فالنبي مبلغ عن الله والإمام مبلغ عن النبي» اهـ. إذن فالإمامة كما يتبين من كلامه أنها أهم معتقدات الشيعة، فهي تتعلق بالإيمانيات كالإيمان بالله وبالرسول - صلى الله عليه وسلم -، يكفر منكرها ويُسلِم مُعتَقِدُها. واقرأ معي هذه النصوص: روى الكليني عن أبي الحسن العطار قال: «سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول: أشرِك بين الأوصياء والرسل في الطاعة» (¬3)، وأصرح من هذا وأشد ما رواه أيضًا عن أبي عبد الله أنه قال: «نحن الذين فرض الله طاعتنا لا يسع الناس إلا معرفتنا ولا يعذر الناس بجهالتنا، من عرفنا كان مؤمنًا، ومن أنكرنا كان كافرًا، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ¬

(¬1) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (2/ 653). (¬2) محمد آل كاشف الغطاء: أصل الشيعة وأصولها، ص (211 - 2). (¬3) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 186).

ضالًا حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة، فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء» (¬1). وروي عن جابر قال: «سمعت أبا جعفر - عليه السلام - يقول: إنما يعرف الله - عز وجل - ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منا أهل البيت، ومن لا يعرف الله - عز وجل - ولا يعرف الإمام منا أهل البيت، فإنما يعرف ويعبد غير الله هكذا والله ضلالًا» (¬2). بل لقد جعلوها في مرتبة الصلاة والزكاة والصوم والحج، كما يروي الكليني عن عجلان أبي صالح قال: «قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: أوقفني على حدود الإيمان، فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وصلاة الخمس، وأداة الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت، وولاية ولينا وعداوة عدونا والدخول مع الصادقين» (¬3)، وعن أبي حمزة عن أبي جعفر قال: «بني الإسلام على خمس: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ولم يناد بشيء ما نودي بالولاية» (¬4)، فتأمل قوله «ولم يناد بشيء ما نودي بالولاية»، ومعناه أن الولاية أهم من الأربع الأول، وقد صرح في رواية عن زرارة عن أبي جعفر قال: «بني الإسلام على خمسة أشياء، على الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية، قال زرارة: قلت: وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن» (¬5)، بل لقد حذفوا الصوم والحج في رواية أخرى، فرووا عن الصادق - عليه السلام - قوله: «أثافي (¬6) الإسلام ثلاثة، الصلاة، والزكاة، والولاية، لا تصح واحدة منهن إلا بصاحبتيها» (¬7). ¬

(¬1) السابق (1/ 187). (¬2) السابق (1/ 181). (¬3) السابق (2/ 18). (¬4) السابق. (¬5) السابق. (¬6) يقول الشارح: «الأثافى جمع الأثفية بالضم والكسر، وهي الأحجار التي توضع عليها القدر، وأقلها ثلاثة» اهـ[الكليني: الأصول من الكافي (2/ 18) الهامش]. (¬7) السابق.

أصل عقيدة الإمامة

فأين القائل بأن خلافنا مع الرافضة في الفروع من هذه الأقوال؟! وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» (¬1). أصل عقيدة الإمامة: يقول الدكتور القفاري (¬2): «لعل أول من تحدث عن مفهوم الإمامة بالصورة الموجودة عند الشيعة هو ابن سبأ، الذي بدأ يشيع القول بأن الإمامة هي وصاية من النبي، ومحصورة بالوصي، وإذا تولاها سواه يجب البراءة منه وتكفيره»، ويقول (¬3): «كان ابن سبأ ينتهي بأمر الوصية عند علي، ولكن جاء فيما بعد من عمَّمها في مجموعة من أولاده، وكانت (الخلايا) الشيعية تعمل بصمت وسرية، ومع ذلك فقد كانت تصل بعض هذه الدعاوى إلى بعض أهل البيت، فينفون ذلك نفيًا قاطعًا، كما فعل جدهم أمير المؤمنين علي، ولذلك اخترع أولئك الكذابون على أهل البيت عقيدة التقية حتى يسهل نشر أفكارهم وهم في مأمن من تأثر الأتباع بمواقف أهل البيت الصادقة والمعلنة للناس» اهـ. ثم كان لشيطان الطاق (¬4) الدور الأكبر بعد ذلك في إشاعة القول بأن الإمامة محصورة بأناس مخصوصين من آل البيت، حيث روى الكليني عن أبان عن الأحول أن زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام (¬5) بعث إليه وهو مستخف، قال [أي شيطان الطاق]: «فأتيته فقال لي: يا أبا جعفر، ما تقول إن طرقك طارق منا، أتخرج معه؟ فقلت له: إن كان أباك أو أخاك، خرجت معه، فقال لي: فأنا أريد أن أخرج أجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي، ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الإيمان: 8 (¬2) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (2/ 654). (¬3) السابق (2/ 660). (¬4) هو أبو جعفر محمد بن النعمان الأحول المعروف بمؤمن الطاق أو صاحب الطاق، وإليه تنسب فرقة من الشيعة تسمى الشيطانية [انظر، محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (17)]. (¬5) هو الإمام الذي يرجع إليه مذهب الزيدية في اليمن، وهو عم جعفر الصادق.

قلت: لا، ما أفعل جعلت فداك، فقال لي: أترغب بنفسك عني؟ قلت له: إنما هي نفس واحدة، فإن كان لله في الأرض حجة فالمتخلف عنك ناج والخارج معك هالك، وإن لا تكن لله حجة في الأرض فالمتخلف عنك والخارج معك سواء. فقال لي: يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقة علي، ولم يشفق علي من حر النار، إذا أخبرك بالدين (¬1) ولم يخبرني به؟؟! فقلت له: جعلت فداك، شفقته عليك من حر النار لم يخبرك، خاف عليك: أن لا تقبله فتدخل النار، وأخبرني أنا، فإن قبلت نجوت، وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل النار، ثم قلت له: جعلت فداك، أنتم أفضل أم الأنبياء؟ قال: بل الأنبياء، قلت: يقول يعقوب ليوسف: {يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (¬2)، لم يخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه ولكن كتمهم ذلك، فكذا أبوك كتمك لأنه خاف عليك» (¬3). يقول محب الدين الخطيب (¬4): «وهكذا اخترع شيطان الطاق أكذوبة الإمامة التي صارت من أصول الديانة عند الشيعة، واتهم الإمام عليًا زين العابدين بن الحسين بأنه كتم أساس الدين حتى عن ابنه الذي هو من صفوة آل محمد، كما اتهم ابنه الإمام زيدًا بأنه لم يبلغ درجة أخس الروافض في قابليته للإيمان بإمامة أبيه. ولو أن غير الكَشِّي من صناديد الشيعة روى هذا الخبر لشككنا في صحته، ولكن الشيعة هم الذين يروونه، ويعلنون فيه أن شيطان الطاق يزعم بوقاحته أنه يعرف عن والد الإمام زيد ما لا يعرفه الإمام زيد من والده مما يتعلق بأصل من أصول الدين عندهم. وليس هذا بكثير على شيطان الطاق الذي روى عنه الجاحظ [159 - 255هـ] أنه قال في كتابه عن الإمامة أن الله لم يقل: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} (¬5)» اهـ. ولقد شارك شيطان الطاق رجل آخر هو هشام بن الحكم [ت. 179هـ]، حتى يقول ¬

(¬1) أي بأمر الإمامة. (¬2) يوسف: 5 (¬3) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 174). (¬4) انظر: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (217) الهامش. (¬5) التوبة: 40، انظر: الفِصَل، لابن حزم (4/ 139)، وسيأتي نص كلامه في موضع لاحق.

ابن النديم الرافضي [ت. 385هـ] إن هشام بن الحكم «ممن فتق الكلام في الإمامة ... وله من الكتب كتاب الإمامة» (¬1). بل ويرى القاضي عبد الجبار المعتزلي أن الذي ادعى النص، وجرأ الناس على شتم أبي بكر وعمر وعثمان والمهاجرين والأنصار هشام بن الحكم، وهو ابتدأه ووضعه، وما ادعى هذا النص أحد قبله (¬2)، ويقول (¬3): «ولوكان هشام من أهل القبلة، لما كان دعواه ودعوى مائة ألف معه مثله حجة، فكيف به وليس من أهل القبلة، وهو معروف بعداوة الأنبياء» اهـ. ويقول الملطي (ت. 377هـ) (¬4): «لأن هشامًا كان ملحدًا دهريًا ثم انتقل إلى الثنوية والمانية ثم غلبه الإسلام فدخل في الإسلام كارهًا فكان قوله في الإسلام بالتشبيه والرفض ... وأما قوله بالإمامة فلم نعلم أن أحدًا نسب إلى علي - رضي الله عنه - وولده عيبًا مثل هشام لعنه الله، والله نحمده قد نزع عن علي وولده عليهم السلام العيوب والأرجاس وطهرهم تطهيرًا. وما قصد هشام بقوله في الإمامة قصد التشيع ولا محبة أهل البيت، ولكن طلب بذلك هدَّ أركان الإسلام والتوحيد والنبوة، فأراد هدمه، وانتحل في التوحيد التشبيه، فهدم ركن التوحيد، وساوى بين الخالق والمخلوق، ثم انتحل محبة أهل البيت ونشر عنهم وطعن على الكتاب والسنة وكفَّر الأمة التي هي حجة الله على خلقه بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكفرهم ونسب إليهم الردة والنفاق، فعمل على هدم الإسلام العمل الذي لم يقدم عليه أحد من أعداء الإسلام، فالله يحكم فيه يوم القيامة بسوء كيده. فزعم هشام لعنه الله أن النبي عليه الصلاة والسلام نص على إمامة علي في حياته بقوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه" ...» (¬5). ¬

(¬1) محمد بن إسحاق النديم الورَّاق: الفهرست، ص (223 - 4). (¬2) انظر، عبد الجبار الهمذاني: تثبيت دلائل النبوة (1/ 223). (¬3) السابق (1/ 225). (¬4) محمد بن أحمد الملطي: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، ص (21) باختصار. (¬5) وهشام بن الحكم كان يقول بأن الله - سبحانه وتعالى - في صورة رجل في سن أبناء الثلاثين سنة! كما يروي الكليني والمجلسي عن إبراهيم بن محمد الخزاز ومحمد بن الحسين قالا: «دخلنا على أبي الحسن الرضا - عليه السلام -، فحكينا له ما روي أن محمدًا رأى ربه في هيئة الشاب الموفق في سن أبناء الثلاثين سنة، رجلاه في خضرة، وقلنا: إن هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي يقولون: إنه أجوف إلى السرة والباقي صمد» [الكليني: الأصول من الكافي (1/ 101)، والمجلسي: بحار الأنوار (4/ 40)] .. وقال ابن حزم: «وقد قال هشام هذا في حين مناظرته لأبي الهذيل العلاف أن ربه سبعة أشبار بشبر نفسه» [ابن حزم: الفِصَل (4/ 139)]. وعلى الرغم من هذه البلايا التي تنقلها عنه أوثق كتب الشيعة، فإن هشام هذا حديثه في قائمة الصدارة في الصحاح الثمانية عند الشيعة وغيرها، ويقول عنه سيدهم محسن الأمين (1284 - 1371هـ) ما نصه: «إن زرارة بن أعين والهشامين ويونس بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان الملقب بمؤمن الطاق كلهم ثقات، صحيحوا العقيدة، متكلمون حذاق، من أجلاء تلاميذ وأصحاب الإمامين جعفر بن محمد الصادق وابنه موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام» [محسن الأمين: أعيان الشيعة (1/ 22)]، وكذلك يقول عنه سيدهم عبد الحسين شرف الدين ما نصه: «لم يعثر أحد من سلفنا على شيء مما نسبه الخصم إليه» [عبد الحسين شرف الدين: المراجعات، ص (391)، المراجعة رقم: 110]، ولا عجب، فمثل هشام بن الحكم وشيطان الطاق وغيرهم - عند الرافضة - كمثل أبي بصير ليث بن البختري المرادي - الراوي المشهور - (ت. 150هـ) الذي قال ابن الغضائري الشيعي [ت. القرن الخامس الهجري] في ترجمته: «وعندي أن الطعن وقع على دينه لا على حديثه، وهو عندي ثقة» [انظر: رجال الحلي، ص (137)]، أي: أن الطعن في دينه لا يوجب الطعن فيما يرويه!!

إذن، فهشام بن الحكم وشيطان الطاق وأتباعهما هم الذين أحيوا نظرية ابن سبأ في أمير المؤمنين علي ثم عمموها على آخرين من سلالة أهل البيت، واستغلوا بعض ما جرى على أهل البيت، كمقتل علي والحسين، في إثارة مشاعر الناس وعواطفهم، والدخول إلى قلوبهم لتحقيق أغراضهم ضد الدولة الإسلامية في ظل هذا الستار (¬1). ولقد اختلفت اتجاهات الشيعة وتباينت مذاهبهم في عدد الأئمة، فكما يقول شاه عبد العزيز الدهلوي (¬2): «اعلم أن الإمامية قائلون بانحصار الأئمة، ولكنهم مختلفون في مقدارهم، فقال بعضهم خمسة، وبعضهم سبعة، وبعضهم ثمانية، وبعضهم اثنا عشر، وبعضهم ثلاثة عشر». فأما الاثنا عشرية، فقد استقر قولها - فيما بعد - بحصر الإمامة في اثني عشر إمامًا؛ يقول القفاري (¬3): «هذا المصطلح [أي الاثنا عشرية] لا نجده في كتب الفرق والمقالات ¬

(¬1) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (2/ 665). (¬2) محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (215). (¬3) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (2/ 103 - 4) بتصرف.

ولماذا اثنا عشر إماما؟

المتقدمة، فلم يذكره [سعد بن عبد الله] القُمِّي (ت. 299/ 301هـ) في (المقالات والفرق)، ولا النوبختي في (فرق الشيعة)، ولا الأشعري في (مقالات الإسلاميين). ولعل أول من ذكره من الشيعة المسعودي (ت. 349هـ) في (التنبيه والإشراف). أما من غير الشيعة فلعله عبد القاهر البغدادي في (الفرق بين الفِرَق) حيث ذكر أنهم سموا بالاثنى عشرية لدعواهم أن الإمام المنتظر هو الثاني عشر من نسبه إلي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وظهور هذا الاسم كان بلا شك بعد ميلاد فكرة الأئمة الاثني عشر، والتي حدثت بعد وفاة الحسن العسكري، حيث إنه "قبل موت الحسن بن علي العسكري لم يكن أحد يقول بإمامة هذا المنتظر [إمامهم الثاني عشر]، ولا عرف من زمن علي ودولة بني أمية أحد ادعى إمامة الاثني عشر وهذا القائم" (¬1)، ولكن يرى صاحب مختصر التحفة الاثني عشرية أن زمن ظهور الإمامية الاثنى عشرية سنة مائتين وخمس وخمسين (¬2)، ويبدو أنه عيَّن هذا التاريخ بالذات، لأن تلك السنة (255هـ) هي التي زعمت الاثنا عشرية أنه ولد فيها إمامهم الثاني عشر، والذي يزعمون حياته إلى اليوم، وينتظرون خروجه، فإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يحدد التاريخ بسنة 260هـ، لأن دعوى وجود الإمام الثاني عشر المنتظر إنما ظهرت بعد وفاة الحسن العسكري (والذي توفي سنة 260هـ)» اهـ. ولماذا اثنا عشر إمامًا؟ يحاول الرافضة إضفاء نوع من الشرعية على عدد أئمتهم عن طريق التدليل بأحاديث كثيرة لا أصل لها ملئت بها كتبهم ويطول المقام بذكرها، ولكن أذكر منها حديث الاثني عشر والذي له ألفاظ عدة في الصحيحين وغيرهما، حيث إنهم يتعلقون بهذه النصوص ويحتجون بها على أهل السنة، لا لإيمانهم بما جاء في كتب أهل السنة، ولكن للاحتجاج عليهم بما يسلمون به، عملًا بقول «من فمك أدينك». فلقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: «يكون اثنا عشر أميرًا كلهم من قريش» (¬3)، وقوله: «إن ¬

(¬1) ابن تيمية: منهاج السنة (8/ 249). (¬2) محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (22). (¬3) رواه البخاري، كتاب الأحكام: 7222

هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة» (¬1)، وقال: «لا يزال الإسلام عزيزًا إلى اثني عشر خليفة» (¬2)، وقال: «لا يزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» (¬3). واستدلالهم هذا باطل من وجوه: - أوصاف الاثنى عشر المذكورين في الحديث وزمنهم أنهم: (يتولون الخلافة، الإسلام في عهدهم عزيز، الناس يجتمعون عليهم). ولا ينطبق على أئمة الشيعة أي وصف منها، حتى العدد لا ينطبق عليهم، لأن الإمام الحادي عشر الحسن العسكري مات بدون ذرية كما سنبين بعد قليل. - الحديث ليس فيه حصر لعدد الأئمة، بل هو خبر أن الدين يكون عزيزًا وقت حكمهم. - الشيعة تقول إن كل أئمتهم كانوا مستترين خائفين يتعاملون بالتقية، بل إن عليًا عندهم لم يستطع أن يُظهر الدين الصحيح؛ فما استطاع أن يظهر القرآن الصحيح ولا منع صلاة التراويح ولا أمر بزواج المتعة! - كيف يكون نص على علي - رضي الله عنه - والنصوص وردت عن علي تنافي ذلك، كما نسب إليه في نهج البلاغة أنه قال: «أنا لكم وزيرًا خير مني لكم أميرًا» (¬4). - إذا كان الأمر كما ورد في الحديث، فلم قَبِل علي - رضي الله عنه - بالشورى، وتنازل الحسن لمعاوية، وبايع الحسين لمعاوية، وبايع جميع أئمتهم للخلفاء؟ - قال - صلى الله عليه وسلم -: «في أمتي اثنا عشر منافقًا» (¬5)، فالعدد لا عبرة له (¬6). - أيضًا، روى الكليني في الكافي جملة من أحاديثهم تقول بأن الأئمة ثلاثة عشر، ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب الإمارة: 1821 (¬2) نفسه. (¬3) رواه مسلم، كتاب الإمارة: 1822 (¬4) نهج البلاغة، المنسوب لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ص (136). (¬5) رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: 2779 (¬6) عثمان الخميس: حقبة من التاريخ، ص (216 - 7) بتصرف.

اعتقاد الرافضة في أئمتهم

فعن أبي الجاورد، عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني واثنى عشر من ولدي وأنت يا علي زر الأرض يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا» (¬1). فهذا النص أفاد أن أئمتهم بدون علي اثنا عشر ومع علي يصبحون ثلاثة عشر. وهذا ينسف بنيان الاثنى عشرية، ولهذا يظهر أن شيخهم الطوسي في الغيبة تصرف في النص وغيَّر فيه فأورده بهذا اللفظ: «إني وأحد عشر من ولدي» (¬2). - كذلك روى الكليني عن أبي الجارود، عن أبي جعفر - عليه السلام - عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «دخلت على فاطمة عليها السلام وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت اثني عشر آخرهم القائم - عليه السلام -، ثلاثة منهم محمد وثلاثة منهم علي» (¬3). فانظر كيف اعتبروا أئمتهم اثنى عشر كلهم من أولاد فاطمة، فإذن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ليس من أئمتهم لأنه زوج فاطمة لا ولدها، أو يكون مجموع أئمتهم ثلاثة عشر (¬4). اعتقاد الرافضة في أئمتهم: يقول الخميني في وصفهم (¬5): «إن للإمام مقامًا محمودًا، ودرجة سامية، وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون، وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل». ويقول الجزائري (¬6): «اعلم أنه لا خلاف بين أصحابنا - رضي الله عنهم - في أشرفية نبينا على سائر الأنبياء للأخبار المتواترة، وإنما الخلاف بينهم في أفضلية أمير المؤمنين علي والأئمة الطاهرين على الأنبياء ما ¬

(¬1) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 534). (¬2) أبو جعفر الطوسي: الغيبة، ص (139). (¬3) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 532). (¬4) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (2/ 668). (¬5) الخميني: الحكومة الإسلامية، ص (52). (¬6) نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية (1/ 20 - 1).

عدا جدهم، فذهب جماعة إلى أنهم أفضل من باقي الأنبياء ما خلا أولي العزم، فهم أفضل من الأئمة، وبعضهم إلى مساواتهم، وأكثر المتأخرين إلى أفضلية الأئمة على أولي العزم وغيرهم، وهو الصواب». ويقول الكليني (¬1): «قال جعفر بن محمد - عليه السلام - في قوله تعالى {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬2): نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من عباده عملًا إلا بمعرفتنا». بل لقد عقد الكليني في الكافي بابًا في (أن الأرض كلها للإمام)، جاء فيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: «أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء» (¬3). ويعتقد الرافضة أن أئمتهم يتنزل عليهم الوحي، كما روى الكليني عن أسباط بن سالم قال: «سأله - أي أبا عبد الله - رجل من أهل هيت (¬4) وأنا حاضر - عن قول الله - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} (¬5) فقال: منذ أنزل الله - عز وجل - ذلك الروح على محمد صلى الله عليه وآله ما صعد إلى السماء وإنه لفينا» (¬6)، وعن أبي بصير قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}، قال: خلق من خلق الله - عز وجل - أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله يخبره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده» (¬7). أيضًا، يعتقدون أن أئمتهم يعلمون الغيب، حيث عقد شيخهم الكليني بابًا في الكافي في (أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم) (¬8)، وكذلك ¬

(¬1) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 144). (¬2) الأعراف: 280 (¬3) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 409). (¬4) بلد بالعراق. (¬5) الشورى: 52 (¬6) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 273). (¬7) السابق (1/ 273)، وفي هذا نقض لقول محمد الحسين آل كاشف الغطاء المذكور آنفًا: «... سوى أن الإمام لا يوحى إليه كالنبي، وإنما يتلقى الأحكام منه مع تسديد إلهي، فالنبي مبلغ عن الله والإمام مبلغ عن النبي» اهـ[آل كاشف الغطاء: أصل الشيعة وأصولها، ص (212)]، وكما يقال: «إن الكذب ليس له أرجل، والفضيحة لها أجنحة!!». (¬8) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 258).

عقد بابًا آخر في (أن الأئمة عليهم السلام يعلمون علم ما كان، وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم شيء)، روى فيه: «عن الحارث بن المغيرة، وعدة من أصحابنا سمعوا أبا عبد الله - عليه السلام - يقول: إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون» (¬1). وروى المجلسي عن صفوان بن يحيى عن بعض رجاله عن الصادق - عليه السلام - أنه قال: «والله لقد أُعطينا علم الأولين والآخرين، فقال له رجل من أصحابه: جُعلت فداك أعندكم علم الغيب؟ فقال له: ويحك إني لأعلم ما في أصلاب الرجال وأرحام النساء» (¬2). ويعتقدون كذلك أن جزءًا من النور الإلهي، قد حلَّ بعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، كما يروي الكليني عن علي بن حديد، عن مرازم، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: «قال الله تبارك وتعالى: يا محمد، إني خلقتك وعليًا نورًا - يعني روحًا بلا بدن - قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري، فلم تزل تهللني وتمجدني، ثم جمعت روحيكما فجعلتهما واحدة فكانت تمجدني وتقدسني، وتهللني، ثم قسمتها ثنتين وقسمت الثنتين ثنتين فصارت أربعة محمد واحد وعلي واحد والحسن والحسين ثنتان، ثم خلق الله فاطمة من نور ابتدأها روحًا بلا بدن، ثم مَسَحَنا - أي الأئمة - بيمينه فأفضى نوره فينا» (¬3). وقال أيضًا: «إن الله تعالى أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم، ولكنه خلطنا بنفسه، فجعل ظلمنا ظلمه، وولايتنا ولايته، حيث يقول: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (¬4) يعني الأئمة منا» (¬5). ويعتقدون أن أعمال العباد تُعرَض على الأئمة في كل يومٍ وليلة، كما روى الكليني عن عبد الله بن أبان الزيات قال: «قلت للرضا - عليه السلام -: ادع الله لي ولأهل بيتي، فقال: أولست أفعل؟! والله، إن أعمالكم لتُعرَض علي في كل يومٍ وليلة» (¬6). ¬

(¬1) السابق (1/ 261). (¬2) المجلسي: بحار الأنوار (26/ 27 - 8). (¬3) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 440). (¬4) المائدة: 55 (¬5) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 146). (¬6) السابق (1/ 219).

ويعتقدون أن أئمتهم الاثني عشر هم الواسطة بين الله وبين خلقه، حيث قال المجلسي عن أئمتهم ما نصه: «فإنهم حُجُب الرب، والوسائط بينه وبين الخلق» (¬1)، كما بوَّب في كتابه بابًا في «أن الناس لا يهتدون إلا بهم، وأنهم الوسائل بين الخلق وبين الله، وأنه لا يدخل الجنة إلا من عرفهم» (¬2). ويعتقدون أن أئمتهم لهم حق التحريم والتحليل والتشريع، حيث روى الكليني والمجلسي عن محمد بن سنان عن أبي جعفر الثاني - عليه السلام - أنه قال: «يا محمد، إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفردًا بوحدانيته ثم خلق محمدًا وعليًا وفاطمة، فمكثوا ألف دهرٍ، ثم خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها، وأجرى طاعتهم عليها، وفوض أمورهم إليها، فهم يحلون ما يشاءون ويحرمون ما يشاءون ولن يشاءوا إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى» (¬3). بل قد وضعوهم في مكانة تذكرك بوضع الباباوات والقسس في النظام الكنسي، يقول شيخهم محمد رضا المظفر (1322 - 1383هـ) ما نصه (¬4): «بل نعتقد أن أمرهم أمر الله تعالى، ونهيهم نهيه، وطاعتهم طاعته، ومعصيتهم معصيته، ووليهم وليه، وعدوهم عدوه. ولا يجوز الرد عليهم، والراد عليهم كالراد على الرسول، والراد على الرسول كالراد على الله تعالى» اهـ. كما تُسنِد الشيعة الحوادث الكونية التي لا يتصرف فيها إلا الله تعالى إلى أئمتهم، فكل ما يجري في هذا الكون من رعد وبرق وغير ذلك، فأمره إلى أئمتهم، كما ذكر ذلك المجلسي عن سماعة بن مهران قال: «كنت عند أبي عبد الله - عليه السلام -، فأرعدت السماء وأبرقت، فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: أما إنه ما كان من هذا الرعد ومن هذا البرق فإنه من أمر صاحبكم، قلت: من صاحبنا؟ قال: أمير المؤمنين - عليه السلام -» (¬5). ¬

(¬1) المجلسي: بحار الأنوار (23/ 97). (¬2) ج23 الباب6 (¬3) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 441)، والمجلسي: بحار الأنوار (25/ 340). (¬4) محمد رضا المظفر: عقائد الإمامية، ص (74)، فصل الإمامة، باب عقيدتنا في طاعة الأئمة. (¬5) المجلسي: بحار الأنوار (27/ 33).

ويعتقدون كذلك أن عليًا يركب السحاب، كما روى المجلسي أن عليًا أومأ إلى سحابتين، فأصبحت كل سحابة كأنها بساط موضوع، فركب على سحابة بمفرده، وركب بعض أصحابه على الأخرى، وقال فوقها: «أنا عين الله في أرضه، أنا لسان الله الناطق في خلقه، أنا نور الله الذي لا يُطفأ، أنا باب الله الذي يؤتى منه، وحجته على عباده» (¬1). كما يعتقد الشيعة أن حمل الأئمة لا يكون في رحم البطن بل في الجانب، وأن ولادتهم تكون من أفخاذ الأمهات بعيدًا عن القذارة والنجاسة! كما روى المجلسي عن أبي محمد - عليه السلام - أنه قال: «إنا معاشر الأوصياء لسنا نُحمَل في البطون، وإنما نُحمَل في الجُنوب، ولا نخرج من الأرحام، وإنما نخرج من الفخذ الأيمن من أمهاتنا، لأننا نور الله لا تناله الدناسات» (¬2). بل قد غلت الشيعة الإمامية في الحسين بن علي رضي الله عنهما، حيث يعتقدون أن قبر الحسين - رضي الله عنه - شفاء من كل داء، وذكر شيخهم المجلسي قرابة من ثلاث وثمانين رواية عن تربة الحسين وفضائلها وأحكامها وآدابها، ومنها قوله: «قال أبو عبد الله: حنكوا أولادكم بتربة الحسين فإنه أمان» (¬3). كما أفتى الخميني لأتباعه ومريديه بأن يأكلوا من تربة الحسين للاستشفاء بها، حيث إنه يرى لها فضيلة لا تلحق بها أية تربة حتى تربة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول ما نصه (¬4): «يحرم أكل الطين، وهو التراب المختلط بالماء حال بلته، وكذا المدر وهو الطين اليابس، ويلحق بهما التراب على الأحوط»، ثم يقول: «يُستثنى من الطين طين قبر سيدنا أبي عبد الله الحسين - عليه السلام - للاستشفاء ولا يجوز أكله بغيره، ولا أكل ما زاد عن قدر الحمصة المتوسطة، ولا يلحق به طين غير قبره، حتى قبر النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، نعم لا بأس أن يمزج بماء أو شربة، ويستهلك فيه والتبرك والاستشفاء بذلك الماء وتلك الشربة» اهـ (¬5). ¬

(¬1) السابق (27/ 33 - 4). (¬2) السابق (51/ 26). (¬3) السابق (101/ 115). (¬4) الخميني: تحرير الوسيلة (2/ 153)، كتاب الأطعمة والأشربة، باب القول في غير الحيوان، مسألة رقم: 7 (¬5) السابق، مسألة رقم: 9

ويروي محمد بن محمد بن النعمان العكبري الملقب بالشيخ المفيد (336 - 413هـ)، عن محمد بن إسماعيل البصري عن بعض رجاله عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال: «طين قبر الحسين شفاء من كل داء، فإذا أكلته فقل بسم الله وبالله، اللهم اجعله رزقًا واسعًا، وعلمًا نافعًا، وشفاءً من كل داء، إنك على كل شيء قدير» (¬1). كذلك يعتقد الشيعة أن زيارة مشاهد وقبور أئمتهم أعظم من الحج إلى بيت الله العتيق، فقال شيخهم الكليني مانصه (¬2): «إن زيارة قبر الحسين تعدل عشرين حجة، وأفضل من عشرين عمرة وحجة». بل يجوزون الاستغاثة بغير الله مطلقًا كقولهم «يا مهدي أدركني ... !»، ويهجرون المساجد ويعمرون المشاهد، ويعبدون قبور الأئمة، فيذبحون عندها، وينذرون لها، ويحلفون بها، ويستغيثون بهم في طلب الحاجات وكشف الكربات، ويسجدون إلى قبورهم، ويستقبلونها في صلاتهم، «زاعمين أن ما جاور العظيم فهو عظيم، وأن إكرام الله لساكن القبر يتعدى إلى القبر نفسه، حتي يصح أن يكون وسيلة إلى الله» (¬3). يقول المجلسي (¬4): «إذا كان لك حاجة إلى الله - عز وجل - فاكتب رقعة على بركة الله، واطرحها على قبرٍ من قبور الأئمة إن شئت، أو فشدها واختمها، واعجن طينًا نظيفًا واجعلها فيه، واطرحها في نهرٍ جارٍ، أو بئرٍ عميقة، أو غديرَ ماء، فإنها تصل إلى السيد - عليه السلام -، وهو يتولى قضاء حاجتك بنفسه». ويقول المفيد في (المزار)، في باب (القول عند الوقوف عند الحدث) (¬5): «وذلك أن يشير زائر الحسين بيده اليمنى ويقول في دعاء طويل: وأتيتك زائرًا التمس ثبات القدم في الهجرة إليك وقد تيقنت أن الله جل ثناؤه بكم ينفس الهم ... وبكم ينزل الغيث وبكم ينزل الرحمة وبكم يمسك الأرض أن تسيخ بأهلها وبكم يثبت الله جبالها على مراسيها، ¬

(¬1) المفيد: المزار، ص (149)، باب ما يقول الرجل إذا أخذ من طين قبر الحسين - عليه السلام -. (¬2) الكليني: الفروع من الكافي (4/ 580). (¬3) ناصر الدين الألباني: التوسل، أنواعه وأحكامه، ص (10). (¬4) المجلسي: بحار الأنوار (91/ 29). (¬5) المفيد: المزار، ص (111)، باب القول عند الوقوف على الحدث.

مغالطات واضحة

قد توجهت إلى ربي بك يا سيدي في قضاء حوائجي ومغفرة ذنبي ...». سبحانك هذا بهتان عظيم!! ... مغالطات واضحة: المتتبع لسلسلة الأئمة يلاحظ الآتي: - إسماعيل كان الابن الأكبر للإمام جعفر الصادق ووصى له بالإمامة من بعد أبيه، ثم توفي إسماعيل في حياة أبيه جعفر، فاحتار الشيعة ماذا يفعلون، فانتهى بهم الأمر أنهم زعموا أن الإمامة انتقلت إلى أخيه الأصغر موسى بن جعفر الصادق، وبرروا ذلك التغيير في مسار الإمامة - والتي لا تكون إلا بمقتضى أمر من الله - إن ذلك بداءً حصل لله تعالى!، فيقول ابن بابويه القمي (ت. 329هـ) (¬1): «إن جعفر بن محمد - عليه السلام - نص لهم على إسماعيل وأشار إليه في حياته، ثم إن إسماعيل مات في حياته فقال: ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني». وانقسمت الشيعة بعد ذلك إلى إسماعيلية (نسبة إلى إسماعيل بن جعفر)، وموسوية (نسبة إلى موسى بن جعفر). - كان للإمام العاشر أبي الحسن علي بن محمد الهادي ولدان: أبو جعفر محمد بن علي، وأبو محمد الحسن بن علي، وأبو جعفر هذا ولده الأكبر مات في حياته، وكانت الشيعة تزعم أنه الإمام (¬2)، فلمَّا مات جعلوا الإمامة في ابنه الأصغر أبي محمد الحسن بن علي، وعللوا ذلك أيضًا بالبداء، فروى الكليني عن أبي هاشم الجعفري قوله: «كنت عند أبي الحسن - عليه السلام - بعد ما مضى ابنه أبو جعفر، وإني لأفكر في نفسي أريد أن أقول: كأنهما - أعني أبا جعفر وأبا محمد - في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل ابنَي جعفر بن محمد عليهم السلام، وإن قصتهما كقصتهما، إذ كان أبو محمد المرجى بعد أبي جعفر - عليه السلام -. فأقبل عليَّ أبو الحسن قبل أن أنطق فقال: نعم يا أبا هاشم، بدا لله في أبي محمد بعد أبي ¬

(¬1) ابن بابويه القمي: إكمال الدين وإتمام النعمة (1/ 69). (¬2) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 325) الهامش.

جعفر - عليه السلام - ما لم يكن يعرف له، كما بدا له في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله، وهو كما حدثتك نفسك وإن كره المبطلون، وأبو محمد ابني الخلف من بعدي، عنده علم ما يحتاج إليه ومعه آلة الإمامة» (¬1). ولذلك تجدهم عند زيارة مرقد الإمامين العاشر والحادي عشر يرددون: «السلام عليكما يا من بدا لله في شأنكما»! (¬2). - توفي الإمام الحادي عشر الحسن بن علي العسكري ولم يكن له ولد أصلًا، فروى الكليني حكاية طويلة مملة مفادها أنه لما مرض الحسن العسكري ومات، أخذ السلطان والناس يبحثون عن ولد له فلم يجدوا، وكانوا يشكُّون في جارية من جواريه أنها حامل، فلما تبين بطلان الحمل، قُسِّم الميراث بين أمه وأخيه (¬3). إذن فمحمد بن الحسن (الإمام الثاني عشر) مهديهم المنتظر، شخصية خيالية لا وجود لها! (¬4). ¬

(¬1) السابق (1/ 327). (¬2) انظر، المفيد: المزار، ص (203)، باب مختصر فضل زيارة السيدين أبي الحسن علي بن محمد وأبي محمد الحسن بن علي العسكري - عليه السلام -. (¬3) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 505). (¬4) علمًا بأن مهدي الشيعة المزعوم - بفرض وجوده - فاسمه محمد بن الحسن العسكري، وهو من ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، في حين أنه، وكما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ابن مسعود: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه رجل مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا"، ورواه الترمذي وأبو داود من رواية أم سلمة وأيضًا فيه: "المهدي من عترتي من ولد فاطمة"، ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد وفيه: "يملك الأرض سبع سنين"، ورواه عن علي - رضي الله عنه - أنه نظر إلى الحسن وقال: "إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخُلُقِ ولا يشبهه في الخَلْقِ يملأ الأرض قسطًا"» اهـ[ابن تيمية: منهاج السنة (8/ 255 - 6)] .. وفي كونه من ولد الحسن سر لطيف، وهو أن الحسن - رضي الله عنه - ترك الخلافة لله فجعل الله من ولده من يقوم بالخلافة بالحق المتضمن للعدل الذي يملأ الأرض، هذه سنة الله في عباده، أن من ترك لأجله شيئًا أعطاه الله وأعطى ذريته أفضل منه، والله أعلم [انظر، صالح الفوزان: الإرشاد، ص (186)]. ولهذا الفضل ولهذا الشرف، لما أكثر الناس في ادعاء المهدية، سأل حفص بن غياث (ت. 194هـ) الإمام سفيان الثوري (ت. 161هـ) فقال له: «يا أبا عبد الله، إن الناس قد أكثروا في المهديِّ، فما تقول فيه؟ قال: إن مر على بابك، فلا تكن منه في شيء، حتى يجتمع الناس عليه» اهـ[انظر: حلية الأولياء، لأبي نعيم (7/ 31)].

حيرة!!

حيرة!! اشترطت الشيعة الإمامية عدم جواز انتقال الإمامة إلى الأخ أو العم أو ابن العم وهكذا (مع أن هذا حدث مع موسى بن جعفر الكاظم والحسن بن علي العسكري وبرروه بالبداء)، ولما مات الحسن العسكري، ولم يكن له عقب، وقعوا في (حيص بيص!)، وانسدت في وجوههم المخارج، فهم بين ثلاثة أمور: إما أن يتنازلوا عن هذا الشرط، وإما أن يسلِّموا بانقطاع الإمامة بعد الحسن العسكري لانقطاع الولد (¬1)، وإما أن يخترعوا ولدًا للحسن يقوم مقامه .. فكانت الثالثة (¬2)!! فادعوا أنه ولد للإمام الحسن العسكري ابنٌ، وهو محمد المهدي، وأنه اختفى في سرداب (سُرَّ من رأى/سامراء) - وهذه يسمونها الغيبة الصغرى -، وإمامته وحكمه مستمران إلى يوم القيامة، وطوال هذه المدة فهو إمام الزمان والحاكم الديني والدنيوي للأمة، وهو معيَّن من قِبَل الله تعالى (¬3). ولماذا اختفى؟ تضاربت أقوال علماء الشيعة لتبرير دعوى اختفاء المهدي وعدم خروجه حتى الآن رغم أنه بلغ من العمر أربعًا وسبعين ومئة وألف (1174) سنة أو ربما أكثر! لأنهم قالوا كما يروى عن أبي محمد: «إنا معاشر الأوصياء ننشؤ في اليوم ما ينشؤ غيرنا في الجمعة، وننشؤ في الجمعة ما ينشؤ غيرنا في السنة» (¬4): ¬

(¬1) وهذا معناه - في زعمهم - هلاك الأرض ومن عليها، كما روى الكليني عن أبي حمزة أنه قال لأبي عبد الله: «تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت»، وروى عن أبي جعفر أنه قال: «لو أن الإمام رفع عن الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله» [الكليني: الأصول من الكافي (1/ 179)]، ويقول المجلسي: «إن العقل يحكم بأن اللطف على الله واجب، وأن وجود الإمام لطف باتفاق جميع العقلاء ... وأنه لا بد أن يكون معصومًا» [المجلسي: بحار الأنوار (51/ 214 - 5)]، وهذا كذب ومحض افتراء! إذ ربما يلزمك الخصم بما لا يلزم أصلًا، والواقع يشهد ببطلان كلامهم، وقد كانت فترات بين الرسل، ولم تسخ الأرض بأهلها، {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64]. (¬2) عثمان الخميس: من هو المهدي؟، ص (60). (¬3) محمود العسقلاني: عقائد الشيعة، ص (76). (¬4) المجلسي: بحار الأنوار (51/ 27).

- فقال الطوسي (¬1): «لا علة تمنع من ظهوره إلا خوفه على نفسه من القتل، لأنه لو كان غير ذلك لما جاز له الاستتار، وكان يتحمل المشاق والأذى»، ولماذا يخاف وقد جاءت روايات تقول: «إن الأئمة يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا باختيار منهم» (¬2)، وقد علم المهدي أنه يعيش إلى أن ينزل عيسى - عليه السلام - (¬3). أضف إلى هذا، فإنه قد قامت دول شيعية كثيرة قوية، كالدولة العبيدية والبويهية والقرامطة والخمينية ... فلماذا لم يخرج في ظل هذه القوة، فيأنسوا بطلعته، ويستفيدوا من علمه، حتى إذا زالت دولتهم أو ضعفت، غاب مرة أخرى؟! - قالوا: اختفى من أجل التمحيص والامتحان (¬4)، وهذا أيضًا يناقضه رواية في الكافي تقول: «لو علم الله أنهم يرتابون، ما غيب حجته طرفة عين» (¬5). - وقالوا: غائب حتى لا تكون في عنقه بيعة لطاغوت؛ روى المجلسي عن الحسن بن علي - رضي الله عنه - أنه قال: «ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه، إلا القائم الذي يصلي خلفه روح الله عيسى بن مريم، فإن الله - عز وجل - يخفي غيبته ويغيب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج» (¬6)، وهذا كلام لا مفهوم له؛ إذ هل معنى ذلك أنه وقتما يخرج لن يكون هناك طاغوت حاكم يبايعه؟! لا سيما أن الثابت أن عيسى - عليه السلام - سينزل في زمان المهدي لا قبله، فلو كان الأمر كما يدعون، فلا أظن مهديهم يخرج أبدًا! - وقال الطوسي (¬7): «إننا أولًا لا نقطع عن استتاره على جميع أوليائه، بل يجوز أن يظهر لأكثرهم»، يعني هو موجود يظهر، لكن من لايظهر له لا يُنكِر، فهو ما يظهر لك لأنك ضعيف الإيمان أو أن هناك مزاحمة - أي غيرك يريد رؤيته -، فلذلك لا تنكر، آمن ¬

(¬1) أبو جعفر الطوسي: الغيبة، ص (329)، فصل ذكر العلة المانعة لصاحب الأمر - عليه السلام - من الظهور. (¬2) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 258). (¬3) المجلسي: بحار الأنوار (52/ 279). (¬4) أبو جعفر الطوسي: الغيبة، ص (335 - 9). (¬5) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 333). (¬6) المجلسي: بحار الأنوار (52/ 279). (¬7) أبو جعفر الطوسي: الغيبة، ص (99).

في السرداب

واسكت! وهذا نظير جواب أحد القساوسة قيل له: «كيف نؤمن أن الله واحد وأنه ثلاثة في نفس الوقت؟ قال: أول شيء عليك أن تؤمن بأن الله واحد وأن الله ثلاثة في نفس الوقت، فإذا آمنت جاءك عيسى - عليه السلام - وفهمك، فإذا لم يأت، فإنك ما آمنت!». ولذلك ادعى رؤية المهدي الكثير، ولماذا؟ حتى يُقال إيمانهم قوي بدليل رؤية المهدي، فإن قالوا ما ظهر لهم فإيمانهم ضعيف (¬1). - وقالوا: لحكمة مجهولة! فروى ابن بابويه القمي عن جعفر الصادق أنه قال: «إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر - عليه السلام - من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لموسى - عليه السلام - إلى وقت افتراقهما ... إن هذا الأمر أمر من أمر الله تعالى، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنه - عز وجل - حكيم صدَّقنا بأن أفعاله كلها حكمة وإن كان وجهها غير منكشف» (¬2)، وهذا جواب ذكي، وهو يحل جميع الإشكالات! في السرداب: بعد أن ادَّعى القوم اختفاء المهدي في السرداب، ادَّعوا أن له نوابًا يتصلون به، ويبلغون أوامره لعلمائهم، وتبارى الناس في ادعاء النيابة عنه، وذلك للمردود المادي والمعنوي لهذه النيابة. والنواب الأربعة الشرعيون في نظر الشيعة الاثني عشرية هم: عثمان بن سعيد العمري، وولده محمد بن عثمان العمري، والحسين بن روح النوبختي، وعلي بن محمد السيمري. ومن دونهم فهم كلهم كذابون في نظر الشيعة الاثني عشرية. ونحن لو قلنا من جهتنا نكذب حتى الأربعة الأوائل! والأدلة على كذبهم كثيرة جدًا، أقتصر على الآتي: فعثمان بن سعيد العمري، يذهب إلى المهدي المنتظر ومعه أسئلة، ثم يأتي ويقول هذه إجابة المهدي المنتظر كذا وكذا ... انتهى. فلما جاء بعده ابنه محمد وقيل له دعنا نرى خط المهدي قال: «قال المهدي: لا تظهر على خطنا الذي سطرناه أحدًا» (¬3) الخط ¬

(¬1) عثمان الخميس: من هو المهدي؟، ص (37 - 8). (¬2) ابن بابويه القمي: إكمال الدين وإتمام النعمة (2/ 482)، باب علة الغيبة. (¬3) المجلسي: بحار الأنوار (53/ 171).

كم مدة غيبته؟

سرِّي! أتدرون لماذا؟ لأنه إذا اطَّلع أحد على هذا الخط يظهر الكذب، لأنه سيختلف الخط من عثمان العمري إلى ولده محمد إلى الحسين النوبختي إلى محمد السيمري، لأنه لا يوجد مهدي أصلًا (¬1). والفائدة التي حصل عليها الذين يتزعمون مذهب الشيعة الإمامية أنهم باسم الإمام يحكمون الناس ويولون أمورهم من غير أن يستطيع أحد الاعتراض عليهم، وكأن ما جاء في هذه (الرقاع) المزورة أبلغ من نصوص الإسلام عندهم .. روى ابن بابويه القمي عن محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال: «سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابًا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي»، فجاءه الرد بالآتي: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله، وأما محمد بن عثمان العمري فرضي الله عنه وعن أبيه من قبل، فإنه ثقتي وكتابه كتابي» (¬2). وحجة الله هو الذي عينه الله للقيام بأمور المسلمين، فتكون أفعاله وأقواله حجة على المسلمين يجب إنفاذها. كم مدة غيبته؟ كثرت أسئلة العوام عن المهدي وسبب تأخره، وكان النواب في بادئ الأمر يتحججون أن تأخره كان بسبب البداء، فقالوا: «إنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد وقَّت هذا الأمر في الأوقات التي ذكرت، فلما تجدد ما تجدد تغيرت المصلحة واقتضت تأخيره إلى وقت آخر» (¬3)، وقالوا: «فلما أن قتل الحسين صلوات الله عليه اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض، فأخره إلى أربعين ومائة، فحدثناكم فأذعتم الحديث فكشفتم قناع الستر، ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتًا عندنا» (¬4)، ثم بدأت الناس تتشكك وترتاب ¬

(¬1) عثمان الخميس: من هو المهدي؟، ص (47). (¬2) ابن بابويه القمي: إكمال الدين وإتمام النعمة (2/ 484)، باب ذكر التوقيعات الواردة عن القائم - عليه السلام -، والحر العاملي: وسائل الشيعة (27/ 140)، كتاب القضاء. وكان من آثار ذلك ما رواه ابن بابويه القمي عن أبي جعفر قوله: «ولد لي مولود فكتبت أستأذن في تطهيره يوم السابع أو الثامن فلم يكتب شيئًا فمات المولود يوم الثامن ثم كتبت أخبر بموته فورد سيخلف عليك غيره»! [إكمال الدين وإتمام النعمة (2/ 489)]. (¬3) أبو جعفر الطوسي: الغيبة، ص (429)، فصل فيما ذكر في بيان عمره - عليه السلام -. (¬4) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 368).

وعرفت هذه بالغيبة الكبرى ..

في أقوالهم، فادَّعى محمد السيمري قبيل وفاته بشهور قليلة أنه وصلت رقعة إليه بتوقيع الإمام المهدي جاء فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمد السيمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فأجمِع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية (¬1)، فلا ظهور إلا بعد إذن الله - عز وجل -، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جورًا، وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» اهـ (¬2). وعرفت هذه بالغيبة الكبرى .. يقول الخميني (¬3): «مضى أكثر من ألف عام [أي على غيبة المهدي]، وقد تمر ألف عام أخرى قبل أن تقتضي المصلحة ظهور صاحب الأمر». وما زالت الأعذار تتوالى إلى عامنا هذا، حتى تحجج مؤخرًا تلميذ الخميني، رئيس إيران محمود أحمدي نچاد، بكون الولايات المتحدة الأمريكية «تشكل أكبر حاجز أمام ظهور المهدي المنتظر»، وعلل أسباب غيبته بـ «إمكانية تكرار حادثة كربلاء وتعرض المهدي المنتظر لما واجهه الأنبياء، وبالتالي تصبح حياته عرضة للخطر»، على حد تعبيره (¬4). إلا أن ظهوره يظل من المسلمات التي لا مجال لمناقشتها، كما قال شيخهم (الصدوق) (¬5): «من أنكر القائم - عليه السلام - في غيبته مثل إبليس في امتناعه من السجود لآدم كذلك رُوي عن الصادق جعفر بن محمد - عليه السلام -» اهـ. ¬

(¬1) وفي بعض الروايات: «الغيبة التامة». (¬2) ابن بابويه القمي: إكمال الدين وإتمام النعمة (2/ 516)، باب الدعاء في غيبة القائم - عليه السلام -. (¬3) الخميني: الحكومة الإسلامية، ص (26). (¬4) قال ذلك في اجتماع جماهيري بمدينة برچيند في إقليم خراسان شمال شرق إيران في 23/ 2/2010م، نقله عنه موقع (العربية. نت)، في 24/ 2/2010م. (¬5) ابن بابويه القمي: إكمال الدين وإتمام النعمة (1/ 13).

الثورة الخمينية وولاية الفقيه

الثورة الخمينية وولاية الفقيه: ظل الرافضة يعيشون بمفهوم هذا (الانتظار السلبي) إلى أن قام الهالك الخميني بثورته «الإسلامية»، وذلك في عام 1399هـ/1979م، والتي أطاحت بنظام الشاه محمد رضا البهلوي (1919 - 1980م) التغريبي الفاسد، في أحداث دموية مريرة راح ضحيتها ألوف مؤلفة (¬1)، وفي هذه الفترة أصدر الخميني كتابه (الحكومة الإسلامية)، الجامع لسلسلة محاضرات ألقاها في أوائل عام 1970م، والتي روج فيها إلى نظرية (ولاية الفقيه). ركز الخميني في كتابه على قضية واحدة، خلاصتها أن الحكم محصور في الأئمة وهم اثنا عشر إمامًا، وكل من نازعهم الحكم فهو ظالم. وبما أن الأئمة لم يستمر وجودهم، وتوقف ظهورهم باختفاء الإمام الثاني عشر وإعلان الغيبة الكبرى، فإنه يرى أن لا يتوقف النضال من أجل تسلم الحكم، ويرى أن الأشخاص الذين يناط بهم قيام الدولة هم فقهاء الشيعة الذين رووا أحاديث الأئمة وعلموا علمهم دون سواهم. وهو في ذلك يُخَطِّئ من يرى من الشيعة أن من الواجب انتظار الإمام الغائب بدون مجاهدة لتسلم الحكم، ويستدل على هذا ببعض الأدلة العقلية وبعض النصوص في كتب الشيعة، مثل ما تقدم ذكره: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله» (¬2)، الأمر الذي يجعل حال عوام الشيعة مع فقهائهم حال العبيد مع السادة. وما أشبه ما أحدثته الخمينية الصفوية بما ابتدعته الهرتزلية الصهيونية! ولا عجب، فقد {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬3)؛ ولقد عقد الدكتور حاجي رام Haggai Ram أستاذ التاريخ في جامعة بن جوريون مقارنة بين الصهيونية والخمينية في مقابلة له مع صحيفة (هآرتس) (الملحق الأسبوعي 15/ 3/1996م)، قال فيها: «لقد وُجِدَت الأسطورة الشيعية حول عودة الإمام المنتظر الثاني عشر، في آخر الزمان، من أجل تشجيع وتخليد السلبية، وهذه الأسطورة لا تختلف عن الفهم اليهودي المهجري الذي ينكر استعجال ¬

(¬1) راجع في ذلك، موسوعة ويكيپيديا، مادة: الثورة الإيرانية الإسلامية. (¬2) الخميني: الحكومة الإسلامية، ص (77)، وأصله في: إكمال الدين وإتمام النعمة (2/ 484). (¬3) البقرة: 118

الخلاص ... والثورة التي بدأت بإقامة الحركة الصهيونية تشابه الثورة التي حدثت في صفوف الشيعة؛ ينبغي عدم الانتظار وترك العالم يمتلئ بالشر، وينبغي على المجتمع أن يقرر مصيره بيده. إن النشاطات الثورية في إيران أو نشاطات استيطان (أرض إسرائيل) على أيدي اليهودي المقاتل، هي التي مهدت الطريق أمام عودة المسيح أو عودة المهدي المنتظر وفقًا للمفهوم الشيعي. وعندما يستخدم بن جوريون الرموز والمصطلحات المتعارف عليها عندنا يكون الأمر طبيعيًا، ولكن عندما يفعل الخميني الشيء نفسه، يصبح هذا الأمر غير مفهوم قطعيًا». ويبرر دكتور رام مقارنته بين الخمينية والصهيونية بقوله: «كمؤرخ من واجبي فحص التجربة التاريخية الخاصة لمجتمع ما، وبالطبع تجربة الشيعة. واستنادًا إلى ذلك، فإن أدوات التنفيذ المقبولة لديها لا تتطابق مع أدوات التنفيذ لدى يهود الشتات ودولة إسرائيل، لكن المسار متشابه كثيرًا. وعلى سبيل المثال مسألة موت القديسين؛ فلدى الشيعة مسألة موت الإمام الثالث الحسين، ومعركة كربلاء. وفي هذا السياق من هو بركوخبا (¬1) الذي أحبه الشعب اليهودي بأكمله، والذي دعا إلى الحرية؟ ومن هو ترمپلدور (¬2)؟ أليس ما كان حادثًا مهمًا تمامًا أخذ أبعادًا مأساوية بهدف بلورة ثقافة صهيونية جديدة؟» اهـ (¬3). ولا ريب أن هذه الأيديولوچية الخمينية تطعن أهل السنة في الصميم؛ فالخميني يرى ¬

(¬1) سيمون بركوخبا Simon Bar Kochba (ت. 135م)، هو زعيم التمرد اليهودي الثاني على الرومان (132م) باعتباره المسيح المنتظر. (¬2) چوزيف ترمپلدور Joseph Trumpeldor (1880 - 1920 م) هو أحد القادة الصهاينة الأوائل والذي قتل في معركة تل حي. (¬3) مأمون كيوان: اليهود في إيران، ص (143) .. فائدة: يقول الدكتور محمد إسماعيل المقدم معلقًا على تطور المفهوم السلبي لدى الشيعة: «إن مما يؤسف له أشد الأسف شيوع هذه السلبية [أي بين أهل السنة] بحجة انتظار خروج المهدي، مع أن أشد الناس سلبية - فيما مضى - طوروا مفاهيمهم تحت وطأة العقل والمصلحة والخوف من خطر الانقراض، وتحرروا من أسر السلبية والتخاذل، وترقب ما يمليه الأمر الواقع، فرأينا الرافضة يطورون مفهوم (الانتظار السلبي) لمهديهم المزعوم، ويخترع لهم الخميني مفهوم ولاية الفقيه ليُخرِج الرافضة من شرنقة الانتظار السلبي لمهديهم المزعوم إلى التحرك الإيجابي وإقامة دولة قبل أن يخرج المهدي من السرداب، الأمر الذي كان مرفوضًا من قبل، وبعد أن مرت قرون كانوا خلالها (السَّندان)، حولتهم ولاية الفقيه إلى (مِطرقة) فعَّالة، وودَّعوا الانتظار السلبي الممل»، وينقل عن الشيخ الألباني - رحمه الله - تعالى قوله: «إن الله تعالى أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يخبرنا أن لا عودة للإسلام، ولا سلطان له على وجه الأرض إلا في زمان المهدي وعيسى عليهما السلام، فمن الجائز أن يتحقق ذلك قبلهما إذا أخذ المسلمون بالأسباب الموجبة لذلك، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقوله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]»، ثم يعقب الدكتور المقدم بقوله: «وإذا كانت (الانتصارات) قد أسكرت أعداءنا وفتنتهم بباطلهم، فإن (الانكسارات) ينبغي أن توقظنا من سباتنا، وتفعل بنا ما تفعله الأحجار إذا ألقيت في الماء الراكد. إن الإيمان بالغيب هو أقوى حافز ودافع للعمل في عالم الشهادة، وقد رأينا ذلك ماثلًا في واقع خير أجيال البشرية من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان، حيث لم يتخذوا من إيمانهم بأشراط الساعة تكأة يقعدون عليها بحجة انتظار تحققها في المستقبل، أفلم يأن لنا أن نقوم بدور (المطرقة) ونودِّع دور (السَّندان)؟ سؤال ينتظر الإجابة في زمن الانتظار» اهـ[د. محمد إسماعيل المقدم: فقه أشراط الساعة، ص (212، 216 - 7) باختصار وتصرف يسير].

أن سعي أهل السنة للحكم ظلم وجور، وأن الذين يستحقون الولاية هم فقهاء الشيعة فحسب. وما يؤسف له أنه قد علق كثير من المسلمين حينها الآمال العريضة على ما يسمى بالجمهورية الإيرانية الإسلامية لا لشيء إلا لأنها ترفع الشعار الإسلامي، ومن قبل رفعت حركة القرامطة الشعار الإسلامي، وتظاهرت الدولة العبيدية في مصر بانتمائها للإسلام، وعندما ملك العبيديون والقرامطة أمر المسلمين أفسدوا الحرث والنسل، ونشروا الكفر والإباحية، واستباحوا دماء المسلمين في حج عام 317هـ (¬1). يقول سعيد حوى رحمه الله (¬2): «عندما انتصر الخميني ظن المخلصون في هذه الأمة أن الخمينية إرجاع للأمر إلى نصابه في حب آل بيت رسول الله وتحرير التشيع من العقائد الزائفة والمواقف الخائنة، خاصة وأن الخميني أعلن في الأيام الأولى من انتصاره أن ثورته إسلامية وليست مذهبية، وأن ثورته لصالح المستضعفين ولصالح تحرير شعوب الأمة الإسلامية عامة ولصالح تحرير فلسطين خاصة. ثم بدأت الأمور تتكشف للمخلصين، فإذا بالخميني هذا يتبنى كل العقائد الشاذة للتشيع عبر التاريخ، وإذا ¬

(¬1) انظر، عبد الله الغريب: وجاء دور المجوس، ص (60). (¬2) سعيد حوى: الخمينية، ص (3 - 4).

بالمواقف الخائنة للشذوذ الشيعي تظهر بالخميني والخمينية، فكانت نكسة كبيرة وخيبة أمل» اهـ. وهذا يدفعنا لأن نقف وقفة سريعة مع الخميني وأقواله، كي نكون على بينة أمره .. فهو أبو مصطفى بن مصطفى بن أحمد الخميني، ولد - على الأرجح - في 24/ 9/1902م بمدينة خمين في إيران، ويطلق عليه الرافضة لقب (آية الله/روح الله) نسبة إلى درجته الحوزوية (العلمية). ويرجع نسبه إلى أصول هندية، حيث جاء جده أحمد نازحًا من الهند إلى إيران واستقر في بلدة خمين، وهذا يطعن في حقيقة الادعاء بأنه (موسوي)، سليل الإمام موسى الكاظم. وأيًا كان الأمر، فكما يقول الدكتور موسى الموسوي (¬1): «سواء كان من سلالة الإمام موسى بن جعفر كما يحمل توقيعه أو لا يكون فالإنسان مسئول أمام الله بأعماله وبما يصدر منه من خير أو شر {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ. فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬2)، فقد يكون الإنسان منحدرًا من أرفع السلالات ولكن عنصره سيء لا يساوي خردلة، وقصة ابن نوح والتي جاءت في القرآن الكريم تغنينا عن الإسهاب في هذا الموضوع» اهـ. ولقد هلك الخميني في 3/ 6/1989م بعد حياة ثورية حافلة بالصراعات الداخلية والخارجية (¬3)، ودُفِن بالقرب من مقبرة تسمى جنة الزهراء (بهشت زهراء)، وبني له ضريح وقبة ضخمة كلفت الحكومة مبالغ طائلة، وهو قائم ليطوف الناس عليه في إيران. ولقد زادت مؤلفاته على الخمسين مؤلفًا (¬4) عجَّت بالكفريات، ومن أقواله فيها، وهذا غيض من فيض: - إننا لا نعبد إلهًا يقيم بناءً شامخًا للعبادة والعدالة والتدين، ثم يقوم بهدمه بنفسه، ويُجلِس يزيد ومعاوية وعثمان وسواهم من العتاة في مواقع الإمارة على الناس، ولا يقوم بتقرير مصير الأمة بعد وفاة نبيه (¬5). ¬

(¬1) د. موسى الموسوي: الثورة البائسة، ص (97)، فصل: من هو الخميني. (¬2) الزلزلة: 6 - 8 (¬3) راجع في ذلك، موسوعة ويكيپيديا، مادة: الثورة الإيرانية الإسلامية. (¬4) انظر السابق، مادة: روح الله الموسوي الخميني. (¬5) الخميني: كشف الأسرار، ص (123).

- واضح أن النبي لو كان قد بلَّغ بأمر الإمامة طبقًا لما أمر الله به وبذل المساعي في هذا المجال لما نشبت في البلدان الإسلامية كل هذه الاختلافات والمشاحنات والمعارك، ولما ظهرت خلافات في أصول الدين وفروعه (¬1). - إن للإمام مقامًا محمودًا، ودرجة سامية، وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون، وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل (¬2). - لا يُتصور فيهم [أي الأئمة] السهو والغفلة (¬3). - بالإمامة يكتمل الدين والتبليغ يتم (¬4). - من الرواة من يفتري على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث لم يقلها، ولعل راويًا كسمرة بن جندب يفتري أحاديث تمس من كرامة أمير المؤمنين علي (¬5). - لم تكن حكومة معاوية تمثل الحكومة الإسلامية أو تشبهها من قريب ولا من بعيد (¬6). - معاوية ترأس وتأمَّر لفترة طويلة إلا أنه ما جنى لنفسه سوى اللعن والذم وعذاب ¬

(¬1) السابق، ص (155). (¬2) الخميني: الحكومة الإسلامية، ص (52). وإذا كان الأئمة عنده أفضل من الرسل، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - من جملة الرسل، ألا يكون هذا في قوله تلميحًا لعقيدة الشيعة الغرابية القائلة بأن عليًا أولى بالرسالة من محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبأن جبريل قد أخطأ عندما جاء بالرسالة، وكان ينبغي أن يلقيها على علي - رضي الله عنه -، حتى قال شاعرهم: «ضل الأمين وصدها عن حيدر تالله ما كان الأمين أمينا»! وإلا فكيف نفسر قوله بأن الأئمة أفضل من الرسل؟! جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، فتوى رقم (8564): «الشيعة فرق كثيرة، ومن قال منهم إن عليًا - رضي الله عنه - في مرتبة النبوة، وأن جبريل - عليه السلام - غلط فنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو كافر» اهـ. (¬3) السابق، ص (91). (¬4) الخميني: كشف الأسرار، ص (154). قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. (¬5) الخميني: الحكومة الإسلامية، ص (60). (¬6) السابق، ص (71).

الآخرة (¬1). - قال شيخنا وأستاذنا في المعارف الإلهية العارف الكامل شاه آبادي أدام الله ظله على رءوس مريديه: «لو كان علي - عليه السلام - ظهر قبل رسول الله صلى الله عليه وآله لأظهر الشريعة كما أظهر النبي صلى الله عليه وآله، ولكان نبيًا مرسلًا، وذلك لاتحادهما في الروحانية والمقامات المعنوية والظاهرية» اهـ (¬2). - بل يرى الخميني أن التعامل والتعاون مع أعداء الإسلام واجب إذا كان في ذلك مصلحة لمذهبه، كما فعل علي بن يقطين ونصير الدين الطوسي، ومعلوم أمر مذبحة بغداد التترية (656هـ/1258م). فتجده يقول (¬3): «... إلا أن يكون في دخوله الشكلي نصر حقيقي للإسلام والمسلمين، مثل دخول علي بن يقطين [124 - 182هـ] ونصير الدين الطوسي [597 - 672هـ] رحمهما الله» (¬4)، فيبدو أن النصر الحقيقي للإسلام - كما يراه الخميني - هو تذبيح المسلمين السنة. ولقد أثارت تصريحات الخميني في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة ذكرى الإمام المهدي في 15 شعبان 1400هـ موجة غضب واستنكار في صفوف المسلمين وأوساطهم، وأعلنوا أنها تصريحات غريبة ومناقضة لأصل العقيدة الإسلامية ولروح الإسلام والسنة النبوية الشريفة. فلقد قال في خطابه: «لقد جاء الأنبياء جميعًا من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم لكنهم لم ينجحوا، حتى النبي محمد خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية، وتنفيذ العدالة، وتربية البشر لم ينجح في ذلك، وإن الشخص الذي سينجح في ذلك ويرسي قواعد العدالة في جميع أنحاء العالم في جميع مراتب إنسانية الإنسان، وتقويم الانحرافات، هو المهدي المنتظر ... وسينجح فيما أخفق في تحقيقه الأنبياء». ¬

(¬1) الخميني: الجهاد الأكبر، باب أهمية تهذيب النفس وتزكيتها. وهذا القول وقفت عليه في نسخة مكتبة الحكمة على شبكة الإنترنت، ولم أجده في نسخة الدار الإسلامية، بيروت، ط. 1991م. (¬2) الخميني: مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية، ص (153). (¬3) الخميني: الحكومة الإسلامية، ص (142). (¬4) وقد لقَّبوا هذا الطوسي أيضًا بالشيخ الأعظم الخواجه نصير الدين محمد بن الحسن الطوسي قدس الله روحه. [انظر، مقدمة (نهج الحق وكشف الصدق)، لابن المطهر الحلي، ص (7)].

أولا: بيان رابطة العالم الإسلامي

ولقد أبدى المسلمون في كل مكان المزيد من الاستغراب والدهشة بسبب عدم صدور أي تكذيب أو نفي لتلك التصريحات الغريبة، وفيما يأتي بعض برقيات وفتاوى الاحتجاج والاستنكار لتصريحات الخميني (¬1): أولًا: بيان رابطة العالم الإسلامي: يقول البيان الذي نشر في جريدة (أخبار العالم الإسلامي) بتاريخ 9 رمضان 1400هـ: «إن العبارات التي وردت في كلمة وجهها خميني يوم 15 شعبان الماضي، وأذاعها راديو طهران، تعارض معارضة صريحة العقيدة الإسلامية ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وتحوي مناقضة صريحة للإسلام وما جاء به القران الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وما أجمعت عليه أمة المسلمين وعلماؤها». واختتمت الرابطة بيانها داعية الله تعالى أن يجنب المسلمين مزالق الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويلهمهم سبيل الرشد وأن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثانيًا: بيان مفتي جمهورية تونس الحبيب بلخوجة: أدان الشيخ الحبيب بلخوجة تصريحات الخميني وقال: «إن هذه التصريحات تشكل مساسًا بالدين، وتتناقض تمامًا مع مبادئ القرآن الكريم»، وقال: «إن الذي يتجاهل السنة ويناقض القرآن الكريم يكذب إذا ادعى أنه ينتمي إلى الإسلام أو أن يكون حاملًا لرايته» اهـ. ثالثًا: فتوى علماء المغرب: أصدر علماء المغرب فتوى دينية ردًا على تصريحات الخميني نشرت في العدد الرابع من مجلة (دعوى الحق) الصادرة في شعبان-رمضان 1400هـ (يوليو 1980م) عن وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في المملكة المغربية، وأعلنت الفتوى أن أقوال خميني أقوال شنيعة ومزاعم باطلة فظيعة تؤدي إلى الإشراك بالله - عز وجل -، وقال العلماء في فتواهم: «إن من أخطر ما زعمه خميني "إن خلافة المهدي المنتظر خلافة تكوينية تخضع لها جميع ¬

(¬1) مستفاد من موقع: www.khomainy.com

رابعا: بيان رابطة العلماء في العراق

ذرات الكون" ومقتضى ذلك أن خميني يعد المهدي المنتظر شريكًا للخالق - عز وجل - في الربوبية والتكوين» اهـ. رابعًا: بيان رابطة العلماء في العراق: أصدرت رابطة العلماء في العراق بيانًا مطولًا جاء فيه: «... وحيث إن هذا الزعم يشكل انحرافًا عن جوهر الشريعة الإسلامية، وردة عن تعاليم الدين الحنيف، ومخالفة صريحة لقوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬1)، ودسًا خطيرًا يبتغي به زاعمه - لأغراض في نفسه - تحويل أنظار المسلمين عن النبي العربي الكريم صاحب الخلق العظيم الذي بعثه الله رحمة للعالمين ومنقذًا للبشرية من الظلمات إلى النور. وبما أن من واجب علماء الدين بيان الحقيقة والمعروف، والتنديد بالأفكار والتيارات الفاسدة المشبوهة التي تحاول النيل من الإسلام وجوهره، فقد تدارست جمعية رابطة العلماء في العراق خطورة هذه الأقوال الفاسدة وأثرها في تسميم الفكر، وتضليل الرأي في المجتمعات الإسلامية وانعكاساتها السلبية في نشر الإسلام في المجتمعات غير الإسلامية. وقررت بالإجماع إصدار هذا البيان تعبيرًا عن استنكار علماء الدين في العراق لهذا الزعم الذي أطلقه خميني وتأكيدًا على أن مثل هذه التصريحات المضللة مما يثير الفتنة والشكوك في العالم الإسلامي، ولا ينبغي بحال من الأحوال أن يصدر عن أي مسلم من المسلمين، والله من وراء القصد» اهـ. خامسًا: فتوى الشيخ الألباني: قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في رسالة بعث بها للدكتور بشار عواد الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم إلى الفاضل الدكتور بشار عواد معروف، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الشعبي، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته، أما بعد: ¬

(¬1) المائدة: 3

فقد وقفت على الأقوال الخمسة التي نقلتموها عن كتب المسمى روح الله الخميني راغبين مني بيان حكمي فيها، وفي قائلها، فأقول وبالله تعالى وحده أستعين: إن كل قول من تلك الأقوال الخمسة كفر بواح، وشرك صراح، لمخالفته للقرآن الكريم، والسنة المطهرة وإجماع الأمة، وما هو معلوم من الدين بالضرورة. ولذلك فكل من قال بها، معتقدًا ولو ببعض ما فيه، فهو مشرك كافر، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. والله - سبحانه وتعالى - يقول في كتابه المحفوظ عن كل زيادة ونقص: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (¬1). وبهذه المناسبة أقول: إن عجبي لا يكاد ينتهي من أناس يدعون أنهم من أهل السنة والجماعة يتعاونون مع (الخمينيين) في الدعوة إلى إقامة دولتهم، والتمكين لها في أرض المسلمين، جاهلين أو متجاهلين عما فيها من الكفر والضلال، والفساد في الأرض {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (¬2). فإن كان عذرهم جهلهم بعقائدهم، وزعمهم أن الخلاف بيننا وبينهم إنما هو خلاف في الفروع وليس في الأصول، فما هو عذرهم بعد أن نشروا كتيبهم (الحكومة الإسلامية) وطبعوه عدة طبعات، ونشروه في العالم الإسلامي، وفيه من الكفريات ما جاء نقل بعضها عنه في السؤال الأول، مما يكفي أن يتعلم الجاهل ويستيقظ الغافل!! هذا مع كون الكتيب كتاب دعاية وسياسة، والمفروض في مثله أن لا يذكر فيه من العقائد ما هو كفر جلي عند المدعوين، ومع كون الشيعة يتدينون بالتقية التي تجيز لهم أن يقولوا ويكتبوا ما لا يعتقدونه كما قال - عز وجل - في بعض أسلافهم: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (¬3)، حتى قرأت لبعض المعاصرين منهم قوله وهو يسرد المحرمات في الصلاة: (والقبض فيها إلا تقية)!! يعني وضع اليمين على الشمال في الصلاة. ومع ذلك كله فقد {قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} (¬4) في كتيبهم، مصداق قوله تعالى في أمثالهم: {وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} (¬5)، {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (¬6). ¬

(¬1) النساء: 115 (¬2) البقرة: 205 (¬3) الفتح: 11 (¬4) التوبة: 74 (¬5) البقرة: 72 (¬6) آل عمران: 118

وختامًا أقول محذرًا جميع المسلمين بقول رب العالمين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَالُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (¬1). وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وكتب محمد ناصر الدين الألباني أبو عبد الرحمن عَمان 26/ 12/1407هـ ... عقيدة التقية: إن التقية التي هي في الإسلام - كما يقول القفاري (¬2) - «رخصة عند الضرورة العارضة، وليست من أصول الدين المتبعة، [في حين أنها] عند الشيعة من أسس عقائدها وركائز إيمانها». ولقد (¬3) عرفها حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فيما رواه الطبري أنه قال: «التقاة: التكلم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان»، وقال أبو العالية: «التقية باللسان وليس بالعمل» (¬4)، وقال ابن حجر (¬5): «التقية الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير». وقال صاحب الظلال رحمه الله (¬6): «التقية: تقية اللسان لا ولاء القلب، ولا ولاء العمل، ¬

(¬1) آل عمران: 118 (¬2) د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (1/ 330). (¬3) مستفاد من: الولاء والبراء في الإسلام، لمحمد سعيد القحطاني، ص (372 - 4). (¬4) تفسير الطبري (6/ 315). (¬5) ابن حجر: فتح الباري (12/ 314). (¬6) سيد قطب: في ظلال القرآن (1/ 386).

متى تكون التقية؟

قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان"، فليس من التقية المرخص بها أن تقوم المودة بين المؤمن وبين الكافر، كما أنه ليس من التقية المرخص بها أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل في صورة من الصور باسم التقية، فما يجوز هذا الخداع على الله!» اهـ. متى تكون التقية؟ قال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإلى اللهِ الْمَصِيرُ} (¬1)، قال البغوي في تفسيره (¬2): «الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعًا عن نفسه من غير أن يستحل دمًا حرامًا أو مالًا حرامًا، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين. والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (¬3)، ثم هذه رخصة، فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم». وقال ابن القيم (¬4): «معلوم أن التقاة ليست بموالاة، ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتهم والبراءة منهم، ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال إلا إذا خافوا من شرهم فأباح لهم التقية وليست التقية موالاة لهم». ويقول محمد قطب (¬5): «ولأن باب التقاة باب يمكن أن ينفذ منه الشيطان بسهولة يزين للضعفاء ومرضى القلوب أن يركنوا إلى أعداء الله قال بعدها مباشرة: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإلى اللهِ الْمَصِيرُ}، يحذركم في الدنيا أن تتخذوا هذا الباب تكأة، وتستهلوا هذه الكبيرة - وهي موالاة أعداء الله - وينذركم أن إليه المصير فيجازيكم على ما فعلتم في الدنيا، فلا تحسبوا أن ترتكبوا هذه الكبيرة في الأرض - مخادعين أنفسكم أو مخادعين ¬

(¬1) آل عمران: 28 (¬2) تفسير البغوي (معالم التنزيل) (2/ 26). (¬3) النحل: 106 (¬4) ابن قيم الجوزية: بدائع الفوائد (3/ 575). (¬5) محمد قطب: دراسات قرآنية، ص (339).

التقية عند الرافضة

الناس - ثم تنجوا من عذاب الله في الآخرة» اهـ. وقال الطبري في تفسير قوله تعالى {إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (¬1): «أي إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل». وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115 - 1206هـ) (¬2): «فرخَّص في موالاتهم إذا خافوهم فلم يحسنوا معاشرتهم إلا بذلك، وكانوا مقهورين لا يستطيعون إظهار العداوة لهم، فحينئذ تجوز المعاشرة الظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء ينظر زوال المانع، كما قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}» اهـ. التقية عند الرافضة: التقية عرَّفها شيخهم محمد جواد مغنية (1322 - 1400هـ) بقوله (¬3): «التقية ... أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد، لتدفع الضرر عن نفسك أو مالك ولتحتفظ بكرامتك» اهـ. وهذا التعريف لا يتناسب مع تعظيمهم لشأن التقية فيما رووه عن أئمتهم، حتى إنهم جعلوا «تسعة أعشار الدين في التقية» كما نقلوا عن الإمام الصادق رحمه الله (¬4) والذي عاش في فترة عز الإسلام والمسلمين، «فأي حاجة إلى التقية في ذلك الزمن إلا إذا كان الدين المتقي به غير الإسلام؟» (¬5)، وماذا بقي لأركان الدين من قيمة بعد أن جعلوا تسعة أعشاره في التقية؟! ومن الواضح أن فكرة التقية تسربت للشيعة عن طريق اليهود الذين برعوا في استخدامها فترات اضطهادهم، ويدلل على ذلك ما جاء في التلمود، حيث يقول الحاخام باشاي: «إن النفاق جائز، وإن الإنسان [أي اليهودي] يمكنه أن يكون مؤدبًا مع الكافر ¬

(¬1) تفسير الطبري (6/ 313). (¬2) مجموعة التوحيد، ص (110). (¬3) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان، فصل: (التقية والبداء والرجعة والجفر ومصحف فاطمة بين السنة والشيعة). (¬4) انظر، الكليني: الأصول من الكافي (2/ 217). (¬5) د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (1/ 331).

واقرأ معي هذه النصوص

ويدَّعي محبته كاذبًا إذا خاف وصول الأذى منه إليه» (¬1)، ويقول پولس في رسالة كورنثوس الأولى: «أنا رجل حر عند الناس، ولكني جعلت من نفسي عبدًا لجميع الناس حتى أربح أكثرهم. فصرت لليهود يهوديًا لأربح اليهود، وصرت لأهل الشريعة من أهل الشريعة وإن كنت لا أخضع للشريعة لأربح أهل الشريعة ...» (¬2). واقرأ معي هذه النصوص: - يقول تاج الدين الشعيري: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مثل مؤمن لا تقية له كمثل جسد لا رأس له» (¬3). - ويقول: «وقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: تارك التقية كتارك الصلاة» (¬4). - وروى عن محمد بن علي الباقر - عليه السلام - قوله: «أشرف أخلاق الأئمة والفاضلين من شيعتنا استعمال التقية وأخذ النفس بحقوق الإخوان» (¬5). - وعن أبى عمير الأعجمي قال: «قال لى أبو عبد الله - عليه السلام -: يا أبا عمر، إن تسعة أعشار الدين فى التقية، ولا دين لمن لا تقية له» (¬6). - وعن حبيب بن بشر قال: «قال أبو عبد الله: سمعت أبى يقول: لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب إليَّ من التقية، يا حبيب إنه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم تكن له تقية وضعه الله» (¬7). - ونسبوا إلى الإمام جعفر قوله: «التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له» (¬8). ¬

(¬1) انظر، د. يوسف نصر الله: الكنز المرصود في قواعد التلمود، ص (77). (¬2) رسالة كورنثوس الأولى (9: 19 - 20). (¬3) تاج الدين الشعيري: جامع الأخبار، ص (94)، الفصل الثالث والخمسون: التقية. (¬4) السابق، ص (95). (¬5) السابق. (¬6) الكليني: الأصول من الكافي (2/ 217). (¬7) السابق. (¬8) السابق (2/ 219).

- وادعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فعلها عندما مات عبد الله بن سلول رأس المنافقين، حيث جاءه ابنه عبد الله فقال له: «يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إنك إن لم تأت أبي كان ذلك عارًا علينا. فدخل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله والمنافقون عنده، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله استغفر له، فاستغفر له ... فلما مات عبد الله جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن رأيت أن تحضر جنازته، فحضره رسول الله صلى الله عليه وآله وقام على قبره. فقال له الثاني: يا رسول الله، ألم ينهك الله أن تصلي على أحد منهم مات أبدًا وأن تقوم علي قبره؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ويلك! وهل تدري ما قلت؟ إنما قلت اللهم احش قبره نارًا وجوفه نارًا واصله نارًا. فبدا من رسول الله صلى الله عليه وآله ما لم يكن يحب» (¬1). - ومن عجيب فتاواهم ما قاله الخميني في مبطلات الصلاة، ومنها (¬2): «التكفير، وهو وضع إحدى اليدين على الأخرى نحو ما يصنعه غيرنا، وهو مبطل عمدًا على الأقوى لا سهوًا، وإن كان الأحوط فيه الإعادة، ولا بأس به حال التقية»!! فهذه صورة لعقيدة التقية في أهم كتب الشيعة، وقارن بينها وبين تقية أهل السنة: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (¬3). يقول الدكتور ناصر القفاري (¬4): «ولا يزال الأثر العملي للتقية [عند الرافضة] يؤدي دوره الخطير في جوانب عديدة منها: أولًا: أن عقيدة التقية استغلها دعاة التفرقة بين الأمة، والزنادقة المتسترون بالتشيع استغلوها لإبقاء الخلاف بين المسلمين. وذلك برد الأحاديث الصحيحة في معناها التي وردت عن الأئمة ووافقت ما عند الأمة روتها كتب الشيعة نفسها، ردها بحجة أنها تقية لموافقتها لما عند أهل السنة (¬5). ¬

(¬1) انظر: تفسير القمي (1/ 302)، التوبة: 80 (¬2) الخميني: تحرير الوسيلة (1/ 166)، كتاب الصلاة، باب القول في مبطلات الصلاة. (¬3) هود: 24 (¬4) د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (1/ 335 - 9) باختصار وتصرف يسير. (¬5) وذكر لذلك أمثلة منها عقد الحر العاملي في (وسائل الشيعة) بابًا بعنوان: (جواز مناكحة الناصب عند الضرورة والتقية)، وقد وقفت عليه في المجلد العشرين، ص (561) في النسخة المتاحة.

ثانيًا: إنهم جعلوا عقيدة التقية هي المخرج من الاختلاف والتناقض في أخبارهم وأحاديثهم، فإن ظاهرة التناقض في أحاديثهم كانت من أقوى الدلائل على أنها من عند غير الله؛ قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (¬1)، ولهذا كان ذلك الاختلاف الكثير في أخبارهم من أسباب ترك بعض الشيعة للتشيع كما اعترف بذلك الطوسي (¬2). ثالثًا: أنهم قالوا بعصمة الأئمة وأنهم لا ينسون ولا يسهون ولا يخطئون مع أن الناس حفظوا عنهم ما يخالف ذلك وينافي عصمتهم، فقالوا بالتقية للمحافظة على دعوى عصمة الأئمة، تلك العصمة التي بسقوطها تسقط قيمة أقوالهم وبالتالي يسقط مذهب الشيعة، ولهذا قال سليمان بن جرير: "إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين، لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبدًا، وهما القول بالبداء وإجازة التقية" (¬3). رابعًا: جعلت التقية وسيلة للكذب على الأئمة، فيردون - مثلًا - كلام الإمام الباقر أو جعفر الصادق الذي سمعه مجموعة من الناس بحجة أنه قد حضره بعض السنة فاتقى في كلامه، ويقبلون ما ينقله الكذبة أمثال جابر الجعفي [ت. 127هـ] بحجة أنه لم يحضر مجلسه أحد يتقيه، فما ينقله غلاة الروافض والزنادقة عن أئمة أهل البيت مقبول عندهم، وما ينقله العدول من المسلمين مردود بدعوى التقية (¬4). ¬

(¬1) النساء: 82 (¬2) قال في مقدمة (تهذيب الأحكام): «... وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لما اشتبه عليه الوجه في ذلك، وعجز عن حل الشبهة فيه». [أبو جعفر الطوسي: تهذيب الأحكام (1/ 2)]. (¬3) انظر، النوبختي: فرق الشيعة، ص (76). (¬4) وذكر لذلك مثالًا، وهو ما رواه «زيد بن علي عن آبائه عن علي - عليه السلام - قال: جلست أتوضأ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله حين ابتدأت في الوضوء، فقال لي: تمضمض واستنشق واستَن [أي استعمل السواك]، ثم غسلت ثلاثًا فقال: يجزيك من ذلك المرتان، فغسلت ذراعي ومسحت برأسي مرتين، فقال: قد يجزيك من ذلك المرة، وغسلت قدمي فقال لي: يا علي خلل بين الأصابع لا تخلل بالنار»، فيعلق الطوسي على ذلك بقوله: «فهذا خبر موافق للعامة وقد ورد مورد التقية لأن المعلوم الذي لا يتخالج فيه الشك من مذاهب أئمتنا عليهم السلام القول بالمسح على الرجلين وذلك أشهر من أن يدخل فيه شك أو ارتياب، بين ذلك أن رواة هذا الخبر كلهم عامة ورجال الزيدية وما يختصون بروايته لا يعمل به على ما بين في غير موضع» اهـ[أبو جعفر الطوسي: الاستبصار فيما اختلف من الأخبار (1/ 65 - 6)، باب وجوب المسح على الرجلين].

عقيدة البداء

خامسًا: انبثق من خلال عقيدة التقية مبدأ أن ما خالف العامة - أي أهل السنة - هو الحق، حتى إنهم جعلوا من معالم التعرف على الحق - في نظرهم - عند اختلاف رواياتهم معرفة ما عليه أهل السنة وأن يكون مجتهدهم على دراية بذلك ليتسنى له الأخذ بخلافه، فإذا اختلفت أحاديثهم فالحق هو ما فيه خلاف العامة، وإذا أفتى عالم أهل السنة بفتوى فالحق في خلافها (¬1). وهكذا أراد مؤسسو هذا المذهب الانفصال عن جماعة المسلمين والنأي بالشيعة عن حقيقة الإسلام، ولهذا حملوا كل ما في مذهبهم من نصوص توافق الأمة حملوها على التقية وجعلوا علامة إصابة الحق تتمثل في مخالفة العامة - أهل السنة -» اهـ. ... عقيدة البداء: من أصول اعتقاد الشيعة الإمامية القول بالبداء على الله - سبحانه وتعالى -. وتعريف البداء في اللغة كما قال ابن منظور (¬2): «الأمرُ يبدُو بَدْوًا وبُدُوًّا وبَدَاءً وبَدَاءةً: ظهر، وبدا له في الأمر بَدْوًا وبَدَاءً وبَدَاةً: نشأ له فيه رأي غير رأيه الأول فصرفه عنه» اهـ. فالبداء في اللغة كما ترى له معنيان: الأول: الظهور بعد الخفاء. تقول بدا سور المدينة أي: ظهر. والثاني: نشأة الرأي الجديد. وكلا المعنيين وردا في القرآن الكريم، فمن الأول قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ} (¬3)، ومن الثاني قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} (¬4). ¬

(¬1) ومن ذلك ما رواه المجلسي عن علي بن أسباط، قال: «قلت للرضا - عليه السلام -: يحدث الأمر لا أجد بدًا من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك، قال: فقال - عليه السلام -: إيت فقيه البلد [يعني من أهل السنة] فاستفته في أمرك فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإن الحق فيه». [المجلسي: بحار الأنوار (2/ 233)]. (¬2) ابن منظور: لسان العرب (1/ 27)، مادة: (ب د ا). (¬3) البقرة: 284 (¬4) يوسف: 35، د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (2/ 938) بتصرف.

ويعدد الشهرستاني صور البداء كالآتي (¬1): - البداء في العلم: وهو أن يظهر له خلاف ما علم. - البداء في الإرادة: وهو أن يظهر له الصواب على خلاف ما أراد وحكم. - البداء في الأمر: وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بعده بخلاف ذلك. وكما يتبين أن البداء بالمعاني المتقدمة يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم، وهذا محال على الله سبحانه، ونسبته إلى الله سبحانه من أعظم الكفر. والبداء على الله - سبحانه وتعالى - هي إحدى العقائد التي وضعها أئمة الرافضة لشيعتهم حتى يتمكنوا من التحليل والتحريم كيفما شاءوا، عملًا بقاعدتهم المعروفة: «إذا استحسنَّا شيئًا جعلناه حديثًا»، وكي لا يظهر على أئمتهم كذب أبدًا، فهم إذا نسبوا إلى الأئمة أخبارًا لم تقع قالوا هذا من باب البداء. والبداء مقتبسة من عقيدة يهودية ضالة وردت في كتبهم المحرفة، كما جاء بسفر التكوين في ذكر قوم نوح - عليه السلام -: «فندم الرب أنه صنع الإنسان على الأرض وتأسف في قلبه. فقال الرب: أمحو الإنسان الذي خلقت عن وجه الأرض، هو والبهائم والدواب وطيور السماء، لأني ندمت أني صنعتهم» (¬2)، وجاء بسفر صموئيل الثاني: «ومد الملاك يده على أورشليم ليدمرها، فندم الرب على هذه الضربة وقال للملاك الذي كان يميت الشعب: كفى، كف الآن يدك» (¬3). بل كما قالوا - لعنهم الله - في تلمودهم: «إن القمر خطَّأ الله - جل جلاله - فقال له: أخطأت حيث خلقتني أصغر من الشمس. فأذعن الله لذلك واعترف بخطئه، وقال: اذبحوا لي ذبيحة أكفِّر بها عن ذنبي لأني خلقت القمر أصغر من الشمس» (¬4)، وغير ذلك الكثير ... ¬

(¬1) الشهرستاني: المِلَل والنِحَل (1/ 148 - 9). (¬2) التكوين 6: 6 - 7 (¬3) صموئيل الثاني 24: 16 (¬4) أيضًا، قالوا: إن الله - تعالى عما يقولون - ليس معصومًا من الطيش، لأنه حالما يغضب يستولي عليه الطيش، كما حصل ذلك منه يوم غضب على بني إسرائيل وحلف بحرمانهم من الحياة الأبدية، ولكنه ندم على ذلك بعد ذهاب الطيش منه، ولم ينفذ ذلك اليمين، لأنه عرف أنه فعل فعلًا ضد العدالة. وقالوا قاتلهم الله: «إن الله إذا حلف يمينًا غير قانونية احتاج إلى من يحلُّه من يمينه، وقد سمع أحد العقلاء من الإسرائيليين الله تعالى يقول: من يحللني من اليمين التي أقسمت بها؟ ولما علم باقي الحاخامات أنه لم يحلله منها اعتبروه حمارًا، لأنه لم يحلل الله من يمينه. ولذلك نصبوا ملكًا بين السماء والأرض اسمه (مي) لتحليل الله من أيمانه ونذوره عند اللزوم»!! [انظر، د. يوسف نصر الله: الكنز المرصود في قواعد التلمود، ص (56 - 7)].

من أقوال الرافضة في البداء

ولقد انتقل القول بالبداء إلى المجتمع الإسلامي عن طريق السبئية، ثم أخذ به المختار بن أبي عبيد الله الثقفي، ومن ثم انتقل إلى من تبعه من غلاة الشيعة؛ يقول عبد القاهر البغدادي (¬1): «لما انهزم أصحاب المختار وقُتِل أميرهم وأكثر قواد المختار، رجع فلولهم إلى المختار وقالوا: ألم تعدنا بالنصر على عدونا؟ فقال: إن الله تعالى قد وعدني لكنه بدا له، واستدل بقول الله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (¬2)، فهذا كان سبب قول الكيسانية بالبداء» اهـ. من أقوال الرافضة في البداء: وهي كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال: - ما جاء في الكافي عن أبي جعفر وأبي عبد الله أنهما قالا: «إن الناس لما كذبوا برسول الله صلى الله عليه وآله هَمَّ الله تبارك وتعالى بهلاك أهل الأرض إلا عليًا فما سواه بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ}، ثم بدا له فرحم المؤمنين، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}» (¬3). - وعن أبي عبد الله أنه قال: «ما تنبأ نبي قط حتى يُقِر لله بخمس خصال: بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة» (¬4). - وقالوا إن عليًّا - رضي الله عنه - كان لا يروي عن الغيب مخافة البداء، كما روى عنه المجلسي ¬

(¬1) عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفِرَق، ص (36). (¬2) الرعد: 39 (¬3) الذاريات: 54 - 55، الكليني: الروضة من الكافي (8/ 103)، رقم: 78، والمجلسي: بحار الأنوار (4/ 110). (¬4) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 148).

أنه قال: «لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬1). - وقد ذكرنا في حديثنا عن عقيدة الإمامة زعمهم أن الإمامة انتقلت من إسماعيل بن جعفر إلى أخيه الأصغر موسى بن جعفر الصادق وبرروا ذلك بالبداء، وقالوا على لسان جعفر الصادق: «ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني» (¬2). يقول الإمام ابن حزم (¬3): «وجمهور المتكلمين كهشام بن الحكم الكوفي وتلميذه أبي علي الصكاك وغيرهما يقولون: إن علم الله تعالى محدَث وأنه لم يكن يعلم شيئًا حتى أحدث لنفسه علمًا، وهذا كفر صريح». ويقول شاه عبد العزيز الدهلوي (¬4): «وجماعة من الاثنى عشرية من متقدميهم ومتأخريهم منهم المقداد بن عبد الله السيوري من القرن التاسع [ت. 826هـ]، صاحب (كنز العرفان)، قالوا: إن الله لا يعرف الجزئيات قبل وقوعها» اهـ. قاتلهم الله، فالعليم سبحانه علمه مطلق بلا حدود، - سبحانه وتعالى - في كمال علمه، جل شأنه في إطلاق وصفه، فعلمه فوق كل ذي علم: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (¬5)، يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لو كان كيف يكون على ما اقتضته حكمته البالغة، {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬6). يقول القفاري (¬7): «وحسب الاثنى عشرية عارًا وفضيحة أن تنسب إلى الحق جل شأنه هذه العقيدة، على حين تبريء أئمتها منها، فإذا وقع الخلف في قول الإمام نسبت ذلك إلى الله لا إلى الإمام، وإذا رجعت إلى معتقدهم في توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، وجدت أن الإمام قد حل محل الرب سبحانه في قلوبهم وعقولهم، بتأثير ذلك ¬

(¬1) الرعد: 39، المجلسي: بحار الأنوار (4/ 97). (¬2) انظر، ابن بابويه القمي: إكمال الدين وإتمام النعمة (1/ 69). (¬3) ابن حزم: الفِصَل (4/ 139). (¬4) محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (90). (¬5) يوسف: 76 (¬6) الطلاق: 12 (¬7) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (2/ 952).

الركام المظلم من الأخبار .. فعقيدة البداء أثر لغلوهم في الإمام» اهـ. وقد كان لعقيدة البداء في إبان نشأتها أثرها في ظهور بوادر الشك لدى العقلاء من أتباع المذهب، وقد اكتشف بعضهم حقيقة اللعبة، فتخلى عن المذهب الإمامي أصلًا، وقد حفظت لنا بعض كتب الفرق قصة أحد هؤلاء وهو سليمان بن جرير الذي إليه تنسب فرقة السليمانية من الزيدية، فقال: «إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين، لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبدًا، وهما القول بالبداء وإجازة التقية» (¬1)، ثم كشف - من خلال حياته في المجتمع الشيعي، ومخالطته لهم - كيف يتخذون من عقيدة البداء وسيلة للتستر على كذبهم في دعوى علم الأئمة للغيب فقال: «فإن من أئمتهم لما أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعايتها في العلم فيما كان ويكون، والأخبار بما يكون في غد، وقالوا لشيعتهم إنه سيكون في غد وفي غابر الأيام كذا وكذا، فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه، قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون، فنحن نعلم من قبل الله - عز وجل - ما علمته الأنبياء، وبيننا وبين الله - عز وجل - مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت. وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا إنه يكون على ما قالوا، قالوا لشيعتهم بدا لله في ذلك بكونه» اهـ (¬2). وكثيرًا ما حاول الشيعة التبرؤ من وصمة هذا العار الثابت عليهم، وحاولوا إيجاد مهرب من التكفير، فألفوا في ذلك مؤلفات كثيرة لنفي اعتقادهم بالبداء كما يعتقده اليهود، فعلى سبيل المثال، يقول أحد شيوخهم المعاصرين وهو محمد رضا المظفر (¬3): «والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى، لأنه من الجهل والنقص، وذلك محال عليه تعالى، ولا تقول به الإمامية. قال الصادق - عليه السلام -: "من زعم أن الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم"، وقال أيضًا: "من زعم أن الله بدا له في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه" (¬4). ¬

(¬1) انظر، النوبختي: فرق الشيعة، ص (76)، وقد سبق ذكره. (¬2) انظر السابق. (¬3) محمد رضا المظفر: عقائد الإمامية، ص (51) وما بعدها، فصل الإلهيات، باب عقيدتنا في البداء. (¬4) أصله في: إكمال الدين وإتمام النعمة (1/ 69).

غير أنه وردت عن أئمتنا الأطهار عليهم السلام روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدِّم، كما ورد عن الصادق - عليه السلام -: "ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني"، ولذلك نسب بعض المؤلفين في الفرق الإسلامية إلى الطائفة الإمامية القول بالبداء طعنًا في المذهب وطريق آل البيت، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة. والصحيح في ذلك أن نقول كما قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬1)، ومعنى ذلك: أنه تعالى قد يُظهِر شيئًا على لسان نبيه أو وليه، أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الإظهار، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولًا، مع سبق علمه تعالى بذلك، كما في قصة إسماعيل لمَّا رأى أبوه إبراهيم أنه يذبحه. فيكون معنى قول الإمام - عليه السلام -: أنه ما ظهر لله سبحانه أمر في شيء كما ظهر له في ¬

(¬1) الرعد: 39، يقول السعدي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}: «أي: يمحو الله ما يشاء من الأقدار ويثبت ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه، وكتبه قلمه، فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير، لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل، ولهذا قال: {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: اللوح المحفوظ، الذي ترجع إليه سائر الأشياء، فهو أصلها، وهي فروع وشُعَب .. فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب، كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابًا، ولمحوها أسبابًا، لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصي سببًا لمحق بركة الرزق والعمر، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببًا للسلامة، وجعل التعرض لذلك سببًا للعطب، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته، وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ» [تفسير السعدي، ص (476)]، ويقول الإمام ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في شرح الطحاوية: «وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الأول، وهو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَاتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [النمل: 38]، فأخبر تعالى أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه، بل من عند الله، ثم قال: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ. يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، أي: أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها، ثم تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل، ويثبت ما يشاء. وفي الآية أقوال أخرى، والله أعلم بالصواب» اهـ[شرح العقيدة الطحاوية، ص (91)].

إسماعيل ولده، إذ اخترمه (¬1) قبله ليعلم الناس أنه ليس بإمام، وقد كان ظاهر الحال أنه إمام بعده، لأنه أكبر ولده. وقريب من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وآله، بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وآله» اهـ. ولقد أجاب الدكتور القفاري على مثل هذا القول بقوله (¬2): «ولكن المطلع على رواياتهم لا يرى أنها تتفق مع هذا التأويل، إذ تدل على نسبة البداء إلى الله لا إلى الخلق، ولذلك اعتذر أئمتهم عن الإخبار بالمغيبات خشية البداء .. ونسبوا إلى نبي الله لوط أنه كان يستحث الملائكة لإنزال العقوبة بقومه خشية أن يبدو لله، ويقول: "تأخذونهم الساعة فإني أخاف أن يبدو لربي فيهم. فقالوا: يا لوط إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب" (¬3)، فهل مثل هذا الإلحاد يقبل التأويل؟!». وكذلك يقول (¬4): «ثم إن التأويل للبداء بظهور الأمر للناس من الله لا يسوغ كل هذه المغالاة في البداء وجعله من أعظم الطاعات وأصول الاعتقادات، كما أن لفظ البداء يحمل معنى باطلًا في لغة العرب التي نزل بها القرآن، فكيف يُعَدُّ أصلًا في الدين وهو بهذه المثابة ويُلْتَمَسُ له تأويلٌ ومخرَجٌ؟». ثم ينقل عن الشيخ موسى جار الله (1295 - 1369هـ) قوله (¬5): «وهذا جهل وتجاهل، إذ لا بداء في النسخ، والحكم كان مؤقتًا في علم الله، وأجل الحكم، وانتهاء الحكم عند حلول الأجل معلوم لله قبل الحكم. نعم بدا لنا ذلك من الله بعد نزول الناسخ، والبداء لنا في علمنا لا لله» اهـ. ... ¬

(¬1) أي أهلكه واستأصله. (¬2) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (2/ 947). (¬3) الكليني: الفروع من الكافي (5/ 546). (¬4) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (2/ 948). (¬5) السابق (2/ 945) نقلًا عن: الوشيعة في نقد عقائد الشيعة، لموسى جار الله، ص (183)، ط. مكتبة الكليات الأزهرية.

عقيدة الرافضة في القرآن

عقيدة الرافضة في القرآن: ذهب أئمة الرفض في كتبهم إلى القول بأن (القرآن الكريم ليس بحجة، ولا يكون حجة إلا بقيِّم)، والله تعالى يقول لمن أراد آية تدل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (¬1). ولقد رووا في ذلك روايات: فروى الكليني ما نصه «أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيِّم ... وأن عليًا - عليه السلام - كان قيم القرآن، وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله» (¬2)، والمراد بالقيم هنا هو كما قال الشارح أنه «من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومؤوله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهي أو بإلهام رباني أو بتعليم نبوي» اهـ (¬3). ومعنى هذا «أن قول الإمام هو أفصح من كلام الرحمن، ويظهر من هذا أنهم يرون أن الحجة في قول الإمام لأنه أقدر على البيان من القرآن، ولهذا سموه بالقرآن الصامت وسموا الإمام بالقرآن الناطق» (¬4). ولقد رووا عن علي - رضي الله عنه - قوله: «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق لكم، أخبركم عنه» (¬5)، ورووا: «علي تفسير كتاب الله - عز وجل - والداعي إليه» (¬6)، ولا يخفى قولهم المشهور المكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» (¬7)، وغير ذلك الكثير .. ¬

(¬1) العنكبوت: 51 (¬2) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 169). (¬3) السابق، الهامش. (¬4) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 128). (¬5) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 61). (¬6) المجلسي: بحار الأنوار (37/ 209). (¬7) السابق (40/ 201)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وحديث "أنا مدينة العلم وعلي بابها" أضعف وأوهى ولهذا إنما يعد في الموضوعات وإن رواه الترمذي، وذكره ابن الجوزي وبين أن سائر طرقه موضوعة، والكذب يعرف من نفس متنه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان مدينة العلم ولم يكن لها إلا باب واحد ولم يبلغ عنه العلم إلا واحد فسد أمر الإسلام، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدًا بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب» اهـ[ابن تيمية: منهاج السنة (7/ 515)].

ولكن كيف يصح ذلك وهو القائل - رضي الله عنه - في خطبة له كما يروون: «نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بكتاب فصله وأحكمه وأعزه وحفظه بعلمه وأحكمه بنوره، وأيده بسلطانه، وكلاه من لم يتنزه هوى أو يميل به شهوة أو يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ولا يخلقه طول الرد ولا يفنى عجائبه، من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن خاصم به فلح ومن قاتل به نصر، ومن قام به هدي إلى صراط مستقيم ...» (¬1). ولكن «تلك ليست هي نهاية التآمر على كتاب الله، وعلى الشيعة، ولكنها حلقة من حلقات، ومؤامرة ضمن سلسلة مؤامرات طوحت بالشيعة بعيدًا عن جماعة المسلمين، وهي مقدمة، أو إرهاص لبدء المحاولة في تفسير كتاب الله على غير وجهه، وزعمهم أن هذا هو ما جاء عن القيم والإمام من أهل البيت، والحجة فيه لا في غيره، وهو الناطق عن القرآن، والمبين له .. ولا حجة في القرآن إلا به» (¬2). فلقد قالوا بأن الأئمة اختصوا بمعرفة القرآن لا يشركهم فيه أحد، حتى عقد الحر العاملي بابًا في (الوسائل) بعنوان: «باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة عليهم السلام» (¬3). ورواياتهم في هذا الشأن كثيرة جدًا. كذلك فلقد آمنت الشيعة بكتب ما أنزل الله بها من سلطان، حيث ادعوا أن الله تعالى اختص آل البيت وشيعتهم بكتب: كالجامعة والجفر ومصحف فاطمة (¬4) ولوح ¬

(¬1) انظر، تفسير العياشي (1/ 7). (¬2) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 132). (¬3) وقد وقفت عليه في الجزء السابع والعشرين من (وسائل الشيعة)، انظر (27/ 176) وما بعدها. (¬4) روى الكليني عن أبي عبد الله - عليه السلام - قوله: «... يا أبا محمد، وإن عندنا الجامعة وما يدريهم ما الجامعة؟ قال [أبو محمد] قلت: جعلت فداك وما الجامعة؟ قال صحيفة طولها سبعون ذراعًا بذراع رسول الله - صلى الله عليه وآله - وإملائه من فلق فيه وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش ... ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن عندنا الجفر وما يدريهم ما الجفر؟ قال قلت: وما الجفر؟ قال: وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين، وعلم الذين مضوا من بني إسرائيل ... ثم سكت ساعة ثم قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها السلام؟ قال قلت: وما مصحف فاطمة عليها السلام؟ قال مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد ... ثم سكت ساعة ثم قال: إن عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ...». [الكليني: الأصول من الكافي (1/ 239 - 40) باختصار].

فاطمة (¬1)، والاثنتي عشرة صحيفة المتضمنة لصفات الأئمة (¬2). وهذه الدعوى لا تكاد تختلف عن دعوى أكثر المتنبئين بتنزل كتب، أو وحي عليهم، ولعل جذور هذه المقالة بدأت في عصر علي - رضي الله عنه -، كما أشارت إلى ذلك إحدى روايات الإمام البخاري رحمه الله عن أبي جحيفة أنه سأل عليًّا - رضي الله عنه -: «هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهمًا يُعطَى رجل في كتابه وما في الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقْتَلَ مسلمٌ بكافر» (¬3)، قال ابن حجر (¬4): «وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت - لا سيما عليًا - أشياء من الوحي خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بها لم يطلع غيرهم عليها»، ثم ذكر رحمه الله عدة روايات عما تشتمل عليه ¬

(¬1) روى الكليني عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: قال أبي لجابر بن عبد الله الأنصاري ... :.يا جابر: أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وما أخبرتك به أمي أنه في ذلك اللوح مكتوب؟ فقال جابر: أشهد بالله أني دخلت على أمك فاطمة عليها السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله فهنيتها بولادة الحسين ورأيت في يديها لوحًا أخضر، ظننت أنه من زمرد ورأيت فيه كتابًا أبيض، شبه لون الشمس، فقلت لها: بأبي وأمي يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ما هذا اللوح؟ فقالت: هذا لوح أهداه الله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابني واسم الأوصياء من ولدي وأعطانيه أبي ليبشرني بذلك، قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة عليها السلام فقرأته واستنسخته ...». [السابق (1/ 527) باختصار]. (¬2) كما رووا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: «إن الله تبارك وتعالى أنزل علي اثني عشر خاتمًا واثنتي عشرة صحيفة اسم كل إمام على خاتمه وصفته في صحيفته» [ابن بابويه القمي: إكمال الدين وإتمام النعمة (1/ 268 - 9)]. ومن المؤسف أن من المتمسلمين من يعتقد في صحة هذه الصحف المزعومة، ويفرد لها البحوث والتصنيفات، ولا حول ولا قوة إلا بالله!! (¬3) رواه البخاري، كتاب الديات: 6915 (¬4) ابن حجر: فتح الباري (1/ 204 - 5).

الصحيفة، ثم قال: «والجمع بين هذه الأحاديث أن الصحيفة كانت واحدة وكان جميع ذلك مكتوبًا فيها، فنقل كل واحد من الرواة عنه ما حفظه والله أعلم. وقد بين ذلك قتادة في روايته لهذا الحديث عن أبي حسان عن علي، وبين أيضًا السبب في سؤالهم لعلي - رضي الله عنه - عن ذلك، أخرجه أحمد والبهيقي في الدلائل من طريق أبي حسان أن عليًا كان يأمر بالأمر فيقال: قد فعلناه، فيقول: صدق الله ورسوله، فقال له الأشتر: هذا الذي تقول، أهو شيء عهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون الناس؟ فذكره بطوله» اهـ. إذن، فإن نواة هذه المقالة ظهرت في عصر متقدم، أما من تولى كبرها فإن في رسالة (الإرجاء) للحسن بن محمد بن الحنفية (ت. 81هـ) ما يشير إلى أن السبئيين قد بدءوا في إشاعة مثل هذه المقالات حيث قالوا: «هدينا بوحي ضل عنه الناس وعلم خفي، ويزعمون أن نبي الله كتم تسعة أعشار القرآن» (¬1). وفي كتاب (أحوال الرجال) للجوزجاني (ت. 259هـ) أن عبد الله بن سبأ «زعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي» (¬2). فهذه أصل الدعوى؛ وهي إشارة السبئيين إلى علم مخزون عند علي، وقد تطورت بعد ذلك واتخذت صورًا وأشكالًا متعددة، إلى أن أدت بهم إلى القول بوقوع تحريف في كتاب الله - عز وجل - قام به الصحابة لطمس ما يحتويه من فضائح وهتك للمهاجرين والأنصار، ورووا في ذلك روايات، من أشهرها ما يرويه كذبًا أحمد بن علي الطبرسي (ت. 620هـ) صاحب (الاحتجاج)، عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - أنه قال: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله جمع علي - عليه السلام - القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم لما قد أوصاه بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحة فتحها فضائح القوم، فوثب عمر وقال: يا علي اردده فلا حاجة لنا فيه، فأخذه - عليه السلام - وانصرف، ثم أحضروا زيد بن ثابت - وكان قارئًا للقرآن - فقال له عمر: إن عليًا جاء بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار، وقد رأينا أن نؤلف القرآن ونسقط منه ما كان ¬

(¬1) رسالة الإرجاء، ضمن كتاب (الإيمان)، لمحمد بن يحيى العدني (150 - 243هـ) (1/ 148). (¬2) أبي إسحاق الجوزجاني: أحول الرجال، ص (38).

فيه من فضائح وهتك المهاجرين والأنصار، وقد أجابه زيد إلى ذلك، ثم قال: فإن أنا فرغت من القرآن على ما سألتم وأظهر عليّ القرآن الذي ألَّفه، أليس قد أبطل كل ما عملتم؟ فقال عمر: ما الحيلة؟ قال زيد: أنتم أعلم بالحيلة، فقال عمر: حيلته دون أن نقتله ونستريح منه، فدبَّر في قتله على يد خالد بن الوليد فلم يقدر على ذلك ... فلما استخلف عمر سأل عليًا أن يدفع إليهم القرآن فيحرفوه فيما بينهم، فقال عمر: يا أبا الحسن، إن جئت بالقرآن الذي كنت جئت به إلى أبي بكر حتى نجتمع عليه، فقال: هيهات، ليس إلى ذلك سبيل، إنما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليكم، ولا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا ما جئتنا، إن القرآن الذي عندي لا يمسه إلا المطهرون والأوصياء من ولدي، فقال عمر: فهل وقت لإظهاره معلوم؟ فقال: نعم، إذا قام القائم من ولدي يظهره ويحمل الناس عليه، فتجري السنة به، صلوات الله عليه» اهـ (¬1). يقول القفاري (¬2): «هذا الزخم من المصنفات وغيرها لا يشك مسلم أنه كيد زنديق حاقد على كتاب الله ودينه وأتباعه، وقد دفع هذه الفئة إليه خلو كتاب الله مما يثبت شذوذهم وما ذهبوا إليه من عقائد ليس لها أصل في كتاب الله، وليس في مقدورهم أن يفعلوا شيئًا لتغيير بعض آيات الله، كما فعلوا في السنة المطهرة حينما دسوا بعض الروايات والتي كشفها صيارفة هذا العلم وأربابه فلما لم يستطيعوا أن يحدثوا في كتاب الله أمرًا لأنه فوق منالهم حينئذ ادعوا أن في كتاب الله نقصًا وتغييرًا - وما أسهل الدعوى على حاقد موتور - وهي محاولة فيما يبدو لإقناع أتباعهم الذين ضجوا من خلو كتاب الله من ذكر أئمتهم وعقائدهم والتي لها تلك المكانة التي يسمعونها من رؤسائهم، فادعوا هذه الدعوى ونشط شيوخهم في القرن الثالث والرابع في الحديث عنها، ولكنهم فيما يبدوا لم يحسبوا لهذه الدعوى حسابها، فارتدت عليهم بأسوأ العواقب، فقد فضحتهم ¬

(¬1) أحمد بن علي الطبرسي: الاحتجاج (1/ 225 - 8)، باب احتجاج علي - عليه السلام - على جماعة كثيرة من المهاجرين والأنصار. (¬2) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 231).

أمام الملأ، وكشفت القناع عن وجوههم، وأبانت عن عداوتهم ونفاقهم، وقطعت صلتهم بالإسلام والقرآن وأهل البيت». ويقول (¬1): «وقد تتبعت الآراء المنسوبة لابن سبأ وطائفة السبئية فلم أجد أن هذه المقالة قد نقلت عن ابن سبأ لأنها - فيما يبدو - لم تخطر على باله لوضوح بطلانها أمام الجيل الذي عاصر التنزيل، ولأنها وسيلة سريعة لانكشاف كذبه، فلم يتجرأ ابن سبأ على إشاعة هذه الفرية. لم يقل إن الصحابة حرَّفوا القرآن، ولكن عدل عن ذلك إلى القول "بأن هذا القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي"، وهي مقالة مجملة لم يفصح فيها عن مراده، وقد يوضحها ما جاء في رسالة الحسن بن محمد بن الحنفية وهو قوله: "ومن خصومة هذه الشبيبة التي أدركنا أن يقولوا هدينا بوحي ضل عنه الناس وعلم خفي، ويزعمون أن نبي الله كتم تسعة أعشار القرآن، ولو كان نبي الله كاتمًا شيئًا مما أنزل الله لكتم شأن امرأة زيد {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} (¬2) ". فإذن لم تكن هذه القضية من مقالات السبئية بل حدثت فيما بعد، أما من هو الذي تولى كبر وضع هذا الكفر بين الشيعة؟ فإن الإجابة الجازمة المحددة قد لا تكون ميسرة». ويشير كذلك (¬3) إلى أنه كان من أوائل من أشاروا إلى ظهور هذه الفرية من أهل السنة هو الإمام أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (271 - 328هـ)، حيث قال (¬4): «لم يزل أهل الفضل والعقل يعرفون من شرف القرآن وعلو منزلته ما يوجبه الحق والإنصاف والديانة ... حتى نبغ في زماننا هذا زائغ زاغ عن الملة وهجم على الأمة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيدها ... فزعم أن المصحف الذي جمعه عثمان - رضي الله عنه - باتفاق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تصويبه فيما فعل لا يشتمل على جميع القرآن، إذ كان ¬

(¬1) السابق (1/ 225 - 6). (¬2) الأحزاب: 37، وانظر: كتاب (الإيمان)، للعدني (1/ 148). وقد نقل الدكتور القفاري النص من مخطوطة المكتبة الظاهرية هكذا: «ومن خصومة هذه السبئية التي أدركنا يقولوا [كذا] هدينا لوحي ضل عنه الناس وعلم خفي ...». (¬3) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 204) وما بعدها. (¬4) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (1/ 127).

قد سقط منه خمسمائة حرف ...»، ثم ذكر ابن الأنباري أن هذا الزنديق أخذ يقرأ آيات من القرآن على غير وجهها زندقة وإلحادًا فكان يقرأ: (والعصر ونوائب الدهر)، و (ولقد نصركم الله ببدر بسيف علي وأنتم أذلة) ... إلخ. وكأن ابن الأنباري كان يشير إلى شخص بعينه، إلا أنه لم يذكره باسمه، ولكن بدت هويته المذهبية من خلال افتراءاته. بينما نجد الملطي يشير إلى أن هذا الشخص صاحب هذه الفرية هو هشام بن الحكم، القائل بأن «الأمة بأسرها من الطبقة الأولى بايعوا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فكفروا وارتدوا وزاغوا عن الدين، وأن القرآن نُسِخَ وصعد به إلى السماء لردتهم، وأن السنَّة لا تثبت بنقلهم إذ هم كفار، وأن القرآن الذي في أيدي الناس قد انتقل ووضع أيام عثمان، وأحرق المصاحف التي كانت قبل» اهـ (¬1). «ولكن هشام بن الحكم توفي سنة 190هـ، وهذا يعني أن هذا الافتراء أقدم مما يذكره ابن الأنباري، وإذا لاحظنا أن هذه الفرية مرتبطة أشد الارتباط بمسألة الإمامة والأئمة عند الشيعة، وذلك حينما بدأ شيوخ الشيعة في الاستدلال عليها فلم يجدوا في كتاب الله ما يثبت مزاعمهم في ذلك فأدى بهم هذا إلى القول بهذه الفرية وغيرها .. إذا أدركنا ذلك فإنه لا يبعد أن يكون ما يقوله الملطي في أن هشامًا هو الذي تولى كبر هذا الافتراء .. لا يبعد أن يكون هذا واقعًا لا سيما أن هشامًا كان من أول من تكلم في الإمامة حتى قال ابن النديم إن هشام بن الحكم «ممن فتق الكلام في الإمامة ... وله من الكتب كتاب الإمامة» (¬2). فتشير القرائن - كما ترى - إلى هشام وشيعته، فهذا يدل على أقل الافتراضات أن هذه الفرية وجدت في عصر هشام، ومما يدل على وجود هذه الدعوى في تلك الفترة ما ذكره ابن حزم عن الجاحظ قال (¬3): «أخبرني أبو إسحاق إبراهيم النظام وبشر بن خالد أنهما قالا لمحمد بن جعفر الرافضي المعروف بشيطان الطاق: ويحك، أما ¬

(¬1) محمد بن أحمد الملطي: التنبيه والرد، ص (22). (¬2) ابن النديم: الفهرست، ص (223 - 4). (¬3) ابن حزم: الفِصَل (4/ 139).

استحيت من الله أن تقول في كتابك في الإمامة أن الله تعالى لم يقل قط في القرآن {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (¬1)، قال: فضحك والله شيطان الطاق ضحكًا طويلًا حتى كأنا نحن الذي أذنبنا!». هذه الحكاية أوردها ابن حزم عن الجاحظ، وقد قال عنه ابن حزم إنه «وإن كان أحد المجان ومن غلب عليه الهزل وأحد الضلال المضلين فإننا ما رأينا له في كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتًا لها وإن كان كثيرًا لإيراد كذب غيره» اهـ (¬2). وقد تقدمت بنا ترجمة شيطان الطاق، «والمعروف أن شيطان الطاق معاصر لهشام بن الحكم، فقد يكون أحد الشركاء في هذه (الجريمة) مع هشام بن الحكم فهو شريك في التأليف حول مسألة الإمامة والتي هي السبب والأصل للقول بهذا الافتراء كما تدل عليه نصوص هذه الفرية» (¬3)، والتي من ثم شاعت في الشيعة الاثني عشرية، وكان أول ظهور لها - كما يرجح القفاري (¬4) - في أول كتاب ظهر للشيعة - حسب تقديرهم لأسبقية كتبهم -، وهو كتاب سليم بن قيس الهلالي (ت. 90هـ). وهذا الكتاب الذي خلعوا عليه هذا الثناء والتوثيق لم يصلهم إلا عن طريق رجل واحد فقط، كما يقول ابن النديم (¬5): «كتاب سليم بن قيس الهلالي المشهور، رواه عنه أبان بن أبي عياش، لم يروه عنه غيره» اهـ. ولقد كشف عالمهم الغضائري أن الكتاب موضوع، فقال: «والكتاب موضوع لا مرية فيه» (¬6)، وعند ابن داود قوله (¬7): «لم يرو عنه إلا أبان بن أبي عياش، وفي الكتاب مناكير مشتهرة، وما أظنه إلا موضوعًا» اهـ. وسليم بن قيس هذا مجهول لا ذكر له في كتب أهل السنة المعتبرة (¬8)، في حين أنه قال ¬

(¬1) التوبة: 40 (¬2) ابن حزم: الفِصَل (4/ 139). (¬3) د. ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة (1/ 207). (¬4) السابق (1/ 209) بتصرف يسير. (¬5) ابن النديم: الفهرست، ص (275). (¬6) انظر: رجال الحلي، ص (83) القسم الأول، باب سليم. (¬7) انظر: رجال ابن داود، ص (249)، باب سليم بن قيس الهلالي. (¬8) يقول الدكتور القفاري: «رجعت في البحث عنه إلى مصادر كثيرة من كتب أهل السنة فلم أجد له ذكرًا؛ فلم أجده مثلًا في تاريخ الطبري كما يظهر من خلال فهرس الأعلام الذي وضعه أبو الفضل إبراهيم [1322 - 1401هـ]، وكذلك تاريخ ابن الأثير كما يبدو من فهارسه التي وضعها إحسان عباس [ت. 1424هـ] (أو سيف الدين الكاتب)، وليس له ذكر في شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي [1032 - 1089هـ]، والبداية والنهاية لابن كثير، وطبقات ابن سعد، ولا في مجموعة من كتب الرجال مثل: لسان الميزان، أو التاريخ الكبير والصغير للبخاري، أو تهذيب الكمال للمِزِّي [654 - 742هـ] .. إلخ مع أنه مؤلف أول كتاب في الإسلام، ولاحقه الحجاج لقتله .. إلخ، فمن برز في هذين الاتجاهين الفكري، والسياسي يستبعد أن يُنسى، ونسيانه دليل على أن ما تقوله الشيعة عنه مجرد دعوى، فقد يكون شخصية خيالية، أو نكرة من النكرات» اهـ[د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 222) الهامش].

عنه ابن النديم (¬1): «من أصحاب أمير المؤمنين - عليه السلام -، سليم بن قيس الهلالي، وكان هاربًا من الحجاج لأنه طلبه ليقتله، فلجأ إلى أبان بن أبي عياش فآواه، فلما حضرته الوفاة قال لأبان: "إن لك عليَّ حقًا وقد حضرتني الوفاة يابن أخي، إن كان من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيت وكيت"؛ وأعطاه كتابه، وهو كتاب سليم بن قيس الهلالي المشهور، رواه عنه أبان بن أبي عياش، لم يروه عنه غيره»، وقال المجلسي في مقدمة (البحار) (¬2): «وكتاب سليم بن قيس في غاية الاشتهار، وقد طعن فيه جماعة، والحق أنه من الأصول المعتبرة» اهـ. كذلك فلقد ترك علماء السنة أبان بن أبي عياش، فقال ابن حجر (¬3): «متروك»، وقال الذهبي (¬4): «قال أحمد بن حنبل: "تركوا حديثه"» اهـ. وبهذا الحكم كادت أن تموت هذه الروايات، لكن جاء بعد كتاب سليم من تلقف هذه الأساطير، «وقد تولى كبر هذه الفرية ووزر هذا الكفر شيخ الشيعة علي بن إبراهيم القمي [ت. 329هـ]، فقد أكثر من الروايات في هذا الباب، ونص في مقدمة تفسيره على أنها كثيرة (¬5)، وبدأت عنده محاولة التطبيق العملي لهذه الخرافة. ويلاحظ أن معظم روايات ¬

(¬1) ابن النديم: الفهرست، ص (275). (¬2) المجلسي: بحار الأنوار (1/ 32). (¬3) ابن حجر: تقريب التهذيب، ص (87). (¬4) الذهبي: المغني في الضعفاء (1/ 13). (¬5) كقوله على سبيل المثال: «وأما ما هو كان على خلاف ما أنزل الله فهو قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110]، فقال أبو عبد الله - عليه السلام - لقارئ هذه الآية: (خير أمة) يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين بن علي - عليه السلام -؟ فقيل له، وكيف نزلت يابن رسول الله؟ فقال: إنما نزلت (كنتم خير أئمة أخرجت للناس)، ألا ترى مدح الله لهم في آخر الآية {تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} ...». [انظر: مقدمة تفسير القمي (1/ 10) وما بعدها].

الكليني صاحب الكافي هي عند هذا القمي الذي تلقف هذه الروايات عن كل أفاك أثيم وسجلها في تفسيره الذي يحظى بتقدير الشيعة كلها» (¬1)، ولا يزال كتاب الكليني (الكافي) (¬2) وتفسير شيخه القمي من مصادر الشيعة المعتمدة إلى اليوم. يقول القفاري (¬3): «لقد رأينا معظم كتب الشيعة أنغمست في هذا المستنقع الآسن، وسقطت في تلك الهوة الخطيرة، فما مقدار هذا السقوط وما مستواه؟ هل تلك ¬

(¬1) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 268 - 9) .. (¬2) إن كتاب الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني هو أعظم المصادر الشيعية على الإطلاق، فهو - كما يدعون - موثق من قِبَل الإمام الثاني عشر المعصوم - الوهمي - الذي لا يخطئ ولا يغلط، إذ لما ألف الكليني كتاب الكافي عرضه على الإمام الثاني عشر في سردابه في سامراء، فقال الإمام الثاني عشر: «الكافي كافٍ لشيعتنا» [انظر: مقدمة الكافي، للكليني (1/ 25)]، وقال عباس القمي (1294 - 1359هـ): «الكافي هو أجلّ الكتب الإسلامية وأعظم المصنفات الإمامية والذي لم يعمل للإمامية مثله، قال محمد أمين الإسترآبادي (ت. 1033هـ): سمعنا من مشايخنا وعلمائنا أنه لم يصنف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه» اهـ[عباس القمي: الكنى والألقاب (3/ 120)]. ولكن اقرأ معي هذه الأقوال: يقول حسين بن حيدر الكركي العاملي (ت. 1076هـ): «إن كتاب الكافي خمسون كتابًا بالأسانيد التي فيه لكل حديث متصلة بالأئمة عليهم السلام» [انظر، الخوانساري: روضات الجنات (6/ 107)]، ويقول محمد باقر الخوانساري (ت. 1313هـ): «وقد ينكر كون كتاب الروضة أيضًا من جملة كتب الكليني، من جهة عدم اتصال سندنا إليه أو غير ذلك» [نفسه (6/ 111)]. ويقول أبو جعفر الطوسي: «إن كتاب الكافي مشتمل على ثلاثين كتابًا». [الطوسي: الفهرست، ص (161)] .. وهذا يبين لنا أن ما زيد على الكافي ما بين القرن الخامس والقرن الحادي عشر، عشرون كتابًا وكل كتاب يضم الكثير من الأبواب، أي أن نسبة ما زيد في كتاب الكافي طيلة هذه المدة يبلغ 40% عدا تبديل الروايات وتغيير ألفاظها وحذف فقرات وإضافة أخرى فمن الذي زاد في الكافي عشرين كتابًا؟ أيمكن أن يكون إنسانًا نزيهًا؟؟ وهل هو شخص واحد أم أشخاص كثيرون تتابعوا طيلة هذه القرون على الزيادة والتغيير والتبديل والعبث به؟! وأما زال الكافي موثقًا من قبل المعصوم الذي لا يخطئ ولا يغلط؟! (¬3) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 268 - 9).

الروايات السوداء والتي وجدت طريقها إلى كتب القوم، وتسللت إلى مراجعهم الحديثية لتكسو من يركن إليها ثوبًا من الخزي والعار، وتسلب من يده آخر علاقة له بالإسلام .. هل تلك الروايات مجرد روايات شاذة مندسة في كتب القوم لم تحظى برضا عقلائهم، ولا قبول محققيهم، وأنها قد تسربت إلى كتب هؤلاء، لأن الكذابين على الأئمة - كما تقول كتب الشيعة - قد كثروا في صفوف الشيعة، وكان التشيع مطية لكل من أراد الكيد للإسلام وأهله، كما أثبتته الأحداث والوقائع»؟ ثم يقول (¬1): «والحقيقة التي لا يماري فيها مسلم، ولا يشك فيها من سبر التطور العقدي عند هؤلاء القوم أن أوائل الشيعة ما كانت على هذا الكفر (¬2)، ما كان خلاف الشيعة في أول الأمر إلا مسألة الإمامة، ومن أحق بالإمامة ثم ما لبثت أن انجرت من بدعة إلى أخرى حتى رأينا شيوخهم في القرن الثالث يتسابقون للوقوع في هذا الكفر فأورثهم ذلك ذلًا وعارًا ومقتًا من المسلمين». ولهذا أعلن في القرن الرابع كبير شيوخهم ابن بابويه القمي صاحب (من لا يحضره الفقيه) أحد صحاحهم الأربعة في الحديث والملقب عندهم بـ (الصدوق) والموصوف بأنه (رئيس المحدثين)، أعلن براءة الشيعة من هذه العقيدة (¬3)، وكذلك الشريف المرتضى (ت. 436هـ) كان ينكر هذه المقالة، وقد نقل إنكاره شيوخ الشيعة كالطوسي (¬4) والطبرسي [ت. 548هـ] (¬5)، وكذلك استنكر هذه المقالة وصلة الشيعة بها الطوسي ¬

(¬1) السابق (1/ 276). (¬2) ولقد جاءت عنهم روايات في فضائل القرآن كقولهم عن أبي جعفر - عليه السلام -: «من قرأ القرآن قائمًا في صلاته كتب الله له بكل حرف مائة حسنة، ومن قرأه في صلاته جالسًا كتب الله له بكل حرف خمسين حسنة ومن قرأه في غير صلاته كتب الله له بكل حرف عشر حسنات» [الكليني: الأصول من الكافي (2/ 611)]، وكقوله - عليه السلام -: «الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة» [نفسه (2/ 603)]، وغير ذلك. (¬3) قال: «اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة ... ومن نسب إلينا أننا نقول إنه أكثر من ذلك فهو كاذب» اهـ. [ابن بابويه القمي: الاعتقادات، ص (84)، باب الاعتقاد في مبلغ القرآن]. (¬4) قال أبو جعفر الطوسي: «اعلم أن القرآن معجزة عظيمة على صدق النبي - عليه السلام -، بل هو من أكبر المعجزات وأشهرها ... وأما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضًا، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها والنقصان منه، فالظاهر أن مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى» اهـ. [تفسير الطوسي (1/ 3) باختصار]. (¬5) قال الفضل بن الحسن الطبرسي: «فأما الزيادة فيه [أي القرآن]: فمجمع على بطلانه. وأما النقصان منه: فقد روى جماعة من أصحابنا، وقوم من حشوية العامة، أن في القرآن تغييرًا أو نقصانًا، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى، علم الهدى، ذو المجدين أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، قدس الله روحه» اهـ. [تفسير الطبرسي (مجمع البيان في تفسير القرآن) (1/ 42 - 3)].

صاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم، وصاحب كتابين من كتب الرجال الأربعة المعتمدة عندهم، وكذلك الطبرسي صاحب مجمع البيان (¬1). ولكن رغم هذا الإنكار من هؤلاء فإن القضية لم تمت، ففي القرن السادس تولى إثارة هذه القضية مرة أخرى الطبرسي صاحب (الاحتجاج) فحشا كتابه الاحتجاج من هذا الكفر (¬2)، وسطر مجموعة من رواياتهم في ذلك وجاء بها مجردة من كل إسناد، وزعم في مقدمة كتابه أنه لم يذكر إسنادًا في أكثر رواياته لأنها محل إجماع قومه أو مشهورة عندهم، فقال (¬3): «ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده إما لوجود الإجماع عليه أو موافقته لما دلت العقول إليه أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف» اهـ. يقول القفاري (¬4): «ويبدو أن إنكار أولئك الأربعة كان له وقعه، أو أن القضية أصبحت سرية التداول، فلم نشاهد نشاطًا ملحوظًا لبعثها وترويجها بشكل ظاهر وكبير إلا في ظل الحكم الصفوي الذي شهد إثارة لهذه الأسطورة واختراع روايات لها، وترويجها أشد مما كان في القرن الثالث [بحكم وجود قوة تسندهم فتخف تكاليف التقية لديهم]، حتى يلاحظ أن هذه الأسطورة التي بدأت بروايتين في كتاب سليم بن قيس أصبحت كما يقول شيخهم نعمة الله الجزائري (¬5): "إن الأخبار الدالة على ذلك تزيد على ألفي حديث". كما أنه يضع أساطيره، وكتاب الله سبحانه في كفة ميزان ويرى أن القول بسلامة القرآن يؤدي إلى انعدام الثقة في أخبارهم، فيقول - وهو يرد على شيوخهم ¬

(¬1) وقد نقلنا قولهما في المسألة. (¬2) وقد تقدم ذكر روايته الشهيرة. (¬3) انظر: مقدمة (الاحتجاج)، للطبرسي (1/ 10). (¬4) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 232، 272) بتصرف. (¬5) انظر قوله في: فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب، للنوري طبرسي، ورقة (125)، ص (251)، مخطوط.

المتقدمين في قولهم بتواتر القراءات السبع - (¬1): "إن تسليم تواترها عن الوحي الإلهي، وكون الكل قد نزل به الروح الأمين يفضي إلى طرح الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن كلامًا ومادةً وإعرابًا، مع أن أصحابنا رضوان الله عليهم قد أطبقوا على صحتها والتصديق بها"». ولقد تبنى الترويج لهذه الفرية وإثارة هذه الأسطورة عدد كبير من أئمتهم (الثقات)؛ نذكر على سبيل المثال قول الفيض الكاشاني (1007 - 1091هـ) (¬2): «وأما اعتقاد مشايخنا في ذلك، فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن لأنه كان روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافي (¬3)، وكذلك أستاذه علي بن إبراهيم القمي رحمه الله فإن تفسيره مملوّ منه وله غلو فيه، وكذلك الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي - رضي الله عنه -، فإنه أيضا نسج على منوالهما في كتاب الاحتجاج. وأما الشيخ أبو علي الطبرسي فإنه قال في مجمع البيان: أما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه، وأما النقصان فيه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أن في القرآن تغييرًا ونقصانًا ... أقول: لقائل أن يقول كما أن الدواعي كانت متوفرة على نقل القرآن وحراسته من المؤمنين، كذلك كانت متوفرة على تغييره من المنافقين المبدلين للوصية المغيرين للخلافة لتضمنه ما يضاد رأيهم وهواهم، والتغيير فيه إن وقع فإنما وقع قبل انتشاره في البلدان واستقراره على ما هو عليه الآن، والضبط الشديد إنما كان بعد ذلك. فلا تنافي بينهما بل لقائل أن يقول إنه ما تغير في نفسه وإنما التغيير في كتاباتهم إياه وتلفظهم به فإنهم ما حرفوا إلا عند نسخهم من الأصل، وبقي الأصل على ما هو عليه عند أهله وهم ¬

(¬1) نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية (2/ 357). (¬2) محمد محسن بن مرتضى (الفيض الكاشاني): تفسير الصافي (1/ 52 - 4) باختصار. (¬3) عقد الكليني بابًا في (أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام وأنهم يعلمون علمه كله)، روى فيه عن أبي جعفر - عليه السلام - قوله: «ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب - عليه السلام - والأئمة من بعده عليهم السلام». [الكليني: الأصول من الكافي (1/ 228)].

العلماء به، فما هو عند العلماء به ليس بمحرف، وإنما المحرف ما أظهروه لأتباعهم» اهـ. ولقد شهد شيخهم المفيد - الملقب بركن الإسلام وآية الله الملك العلام - باستفاضة هذه الروايات القائلة بوقوع التحريف فقال (¬1): «أقول إن الأخبار جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف والنقصان». بل ولقد تواتر الخبر عندهم حتى قال شيخهم المجلسي (¬2): «كثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره، وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة معنى، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأسًا، بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لا يقصر عن أخبار الإمامة فكيف يثبتونها بالخبر». ويأتي من بعده تلميذه أبو الحسن الشريف الفتوني العاملي (1070 - 1138هـ) فيقضي بأن القول بالتحريف من ضروريات مذهب التشيع، فيقول (¬3): «وعندي في وضوح صحة هذا القول [أي تحريف القرآن] بعد تتبع الأخبار وتفحص الآثار بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع وأنه من أكبر مقاصد غصب الخلافة» اهـ. وقال الخوئي - وهو أحد معاصريهم - (ت. 1413هـ) (¬4): «النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين، مع التحفظ على نفس القرآن المنزل، قد وقع في صدر الإسلام وفي زمان الصحابة قطعًا، ويدلنا على ذلك إجماع المسلمين على أن عثمان أحرق جملة المصاحف وأمر ولاته بحرق كل مصحف خلاف ما جمعه» (¬5). ¬

(¬1) المفيد: أوائل المقالات، ص (80)، باب القول في تأليف القرآن وما ذكر قوم من الزيادة فيه والنقصان. (¬2) المجلسي: مرآة العقول (12/ 525). (¬3) أبو الحسن الشريف الفتوني: مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار، ص (34)، المقدمة الثانية، الفصل الرابع. (¬4) أبو القاسم الخوئي: البيان في تفسير القرآن، ص (198) باختصار، قوله في صيانة القرآن من التحريف. (¬5) ولعل مثل هذا الفحش من القول هو الذي فتح الباب للأنبا بيشوي المصري وأتاح له فرصة التبجح وإثارة الشكوك بقوله الذي لم يُعتذَر عنه: «هل قيلت عبارة {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ} أثناء بعثة نبي الإسلام، أم أضيفت أثناء تجميع عثمان بن عفان للقرآن الشفوي، وجعله تحريريًا لمجرد وضع شيء ضد المسيحية؟»، وكأنه قد آمن من قبل بما نُزِّل على محمد - صلى الله عليه وسلم -!! [انظر نص كلامه في جريدة (المصري اليوم)، عدد الخميس 23/ 9/2010م، ص (6)، خبر تحت عنوان: الأنبا بيشوي يدعو لمراجعة آيات قرآنية تتهم المسيحيين بالكفر].

ولقد تقدم بنا قول الخميني (¬1): «لو كانت مسألة الإمامة قد تم تثبيتها بالقرآن، فإن أولئك الذين لا يعنون بالإسلام والقرآن إلا لأغراض الدنيا والرئاسة، كانوا يتخذون من القرآن وسيلة لتنفيذ أغراضهم المشبوهة، ويحذفون تلك الآيات من صفحاته، ويسقطون القرآن من أنظار العالمين إلى الأبد، ويلصقون العار - وإلى الأبد - بالمسلمين والقرآن، ويثبتون على القرآن ذلك العيب الذي يأخذه المسلمون على كتب اليهود والنصارى» اهـ. سبحانك هذا بهتان عظيم! قال ابن العربي (¬2): «وأما جمع القرآن فتلك حسنته العظمى، وخصلته الكبرى، وكان نفوذ وعد الله بحفظ القرآن على يديه» اهـ (¬3). بل في آخر القرن الثالث عشر الهجري وقعت الفضيحة الكبرى للشيعة في هذا الباب، فقد ألف شيخ الشيعة ومحدثها، وخبير رجالها، وصاحب آخر مجموع من مجاميعهم الحديثية (مستدرك الوسائل) وأستاذ كثير من شيوخهم المعتبرين كمحمد حسين آل كاشف الغطاء، وآغا بزرك الطهراني (1293 - 1389هـ) وغيرهما .. شيخ الشيعة، المدفون بأقدس البقاع عندهم (¬4)، المرحوم (¬5)، حسين النوري الطبرسي، ألف كتابه: (فصل ¬

(¬1) الخميني: كشف الأسرار، ص (131). (¬2) ابن العربي: العواصم من القواصم، ص (66) باختصار. (¬3) قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. (¬4) يذكر محب الدين الخطيب رحمه الله أن الطبرسي مدفون «في بناء المشهد المرتضوي بالنجف في إيواء حجرة بانو العظمى بنت السلطان الناصر لدين الله [553 - 622هـ]، وهو ديوان الحجرة القبلية عن يمين الداخل إلى الصحن المرتضوي من باب القبلة في النجف الأشرف بأقدس البقاع عندهم». [انظر، محب الدين الخطيب: الخطوط العريضة، ص (11)]. (¬5) كذا يذكره الخميني في كتابه (الحكومة الإسلامية)، حينما يخرج له بعض الأحاديث، فيقول: «وقد رواه المرحوم النوري في كتاب مستدرك الوسائل». [انظره، ص (67) الهامش].

الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب)، والذي شحنه بمئات النصوص والنقول عن كبار طواغيتهم بدعوى أن القرآن محرف. وقد ارتكب جناية تأليفه سنة 1292هـ بالنجف وطبع في إيران سنة 1298هـ. يقول في مقدمته (¬1): «وبعد، فيقول العبد المذنب (¬2) المسيء حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي جعله الله تعالى من الواقفين ببابه، المتمسكين بكتابه (¬3): هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان، وسميته فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب» اهـ. وزعم فيه أن من جملة ما أُسقِط من القرآن سورة سماها (سورة الولاية) تذكر فضائل آل البيت، وينقل عن صاحب كتاب (دبستان مذاهب) (¬4) قوله: «بعد ذكر عقائد الشيعة ما معناه: وبعضهم يقولون إن عثمان أحرق المصاحف وأتلف السور التي كانت في فضل علي وأهل بيته عليهم السلام منها هذه السورة»، ثم يذكر سورة الولاية المزعومة بطولها، ثم يقول: «قلت: ظاهر كلامه أنه أخذها من كتب الشيعة، ولم أجد لها أثرًا فيها غير أن الشيخ محمد بن علي بن شهراشوب المازندران ذكر في كتاب (المثالب) (¬5) على ما حكي عنه أنهم أسقطوا من القرآن تمام سورة الولاية، ولعلها هذه السورة، والله العالم» اهـ (¬6). ولقد أورد الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله في (الخطوط العريضة) صورة ضوئية ¬

(¬1) النوري الطبرسي: فصل الخطاب، ورقة (1)، ص (2)، مخطوط. (¬2) يقول محمد حبيب في كتابه (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، عرض ونقد): «قوله: "العبد المذنب"، أقول: صدق المؤلف الكذاب في هذه، وادعاء تحريف القرآن كفر، والكفر ذنب!». [انظره، ص (101) الهامش]. (¬3) قال لي الأستاذ أحمد محمود الرواشي تعليقًا: «لعل المؤلف الدجَّال يقصد بكتابه ذاك القرآن المعدوم مع الإمام الموهوم ومهديهم المزعوم الذي اختلفوا فيه بين قائلٍ بأنه من عقِب الحسن العسكري، وقائل بأن الحسن لم يكن له عقب!!» اهـ. (¬4) وهو الفارسي محسن فاني الكشميري. (¬5) يقصد كتاب (مثالب النواصب)، وهو كتاب لابن شهراشوب المازندراني (ت. 588هـ). (¬6) النوري الطبرسي: فصل الخطاب، ورقة (90)، ص (180 - 1)، مخطوط.

لسورة الولاية المزعومة، وقال في تعليقه (¬1): «وقد اطلع الثقة المأمون الأستاذ محمد علي سعودي - الذي كان كبير خبراء وزارة العدل بمصر، ومن خواص تلاميذ الشيخ محمد عبده [1266 - 1323هـ]- على مصحف إيراني مخطوط عند المستشرق براين (¬2)، فنقل منه السورة المنشورة بالفوتوغراف، وفوق سطورها العربية ترجمتها باللغة الإيرانية» اهـ. يقول القفاري (¬3): «لعل القارئ يدرك محاولة هذا الطبرسي لأن يجعل الشيعة منذ نشأتها كانت على مذهبه، وأن مخالفة هذا المذهب كانت طارئة»، ثم يقول (¬4): «هناك - بلا شك - فئة من الشيعة لم تعد تهضم هذا المعتقد وقد كثر أتباعهم، ولهؤلاء - فيما يظهر - ألف صاحب (فصل الخطاب) كتابه ليردهم عن هذا الطريق الذي سلكوه، ويرفع عنهم تلك العماوة التي غشيتهم في نظره ويقول إن الدليل أحق أن يتبع وإن لم يذهب إليه أحد، وكأنه استوحش من مذهبه، والكفر كهف موحش مخيف، وخاف تقلص أتباعه واندراس أشياعه فراح يدعو إلى عدم الوحشة عند القلة فهي في نظره عنوان الحق على هذا القول»، حتى إنه قال معلقًا على كلام بعضهم (¬5): «ليس لداء قلة التتبع دواء إلا تعب المراجعة». ولكن الملاحظ أن من عارض القول بالتحريف لم تسلم كتبه من إيراد مثل هذه الأساطير، كما جاء على سبيل المثال في كتاب (ثواب الأعمال) لشيخهم ابن بابويه القمي (الصدوق)، في ثواب من قرأ سورة الأحزاب، قوله: «عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمد صلى الله عليه وآله وأزواجه، ثم قال: سورة الأحزاب فيها فضائح الرجال والنساء من قريش وغيرهم يا ابن سنان، إن سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب وكانت أطول من سورة البقرة ¬

(¬1) محب الدين الخطيب: الخطوط العريضة، ص (12). (¬2) لم أقف على ترجمته في المراجع المتاحة. (¬3) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 276). (¬4) السابق (1/ 281). (¬5) النوري الطبرسي: فصل الخطاب، ورقة (84)، ص (169)، مخطوط.

ولكن نقصوها وحرفوها» (¬1)، فهل نفيهم لهذه الفرية يحمل على أنه تقية كما قال الجزائري (¬2): «والظاهر أن هذا القول إنما صدر منهم لأجل مصالح كثيرة، منها سد باب الطعن عليها بأنه إذا جاز هذا في القرآن فكيف جاز العمل بقواعده وأحكامه مع جواز لحوق التحريف لها»، أم أن مثل هذه النصوص هي من آثار الدس والزيادة على كتبهم، لا سيما وهو أمر ميسور عندهم؟ ولقد أجاب الدكتور ناصر القفاري بقوله (¬3): «إن مسألة التقية من أماراتها التناقض والاختلاف، ولكن التناقض صار قاعدة مطردة في رواياتهم، بل وجد مثل ذلك في إجماعاتهم، كما وجد في كلام شيوخهم، وأصبح معرفة حقيقة المذهب ليست متيسرة حتى على شيوخهم الذين لا يجدون دليلًا على التمييز بين ما هو تقية وما هو حقيقة إلا بالاستناد إلى أصل وضعه زنديق ملحد وهو قولهم: "إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم" (¬4)، يعني أهل السنة، فأوشك أن ينتهي بهم هذا المذهب إلى مفارقة الدين رأسًا. وعليه فإن قضية الاختلاف هي ظاهرة طبيعية لكل دين ليس من شرع الله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (¬5): فهو (¬6) حينما ينقل رواياتهم في كتبه فمن الطبيعي وجود مثل هذا الاختلاف، وبالتالي فإنه لا يدين الرجل إدانة أكيدة بعد إنكاره ولا سيما أن العبرة بالنسبة لبيان مذهبه بما رأى لا بما روى ...»، إلى أن قال (¬7): «فإذا كان هذا أمر شيوخهم لا يكادون يقفون على حقيقة مذهب أئمتهم وشيوخهم القدامى بسبب أمر التقية فنحن أعذر في عدم الوصول إلى نتيجة جازمة يقينية» اهـ. ¬

(¬1) ابن بابويه القمي: ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص (110). (¬2) نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية (2/ 358). (¬3) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 290). (¬4) المجلسي: بحار الأنوار (2/ 235). (¬5) النساء: 82 (¬6) والكلام هنا في سياق حديثه عن أبي جعفر الطوسي وإنكاره للتحريف. (¬7) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (1/ 292).

عقيدة الطينة

وختامًا: فلقد تبين لنا أن هذه الأسطورة حملت بذاتها باطلها، وتبين من عناصر تكوينها فسادها، وكان مجرد عرضها كافيًا في الرد عليها، واعلم «أنه لو رام اليوم أحد أن يزيد في شِعر النابغة أو شعر زهير كلمة أو ينقص أخرى ما قدر لأنه كان يفتضح في الوقت وتخالفه النسخ المثبوتة، فكيف القرآن في المصاحف؟! فظهر حمق الرافضة ومجاهرتها بالكذب. ومما يبين كذب الروافض في ذلك أن علي بن أبي طالب ولي الأمر وملك فبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعًا ظاهر الأمر، والقرآن يقرأ في المساجد في كل مكان وهو يؤم الناس به، والمصاحف معه وبين يديه، فلو رأى فيه تبديلًا كما تقول الرافضة أكان يقرهم على ذلك؟ ثم أتى ابنه الحسن وهو عندهم كأبيه فجرى على ذلك. فكيف يسوغ لهؤلاء النوكى أن يقولوا أن في المصحف حرفًا زائدًا أو ناقصًا أو مبدلًا مع هذا؟! ولقد كان جهاد من حرَّف القرآن وبدل الإسلام أوكد عليه من قتال أهل الشام الذين إنما خالفوه في رأي يسير رأوه ورأى خلافه فقط، فلاح كذب الرافضة ببرهان لا محيد عنه والحمد لله رب العالمين» (¬1). ... عقيدة الطينة: عقيدة الطينة يبينها شيخهم المجلسي في بحاره المظلمة، فيما يرويه في (باب الطينة والميثاق)، عن أبي عبد الله جعفر الصادق، قال: «كان مما خلق الله - عز وجل - أرضًا طيبة، ثم فجر منها ماء عذبًا زلالًا، فعرض عليها ولايتنا أهل البيت فقبلتها، فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيام حتى طبقها وعمها، ثم نضب ذلك الماء عنها (¬2) وأخذ من صفوة ذلك الطين طينًا فجعله طين الأئمة عليهم السلام، ثم أخذ ثفل ذلك الطين فخلق منه شيعتنا، ولو ترك طينتكم يا إبراهيم على حاله كما ترك طينتنا لكنتم ونحن شيئًا واحدًا. قلت: يابن رسول الله، فما فعل بطينتنا؟ قال: أُخبِرُك يا إبراهيم، خلق الله - عز وجل - بعد ذلك أرضًا سبخة خبيثة ¬

(¬1) ابن حزم: الفِصَل (2/ 67) باختصار. (¬2) أي نزح ماؤه ونشف.

منتنة، ثم فجر منها ماء أجاجًا آسنًا مالحًا، فعرض عليها ولايتنا أهل البيت ولم تقبلها، فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيام حتى طبقها وعمها، ثم نضب ذلك الماء عنها، ثم أخذ من ذلك الطين فخلق منه الطغاة وأئمتهم، ثم مزجه بثفل طينتكم، ولو ترك طينتهم على حاله ولم يمزج بطينتكم لم يشهدوا الشهادتين ولا صلوا ولا صاموا ولا زكوا ولا حجوا ولا أدوا أمانة ولا أشبهوكم في الصور، وليس شيء أكبر على المؤمن من أن يرى صورة عدوه مثل صورته. قلت: يابن رسول الله فما صنع بالطينتين؟ قال: مزج بينهما بالماء الأول والماء الثانى، ثم عركها عرك الأديم، ثم أخذ من ذلك قبضة فقال: هذه إلى الجنة ولا أبالي وأخذ قبضة أخرى وقال: هذه إلى النار ولا أبالي، ثم خلط بينهما فوقع من سنخ المؤمن وطينته على سنخ الكافر وطينته، ووقع من سنخ الكافر وطينته على سنخ المؤمن وطينته، فما رأيته من شيعتنا من زنا، أو لواط، أو ترك صلاة، أو صيام، أو حج، أو جهاد، أو خيانة، أو كبيرة من هذه الكبائر، فهو من طينة الناصب (¬1) وعنصره الذي قد مزج فيه، لأن من سنخ الناصب وعنصره وطينته اكتساب المآثم والفواحش والكبائر، وما رأيت من الناصب ومواظبته على الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وأبواب البر، فهو من طينة المؤمن وسنخه الذي قد مزج فيه، لأن من سنخ المؤمن وعنصره وطينته اكتساب الحسنات واستعمال الخير واجتناب المآثم، فإذا عرضت هذه الأعمال كلها على الله - عز وجل - قال: أنا عدل لا أجور، ومنصف لا أظلم، وحكم لا أحيف ولا أميل ولا أشطط، ألحقوا الأعمال السيئة التي اجترحها المؤمن بسنخ الناصب وطينته، وألحقوا الأعمال الحسنة التي اكتسبها الناصب بسنخ المؤمن وطينته، ردوها كلها إلى أصلها، فإني أنا الله لا إله إلا أنا، عالم السر وأخفى، وأنا المطلع على قلوب عبادي، لا أحيف ولا أظلم ولا ألزم أحدًا إلا ما عرفته منه قبل أن أخلقه» (¬2). يقول الدكتور ناصر القفاري (¬3): «هذه العقيدة من مقالاتهم السرية، وعقائدهم التي يتواصون بكتمانها حتى من عامتهم، لأنه لو اطلع العامي الشيعي على هذه العقيدة "تعمد ¬

(¬1) يقصد السنِّي .. (¬2) المجلسي: بحار الأنوار (5/ 230 - 1). (¬3) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (2/ 955).

واقرأ معي هذه النصوص

أفعال الكبار لحصول اللذة الدنيوية، ولعلمه بأن وبالها الأخروي إنما هو على غيره" (¬1). وكانت هذه المقالة موضع إنكار من بعض عقلاء الشيعة المتقدمين كالمرتضى وابن إدريس (543 - 598هـ)، لأنها في نظرهم وإن تسللت أخبارها في كتب الشيعة إلا "أنها أخبار آحاد مخالفة للكتاب والسنة والإجماع فوجب ردها" (¬2). لكن هذه الأخبار تكاثرت على مر الزمن حتى قال شيخهم نعمة الله الجزائري (¬3): "إن أصحابنا قد رووا هذه الأخبار بالأسانيد المتكثرة في الأصول وغيرها، فلم يبق مجال في إنكارها، والحكم عليها بأنها أخبار آحاد، بل صارت أخبارًا مستفيضة بل متواترة"، قال هذا في الرد على من أنكرها من شيوخهم السابقين» اهـ. واقرأ معي هذه النصوص: عقد الكليني في كتابه الكافي بابًا بعنوان: (طينة المؤمن والكافر)، روى فيه عن ربعي بن عبد الله عن (رجل) عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: «إن الله - عز وجل - خلق النبيين من طينة عليين: قلوبهم وأبدانهم، وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة، وجعل خلق أبدان المؤمنين من دون ذلك، وخلق الكفار من طينة سجين: قلوبهم وأبدانهم، فخلط بين الطينتين، فمن هذا يلد المؤمن الكافر ويلد الكافر المؤمن، ومن ههنا يصيب المؤمن السيئة ومن ههنا يصيب الكافر الحسنة، فقلوب المؤمنين تحن إلى ما خلقوا منه، وقلوب الكافرين تحن إلى ماخلقوا منه» (¬4). وعن عبد الغفار الجازي، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: «إن الله - عز وجل - خلق المؤمن من طينة الجنة وخلق الكافر من طينة النار، وقال: إذا أراد الله - عز وجل - بعبد خيرًا طيب روحه وجسده فلا يسمع شيئًا من الخير إلا عرفه، ولا يسمع شيئًا من المنكر إلا أنكره، قال: وسمعته يقول: الطينات ثلاث: طينة الأنبياء، والمؤمن من تلك الطينة، إلا أن الأنبياء ¬

(¬1) انظر، نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية (1/ 295). (¬2) السابق (1/ 293). (¬3) السابق. (¬4) الكليني: الأصول من الكافي (2/ 2).

هم من صفوتها، هم الأصل ولهم فضلهم، والمؤمنون الفرع من طين لازب، كذلك لا يفرق الله - عز وجل - بينهم وبين شيعتهم، وقال: طينة الناصب من حمأ مسنون (¬1)، وأما المستضعفون فمن تراب، لا يتحول مؤمن عن إيمانه ولا ناصب عن نصبه ولله المشيئة فيهم» (¬2). وعن صالح بن سهل قال: «قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: جعلت فداك، من أي شئ خلق الله - عز وجل - طينة المؤمن؟ فقال: من طينة الأنبياء، فلم تنجس أبدًا» (¬3). وعن أبي حمزة الثمالي قال: «سمعت أبا جعفر - عليه السلام - يقول: إن الله - عز وجل - خلقنا من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه، وخلق أبدانهم من دون ذلك، وقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا منه، ثم تلا هذه الآية: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ. كِتَابٌ مَّرْقُومٌ. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} (¬4)، وخلق عدونا، من سجين وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه وأبدانهم من دون ذلك، فقلوبهم تهوي إليهم، لأنها خلقت مما خلقوا منه، ثم تلا هذه الآية: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ. كِتَابٌ مَّرْقُومٌ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}» (¬5). وعن عثمان بن يوسف قال: «أخبرني عبد الله بن كيسان، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: قلت له: جعلت فداك أنا مولاك، عبد الله بن كيسان، قال: أما النسب فأعرفه وأما أنت، فلست أعرفك، قال: قلت له: إني ولدت بالجبل ونشأت في أرض فارس وإنني أخالط الناس في التجارات وغير ذلك، فأخالط الرجل، فأرى له حسن السمت وحسن الخلق وكثرة أمانة، ثم أفتشه فأتبينه عن عداوتكم، وأخالط الرجل فأرى منه سوء الخلق وقلة أمانة وزعارة (¬6) ثم أفتشه فأتبينه عن ولايتكم، فكيف يكون ذلك؟ فقال لي: أما ¬

(¬1) قال الشارح: «الحمأ: الطين الأسود، والمسنون: المنتن» اهـ[الأصول من الكافي (2/ 3) الهامش]. (¬2) السابق (2/ 3). (¬3) السابق. (¬4) المطففين: 18 - 21 (¬5) المطففين: 7 - 10، الكليني: الأصول من الكافي (2/ 4). (¬6) قال الشارح: «الزعارة: سوء الخلق، لا يصرف منه فعل، ويقال للسييء الخلق: الزعرور، وفي بعض النسخ: (الدعارة) وهو الفساد والفسوق والخبث» اهـ. [الكليني: الأصول من الكافي (2/ 4) الهامش].

عقيدة الرافضة في أهل السنة

علمت يا ابن كيسان أن الله - عز وجل - أخذ طينة من الجنة وطينة من النار، فخلطهما جميعا، ثم نزع هذه من هذه، وهذه من هذه، فما رأيت من أولئك من الأمانة وحسن الخلق وحسن السمت فمما مستهم من طينة الجنة وهم يعودون إلى ما خلقوا منه، وما رأيت من هؤلاء من قلة الأمانة وسوء الخلق والزعارة، فمما مستهم من طينة النار، وهم يعودون إلى ما خلقوا منه» (¬1). وهذه العقيدة العنصرية تشابه عقيدة اليهود في أن أرواحهم عزيزة عند الله بالنسبة لباقي الأرواح، لأن الأرواح غير اليهودية هي أرواح نجسة وشبيهة بأرواح الحيوانات، يقول آي. بي. پرانايتس (¬2): «تقول تعاليم اليهود: إن الله خلق طبيعتين، إحداها طيبة والأخرى شريرة، أو طبيعة ذات شقين، أحدهما طاهر والآخر نجس. على صعيد الشق النجس، الذي يُدعى كيليفاه Keliphah أي قشرة أو أديم الأرض الوضيع، منه تحدرت أرواح المسيحيين، نقرأ في زوهار (I, 131a): " وجودهم إذن والناس الوثنيون يوسِّخون العالم، لأن أرواحهم تحدرت من الشق النجس"»، كما جاء في التلمود «أن نطفة غير اليهود كنطفة باقي الحيوانات» (¬3). قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬4). ... عقيدة الرافضة في أهل السنة: روى الكليني عن أبي حمزة عن أبي جعفر - عليه السلام - قوله: «إن الناس كلهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا» (¬5). ¬

(¬1) الكليني: الأصول من الكافي (2/ 4 - 5). (¬2) آي. بي. پرانايتس: فضح التلمود، ص (97). (¬3) انظر، د. يوسف نصر الله: الكنز المرصود في قواعد التلمود، ص (66). (¬4) الحجرات: 13 (¬5) الكليني: الروضة من الكافي (8/ 285)، رقم: 431

وروى محمد بن مسعود العياشي (ت. 320هـ) في تفسيره، عن إبراهيم بن أبي يحيى عن جعفر بن محمد - عليه السلام - قال: «ما من مولود يولد إلا إبليس من الأبالسة بحضرته، فإن علم الله أنه من شيعتنا حجبه عن ذلك الشيطان، وإن لم يكن من شيعتنا أثبت الشيطان إصبعه السبابة في دبره فكان مأبونًا - وذلك أن الذكر يخرج للوجه -، فإن كانت امرأة، أثبت في فرجها فكانت فاجرة، فعند ذلك يبكي الصبي بكاء شديدًا إذا هو خرج من بطن أمه، والله بعد ذلك يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب» (¬1). وقد تقدم بنا قول نعمة الله الجزائري في حكم الناصبي (¬2): «أنه نجس وأنه شر من اليهودي والنصراني والمجوسي، وأنه كافر بإجماع علماء الشيعة الإمامية عليهم رضوان الله»، وقوله (¬3): «إنا لم نجتمع معهم على إله ولا على نبي ولا على إمام، وذلك أنهم يقولون إن ربهم هو الذي كان محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيه وخليفته من بعده أبو بكر. ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي، بل نقول إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا» اهـ. أما أقوال الخميني في أهل السنة فهي كثيرة، نذكر منها قوله (¬4): «وأما النواصب والخوارج لعنهم الله تعالى فهما نجسان من غير توقف، ذلك إلى جحودهما الراجع إلى إنكار الرسالة»، وقوله (¬5): «لا يجوز تغسيل الكافر ومن حكم بكفره من المسلمين، كالنواصب والخوارج وغيرهما»، وقوله (¬6): «تَحِل ذبيحة جميع فرق الإسلام عدا الناصب وإن أظهر الإسلام»، وقوله كذلك (¬7): «لا تجوز الصلاة على الكافر بأقسامه حتى المرتد ومن حكم بكفره ممن انتحل الإسلام كالنواصب والخوارج»، بل ويعتبر مال ¬

(¬1) تفسير العياشي (2/ 218). (¬2) نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية (2/ 306). (¬3) السابق (2/ 278). (¬4) الخميني: تحرير الوسيلة (1/ 107)، كتاب الطهارة، فصل النجاسات. (¬5) السابق (1/ 62)، كتاب الطهارة، القول في غسل الميت. (¬6) السابق (2/ 136)، كتاب الصيد والذباحة، باب القول في الذباحة. (¬7) السابق (1/ 74)، كتاب الطهارة، باب القول في الصلاة على الميت.

السنِّي حلالًا يؤخذ أينما وجد، فيقول (¬1): «والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما اغتنم منهم وتعلق الخمس به بل الظاهر جواز أخذ ماله أينما وجد وبأي نحو كان ووجوب إخراج خمسه» اهـ. والأمثلة على ذلك كثيرة، ولكنك إذا واجهت رافضيًّا بمثل هذه الأقوال لبس لك قناع التقية وقال: إن المقصود بالنواصب هم فقط الذين يناصبون آل البيت العداء ويجاهرون بذلك، كما يقول شيخهم علي آل محسن (¬2): «النواصب هم المتجاهرون بعداوتهم وببغضهم لأهل البيت عليهم السلام، ولا يراد به أهل السنة». وجوابًا، ما عليك إلا أن تلقمه هذا الحجر وتقول له: إن سيدكم نعمة الله الجزائري أتى على بنيانكم من القواعد بقوله (¬3): «... ويؤيد هذا المعنى أن الأئمة عليهم السلام وخواصهم أطلقوا لفظ الناصبي على أبي حنيفة وأمثاله، مع أن أبا حنيفة لم يكن ممن نصب العداوة لأهل البيت عليهم السلام، بل كان له انقطاع إليهم، وكان يظهر لهم التودد. نعم كان يخالف آرائهم ويقول قال عليّ وأنا أقول، ومن هذا يقوى قول السيد المرتضى وابن إدريس قدس الله روحيهما، وبعض مشائخنا المعاصرين بنجاسة المخالفين كلهم» اهـ. إن كراهية الشيعة لأهل السنة ليست وليدة اليوم، ولا تختص بالسُنَّة المعاصرين، بل هي كراهية عميقة تمتد إلى الجيل الأول لأهل السنة، أعني الصحابة ما عدا عددًا قليلًا منهم مختلف فيه كما سيأتي، بل يتعدى الأمر لديهم إلى الحكم على مُحِب الصحابة أنه من أهل النار ولو كان صالحًا وفي قلبه محبة آل البيت، وعلى اليهودي والنصراني المحب لعلي - رضي الله عنه - أنه من أهل الجنة؛ يقول شاه عبد العزيز الدهلوي رحمه الله (¬4): «وزعموا ¬

(¬1) السابق (1/ 318)، كتاب الزكاة، كتاب الخمس، القول فيما يجب فيه الخمس. وهذه هي نفس عقيدة اليهود التي يستحلون بها أموال الأمميين، كما قالوا في تلمودهم: «أما الخارجون عن دين اليهود فسرقتهم جائزة»، و «مثل بني إسرائيل كمثل سيدة في منزلها: يستحضر لها زوجها النقود فتأخذها بدون أن تشترك معه في الشغل والتعب» اهـ[انظر، د. يوسف نصر الله: الكنز المرصود في قواعد التلمود، ص (79 - 80)]. (¬2) علي آل محسن: لله وللحقيقة، ص (493)، فصل: بيان معنى الناصبي. (¬3) نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية (2/ 307). (¬4) محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (313).

أن من في قلبه حبُّ عليّ يدخل الجنة ولو كان يهوديًا أو نصرانيًا أو مشركًا، وأن من يحب الصحابة يدخل النار ولو كان صالحًا وفي قلبه محبة أهل البيت، ولذا حكم رضي الدين اللغوي - أحد كبار الشيعة [ت. 610هـ]- بكون زنينا بن إسحاق النصراني من أهل الجنة بسبب مدحه الأمير وأهل البيت بقوله: عَدِيٌّ وتَيمٌ لا أحاول ذِكرَهم ... بسوء، ولكني محب لهاشم وما تعتريني في علي وأهله ... إذا ذُكروا في الله لومة لائم يقولون ما بال النصارى تحبهم ... وأهل النُهى من عُربهم والأعاجم فقلت لهم إني لأحسب حبَّهم ... سَرَى في قلوب الخلق حتى البهائم وجميع فرق الشيعة يترضون على ابن فضلون اليهودي السبئي لقوله: رَبِّ هب لي من المعيشة سؤلي ... واعف عنِّي بحق آل الرسول واسقني شربة بكف عليٍّ ... سيد الأوصياء بعلِ البتول». واقرأ معي بعض أقوالهم في الصحابة - رضي الله عنهم -: روى الكليني عن أبي جعفر قال: «كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا ثلاثة: المقداد بن الأسود وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري» (¬1)، وقال: «وإن الشيخين (¬2) قد فارقا الحياة ولم يتوبا ولم يتذكرا ما صنعا بأمير المؤمنين - عليه السلام - فعليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (¬3). ويقول نعمة الله الجزائري (¬4): «قد روي في الأخبار الخاصة أن أبا بكر كان يصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وآله والصنم معلق في عنقه، وسجوده له». ¬

(¬1) الكليني: الروضة من الكافي (8/ 245)، رقم: 341 (¬2) أي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. (¬3) السابق (8/ 246)، رقم: 343 (¬4) نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية (1/ 53).

وينقل المجلسي عن أبي الصلاح الحلبي (374 - 447هـ) قوله في (تقريب المعارف): «عن أبي علي الخراساني عن مولى لعلي بن الحسن - عليه السلام - قال: كنت معه - عليه السلام - في بعض خلواته فقلت: إن لي عليك حقًا ألا تخبرني عن هذين الرجلين: عن أبي بكر وعمر؟ فقال: كافران كافر من أحبهما» (¬1). أيضًا، فإن من أدعيتهم المأثورة دعاء سموه (دعاء صنمي قريش)، ذكره شيخهم إبراهيم بن علي الكفعمي (840 - 905هـ) في كتابه (المصباح) (¬2)، جاء فيه (¬3): «عن علي - عليه السلام -: اللهم صلِّ على محمد وآل محمد والعن صنمي قريش وجبتيها وطاغوتيها وإفكيها وابنيهما [وابنتيهما] اللذين خالفا أمرك وأنكرا وحيك وجحدا إنعامك وعصيا رسولك وقلبا دينك وحرفا كتابك وأحبا أعداءك وجحدا آلاءك وعطلا أحكامك وأبطلا فرائضك وألحدا في آياتك وعاديا أولياءك وواليا أعداءك وخربا بلادك وأفسدا عبادك، اللهم العنهما وأتباعهما وأولياءهما وأشياعهما ومحبيهما ... اللهم العنهما في مكنون السر وظاهر العلانية لعنًا كثيرًا أبدًا دائمًا دائبًا سرمدًا لا انقطاع لأمده ولا نفاد لعدده، لعنًا يغدو أوله ولا يروح آخره لهم ولأعوانهم وأنصارهم ومحبيهم ومواليهم والمسلمين لهم والمائلين إليهم والناهضين باحتجاجهم والمقتدين بكلامهم والمصدقين بأحكامهم. ثم قل أربع مرات: اللهم عذبهم عذابًا يستغيث منه أهل النار آمين رب العالمين. قلت [أي الكفعمي]: ومما يناسب وضعه بعد هذا الدعاء ما ذكره ابن طاوس رحمه الله [ت. 664هـ] في (مُهَجِه) (¬4) عن الرضا - عليه السلام -، وإن من دعا به في سجدة الشكر كان كالرامي مع النبي صلى الله عليه وآله في بدر وأحد وحنين بألف ألف سهم: اللهم العن اللذين بدلا دينك وغيرا نعمتك واتهما رسولك وخالفا ملتك وصدا عن سبيلك ... اللهم إنا نتقرب إليك باللعنة لهما والبراءة منهما في الدنيا والآخرة ... اللهم العنهما لعنًا يتعوذ أهل النار منه ومن عذابهما اللهم العنهما لعنًا لم يخطر لأحد ببال اللهم العنهما ¬

(¬1) المجلسي: بحار الأنوار (69/ 137 - 8). (¬2) والذي فرغ من تأليفه في 27 من ذي القعدة 895هـ. (¬3) الكفعمي: المصباح، ص (552 - 3)، الفصل الرابع والأربعون: فيما يعمل في شعبان. (¬4) يقصد كتابه: مُهَج الدعوات، ص (257 - 8).

في مستسر سرك وظاهر علانيتك وعذبهما عذابًا في التقدير وفوق التقدير وشارك معهما ابنتيهما وأشياعهما ومحبيهما ومن شايعهما إنك سميع الدعاء» اهـ. قلت: صلى الله على محمد وآله وصحبه، قيل له: «يا رسول الله، ادع على المشركين. قال: إنِّي لَم أُبْعَثْ لعَّانًا وإنما بُعِثتُ رَحْمَةً» (¬1). ولقد تقدم الحديث عن احتفالهم بيوم مقتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وترضيهم علي أبي لؤلؤة المجوسي لعنه الله وإطلاقهم عليه لقب (بابا شجاع الدين)؛ يقول أبو علي الأصفهاني (¬2): «ونحن بعد هذه السنين الطوال نقول قولًا صادقًا: رحمك الله تعالى يا أبا لؤلؤ، فقد أدخلت البهجة على قلوب أولاد الزهراء المحزونة، وهكذا يدافع عن الحريم المقدس لولاية أمير المؤمنين - عليه السلام -. وكذا قال أمير المؤمنين - عليه السلام - لعمر: سيقتلك - أبا لؤلؤ - توفيقًا يدخل به الجنان على الرغم منك» اهـ. يا لائمي في حب صحب محمدٍ ... تبَّت يداك وخبت يوم الموعد نحن الفداء لهم وليت فداءنا ... أعداءهم خيرٌ بشرٍ نفتدي طهر لسانك من تنقصهم ولا ... تسمع لنذل للغواة مقلدّ واذهب مع الأسلاف في توقيرهم ... لصحابةٍ والزم هداهم تسعدِ (¬3) ولقد تجاوزوا حد الافتراء والتطاول على الصحابة إلى إطلاق الحكم بتكفير أمهات المؤمنين عائشة وحفصة، لا لشيء سوى أنهما ابنتا أبي بكر وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -؛ فيقول محمد طاهر الشيرازي النجفي (ت. 1098هـ) (¬4): «مما يدل على إمامة أئمتنا الاثنى عشر أن عائشة كافرة مستحقة للنار. وهو مستلزم لحقية مذهبنا وحقية أئمتنا الاثنى عشر، لأن كل من قال بخلافة الثلاثة اعتقد إيمانها وتعظيمها وتكريمها، وكل من قال ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب البر والصلة: 2599 (¬2) أبو علي الأصفهاني: فرحة الزهراء عليها السلام، ص (125). (¬3) من قصيدة (الدفاع عن الصحابة)، للدكتور عائض القرني. (¬4) محمد طاهر الشيرازي: الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين، ص (615).

بإمامة الاثني عشر قال باستحقاقها اللعن والعذاب». ويقول العياشي في تفسير قول الله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} (¬1): «التى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا: عائشة هي نكثت أيمانها» (¬2). ويروي عن أبي بصير عن جعفر بن محمد - عليه السلام - أنه قال: «يؤتى بجهنم لها سبعة أبواب: بابها الأول للظالم وهو زريق، وبابها الثاني لحبتر، والباب الثالث للثالث، والرابع لمعاوية، والباب الخامس لعبد الملك، والباب السادس لعسكر بن هوسر، والباب السابع لأبي سلامة، فهم أبواب لمن اتبعهم» (¬3)، ويُبَيِّن المجلسي (¬4): «الزريق كناية عن أبي بكر لأن العرب [تتشاءم] بزرقة العين، والحبتر هو عمر، والحبتر هو الثعلب، ولعله إنما كني عنه لحيلته ومكره، وعسكر بن هوسر كناية عن بعض خلفاء بني أمية أو بني العباس، وكذا [أبو] سلامة، ولا يبعد أن يكون أبو سلامة كناية عن أبي جعفر الدوانيقي، ويحتمل أن يكون عسكر كناية عن عائشة وسائر أهل الجمل، إذ كان اسم جمل عائشة عسكرا» اهـ. كذلك يقول البياضي العاملي (791 - 877هـ) (¬5): «وفي حديث الحسين بن علوان والديلمي عن الصادق - عليه السلام - في قوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} (¬6)، هي حفصة؛ قال الصادق - عليه السلام -: كفرت في قولها: {مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا} (¬7)، وقال الله فيها وفي أختها: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬8)، أي زاغت، والزيغ كفر، وفي رواية أنه أعلم حفصة أن أباها وأبا بكر يليان الأمر، فأفشت إلى عائشة، فأفشت إلى أبيها، فأفشا إلى صاحبه، فاجتمعا على أن يستعجلا ذلك [يسقيانه] سمًا، فلما أخبره الله بفعلهما هَمَّ بقتلهما، فحلفا له أنهما لم يفعلا، فنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} (¬9)». ¬

(¬1) النحل: 92 (¬2) تفسير العياشي (2/ 269). (¬3) تفسير العياشي (2/ 243)، والمجلسي: بحار الأنوار (8/ 301 - 2). (¬4) المجلسي: بحار الأنوار (8/ 301 - 2). (¬5) البياضي العاملي: الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم (3/ 168). (¬6) التحريم: 3 (¬7) التحريم: 3 (¬8) التحريم: 4 (¬9) التحريم: 7

ويروي العياشي عن عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: «أتدرون مات النبي صلى الله عليه وآله أو قُتِل، إن الله يقول: {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (¬1)، فسُمّ قبل الموت، إنهما سقتاه قبل الموت، فقلنا إنهما [وأباهما] شر من خلق الله» اهـ (¬2). والأمر لم يتوقف عندهم عند حد التكفير، بل تعدى إلى النيل من شرف أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها، الطاهرة المبرأة من فوق سبع سماوات، حيث قال القمي في تفسيره (¬3): «وأما قوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} (¬4)، فإنه كان سبب نزولها أنه لما أنزل الله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (¬5)، وحرم الله نساء النبي على المسلمين غضب طلحة، فقال: يحرم محمد علينا نساءه ويتزوج هو نساءنا، لئن أمات الله محمدًا لنفعلن كذا وكذا ... فأنزل الله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} (¬6)، إلى قوله: {إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (¬7)». وقوله «لنفعلن كذا وكذا» هذا بيَّنه لنا المجلسي في روايته (¬8): «... لئن أمات الله محمدًا لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا ...»!! ثم لما وصل القمي إلى تفسير قول الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (¬9)، قال (¬10): «والله ما عنى بقوله {فَخَانَتَاهُمَا} إلا الفاحشة، وليقيمن الحد على فلانة فيما أتت في طريق، وكان فلان ¬

(¬1) آل عمران: 144 (¬2) تفسير العياشي (1/ 200). (¬3) تفسير القمي (2/ 195 - 6). (¬4) الأحزاب: 53 (¬5) الأحزاب: 6 (¬6) الأحزاب: 53 (¬7) الأحزاب: 54 (¬8) المجلسي: بحار الأنوار (32/ 107). (¬9) التحريم: 10 (¬10) تفسير القمي (2/ 377).

يحبها فلما أرادت أن تخرج إلى ... قال لها فلان لا يحل لك أن تخرجي من غير محرم فزوجت نفسها من فلان». ولقد وضح أيضًا المجلسي هذه الإشارات المبهمة فقام بسرد الرواية هكذا (¬1): «... وليقيمن الحد على فلانة فيما أتت في طريق البصرة، وكان فلان يحبها، فلما أرادت أن تخرج إلى البصرة قال لها فلان ...». ثم قال في موضع آخر (¬2): «بيان: المراد بفلان طلحة، وهذا إن كان رواية فهي شاذة مخالفة لبعض الأصول، وإن كان قد يبدو من طلحة ما يدل على أنه كان في ضميره الخبيث مثل ذلك، لكن وقوع أمثال ذلك بعيد عقلًا ونقلًا وعرفًا وعادة، وترك التعرض لأمثاله أولى» اهـ. بل لقد نقل المجلسي عن رجب البرسي (ت. قرابة 813هـ) روايته أن عائشة رضي الله عنها جمعت أربعين درهمًا من (خيانة)! فقال (¬3): «لما قدم الحسن بن علي عليهما السلام من الكوفة، جاءت النسوة يعزينه بأمير المؤمنين - عليه السلام -، ودخلت عليه أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت عائشة: يا أبا محمد، ما فقد جدك إلا يوم فقد أبوك. فقال لها الحسن - عليه السلام -: نسيت نبشك في بيتك ليلًا بغير قبس بحديدة - حتى ضربت الحديدة كفك فصارت جرحًا إلى الآن - تبغين جرارًا خضرًا فيها ما جمعت من خيانة حتى أخذت منها أربعين دينارًا عددًا لا تعلمين لها وزنًا، تفرقيها في مبغضي علي من تيم وعدي، قد تشفيت بقتله! فقالت: قد كان ذلك». وقال البياضي العاملي (¬4): «قالوا: برأها الله في قوله: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (¬5)، قلنا: ذلك تنزيه لنبيه عن الزنا، لا لها كما أجمع المفسرون» اهـ. ¬

(¬1) المجلسي: بحار الأنوار (22/ 240). (¬2) المجلسي: بحار الأنوار (32/ 107). (¬3) المجلسي: بحار الأنوار (32/ 276)، وأصله في (مشارق الأنوار)، للبرسي. وقال محقق البحار: «إلى الآن لم أطلع على هذا الحديث في غير هذا المصدر، وهو مرسل، والمصنِّف قدس الله نفسه أيضًا صرح بعدم اعتبار متفردات الشيخ البرسي» اهـ[الهامش]. (¬4) البياضي العاملي: الصراط المستقيم (3/ 165). (¬5) النور: 26

هكذا خرق الإجماع بدعواه! وكأن هذا وطائفته لم يقفوا على قول شيخهم الشريف المرتضى (¬1): «ولأن الأنبياء عليهم السلام يجب أن ينزهوا عن هذه الحال لأنها تعيير وتشيين ونقص في القدر، وقد جنبهم الله تعالى ما دون ذلك تعظيمًا لهم وتوقيرًا ونفيًا لكل ما ينفر عن القبول منهم. وقد حمل ابن عباس قوة ما ذكرناه من الدلالة على أن تأويل قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط {فَخَانَتَاهُمَا}، أن الخيانة لم تكن منهما بالزنا، بل كانت إحداهما تخبر الناس بأنه مجنون، والأخرى تدل على الأضياف». ولا على قول شيخهم الطوسي (¬2): «وما زنت امرأة نبي قط، لما في ذلك التنفير عن الرسول وإلحاق الوصمة به، فمن نسب أحدًا من زوجات النبي إلى الزنا، فقد أخطأ خطأ عظيمًا، وليس ذلك قولًا لمحصل». بل أسسوا بنيانهم على شفا جرف هار لينهار بهم في نار جهنم، اعتمادًا على قول سيدهم القمي المتقدم (¬3): «والله ما عنى بقوله {فَخَانَتَاهُمَا} إلا الفاحشة»، ولا اعتبار لما قاله محقق البحار (¬4): «الحديث من أخبار الآحاد التي تراكمت الأخبار على عدم صدقه». ولكن هذا ليس بمستغرب على القوم، فإنه كما يقول محب الدين الخطيب (¬5): «من طبيعة التحزب والتعصب والتشيع أن يذهب بعقول أصحابه وأخلاقهم، ثم يذهب بحيائهم ودينهم، كما برهن على ذلك علماء النفس الاجتماعي وفي مقدمتهم الدكتور جوستاف لوبون» اهـ. ولقد نسج شذاذ المذهب على منوال هذا الإفك والبهتان أساطير ما أنزل الله بها من سلطان، حتى نشر كافرهم المدعو عباس بن نخي المُسمَّى بسعيد السماوي مقالًا شنيعًا في مجلة (المنبر) الرافضية الكويتية في شعبان 1425هـ/أكتوبر 2004م بعنوان (أم ¬

(¬1) الشريف المرتضى: تنزيه الأنبياء، ص (36). (¬2) تفسير الطوسي (10/ 52). (¬3) تفسير القمي (2/ 377). (¬4) انظر: بحار الأنوار (32/ 106) الهامش. (¬5) محب الدين الخطيب: هامش (العواصم من القواصم)، لابن العربي، ص (70).

المتسكعين! حقائق مؤلمة .. ولكن من يقدر على إنكارها؟!)، قال فيه ما نصه (¬1): «... وإذا تتبعنا مصادر التاريخ، فسنجد أن أول من أسس هذه الفكرة [أي فكرة: ساعة لربك وساعة لقلبك] كان عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة .. عفوًا أقصد السيدة الكريمة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق!! (وطبعًا لا تصدقوا أن أحدًا من أبناء السماوة يقولها من قلبه)! في الواقع كانت عائشة (المصونة) - والتي أخبرونا في المدارس بأننا مأمورون بأخذ نصف ديننا منها - هي التي صنعت هذه الفكرة وجعلتها من خلال ممارستها اليومية تنتشر بين المسلمين، فلا بأس عند عائشة من شيء من الترويح عن النفس حتى وإن تجاوز الخطوط الحمراء الشرعية، ثم العودة إلى الدين والعبادة والتضرع إلى الله تعالى! وهذا ما يفسر الأحاديث المتناقضة في سيرتها، فأحيانًا نجدها تبكي من خشية الله وتنادي بالمحافظة على سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر (وكانت هذه ساعة للرب)، وأحيانًا تجدها تنظم جلسات الطرب والأنس واللعب واللهو - البريء وغير البريء - بل وجلسات الليالي الحمراء شديدة الخصوصية، (وكانت هذه ساعة للقلب)! أنا شخصيًا لم تكن عندي مشكلة سابقًا في الاعتراف بأن عائشة تكون أمي! ولكن عندما وجدت أن (ساعة قلبها) كانت من العيار الثقيل الذي لا يمكن لأي صاحب شرف وغيره أن يتحمله، فإنني رفضت أن تكون لي أمًا، لأنني بصراحة لا يشرفني أن تكون هذه أمًا لي! ... وبالنسبة لي شخصيًا فإنه لو كانت أمي التي ولدتني بهذه الصفات التي سأنقلها من سيرة عائشة وبهذا الحجم الهائل من الانحلال الأخلاقي، فإنني لن أتردد من البراء منها. ولولا أنه لا يجوز لي قتلها لكنت فعلت، لأن الشرف عندنا نحن أبناء عشائر العرب أغلى من الروح والحياة! ... فمن دون أي خجل ومن دون أي حياء امتهنت عائشة مهنة التسكع بالجواري، حيث تأخذهن وتزينهن وتعمل لهن عمليات (المكياچ) المناسب من أجل إغراء الشباب في ¬

(¬1) نقلًا عن مجلة (المنبر)، العدد 46، ص (18 - 22) باختصار.

الطرقات وجذبهم إليها لأنها لم تعد جذابة كما كانت شابة رغم سوادها ودمامتها!! (¬1). فهل عرفتم الآن لماذا تبرأت من ماما عائشة؟! لأنني بصراحة لست مستعدًا لأن تكون أمي متسكعة ولا أتصور أن أي شخص يمكن أن يقبل أو يحترم أمه أو أخته أو زوجته إذا كانت هذه (القذارة) هي مهنتها؟! وأي صاحب غيرة يقبل بأن تكون إحدى محارمه تمارس مهنة (ق .....) علنًا؟!!» اهـ (¬2). أترى كيف يجترئ هذا الزنديق على أن يقول مثل هذا الكلام على حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الطاهرة المبرأة من فوق سبع سماوات؟! قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «قال القاضي أبو يعلى [380 - 458هـ]: من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف، وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد، وصرَّح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم» اهـ (¬3). والأمر لم يقف عند ذلك، بل تبع هذا الزنديق زنديق آخر، وهو مؤسس المجلة ذاتها، ومؤسس هيئة (خُدَّام المهدي)، المدعو ياسر الحبيب، الهارب إلى بريطانيا منذ عام 2004م بعد إصدار الكويت الحكم بسجنه عشر سنوات بتهمة (سب الصحابة) .. فلقد أقام في السابع عشر من رمضان عام 1431هـ احتفالًا سماه (عيد البراءة)، وذلك بمناسبة ذكرى رحيل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وقد ألقى فيه خطبة فاجرة أنزل فيها وابلًا من السباب والشتائم على أم المؤمنين وطعن في عرضها الطاهر الشريف، وكان من جملة ما قاله: «إني أريد أن أثبت أن عائشة بنت أبي بكر اليوم في النار، بل هي في قعر جهنم». ¬

(¬1) رغم أننا لسنا في حاجة لإثبات بطلان هذه الرواية سندًا، نذكر قول شاه عبد العزيز الدهلوي رحمه الله، يقول: «وهذه الرواية وردت عن وكيع بن الجراح عن عمار بن عمران عن امرأة من غنم عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وعمار بن عمران [والمرأة] مجهولان فلا تُقبَل هذه الرواية، والحاصل أن هذا الخبر لا صحة له عند أهل السنة، بل لا ورود له» اهـ[محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (298 - 9)]. (¬2) وقد حدثني من أثق به سماعه لاثنتين من عوام نساء الروافض وهما تذكران ثالثة بسوء وتقولان: «إنها عائشة»! والمقصود من سياق حديثهما الإشارة إلى أنها امرأة سيئة السمعة. (¬3) ثم يقول رحمه الله: «وأما من سب غير عائشة من أزواجه - صلى الله عليه وسلم - ففيه قولان: أحدهما: أنه كسابِّ غيرهن من الصحابة، والثاني: وهو الأصح أنَّ من قذف واحدةً من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها، وذلك لأن هذا فيه عارٌ وغضاضةٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده» اهـ. [ابن تيمية: الصارم المسلول، ص (442 - 3) باختصار].

بل ومن تماديه في كفره أنه حينما قَبِل المباهلة بينه وبين الشيخ محمد بن عبد الرحمن الكُوس الكويتي في يوم الجمعة 8/ 10/2010م، قال قبيلها على قناته الفضائية (فَدَك) متأليًا على الله تعالى: «أنا من طرفي بحمد الله تعالى على يقين بأن أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة هؤلاء هم أعداء الله وهم في النار خالدون» اهـ. وفي خطاب له لاحق، اعتبر مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل شيخ هذا الحادث بأنه «نعمة من الله كشفت عوارهم»، حيث أسهم - حسبما ذكر - في وقف تمدد التشيع في بعض الدول (¬1). ولقد تصاعدت حدة التوتر والاضطرابات بين السنة ورافضة الخليج إثر هذا الاحتفال إلى الحد الذي ألجأ خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإيرانية إلى الافتاء بأنه «يحرم النيل من رموز إخواننا السنة، فضلًا عن اتهام زوجة النبي بما يخل بشرفها، بل هذا الأمر ممتنع على نساء الأنبياء وخصوصًا سيدهم الرسول الأعظم»، ولقد جاءت فتواه ردًا على استفتاء وجهه جمع من علماء ومثقفي منطقة الأحساء السعودية في أعقاب الحادث، حسبما نقلت وكالة مهر الإيرانية للأنباء (¬2). ولاحظ متابعون للأزمة أن خامنئي كان يهدف من وراء هذه الفتوى إلى تخفيف الضغوط والانتقادات التي تعرض لها شيعة الخليج على خلفية هذه الإساءة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وأضافوا أن الفتوى جاءت بسبب هداية وتسنن الكثيرين من الشيعة بعد أن شاهدوا بأعينهم أحد المنتسبين للمذهب الشيعي وممن يشار إليه على أنه أحد علمائهم، وهو يقع في عرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويرمي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالبهتان والأكاذيب؛ الأمر الذي رفضته فطرتهم السليمة فأسرعوا إلى ترك ما هم عليه من باطل والانتساب إلى مذهب أهل السنة والجماعة (¬3). ¬

(¬1) انظر، جريدة (الشرق الأوسط)، خبر بعنوان: (مفتي السعودية يهاجم من طعنوا بالسيدة عائشة ويصفهم برؤوس المنافقين)، الأربعاء 29/ 9/2010م. (¬2) انظر، خبر بعنوان: (قائد الثورة الإيرانية يحرم النيل من رموز أهل السنة ونساء النبي - صلى الله عليه وسلم -)، وكالة مهر للأنباء، 8/ 7/1389 (تقويم فارسي)، موافق الخميس 30/ 9/2010م. www.mehrnews.com (¬3) انظر، موقع (مفكرة الإسلام)، خبر بعنوان: (لتخفيف الضغوط عن الشيعة .. خامنئي يحرم الإساءة لعائشة)، السبت 2/ 10/2010م.

كما لاحظ الشيخ حامد بن عبد الله العلي الأمين العام السابق للحركة السلفية بالكويت في فتوى الخامنئي ثلاثة أمور: - أحدها: أنه ساوى بين شأن الصحابة وأمهات المؤمنين ورموز أهل السنة، وكأنه يتحدث - بمكر خفي - عما يسمَّى (احترام الآخر) فحسب، ليخرج المسألة عن خلاف في أصول الدين. بينما الحال أن شأن الصحابة وأمهات المؤمنين هو من أصول الدين التي يضل المخالف فيها ضلالًا مبينًا، أو يكفر إن كفَّرهم، أما رموز أهل السنة فهم بشر يصيبون ويخطئون، ولا يتعلق بالمس بأحدهم ضلال ديني، لكنه إن كان تطاولًا بغير حق، فهو من آثام التفريط في حق المسلم، وتغلَّظ إن كان هذا المسلم من العلماء، أو من ذوي القدر في الإسلام. - الثاني: أن هدفه من إقحام رموز السنة في الموضوع، هو حماية رموز دينهم من الهجوم الذي تتعرض له في وسائل الإعلام التي انبرت للدفاع عن عائشة رضي الله عنها. فكأنه يريد أن يقول: كفوا عن رموزنا نكف عن أمهات المؤمنين والصحابة ورموزكم!! - الثالث: أن فتواه - التي خلت تمامًا من التنويه بتزكية القرآن لأم المؤمنين عائشة ووجوب الترضي عنها والثناء عليها كما أثنى القرآن - نصَّت على تحريم «اتهام زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يخل بشرفها»، ولهذا وضع هذا الوصف: «زوجات الرسل»، وكأنه يبيح النيل منها بغير الشرف!! (¬1). والمريب في الأمر أنه لما طالبت الحكومة الكويتية الشرطة الدولية (الإنترپول Interpol) بإلقاء القبض على هذا الخبيث، رفض الإنترپول ذلك، وبرر رفضه بأن «قضية ياسر حبيب تولدت نتيجة أفكار ومعتقدات مذهبية ودينية لا يجب عقابه أو محاكمته عليها»!! بما يكشف لنا الوجه الغربي القبيح الذي يزكي نار التطرف متسترًا وراء (آليات حقوق الإنسان)! (¬2). ولقد ترتب على هذا الموقف الخسيس أن قامت الحكومة الكويتية بسحب جنسيته في ¬

(¬1) انظر: (الرد على فتوى الخامنئي)، الجمعة 1/ 10/2010م، موقع الشيخ حامد العلي: www.h-alali.net (¬2) انظر، صحيفة (الوطن) السعودية، مقال بعنوان: (ثنائي لندن يتلاعبان بالمرجعية ويقفزان على التاريخ)، الأربعاء 15/ 9/2010م. www.alwatan.com.sa

اعتقاد أهل السنة في آل البيت - رضي الله عنهم -

20/ 9/2010م (¬1)، ومن قبلها سحب علماء الأمة (جنسيته) الإسلامية؛ فلقد قال الله - جل جلاله -: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (¬2)، فهذا ومن هم على شاكلته أقول لهم كما قال ابن عباس - رضي الله عنه - للخوارج: «ولئن قلتم ليست أمنا لقد كفرتم» اهـ (¬3). {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} (¬4) اعتقاد أهل السنة في آل البيت - رضي الله عنهم -: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في عقيدته عن صفات أهل السنة والجماعة، وهو كلام مجمل في هذا الباب (¬5): «ويحبون أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال يوم غدير خُم: أذكركم الله في أهل بيتي» (¬6). ويقول الإمام الطحاوي - رحمه الله - في عقيدته (¬7): «ومَن أحسن القول في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس، فقد برئ من النفاق» اهـ. كذلك فلقد زخرت كتب التراجم والرجال التي صنفها أئمة أهل السنة الثقات بالثناء والتعديل وذكر الرواية عن الأئمة آل البيت رحمهم الله تعالى ورضي عنهم، وكي لا نسهب في الحديث نتخذ من (سِيَر) الإمام الحافظ الذهبي نموذجًا للقياس: فيقول رحمه الله في ترجمة (الإمام الرابع) علي بن الحسين - رضي الله عنه - (¬8): «وكان علي بن الحسين ثقة مأمونًا كثير الحديث عاليًا رفيعًا ورعًا، روى ابن عيينة عن الزهري قال: ما رأيت قرشيًا أفضل من علي بن الحسين». ¬

(¬1) انظر السابق، خبر بعنوان: (الكويت تسقط الجنسية عن ياسر الحبيب)، الثلاثاء 21/ 9/2010م. (¬2) الأحزاب: 6 (¬3) أورده الحاكم (321 - 405هـ) في المستدرك (2/ 180)، كتاب قتال أهل البغي. (¬4) مريم: 84 (¬5) العقيدة الواسطية، ص (96). (¬6) الحديث رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 2408 (¬7) العقيدة الطحاوية، ص (29). (¬8) الذهبي: سير أعلام النبلاء (4/ 387).

ويقول في ترجمة الإمام أبي جعفر الباقر (الإمام الخامس) (¬1): «ولقد كان أبو جعفر إمامًا مجتهدًا تاليًا لكتاب الله كبير الشأن ... ونحبه في الله لما تجمع فيه من صفات الكمال». وقد تقدم بنا ذكر الإمام جعفر الصادق (الإمام السادس) في الفصل السابق، أضف إلى ذلك قول الذهبي عنه وعن أبيه الباقر (¬2): «وكانا من جلة علماء المدينة»، وقوله (¬3): «سمعت أبا حاتم يقول: جعفر لا يُسأل عن مثله»، بل ويقول (¬4): «وكان [أي جعفر] يغضب من الرافضة ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبي بكر ظاهرًا وباطنًا وهذا لا ريب فيه». ويقول الذهبي عن (الإمام السابع) موسى الكاظم رحمه الله (¬5): «آل جعفر الصادق، فأجلُّهم وأشرفهم ابنه موسى الكاظم، الإمام القدوة السيد أبو الحسن العلوي والد الإمام علي بن موسى الرضا ... ذكره أبو حاتم فقال ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين». ويقول عن (الإمام الثامن) علي الرضا (¬6): «وكان من العلم والدين والسودد بمكان، يقال أفتى وهو شاب في أيام مالك». وحينما يأتي ذكر الإمام الثاني عشر يقول كلامًا جامعًا ماتعًا، نصُّه (¬7): «أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي ابن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين الشهيد ابن الإمام علي بن أبي طالب العلوي الحسيني خاتمة الاثني عشر سيدًا الذين تدعي الإمامية عصمتهم، ولا عصمة إلا لنبي، ومحمد هذا الذين يزعمون أنه الخلف الحجة وأنه ¬

(¬1) السابق (4/ 402). (¬2) السابق (6/ 255). (¬3) السابق (6/ 257). (¬4) السابق (6/ 255). (¬5) السابق (6/ 270). (¬6) السابق (9/ 387 - 8). (¬7) السابق (13/ 119 - 21).

ثناء آل البيت على الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين

صاحب الزمان وأنه صاحب السرداب بسامراء وأنه حي لا يموت حتى يخرج فيملأ الأرض عدلًا وقسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا فوددنا ذلك والله، وهم في انتظاره من أربع مئة وسبعين سنة، ومن أحالك على غائب لم ينصفك، فكيف بمن أحال على مستحيل، والإنصاف عزيز، فنعوذ بالله من الجهل والهوى، فمولانا الإمام علي من الخلفاء الراشدين المشهود لهم بالجنة - رضي الله عنه - نحبه أشد الحب ولا ندعي عصمته، ولا عصمة أبي بكر الصديق، وابناه الحسن والحسين فسبطا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيدا شباب أهل الجنة، لو استخلفا لكانا أهلًا لذلك، وزين العابدين كبير القدر من سادة العلماء العاملين يصلح للإمامة وله نظراء، وغيره أكثر فتوى منه وأكثر رواية، وكذلك ابنه أبو جعفر الباقر سيد إمام فقيه يصلح للخلافة، وكذا ولده جعفر الصادق كبير الشأن من أئمة العلم كان أولى بالأمر من أبي جعفر المنصور، وكان ولده موسى كبير القدر جيد العلم أولى بالخلافة من هارون وله نظراء في الشرف والفضل، وابنه علي بن موسى الرضا كبير الشأن له علم وبيان ووقع في النفوس، صيره المأمون ولي عهده لجلالته فتوفي سنة ثلاث ومئتين، وابنه محمد الجواد من سادة قومه لم يبلغ رتبة آبائه في العلم والفقه، وكذلك ولده الملقب بالهادي شريف جليل، وكذلك ابنه الحسن بن علي العسكري رحمهم الله تعالى» اهـ. قلت: والمتتبع يجد غير ذلك الكثير (¬1). يا آل بيت رسول الله حُبكُم ... فرضٌ من الله في القرآن أنزله يكفيكم من عظيم الفخر أنكم ... من لم يُصَلِّ عليكم لا صلاة له ثناء آل البيت على الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين: وكما زخرت كتب أهل السنة بالثناء والترضي على آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، زخرت كذلك كتب الرافضة بالنصوص الدالة على دفء العلاقة بين الصحابة وآل البيت، بل وثناء آل البيت عليهم - رضي الله عنهم - أجمعين، بحال لا يستطيع الرافضة له دفعًا .. فمن ذلك، ثناء علي بن أبي طالب على الصحابة - رضي الله عنهم - جملة بقوله: «لقد رأيت ¬

(¬1) للتوسع، انظر: سيرة آل بيت النبي الأطهار، لمجدي فتحي السيد، وانظر كذلك: رحماء بينهم، لصالح بن عبد الله الدرويش.

أصحاب محمد صلى الله عليه وآله فما أرى أحدًا يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شُعثًا غُبرًا، وقد باتوا سُجَّدًا وقيامًا، يراوِحُون بين جباهِهِم وخدودِهِم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادِهِم، كأن بين أعيُنِهِم رُكَبَ المِعْزَى من طول سجودهم، إذا ذُكر الله همَلت أعينُهم حتى تَبُل جُيُوبَهُم، ومادوا كما يميد الشجرُ يوم الريح العاصف خوفًا من العقاب ورجاءً للثواب» (¬1). ويَخُص المهاجرين بقوله: «فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم» (¬2)، ويَخُص الأنصار بقوله: «هم والله رَبَّوُا الإسلام كما يُرَبَّي الفِلْوُ من غَنَائِهِم، بأيديهمُ السِّبَاط، وألسِنَتِهمُ السِّلَاط» (¬3). بل ينقل شيخهم المرتضى ثناء علي - رضي الله عنه - على الخلفاء الراشدين، فيما رواه عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رجلًا جاء إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - فقال: «سمعتك تقول في الخطبة آنفًا: اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين، فمن هم؟ قال: حبيباي وعماي أبو بكر وعمر إماما الهدى وشيخا الإسلام ورجلا قريش، والمقتدى بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، من اقتدى بهما عصم، ومن اتبع آثارهما هدي إلى صراط مستقيم» (¬4). ويروي ابن بابويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: «إن أبا بكر مني بمنزلة السمع، وإن عمر مني بمنزلة البصر، وإن عثمان مني بمنزلة الفؤاد» (¬5). ولقد توطدت العلاقة بين علي وأبي بكر رضي الله عنهما إلى حد أن زوجة أبي بكر أسماء بنت عميس هي التي كانت تمرِّض فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض موتها، وكانت معها حتى الأنفاس الأخيرة؛ فيروي الطوسي عن الحسين - عليه السلام - قال: «لما مرضت فاطمة بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وآله، وصت إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام - أن يكتم أمرها، ¬

(¬1) نهج البلاغة، ص (143). (¬2) السابق، ص (375). (¬3) السابق، ص (557). (¬4) الشريف المرتضى: الشافي في الإمامة (3/ 93 - 4). (¬5) ابن بابويه القمي: عيون أخبار الرضا (1/ 313).

ويخفي خبرها، ولا يؤذن أحدًا بمرضها، ففعل ذلك وكان يمرضها بنفسه، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس رحمها الله على استمرار بذلك، كما وصت به» (¬1). وكان علي يقول في أيام خلافته عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما - حيث لم يكن هناك ضرورة للتقية -: «لله بلاء فلان، فقد قوَّم الأود، وداوى العمَد وخلَّف الفتنة، وأقام السُنَّة، ذهب نقيَّ الثوب، قليلَ العيب، أصاب خيرها وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته، اتقاه بحقِّه، رحل وتركهم في طُرُقٍ متشعِّبة لا يهتدي بها الضال ولا يستيقن المهتدي» (¬2)، يقول ابن أبي الحديد (¬3): «وفلان المكنى عنه عمر بن الخطاب، وقد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن [359 - 406هـ] جامع نهج البلاغة وتحت (فلان) عمر، حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي الأودي الشاعر، وسألت عنه النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي فقال لي: هو عمر، فقلت له: أيثني عليه أمير المؤمنين - عليه السلام - هذا الثناء؟ فقال: نعم، أما الإمامية فيقولون: إن ذلك من التقية واستصلاح أصحابه». ويقول علي - رضي الله عنه - أيضًا في إحدى خطبه: «وولِيَهُم والٍ، فأقامَ واستقامَ حتى ضرب الدِّين بجِرانهِ» (¬4)، قال الميثم البحراني (636 - 679هـ) (¬5): «إن الوالي هو عمر بن الخطاب ... وضربه بجِرانهِ كناية بالوصف المستعار عن استقراره وتمكنه كتمكن البعير البارك من الأرض» اهـ. كذلك فلقد زوج علي ابنته أم كلثوم من عمر - رضي الله عنهم -، كما ذكر الطوسي عن جعفر عن أبيه - عليه السلام - قال: «ماتت أم كلثوم بنت علي - عليه السلام - وابنها زيد بن عمر بن الخطاب في ساعة واحدة لا يدري أيهما هلك قبل، فلم يورث أحدهما من الآخر، وصلى عليهما جميعًا» (¬6). ¬

(¬1) أبو جعفر الطوسي: الأمالي، ص (109)، أحاديث المجلس الرابع. (¬2) نهج البلاغة، ص (350). (¬3) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة (12/ 3 - 4). (¬4) نهج البلاغة، ص (557). (¬5) ابن ميثم: مصباح السالكين، شرح نهج البلاغة (5/فصل في مواعظ شافية ونصائح كافية) باختصار. (¬6) أبو جعفر الطوسي: تهذيب الأحكام (9/ 362 - 3)، باب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم في وقت واحد.

وكان من حب علي لعمر وعثمان - رضي الله عنهم - أنه سمى اثنين من أبنائه باسمهما، فيقول المفيد (¬1): «فأولاد أمير المؤمنين صلوات الله عليه سبعة وعشرون ولدًا ذكرًا وأنثى: (1) الحسن (2) الحسين ... (6) عمر، وأمه أم حبيب بنت ربيعة ... (10) عثمان، وأمه أم البنين بنت حزام بن خالد بن دارم». وأكثر من هذا أن عليًا - رضي الله عنه - كان يؤمن بأن عمر من أهل الجنة لما سمعه من لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصادق الأمين، ولأجل ذلك كان يتمنى بأن يلقى الله بالأعمال التي عملها الفاروق عمر - رضي الله عنه - في حياته، كما روى ذلك الشريف المرتضى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال: «لما غسِّل عمر وكفِّن دخل علي - عليه السلام - فقال: ما على الأرض أحد أحب إليّ أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى (¬2) بين أظهركم» (¬3). وأورد ابن أبي الحديد أن الفاروق لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي الفارسي دخل عليه ابنا عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقال ابن عباس: «فسمعنا صوت أم كلثوم [بنت علي]: وا عمراه، وكان معها نسوة يبكين فارتج البيت بكاء، فقال عمر: ويل أم عمر إن الله لم يغفر له! فقلت: والله إني لأرجو ألا تراها إلا مقدار ما قال الله تعالى {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (¬4)، إن كنت - ما علمنا - لأمير المؤمنين وسيد المسلمين تقضي بالكتاب وتقسم بالسوية. فأعجبه قولي فاستوى جالسًا فقال أتشهد لي بهذا يا بن عباس؟ فكععت - أي جبنت - فضرب علي - عليه السلام - بين كتفي وقال: أشهد» (¬5)، ثم يقول ابن أبي الحديد (¬6): «وفي رواية: لِمَ تجزع يا أمير المؤمنين؟ فوالله لقد كان إسلامك عزًا وإمارتك فتحًا ولقد ملأت الأرض عدلًا، فقال [أي عمر]: أتشهد لي بذلك يا بن عباس؟ قال: فكأنه كره الشهادة فتوقف، فقال له علي - عليه السلام -: قُل نعم، وأنا معك، فقال: نعم». ¬

(¬1) المفيد: الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد (1/ 354)، باب ذكر أولاد أمير المؤمنين - عليه السلام -، باختصار. (¬2) أي المُغَطَّى. (¬3) الشريف المرتضى: الشافي في الإمامة (3/ 95). (¬4) مريم: 71 (¬5) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة (12/ 192). (¬6) نفسه.

وماذا عن باقي الأئمة آل البيت رحمهم الله؟؟

بل ويذكر ابن أبي الحديد أنه لما قُتل عثمان - رضي الله عنه - «خرج به ناس يسير من أهله، ومعهم الحسن بن علي وابن الزبير وأبو جهم بن حذيفة بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطًا من حيطان المدينة يعرف بحش كوكب وهو خارج البقيع فصلوا عليه» (¬1). وفي المقابل، انظر ما تذكره كتب الرافضة عن إجلال عمر - رضي الله عنه - وتقديره لآل البيت، فينقل الطوسي (¬2) والمجلسي (¬3) عن علي بن الحسين عن أبيه عليهم السلام قال: «قال عمر بن الخطاب: عيادة بني هاشم سنة وزيارتهم نافلة»، وقد ذكر محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري، الفقيه الشافعي (615 - 694هـ) (¬4)، أنه لما مرض الحسن بن علي - رضي الله عنه - قال عمر بن الخطاب للزبير بن العوام رضي الله عنهما: «هل لك في أن تعود الحسن بن علي رضي الله عنهما فإنه مريض؟ فكأن الزبير تلكأ عليه فقال له عمر: أما علمت أن عيادة بني هاشم فريضة وزيارتهم نافلة» (¬5). بل من إكرامه وتقديره لآل البيت - رضي الله عنهم - «أمر عمر الحسين بن علي - عليه السلام - أن يأتيه في بعض الحاجة، فلقي الحسين - عليه السلام - من عبد الله بن عمر فسأله من أين جاء، قال: استأذنت على أبي فلم يأذن لي، فرجع الحسين ولقيه عمر من الغد، فقال: ما منعك يا حسين أن تأتيني؟ قال: قد أتيتك ولكن أخبرني ابنك عبد الله أنه لم يؤذن له عليك فرجعت، فقال عمر: وأنت عندي مثله! وهل أنبت الشعر على الرأس غيركم!» (¬6). وماذا عن باقي الأئمة آل البيت رحمهم الله؟؟ فهذا الإمام الحسن العسكري يذكر في تفسيره قول رب العزة - جل جلاله ¬

(¬1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة (2/ 158). (¬2) أبو جعفر الطوسي: الأمالي، ص (336)، أحاديث المجلس الثاني عشر. (¬3) المجلسي: بحار الأنوار (40/ 121). (¬4) انظر، خير الدين الزركلي (1893 - 1976م): الأعلام (1/ 159). (¬5) محب الدين الطبري: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، ص (15)، باب ذكر افتراض عيادتهم إذا مرضوا. (¬6) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة (12/ 65 - 6).

- لموسى - عليه السلام - (¬1): «يا موسى أما علمت أن فضل صحابة محمد صلى الله عليه وآله على جميع صحابة المرسلين كفضل آل محمد على جميع آل النبيين وكفضل محمد على جميع المرسلين»، ويذكر كذلك قول الرب - سبحانه وتعالى - (¬2): «وإن رجلًا ممن يبغض آل محمد وأصحابه الخيرين أو واحدًا منهم لعذبه الله عذابًا لو قسِّم على مثل عدد ما خلق الله لأهلكهم أجمعين». ويروي الطبرسي عن الإمام الباقر قوله: «ولست بمنكر فضل أبي بكر» (¬3)، وقوله كذلك: «لست بمنكر فضل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر» (¬4). ويروي الكليني عن جعفر الصادق رواية طويلة يبين فيها أن منزلة الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - في الزهد هي المنزلة الأولى في الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -، وبعده يأتي أبو ذر وسلمان - رضي الله عنهم - أجمعين، فيقول: «... ثم علَّم الله - عز وجل - نبيه صلى الله عليه وآله كيف ينفق ...» ويذكر لذلك مثالًا، ثم يقول: «فهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله يصدقها الكتاب والكتاب يصدقه أهله من المؤمنين. وقال أبو بكر عند موته حيث قيل له: أوص، فقال: أوصي بالخمس والخمس كثير، فإن الله تعالى قد رضي بالخمس، فأوصى بالخمس ... ثم من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبو ذر رضي الله عنهما» (¬5). وروى العياشي في تفسيره (¬6) وعنه نقل المجلسي في بحاره فيما سماه (كتاب السماء والعالم) (¬7) عن الإمام الباقر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا فقال: «اللهم أعز الإسلام بعمر بن ¬

(¬1) تفسير الإمام العسكري، ص (32). (¬2) السابق، ص (392). (¬3) أحمد بن علي الطبرسي: الاحتجاج (2/ 246)، باب احتجاج أبي جعفر محمد بن علي الثاني في أنواع شتى من العلوم الدينية. (¬4) السابق (2/ 247). (¬5) الكليني: الفروع من الكافي (5/ 67 - 8) باختصار. (¬6) تفسير العياشي (2/ 328 - 9). (¬7) المجلسي: بحار الأنوار (54/ 12).

بل أنتم الناصبة!

الخطاب أو بأبي جهل بن هشام»، إلا أنهما ذكرا قوله - صلى الله عليه وسلم - في سياق حديثهما عن سبب نزول قول الله تعالى: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (¬1)! ويبين الإمام جعفر رحمه الله مقام عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثقته فيه ونيابته عنه، وإخلاص عثمان - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - والوفاء له والاتباع له، كما يبين إحدى الميزات التي امتاز بها عثمان دون غيره، وهي جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى يديه لعثمان، وبيعته بنفسه عنه، وذلك فيما رواه عن صلح الحديبية، حيث ينقل عنه الكليني قوله: «فقال [أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عثمان - رضي الله عنه -]: انطلق إلى قومك من المؤمنين فبشرهم بما وعدني ربي من فتح مكة، فلما انطلق عثمان لقي أبان بن سعيد فتأخر عن السرح، فحمل عثمان بين يديه ودخل عثمان فأعلمهم وكانت المناوشة، فجلس سهيل بن عمرو عند رسول الله صلى الله عليه وآله، وجلس عثمان في عسكر المشركين، وبايع رسول الله صلى الله عليه وآله المسلمين وضرب بإحدى يديه على الأخرى لعثمان، وقال المسلمون: طوبى لعثمان قد طاف بالبيت وسعى بالصفا والمروة وأحَل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما كان ليفعل، فلما جاء عثمان قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أطُفت بالبيت؟ فقال: ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله صلى الله عليه وآله لم يطف به، ثم ذكر القصة وما كان فيها» (¬2). وغير ذلك الكثير (¬3)، فهل يقال بعد ذلك أن هذه الأقوال وغيرها خرجت مخرج التقية؟! وليت شعري، ممَّ يتقي أئمة آل البيت الأطهار الأبطال الشجعان؟! - رضي الله عنهم - ورحمهم. بل أنتم الناصبة! عندما تقرأ في كتب الشيعة المعتبرة، فإنك تعجب من أهل البيت - رضي الله عنهم - على كثرة ما لقوه من أذى من أهل الكوفة وعلى عظيم صبرهم على أهل الكوفة على خيانتهم لهم ¬

(¬1) الكهف: 51 (¬2) الكليني: الروضة من الكافي (8/ 325 - 6)، رقم: 503 (¬3) للتوسع، انظر: العلاقة الحميمة بين الصحابة وآل البيت، لسليمان بن صالح الخراشي.

واقرأ معي هذه النصوص

وغدرهم بهم وقتلهم لهم وسلبهم أموالهم، وصبر أهل البيت على هذا كله، ومع هذا يُلقَى باللائمة على أهل السنة ويحمَّلون المسئولية! واقرأ معي هذه النصوص: روى الكليني عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: «لو ميزت شيعتي لم أجدهم إلا واصفة، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين، ولو تمحصتهم لما خلص من الألف واحد» (¬1). ويُروى عنه أيضًا أنه قال: «يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة جرت والله ندمًا وأعقبت صدمًا .. قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحًا، وشحنتم صدري غيظًا، وجرعتموني نغب التهام أنفاسًا، وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب، ولكن لا رأي لمن لا يُطاع» (¬2). ورووا عن الحسن - رضي الله عنه - أنه قال: «أرى والله معاوية خيرًا لي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لأن آخذ من معاوية عهدًا أحقن به من دمي، وآمن به في أهلي، خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوا بي إليه سلمًا، والله لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير» (¬3). وروى الطبرسي عن الإمام زين العابدين أنه قال لأهل الكوفة: «هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة؟ قاتلتموه وخذلتموه، فتبًا لكم لما قدمتم لأنفسكم وسوء لرأيكم، بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول لكم: قاتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي» (¬4). ¬

(¬1) الكليني: الروضة من الكافي (8/ 228)، رقم: 290 (¬2) نهج البلاغة، ص (70 - 1). (¬3) أحمد بن علي الطبرسي: الاحتجاج (2/ 10)، باب احتجاج الحسن على من أنكر عليه مصالحة معاوية. (¬4) السابق (2/ 32)، باب احتجاج علي بن الحسين على أهل الكوفة.

موافقة الرافضة اليهود في استباحة دم المخالف

وكذلك روى عن فاطمة الصغرى أنها قالت في خطبة لها إلى أهل الكوفة: «يا أهل الكوفة، يا أهل الغدر والمكر والخيلاء، إنا أهل البيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا فجعل بلاءنا حسنًا ... فكفرتمونا وكذبتمونا ورأيتم قتالنا حلالًا وأموالنا نهبًا ... كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد منقدم ... تبًا لكم فانتظروا اللعنة والعذاب فكأن قد حل بكم، وتواترت من السماء نقمات فيسحتكم بما كسبتم، ويذيق بعضكم بأس بعض، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين ... تبًا لكم يا أهل الكوفة، كم تراث لرسول الله صلى الله عليه وآله قبلكم، ثم غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب وجدي، وبنيه عترة النبي الطيبين الأخيار»، وافتخر بذلك مفتخر فقال: «نحن قتلنا عليًا وبني علي بسيوف هندية ورماحِ، وسبينا نساءهم سبي تركٍ ونطحناهمُ فأيُّ نطاحِ»! (¬1). فكان الله في عونكم يا أهل البيت على ما لقيتم من شيعتكم! ... موافقة الرافضة اليهود في استباحة دم المخالف: لقد وافق الرافضة اليهود في استباحة دم المخالف، حيث قال اليهود في تلمودهم: «كل من يسفك دم شخص غير تقي (¬2)، عمله مقبول عند الله، كمن يقدِّم قربانًا إليه» (¬3). وروى الرافضة في كتبهم عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه سُئِل: «ما تقول في قتل الناصبي؟ فقال: حلال الدم، ولكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطًا أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد عليك فافعل» (¬4). ¬

(¬1) السابق (2/ 27 - 8)، باب احتجاج فاطمة الصغرى على أهل الكوفة، باختصار. (¬2) أي غير يهودي. (¬3) آي. بي. پرانايتس: فضح التلمود، ص (146 - 7). (¬4) المجلسي: بحار الأنوار (27/ 231).

وقال الجزائري (¬1): «وفي الروايات أن علي بن يقطين - وهو وزير الرشيد - قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين (¬2) وكان من خواص الشيعة، فأمر غلمانه وهدُّوا سقف المحبس على المحبوسين فماتوا كلهم، وكانوا خمسمائة رجل تقريبًا، فأراد الخلاص من تبعات دمائهم، فأرسل إلى الإمام مولانا الكاظم - عليه السلام -، فكتب إليه جواب كتابه: "بأنك لو كنت تقدمت إليّ قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم، وحيث أنك لم تتقدم إليّ فكفِّر عن كل رجل قتلته منهم بتيس، والتيس خير منه" ... فانظر إلى هذه الدية الجزيلة التي لا تعادل دية أخيهم الأصغر وهو كلب الصيد، فإن ديته عشرون درهمًا، ولا دية أخيهم الأكبر وهو اليهودي أو المجوسي، فإنها ثمانمائة درهم، وحالهم في الآخرة أخسّ وأنجس» اهـ. ولقد صار من المعلوم من التاريخ بالضرورة ذلك الاضطهاد الواقع على أهل السنة في إيران (¬3)، فضلًا عن عمليات التشريد والقتل والتعذيب المنهجي لأهل السنة في العراق، ولا أفصح من الوثائق الخطيرة التي سربها الصحافي الأسترالي چوليان أسانچ Julian Assange في 22/ 10/2010م عبر موقعه (ويكيليكس WikiLeaks) عن حرب العراق، والتي قدر عددها بـ 391.832 تقريرًا حفظت باسم (سجلات حرب العراق The Iraq War Logs)، والتي كشفت التواطؤ الأمريكي مع حكومة نوري المالكي الرافضية الموالية لإيران. ولقد غطت هذه الوثائق الفترة من 1/ 1/2004 إلى 31/ 12/2009م (عدا شهري مايو 2004 ومارس 2009م)، وقدر من خلالها عدد القتلى العراقيين بنحو 109.032 قتيلًا (مقارنة بـ 20.000 قتيل في حرب أفغانستان)، بلغ عدد المدنيين منهم 66.000 أي ما يزيد على 60% من إجمالي القتلى، بمعدل 31 قتيل مدني في اليوم خلال السنوات الست المحصورة (¬4). وكان من بين تلك الجرائم البشعة ما نقلته (مفكرة الإسلام) في ربيع الأول من ¬

(¬1) نعمة الله الجزائري: الأنوار النعمانية (2/ 308). (¬2) أي من أهل السنة. (¬3) وانظر في ذلك: معاناة أهل السنة في إيران، لعبد المنعم محمد البلوشي. (¬4) www.wikileaks.org

عام 1427هـ (أي مزامنة مع احتفال الرافضة بعيد بابا شجاع، قاتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -)، تحت عنوان: (عمر، أكثر الأسماء المطلوبة للقتل في العراق!)، حيث قال الخبر: «ارتفع عدد العراقيين السنة الذين قتلوا على أيدي الميليشيات الشيعية ممن يحملون اسم (عمر) إلى 122 شخصًا بعد مقتل طالب في كلية الصيدلة اسمه عمر عبد العزيز على أيدي ميليشيات شيعية بعد اختطافه من أمام باب كلية الصيدلة والواقعة في حي اليرموك حيث وجد قتيلًا بعد تعذيبه في إحدى مكبات النفايات. ونقل مراسلنا في بغداد عن الطبيب عبد الصمد حميد من دائرة الطب العدلي في بغداد قوله: إن عدد السنة الذين قتلوا منذ أحداث سامراء وحتى الأسبوع الماضي ممن يحملون اسم عمر بلغ 122 شخص. وأضاف أن ما نشره الإعلام الغربي قبل أيام من أن أربعة عشر شخص أسماؤهم عمر قتلوا هو كلام صحيح، لكن الذي لا يعرفه الناس أن الأربعة عشر هؤلاء هم وجبة واحدة فقط تم قتلهم في وقت واحد!!» (¬1). والأمر كما كنا نراه - ولا يزال - يقع تحت مرأى ومسمع المجتمع الدولي، ولكن ¬

(¬1) وهذا ليس بجديد ولا مستغرب، وقد روى مثله محب الدين الخطيب رحمه الله فقال: «حدثني بعض الذين لقيتهم في ثغر البصرة لما كنت معتقلًا في سجن الإنجليز سنة 1332هـ أن رجلًا من العرب يعرفونه كان ينتقل بين بعض قرى إيران، فقتله القرويُّون لما علموا أن اسمه عمر. قلت: وأي بأس يرونه باسم عمر؟ قالوا: حبًا بأمير المؤمنين علي .. قلت: وكيف يكونون من شيعة علي وهم يجهلون أن عليًا سمَّى أبناءه بعد الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية بأسماء أصدقائه وإخوانه في الله أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم جميعًا، وأم كلثوم الكبرى بنت علي بن أبي طالب كانت زوجة لعمر بن الخطاب ولدت له زيدًا ورقية، وعبد الله بن جعفر ذو الجناحين ابن أبي طالب سمى أحد بنيه باسم أبي بكر وسمى ابنًا آخر له باسم معاوية، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر سمى أحد بنيه باسم يزيد. والحسن بن علي بن أبي طالب سمى أحد بنيه أبا بكر، وآخر باسم عمر، وثالثًا باسم طلحة. وزين العابدين بن الحسين سمى أحد أولاده باسم أمير المؤمنين عمر تيمنًا وتبركًا، والحسن السبط كان مصاهرًا لطلحة بن عبيد الله. ولما توفيت فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج علي بعدها أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزَّى بن عبد شمس بن أمية ... فهل يعقل أن هؤلاء الأقارب المتلاحمين المتراحمين الذين يتخيرون مثل هذه الأمهات لأنسالهم ومثل هذه الأسماء لفلذات أكبادهم، كانوا على غير ما أراده الله لهم من الأخوة في الإسلام والمحبة في الله، والتعاون على البر والتقوى؟!» اهـ. [انظر تعليقه على (مختصر التحفة الاثني عشرية) للألوسي، ص (340 - 1) باختصار].

دون أن يحرك له مسئول ساكنًا، إلا من رحم الله! الأمر الذي أثار حفيظة الصحافي البارز پيتر بومونت وجعله يصدِّر مقالته الجريئة في صحيفة (الجارديان) بعنوان: (سجلات حرب العراق: الجرائم لم تكن سرية ولكن مسكوت عنها)، وكان مما قاله فيها (¬1): «إن أكثر ما يشعرك بالصدمة فيما يتعلق بالمعلومات التي تم الكشف عنها في الدفعة الحالية من السجلات المتسربة الخاصة بحرب العراق هو أن معظم ممارسات التعذيب والقتل ارتكبت في العلن، ولم تكن سرًا، ولكن تم التغاضي عنها وحذف تفاصيلها بل وتبريرها ... وصحيح أن الأمور عندما تصبح أحيانًا محرجة للغاية - وواضحة جدًا - ربما يتم عزل أحد قادة الشرطة المحليين أو يتم إعادة تنظيم لمسئولي الوزارة. لكن عمليات القتل لا تتوقف. وقد كانت هناك حجة جديدة وهي: تسلل عناصر شيعية متطرفة للشرطة؛ وهو ما كان صحيحًا إلى حد ما فيما عدا أنه لم يكن تسللًا بالمعنى الحقيقي، بل هو بالأحرى تحالف في عدد من الأماكن: تزامن مع مصلحة طائفية ... أما في عام 2007م، كنت قد ألحقت بوحدة عسكرية أمريكية في العاصمة بغداد مكلفة بملاحقة بعض العناصر الميليشية الشيعية المشتبه في مهاجمتها لأهل السنة. وكانت القواعد حينئذ تتطلب وجود حامية مرافقة من الشرطة العراقية. ووجد قائد الشرطة على مدى أكثر من ساعة أعذارًا ليحول دون بدء المداهمة. وكان الجميع يعرف أن العناصر المستهدفة قد تم تحذيرها من قبل الشرطة نفسها، أو تناهى إليها شك في ذلك على الأقل. لكن شيئًا لم يحدث فيما عدا بعض الهمهمة في الوقت الضائع. وهذا يجعلني غاضبًا عندما أسمع في الوقت الحالي مسئولين أمميين (¬2) وسياسيين، بعد هذه التسريبات، يدعون إلى إجراء تحقيقات. نعم هناك أشياء لم نكن نعرفها: بشأن الأوامر الأمريكية بعدم التحقيق في ادعاءات القتل والتعذيب؛ وهو دليل التواطؤ. ونعم صحيح أن التحقيق ضرورة حاسمة. ولكن لماذا الآن، وليس آنذاك؟ لمن في العراق لم يعرف عن عمليات القتل والتعذيب؟ وعن فرق الموت التابعة للشرطة؟ وعن شيء لم يحدث قط ¬

(¬1) See, Peter Beaumont: Iraq war logs: These crimes were not secret, they were tolerated, Guardian (www.guardian.co.uk), October 25, 2010 (¬2) نسبة إلى الأمم المتحدة ..

عقيدة الرجعة

من أجل وقفها عندما كان لدينا الفرصة؟ إذن لنجري التحقيقات بكل وسيلة، ولكن فات الأوان» اهـ. فهل يقال بعد هذا إن هذه الطائفية هي ميراث تاريخي قد اندثر ولم يعد له وجود إلا في بطون بعض الكتب الصفراء؟! (¬1). ... عقيدة الرجعة: كان مما تسرب إلى الشيعة الإمامية عن طريق عقائد (الهندوسية/البرهمية) (¬2) واليهودية كذلك فيما يتصل بالقول بالتناسخ، القول بالرجعة، مع الفارق أن الرجعة تعود إلى الجسم، أي أن الشخص نفسه جسمًا وروحًا يعود للحياة بعد الموت (¬3). ويحاول الرافضة - كالعادة - التبرؤ من تهمة القول بالتناسخ، حتى عقد إمامهم المجلسي في المجلد الرابع من بحاره بابًا بعنوان: (إبطال التناسخ)، ولكن شيخهم حسن الحائري الإحقاقي (1318 - 1421هـ) قد أحبط هذه المحاولات بقوله في كتابه (الدين بين السائل والمجيب) ما نصه (¬4): «... وأما إذا كانت النفس اللاهوتية، فهي التي تنتقل من معصوم إلى معصوم، بعد وفاة كل منهم، وهي الملك المسدد الذي جاء في أخبارنا. ¬

(¬1) لطيفة: روى ابن الجوزي عن إسماعيل بن حماد بن أبى حنيفة رحمه الله (80 - 150هـ) قال: «كان لنا جار طحان رافضي وكان له بغلان يسمي أحدهما أبا بكر والآخر عمر فرمحه ذات ليلة أحدهما فقتله، فأخبر أبا حنيفة فقال: البغل الذى رمحه الذى سماه عمر، فنظروا فكان كذلك» اهـ. [ابن الجوزي: مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ص (182)]. (¬2) وأطلق عليها البرهمية ابتداءً من القرن الثامن ق. م. نسبة إلى براهما الإله الخالق أو القوة العظيمة السحرية الكامنة التي تطلب كثيرًا من العبادات كقراءة الأدعية وإنشاد الأناشيد وتقديم القرابين، ومن براهما اشتقت الكلمة (البراهمة) لتكون عَلَمًا على رجال الدين الذين كان يعتقد أنهم يتصلون في طبائعهم بالعنصر الإلهي، وهم لهذا كانوا كهنة الأمة، لا تجوز الذبائح إلا في حضرتهم وعلى أيديهم. [انظر، د. أحمد شلبي: مقارنة الأديان/أديان الهند الكبرى، ص (39)]. (¬3) د. مصطفى حلمي: الإسلام والأديان، ص (94) بتصرف. (¬4) ميرزا حسن الحائري: الدين بين السائل والمجيب (2/ 76)، سؤال رقم: 256

من الراجعون؟

وفي بعض الروايات تتجسم كالزبدة على شفتي الإمام بعد وفاته، فيتناولها الإمام من بعده بفمه ويأكلها. وفي بعضها: تتجسم كعصفور فيبلعها وصيهُ والإمام من بعده، كما جرى ذلك بين الإمامين الرضا والجواد عليهما السلام» اهـ. والرجعة تُعَد من أصول الدين عند الإمامية، بل ومن أشهر عقائدهم التي بيَّنها علماؤهم في كتبهم القديمة والحديثة، وهي من ضروريات مذهبهم؛ يعرِّفها محمد بن رضا المظفر بقوله (¬1): «إن الذي تذهب إليه الإمامية - أخذًا بما جاء عن آل البيت عليهم السلام - أن الله تعالى يعيد قومًا من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعزّ فريقًا ويذلّ فريقًا آخر، ويديل المحقين من المبطلين، والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان، أو من بلغ الغاية في الفساد، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من الثواب أو العقاب، كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمنّي هؤلاء المرتجعين - الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله - أن يخرجوا ثالثًا لعلهم يصلحون: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} (¬2)» اهـ. ولقد استدلوا على قولهم بالرجعة بقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (¬3)، فقالوا: إن المراد من العباد الصالحين إنما هو القائم وأصحابه (¬4). من الراجعون؟ قالوا: «من حصيلة مجموع الروايات الواردة في هذا الباب نلاحظ أنها تنص على رجعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين (¬5) - عليه السلام -، والإمام الحسين - عليه السلام - (¬6)، وكذلك باقي ¬

(¬1) محمد رضا المظفر: عقائد الإمامية، ص (83)، فصل الإمامة، باب عقيدتنا في الرجعة. (¬2) غافر: 11 (¬3) الأنبياء: 105 (¬4) انظر: تفسير القمي (2/ 77). (¬5) السابق (2/ 147)، والمجلسي: بحار الأنوار (53/ 39). (¬6) المجلسي: بحار الأنوار (53/ 39)، والكليني: الروضة من الكافي (8/ 206)، رقم: 250

الأئمة والأنبياء عليهم السلام (¬1). وتنص كذلك على رجعة عدد من أنصار الإمام المهدي - عليه السلام - ووزرائه (¬2)، وبعض أصحاب الأئمة وشيعتهم، ورجعة الشهداء والمؤمنين (¬3)، ومن جانب آخر تنص على رجعة الظالمين وأعداء الله ورسوله وأهل بيته عليهم السلام (¬4)، وخصوم الأنبياء والمؤمنين، ومحاربي الحق والمنافقين (¬5)» اهـ (¬6). قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (¬7)، فما قولهم في دابة الأرض؟ يقول القمي في تفسيره (¬8): «حدثني أبي عن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - وهو نائم في المسجد قد جمع رملًا ووضع رأسه عليه، فحركه برجله ثم قال له: قم يا دابة الله (!)، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، أيسمي بعضنا بعضًا بهذا الاسم؟ فقال: لا، والله ما هو إلا له خاصة، وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه - ثم تلا الآية -، ثم قال: يا علي، إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ومعك ميسم تسم به أعداءك ... والدليل على أن هذا في الرجعة قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬9)، قال: الآيات أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام. ¬

(¬1) تفسير القمي (1/ 25)، والمجلسي: بحار الأنوار (53/ 41)، حيث فسروا قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81]، بأن كل الأنبياء والرسل سيردون جميعًا إلى الدنيا قبل يوم القيامة - بما فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى يقاتلوا بين يدي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين - رضي الله عنه -. (¬2) المجلسي: بحار الأنوار (53/ 40، 70، 76)، والكليني: الروضة من الكافي (8/ 51)، رقم: 14 (¬3) المجلسي: بحار الأنوار (53/ 65 - 6). (¬4) السابق (53/ 54 - 5). (¬5) تفسير القمي (1/ 385). (¬6) مستفاد من: الرجعة، أو العودة إلى الحياة الدنيا بعد الموت، ص (54)، الفصل الثالث، باب من هم الراجعون. (¬7) النمل: 82 (¬8) تفسير القمي (2/ 130 - 1) باختصار. (¬9) النمل: 83 - 84

وما مهام المهدي الراجع؟

فقال الرجل لأبي عبد الله - عليه السلام -: إن العامة [أي أهل السنة] تزعم أن قوله {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} عني به يوم القيامة، فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: أفيحشر الله من كل أمة فوجًا ويدع الباقين؟ لا، ولكنه في الرجعة، وأما آية القيامة فهي: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (¬1)» اهـ. وما مهام المهدي الراجع؟ قالوا: إن المهدي حينما يرجع يقوم بالمهام التالية: - يهدم الحجرة النبوية ويصلب الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما: روى المجلسي: «وأجيء إلى يثرب، فأهدم الحجرة (¬2)، وأُخرِج من بها وهما طريان (¬3)، فآمر بهما تجاه البقيع، وآمر بخشبتين يُصلبان عليهما، فتورِقان من تحتهما، فيفتتن الناس بهما أشد من الأولى، فينادي منادي الفتنة من السماء يا سماء انبذي، ويا أرض خذي، فيومئذ لا يبقى على وجه الأرض إلا مؤمن» (¬4). - يأتي بأمر جديد وكتاب جديد، ويقتل العرب ويهدم المسجد الحرام: روى النعماني عن أبي عبد الله أنه قال: «إذا خرج يقوم بأمر جديد، وكتاب جديد، وسنة جديدة، وقضاء جديد، على العرب شديد، وليس شأنه إلا القتل، ولا يستبقي أحدًا، ولا تأخذه في الله لومة لائم» (¬5)، وروى عن زرارة أنه قال: «قلت له [أي لأبي عبد الله]: أيسير بسيرة محمد صلى الله عليه وآله؟ قال: هيهات هيهات يا زرارة، ما يسير بسيرته، قلت: جعلت فداك، لم؟ قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سار في أمَّته بالمَنّ، كان يتألَّف الناس، والقائم يسير بالقتل، بذاك أمر في الكتاب الذي معه أن يسير بالقتل ولا يستتيب أحدًا، ويل لمن ناواه» (¬6). وروى المجلسي أن المهدي يسير في العرب بما في الجفر الأحمر، ¬

(¬1) الكهف: 47 (¬2) يعني الحجرة النبوية. (¬3) يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، لأنهما دفنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته، وبجوار قبره. (¬4) المجلسي: بحار الأنوار (53/ 104). (¬5) محمد بن إبراهيم النعماني: الغيبة، ص (251)، باب ما جاء في العلامات التي تكون قبل قيام القائم - عليه السلام -. (¬6) السابق، ص (231)، باب ما روي في صفته وسيرته وفعله وما نزل من القرآن فيه - عليه السلام -.

إباحة الرافضة زواج المتعة

وهو الذبح (¬1)، وروى أيضًا: «ما بقي بيننا وبين العرب إلا الذبح» (¬2)، وروى عن أبي عبد الله: «أن القائم يهدم المسجد الحرام حتى يرده إلى أساسه ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أساسه، ويرد البيت إلى موضعه وأقامه على أساسه، وقطع أيدي بني شيبة السُرَّاق وعلقها على الكعبة» (¬3). - يحكم بحكم داود وسليمان ولا يسأل بينة: لما رواه الكليني عن أبي عبد الله قوله: «إذا قام قائم آل محمد - عليه السلام - حكم بحكم داود وسليمان لا يسأل بينة» (¬4). - يقيم الحد على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: روى المجلسي عن عبد الرحمن القصير عن أبي جعفر - عليه السلام - أنه قال: «أما لو قد قام قائمنا لقد رُدت إليه الحميراء، حتى يجلِدَها الحد، وحتى ينتقم لابنة محمد فاطمة عليها السلام منها» (¬5). والحميراء: تصغير الحمراء، وهي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، بدليل ما رواه المجلسي عن عيينة بن حصن أنه دخل على النبي صلى الله عليه وآله وقال له: «من هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذه عائشة أم المؤمنين» (¬6). {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (¬7). ... إباحة الرافضة زواج المتعة: لقد أباح الرافضة لأنفسهم زواج المتعة، واستغلوه أبشع استغلال، وأهينت المرأة شر ¬

(¬1) المجلسي: بحار الأنوار (52/ 313). (¬2) السابق (52/ 349). (¬3) السابق (52/ 332). (¬4) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 397). (¬5) المجلسي: بحار الأنوار (22/ 242). (¬6) السابق (22/ 238). (¬7) النور: 15

إهانة، وصار الكثيرون يشبعون رغباتهم الجنسية تحت ستار المتعة وباسم الدين، محتجين بقول الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬1). فيقول الطوسي في تفسيره لقول الله تعالى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ} (¬2): «هو المتعة إلى أجل مسمى، وهو مذهبنا»، ويقول العياشي في تفسيره (¬3): «وهؤلاء [أي أهل السنة] يكفرون بها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحلها ولم يحرمها» اهـ. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله (¬4): «وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شك أنه كان مشروعًا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك ... وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة، ولكن الجمهور على خلاف ذلك، والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ...». ويقول شاه عبد العزيز الدهلوي (¬5): «فقطع هذه الآية عما قبلها (¬6) وحملها على الاستئناف باطل صريح باعتبار العربية، لأن الفاء تأبى القطع والابتداء، بل تجعل ما بعدها مربوطًا بما قبلها. وما يروون أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - كان يقرأ هذه الآية مع ضم (إلى أجل) بعد (منهن) فغير صحيح، لأن هذه الرواية لم توجد في كتاب من كتب أهل السنة المعتبرة، ولو سلمنا ثبوتها في قراءة منسوخة فهي لا تستعمل في إثبات الأحكام مع كون القراءة المشهورة المتواترة تخالفها» اهـ. ¬

(¬1) النساء: 24 (¬2) تفسير الطوسي (3/ 165). (¬3) تفسير العياشي (1/ 233). (¬4) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (2/ 259). (¬5) محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (254). (¬6) قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 23].

من أدلة تحريم المتعة

من أدلة تحريم المتعة: - ما رواه البخاري بسنده عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل الحُمُر الإنسية (¬1). - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء. وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة. فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله. ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» (¬2). - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» (¬3)، فأرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هنا الذين لا يستطيعون الزواج إلى الصوم، ولم يرشدهم إلى المتعة. أيضًا، فلقد وردت نصوص في كتب الشيعة في إثبات تحريم المتعة، منها: - ما رواه المجلسي عن عبد الله بن سنان قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن المتعة فقال: لا تدنس نفسك بها» (¬4). - وروى عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: «ما تفعلها عندنا إلا الفواجر» (¬5). - وروى الكليني عن الحكم بن مسكين عن عمار قال: «قال أبو عبد الله - عليه السلام - لي ولسليمان بن خالد: قد حرمت عليكما المتعة» (¬6). - ولم يُنقَل أن أحدًا تمتع بامرأة من أهل البيت عليهم السلام، فلو كان حلالًا لفعلن، ويؤيد ذلك أن عبد الله بن عمير قال لأبي جعفر - عليه السلام -: «يسرك أن نساءك وبناتك وأخواتك ¬

(¬1) البخاري، كتاب المغازي: 4216، وللإمام المحقِّق ابن قيم الجوزية رحمه الله بحث تفصيلي في تحديد وقت تحريم المتعة، انظره في: زاد المعاد (3/ 459 - 64). (¬2) رواه مسلم، كتاب النكاح: 1406 (¬3) رواه البخاري، كتاب النكاح: 5066 (¬4) المجلسي: بحار الأنوار (100/ 318). (¬5) السابق. (¬6) الكليني: الفروع من الكافي (5/ 467).

وبنات عمك يفعلن؟ قال: فأعرض عنه أبو جعفر - عليه السلام - حين ذكر نساءه وبنات عمه» (¬1). وعلى الرغم من وضوح أدلة التحريم وتعددها، أورد الشيعة روايات في الترغيب في المتعة، وحددوا أو رتبوا عليها الثواب وعلى تاركها العقاب، بل اعتبروا كل من لم يعمل بها ليس مسلمًا، واقرأ معي هذه النصوص: - رووا عن أبي جعفر أنه قال: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أسري به إلى السماء قال: لحقني جبرئيل - عليه السلام - فقال: يا محمد، إن الله تبارك وتعالى يقول: إني قد غفرت للمتمتعين من أمَّتك من النساء» (¬2). - وعن الصادق قال: «ليس منَّا من لم يؤمن بكرتنا ويستحل متعتنا» (¬3). - وقيل لأبي عبد الله: هل للمتمتع ثواب؟ قال: «إن كان يريد بذلك وجه الله وخلافًا على من أنكرها لم يكلمها كلمة إلا كتب الله له بها حسنة، ولم يمد يده إليها إلا كتب الله له حسنة، فإن دنا منها غفر الله له بذلك ذنبًا، فإذا اغتسل غفر الله له بقدر ما مر من الماء على شعره» (¬4). - ورووا عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس فقال: «أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى أحل لكم الفروج على ثلاثة معان: فرج موروث وهو البتات (¬5)، وفرج غير موروث وهو المتعة، وملك أيمانكم» (¬6). - وعن بكر بن محمد عن أبي عبد الله قال: «سألته عن المتعة فقال: إني لأكره للرجل المسلم أن يخرج عن الدنيا وقد بقيت خلة من خلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقضها» (¬7). ¬

(¬1) السابق (5/ 449). (¬2) ابن بابويه القمي: من لا يحضره الفقيه (3/ 291)، باب المتعة، رقم: 1404 (¬3) السابق (3/ 287)، باب المتعة، رقم: 1386 (¬4) السابق (3/ 290)، باب المتعة، رقم: 1403 (¬5) أي النكاح الذي يورث به، والبتات من البت بمعنى القطع، أريد به النكاح الدائم. (¬6) السابق (3/ 293)، باب المتعة، رقم: 1417 (¬7) المصدر السابق (3/ 291)، باب المتعة، رقم: 1405

- وروى المجلسي عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه قال: «لعن الله ابن الخطاب فلولاه ما زنى إلا شقي أو شقية، لأنه كان يكون للمسلمين غناء في المتعة عن الزنا، ثم تلا: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}» (¬1). وقد أجازوا التمتع بالعذارى والأبكار بدون أخذ الموافقة من وليها، بشرط أن لا يحاول فض بكارتها، روى الكليني عن محمد بن أبي حمزة، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله - عليه السلام -، قال في البكر يتزوجها الرجل متعة؟: «لا بأس، ما لم يفتضَّها» (¬2)، وعن زياد بن أبي الحلال قال: «سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول: لا بأس أن يتمتع بالبكر ما لم يُفْض إليها كراهية العيب على أهلها» (¬3)، ويقول الخميني في فتاواه (¬4): «لا يجوز وطأ الزوجة قبل إكمال تسع سنين، دوامًا كان النكاح أو منقطعًا، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة» اهـ. ولم يقتصر الأمر عندهم على تحليل المتعة، بل أباحوا كذلك إتيان النساء فيما دون الفرج، ورووا في ذلك روايات، منها: - ما رواه الطوسي عن عبد الله بن أبي اليعفور أنه قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الرجل يأتي المرأة من دبرها قال: لا بأس إذا رضيت، قلت: فأين قول الله تعالى: {فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬5) فقال: هذا في طلب الولد، فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله، إن الله تعالى يقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}» (¬6). ¬

(¬1) البقرة: 205، المجلسي: بحار الأنوار (53/ 31)، وكذا روى الكليني في فروع الكافي (5/ 448) مع اختلاف في اللفظ. (¬2) الكليني: الفروع من الكافي (5/ 463). (¬3) السابق (5/ 462). (¬4) الخميني: تحرير الوسيلة (2/ 221)، كتاب النكاح، مسألة رقم: 12 (¬5) البقرة: 222 (¬6) البقرة: 223، أبو جعفر الطوسي: الاستبصار (3/ 243)، باب إتيان النساء فيما دون الفرج، رقم: 867

- وعنه أيضًا قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الرجل يأتي المرأة في دبرها، قال: لا بأس به» (¬1). - وعن موسى بن عبد الملك عن رجل قال: «سألت أبا الحسن الرضا - عليه السلام - عن إتيان الرجل المرأة من خلفها في دبرها فقال: أحلتها آية من كتاب الله، قول لوط - عليه السلام -: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} (¬2)، فقد علم أنهم لا يريدون الفرج» (¬3). - وقال الخميني: «المشهور الأقوى جواز وطء الزوجة دبرًا على كراهية شديدة، والأحوط تركها خصوصًا مع عدم رضاها» اهـ (¬4). سبحانك هذا بهتانٌ عظيم، فأين هؤلاء من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينظر الله إلى رجل يأتي امرأته في دبرها» (¬5)، وقوله: «ملعون من أتى امرأة في دبرها» (¬6)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» (¬7). قال السعدي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬8): «مقبلة ومدبرة، غير أنه لا يكون إلا في القُبُل، لكونه موضع الحرث، وهو الموضع الذي يكون منه الولد. وفيه دليل على تحريم الوطأ في الدُبُر، لأن الله لم يبح إتيان المرأة إلا في الموضع الذي منه الحرث، وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم ذلك ولعن فاعله» اهـ. ... ¬

(¬1) السابق (3/ 243)، باب إتيان النساء فيما دون الفرج، رقم: 871 (¬2) هود: 78 (¬3) أبو جعفر الطوسي: الاستبصار (3/ 243)، باب إتيان النساء فيما دون الفرج، رقم: 869 (¬4) الخميني: تحرير الوسيلة (2/ 221)، كتاب النكاح، مسألة رقم: 11 (¬5) رواه الترمذي، كتاب الرضاع: 1165، وحسنه الألباني في (آداب الزفاف)، انظره ص (33) الهامش. (¬6) رواه أبو داود، كتاب النكاح: 2162، وحسنه الألباني في المصدر السابق. (¬7) رواه أصحاب السنن إلا النسائي، وصححه الألباني في المصدر نفسه. (¬8) تفسير السعدي، ص (100).

نظرية الخمس

نظرية الخُمس: قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ} (¬1). قال ابن كثير (¬2): «يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصًا لهذه الأمة الشريفة من بين سائر الأمم المتقدمة بإحلال الغنائم. والغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب». وقال ابن قدامة (541 - 620هـ) (¬3): «الغنيمة هي ما أُخِذَ من الكفار قهرًا بالقتال، واشتقاقها من الغُنْم». وقال ابن تيمية (¬4): «مال المغانم لمن شهد الوقعة، إلا الخمس فإن مصرفه ما ذكر الله في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ}، والمغانم ما أُخِذَ من الكفار بالقتال. فهذه المغانم وخمسها». وقال رحمه الله (¬5): «كان المال إذا أضيف إلى الله ورسوله، فالمراد به ما يجب أن يصرف في طاعة الله ورسوله، ليس المراد به أنه ملك للرسول، كما ظنه طائفة من الفقهاء، ولا المراد به كونه مملوكًا لله خلقًا وقدرًا، فإن جميع الأموال بهذه المثابة». ويقول ابن قدامة (¬6): «وسهم الله والرسول واحد، كذا قال عطاء والشعبي، وقال الحسن بن محمد بن الحنفية وغيره، وقوله: {فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ} افتتاح كلام: يعني أن ذكر الله تعالى لافتتاح الكلام باسمه تبركًا به لا لإفراده بسهم، فإن لله تعالى الدنيا والآخرة». ¬

(¬1) الأنفال: 41 (¬2) ثم قال: «والفيء: ما أُخذ منهم بغير ذلك، كالأموال التي يصالحون عليها، أو يتوفون عنها ولا وارث لهم، والجزية والخراج ونحو ذلك» اهـ. [تفسير ابن كثير (4/ 59)]. (¬3) ابن قدامة المقدسي: المغني (9/ 281). (¬4) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (28/ 562). (¬5) السابق (10/ 380). (¬6) ابن قدامة: المغني (9/ 288).

الخمس عند الرافضة

ويقول السعدي (¬1): «وأما هذا الخمس، فيُقَسَّم خمسة أسهم، سهم لله ورسوله: ويصرف في مصالح المسلمين العامة، من غير تعيين لمصلحة، لأن الله جعله له ولرسوله، والله ورسوله غنيان عنه، فعلم أنه لعباد الله، فإذا لم يعين الله له مصرفًا، دل على أن مصرفه للمصالح العامة» اهـ. الخمس عند الرافضة: يقول القُمِّي (¬2): «قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} وهو الإمام، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، فهم أيتام آل محمد خاصة، ومساكينهم، وأبناء سبيلهم خاصة، فمن الغنيمة يخرج الخمس ويقسم على ستة أسهم: سهم الله، وسهم لرسول الله، وسهم للإمام، فسهم الله وسهم رسول الله يرثه الإمام - عليه السلام - فيكون للإمام ثلاثة أسهم من ستة، وثلاثة أسهم لأيتام آل محمد الرسول ومساكينهم وأبناء سبيلهم. إنما صارت للإمام وحده من الخمس ثلاثة أسهم لأن الله قد ألزمه ما ألزم النبي من تربية الأيتام ومؤن المسلمين وقضاء ديونهم وحملهم في الحج والجهاد، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أنزل الله عليه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (¬3). http://www.fnoor.com/fn0941.htm - _ftn2 وهو أب لهم، فلما جعله الله أبًا للمؤمنين لزمه ما يلزم الوالد للولد فقال عند ذلك: من ترك مال فلورثته، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فعلى الوالي، فلزم الإمام ما لزم الرسول، فلذلك صار له من الخمس ثلاثة أسهم». http://www.fnoor.com/fn0941.htm - _ftn3 ويقول الطوسي (¬4): «الغنيمة ما أخذ من أموال أهل الحرب من الكفار بقتال، وهي هبة من الله تعالى للمسلمين»، وقال: «وهي تقسم عندنا ستة أقسام: فسهم لله، وسهم لرسول الله، وهذان السهمان مع سهم ذوي القربى للقائم مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينفقها على نفسه وأهل بيته من بني هاشم»، وقال: «والذين يستحقون الخمس عندنا من كان من ولد عبد المطلب. وعند أصحابنا الخمس يجب في كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب ¬

(¬1) تفسير السعدي، ص (354 - 5). (¬2) تفسير القمي (1/ 278). (¬3) الأحزاب: 6 (¬4) تفسير الطوسي (5/ 122 - 3) باختصار.

وأرباح التجارات والكنوز والمعادن والغوص وغير ذلك. ويمكن الاستدلال على ذلك بهذه الآية، لأن جميع ذلك يسمى غنيمة». ويقول الفيض الكاشاني (¬1): «{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ}: قيل أي الذي أخذتموه من الكفار قهرًا، وفي الكافي عن الصادق - عليه السلام -: "هي والله الإفادة يومًا بيوم" (¬2)، أقول: يعني استفادة المال من أية جهة كانت». http://www.fnoor.com/fn0941.htm - _ftn6 ويقول الخميني (¬3): «يقسم الخمس ستة أقسام: سهم لله تعالى، وسهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وسهم للإمام - عليه السلام -، وهذه الثلاثة الآن لصاحب الأمر أرواحنا له فداء وعجل الله تعالى فرجه، وثلاثة للأيتام والمساكين وأبناء السبيل ممن انتسب بالأب إلى عبد المطلب، فلو انتسب إليه بالأم لم يحل له الخمس، وحلت له الصدقة على الأصح»، ثم يقول (¬4): «كما أن النصف الذي للإمام - عليه السلام - أمره راجع إلى الحاكم، فلا بد من الإيصال إليه حتى يصرفه فيما يكون مصرفه بحسب نظره وفتواه، أو الصرف بإذنه فيما عين له من المصرف». ثم يقول (¬5): «يجب الخمس في سبعة أشياء: الأول: ما يغتنم قهرًا بل سرقة وغيلة إذا كانتا في الحرب، الثاني: المعدن، الثالث: الكنز، الرابع: الغوص، الخامس: ما يفضل من مؤنة السنة له ولعياله من الصناعات والزراعات وأرباح التجارات، بل وسائر التكسبات، السادس: الأرض التي اشتراها الذمي من مسلم، فإنه يجب على الذمي خمسها، ويؤخذ منه قهرًا إن لم يدفعه بالاختيار، والسابع: الحلال المختلط بالحرام مع عدم تميز صاحبه أصلًا» اهـ. وقياسًا على هذا القول يتبين لنا كيف أن الخمس استغل استغلالًا بشعًا من قبل فقهاء الشيعة ومجتهديهم، وصار موردًا يدر عليهم أموالًا طائلة، مع أن النصوص تدل على أن ¬

(¬1) الفيض الكاشاني: تفسير الصافي (2/ 303). (¬2) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 544). (¬3) الخميني: تحرير الوسيلة (1/ 318 - 9)، كتاب الزكاة، كتاب الخمس، القول في قسمته ومستحقيه، مسألة رقم: 1 (¬4) السابق (1/ 329)، القول في قسمته ومستحقيه، مسألة رقم: 7 (¬5) السابق (1/ 317) وما بعده، باب القول فيما يجب فيه الخمس، باختصار.

عوام الشيعة في حِل من دفع الخُمس، بل هو مباح لهم لا يجب عليهم إخراجه، وإنما يتصرفون فيه كما يتصرفون في سائر أموالهم ومكاسبهم؛ فعن حكيم مؤذن بن عيسى قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} فقال أبو عبد الله - عليه السلام - بمرفقيه على ركبتيه ثم أشار بيده فقال: هي والله الإفادة يومًا بيوم إلا أن أبي جعل شيعته في حِل ليزكوا» (¬1). وعن عمر بن يزيد قال: «رأيت مسمعًا بالمدينة وقد كان حمل إلى أبي عبد الله تلك السنة مالًا فرده أبو عبد الله ... [إلى أن قال]: يا أبا سيار قد طيبناه لك، وأحللناك منه فضم إليك مالك، وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا» (¬2). وعن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: «إن أشد ما فيه الناس يوم القيامة أن يقوم صاحب الخمس فيقول: يا رب خمسي، وقد طيبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم ولتزكوا ولادتهم» (¬3). وعن ضريس الكناسي، قال أبو عبد الله - عليه السلام -: «من أين دخل على الناس الزنا؟ قال: لا أدري، جُعِلتُ فداك، قال: من قِبَلِ خُمسِنا أهل البيت إلا شيعتنا الطيبين فإنه محلل لهم لميلادهم» (¬4). فهذه الروايات وغيرها الكثير صريحة في إعفاء الشيعة من الخمس، فمن أراد أن يستخلصه لنفسه أو أن يأكله ولا يدفع منه لأهل البيت شيئًا فله ما أراد ولا إثم عليه، بل لا يجب عليه الدفع حتى يقوم قائمهم المزعوم. وما أبلغ ما قاله شاعرهم أحمد الصافي النجفي (1897 - 1977م): عجبت لقوم شحذُهم (¬5) باسم دينهم ... وكيف يسوغ الشحذ للرجل الشهمِ؟! ¬

(¬1) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 544). (¬2) السابق (1/ 408). (¬3) السابق (1/ 547). (¬4) السابق (1/ 546). (¬5) الشحذ: الاستجداء أو التسول.

من أقوال علماء أهل السنة في الرافضة

لئن كان تحصيل العلوم مُسَوِّغًا ... لذاك فإن الجهل خير من العلم!! وهل كان في عهد النبي عصابة ... يعيشون من مال الأنام بذا الاسمِ؟! لئن أوجب الله الزكاة فلم تكن ... لتعطى بذل بل لتؤخذ بالرغم أتانا بها أبناء ساسان حرفة ... ولم تكُ في أبناء يَعرُبَ مِن قِدَم ... من أقوال علماء أهل السنَّة في الرافضة: - سُئِلَ الإمام مالك عن الرافضة فقال: «لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون» (¬1). - وقال في قول الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬2): «من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أصابته هذه الآية» (¬3). - قال ابن كثير: «ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: "لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة - رضي الله عنهم - فهو كافر لهذه الآية"، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك» (¬4). - وقال القرطبي (¬5): «لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله فمن نقص واحدًا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين». - وقال شريك بن عبد الله القاضي - والذي كان يقول بلسانه "أنا من الشيعة" -: ¬

(¬1) ابن تيمية: منهاج السنة (1/ 60). (¬2) الفتح: 29 (¬3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (19/ 347). (¬4) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (7/ 362). (¬5) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (19/ 347).

«أحمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة، فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه دينًا» (¬1). - وقال أحمد بن يونس (132 - 227هـ): «لو أن يهوديًا ذبح شاة وذبح رافضي، لأكلت ذبيحة اليهودي ولم آكل ذبيحة الرافضي لأنه مرتد عن الإسلام» (¬2). - وقال الشافعي (150 - 204هـ): «ما رأيت في أهل الأهواء قومًا أشد بالزور من الرافضة» (¬3). - وسُئِلَ الإمام أحمد عمن شتم رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ما أراه على الإسلام» (¬4). - وقال الإمام أبو زرعة الرازي: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهم يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة» (¬5). - وقال الإمام ابن حزم ردًا على النصارى المحتجين بقول الشيعة بتحريف القرآن: «إن الروافض ليسوا من المسلمين، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر» (¬6). - وقال الإمام النووي (¬7): «إن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع». والذي يُفهم من كلام الإمام رحمه الله تعالى ورضي عنه أنه لا يرى تكفير الإمامية لدخولهم في عموم (أهل البدع)، وأنه يُفَرِّق بين غلاة الرافضة وبين الإمامية؛ فيذكر رحمه الله أن غلاة الرافضة هم الذين يكفرون ¬

(¬1) ابن تيمية: منهاج السنة (1/ 60). (¬2) ابن تيمية: الصارم المسلول، ص (446). (¬3) ابن تيمية: منهاج السنة (1/ 61 - 2). (¬4) ابن تيمية: الصارم المسلول، ص (444) باختصار. (¬5) ابن حجر: الإصابة (1/ 22). (¬6) ابن حزم: الفِصَل (2/ 65). (¬7) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 50).

الصحابة - رضي الله عنهم -، ويعقب بالقول (¬1): «ولا شك في كفر من قال هذا لأن من كفَّر الأمة كلها والصدر الأول فقد أبطل نقل الشريعة وهدم الإسلام». وهذا في حين أنه يرى أن الإمامية لا يقولون بهذا، فتجده يقول (¬2): «... وأما من عدا هؤلاء الغلاة فإنهم لا يسلكون هذا المسلك، فأما الإمامية وبعض المعتزلة فيقولون هم مخطئون في تقديم غيره [أي غير علي] لا كفار». ولكن الظن بالإمام النووي رحمه الله إما أنه قد خفيت عليه الروايات القائلة بتكفير الصحابة - رضي الله عنهم - الواردة في كتب الرافضة الإمامية الموضوعة قَبْل النووي، وإما أن تطور مذهب الإمامية وازدهاره عبر الزمان جعل هذا التفريق في زماننا غير قائم، وأنه لا مشاحة في الاصطلاح، والله تعالى أعلم. - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3): «أما من اقترن بسبه أن عليًا إله، أو أنه كان هو النبي وإنما غلط جبرئيل في الرسالة، فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. وكذلك من زعم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم أنه له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك، فلا خلاف في كفرهم». وقال أيضًا رحمه الله: «ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نفرًا قليلًا لا يبلغون بضعة عشرة نفسًا أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضًا في كفره لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضا عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإنه كافر متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬4) وخيرها هو القرن الأول كان عامتهم كفارًا أو فساقًا، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام». - وقال شاه عبد العزيز الدهلوي (¬5): «ومن استكشف عقائدهم الخبيثة، وما انطووا عليه، علم أن ليس لهم في الإسلام نصيب، وتحقق كفرهم لديه». ¬

(¬1) السابق (15/ 174). (¬2) نفسه. (¬3) ابن تيمية: الصارم المسلول، ص (460). (¬4) آل عمران: 110 (¬5) محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (330).

- ويقول الدكتور ناصر القفاري (¬1): «إن الرافضة المتأخرين والمعاصرين جمعوا أخس المذاهب وأخطرها .. جمعوا مقالة القدرية في نفي القدر، والجهمية في نفي الصفات، وقولهم إن القرآن مخلوق، والصوفية - عند جملة من رؤساء مذهبهم - في ضلالة الوحدة والاتحاد، والسبئية في تأليه علي، والخوارج والوعيدية في تكفير المسلمين، والمرجئة في قولهم إن حب علي حسنة لا يضر معها سيئة .. بل ساروا في سبيل أهل الشرك في تعظيم القبور، والطواف حولها، بل ويصلون إليها مستدبرين القبلة، إلى غير ذلك مما هو عين مذهب المشركين .. فهل يبقى بعد ذلك شك في أن هذه الطائفة ارتضت لنفسها مذهبًا غير مذهب المسلمين .. فهم وإن شهدوا الشهادتين إلا أنهم نقضوها بنواقض كثيرة كما ترى» اهـ. ولكن انتبه! فإن «إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المُعَيَّن، وإن تكفير المُطلَق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وُجِدَت الشروط وانتفت الموانع»، وعلى هذا فإنه لا يجوز تكفير المعين ولا تبديعه إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع وقيام الحجة وإزالة الشبهة، وهذا باتفاق أهل السنة والجماعة، ولا يقوم به إلا أهل العلم الثقات، وذلك لأن بعض الناس قد يعذر بالجهل، وضابط العذر بالجهل هو: (إحكام الجهل)، وذلك على الصحيح من قولي العلماء» (¬2). ولعل من أشهر الأدلة وأوضحها في هذا الباب ما رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك، فغفر له» (¬3). ¬

(¬1) د. ناصر القفاري: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (3/ 1273). (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (12/ 487 - 8). (¬3) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء: 3481

يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعليقًا على الحديث (¬1): «فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرُّق، وظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى، وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه كان مع إيمانه بالله، وإيمانه بأمره، وخشيته منه، جاهلًا بذلك، ضالًا في هذا الظن مخطئًا، فغفر الله له ذلك، والحديث صريح في أن الرجل طمع ألا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا يكون شاكًا في الميعاد، وذلك كفر، إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره» اهـ. واعلم - علمني الله وإياك - أن «كل من كان مؤمنًا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو خير من كل من كفر به وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم، فإن اليهود والنصارى كفار كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول - صلى الله عليه وسلم - لا مخالف له لم يكن كافرًا به، ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول - صلى الله عليه وسلم -» اهـ (¬2). ... ¬

(¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (11/ 409). وراجع في ذلك رسالة: الإحكام في قواعد الحكم على الأنام، للدكتور محمد يسري إبراهيم، فهي مميزة في هذا الباب. (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (35/ 201). تنبيه: القاعدة المعروفة «من لم يُكَفِّر الكافر فهو كافر»، فهي قاعدة صحيحة ولكنها تُطبَّق على من أنكر كفر المُعيَّن المقطوع بكفره، كمن أنكر كفر أبي جهل وفرعون، أو من أنكر كفر اليهودي والنصراني، أما فيمن هو موقفه محل اجتهاد وخلاف بين علماء المسلمين، فلا تطبق هذه القاعدة في هذه الحالة على المخالف في الحكم على المعين بالكفر.

الفصل الثالث: شبهات وردودها

الفصل الثالث: شبهات وردودها

الشبهة الأولى: حديث الغدير

- - {شبهات وردودها (¬1)} - - «قال لي شيخ الإسلام - رضي الله عنه -: "لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليه صار مقرًا للشبهات" - أو كما قال -، فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل» [ابن القيم] (¬2) الشبهة الأولى: حديث الغدير: يعتبر حديث الغدير من أقوى الأدلة عند الشيعة للاستدلال على أحقية علي - رضي الله عنه - بالإمامة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى ألَّف فيه عبد الحسين أحمد الأميني النجفي كتابًا من أحد عشر مجلدًا، وهو كتاب الغدير. وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أنه قال: «قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا خطيبًا بماء يُدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر، ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم ¬

(¬1) مستفاد من: حقبة من التاريخ، لعثمان الخميس، ص (163 - 223) بتصرف كبير. (¬2) ابن قيم الجوزية: مفتاح دار السعادة (1/ 176).

قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي» (¬1). وفي زيادة رواها الترمذي بسند صحيح أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (¬2). وزاد البعض في الحديث بـ «انصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار ...» وهذه زيادة مكذوبة لا تصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. واستدلال الشيعة بهذا الحديث باطل من وجوه: - قالوا: إن غدير خُم هذا هو مفترق الحجيج، وإنه - صلى الله عليه وسلم - اجتمع بهم ليبين لهم هذا الأمر، لكن الصحيح أن غدير خم تبعد عن مكة بمائتين وخمسين كيلومترًا تقريبًا، فهي ليست مفترق الحجيج، بل إن مفترق الحجيج هي مكة نفسها. - النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم وهو في مكة في أيام مِنَى أو في أيام عرفة، وإنما أجَّل الأمر إلى أن رجع، لماذا؟ لأن الأمر كان خاصًا بأهل المدينة، لأن عليًا - رضي الله عنه - كَثُرَ فيه القيل والقال من الجيش الذي أرسله لخالد بن الوليد - رضي الله عنه - ليقبض الخمس، وذلك بسبب منعه إياهم استعمال إبل الصدقة واسترجاعه منهم الحلل التي أطلقها لهم نائبه لذلك، والله أعلم. فلما وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - للراحة عند غدير خُم وهو في سفره من مكة للمدينة، خطب في الناس وذكَّرهم بكتاب الله، ثم بعد ذلك نبَّه إلى ما وقع بشأن علي - رضي الله عنه - وبرأ ساحته ورفع من قدره ونبه على فضله ليزيل ما وقر في نفوس كثير من الناس (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كنت مولاه فعلي مولاه». - الموالاة هي النصرة والمحبة، وعكسها المعاداة، وكما يقول ابن الأثير (¬4): «المولى يقع على الرب والمالك والسيد والمُنعِم والمُعتِق والناصر والمحب والتابع والجار وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمُعتَق والمُنعَم»، ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 2408 (¬2) رواه الترمذي، كتاب المناقب: 3713، وصححه الألباني. (¬3) انظر، ابن كثير: البداية والنهاية (5/ 106). (¬4) ابن الأثير: النهاية، ص (990).

الشبهة الثانية: حادثة فدك والإرث

يقصد الخلافة، لما أتى بكلمة تحتمل كل هذه المعاني، أو قال والي (من ولاية وهي الحكم) بدلًا من مولى. ... الشبهة الثانية: حادثة فَدَك والإرث: روى الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك (¬1)، وما بقي من خمس خيبر. فقال أبو بكر: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا نُورَث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأعملن فيها بما عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئًا، فوجدت (¬2) فاطمة على أبي بكر في ذلك. قال: فهجرته، فلم تكلمه حتى تُوُفِّيَت (¬3). يقول الخميني (¬4): «وما نسبه أبو بكر إلى النبي إنما هو مخالف للآيات الصريحة حول إرث الأنبياء نذكر هنا بعضها: فقد قالت الآية 16 من سورة النمل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}، وقالت الآية 5 من سورة مريم: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}، فهل يجوز أن نكذِّب الله، أو نقول بأن النبي قال كلامًا يخالف أقوال الإله؟ أم نقول بأن الحديث المنسوب إلى النبي لا صحة له، وإنه قيل من أجل استئصال ذرية النبي؟ ثم إنه هل يصدق العقل بأن الله يحرم أبناء النبي وأحفاده من إرثه ويجعله صدقة؟» اهـ. وجواب هذا أن يقال: ¬

(¬1) مكان بشمالي خيبر. (¬2) أي غضبت. (¬3) مسلم، كتاب الجهاد والسير: 1795 (¬4) الخميني: كشف الأسرار، ص (132 - 3).

أما عن الآية الأولى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}، فإن سليمان - عليه السلام - لم يرث مالًا، وإنما ورث النبوة والحكمة والعلم، وذلك لثلاثة أمور: الأول: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وَرَّثوا العلم» (¬1). الثاني: إن داود - عليه السلام - قد اشتهر أن له مائة زوجة وله ثلاثمائة سرية (أي أَمَة) وله كثير من الأولاد، فكيف لا يرثه إلا سليمان؟ بل إخوة سليمان أيضًا يرثونه، فلا يعقل أن يكون تخصيص سليمان بالذِكر ومعه ورثة آخرون لو كان الأمر إرثًا عاديًا - أي مالًا -، أيضًا، لو كان الأمر إرثًا عاديًا ما كان لذكره فائدة في كتاب الله - عز وجل -، إذ إنه من الطبيعي أن الولد يرث الوالد. الثالث: ما رواه شيخهم الكليني عن المفضل بن عمر قال: «قال أبو عبد الله - عليه السلام -: إن سليمان ورث داود، وإن محمدًا ورث سليمان، وإنا ورثنا محمدًا»، وعن ضريس الكناسي قال: «كنت عند أبي عبد الله - عليه السلام - وعنده أبو بصير، فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: إن داود ورث علم الأنبياء، وإن سليمان ورث داود، وإن محمدًا صلى الله عليه وآله ورث سليمان» (¬2)، فقد علم أن هذه وراثة العلم والنبوة، وإلا فوراثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - مال سليمان لا يتصور شرعًا ولا عقلًا. وأما عن الآية الثانية: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} فنقول: أولًا: إنه لا يليق برجل صالح أن يسأل الله تبارك وتعالى ولدًا حتى يرث المال فحسب، فكيف نرضى بهذا لنبي كريم وهو زكريا - عليه السلام -. ثانيًا: المشهور أن زكريا - عليه السلام - كان فقيرًا يعمل نجارًا، فأي مال عند زكريا - عليه السلام - حتى ¬

(¬1) رواه أبو داود، كتاب العلم: 3641، وصححه الألباني. وانتبه هنا لاتهام الخميني - عليه من الله ما يستحقه - لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بافترائه الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مسلم المتقدم، في حين أنه يقول عن رواية أبي داود هذه: «الحديث صحيح» [انظر، الحكومة الإسلامية، ص (93)]، وذلك كي ينصر مذهبه في ولاية الفقيه، مع العلم أن الروايتين صحيحتان وتحملان نفس المعنى!! (¬2) الكليني: الأصول من الكافي (1/ 224 - 5).

يطلب من الله تبارك وتعالى أن يرزقه وارثًا، بل الأصل في أنبياء الله - عز وجل - أنهم لا يبقون المال، بل يتصدقون به في وجوه الخير. ثالثًا: وهو ما يدل عليه سياق الآية، وهو قول الله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}، كم شخص في آل يعقوب؟ وأين يحيى - عليه السلام - من آل يعقوب؟ آل يعقوب هم كل بنيه - عليه السلام - (بني إسرائيل)، إذن فكيف يكون نصيب يحيى - عليه السلام -؟ ثم إن يحيى - عليه السلام - محجوب بالفرع الوارث! فلا شك أن قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يَرُدّ على قول من يقول: إنه أراد وراثة المال بل ذكر يعقوب لأن يعقوب نبي وزكريا نبي، فأراد أن يرث النبوة والعلم والحكمة، وقد تقدم الحديث: «إن الأنبياء لم يورِّثوا درهمًا ولا دينارًا وإنما ورثوا العلم». ثم بعد ذلك نقول: إن أهل السنة في هذه المسألة لا يبحثون عن عذر لأبي بكر - رضي الله عنه -، وذلك لأنه يستدل بحديث متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففاطمة رضي الله عنها لما ما قبلت منه هذا الكلام حاول أهل السنة أن يبحثوا عن عذر لفاطمة لا لأبي بكر، لأنهم لا يرون أن أبا بكر قد أخطأ في حق فاطمة. والمشهور أن أبا بكر ترضَّاها حتى رضيت، قال ابن حجر رحمه الله (¬1): «روى البيهقي [384 - 458هـ] من طريق الشعبي أن أبا بكر عاد فاطمة فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك، قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها، فترضاها حتى رضيت. وهو وإن كان مرسلًا فإسناده إلى الشعبي صحيح وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر، وقد قال بعض الأئمة إنما كانت هجرتها انقباضًا عن لقائه والاجتماع به وليس ذلك من الهجران المحرم، لأن شرطه أن يلتقيا فيعرض هذا وهذا، وكأن فاطمة عليها السلام لما خرجت غضبى من عند أبي بكر تمادت في اشتغالها بحزنها ثم بمرضها، وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: لا نورث، ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري (6/ 202).

أن تورث عنه، وتمسَّك أبو بكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل، فلما صمَّم على ذلك انقطعت عن الاجتماع به لذلك، فإن ثبت حديث الشعبي أزال الإشكال، وأخلق بالأمر أن يكون كذلك لما علم من وفور عقلها ودينها عليها السلام» اهـ. ولكن، يدعي الرافضة أن ما طالبت به فاطمة عليها السلام كان هبة وهدية من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهبها إياها، كما قال شيخهم الطوسي في تفسيره، في قول الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (¬1)، قال (¬2): «وروي أنه لما أنزلت هذه الآية استدعى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة عليها السلام وأعطاها فَدَكًا وسلمه إليها، وكان وكلاؤها فيها طول حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما مضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها أبو بكر، ودفعها عن النحلة، فلما لم يقبل بيِّنَتها، ولا قَبِل دعواها، طالبت بالميراث، لأن من له الحق إذا مُنِع منه من وجه جاز له أن يتوصل إليه بوجه آخر، فقال لها: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة"، فمنعها الميراث أيضًا، وكلامهما في ذلك مشهور، لا نطول بذكره الكتاب». وقال القمي (¬3): «وأنزلت [أي الآية] في فاطمة عليها السلام فجعل لها فدك، والمسكين من ولد فاطمة، وابن السبيل من آل محمد وولد فاطمة». وقال الفيض الكاشاني (¬4): «فلما نزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ادعوا لي فاطمة عليها السلام، فدعيت له، فقال: يا فاطمة، قالت: لبيك يا رسول الله، فقال: هذه فدك، هي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وهي لي خاصة دون المسلمين، فقد جعلتها لك لما أمرني الله به، فخذيها لك ولولدك» اهـ. وجواب ذلك أن يقال: أن هذه القصة مكذوبة ولا تثبت، بل الصحيح أن فاطمة طلبت فَدَك من باب الإرث لا من باب الهبة، يقول شاه عبد العزيز الدهلوي (¬5): «وهذا ليس له أصل عند أهل السنة، وعلى تقدير تسليم روايتهم، فإن الهبة لا تتحقق إلا بالقبض، ولا ¬

(¬1) الإسراء: 26 (¬2) تفسير الطوسي (6/ 468 - 9). (¬3) تفسير القمي (2/ 18). (¬4) الفيض الكاشاني: تفسير الصافي (3/ 186 - 7). (¬5) محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (271 - 2) باختصار.

الشبهة الثالثة: آية المودة

يصح الرجوع عنها بعد تصرف المتهب في الموهوب، ولم تكن فدك في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تصرف فاطمة رضي الله عنها، بل كانت في يده - صلى الله عليه وسلم - يتصرف فيها تصرف المالك، فلم يكذبها أبو بكر في دعوى الهبة، ولكن يبين لها أن الهبة لا تكون سببًا للملك ما لم يتحقق القبض، فلا حاجة حينئذ إلى الشهود» اهـ. أيضًا، فإن في هذا اتهامًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفرِّق بين أولاده - صلى الله عليه وسلم -، وكيف يكون ذلك وقد جاء البشير بن سعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسول الله، أشهد الله أني قد نحلت النعمان كذا وكذا من مالي، فقال: أَكُلّ بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان؟ فقال: لا، قال - صلى الله عليه وسلم -: فأشهد على هذا غيري، ثم قال: أيسُرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا، إذًا». وفي رواية قال - صلى الله عليه وسلم -: «فلا تُشهِدني إذًا، فإني لا أشهَد على جور» (¬1). ويذكر الرافضة أن فاطمة عليها السلام لما مُنِعَت فدك غضبت وذهبت إلى قبر أبيها تشتكي إليه، وهذا كذب، بل ولا يليق بفاطمة رضي الله عنها، فإن الله تعالى يقول عن العبد الصالح النبي الكريم يعقوب - عليه السلام -: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬2)، فكيف يليق بفاطمة رضي الله عنها أن تشكو بثها وحزنها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، بل نحن نجلُّ فاطمة عليها السلام ونقول: هي لا تشكو بثها وحزنها إلا إلى الله تبارك وتعالى. ... الشبهة الثالثة: آية المودة: قال تعالى: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (¬3). يقول محمد مرعي الأنطاكي (ت. 1383هـ) (¬4): «فقد اتفق المفسرون من الشيعة جميعًا على نزول هذه الآية الكريمة خاصة في أهل البيت عليهم السلام: علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب الهبات: 1623 (¬2) يوسف: 86 (¬3) الشورى: 23 (¬4) محمد مرعي الأنطاكي: لماذا اخترت مذهب الشيعة، الفصل الثاني (الشيعة والكتاب والسنة)، آية المودة.

وهكذا جاء في تفاسير السنة والجماعة، وصحاحهم ومسانيدهم»، ثم ذكر الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سُئِل عن قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال سعيد بن جبير: «قُربى آل محمد - صلى الله عليه وسلم -» (¬1)، وبتر الحديث هنا ولم يكمله! وجواب هذا: أن بقية رواية البخاري تذكر أن ابن عباس رضي الله عنهما قال لسعيد بن الجبير: «عَجِلت! إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة» (¬2). قال ابن حجر (¬3): «قال ابن عباس: عَجِلت، أي أسرعت في التفسير. وهذا الذي جزم به سعيد بن جبير قد جاء عنه من روايته عن ابن عباس مرفوعًا، فأخرج الطبري وابن أبي حاتم من طريق قيس بن الربيع عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ ... الحديث، وإسناده ضعيف، وهو ساقط لمخالفته هذا الحديث الصحيح، والمعنى: إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني، والخطاب لقريش خاصة، والقربى قرابة العصوبة والرحم، فكأنه قال احفظوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة ... والحاصل أن سعيد بن جبير ومن وافقه كعلي بن الحسين والسدي وعمرو بن شعيب فيما أخرجه الطبري عنهم حملوا الآية على أمر المخاطبين بأن يواددوا أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن عباس حملها على أن يواددوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل القرابة التي بينهم وبينه ... ويؤيد ذلك أن السورة مكية ... ويحتمل أن يكون هذا عامًّا خص بما دلت عليه آية الباب، والمعنى أن قريشًا كانت تصل أرحامها، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعوه فقال: صلوني كما تصلون غيري من أقاربكم» اهـ. وقال ابن تيمية (¬4): «جميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذوي قربى الإنسان، إنما قيل فيها (ذوي القربى) (¬5)، ولم يقل (في القربى)، فلما ذكر هنا ¬

(¬1) البخاري، كتاب تفسير القرآن: 4818 (¬2) السابق. (¬3) ابن حجر: فتح الباري (8/ 464 - 5) باختصار. (¬4) ابن تيمية: منهاج السنة (7/ 101). (¬5) مثال ذلك قول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (الأنفال: 41).

الشبهة الرابعة: آية التطهير

المصدر دون الاسم دل على أنه لم يُرِد ذوي القربى» اهـ. أيضًا، فإن قولهم مردود بقول الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (¬1). وهو قول الأنبياء من قبله، فهذا نوح - عليه السلام - يقول لقومه: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2)، وكذا قال هود (¬3)، وصالح (¬4)، ولوط (¬5)، وشعيب (¬6) عليهم الصلاة والسلام أجمعين. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسأل أجرًا، فكيف يدَّعون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم: أسألكم أجرًا واحدًا وهو أن تودُّوني في قرابتي؟! ... الشبهة الرابعة: آية التطهير: قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (¬7). يقول ابن المطهَّر الحُلِّي (¬8): «أجمع المفسرون وروى الجمهور أنها نزلت في رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين ... والكذب من الرجس، ولا خلاف في أن أمير المؤمنين - عليه السلام - ادَّعى الخلافة لنفسه، فيكون صادقًا» اهـ. أيضًا استدل الشيعة على ذلك بحديث الكساء، والذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها (¬9) أنها قالت: «خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة وعليه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ ¬

(¬1) ص: 86 (¬2) الشعراء: 109 (¬3) الشعراء: 127 (¬4) الشعراء: 145 (¬5) الشعراء: 164 (¬6) الشعراء: 180 (¬7) الأحزاب: 33 (¬8) ابن المطهر الحلي: نهج الحق وكشف الصدق، ص (173 - 5) باختصار. (¬9) وهذا يبين كذب المدعي أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يكتمون فضائل علي - رضي الله عنه -، فهذه عائشة رضي الله عنها التي يدعون أنها تبغض عليًا هي التي تروي الحديث في فضله ويخرجه الإمام مسلم في صحيحه.

تَطْهِيرًا}» (¬1)، وقالوا: إن الله تعالى أراد أن يذهب عنهم الرجس، وما يريده الله يقع، فإذا أذهب الله عنهم الرجس صاروا معصومين، فإذا صاروا معصومين فيجب أن يكونوا هم الأولى بالخلافة من غيرهم. والجواب كالآتي: أولًا: هذه الآية إنما نزلت في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (¬2). فإن قالوا: «قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، ولم يقل (عنكن) ولا (يطهركن)، فدل هذا على خروج نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - من التطهير ودخول علي وفاطمة والحسن والحسين بدليل الحديث»! فالجواب: أن هذا لا يصح لأن الآية متصلة بما بعدها، وهو قول الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (¬3)، فالخطاب كله في هذه الآيات لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم -. أيضًا، ذَكَر تعالى ميم الجمع بدلًا من نون النسوة لأن النساء دخل معهن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو رأس أهل بيته - صلى الله عليه وسلم -، لا لأن عليًا وفاطمة والحسن والحسين - رضي الله عنهم - دخلوا ضمن الآية، ودليل ذلك قول الله تعالى عن زوجة إبراهيم - عليه السلام -: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (¬4). ثانيًا: أن معنى أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعدَّى زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتعدَّى أيضًا عليًا وفاطمة والحسن والحسين - رضي الله عنهم - إلى غيرهم، ودليل ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أنه قال: «نساؤه - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرِمَ الصدقة بعده. هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس» (¬5). ¬

(¬1) مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 2424 (¬2) الأحزاب: 32 - 33 (¬3) الأحزاب: 34 (¬4) هود: 73 (¬5) مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 2408

الشبهة الخامسة: آية الولاية

ثالثًا: أنه لا دليل على العصمة، إذ كيف تدل الآية على العصمة وقد رووا عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: «فإني لست في نفسي بفوق ما أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني» (¬1)، ورووا كذلك أنه قال للحسن - رضي الله عنهم -: «أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم» (¬2)، وأنه قال له أيضًا: «وإن لم يجتمع لك ما تحب من نفسك وفراغ نظرك وفكرك فاعلم أنك إنما تخبط العشواء وتتورط الظلماء وليس بطالب الدين من خبط أو خلط» (¬3). رابعًا: المقصود بالإرادة في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} هي الإرادة الدينية الشرعية، وليست الإرادة الكونية القدرية، مثال ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا. يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (¬4). أيضًا، فقد روى الإمام الترمذي في سننه عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهِب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا» (¬5)، فإذا كان الله تعالى أذهب عنهم الرجس لماذا يدعو لهم - صلى الله عليه وسلم - بإذهابه؟! ولذا، فإن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على أن هذه الإرادة شرعية. ... الشبهة الخامسة: آية الولاية: قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (¬6). ¬

(¬1) الكليني: الروضة من الكافي (8/ 356)، رقم: 550 (¬2) نهج البلاغة، ص (576). (¬3) السابق، ص (577). (¬4) النساء: 26 - 28 (¬5) رواه الترمذي، كتاب المناقب: 3787، وصححه الألباني. (¬6) المائدة: 55

الشبهة السادسة: حديث المنزلة

يقول ابن المطهَّر الحُلِّي (¬1): «أجمعوا على نزولها في علي - عليه السلام -، وهو مذكور في الصحاح الستة، لمَّا تصدَّق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصحابة، والولي: هو المتصرف. وقد أثبت الله تعالى الولاية لذاته، وشرك معه الرسول، وأمير المؤمنين، وولاية الله عامة فهكذا النبي وأولاده» اهـ. والجواب من أوجه: أولًا: هذه القصة ليس لها سند صحيح، ولم يثبت عن علي - رضي الله عنه - أنه تصدق بالخاتم وهو راكع. ثانيًا: هم بذلك يريدون مدحًا لعلي - رضي الله عنه - فيذمُّونه، وذلك لأن الله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬2). ثالثًا: إن عليًا - رضي الله عنه - كان فقيرًا في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجب عليه التصدق. رابعًا: لو كان في هذه الآية مدحًا لمن يعطي الزكاة وهو راكع لصارت سُنَّة أن كل من يدفع الزكاة يدفعها وهو راكع لما في ذلك من مدح من الله تعالى. خامسًا: أن المراد بالركوع في هذه الآية هو كما يقول السعدي رحمه الله (¬3): «أي: خاضعون لله ذليلون». سادسًا: أن الآية جاءت بلفظ الجمع وعلي - رضي الله عنه - واحد، وإن قلنا إنه يمكن أن يُذكَر الجمع ويراد به المفرد إلا أن الأصل أنه إذا أطلق الجمع أريد به الجمع إلا بقرينة، ولا قرينة هنا. ... الشبهة السادسة: حديث المنزلة: روى البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك، واستخلف عليًا، فقال: «أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ألا ترضى أن تكون مني ¬

(¬1) ابن المطهر الحلي: نهج الحق وكشف الصدق، ص (172). (¬2) المؤمنون: 1 - 2 (¬3) تفسير السعدي، ص (249).

الشبهة السابعة: «علي مني وأنا من علي»

بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه ليس نبي بعدي» (¬1). فيقول الرافضة أن هذا دليل على أن عليًا - رضي الله عنه - هو الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الاستدلال باطل، بدليل: - أن هارون - عليه السلام - لم يخلف موسى - عليه السلام -، بل المشهور أن هارون تُوفي قبل موسى. - مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم - هو تشبيه موقف علي - رضي الله عنه - في استخلاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - له على أهل بيته بموقف هارون - عليه السلام - حينما ذهب موسى - عليه السلام - لميقات ربه، فاستخلفه على بني إسرائيل. - الرسول - صلى الله عليه وسلم - استخلفه على أهل بيته خاصة، أما الوالي على المدينة فكان محمد بن مسلمة - رضي الله عنه -. - أن عليًا - رضي الله عنه - هو الذي جاء واشتكى للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال له هذا الكلام. ... الشبهة السابعة: «علي مني وأنا من علي»: قالوا: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «علي مني وأنا من علي» دليل على أن عليًا هو الإمام بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهذا باطل؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال أيضًا عن جليبيب - رضي الله عنه - كما في مسلم: «هذا منِّي وأنا منه» (¬2)، فهل هذا يلزم أن يكون جليبيب خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ بل كيف يكون ذلك والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قالها وهو يدفن جليبيب - رضي الله عنه -! ... الشبهة الثامنة: «يا رب أصحابي!»: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يرد علي الحوض رجال من أصحابي، فيحلؤون عنه، فأقول: ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب المغازي: 4416 (¬2) رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 2472

الشبهة التاسعة: آية الفتح

يا رب أصحابي؟ فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري» (¬1). ولقد استغل أهل البدع هذا الحديث للطعن في عدالة الصحابة - رضي الله عنه -. والرد كالآتي: - المقصود (بأصحابي) في الحديث هم المنافقون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يظهرون الإسلام، وأولئك المنافقون لم يكن يعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، بدليل قول الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (¬2). - المقصود بكلمة أصحابي هو المعنى اللغوي لا المعنى الاصطلاحي للكلمة، بدليل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول حينما أراد أن يضرب عنق أبيه المنافق لقوله «لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل [يقصد محمد - صلى الله عليه وسلم -]، فقال - صلى الله عليه وسلم -: دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» (¬3). - قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى للبخاري: «إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ ناس دوني، فأقول: يا رب مني ومن أمتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم»، فكان ابن أبي مليكة [وهو تابعي] يقول: «اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نفتن عن ديننا» (¬4). ... الشبهة التاسعة: آية الفتح: قال الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الرقاق: 6586 (¬2) التوبة: 101 (¬3) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن: 4905 (¬4) البخاري، كتاب الرقاق: 6593

الشبهة العاشرة: في صلح الحديبية

الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). فيقول أهل الأهواء والبدع أن (منهم) هنا وردت للتبعيض أي (من بعضهم)، وفي هذا دليل على عدم وجوب عدالتهم، ومن ثم يفتح الباب للطعن فيهم. وهذا افتراء محض، وجوابه: يقول علماء التفسير إن (منهم) هنا ليست للتبعيض، وإنما هي على معنيين: - الأول: أي من جنسهم، بدليل قول الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} (¬2)، ولا يعني الله تعالى أن نجتنب بعض الأوثان ونترك بعضها لا نجتنبها، بل المطلوب أن نجتنب جميع الأوثان، و (من) هنا أي: من جنس هذه الأوثان. - الثاني: (من) هنا مؤكدة، كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (¬3)، فليس معناه أن بعضه شفاء ورحمة والبعض الآخر ليس كذلك، أبدًا، بل كله شفاء ورحمه، و (من) هنا مؤكدة (¬4). أضف إلى ذلك أن الله تعالى في قوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} زكَّى الصحابة في ظاهرهم، وزكى باطنهم في قوله سبحانه: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}، لا كما قال - عز وجل - في المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلًا} (¬5). ... الشبهة العاشرة: في صلح الحديبية: ومفادها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى عمرة الحديبية وبعد أن عقد الصلح مع قريش رجع ولم يعتمر، فأمر الصحابة - رضي الله عنهم - أن يحلقوا وينحروا فلم يستجب الصحابة لأمره - صلى الله عليه وسلم -، ثم انطلق حتى دخل على أم سلمة غضبان .. فيقول المبتدعة أن أصحاب الرسول - رضي الله عنه - أغضبوه وأمثال هؤلاء يستحيل أن يكونوا من العدول. ¬

(¬1) الفتح: 29 (¬2) الحج: 30 (¬3) الإسراء: 82 (¬4) راجع كلام الإمام القرطبي في تفسيره (19/ 346). (¬5) النساء: 142

الشبهة الحادية عشرة: «إنكن صواحب يوسف»

وجواب ذلك أن يقال: - في القصة نفسها، يقول عروة بن مسعود - كما عند البخاري -: «والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت مَلِكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - محمدًا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له» (¬1). - الأمر لم يكن معصية من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنهم كان لهم شوق لبيت الله الحرام، وتمنوا لو غيَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - رأيه أو أن يُنزل الله تعالى شيئًا من الوحي يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل مكة، ولذلك تأخروا في تنفيذ الأمر. والدليل على ذلك ما رواه البخاري في الحديث نفسه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر لأم سلمة رضي الله عنها ما لقي من الصحابة - رضي الله عنهم - فقالت له: «يا نبي الله، أتحب ذلك، اخرج لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا»، وذلك لما علموا أن الأمر قد انتهى وأنه لا مجال للرجوع. - ونقول للرافضة: أعلي - رضي الله عنه - كان معهم أم لا؟ بإجماع السنة والشيعة أن علي - رضي الله عنه - كان معهم، بل هو الذي كتب كتاب الصلح بين النبي - رضي الله عنه - وسهيل بن عمرو، وعلي كذلك لم ينحر ولم يحلق، فما كان ذمًا لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ذم لعلي - رضي الله عنه -، غير أن علي - رضي الله عنه - رفض أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحو اسمه، فهل يُذَم بهذا؟! ... الشبهة الحادية عشرة: «إنكن صواحب يوسف»: روى البخاري رحمه الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة رضي الله عنها: «مري أبا بكر يُصَلي بالناس، فقالت: إن أبا بكر رجل أسيف (¬2)، إن يقم مقامك يبك، فلا يقدر على القراءة»، فقال لها ¬

(¬1) البخاري، كتاب الشروط: 2731 (¬2) أي رقيق رحيم كثير البكاء.

الشبهة الثانية عشرة: «هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده»

النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنكن صواحب يوسف» (¬1)، فما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها؟ يريد - صلى الله عليه وسلم - كما فعلت امرأة العزيز: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (¬2)، ظاهر الأمر أنها تريد إكرام أولئك النسوة إذ أحضرت الفاكهة والسكاكين ومتكأ ليأكلن، وحقيقة الأمر أنها كانت تريد أن تريهن يوسف - عليه السلام -. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لعائشة أنت تقولين رجل أسيف وأنت ما تريدين أنه رجل أسيف، ولكن أنت تريدين شيئًا آخر في نفسك، وقد صرحت عائشة رضي الله عنها بهذا فقالت كما في البخاري: «لقد راجعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلًا قام مقامه أبدًا، ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أبي بكر»، فهذا معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنكن صواحب يوسف». ... الشبهة الثانية عشرة: «هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده»: روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هلُّم أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول قرِّبوا يكتب لكم النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابًا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوموا» (¬3). استغل المبتدعة هذا الحديث للطعن في عمر - رضي الله عنه - من وجوه، منها: أنه رد قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله كلها وحي، لقوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأذان: 712 (¬2) يوسف: 317 (¬3) رواه البخاري، كتاب المرضى: 5669

يُوحَى} (¬1)، وردّ الوحي كُفر لقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2). والجواب: أن هذا القول صدر من الفاروق - رضي الله عنه - ولم يقصد به أن يَرُدّ قوله - صلى الله عليه وسلم -، بل قصد راحته ورفع الحرج عنه - صلى الله عليه وسلم - في حال شدة المرض، إذ كل محب لا يرضى أن يتعب محبوبه ولا سيما في المرض، مع عدم كون ذلك أمرًا ضروريًا، ولم يخاطب بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل خاطب الحاضرين تأدبًا، وأثبت الاستغناء عن ذلك بقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬3)، والذي به انسد باب النسخ والتبديل والزيادة والنقصان في الدين (¬4). ... كانت هذه نبذة يسيرة عن الرافضة وعن عقائد أسلافهم، حيث أن هذا الكتاب لا يسع ذلك على سبيل الاستقصاء. ويعلم الله تعالى ما كابدت من أجل الوصول إلى أعالي الأسانيد توثيقًا لما ذكرت، وذلك كي لا يقول قائل أن ما ذكرته هو من جملة الافتراءات والتشنيع عليهم. ولئن طالتني ألسنة الجرح، فأقول كما قال الشاعر: قيل إن الإله ذو ولد ... قيل إن الرسول قد كهنا ما نجا الله والرسول معًا ... من لسان الورى فكيف أنا؟! {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (¬5) ... ¬

(¬1) النجم: 3 - 4 (¬2) المائدة: 44 (¬3) المائدة: 3 (¬4) محمود شكري الألوسي: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص (275) باختصار. (¬5) غافر: 44

الخاتمة

الخاتمة

- - {الخاتمة} - - الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد .. فهذا ما انتهيت إليه بفضل الله تعالى وحده وتوفيقه، و {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ} (¬1)، فما كان فيه من صواب فمن الله - عز وجل -، وما كان من خطأ أو نسيان فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكِّر به وأنساه، فإني {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (¬2). وما أجمل ما كتبه القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني (526 - 596هـ) للعماد الأصفهاني (519 - 597هـ) فقال (¬3): «إني رأيت أنه لا يكتُب إنسان كتابًا في يوم إلا قال غَدِهِ لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زِيدَ لكان يُستَحْسَن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِكَ هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِبَر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر» اهـ. فيا أيها العزيز قد جئتك ببضاعة مزجاة فأوف لي الكيل وتصدق عليَّ، إنك أنت العفو الكريم سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين ¬

(¬1) الأعراف: 43 (¬2) الأنعام: 56 (¬3) حاجي خليفة (1017 - 1067هـ): كشف الظنون (1/ 18).

فِي وَقْتٍ تُغْلِقُ فِيهِ أُمَمٌ أبوَابَهَا فِي وَجْهِ حِصَانٍ خَشَبِيٍّ دَمِيمْ ... وَجَدْتُ دَارَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ تَفْتَحُ لَهُ بَابَهَا عَلَى مِصْرَاعَيْهِ وَتَسْتَقْبِلُهُ بالزُّهُورِ والمَرَاسِيمْ ... قَبِلَتْهُ هَدِيَّةً مِنْ عَدُوٍ لَئِيمٍ حَسِبَتْهُ مُحِبًّا كَرِيمًا لِلسَّلَامِ مُقِيمًا ... فَهَلَّا أفَاقَتْ أُمَّتِي قَبْلَ أن يُخَيِّمَ الَّليْلُ بِسَوَادِهِ ويَلْفِظَ الْحِصَانُ مَا فِي بَطْنِهِ مِنْ سَمُومٍ وَحَمِيمْ ... وَكَأنِّي بِكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَائِلًا: "فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَأنتُم تَقَحَّمُونَ فِيهَا" ... وَإليهِ وَحْدَهُ المُشْتَكَى، اللهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمْ. عمرو كامل عمر

تقريظ الشيخ أحمد السيسي حفظه الله تعالى هذا كتاب جديد يشق طريقه فى عالم المطبوعات إلى صدور المكتبات، يحمل بصمة شابة هو الدكتور عمرو كامل، الذى واصل التنقير والتفتيش وجرد المراجع خلال خمس سنوات، حتى استطاع إكمال البحث الشامل فى موضوع حيوي جدير بالبحث والدراسة، وأنصح إخوانى بقراءة هذا الكتاب لاكتشاف معالمه والانتفاع بمادته، وهو كتاب: حصان طروادة: الغارة الفكرية على الديار السنية. أحمد السيسي 21 جمادى الأولى 1432هـ 24 إبريل 2011م

§1/1