حسن التنبه لما ورد في التشبه
الغزي، نجم الدين
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ «وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ» تَألِيف العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة 977 هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة 1061 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى تَحقِيقَ وَدِرَاسَة لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ بِإِشْرَافِ نُورِ الدِّين طَالِب دَارُ النَّوادِرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 7 - 84 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
مقدمة التحقيق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدِّمَة التَّحقِيق إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أمّا بعد: فإن الله- سبحانه وتعالى- قد جعل هذه الأمة وسطاً بين الأمم، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. والوسط هو: الخيار والأجود. ولذا خصَّها - سبحانه وتعالى- بأكمل الشرائع، وأنهج السبل، وشرَّفها بمكارم الأخلاق ومعاليها، وكرَّه لها سفاسفها وأدانيها، فحثَّهم وأمرهم بالتشبه بمن امتدحهم في كتابه، وأنالهم الدرجة الرفيعة المبينة في آياته من قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ
مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} [المجادلة: 22]. وقال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113 - 114]. وقال- جلَّ شأنه-: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على معالم أولي الأخلاق من الأنبياء والصالحين ومكانتهم وفضلهم. ثم إن الله تعالى لما أراد لهذه الأمة أن تكون خير الأمم، وأكثرَها هدًى وبصيرة، حذَّرها من سلوك طرق الضلالة والهلاك، والتشبه بمن ظلم نفسه، وزاغ عن المنهج القويم الذي ارتضاه - سبحانه وتعالى- لبني آدم؛ فقال- جل جلاله- في جملة آيات كثيرة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
في فلك هذه الآيات وغيرها ألَّف العلاَّمة نجمُ الدين الغزيُّ كتابه الموسوم بـ "حسن التنبه لما ورد في التشبه"، والذي يُعدُّ أجمعَ موسوعة قرآنية حديثية فقهية وعظية في هذا الباب؛ حيث لم يعهد له مثالٌ سابق، ولا شبيهٌ لاحِق، جرَّد لتأليفه مطيَّة العزم والهمَّة، وبثَّ فيه أشياء مهمَّة، وقد بقي في تأليفه قرابة الأربعين عاماً يحرِّر وينقح، ويزيد ويفيد. وقد ذكر فيه من يحسُنُ التشبهُ بهم من الملائكة والأخيار من بني آدم والصالحين والشهداء والصديقين والنبيين، والتخلُّقُ بأخلاقهم وصفاتهم وأعمالهم. ثم ذكر مَنْ لا يحسُن التشبهُ بهم من الشياطين، وكَفَرَة الأقوام الغابرة؛ كقوم نوح وعاد وثمود وفرعون، ثم أهل الكتاب والأعاجم وأهل الجاهلية والمنافقين والمبتدعة والفاسقين. ثم ختم الكتاب بفصل عزيز نفيس في التوبة والإنابة. وقد حَفَل هذا المؤلَّف بجملة وافرة من الاستشهاد بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية والآثار. وبثَّ فيه فوائد ومسائل كثيرة فقهية، ونثر الأجوبة والفتاوى للمرضِيَّة، وعُني فيه بذكر تفاسير الأئمة، وشرح غريب القرآن والسنة النبوية. وحلاَّه بأشعاره التي طابت معانيها، وحسُنت مبانيها، وشَرُفت مراميها.
وقد ناهزت موارده المئةَ مَورد وزيادة؛ من مؤلَّفٍ حديثيٍّ، وتفسيريٍّ، وفقهيٍّ، ووعظيٍّ إرشاديٍّ. فجاء كتاباً بديعاً، مفيداً، جامعاً لكل ما هو مستحسَنٌ في الشرع وغيرُ مستحسن، حافلاً بتحقيقاته النفيسة، وفوائده الجليلة، وتنبيهاته القيمة، وإشاراته اللطيفة، فكان بحقٍّ - كما وصفه مؤلِّفه بأنه -: كتاب كريم، تطمئن إليه قلوب الأتقياء، وتنشرح له صدور الفضلاء، وتنقبض منه نفوس أهل الآراء الفاسدة والأهواء (¬1). وكان - جزماً - كتاباً موضوعاً لطريق العمل بمقتضى العقل والعلم اللذين بهما يصير الإنسان إنسانا كاملاً، فمن ظفر بهذا الكتاب، وتمسك به، وعمل بما فيه، كان إنسانا كاملاً، وبشراً سوياً، ورُجي له زيادة الهداية من الله تعالى، كما قال - سبحانه وتعالى -: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]. وهذا الكتاب إنما هو للإرشاد إلى أن يتجرد العبد عن مساوئ الأخلاق والأعمال والأقوال، ويتبدل بها محاسن الأخلاق والأعمال والأقوال (¬2). هذا، وقد وفقنا الله تعالى للوقوف على ثلاث نسخ خطية للكتاب؛ أجلُّها النسخة الخطية التي كتبها المؤلف - رحمه الله - بخطه، ثم النسخة الخطية التي كتبت في حياته، وعليها تعليقاته بخطه، ثم نسخة ¬
ثالثة مفيدة في مجملها. وإذ نشكر الله تعالى على إخراج هذا السِّفْر الجليل لأول مرة بهذه الحُلَّة وهذا الجهد الذي نَحْسَبه قد بلغ الغاية المنشودة - بإذن الله - تحقيقاً وإخراجاً، لابدَّ من توجيه الشكر والثناء إلى اللجنة العلمية التي قامت على تحقيق هذا العمل المبارك - إن شاء الله - وهم الأساتذة والباحثون الأفاضل: 1 - محمَّد خَلُّوف العبد الله. 2 - د. محمود أحمد صالح. 3 - جمال عبد الرَّحيم الفارس. والشكرُ موصولٌ لجميع الإخوة الأفاضل والأخوات الفاضلات، الذين وفِّقوا في مجال النَّسخ والمراقبة والمقابلة والتنضيد والفهرسة لهذا الكتاب. هذا وصلى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. حَرَّرَهُ نُوْرُ الدِّيْن طَالِب دمشق الشام 17/ ربيع الأول/ 1432
الفصل الأول ترجمة العلامة نجم الدين الغزي
الفَصْلُ الأَوَّلُ تَرْجَمَةُ العَلاَّمَة نَجمِ الدِّينِ الغَزِّي (¬1) مُحمَّدُ بنُ محمدِ بنِ محمدِ بنِ محمدِ بنِ أحمدَ بنِ عبدِ الله بنِ مُفرِّجِ ابنِ بدرٍ، وتقدم تَمامُ النَّسبِ في ترجمة أخيه أبي الطَّيب (¬2). ¬
محدِّثُ الشام، ومسندُها، الشيخُ الإمام، نجم الدين، أبو المكارم، وأبو السعود، بن بدر الدين، بن رضي الدين، الغزي، العامري، الدمشقي (¬1)، الشافعي، شيخ الإسلام، ملحِقُ الأحفاد بالأجداد (¬2)، المتفرِّدُ بعلوِّ الإسناد. ترجم نفسَه في كتابه "بُلْغةُ الواجد" في ترجمة والده البدر، فقال: مولدي كما رأيتُه بخط شيخ الإسلام: يوم الأربعاء، حادي عشر شعبان المكرم، سنة سبع وسبعين وتسع مئة، وسطَ النهار، وقتَ الظهيرة، ودعا لي الوالد بعدما كتب ميلادي؛ فقال: أنشاه الله تعالى وعَمَّره، واجعله ولداً صالحاً برًّا تقياً، واكَفَاه واحَمَاه من بلاء الدنيا والآخرة، ¬
وجعله من عباده الصالحين، وحزبه المفلحين، وعلمائه العاملين (¬1)، ببركة سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وحسبنا الله نعم الوكيل. انتهى ما وجدته بخط الشيخ الوالد. ولا بأس بذكر شيء مما منَّ الله تعالى عليَّ به على عادة علماء الحديث، دان كنتُ في نفسي مقصِّراً، وعن حَلْبة العلماء مقهقِراً، فأقول: ¬
رُبّيت في حِجْر والدي وتحت كَنَفه حتى بلغتُ سبعَ سنوات، وقرأتُ عليه من كتاب الله تعالى قِصَار المُفَصَّل، وحضرتُ بين يديه يومَ عيدِ الفطر عامَ وفاتِه، وقلتُ: يا سيدي! أريد أنْ أقرأَ عليك من أوَّل البقرة، قال: وتعرف تقرؤها؟ قلت: نعم، قال: هاتِ المصحفَ، فجئتُه به، فقرأتُ عليه الفاتحةَ، ثمَّ مِنْ أوَّل البقرة إلى {الْمُفْلِحُونَ}، فقال لي: يكفيكَ إلى هنا، فأطبقتُ المصحفَ بعد أن لقَّنني: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وأنعمَ عليَّ حينئذ بأربعِ قِطَعِ فِضَّةٍ ترغيباً لي، وأمرني وأنا ابنُ ستِّ سنواتٍ أن أصومَ رمضانَ، ويعطيَني في كلِّ يومٍ قطعةَ فِضَّة، فصُمتُ مُعظمَ الشهر، وكان ذلك ترغيباً منه وحُسنَ تربية، وصُمتُ رمضانَ السنةَ التي ماتَ فيها إلا يوماً أو يومين وأنا ابنُ سبع (¬1)، وبقيت أجلس معه للسحور، وكان يدعو لي كثيراً، وأحْضَرني دروسَه (¬2) أنا ¬
وأخي الشيخُ كمالُ الدِّين في سنة اثنتين وثمانين، وثلاث وثمانين، وأربع وثمانين. وحدَّثتني والدتي عنه: أنه كان يقول: إنْ أحياني اللهُ تعالى حتَّى يكبُرَ نجمُ الدِّينِ، أقرأْتُه في كتاب "التنبيه"، وأجازني فيمن حضر دروسه إجازةً خاصة، وأجازني في حزبه الذي كتبه لمفتي مكةَ الشيخِ قُطْبِ الدِّين إجازةً عامةً في عموم أهل عصره من المسلمين (¬1). ثم رُبِّيت بعد وفاته في حِجر والدتي أنا وإخوتي، فأحسنَتْ تربيتَنا، ووفَّرتْ حُرمتَنا، وعلَّمتْنَا الصلواتِ والآدابَ، وحَرَصَتْ على تعليمنا القرآنَ، وجَازَتْ شيوخَنا على ذلك وكافأَتْهُم، وقامَتْ في كَفالتنا بما هو فوقَ ما تقوم به الرِّجالُ، مترمّلةً علينا، راغبةً من الله سبحانه في حُسن الثواب والنَّوال، وجزيل الحَظِّ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أولُ مَنْ يَفْتَحُ بَابَ الجَنَّةِ، أَلاَ إِني أَرَى امْرَأةً تُبادِرُني، فأقولُ لها: مَالَكِ؟ ومَنْ أنتِ؟ فتقول: أنا امرأةٌ قَعَدْتُ على أيتامٍ لي" رواه أبو يعلى من حديث أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، قال الحافظ المُنذري: "وإسناده حسن - إن شاء الله تعالى -. ¬
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أَنا وامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الخَدَّينِ كَهَاتَيْن يَوْمَ القِيَامَةِ"، وأومأ بيده - يزيد بنُ زُريعٍ: السَّبَّابةَ والوسطى - "وامرأةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجهَا، ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمالٍ، حَبَسَتْ نَفْسَها عَلَى يَتَامَاهَا حتَّى بَاتُوا أَوْ مَاتُوا"، رواه أبو داود، عن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه -. قال الخَطَّابي: السَّفعاء: التي تَغَيَّر لونُها إلى الكُمُودة والسَّواد من طول الأيمة؛ يريد بذلك: أنها حبسَتْ نفسَها على أولادها، ولم تتزوج فتحتاج إلى الزِّينة والتصنُّع للزوج. فجزاها الله عنَّا أحسنَ الجزاء، وعَوَّضها عَمَّا تركَتْ من أجله لوجهه في دار البقاء. وساعدها على ذلك كلِّه شقيقُها الخَواجا زينُ الدين عمر بن الخواجا بدر الدين حسن بن سبت، وأجزل إلينا خيراً، وكانت معيشتُنا من رَيعِ وَقْفِ جَدِّنا ومُلكِ أبينا وميراثِه الذي تلقَّيناه عنه، أحسنَتْ والدتُنا التصرفَ في أموالنا، وفي مُؤْنتنا وكسوتنا، ولم تُحَمِّلْنا مِنَّة أحدٍ قطُّ، وتقول: هو ببركة والدهم (¬1)، ثم إنها - أعزَّها الله ومَدَّ في أجلها - أشغلتنا بقراءة القرآن، وطلب العلم؛ فقرأتُ القرآنَ على الشيخ عثمان اليماني. ثم نقلني الوالدُ قبل وفاته إلى الشيخ يحيى العماري (¬2)، فختمت ¬
عليه القرآن مراتٍ، وأقرأني في "الأجرومية"، و"الجزرية"، و "الشاطبية"، و "الألفية"، تصحيحاً وحفظاً لبعضهنَّ، وحفِظْتُ عليه معظمَ القرآن. قلتُ: وقد ترجمَهُ في "الكواكب"، وقال: إنه كان من أولياء الله تعالى ممن تُطوى له الأرض. قال: ثم أخذتُ في طلب العلم، فتردَّدتُ إلى مجلس الشيخ العلاَّمةِ زينِ الدينِ عمرَ بنِ سلطان مفتي الحنفية، فقرأت عليه "الأجرومية" حفظاً وحلاًّ، وشَرْحَهَا للشيخ خالد. ثم لزِمْتُ درسَ شيخنا شيخ الإسلامِ شهابِ الدينِ العيثاويِّ (¬1)، فقرأت عليه "شرح الجزرية" للمكودي، وقرأت عليه "شرح المنهاج" بتمامه إلَّا فرقاً يسيراً من أواسطه وأواخره، ولكن سمعت عليه ما فاتني، وقرأت عليه نصفَ "شرح المنهاج الصغير" الأول لشيخ الإسلام والدي، وسمعتُ عليه مواضعَ صالحةً من "شرح المحلَّى"، وقرأت من أوائل "شرح البهجة" للقاضي زكريا، وسمعت عليه من أول "الإرشاد" وأوسطه بقراءة الشيخ محمد بن داود، وصاحبِه الشيخِ محمد الزوكاري الصالحيين، وسمعتُ عليه "عقيدة الشيباني" بقراءة أبي الصفاء بن الحمصي، وله عليَّ تربية وحُنُوٌّ وعطفٌ، وهو أعزُّ شيوخي عندي، وأحبُّهم إليَّ - جزاهم الله عني خيراً -، وقرأتُ عليه ¬
في الحديث من أول البخاري وغيره، وإلى الآن في صحبته من سنة إحدى وتسعين وتسع مئة ثلاثَ عشرة سنة - أطال الله صحبتَنا، ومتَّعني بحياته، ونفعني ببركته (¬1) -. ولزِمْتُ شيخَنا مفتي الفِرَق شيخَ الإسلام أبا الفضل محمد محبّ الدين القاضي الحنفي (¬2) - أعزَّ الله جانبه -، فقرأتُ "شرحَه على منظومة الشيخ العلامة محب الدين بن الشحنة"؛ كما تقدم في ترجمته، ومن أوائل "المُطَوَّل"، وقرأتُ عليه نحو ربع "صحيح البخاريِّ"، وكتب لي به وبغيره إجازة بخطِّه، وهو - متَّع الله بحياته - إلى الآن يُوصِلُ إلينا إحسانَه وإنعامَه، علماً وثناءً ومالاً، وغير ذلك مما لا نستطيع مكافأته إلَّا أن يجازيَهُ الله عنَّا أحسنَ الجزاء، ويمتِّعنا بحياته وعلومِه ما تعاقب الصباحُ والمساء. وقرأت على السيد الشريف، الحسيب النسيب، الامام، العلامة، اللَّوْذَعِيِّ المحقِّقِ، الفَهَّامة، قاضي القضاة في حلب، ثم المدينةِ، ثم آمد بضميمة الإفتاء بها وقضاءِ البيرةِ السيدِ محمدِ بنِ السيدِ محمدِ بنِ السيدِ حسنٍ السُّعوديّ - تغمَّده الله تعالى برحمته - حين قدم علينا دمشق الشام ¬
في سنة ثمان وتسعين وتسع مئة، مواضعَ من "تفسير القاضي العلامة ناصرِ الدين البيضاوي"، منها: تفسير قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الآيتين بإشارته، وأجازني بمروياته، منها: "تفسير المفتي الأعظم والإمام الأقدم أبي السُّعود محمد بن العمادي - رحمه الله تعالى"، ولم أر في موالي الروم أذكى منه، ولا أرغبَ في العلم منه - رحمه الله تعالى -. وأجازني من المصريين شيخُنا شيخ الإسلام شمسُ الدين الرمليُّ المِصْريُّ، وشيخُنا العارف بالله تعالى الأستاذُ الأعظم زينُ العابدين البَكْريُّ - متَّع الله بحياتهما -، كتابةً إلي. قلت: وسمع المُسلسل بالأولية من محدِّث حلب شيخِ الإسلام محمودِ بنِ محمدٍ البيلونيِّ الشافعيِّ حين قدم دمشقَ في سنة سبع بعد الألف، وأجازه بمروياته. وأخذ عن محدِّث مكةَ المشرفةِ شيخِ الإسلام الشمسِ محمدِ بنِ عبدِ العزيزِ الزَّمزميِّ الشافعيِّ في سنة سبع بعد الألف. قال: وفتح الله تعالى عليَّ بالنظم والنثر والتأليف من سنة إحدى وتسعين وتسع مئة، وذَكَرَ من شعره قولَه: لو بُحْتُ بالحبّ الذي ... أَضْنى الفؤادَ وكَلَّما لَبَكى لِيَ الصخرُ الأَصَـ ... ـــــــمُّ وكاد أنْ يتكلَّما ثم قال بعد ذلك: ودخلتُ في يوم عرفةَ سنة اثنتين وتسعين وتسع مئة على شيخ الإسلام الشيخِ إسماعيلَ النابُلُسيِّ أهنِّيه بالعيد،
فرأيت عنده جماعةً، منهم: شيخنا العلامة المنلا أسدُ بنُ مُعينِ الدِّين. أقول: فعُلم من قوله ذلك: أن المنلا أسداً من مشايخه، ثم رأيتُه ذكر في ترجمة الأسد في "الكواكب": أنه قرأ عليه في "شرح الشذور" لابن هشام، ودروساً من "شرح الجاربردي على الشافية". ثم قال: ومن مؤلفاتي: "نظم الأجرومية"، سميته: "الحُلَّة البَهِيَّة"، واقتديت في نظمها بوالدي لـ "شرح الأجرومية"، لطيف ممزوج. و"شرح القَطْر" لابن هشام. و"شرح القواعد" لابن هشام - أيضاً -. و"شرح منظومة والدي في النحو" نظماً في أربعة آلاف بيت سميته: "المِنْحة النجميَّة في شرح المُلْحَة البدريَّة"، قرَّظ العلماء عليها. و"منظومة في النحو" مئة بيت. و"منظومة في التصريف والخط" كذلك مئة بيت. و"نظم العقيان في مورثات الفقر والنسيان" للناجي، وهو غير نظم الجد الشيخ رضيِّ الدين. ومختصر في النحو سميته: "البهجة". وكتبتُ قطعة على "التوضيح" لابن هشام.
وقطعة على "الشافية" لابن الحاجب. و"شرح لامية الأفعال" لابن مالك في التصريف في شرحين ممزوجين، الأول منظوم من بحر الأصل، وقافيته في نحو ألف بيت. ونظم شرح شيخنا علامة العصر المحبِّ الحَمَويِّ على منظومة العلامة المحبِّ بن الشحنة في المعاني والبيان. و"نظم فرائض المنهاج" في الفقه. و"شرح منظومة والدي" في ضبط شأن القاعدة الفقهية: كلُّ ما كان أكثرَ عملاً أو أشقَّ، فهو أكثر في الثواب، وسميته: "تحفة الطلاب". وشرحت أبياتاً لصاحبنا الشيخِ أبي الوفا الحَمَوي العَبْدَري في شروط تكبيرة الإحرام، بالتماس منه، في شرحين: الأول منثور سميته: "الدرة المنيرة في شروط التكبيرة"، والثاني منظوم سميته: "تحفة النظام في تكبيرة الإحرام". وشرحت كتاب "اللآلئ المُبْدَعة في الكتابات المخترعة" لشيخ الإسلام الجد. ونظمت "خصائص الجمعة" في منظومة سميتها: "اللآلئ المجتمعة". ونظمت كتاب "رواة الأساطين في عدم الدخول على السلاطين" للشيخ السيوطي. واختصرت كتاب "المنهل الرَّوِيّ في الطبِّ النبويِّ" له - أيضاً - في مختصر سميته: "المختار".
وكتبت شرحاً حافلاً على قول الشيخ علوان الحموي - رحمه الله تعالى -: وشَرعٍ وحَقٍّ وحَقٍّ وشرعٍ ... وجَمْع وفَرْقٍ وفرقٍ وجَمْعِ ينال الفتى كلَّ ما يشتهي ... بتنزيهِ طَرْفٍ وتقديسِ سَمْعِ وتركِ هوًى باتباعِ الهوى ... وتأديبِ نفْسٍ وتنزيهِ طَبْعِ عليكَ بها إنَّها إنَّها ... جِماعٌ لخيرٍ ومفتاحُ جَمْعِ وسميته كتاب: "الهَمْع الهَتَّان في شرح أبيات الجمع للشيخ عُلوان". وأعظمُ مؤلفاتي الآن: "شرحي على ألفية التصوف" لشيخ الإسلام الجد المسمى بـ: "منبر التوحيد ومظهر التفريد في شرح جمع الجوهر الفريد في أدب الصوفي والمريد"، وهو كتاب حافل جمعتُ فيه جميعَ أحكام الطريق، ووفيت فيه شروط الشرع في عين التحقيق، وهو وكلُّ مؤلفاتي التي أشرتُ إليها الآن كواملُ بفضل الله، ما عدا "شرح التوضيح"، و"شرح الشافيه", و"شرح اللآلئ المُبْدَعة"، لكن الأخير مُشْرِفٌ على الكمال. وفي عزمي الآن أَنْ أكتبَ في الفقه كتاباً حافلاً، وأنا شارع في مؤلفاتٍ أخرى، أسأل الله تعالى التوفيق. ومن مؤلفاتي التي كملت الآن - أيضاً -: "مجالسي" في تفسير سورة الإسراء، التي أمليتُها في سنة ثمان
وتسعين وتسع مئة. و"مجالسي" التي أمليتها في السنتين بعدها إلى آخر سورة طه. ثم تركت تدريسَ مجالسِ وعظي، وجعلتُ أُمليها على ما يُفيض الله من سَيْب فضله ويفتح. ومن مؤلفاتي - أيضاً -: هذا الكتاب الحافل المُسمَّى: "بُلغة الواجد في ترجمة شيخ الإسلام الوالد"، وفي ضمنها أربعون حديثاً من مسموعاتي كما تراها مسطَّرة في الباب السابع، ونسأل اللهَ تعالى التوفيق. وقد قرَّظ أكابرُ علماء مصر والشام على شرحي "الملحة البدرية"، وشرحي على منظومة ابن الشحنة. ا. هـ كلامه، ثم ذكر شيئاً من التقاريظ. أقول (¬1): ومن مؤلفاته - أيضاً -: كتاب "عقد النظام لعقد الكلام"، وهو كتاب غريب الوضع، مبني على مقولات للسلف في النصيحة والزهد وأشباههما، ثم ينظم تلك المقولات، ويذكر نظمه عند آخر كلِّ مقولة، نقلتُ منه أشياء، منها: ذكر النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" عن الإمام الشافعي: أنه قال: ما أفلح في العلم إلا مَنْ طلبه في القلة، ولقد كنت أطلب القِرطاس، فيعسُر عليَّ، وقال: لا يطلب أحدٌ هذا العلمَ بالمال وعزِّ ¬
النفس فيفلح، ولكن مَنْ طلبه بذِلَّةِ النفس، وضيقِ العيش، وخدمةِ المعلِّم، والتواضعِ في النفس، أفلحَ. قال: وقلت في معناه هذا: مَنْ يطلبِ العلمَ بذلٍّ وضِيـ ... ـــــقِ العيشِ والخدمةِ والإِنقطاعْ فَهْوَ الذي يُفْلِحُ لا مَنْ غَدَا ... يَطْلُبُه بالعِزِّ والإِتِّساعْ وقلت: مَنْ يطلبِ العلمَ بعزِّ الغنى ... يَبطَرْ ولا يُفلِحْ بما يَصْنعُ للعلم طُغْيانٌ كما للغِنَى ... والعلمُ بالطُّغيانِ لا يَنْفَعُ لايبلغُ العالمُ شأوَ العُلاَ ... إلَّا التَّقيُّ الأَرْوَعُ الأَوْرَعُ ومنها: عن أبي سليمان الدَّاراني - رضي الله عنه -، قال: لو اجتمع الخلقُ جميعاً أن يضعوا عملي كما عند نفسي، ما قدروا على ذلك، قال: وقد ضمَّنت كلامه - رضي الله عنه - في قولي: قُلْ لنفسي: إنْ تُراعي ... حَق رَبِّي لن تُراعي إنما نقصٌ وضَعْفٌ ... وانتقاصٌ من طِباعي مَنْ يَضَعْ مني وَيجْهَدْ ... لَمْ يَضَعْني كاتِّضاعي إنَ عِرْفانِي بِنَفْسي ... قد كفاني وَعْظَ واعي إنَّمَا الدُّنيا متاعٌ ... لم يَدُمْ فيها انتفاعي
إنَّمَا يُسْعى لدارٍ ... لم تَضِعْ فيها المساعي دارِ تكريمٍ إليها ... قد دعاني كُلُّ داعي وله: كتاب: "تحبير العبارات في تحرير الأمارات"، وهو - أيضاً - عجيب، نَقَلَ فيه ما نصُّه: يُبتلى المغتابُ بأن يُغتاب؛ روى أبو الشيخ ابن حيان في كتاب "النكت والنوادر" عن عبد الله بن وهب، قال: قال مالكُ بنُ أنسٍ - رضي الله عنه -: كان عندنا بالمدينة قومٌ لا عيوبَ لهم، تكلَّموا في عيوب الناس، فصارت لهم عيوبٌ، وكان عندنا قومٌ لهم عيوبٌ، سكتوا عن عيوب الناس، فَنُسِيت عيوبهم، قلت: عَائِبُ الناسِ وإنْ كا ... ن سليماً يُستَعَابْ والذي يُمْسِكُ عن عَيْ ... ــــــبِ الوَرَى سوفَ يُهاب ما دخولُ المرءِ فيما ... ليس يَعْنيه صواب وذكر فيه - أيضاً -: روى أبو الشيخ عن مُطرِّفٍ، قال: قال لي مالكُ ابنُ أنسٍ - رضي الله عنه -: ما تقول الناسُ فيَّ؟ قلت: أمَّا الصَّديق، فيثني، وأما العدوُّ، فيقع، فقال: ما زال الناسُ كذلك، لهم صديقٌ وعدوٌّ، ولكن نعوذ بالله من تَتَابعِ الألسنِ كلِّها، وقلت: لا تَرَى كاملاً خَلا ... من عَدُوٍّ يَعيبُهْ بَلْ لَهُ مِنْ سِبابِهِ ... وأذاهُ نَصيبُهْ أحمقُ الناسِ مَن يَرَى ... أَنَّ ذا لا يُصيبُهْ
وأخو الكَيْسِ قد رَجَا ... اللهَ عنهُ يُثيبُهْ حَسْبُهُ اللهُ ربُّهُ ... فَهْوَ عنه يَنوبُه ونقل فيه - عندَ ذكر أمارات الصبيان -، قال: ومن لطائف العلامة الشيخ زين الدين عمرَ بنِ المظفر الوردي، وقد ولي السلطنةَ صبيٌّ مميزٌ غير بالغ: سُلطاننُا اليومَ طفلٌ والأكابر في ... خُلْفٍ وبينهمُ الشيطانُ قد نزَغا وكيف يطمعُ مَنْ مسَّتْهُ مَظْلمَةٌ ... أن يبلغَ السُّؤْلَ والسُّلطانُ ما بَلَغا وله: كتاب: "التنبيه في التشبيه"، وهو كتاب بديع في سبع مجلدات، في قِطْع النصف، لم يُسبق إلى تأليفه، وهو: أن يذكر ما ينبغي للإنسان ما يتشبه به من أفعال الأنبياء والملائكة والحيوانات المحمودة، وما يتشبه به من اجتناب ما يُذَمُّ فعلُه، رأيته، ونقلتُ منه أشياء لطيفة، منها: قوله: لقد مرَّ بي - في بعض مجالسي من نحو عشرين سنة -: أني دعوتُ الله تعالى، فقلتُ: اللهمَّ! اجعلْنا من الصالحين، فإن لم تجعلْنا من الصالحين، فاجعلْنا من المخلِّطين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخرَ سيئاً، أو ما هذا معناه، فَبَعْدَ انقضاء المجلس، اعترض عليَّ بعضُ السامعين، فقال: يا سيدي! كيف تدعو الله أن يجعلنا
من المخلِّطين، والمعصيةُ مقررةٌ فيهم؟ قلت: سبحان الله! والعملُ الصالح مقرَّرٌ فيهم - أيضاً -، وهو أولى من أن نكون من المُصِرِّين، {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}، ثم وقفتُ على كلام مُطَرِّفٍ، وهو ما روى البيهقيُّ عن مطرِّفٍ، قال: إني لأستلقي في الليل على فراشي، وأتدبَّرُ القرآنَ، فأعرِض نفسي على أعمالِ أهلِ الجنة، فإذا أعمالُهم شديدة: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}، {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا}، فلا أُراني منهم، فأعرض نفسي على هذه الآية: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} , فأرى القومَ مكذِّبين، فلا أراني منهم، فأمُرُّ بهذه الآية: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا}، فأرجو أن كون منهم، فحمِدْتُ اللهَ تعالى على موافقته، على أن المخلِّطين المذكورين كانوا من أعيان الأنصار، والصحابة الأخيار، وأنَّى لنا باللحاق بأقلِّهم؟ وقوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} , فـ {عَسَى} و {لَعَلَّ} هو في القرآن يدلاَّنِ على تحقيق ما بعدَهما بإجماع المحققين من المفسرين، فالتوبة مقبولة منهم بفضل الله تعالى. انتهى (¬1). ومما ذكره: فيما يجتنب التشبيه بالثيران ونحوها من الفَظَاظة، وجهر الصوت، والتكلُّم بما لا يليق بالمكان والزمان، والناس يشبِّهون كلَّ فَظٍّ غليظٍ بَليدٍ أكُولٍ بالبقرة والثور، وتقدم فيما أنشدناه عن عبد الحق الإشبيلي، وهو: ¬
يا راكبَ الرَّوع لِلَذَّاته ... كأنه في أُتُنٍ عَيْرُ يأكُلُ من كلِّ الذي يشتهي ... كأنّه في كَلأٍ ثَوْرُ وكنت يوماً في جماعة، منهم: العلامةُ المنلا أسدُ الدين بنُ معينِ الدينِ العجميُّ - أحد تلاميذ والدي - عند بعض الصوفية، فبينما المنلا أسدٌ يقرأ الفاتحة، إذا فقير من فقراء ذلك الصوفيِّ صرّح مثوِّراً، فانذعر المنلا أسدٌ وانزعج، ثم التفتَ إلينا، وقال: واللهِ! لم أعلم قولَ فقراء الصوفية: (ثوروا)، مِن أيِّ شيء اشتقاقُه إلَّا في هذا الوقت، علمتُ أنه مشتق من لفظِ الثور، فإني رأيتُ هذا الرجل الآن خار خواراً كأنه ثور. وذَكَر أنَّ بعض الوعاظ كان يعظ طائفةً من الناس وهو يلقي الكلام، فنظر منهم إعراضاً ولَغَطاً، فأراد أن يستبطنهم، فقال: ألا اسمعوا يا بقر! فقال بعضهم: قلْ: يا ثور! (¬1). ونقلت من خطه، قال: أوردت في بعض مجالسي هذا الحديث: "يقولُ اللهُ تعالى للحَفَظَةِ يومَ القيامة: اكتُبُوا لعبدي كذا وكذا من الأجر، فيقولون: ربَّنا! لم نَحْفَظْ ذلكَ عنه، ولا هُوَ في صُحُفِنا؟ فيقول: إنَّة نَواهُ"، وقلت على هذا بديهةً، حتى كأن المُنشدَ على لساني ينشد هذين البيتين: تَلُومُوني على فِعْلٍ ... بِفَرْطِ اللَّومِ والعَتْبِ ولَمْ تَدروا الَّذي بيني ... وبينَ اللهِ في قلبي ¬
وحَكَى: أنه رأى النبيَّ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في النوم في ليلة مرتين، فأنشده يقول: لَئِنْ تَقَضَّى زَمَنٌ أنتَ فيهْ ... فإنَّ آثارَكَ تكفي النَّبِيه مَنْ تَبِعَ الآثارَ منكَ اهْتَدَى ... ومَنْ أباها فهو في أَيِّ تِيْه صَلَّى عليكَ اللهُ يا سيدي ... مُسَلِّماً ما فاهَ بالنطقِ فيهْ أصله: (فيهِ) - بالحركة الظاهرة -. وله فوائد منظومة كثيرة، منها: قوله جامعاً آداب العيادة للمريض، وهي: إِنْ تَعُدْ يوماً مريضاً فليكُنْ ... في زمانٍ لاقَ فيه أن تَعودْ واطرُقِ البابَ برفقٍ ثم باسـ ... ــــــمكَ صرِّح، ما صديقٌ كالحسودْ واغضُضِ الطَّرفَ ولا تُكْثِرْ إذاً ... من سؤالٍ ثم خفِّفْ في القعودْ لا تَكَلَّم في الذي يُضْجِرُهُ ... أو له فيه ارتيابٌ في الوجود
ضَعْ عليه يَدَكَ اليمنى وعَنْ ... حالِه سَلْهُ على وجهٍ يَجُودْ أَظْهِرِ الرِّقَّةَ، وسِّعْ مُدَّةً ... وعِدَنْهُ بالعوافي أن تعودْ وأَشِرْ بالصَّبرِ، حَذِّرْ جَزَعاً ... وادعُ بالإخلاص مولاك الوَدُودْ تلك آدابُك إن عُدْتَ ومَن ... يَحْفَظُ الآدابَ يُرجَى أنْ يسودْ وله: التاريخ الذي ألفه في أعيان المئة العاشرة، وسماه بـ: "الكواكب السائرة"، والذيل الذي سماه: "لطف السَّمَر وقطف الثمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر"، والثاني أحدُ مادة تاريخي هذا، وكِلا الأثرين له جيد، جزاه الله على صنعهما خيراً، إلا أنهما يحتاجان إلى تنقيح وحُسن ضبط، فإن فيهما الغَثَّ، وتكريرَ بعض تراجم، وبعض سَهْوٍ في الوَفَيات، وما إخاله إلا أنه أجاد كلَّ الإجادة في هذا الجمع على كل حال، وأما ما فيه من بعض الأغراض، فقد عرفت بها المؤرخون في الماضي. ثم تصدَّر للإقراء والتدريس، فدرَّس بالشامية البرَّانية، تفرغ له عنها الشهابُ العيثاوي اختياراً، وكذلك فَرَّغ له عن تدريسٍ بالعُمُرية، وعن إمامةٍ بالجامع الأموي، وعن وعظٍ به بعد أن وَلِيَه عن الشيخ أحمدَ بنِ الطيبي، ثم وَلِيَ العيثاويُّ الوعظَ - أيضاً - عن الشمس الداوديِّ،
ففرغ له ولابن أختِه البدرِ الموصلىِّ، وأذن له العيثاويُّ بالكتابة على الفتوى قبل وفاته بنحو عشرين سنة، فكتب في هذه المدة على فتوى واحدة في الفقه، وغير واحدة في التفسير؛ تأدبا مع العيثاوي، فلما كان قبل وفاته بنحو خمسة أيام، دخل النجمُ عليه، فحضَرَتْ فتوى، فقال له: اكتبْ عليها، فكتب وقال: اكتبْ اسمكم، قال: بل اكتبُ اسَمك، فكتبه، ثم تتابعت عليه الفتاوى، فاستمرَّ يُفتي من سنة خمس وعشرين وألف إلى سنة إحدى وستين، وهي سنة وفاته (¬1). وكان مُغْرَماً بالحج إلى بيت الله الحرام، واتفق له مَرَّاتٍ؛ فأولُ حَجَّاته كانت في سنة إحدى وألف، قال في ترجمة والده في "الكواكب": بمناسبة وقع لنا اتفاقٌ غريب، وهو أنَّا حَجَجْنا في سنة إحدى وألف، وهي أولُ حجةٍ حججتُها، وكنا نترجَّى أن يكون عرفة يومَ الإثنين، فرأينا هلالَ ذي الحجة ليلةَ السبت، وكان وقوفُنا بعرفةَ يوم الأحد، وهو خلافُ ما كان الناس يتوقعونه، فقلت لبعض إخواننا من أهل مكة وغيرهم؛ ظهر لي اتفاقٌ غريب، وهو أن الله تعالى قدر الوقوف ¬
يومَ الأحد في هذا العام؛ لأنه عام أحد بعد الألف، فاستحسنوا ذلك، وقلت مقيِّدًا لهذا، وهو: لقد حَجَجْنا عامَ ألفٍ وأَحَدْ ... وكانتِ الوَقْفَةُ في يومِ الأَحَدْ اليومُ والعامُ توافَقَا معاً ... فَجَلَّ مولانا المُهيمنُ الأحَدْ وسافر إلى حلب مع شيخه العيثاويِّ في جماعة من مشايخ دمشق، منهم: السيدُ محمدُ بنُ عجلانَ نقيبُ الأشراف، والسيدُ إبراهيمُ بنُ مسلمٍ الصماديُّ، والسيدُ أحمدُ بنُ على الصفوريُّ، في آخرين، إلى الوزير محمد باشا؛ بقصد رفع التكليف عن أهل دمشق بسبب سفر العجم الواقع ذلك في سنة خمس وعشرين وألف. ولما وُجِّهَتْ عنه الشاميةُ للشمس الميداني - كما ذكرناه في ترجمة الميداني -، سافر إلى الروم في سنة اثنتين وثلاثين وألف، وقُرِّرَ في المدرسة، إلى أن جاء الميدانيَّ تقريرٌ آخر، فاشتركا في المعلوم، ثم لم تمض سنة حتى مات الميداني، فاستقل بالمدرسة، وجلس مكان الميداني تحت القبة في الجامع الأموي لإقراء "صحيح البخاري" في الأشهر الثلاثة: رجب، وشعبان، ورمضان، ورَأَس الرياسة التامة، ولم يبق من أقرانه الشافعية أحدٌ، وهَرَعَتْ إليه الناس والطلبة، وعظم قدرُه، وبَعُدَ صيتُه، وكان قارئُ الدَّرس بين يديه السيدَ أحمدَ بنَ عليٍّ الصفوريَّ، ثم الشيخَ الإمامَ رمضانَ بنَ عبدِ الحق العكاريَّ، ثم الشيخَ العالمَ مصطفى بنَ سوارٍ، وكانت مدةُ جلوسه تحت قبة
النسر سبعة وعشرين سنة، وهو قدرُ مدةِ المَيدانيِّ، وهو غريبُ الاتفاق، وانتفع الناس به، وأخذوا عنه طبقةً بعد طبقة، وهم في الكثرة لا يحوم الإحصاء حولهم. وكان له بالحجاز الصِّيتُ الذائع، والذكرُ الشائع، وحكى الشيخ العالم التقي الشيخ حمزةُ بنُ يوسفَ الدُّومانيُّ ثم الدمشقيُّ الحنبليُّ - أبقاه الله تعالى - غيرَ مرة: أنه لمَّا حج في سنة تسع وخمسين وألف، كان النجم حاجاً تلك السنة، وهي آخر حجاته، وكذلك الشيخ منصور السطوحيُّ كان حاجاً، قال: وكنت في صحبة الشيخ منصور، فبينما أنا ذات يوم عند الشيخ منصور بخَلْوة عند باب الزيارة، وإذا بحسِّ ضجة عظيمة، قال: فخرجت فنظرت، وإذا بالشيخ النجم بينهم وهم يقولون له: أجزنا، ومنهم من يقول: هذا حافظ العصر، ومنهم من يقول: هذا حافظ الشام، ومنهم من يقول: هذا محدث الدنيا، فوقف عند باب الزيارة، وقال لهم: أجزتكم بما تجوز لي روايتُه بشرطه عند أهله بشرط أن لا يلحقَنا أحدٌ حتى نطوف، ثم مشى إلى المَطاف، فما وصل إليه إلا وخلفَه أناسٌ أكثر من الأول، فوقف وأجازهم كما تقدم، وقال لهم: بشرط أن لا يَشْغَلَنا أحدٌ عن الطواف، قال: فوقف الناس، وطاف الشيخ، قال: ولم يكن يطوف مع الشيخ إلا أناسٌ قلائلُ كأنما أُخلي له المَطَاف، فلما فرغ من الطواف، طَلَبوا منه الإجازة - أيضاً -، فأجازهم، ثم أرسل الشيخ منصور، ودعاه إلى الخَلْوة، فذهب، ولحقه الناس إلى باب الخلوة، وطلبوا منه الإجازة، فأجازهم، ودخل
الخلوة، ثم جاء الشمس محمدٌ البابلىُّ، ثم بعد هُنَيَّةٍ جاء الشريفُ زيدٌ صاحبُ مكةَ، فلما استقر بهم المجلس، تذاكروا أمر الساعة، فأخذ الشمس البابلي في الكلام، فقال النجم بصوت مزعج، وقد جلس على ركبتيه، وشرع يُورد أحاديث الساعة بأسانيدها وعَزْوها لمخرِّجيها، ويتكلم على معانيها، حتى بَهَر العقولَ، وأطال في ذلك، ثم لما فرغ، قال البابليُّ: تجيزونا يا مولانا! بما لكم؟ وكذلك استجازه الشيخُ منصورٌ، والشريفُ زيدٌ، وأنا ومَنْ حضر، فأجازَ الجميعَ، ثم قدَّم لهم الشيخ منصور مِنْ عنده سماطاً، وأردفه الشريف زيدٌ بأشياءَ من المآكل، فلما فرغوا، انصرف الشيخُ النجمُ، وبقي البابلي، فقال للشيخ: سبحان الله! ما هذا إلا عن نبأ عظيم، فقال له الشيخ منصور: أنا كنتُ إذا رأيتُ كُتبَه وتصانيفَه أَعْجَبُ منها، وإذا اجتمعت به، لا يتكلم إلا قليلاً، فأَعْجَبُ من ذلك، ولكن الآن تحقَّقَ عندي علمُه وحفظُه، انتهى. وكان قبل موته بست سنوات أو سبع سنوات اعتراه طَرَفُ فالِجٍ، فكان لا يتكلم إلا قليلاً، فعُدَّ هذا المجلسُ وكثرةُ الكلام فيه بالمناسب لِمَا هُم بصدده من غير توقُّف ولا تلعثُم كرامةً له، وهو محل الكرامة، فقد أخبر بعض الثقات: أنه سأل بعض الصالحين عن الأبدال بالشام، فعدَّ منهم ثلاثة، أحدُهم النجم. وما اشتهر من أن سكوته بذلك العارض كان من الشيخ حسين بن فرفرة - كما ذكرناه في ترجمة الشيخ حسين - لا يقدح في ولايته كما
يُظن، ولعل ذلك كان سبباً لولايته في مقابلة انكسارٍ حصل له (¬1). ¬
وتوجَّه إلى القدس قربَ موته هو والشيخُ إبراهيمُ الصماديُّ في جمعية عظيمة، ونزلا إلى الرَّملة، وزارا تلك المعاهد، ورجعا إلى دمشق، فتخلَّى النجمُ للعبادة، وتركَ التأليفَ، وبلغت به السنُّ إلى الهَرَم. وبالجملة: فهو خاتمة حُفَّاظ الشام (¬1). وكانت وفاتُه يوم الأربعاء، ثامن عشر جمادى الآخرة، سنة إحدى وستين وألف، عن ثلاث وثمانين سنة وعشرة أشهر وأربعة أيام، ودفن بمقبرة الشيخ أرسلان. ومن غريب ما اتفق له في درسه تحت القبة: أن الشمسَ الداوديَّ كان وصل في قراءته البخاري إلى (باب: كان - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى، لا يَكُفُّ شَعَراً ولا ثوباً)، ودرَّس بعده الشمسُ الميدانيّ من ذلك الباب إلى (باب: مناقب عمارِ بنِ ياسرٍ)، وتوفي، ودرَّس من بعده النجمُ إلى أن أكمله في ثلاث سنوات، ثم افتتحه وخَتَمه، وأعاد قراءته إلى أن وصل إلى (باب: البكاء على الميت). ووقع له قبل موته بيومين: أنه طلع إلى بساتينه أوقافِ جدِّه، واستبرأ الذمةَ من الفلاحين، وطلب منهم المسامحةَ، وفي اليوم الثاني ¬
دَارَ على أهله: ابنتِه، وبنتها، وغيرِهم، وزارَهم، وأتى إلى منزله بيتِ زوجتِه أمِّ القاضي يحيى بنِ حميد بزقاق الوزير الآخذ إلى سوق جَقْمَق، وصلى المغرب، ثم جلس لقراءة الأوراد، وأخذ يسأل عن أذان العشاء، وأخذ في ذكر: لا إله إلا الله، وهو مستقبلٌ القبلةَ، ثم سُمعَ منه وهو يقول: بالذي أرسلكَ، ارفُقْ بي، فدخلوا عليه، فرأوه قد قَضَى نحبَه، ولَقِيَ ربَّه - رحمه الله تعالى -. ورثاه جماعة من الفضلاء، منهم: الأديبُ محمدُ بنُ يوسفَ الكريميُّ، رثاه بقصيدة طويلةٍ مطلعُها: لمَّا لِجنَّاتِ العُلا ... شيخُ الشيوخِ انتقلا وجعل تاريخَ الوفاة في بيت هو آخر القصيدة، وهو هذا: يا نجمَ دينِ الله مِنْ ... أُفْقِ دمشقٍ أَفَلا
الفصل الثاني: دراسة الكتاب
الفَصْلُ الثَّاني: دِرَاسَة الكِتَاب المبحث الأَوَّل: تَحقِيْق اسمِ الكِتَاب لا أدلَّ على إثبات تسمية كتاب من الكتب من تنصيص المؤلِّف عليه، ورَقْمِه اسمَه بخطِّ يده، وهذا ما كان في هذا الكتاب؛ حيث جاء في آخر النسخة الخطية للجزء الأول بخط مؤلفه، وكذا على غلاف الجزء الثالث ونهايته قوله: "حسن التنبُّه لما ورد في التشبُّه". وكذا نصَّ المؤلف في مقدمة كتابه حيث قال: "سميت هذا الكتاب: حسن التنبه لما ورد في التشبه" (¬1). وكذا جاء على غلاف النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية، والتي رمزنا لها بـ "أ"، وهو الذي اعتمدناه في اسم الكتاب، وأثبتناه على غلاف هذه الطبعة. أما المترجمون للإمام نجم الدين الغزي، فاختصروا اسم الكتاب، وبدَّلوا فيه؛ فذكره أبو المواهب الحنبليُّ في "مشيخته" بـ: "حسن التنبيه في التشبيه" (¬2). ¬
وكذا ذكره المحبي في "خلاصة الأثر" (¬1). وعرَّف شمسُ الدين الغزي مؤلِّفه بكتابه هذا حيث قال: "مؤلف حسن التنبيه فيما ورد في التشبيه" (¬2). وذكره الحَمَوي في "فوائد الارتحال" بقوله: "التنبيه في التشبيه" (¬3). والصواب ما أسلفنا قبلُ، وهو تسميته بـ "حسن التنبه لما ورد في التشبه"، كما أراده مؤلِّفه وسطَّره بيده. ¬
المبحث الثاني: إثبات صحة نسبة الكتاب إلى مؤلفه
المبحث الثَّاني: إِثباتُ صِحَّةِ نِسبَةِ الكِتَابِ إِلَى مُؤَلِّفِهِ اجتمعَتْ على صحة نسبة هذا الكتاب الجليل، والمنعوتِ بـ "حسن التنبه لما ورد في التشبه" للإمام نجم الدين محمد الغزي، عدة أمور، منها: 1 - النسخة الخطية لهذا الكتاب، والمكتوبة بخط مؤلفه، وهي نسخة قيمة جليلة؛ كما سنشير إلى ذلك في وصف الأصول المعتمدة في التحقيق؛ حيث جاء على غلافها قوله: "حسن التنبه لما ورد في التشبه" لكاتبه نجم الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزي الشافعي - عفا الله عنه -. وجاء في آخرها: "جمع كاتبه نجم الدين محمد .... ". وكذا أثبت على غلاف النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية في مجلداتها السبعة. 2 - نقلُه عن والده الإمامِ بدرِ الدين محمدٍ الغزيٍّ بالتصريح بقوله: (قال شيخ الإسلام والدي)، ونحو ذلك، وسردُ إسناده المتصل في بعض المرويات عن طريقه، ونقلُه من كتبه في مواضع
كثيرة؛ خصوصاً "التفسير". وكذا الأمر في نقله عن جده الإمام رضيِّ الدين محمدٍ الغزيِّ في "ألفية التصوف"، وغيرها، وتصريحه بقوله: "قال جدي"، أو: "قال شيخ الإسلام جدي"، ونحو ذلك. 3 - نقلُه في مواضعَ كثيرةٍ عن مشايخه؛ كالشيخِ العيثاويِّ، والشيخ يحيى العماريِّ، ومحبِّ الدينِ الحنفيِّ، وغيرِهم. 4 - ذكرُ المؤلفِ لكثيرٍ من كتبه، ونقلُه عنها، والإحالةُ بالرجوع إليهاة ككتابه: "منبر التوحيد"، و"منظومة خصائص الجمعة"، و"بلغة الواجد في ترجمة الوالد"، وغيرها. 5 - ذكرُ العلماءِ المترجمينَ له لكتابه هذا، ونقلُهم عنه مواضع كما مرَّ في ترجمته في نقل المحبي، وأبي المواهب.
المبحث الثالث: منهج المؤلف في الكتاب
المبحث الثَّالث: مَنْهَج المؤلِّف في الكِتَابِ بدأ المؤلف - رحمه الله - كتابه هذا بمقدمة بديعة عرَّف فيها بمؤلَّفه، ثم انتقل منها إلى فوائدَ وتنبيهاتٍ وتتماتٍ وفصولٍ، ثم عقد باباً في باب الحِكَم الظاهرة في تأخير هذه الأمة؛ فعدَّ منها تسع حِكَم. ثم شرع المؤلف في مادة الكتاب؛ حيث قسمه إلى قسمين: الأول منهما: في التشبه بمن ورد الأمرُ بالتشبهُ بهم، والاقتداءُ بهُداهم وهَدْيِهم. والقسم الثاني: في النهي عن التشبه بمن ورد الأمرُ بالنهي عن التشبه بهم. فذكر في القسم الأول ستة أبواب من: 1 - التشبه بالملائكة - عليهم السلام -. 2 - التشبه بالأخيار من بني آدم. 3 - التشبه بالصالحين.
4 - التشبه بالشهداء. 5 - التشبه بالصديقين. 6 - التشبه بالنبيِّين. ثم ختم هذه الأبواب بذكر أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو - في كل ذلك - يعدِّد أخلاقَهم وصفاتِهم الواجبَ التشبهُ والتخلقُ بها، وُيزينها بفوائدَ وتنبيهاتٍ وفصولٍ مهمة. أما القسم الثاني من الكتاب، فذكر فيه ثلاثة أنواع: الأول: في النهي عن التشبه بالشيطان. الثاني: النهي عن التشبه بالكفار. الثالث: النهي عن التشبه بالفَسَقَة. فذكر في النوع الأول أعمالَ الشياطين وصفاتِهم، وبلغ بها مئةً وسبعة وثمانين وصفاً وعملاً. وذكر في النوع الثاني أربعةَ عشَر باباً، هي على الترتيب: 1 - النهي عن التشبه بقابيل القاتلِ لأخيه هابيل. 2 - النهي عن التشبه بقوم نوح. 3 - النهي عن التشبه بكنعانَ بنِ نوح. 4 - التشبه بعاد.
5 - التشبه بثمود. 6 - التشبه بالرهط التسعة من ثمود. 7 - التشبه بنمرود وقومه. 8 - التشبه بقوم لوط. 9 - التشبه بقوم شعيب. 15 - التشبه بفرعون وقومه. 11 - التشبه بأهل الكتاب وذكر صفاتهم. 12 - التشبه بالأعاجم والمجوس. 13 - التشبه بأهل الجاهلية والمشركين. 14 - التشبه بالمنافقين. ثم ذكر في النوع الثالث التشبه بالفسقة، وذكر فيه مقامين، وتسعةَ أبواب: أما المقام الأول: فهو النهي عن التشبه بالمبتدعة، وذكر فيه فصولاً في أسماء فرقهم وطوائفهم، والتعريف بها. وذكر في المقام الثاني: النهي عن التشبه بغير المبتدعة من الفسقة، وذكر فيه فصولاً في كبائر الذنوب وصغائرها، وتكلم عن المروءة والفتوة والسَّفَه. ثم شرع في أبواب هذا النوع، فذكر تسعة أبواب:
الأول: في النهي عن تشبه العاقل بالمجانين والحمقى. الثاني: تشبه الحر بالرقيق وعكسه. الثالث: تشبه الرجل بالمرأة وعكسه. الرابع: تشبه الرجال بالصبيان. الخامس: تشبه الفقير بالغني وعكسه. السادس: تشبه أهل الحضر بأهل البدو وعكسه. السابع: تشبه العالم بالجاهل. الثامن: التشبه بالبهائم والسباع والطير والهوام، وذكر صفات البهائم المنهي عن التشبه بها، من الجهل، والكبر، والغيرة، والبلادة، والغفلة، وغيرها. التاسع: ما يحسن من التشبه بالبهائم والسباع، وهو كالتتمة للباب قبله؛ حيث ذكر جملة من الأخلاق؛ كالصبر، والألفة بالناس، والقناعة بقوت يوم، وسرعة الحركة، وطلب الرزق، وغيرها. ثم ختم الكتاب بفصل عزيزٍ لطيفٍ في الإنابة والتوبة، وفوائدِها وأركانها. هذا - على وجه الإجمال والتلخيص - مادةُ هذا المؤلَّف النفيس، وفي ثناياه معالمُ عِدَّةٌ لابدَّ من ذكرها وبيانها؛ ليقف القارئ على نَفَاسة طرحِ المؤلِّف، ومنهجِه الذي قام عليه هذا الكتاب.
ترتيب الكتاب
* ترتيب الكتاب: إن الناظر في إجمال مادة الكتاب السابقة يدرك منهجيةَ المؤلف، وحُسنَ ترتيب الموادِّ ورصفِها، وجَودةَ إيراده الكتبَ والأبواب وسبكها. فذكر في القسم الأول: التشبه بالملائكة، ثم ثناه بالتشبه بالأخيار من بني آدم، فجاء على النسق: التشبه بالصالحين، ثم الشهداء، ثم الصديقين، ثم النبيين، على سبيل الترقي والتدريج، مقتبساً ذلك من قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. وختم هذا القسم بذكر باب في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال فيه: واعلم أنه لا يتأتى لنا في هذا الكتاب الاتساعُ في تفاصيل طرائق الاقتداء والاتباع، وإنما غرضُنا الآن التنبيهُ على نبذة من أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وفي القسم الثاني من الكتاب، وهو: النهي عن التشبه بمن ورد النهي عن التشبه بهم: عزم المؤلف فيه أن يذكر قبائح الأعمال، وسفاسف الأمور، وسيئات الأعمال؛ لتُحْذَر وتُجتنب؛ فإنه من لم يتخلق بالأخلاق الفاضلة فهو إما شيطان, أو قرين شيطان، قال المؤلف: فناسب أن ¬
نتكلم - في هذا القسم من كتابنا - على النهي عن التشبه بالشيطان، وعلى التشبه بأتباعه - وهم الكفار والفساق -، فانقسم هذا القسم إلى ثلاثة أنواع (¬1). وذكر المؤلف - رحمه الله - في الباب الأخير من الكتاب، وهو: النهي عن التشبه بالبهائم والسباع والطير: أنه ظهر سرٌّ عجيب في ترتيب الكتاب، فقال: وهو أنَّا ذكرنا أولاً: التشبهَ بالملائكة - عليهم السلام -، وجعلناه في بداية القسم الأول من الكتاب، وذكرنا آخراً: التشبه بالبهائم، وجعلناه في نهاية القسم الثاني من الكتاب، فكان التشبهُ بالملائكة والتشبهُ بالبهائم كطرفين للكتاب أعلى وأدنى، وكأن المتشبه بالملائكة في الطرف الأعلى من الإنسانية، والمتشبهَ بالبهائم في الطرف الأدنى من الحيوانية، وجعلنا التخلُّقَ بأخلاق الله تعالى - كذا - في وسط الكتاب؛ لأنه هو النهاية التي يُنتهى إليها بسير السائرين، والمَحَطُّ الذي عليه تَحُطُّ رحالُ العارفين، ثم ذكرنا بعد ذلك النهيَ عن التشبه بالشيطان؛ إشارةً إلى من لم يتخلق بأخلاق الله - سبحانه وتعالى - كذا، ولا بأخلاق عباده الصالحين، فهو إما شيطان، وإما قرينُ شيطان، وإما بهيمةٌ في صورة إنسان. فعدْنا بعدَ الأمر بالتلبُّسِ بالحقِّ إلى الزجر عن التلبُّسِ بالباطل، فكأن لسانَ الحال قد قال: إن تأتمرْ بما أمرناك به من السلوك في ¬
طول مادة الكتاب
مسالك الأبرار والأخيار، فلا أقلَّ من أن تنزجر عن الذهاب في سبيل الفجار والأخيار, {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265] (¬1). ثم ختم الكتاب بالتوبة رجاءَ الختم بالمتاب؛ لأن من ختم له بالتوبة، فقد أَمِنَ بالأَوبة من الحَوبة (¬2). * طول مادة الكتاب: هذا الكتاب وحيدُ بابِه، لم يسبق له مثيلٌ في الكتب المتقدمة، جمعه المؤلف من بطون الكتب، بعدَ استقراءٍ وسبرٍ طويلين امتدا أربعين سنة تقريباً، وهو يزيد فيه وينقِّح ويحرِّر، فجاء كتاباً ضخماً في مجمله، قاربت لوحاتُه الخطيةُ الألفين، مستوعباً كلَّ ما له صلةٌ بموضوعاته، وكان المؤلف - رحمه الله - ينبه إلى ذلك؛ خشيةَ الظنِّ به أنه يستطرد في تأليفه، أو يحشد الكلام دونَ طائل، ومن أمثلة ذلك: - قوله في (باب: التشبه بالصالحين): وهذا الذي ذكرناه في المعروف ليس إطالة؛ لأنه أنواع، كلُّها من آداب الصالحين، وقد أتينا هنا على غالبها (¬3). - وقوله: وقد انتهى الكلام على الحكمة والتشبه بالحكماء، وقد علمتَ أنه داخل في التشبه بالأنبياء - عليهم السلام -، وقد استغنينا عن ¬
عقد باب أو فصل للتشبه بالحكماء (¬1). - وقوله في (باب: النهي عن التشبه بالشيطان، وما ذكره من أعماله وصفاته، ومنها: تحزينُ المؤمن، ودإخالُ الهمِّ والغمِّ عليه)، قال: وقد استوفينا هنا أكثر آداب الرؤيا، ولذلك أوردتُ هذه الأحاديث فيها، ولها مناسبة تامة بهذا المحل (¬2). - وقوله عند الكلام على قوم نمرود، وتطرقه إلى التشبه بالجبارين: فقد أطلتُ في هذا الفصل؛ استغناءً به عن عقد باب في النهي عن التشبه بالجبارين، ونمرود كان من أشدهم جبروتاً، وسائرُ أعماله الآتية ناشئة عن جبروته - قبحه الله (¬3) -. - وقوله عند ذكر جملة من آداب الواعظ والمذكِّر والقاصِّ في (باب: النهي عن التشبه بأهل الكتاب، وما نُهي عن التحدث بقصصهم ومروياتهم التي لا يُصدَّقون فيها): واعلم أني بسطت الكلام في هذا المقام؛ لشدة الاحتياج إليه، وقد كنت أردت أن أؤلف في هذا المعنى مؤلَّفاً مستقلاً، فاستغنيتُ بهذا الفصل عن استئناف كتابٍ مستقلٍّ، ولله الحمد (¬4). - وقوله عند الكلام على النهي عن تشبه الرجال بالنساء: وإنما ¬
تحقيقات المؤلف وتنبيهاته وإشاراته
استوفيت هنا أخبار أبي مِحْجَنٍ - رضي الله تعالى عنه - بعضَ الاستيفاء؛ لما في قصته من تهييج نفوس الرجال إلى آثار الرجولية في محازها؛ فإن الشجاعة والكرم من أفضل أحوال الرجال دون النساء (¬1). * تحقيقات المؤلف وتنبيهاته وإشاراته: وُصف المؤلف - رحمه الله - بالإمام المحقِّق، والناظرُ في هذا الكتاب يجد صدقَ هذا؛ حيث لم يُخْلِ المؤلِّف - في الغالب - كتابه هذا من بيان تحقيقٍ نفيس، وتنبيهٍ قَيِّمٍ، وإشارة لطيفة، وفائدةٍ جليلة، وتحريرٍ جيد، وشرحٍ لغريب لفظٍ وقع في آية أو حديث، أو قول، أو شعر، ومن أمثلة ذلك: - قوله: ومما لم أجده منقولاً، وهو مما يتعين بيانه: أنك إذا تأملتَ القرآن، وجدته مصرِّحاً بذم الفاعلية - يعني: في قوم لوط - دون التصريح بذم المفعولية، مع أنها أفحشُ لوجوه ... ، ثم ذكر أربعة وجوه لطيفة في هذا المعنى (¬2). - وفي كلامه على تناول شيء ما عند السّحور بنيةِ السحور؛ عملاً بالسنة، وذكرِه استجادةَ شيخِه أبي العباس العيثاويِّ لما كتبه (¬3). - وقوله في حديث: "إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إِلَيَّ المتحابين فِيَّ"، قال: ¬
وقوله: "المتحابين فيَّ": كذا في نسختي من "مصنف عبد الرزاق"، وهي نسخة صحيحة قديمة، وهو محمول على أنه صفة لـ (عبادي)، وخبر (إن) ما بعده (¬1). - وفي شرحه لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلاَّ نَدِمَ"، قالوا: وما ندامَتُه يا رسولَ الله؟ قال: "إِنْ كَانَ مُحْسِناً، نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئاً، نَدِمَ أَنْ يَكُونَ نزَعَ". قال المؤلف: والقولُ الحقُّ في هذا المقام: إن من وفقه الله للبِرِّ حتى استوفى أجلَه الذي أُجِّل له وهو على بِرِّه، فحياتُه خيرٌ، ومماته خير، ومَنْ خذله الله عن البر، ويسَّره للفجور حتى مات فاجراً، فلا خيرَ فيه، ولا خير له. ثم ذهب يفضل في ندامة كلِّ واحدٍ منهما (¬2). - وقوله في سماع أهل الجنة: وهذا الفصل الذي ذكرتُه هنا في سماع أهل الجنة فصلٌ عزيز لطيف (¬3). - وقوله: وهذا الذي جمعتُه هنا من فوائد التوبة مما أنعم الله عليَّ به من الاستنباط، ولم أره مجموعاً لغيري (¬4). ¬
منهجه في الاستدلال بالأحاديث النبوية والآثار
- وتنبيهه إلى ما يفعله الناسُ ليلةَ النصفِ من شعبان، أو في غيرها، في بيت المقدس وغيره؛ من كثرة الوقيد في المساجد وغيرها - زيادةً على قدر الحاجة - ملحَقٌ بتعظيم المجوس للنار؛ إذ فيه تشبهٌ بهم (¬1). - وتنبيهه إلى عدم تعظيم ما لم يعظِّمه الشرعُ الشريف؛ من شجرة مخصوصة، أو بقعة مخصوصة، أو حجر مخصوص، ونحو ذلك، وأنه ملحَق بأفعال الجاهلية (¬2). - أما شرحُ الألفاظ الغريبة الواقعة في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية والآثار والأشعار، فكثيرة (¬3)، والمؤلِّف أجاد في هذا، فشرح جملة من المفردات، معتمداً على أمهات المصادر؛ كـ"الصحاح" للجوهري، و"القاموس المحيط" للفيروز أبادي، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير، وغيرها. * منهجه في الاستدلال بالأحاديث النبوية والآثار: حَفَل هذا التأليف بجملة وافرة من الاستشهاد بالأحاديث النبوية الشريفة والآثار، ويمكن إجمالُ الكلام على هذا المنهج في الآتي: - غلب على نقل المؤلف لاستشهاداته الحديثية من المصادر غير ¬
الأصلية التي جمعَتْ أحاديثَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - جمعاً موضوعياً مرتَّباً على كتب وأبواب؛ كـ: "الترغيب والترهيب" للمنذري، أو التي رتبته على الحروف؛ كـ: "الجامع الصغير" للسيوطي، أو كان تخريجاً لموسوعة وعظيةٍ ضمت جملة كبيرة من الأحاديث؛ ككتاب: "إحياء علوم الدين" للغزالي، وتخريجه للحافظ العراقي. والمؤلف - رحمه الله - عَمَد إلى هذه الكتب الثلاثة - في غالب نقله -، فأخذ منها ما كان يخدمه في استدلاله، مع كلام أصحابها عليها صحةً وضعفاً، فظهرت بعضُ الأوهام والأخطاء في هذا النقل؛ منها: 1 - عَزْوُ الأحاديث خطأ إلى غير أصحابها؛ كما وقع له في عزوه حديث: "كانَ يقبلُ الهديَّةَ، ويُثيبُ عليها" إلى مسلم، وإنما هو في "البخاري". 2 - عزو بعض الأحاديث إلى الإمام مالك في "الموطأ"، وإنما هي في "مسند الطيالسي"، وذلك أن السيوطي في "الجامع الصغير" رمز للطيالسي بـ (ط)، فظنه المؤلف أنه للإمام مالك، وتكرر هذا مراتٍ عدة في الكتاب. 3 - نسبة الأحاديث إلى بعض المصادر، مع وجودها في الأَولى بالذكر منها؛ كحديث: "إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَل ... "، فعزاه للإمام أحمد، وهو في "صحيح البخاري".
وكحديث: (ما رأيتُ أحداً أرحمَ بالعيال من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -)، فعزاه لابن أبي الدنيا، وهو في "صحيح مسلم". وكحديث: "بَشِّرْ فُقَرَاءَ المُؤْمِنِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فعزاه لأبي يَعْلى والبيهقي، وهو في "سنن أبي داود". 4 - تقليدُ ما يجده المؤلِّف مصحَّحاً، أو مضعَّفاً دون تمحيص وتفتيش أوقَعَه في سرد الكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وربما أُشير إلى ضعفها الشديد وغيرِ ذلك في الكتب التي نقل عنها، لكنه ترك التنبيهَ عليه، ومن تلك الأحاديث: - "عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ". - "حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ". - "إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْمَعْرُوفِ وُجُوهاً مِنْ خَلْقِهِ". - "مَنْ أَصْبَحَ مَحْزُوناً عَلَى الدُّنْيَا أَصْبَحَ سَاخِطاً عَلَى رَبِّهِ". - وكذلك نقلُه أحاديثَ داودَ بنِ المُحَبَّرِ في (العقل) (¬1)، وكلُّها موضوعة كما نبه الحافظُ ابنُ حَجَر. 5 - تَرَكَ المؤلف - رحمه الله - غالباً التنبيهَ على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وذَكَر التصحيحَ والتحسينَ فقط، مع وجودِ بيانها وحالِها في المصادر التي ينقل عنها. ¬
نعم، نبَّه المؤلِّفُ - في بعض المواطن - إلى ما لا أصلَ له، أو هو موضوع؛ كتنبيهه على ما اشتُهر على ألسنة الناس من قولهم: لعنَ اللهُ اليهودَ، ثم اليهودَ، ثم أمواتَ النصارى، فقال: وليس هذا الحديث بحديث أصلاً، وإن وقع في فتاوى الشيخ شهابِ الدين أحمدَ بن عبدِ الحقِّ المصريِّ ما يُوهم أنه حديث؛ فإني تفحَّصت عنه كثيراً، فلم أجده (¬1). - تساهل المؤلف - رحمه الله - في اعتماد ما هو منحطٌّ عن درجة الاستشهاد والاحتجاج، ومن ذلك: قولُه في حديث: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" الذي قال فيه الحافظ ابنُ حجر وغيرُه: لا أصل له، قال المؤلف: هذا اللفظ معناه صحيح، وأما من حيثُ النقلُ، فإن العلماء الذين نقلوه حديثاً ثقاثٌ، فالأَولى حملُ أمرِهم على أنهم ظفروا به مسنَداً، ولم نظفر نحن به (¬2). وكقوله في حديثِ تكليمِ الحمارِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: وهذا الحديثُ - وإن أنكره ابنُ حبانَ، والمدينيُّ، وغيرُهما من الحفاظ - إلاَّ أنه يُستأنس به لهذا النوع (¬3). وكقوله عن حديث: "ثَلاَثَةٌ يُجلِينَ البَصَرَ": ومجموعُ طرقه ترفعه ¬
شعره
عن درجة الوضع، وإن كانت طرقه ضعيفة (¬1). * شعره: زَّينَ الإمامُ نجمُ الدين الغزيُّ كتابه هذا بنظمٍ كثيرٍ من الشعر المليح، الداعي إلى الفضائلِ، وحَسَن الأخلاق، وغيرِ ذلك من المواعظ الصادقة، والمنافحات والمعارضات، والأجوبة والفتاوى، وعَقْدِ الأحاديثِ النبويةِ الشريفةِ، والآثارِ والأقوال، وهو شعرٌ طابت معانيه، وشَرُفت مقاصدُه ومراميه، واتَّسم ببساطة ألفاظه ومبانيه، فجاء على نمط شعر العلماء، لا الأدباء، وفحولِ الشعراء، فقد جنح - رحمه الله - للأوزان الخفيفة والمجزوءات، فأتى غالبُ شعره في هذا الكتاب من أوزان السريع والخفيف والمتقارب والرجز، وبعض الأوزان المولَّدة. وقد بثَّ المؤلف - رحمه الله - في كتابه هذا مقطوعاتٍ كثيرةً من شعره، ربما ناهزت الثلاثَ مئةِ بيتٍ شعري؛ فمن ذلك: - عَقْدُه لحديث النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "اتَّقِ اللهِ مَا اسْتَطَعْتَ ... ": خَالِقِ النَّاسَ بِخُلْقٍ حَسَنٍ ... ثُمَّ أَتْبِعْ سَيئِّاً بالحَسَنِ وَاتَّقِ اللهَ تَعَالَى ما اسْتَطَعْـ ... ـتَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيْ في السُّنَنِ (¬2) ¬
- وعقدُه لحديثِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في تمثيل المؤمنِ الذي يقرأ القرآن بالأترجَّةِ: إنَّ المُنَافقَ كَالرَّيْحَانِ إنْ قَرَأَ الْـ ... ـقُرآنَ أَوْ لا فَمِثْلُ الحَنْظَلِ الكَرِهِ والتَّمْرُ أَوْ شَجَرُ الأُتْرُنْجِ طَابَ كما ... رَوينا مِثَالُ المُؤْمِنِ النَّزِهِ (¬1) - ومن نظمه في "منظومة خصائص يوم الجمعة": أَضَلَّهُ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى ... وَاخْتَلَفُوا فَأَصْبَحُوا حَيَارَى وَوَفَّقَ الرَّحْمَنُ هَذِيْ الأُمَّهْ ... حَتَى اهْتَدَوْا لَهُ بِنُورِ الرَّحْمَهْ (¬2) - ومن ذلك قوله واعظاً: ما أقبحَ الفَقْرَ عُقَيبَ الغِنَى ... وأقبحَ الذَّنْبَ مَعَ المَسْكَنَهْ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَذَا مَنْ نَشَا ... في طَاعَةٍ ثُمَّ عَصَى دَيْدَنَهْ (¬3) - وقوله في وصف الزمان: أرى عَصرَنا الزَّمِنَ الأَغْبرا ... وكلَّ بُغَاثٍ به اسْتَنْسَرَا فكَمْ مِنْ كَرِيمٍ يَمَلُّ الحياةَ ... لِكُلِّ لَئِيمٍ قَدِ اسْتَقْدَرَا حَلاَ في ذَوِيهِ المَرِيرُ الكَريهُ ... وَطَابَ الَّذي كَانَ مُسْتَقْذَرَا ¬
وَمَا فِيهِ لِلْحَقِّ مِنْ نَاصِرٍ ... وَلَوْ كُنْتَ لِلْحَقِّ مُسْتَنْصِرَا فَكُنْ بِاعْتِزَالِكَ مُسْتَأْثِراً ... وَفِي طَاعَةِ اللهِ مُسْتَبْصِرَا (¬1) - ومن ذلك: معارضتُه لابن الرومي فيما أساء بقوله: لاتَلُمِ المَرْءَ عَلَى بُخلِهِ ... وَلُمْهُ يَا صَاحِ! على نَحْلِهِ فقال المؤلف: وقد عارضتُه فقلتُ، وعن الحقِّ ما حلتُ، راداً عليه، ومشيراً إليه: لا تَلُمِ الْمَرْءَ عَلى بَذْلِهِ ... وَلُمْهُ وَاعْتُبْهُ عَلى بُخْلِهِ وَلا تَقُلْ مُعْتَذِراً إِنَّهُ ... يُكْرَمُ ما يُكْرَمُ مِنْ أَجْلِهِ ذُو الْمالِ لا يُكْرِمُهُ مُكْرِمٌ ... إِلاَّ لِما يَصْنَعُ مِنْ بَذْلِهِ وَمَنْ يَقُلْ غَيْرَ الَّذِي قُلْتُهُ ... فَذاكَ لا شُبْهَةَ فِي جَهْلِهِ قَدْ أَشْبَهَ الشَّيْطانَ فِي قَوْلِهِ ... هَذا فَحاذِرْهُ وَفِي فِعْلِهِ فَاللهُ قَدْ واعَدَ أَهْلَ النَّدى ... بِالْفَضْلِ وَالْغُفْرانِ مِنْ أَجْلِهِ فَكُلُّ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ مالِهِ ... أَمَدَّهُ مَوْلاهُ مِنْ فَضْلِهِ (¬2) - ومن ذلك: ردُّه على صلاح الدين الصَّفَدي في "شرح لامية العجم" في استحسانه قولَ ابنِ بَسَّامٍ: ¬
قَدْ قَرَّبَ اللهُ مِنَّا كُلَّ ما شَسَعا ... كَأَنَّنِي بِهِلالِ الْفِطْرِ قَدْ طَلَعا فَخُذْ لِلَهْوِكَ فِي شَوَّالَ أُهْبَتَهُ ... فَإِنَّ شَهْرَكَ فِي الْواواتِ قَدْ وَقَعا فقال المؤلف - رحمه الله -: وما أحسنَه لو قال: قَدْ قَرَّبَ اللهُ مِنَّا كُلَّ ما شَسَعا ... كَأَنَّنَي بِهِلالِ الصَّوْمِ قَدْ طَلَعا فَخُذْ لِجِدِّكِ فِي تَقْواكَ أُهْبَتَهُ ... فَإِنَّ شَعْبانَ فِي الْواواتِ قَدْ وَقَعا ***
المبحث الرابع موارد المؤلف في الكتاب
المبحث الرابع مَوَارِد المؤَلِّف في الكِتَابِ 1 - " أخبار الحمقى والمغفلين"، ابن الجوزي. 2 - "اختيار الأَوْلى في اختصام الملأ الأعلى"، ابن رجب الحنبلي. 3 - "آداب الفتوى والمفتي والمستفتي"، النووي. 4 - "آداب المريدين"، عبد القاهر السهروردي. 5 - "أدب الدنيا والدين"، الماوردي. 6 - "أسنى المطالب في شرح روضة الطالب"، زكريا الأنصاري. 7 - "اعتقاد أهل السنة"، اللالكائي. 8 - "اقتضاء الصراط المستقيم"، ابن تيمية. 9 - "الآداب الشرعية"، ابن مفلح الحنبلي. 10 - "الأذكياء"، ابن الجوزي. 11 - "الأربعون"، أبو الفتوح الطائي. 12 - "الأربعين في أصول الدين"، الغزالي. 13 - "الاستيعاب"، ابن عبد البر. 14 - "الأغاني"، أبو الفرج الأصبهاني.
15 - "الأمالي المطلقة"، ابن حجر. 16 - "الأنيس الصالح والجليس الناصح"، المعافى بن زكريا. 17 - "البدور السافرة في أحوال الآخرة"، السيوطي. 18 - "الترخيص في الإكرام بالقيام"، النووي. 19 - "الترغيب والترهيب"، المنذري. 20 - "التشويق إلى البيت العتيق"، أبو اليمن ابن الإمام محب الدين الطبري. 21 - "التفسير الكبير"، فخر الدين الرازي. 22 - "الجوهر الفريد في أدب الصوفي والمريد - الألفية"، رضيّ الدين الغزي، جدّ المؤلف. 23 - "الحجة على تارك المَحَجَّة"، نصر الدين المقدسي. 24 - "الحدائق لأهل الحقائق"، أبو سعيد بن علي الواعظ. 25 - "الحكم العطائية"، ابن عطاء الله السَّكَنْدَري. 26 - "الخصائص الكبرى"، السيوطي. 27 - "الدُّر النضيد في أدب المفيد والمستفيد"، بدر الدين الغزيّ، والد المؤلف. 28 - "الدرر اللوامع" في الأصول، رضي الدين الغزي، جدّ المؤلف. 29 - "الذريعة إلى محاسن الشريعة"، الراغب. 30 - "الرسالة"، الشيخ أرسلان الدمشقي.
31 - "الرقَّة والبكاء"، ابن أبي الدنيا. 32 - "الرياض النَّضِرة"، محبّ الدين الطبري. 33 - "السفينة العراقية المشحونة بنفائس الآي القرآنية الجارية بالأنفاس النبوية"، محمد بن عراق. 34 - "السيرة النبوية"، ابن هشام. 35 - "الصحاح"، الجوهري. 36 - "العِقْد الفريد"، ابن عبدِ ربِّه. 37 - "العقد المثمن فيمن يسمَّى عبدَ المؤمن"، شرف الدين الدمياطي. 38 - "الفائق"، الزمخشري. 39 - "الفتوحات المكية"، ابن عربي. 40 - "القُصَّاص والمُذَكِّرين"، ابن الجوزي. 41 - "القصيدة التائية"، عبد القادر بن حبيب الصفدي. 42 - "الكَشَّاف"، الزمخشري. 43 - "المجالسة وجواهر العلم"، الدِّينَوَري. 44 - "المجموع في شرح المهذب"، النووي. 45 - "المحرر الوجيز"، ابن عطية. 46 - "المدخل"، ابن الحاجِّ. 47 - "المسامرات"، ابن عربي.
48 - "المستقصى من أمثال العرب"، الزمخشري. 49 - "المصباح المنير"، الفيومي. 50 - "المقاصد الحسنة"، السخاوي. 51 - "المقاماتُ العَلِيَّة في الكرامات الجليَّة"، وهي قصيدة عينية في كرامات بعض الصحابة وشرحها، ابن سيد الناس. 52 - "المِلَل والنِّحَل"، الشهرستاني. 53 - "المنامات"، ابن أبي الدنيا. 54 - "المواقف"، الإيجي. 55 - "الموجز"، علاء الدين بن النفيس. 56 - "النهاية في غريب الحديث"، ابن الأثير. 57 - "الهَمُّ والحزن"، ابن أبي الدنيا. 58 - "الهواتف"، ابن أبي الدنيا. 59 - "بستان العارفين"، النووي. 60 - "تاريخ الخلفاء"، السيوطي. 61 - "تحفة العروس ونزهة النفوس"، التجاني. 62 - "تعليقة ابن طولون الصالحي التي روى فيها عن البهائم والطيور". 63 - "تفسير البيضاوي". 64 - "تفسير القرآن العظيم"، ابن كثير.
65 - "تفسير القرآن العظيم"، بدر الدين الغزي، والد المؤلف. 66 - "تفسير القشيري". 67 - "تهذيب الكمال"، المزي. 68 - "جزء في كلام أبي علي الدَّقاق"، أبو القاسم القشيري. 69 - "حاشية الجامع الصغير"، شمس الدين العلقميّ. 70 - "حقائق التفسير"، أبو عبد الرحمن السّلَميّ. 71 - "حلية الأبدال"، ابن عربي. 72 - "حياة الحيوان الكبرى"، الدَّمِيريّ. 73 - "ديوان الحيوان "، السيوطي. 74 - "رائق الأخبار ولائق الحكايات والأشعار"، يوسف بن عبد الهادي الحنبلي. 75 - "ربيع الأسرار"، الزمخشري. 76 - "رفع الملامة عن استخراج أحكام العِمامة"، يوسف بن عبد الهادي الحنبلي. 77 - "روض الرياحين في حكايات الصالحين"، عبد الله اليافعي. 78 - "روضة الطالبين"، النووي. 79 - "سنن الدارِميِّ". 80 - "شرح السنة"، البَغَويّ.
81 - "شرح الملوك"، الطُّرطوشىّ. 82 - "شرح تائية ابنِ حبيب"، علوان الحمويّ. 83 - "شرح سنن الترمذي"، العراقي. 84 - "شرح صحيح مسلم"، النووي. 85 - "شرح لامية العجم"، الصفدي. 86 - "شرف أصحاب الحديث"، الخطيب البغدادي. 87 - "شرف المصطفى"، أبو سعيد الخركوشي. 88 - "صحيح البخاري". 89 - "صحيح مسلم". 90 - "صفة الصفوفية"، ابن الجوزي. 91 - "صفة المنافق"، الفريابي. 92 - "طبقات الشافعية الكبرى"، السبكي. 93 - "طبقات الصوفية"، أبو عبد الرحمن السلمي. 94 - "طبقات الفقهاء الشافعية"، ابن الصلاح. 95 - "طَيُّ اللسان عن ذَمِّ الطَّيْلَسان"، السيوطي. 96 - "عوارفُ المعارف"، السَّهْرَوَرْدِيّ. 97 - "عيون الأخبار"، ابن قتيبة. 98 - "عيون الأسئلة"، أبو القاسم القشيري.
99 - "فتاوى النووي". 100 - "فصل الخطاب"، بدرُ الدين الغزيُّ، والدُ المؤلِّف. 101 - "فُصوصُ الحِكَم"، ابن عربي. 102 - "قلائد الشرف". 103 - "قلائد العقيان فيما يورِثُ الفقرَ والنسيان"، برهان الدين الناجي. 104 - "كفاية المعتقد"، عبد الله اليافعي. 105 - "لطائف المعارف"، ابن رجب الحنبلي. 106 - "لطائف المنن"، ابن عطاء الله السكندري. 107 - "مجمع الزوائد"، الهيثمي. 108 - "مختصر النهاية في غريب الحديث"، السيوطي. 109 - "منهاج العابدين"، الغزالي. 110 - "مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن"، ابن الجوزي. 111 - "نوادر الأصول"، الحكيم الترمذي. 112 - "وصول الأماني بأصول التهاني"، السيوطي. 113 - "وَفَيات الأعيان"، ابن خَلِّكان. *كما نقل فوائدَ ومسائلَ كثيرة من أفواه عددٍ من مشايخه، وكذا عن خطوطِ علماءَ متقدِّمين. فنقل ما سمعه من والده، وعن شيخه أحمد بن أحمد بن أحمد
أما مؤلفاته التي ذكرها في ثنايا كتابه هذا، ونقل عنها، وأحال في الرجوع إليها
الطيبي الشافعي، وشيخِه العيثاويِّ، ويحيى الغماريِّ المالكيِّ، وغيرهم. ونقل من خط الإمام برهان الدين بنِ جماعةَ الكثيرَ، وعن العارفِ صلاخِ الدين العلائيِّ، وشمسِ الدين محمدِ بنِ الخناجريِّ الحلبيِّ، وعن أخيه شهابِ الدينِ أحمدَ. * أما مؤلفاتُه التي ذكرها في ثنايا كتابه هذا، ونقل عنها، وأحال في الرجوع إليها: 1 - " بُلْغَةُ الواجد في ترجمة الوالد". 2 - "جزء في الذين يُظِلُّهم الله تحت ظِلِّه يوم القيامة". 3 - "منظومة خصائص يوم الجمعة". 4 - "منير التوحيد في شرح الجوهر الفريد في أدب الصوفي والمريد". 5 - "نظم الرسالة الأرسلانية". 6 - "نظم ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين للسيوطي". ***
المبحث الخامس منرلة الكتاب العلمية
المبحث الخامس مَنرِلَة الكِتَاب العِلْمِيَّة * أهمية الكتاب ومزاياه: امتدح المؤلِّف - رحمه الله - مؤلَّفه هذا بقوله: هذا كتاب كريم تطمئن إليه قلوب الأتقياء، وتنشرح له صدور الفضلاء، وتنبسط به أرواح الأولياء، وتنقبض منه نفوس أهل الآراء الفاسدة والأهواء، وهو كتاب لم أُسْبَق - فيما أعلم - إلى جمعه وترتيبه، ولم أُزاحَمْ على اختراعه وتهذيبه، ولا وجدتُ من جاء في بابه بمثله ولا على أسلوبه (¬1). وهو بحقٍّ كذلك؛ كتاب جامعٌ، مفيدٌ، نافعٌ، جليل حافلٌ بموضوعاته، وفوائدِه وتنبيهاته. وهو كتاب بديع؛ كما وصفه الإمام أبو المواهب الحنبلي (¬2). ولم يؤلَّف قبلَه مثلُه؛ كما قال المحبي (¬3)، والشيخُ ¬
مصطفى الحَمَوي (¬1). وهو نافع في بابه، حقيق بالطبع، كما ذكر الكَوْثَري (¬2). ومن أظهر ما قد يَسْتجيده مُطالِعُ هذا السِّفْرِ الحافل: 1 - حُسنُ الجمع والترتيب والتقسيم في الأبواب والفصول والتنبيهات. 2 - جودة الاستشهاد بالآيات القرآنية والنصوص النبوية والآثار المروية، والأقوال المنقولة، والمقطوعات الشعرية المبثوثة. 3 - تنوُّعُ المادة العلمية بين قرآن وحديث، وأثرٍ وفقه، وشعر وقصة أو حكاية مناسبة مؤثرة، وغزارة موارده التي نهل منها المؤلف - رحمه الله -. 4 - شرح الألفاظ الغريبة الواقعة في القرآن أو الحديث، أو الأقوال والأشعار. 5 - سهولة اللغة وبساطتُها، مع البيان التام، والوضوحِ في ذكر المراد. 6 - تزيين الكتاب بكثير من أشعار المؤلف نفسِه، والتي تنوعت بين نظم الأحاديث والآثار، والمواعظ، وهو شعرٌ طابت معانيه، وشرُفت مقاصده ومراميه، واتَّسم ببساطة ألفاظه ومبانيه - كما أسلفنا -. إلى غير ذلك من الفوائد والتنبيهات التي يسعد فيها الباحث عن ¬
المآخذ على الكتاب
الفضائل، والساعي إلى مكارم الأخلاق وحَسَنها. * المآخذ على الكتاب: لا يخلو كتاب في الدنيا - بعد كتاب الله عزّ وجل المنزَّه عن النقائص والأخطاء - عن وقوع أوهامٍ أو أخطاءَ اعتَرتْه في ثناياه، وإن كان هذا نسبياً بين الكتب، وهذا المؤلَّف - بحمد الله - في غالبه ما جاء إلاَّ بكل مفيدٍ قويمٍ يأنس به الطالب، وينتفع به الراغب، لكنه لم يسلَمْ من بعض الخلل - كما هو أيُّ كتاب - الذي لا يَغُضُّ من قدره وعِظَم نفعِه كما عُلِم من قبل، ومن أهم تلك الأمور: 1 - إيراد المؤلف - رحمه الله - لجملة من الأحاديث الضعيفة وشديدة الضعف، بل الموضوعة، كما أسلفنا قبلُ في منهجه الاستدلالي بالأحاديث. 2 - اعتماده على كتب ومراجعَ في نقل مادته الحديثية واستشهاداته دونَ الرجوع إلى مصادرها الأصلية، ومُخَرِّجيها الذين رووها في كتبهم. 3 - تركُ التنبيه على الأحاديث الواهية والضعيفة، والتساهلُ في أمر التصحيح والتحسين والتقوية والاستئناس. 4 - ظهورُ التأثر ببعض المعتقدات السائدة في ذلك العصر؛ كالتبرك بالقبور وغيرِها. 5 - الحَطُّ من قدر جماعة من العلماء، منهم: الإمامُ ابن تيمية؛
فقد تحامل عليه في مواطنَ عِدَّة، ونسب إليه بعضَ الأقوال التي هو منها بَراء (¬1)، مع نقلِهِ لكثيرٍ من كلامه في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" دون الإشارة إليه - غالباً -؛ كما تجد ذلك في المجلدة الثامنة من الكتاب. *** ¬
المبحث السادس وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق
المبحث السادس وَصف النّسخِ الخَطِيَّة المُعتَمَدَة في التَّحْقِيقِ تمَّ الاعتماد في تحقيق هذا السفر الحافل على ثلاث نسخ خطية، أَنْفَسُها: النسخةُ الخطية التي كتبها المؤلِّف بخطِّ يده - لو أنها وصلت إلينا تامةً من أولها إلى منتهاها -، ثم النسخةُ الخطية المكتوبة في حياة المؤلف - رحمه الله -، والتي تعود إلى خزائن المكتبة الظاهرية، ومما نُقل إليها من وقف الوزير أسعد باشا، ثم على النسخة الخطية للمكتبة السليمانية، وهذا وصف تفصيليٌّ لكلِّ واحدة منها: * النسخة الأولى: وهي النسخة التي كتبها المؤلف - رحمه الله - بخط يده، وتتألف من خمسة أجزاء، وقع لنا منها ثلاثة؛ جزءان منها يعودان إلى المكتبة الظاهرية بدمشق، والجزء الثالث من مخطوطات مكتبة تشستربيتي. وهذه النسخة من النَّفاسة بمكان لولا الخَرْمُ الكبير الحاصل في أول جزء منها، وفقدُ الجزأين الرابع والخامس منها، والسّقْطُ الذي تخلل مواضعَ من الجزء الثاني منها. فالجزء الأول: وهو من محفوظات المكتبة الظاهرية - كما
أسلفنا - برقم (8585)، يتألف من (117) ورقة، يبدأ - بعد خرم كبير في أوله يقدر بربع الجزء - من (باب: التشبه بالصالحين) من قوله: "فإن الزهد على الزاهد أحسنُ من الحليِّ على الناهِد" (¬1). وينتهي بقوله في أبيات له: وَأْنَسْ بربِّك إنْ رُمِيت بوَحْشَةٍ ... وبغيرِ ربِّك في الوَرَى لا تَأْنَسِ (¬2) ثم قال: تم الجزء الأول من كتاب: "حسن التنبه لما ورد في التشبه"، جمعُ كاتبِه نجمِ الدين محمدِ بنِ محمدِ بنِ محمدِ بنِ محمدِ بنِ أحمدَ الغزيِّ الشافعي - عفا الله عنه، ورحم والديه -، وكان تمام كتابة هذا الجزء في يوم الأربعاء سادس عشر صفر الخير سنة أربع وعشرين بعد الألف، والحمد لله وحده. والجزء الثاني: وهو من محفوظات المكتبة الظاهرية - أيضاً - برقم (8586)، ويقع في (257) ورقة، يبدأ بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وسلام على عباده الذي اصطفى، تتمة: أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب: الإخلاص ... ". وينتهي بقوله: "هذا تمام القسم الأول من كتاب: "حسن التنبه لما ورد في التشبه"، وقد فرغت ... في يوم السبت رابع رجب الفرد ¬
سنة ست وعشرين وألف، أحسن الله ختامها ... ". وقد حصل في هذا الجزء خرمان: الأول: يقدر بعشرين ورقة؛ كما هو مشار إليه في مطبوعتنا (¬1). والخرم الثاني: يقدر بعشر لوحات؛ كما هو مشار إليه في مطبوعتنا - أيضاً (¬2) -. أما الجزء الثالث: وهو من محفوظات مكتبة تشستربيتي برقم (3216)، ويقع في (284) ورقة، يبدأ بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، وسلام على عباده الذين اصطفى، القسم الثاني من الكتاب: النهي عن التشبه بمن ورد النهي عن التشبه بهم" (¬3). وينتهي بقوله: "وبهذا - مع ما سبق - يتضح لك شؤمُ الدنيا على أهليها - أعاذنا الله تعالى من شؤمها، وحفظنا من مذمومها -". ثم قال: "نجز الثلث الثالث من كتاب: "حسن التنبه لما ورد من التشبه"، لفقير عفوِ ربِّه القدير نجمِ الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمد، المعروفِ بابن رضيِّ الدين، صبحَ الجمعة، سادس عشر جمادى الأولى، سنة خمس وثلاثين وألف، أحسن الله ختامها، والحمد لله" (¬4). ¬
النسخة الثانية
وقد رمزنا لهذه النسخة بالرمز "م". * النسخة الثانية: وهي من محفوظات المكتبة الظاهرية بدمشق، وتتألف من (2072) صرقة من القطع المتوسط، انتظمت في سبعة أجزاء، وناسخها الشيخُ عبدُ الرحمن بنُ محمدِ بنِ عمادِ الدين الغزوليُّ الكاتبُ سنة (1042 هـ)؛ أي: في حياة المؤلف - رحمه الله -. وهي نسخة تامة في كل أجزائها إلاَّ الجزءَ الثاني منها - كما سنشير إليه قريباً -، وقد حُلِّيت هوامشها بالتصويبات والاستدراكات والإفادات، لعلَّ بعضَها كان بخطِّ المؤلِّف - رحمه الله (¬1)، وعليها مقابلاتٌ من أولها إلى آخرها، وظهرت فيها بعضُ التصحيفات في كثير من الكلمات التي التبسَتْ على الناسخ، فرسمها كما ظهرت له دونَ نظر إلى المعنى، وأوقعه فيها عدمُ وضوحِها في أصل المؤلف - رحمه الله -. وقد جاء على غلاف الأجزاء: وقف الوزير أسعد باشا. وهذا تفصيل لكل جزء من أجزائها السبعة: الجزء الأول: ويتألف من (350) ورقة برقم (4054)، يبدأ بقوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله الذي بحمده يحسن الابتداء ... ". وينتهي بقوله من فصل: (وإذا زار قبور الصالحين، فلا يمسح ¬
القبر) من (باب: التشبه بالصالحين): "قلت: لو علمَتِ العامةُ أن ما يفعلونه من ذلك في شجرةِ أم عياشٍ في طريق الحج ... انتهى الجزء الأول، يتممه في الثاني: وبقي هنا فوائد". الجزء الثاني: ويتألف من (132) ورقة برقم (3890)، يبدأ بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، وبه ثقتي، وبقي هنا فوائد ولطائف ومسائل ومعارف ... ". وينتهي بقوله: "وقد فهم الحسن - رحمه الله تعالى - من الآية: أن سبب استجابة الله تعالى لهم". ووقع فيه خرم كبير إلى نهاية هذا الجزء (¬1)، وهو يمثل الثلثين منه تقريباً. الجزء الثالث: ويتألف من (221) ورقة، برقم (3277)، يبدأ من قوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وبه ثقتي، باب: التشبه بالنبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين". وينتهي بقوله: "هذا تمام القسم الأول من كتاب: "حسن التنبه لما ورد في التشبه" بتاريخ نهار الأحد ختام شهر جمادى الآخرة من شهور سنة أربعين وألف، والحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. الجزء الرابع: ويتألف من (306) ورقات برقم (3278)، ويبدأ ¬
بقوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله، وسلام على عباده المؤمنين، القسم الثاني من الكتاب: في النهي عن التشبه بمن ورد النهي عن التشبه بهم". وينتهي بقوله من الكلام على أعمال قوم شعيب - عليه السلام -: "كشف الله تعالى عنا غمرةَ الجهل، ورفعَ عنا سكرةَ الهوى". الجزء الخامس: ويتألف من (317) ورقة، برقم (3279)، يبدأ بقوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وبه ثقتي، باب: النهي عن التشبيه بفرعون وقومه". وينتهي بقوله من الكلام على أخلاق الأعاجم: "ليس فيه - أي: النهي عن الغِيلة - أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك النهي عنها لكونها من فعلهم ... والله - سبحانه وتعالى - أعلم، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم". الجزء السادس: ويتألف من (377) ورقة، برقم (3280)، يبدأ بقوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، باب: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية والمشركين". وينتهي بقوله من الكلام على تشبه العالم بالجاهل: "كما قال الشاعر: بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيُّ فِي الكَرَمْ ... وَمَنْ يُشَابِهْ أَبَهُ فَمَا ظَلَمْ تم الجزء، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على سيدنا
النسخة الثالثة
محمد وآله وصحبه أجمعين، في نهار الثلاثاء، سابع عشر شعبان سنة (1041 هـ). الجزء السابع والأخير: ويتألف من (369) ورقة، برقم (3281)، يبدأ بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، باب: النهي عن التشبه بالبهائم والسباع والطير والهوام". وينتهي بقول المؤلف: "وقد شرعتُ في تأليفه على رأس الألف، وكمل تبييضُه قبلَ العشر، إلا أني زدتُ فيه بعد ذلك أشياء مهمة ... فتم في هذه النسخة المباركة ... سنة ثمان وثلاثين وألف - أحسن الله ختامها -". ثم جاء قولُ الناسخ آخرَها: "وافق الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة يوم الخميس رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وألف، على يد الفقير إلى رحمة ربه القدير: عبدِ الرحمنِ بنِ محمدِ ابنِ عماد الدينِ الغزوليِّ الكاتب، والحمدُ لله وحدَه". وقد رمزنا لهذه النسخة بالرمز "أ". * النسخة الثالثة: وهي من محفوظات المكتبة السليمانية في تركيا، وتقع في (469) ورقة من القطع الكبير، في كل ورقة وجهان، وفي الوجه أربعون سطراً، وفي السطر خمس عشرة كلمة تقريباً، وهي نسخة تامة، كُتبت بخط دقيق جداً، كتبت عناوينها بالحُمْرة، وظهر في ثناياها أخطاء كثيرة وتصحيفات
وتحريفات جمَّة، ولم يذكر في آخرها اسم الناسخ، ولا تاريخ النسخ. وهي تبدأ بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم .... الحمد لله الذي بحمده يحسن الابتداء ... ". وتنتهي بقول المؤلف: "وقد شرعت في تأليفه على رأس الألف ... ". وقد أفَدْنا من هذه النسخة في مواضع عدة، خصوصاً الخروم التي تخللت الجزءَ الثانيَ من نسخةِ المؤلف، ونسخةِ الظاهرية، إلا أن رداءة تصويرها، ودقَّةَ الكلام فيها حالا دون إثبات الكلام على وجهه، واكتفينا بوضع نقاط بين حاصرتين إشارةً إلى عدم وضوح الوجه في الكلام، كما بينا ذلك في موضعه من هذه الطبعة، وهي قليلة بحمد الله. وقد رمزنا لهذه النسخة بالرمز "ت". ***
المبحث السابع بيان منهج التحقيق
المبحث السابع بَيَان منْهَج التَّحِقيق 1 - نسخُ الأصل المخطوط بالاعتماد على نسخة المكتبة الظاهرية، والمرموز لها بـ"أ"، والمؤلَّفة من سبعة أجزاء - كما أسلفنا في وصف النسخ الخطية -، وذلك بحسب رسم وقواعد الإملاء الحديثة. 2 - معارضةُ المنسوخ بالمخطوط؛ للتأكد من سلامة النص وصحته. 3 - معارضةُ المنسوخ والمخطوط معاً بالمصادر الكثيرة التي نقل عنها المؤلف، وذكرُ الفروقِ المهمةِ التي وقعت بينهما، وذلك بإثبات الصواب في النص، والإشارة إلى خلافه في هامش التحقيق. 4 - إثبات الفروق المهمة التي وقعت بين نسخة المؤلف والمرموز لها بـ"م"، وبين نسختي الظاهرية المرموز لها بـ"أ"، والسليمانية المرموز لها بـ "ت". 5 - ضبطُ الأحاديث النبوية الشريفة والأشعار بالشكل الكامل، وضبطُ ما أشكل من نص الكتاب بما يُزيل إشكالَه.
6 - إدخال علامات الترقيم المعتادة على النص، ووضع الكتب والمصنفات بين قوسي تنصيص لتمييزها. 7 - عزوُ الآيات القرآنية الكريمة إلى مواضعها من الكتاب العزيز، وإدراجُها برسم المصحف الشريف، وجعلُ العزو بين معكوفتين في صُلب النص بذكر اسم السورة ورقم الآية. 8 - تخريجُ الأحاديث النبوية الشريفة، وفق الآتي: أ - الالتزام بتخريج ما يعزوه المؤلف في النص، والإضافة عليه إن كان ثَمَّةَ حاجة إليه. ب - التنبيه إلى صاحب اللفظ الذي ساقه المؤلف، وذكر اسم الصحابي الذي روى الحديث إن لم يذكره المؤلف - رحمه الله -. ج - إن كان الحديث في "الصحيحين"، أو في أحدهما، تم العزو إليهما دون غيرهما، وذلك بذكر رقم الحديث. د - إن كان الحديث في "السنن الأربعة"، أو أحدِها، فيتم العزوُ إليها بذكر رقم الحديث، وقد يضاف إليها أحياناً تخريجاتُ كتب السنة المشهورة؛ كـ "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح ابن حبان" و"معاجم الطبراني"، وغيرها. هـ - إن لم يكن الحديث في الكتب الستة، تم تخريجه بذكر اسم المصدر، ورقم الحديث، أو الجزء والصفحة. و- الالتزام - في غالب الأحيان - بذكر درجة الحديث الذي يستشهد به المؤلف - رحمه الله -، وذلك بالاعتماد على كلام أئمة هذا
الشأن؛ كالحافظ الذهبي، والعراقي، والهيثمي، وابنِ حجرٍ العسقلاني، وغيرهم، والإحالة على مصدر ذلك - في الغالب -. 9 - تخريج الآثار والأقوال الواردة في ثنايا الكتاب بذكر اسم المصدر، ورقم الأثر، أو الجزء والصفحة. 10 - توثيق ما يذكره المؤلف من مفرداتِ اللغة وغريبِ الحديث، وهو - في الغالب - ينقل عن "الصحاح" للجوهري، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير، و"القاموس المحيط" للفيروز أبادي. 11 - عزو الأقوال المنقولة من الكتب التي صرَّح المؤلف - رحمه الله - بالنقل عنها. 12 - وضع الأوزان الشعرية للأبيات الكثيرة المبثوثة في الكتاب بين معكوفتين في صلب النص. 13 - التنبيه إلى الأوهام الواقعة عند المؤلف - رحمه الله - في مجمل الكتاب؛ سواء منها ما يمتُّ إلى عزو الأحاديث، أو نسبة الأقوال إلى غير قائليها، أو اعتماد ما ليس معتمداً، والإيضاح والاستدراك في المواضع التي حمل فيها المؤلف على مخالف له في فقه أو اعتقاد، أو نحو ذلك، والتي حاد عنها المؤلف - رحمه الله - عن الجادَّة. 14 - كتابة مقدمة للكتاب مشتملة على ترجمة للمؤلِّف، ودراسة وافية للكتاب.
15 - تذييل الكتاب بفرس تفصيلي للموضوعات الكثيرة التي طرقها المؤلف رحمه الله. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
صور المخطوطات
صورة اللوحة الأولى من الجزء الأول من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية بخط المؤلف رحمه الله والمرموز لها بـ "م"
صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الأول من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية بخط المؤلف رحمه الله والمرموز لها بـ "م"
غلاف الجزء الأول من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية بخط المؤلف رحمه الله والمرموز لها بـ "م"
صورة اللوحة الأولى من الجزء الثاني من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية بخط المؤلف رحمه الله والمرموز لها بـ "م"
صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الثاني من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية بخط المؤلف رحمه الله والمرموز لها بـ "م"
غلاف الجزء الثالث من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية بخط المؤلف رحمه الله والمرموز لها بـ "م"
صورة اللوحة الأولى من الجزء الثالث من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية بخط المؤلف رحمه الله والمرموز لها بـ "م"
صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الثالث من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية بخط المؤلف رحمه الله والمرموز لها بـ "م"
صورة غلاف الجزء الأول من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة اللوحة الأولى من الجزء الأول من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الأول من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة غلاف الجزء الثاني من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة اللوحة الأولى من الجزء الثاني من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الثاني من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة غلاف الجزء الثالث من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لهابـ "أ"
صورة اللوحة الأولى من الجزء الثالث من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الثالث من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة غلاف الجزء الرابع من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة اللوحة الأولى من الجزء الرابع من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
اللوحة الأخيرة من الجزء الرابع من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
غلاف الجزء الخامس من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة اللوحة الأولى من الجزء الخامس من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الخامس من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ"أ"
صورة غلاف الجزء السادس من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة اللوحة الأولى من الجزء السادس من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة اللوحة الأخيرة من الجزء السادس من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ".
غلاف الجزء السابع من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ"أ"
صورة اللوحة الأولى من الجزء السابع من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة اللوحة الأخيرة من الجزء السابع من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ "أ"
صورة غلاف النسخة الخطية للمكتبة السليمانية بتركيا والمرموز لها بـ "ت"
صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية للمكتبة السليمانية بتركيا والمرموز لها بـ"ت"
صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية للمكتبة السليمانية بتركيا والمرموز لها بـ "ت"
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ «وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ» تَألِيف العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة 977 هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة 1061 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى تَحقِيقَ وَدِرَاسَة لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ بِإِشْرَافِ نُورِ الدِّين طَالِب المُجَلَّد الأَوَّلُ دَارُ النَّوادِرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ (1)
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 7 - 84 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
مقدمة المؤلف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدِّمَة المؤلف الحمد لله الذي بحمده يحسُن الابتداء، وبشمول رِفْدِه تمتد النفوس إلى الطلب والرجاء، وتَضَرَّعُ القلوب إلى صدق اللجاء، وترتاح الأرواح إلى التنزه في رياض البهاء، والتروي من حياض العطاء في دار البقاء. سبحانه وتعالى من إله عظيمٍ اختصَّ بإزار العظمة ورِداء الكبرياء، ويا له من ربٍّ حكيم استبدَّ بالخَلق والأمر والفصل والقضاء، وشرع لنا من الدِّيْنِ ما وصَّى به الأنبياء، وأمرنا بالاقتداء بأهل الاهتداء، ونهانا عن التشبه بأهل الضلال والافتراء والجدال والامتراء؛ ثم هو سبحانه يختصُّ برحمته من يشاء. أحمده أن أرشدنا إلى التخلق بأخلاقه أبلغَ الحمدِ والثناء، وأشكره أن أمدَّنا بإدراراته وأرزاقه أوفى الشكر على أوفر العطاء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا مثيل، ولا عديل له، الواحدُ، المحيط بالموجودات من سائر الأرجاء؛ شهادةً خالصةً عن شوائب التعطيل والتشبيه والغلو والإرجاء. وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيه ونبيه وخليله، قطبُ
دائرة الاصطفاء، وحقيقة حقائق النبوة والولاية والاجتباء، المبعوثُ بأخص الأنباء، والمخصوصُ بعموم البعثة والإنباء، صلى الله وسلم عليه وعلى المنتمين من الآل والصحب إليه صلاةً وسلاماً دائمين ما فى امت الآلاء، وتوالت النعماء، وتلألأت الأضواء، وتلاحقت الأَنْواء، وامتدت سطور القدرة على طروس المصنوعات من غير انتهاء. أمّا بعد: فيقول العبد الفقير إلى رحمة ربه القدير؛ نجمُ الدِّين محمدُ بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغَزِّيُّ العامريُّ الشافعيُّ - ألحقه الله تعالى بأهل الولاء، وحشره في زمرة العلماء -: هذا كتاب كريم تطمئن إليه قلوب الأتقياء، وتنشرح له صدور الفضلاء، وتنبسط به أرواح الأولياء، وتنقبض منه نفوس أهل الآراء الفاسدة والأهواء، ضَمَّنته الأمرَ باتباع مَن ورد الأمر بالاقتداء بهداهم والاقتفاء، والنَّهي عن التشبه بمن ورد الزجر عن اتباع هواهم من أهل الافتراء، وأتبعت ذلك بالكلام على التشبه بالبهائم والسباع، كالهر والعواء؛ ليتنزه الإنسانُ عما لا يليق به من الطباع - كالهُزْء والهراء - إلى مقام الْمُرُوَّةِ والمعرفة والترقي عن مراكز النسر والعواء. وهو كتاب لم أسبق - فيما أعلم - إلى جمعه وترتيبه، ولم أزاحم على اختراعه وتهذيبه، ولا وجدت من جاء في بابه بمثله ولا على أسلوبه، ذكرت فيه ما ورد في ذلك بحسب الاطلاع على سبيل السبر والاستقراء،
ولاحظت فيه مع مراعاة الإيجاز والتقريب طريق الاستيفاء، ولم آلُ جهداً في تحرير معانيه - كان رَقَتْ - ولا في تنوير مبانيه - وإن انقادت إليه في الزمن اليسير، وحُقَّتْ - وذلك بفضل الله الذي يؤتي فضلَه من يشاء، ويخص مَن شاء بما شاء. وإني - وإن كنت في نفس الأمر مقصراً عن مقامات المحققين، وعن صعود هذا القصر - فقد أنجد من رأى حصناً، وكاد الباسل أن يظفر بهمته باليتيمة العصماء. وما الباعث لي على الإقدام على مزاحمة الأئمة الأعلام في جمع المؤلفات النافعة والكتب الجامعة، إلا أني شاهدت أن فضل ربي لا يختص بزمان، وأن المبرز في الفضل في علم الله تعالى عند حضور السباق في مضمار الرهان متقدم في حلبة الموفَّقين - وإن تأخر زمناً -، بذلك قضى أهل الحكمة إلا من كان أجبنَ من صَافر، أو أحمقَ من ربيعة البَكَّاء. فلا غَرو أقدمت على الركض في ميدان العرفان، ولم أقدم رِجْلاً، وأؤخر أخرى، وقلت: لعمري إن امتطاء الهمم في قطع الأوهام، ومنع الإحجام عن التوصل إلى حظائر القدس؛ أحق من النزول والركود في حضيض الخمول والخمود، لمن يريد حصول الأنس وأحرى. وخاطبتُ سائلتي عن وجه الحكمة حين وقفت على سابلتي بهذه
الكلمة على طريق الإنشاد والإنشاء: [من المتقارب] وَقَائِلَةٍ كَيْفَ نِلْتَ الَّذِيْ ... تَقَاصَرَ (¬1) عَنْهُ مِنَ النَّاسِ جَمٌ فَقُلْتُ دَعِيْنِيْ فَإِنِّيْ امْرُؤٌ ... رَأَيْتُ النَّوَالَ بِقَدْرِ الْهِمَم فمن كانت همته سعادة الأبد من الله، فنواله من الله رضاه، ومن كانت همته جناح بعوضة أو نواه، فنواله ما نواه؛ لأنه ليس للإنسان إلا ما سعاه، ولا ينال فضل الله إلا من ابتغاه، أو من اختاره الله واجتباه، وفرق بين من شكر له سعيه، وبين من خاب مسعاه. وأقول: [من البسيط] يَا هِمَّةَ النَّدْبِ إِنْ جَدَّتْ جِيادُكِ فِيْ ... قَطْعِ الْمُرَادِ [و] فِيْ تَحْصِيْلِ إِسْعَادِ أَوْ لا فَيَا ضَيْعَةَ الأَوْقاتِ فِيْ لسَفَرٍ ... مَا نِلْتُ مِنْهُ سِوَىْ كَدِّيْ وَإِجْهادِ قال الإمام أبو بكر بن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتاب "الإخلاص والنية": حدثني أبو الحسن الشيباني، قال: قلت لبعض الحكماء: فلان ¬
بعيد الهمة، قال: إذن لا يرضى بمنزلة دون الجنة (¬1). قلت: ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} [الواقعة: 10 - 12]. فعلى قدر الهمَّة يكون السَّبق، وعلى قدر السَّبق يكون التقريب عند الله تعالى. وقال داود الطَّائي رحمه الله تعالى: كل نفس ترد إلى همتها، فمهموم بخير، ومهموم بِشَرٍّ (¬2). وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: إن الأبرار تغلي قلوبُهم بأعمال البر، وإن الفجار تغلي قلوبهم بأعمال الفجور، والله يرى همومكم، فانظروا ما همومكم رحمكم الله تعالى (¬3). وقال يزيد الرقاشي رحمه الله تعالى: للأبرار هِمَمٌ تبلغهم أعمال البر، وكفى بهمة دعتك إلى خير خيراً (¬4). ¬
روى هذه الآثارَ ابنُ أبي الدنيا رحمه الله تعالى. وروى غيرُه عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه قال: قيمة كل عامل همتُه (¬1). قال أبو عبد الله القرشي رحمه الله تعالى: فمن كانت همته الدنيا فقيمته أقل من جناح بعوضة، ومن كانت همته الله تعالى فإن نبله وشرفه ما له قيمة. فذلك وأمثاله مما ورد في فضل علو الهمة من كلام أهل المعرفة وأرباب الحكمة هو الباعثُ لي على الكَلَفِ باقتناص أوابد العلوم، وشرائد الفنون منذ كتب عليَّ قلم التكليف، وتوجه إليَّ الخطاب، والحاثُّ لي على التقاط لآلئ الفوائد، وجواهر الفرائد، وقَلْدِها في عقود التأليف على وجه الحق، ونهج الصواب. وقد قلت: [من المنسرح] بَعَثتنِيْ بَواعِثُ الْهِمَم ... فِيْ اقْتِنَاصِ الْعُلُوْمِ وَالْحِكَم فَتَرَانِي مُنْظِما دُرَراً ... فِيْ سُمُوطِ الْخُطُوطِ مِنْ كَلِمِ ¬
كُتُبِي كَالسَّمَاءِ حَيْثُ هَدَتْ ... بِالدَّرارِيْ السُّراةَ فِيْ الظُّلَم وَهِيَ فَضْلٌ مِنَ الْعَظِيْمِ لَقَدْ ... خَصَّنِيْها بِخالِصِ الْكَرَمِ لَيْسَ فِيْها تَعَمُّل وَلَكَم ... سَابقَ الْفِكْرَ وَالنُّهَىْ قلَمِي حَبَّذَا مِنْحَةً وَنائِلةً ... مِنْ كَرِيْمٍ يَمُدُّ بِالنِّعَمِ لَمْ يَزَلْ قائلًا بِلا شَبَهٍ: ... وَاعَطَاءً، وَهَذهِ قُسَمِيْ ولولا بقايا عليَّ من النفس ما خلت كشوفي بسببها من اللبس، واستجليت مكنونات المعاني جهراً، واستمليت من أفواه الغيوب حقائق تنطبع في قوالب المباني تِبْراً، واستملت خواطر القلوب بألحان المعارف لا المعازف، في ألحان الماكث فيه مُطرب العرفان والعاكف، والشادي بإنشاء الإرشاد المربى على إنشاد الحادي، والرداد بآلات المثالث والمثاني حدراً حدراً. وإني - وإن أحطت - ولله الحمد - من علوم أهل الحقائق خبراً، وأخذت من كمالات النفوس التركية الفوائق نصيباً وَفْرأ - فإني لأقولن:
رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا، ويسرْ لي من أمري عسراً؛ فإنه لا غنى لي عن فضلك، ولا رِيَّ لقلبي كان توالت أوراد جودك عليه وبَذْلك. ولو توهمتُ الرِّي يوما من الأيام من مناهلك، لاستغفرتك من الرَّيْنِ والغين، حتى أتحقق بالزين والعين من فضائلك وفواضلك. وأقول: [من الرجز] أَسْتَمْطِرُ الْجُوْدَ وإِنِّيْ فِيْ حَرَقْ ... وإِنْ يَصِحْ غَيْرِيَ مِنْ خَوْفِ الْغَرَقْ يا رَبِّ سَرْمِدْ لِي النَّدَىْ فَإِنَّنَيْ ... أَشْفَقْتُ أَنْ أَهْلِكَ مِنْ فَرْطِ الْفَرَقْ أَسْتَغْفِرُ اللهَ إِذا ما أَشْرَقَتْ ... شَمْسٌ عَلَىْ قَلْبِي وَمِنْ بَعْدِ الشَّرَقْ
هذا ولقد سميت كتابي هذا: حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ وقسمته - بين فاتحته، وخاتمته، وفي كَنف مقدمته، ولاحقته - إلى قسمين، وجعلته على ضربين: * القسم الأول: فيمن ورد الأمر بالتشبه بهم، والاقتداء بهداهم، وهديهم. * والقسم الثاني: فيمن ورد النهي عن التشبه بهم، واتباع طرقهم.
[مقدمة الكتاب]
[مُقَدِّمَةُ الكِتَابِ] فأما مقدمة هذا الكتاب وسابقته، وغُرَّة هذا المؤلَّف وفاتحته: فاعلم - وفقني الله تعالى وإياك إلى الْمَحَابِّ، وهدانا إلى الصواب - أن التشبه عبارة عن محاولة الإنسان أن يكون شبه المتشبه به، وعلى هيئته، وحِليته، ونَعته، وصفته، أو هو عبارة عن تكلف ذلك، وتقصُّده، وتعمُّله. والشِّبْه - بالكسر والسكون، وبفتحتين -: المِثْل؛ كالشبيه. يقال: أشبهه، وتشبه به؛ ماثله. ويقال: اشتبها، وتشابها؛ أشبه كلٌّ منهما الآخر. ومنه قول القائل: [الكامل] رَقَّ الزُّجاجُ وَرَقَّتِ الْخَمْرُ ... وَتَشابَها فَتَشاكَلَ الأَمْرُ فَكَأَنَّمَا خَمْرٌ وَلا قَدَحٌ ... وَكَأَنَّمَا قَدَحٌ وَلا خَمْرُ (¬1) ¬
وقد يعبر عن التشبه بالتشكل، والتمثل، والتزيي، والتحلي، والتخلق، أو يختص هذا الأخير بتكلف الأخلاق الباطنة، والطبائع، والصفات اللازمة. ومثله التطبع، والتسلق؛ بمعنى: تكلف مشاكلة الطبيعة، والسليقة. قال الشاعر: [من البسيط] إِنَّ التَّخلُّقَ يَأتِيْ دُوْنَهُ الْخُلُقُ (¬1) ويختص التشكل والتزيي والتحلي بتكلُّف الهيئة الظاهرة، والحلية البارزة، فيقال في التشبه بالحلم والكرم مثلاً: تَخَلَّقَ، وفي اللباس والزينة: تَشَكَّلَ، وتَزيَّا، وتحلَّى؛ ومنه الحديث: "لَيْسَ الإِيْمانُ بِالتَّحَلِّيْ" (¬2). ¬
وقد يكون التمثُّل بمعنى الدخول في الصورة؛ ومنه قوله تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]؛ أي: تصوَّر. وقد يكون التشكُّل بهذا المعنى؛ ومنه قول العلماء: للملائكة قوة التشكُّل؛ أي: الظهور بأي صورة أرادوها. وفي "القاموس": الحِلية - بالكسر -: الخلقة والصورة والصفة (¬1). فعليه: يجوز أن يكون التحلِّي بمعنى الدخول في الصورة - أيضًا -، وإنّه سبحانه هو الموفق. وقد روى الإمام أبو داود في "سننه" - بإسناد حسن -، والإمام أبو عبدالثه الحاكم في "مستدركه" - وقال: صحيح الإسناد - عن عبد الله ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، والإمام أبو القاسم الطبراني في "معجمه الأوسط" عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، كلاهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أنه قال: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" (¬2). وإنما كان المتشبِّه بالقوم منهم؛ لأن تشبهه بهم يدل على حبه إيَّاهم، ورضاه بأحوالهم وأعمالهم. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذا رَضِيَ هَدْيَ الرَّجُلِ وَعَمَلَهُ ¬
فَهُوَ مِثْلُهُ". رواه الطبراني من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - (¬1). وروى أبو منصور الديلمي في "مسند الفردوس" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَعْجَبَهُ سَمْتُ رَجُلٍ فَهُوَ مِثْلُهُ" (¬2). وَلِمَا ذكرناه من أن التشبه بالقوم يدل على محبتهم، ويفصح عن مودتهم، قال جماعة - منهم: الحارث بن أسد المحاسبي، وأبو محمد سهل بن عبد الله التستري، وأبو علي الرُّوذَباري، وأبو القاسم القشيري رحمهم الله تعالى -: إن المحبة هي الموافقة، وذلك لأن الإنسان إذا أحب أحداً أحب سائر أوصافه وأفعاله وأخلاقه، وإذا أحبها دعاه حبُّها إلى التخلق والاتصاف بها، ومهما تحلى بها أو اتصف فقد وافق ذلك المتصف بها فيها، وكل إنسان فينه محب لأوصاف نفسه، كَلِفٌ بها، فإذا ادعيت محبته لا تقوم شواهد صدقك عنده إلا بمحبتك لأوصافه وخلائقه، وكل ما ينسب إليه، ولا تتحقق منك المحبة لأوصافه وخلائقه إلا إذا رآك تحليت بها، واخترت الاتصاف بها (¬3). ¬
فائدة زائدة
وقد قال أوقليدس الحكيم - فيما نقله عنه الشهرستاني -: من أراد أن يكون محبوبُه محبوبَك وافقكَ على ما تحب، فإذا اتفقتما على محبوب واحد فقد صرتما إلى الاتفاق (¬1). * فَائِدَةٌ زَائِدةٌ: قد ذكرنا أن كل إنسان محب لأوصاف نفسه، كلِفٌ بها، وهذا من البديهيات، فلا يحتاج إلى برهان، ولذلك ورد: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَوَلَدِي" (¬2). ومن هنا كان الفعل في الإرشاد أبلغ من القول، وذلك لأن الإنسان إذا رأى عاملاً بخير، كان ذلك داعياً له إلى فعل ذلك الخير، أكثر مما لو دعاه إليه ذلك العامل من غير أن يعمل به، ولذلك استحب للعلماء إذا أمروا بشيء أن يعملوا به، أو نهوا عن شيء أن يُظهروا كمال الانزجار عنه؛ ليجمعوا للمأمور والمنهي بين طريقي الإرشاد. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يؤكد أمراً أكده بفعل نفسه، واحتج به عليه؛ كما ثبت في "الصحيحين" أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للرهط الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبداً: "أَنْتُمُ الَّذِيْنَ قُلْتُمْ كذَا وَكَذا؟ أمَا وَاللهِ إِنَّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأتقاكُمْ لَهُ، لَكِنِّيْ أَصُوْمُ وَأُفْطِرُ، ¬
عودا، على بدء
وَأُصَلّيْ وَأَرْقُدُ، وَأتزَوَّجُ النِّساءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِيْ فَلَيْسَ مِنيْ" (¬1). وفي "الصحيحين" - أيضا - من حديث مالك بن الحُويرث رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صَلُّوْا كَمَا رَأَيْتُمُوْنِيْ أُصَلِّيْ" (¬2). * عَوْداً، عَلَىْ بَدْءٍ: فإن قيل: قد قررت أن التخلق بأخلاق الشخص يدل على محبته، وأن المحبة لا تتم إلا بالموافقة في الأخلاق والأحوال، وإنَّا نجد كثيراً من الناس يكرهون أن يتخلق غيرهم بأخلاقهم، أو يتحلوا بحُلاهم؟ قلت: إنما تكون كراهيتهم لذلك من حيث إن المتحلي بحليتهم إنما يريد التشبه بهم لمناظرتهم، أو معارضتهم، أو التهكُّم عليهم، أو السخرية والإزراء بهم، وذلك لا يدل على محبته لهم، ولا اتفاقه معهم - وإن كان موافقا في الصورة - بل يدل ذلك على شدة المباينة، وتمام العداوة، فلا يكون تشبهه بهم في الصورة الظاهرة منهم. بخلاف ما إذا كان تشبهه بهم، وتخلقه بأخلاقهم على سبيل الاقتداء بهم، والاتباع لهم، والاستحسان لأحوالهم؛ فإن هذا عين الدليل على محبتهم؛ لأنه لو لم يحبهم، ويحب أفعالهم لم يقتدِ بهم فيها، ولا استحسنها منهم، ولا أَحَبَّ أن تنسب إليه كما نسبت إليهم، فهو في هذه الحالة متشبه بهم في أوصافهم وأخلاقهم على ¬
وجه الرضى بها لنفسه، والطمأنينة إلى نسبتها إليه، بخلافه في تلك الحالة؛ فإنه إن تشبه بهم على وجه التهكم والسخرية والإزراء فهو مُبَاين لهم في عين اتصافه بأوصافهم، غير راض نسبتها إليه - وإن تشبه بهم على وجه المناظرة والمعارضة -؛ فإنه لو لم يطمع بسبب اتصافه بأوصافهم، وتخلقه بأخلاقهم في التوصل بها إلى مباينتهم، ومضادتهم لم يكن طالباً لتلك الأوصاف، ولا مُعَرِّجًا عليها، وهذه أوقعت بين كثير من الأُستاذِيْن وتلامذتهم. وبهذا يظهر الفرق بين التشبهين؛ أعني: التشبه الذي مبناه على العداوة والمعارضة، والتشبه الذي مبناه على المحبة والموافقة، وهذا التشبه الأخير هو الذي يصير المتشبه بقوم منهم؛ فإن من وافق قوماً، وأحبهم كان منهم ومعهم في الدنيا والآخرة، كما روى الطبراني في "معجمه الكبير"، والحافظ ضياء الدين المقدسي في "الأحاديث المختارة" عن أبي قرفاصة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحَبَّ قَوْماً حَشَرَهُ اللهُ فِيْ زُمْرَتهِمْ" (¬1). ورواه أبو نعيم في "جزء له"، ولفظه: "مَنْ أَحَبَّ قَوْماً وَوالاهُمْ حَشَرَهُ اللهُ فِيْهِمْ" (¬2). ¬
وروى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى بإسناد جيد، من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث: "وَلا يُحِبُّ رَجُل قَوْماً إِلاَّ جَعَلَهُ مِنْهُمْ" (¬1). وأخرج الإمام أبو محمد البغوي في "شرح السنة" من طريق عبد الرزاق، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ثلاث أحلف عليهن، والرابعة لو حلفت عليها لبررت: لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، ولا يتولى الله عبداً في الدنيا فولاَّه غيرَه يوم القيامة، ولا يحب رجل قوما إلا جاء معهم، والرابعة لو حلفت عليها لبررت: لا يستر الله على عبدٍ في الدنيا إلا ستر الله عليه في الآخرة. وقد رواه الطبراني في "معجمه الكبير" عنه مرفوعاً (¬2). ورواه في "معجمه الصغير"، و"الأوسط" - بإسناد جيد - عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثٌ هُنَّ حَقٌّ: لا يَجْعَلُ اللهُ مَنْ لَهُ سَهْمٌ فِيْ الإِسْلامِ كَمَنْ لا سَهْمَ لَهُ، وَلا يَتَوَلَّىْ اللهُ عَبْداً فِيْ الدُّنْيَا فَيُوَلِّيْهَ غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَلا يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْماً ¬
إِلاَّ جَعَلَهُ مَعَهُمْ" (¬1). وروى الشيخان - أبو عبد الله البخاري، وأبو الحسين مسلم - عن أنس - رضي الله عنه -: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: متى الساعة؟ قال: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ " قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ". قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء أشد مما فرحوا يومئذ (¬2). وفي لفظ آخر: قال: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" (¬3). قال أنس: فأنا أحبُّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعمر - رضي الله عنهما -، وأرجو أن أكون معهم (¬4). ورويا - أيضاً - عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحب قوماً، ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" (¬5). ¬
ورويا عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم، ولم يلحق بهم؛ فقال: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" (¬1). وروى أبو داود عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أنه قال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم، ولا يستطيع أن يعمل بعملهم؟ قال: "أَنْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"، فأعادها أبو ذر، فأعادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فهذه الأحاديث قاضية بأن المحبة تُلحق المُقَصِّرَ في الأعمال عن درجات المجتهدين لمحبته إياهم بهم، فما ظنك بمن بلغ من محبته لهم أن يتشبه بهم في الأعمال الصالحات، والاجتهاد في تحصيل الكمالات! ! فإن قلت: كيف يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى مع هذه الأحاديث: يا ابن آدم! لا يغرنك قول من يقول: المرء مع من أحب؛ فإنك لن تلحق الأبرار إلا بأعمالهم؛ فإن اليهود والنصارى يحبون أنبيائهم، وليسوا معهم. قال حجة الإسلام الغزالي: وهذه إشارة إلى أن مجرد ذلك من غير موافقة في بعض الأعمال أو كُلِّها لا ينفع. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى في بعض كلامه: هاه! تريد أن تسكن الفردوس، وتجاور الرحمن في داره مع النبيين والصديقين ¬
والشهداء والصالحين، بأي عمل عملته، بأي شهوة تركتها، بأي غيظ كتمته، بأي رحم قاطعة وصلتها، بأي زلة لأخيك غفرتها، بأي قريب باعدته في الله، بأي بعيد قربته في الله! (¬1). فالجواب عن ذلك: أن المحب لقوم لا يخلو حاله إما أن يكون موافقاً لهم في كل أعمالهم، وأخلاقهم بحسب إمكانه، أو مخالفاً لهم في كلها، أو مخالفاً في البعض، موافقاً في البعض. فإن كان موافقاً لهم في كل أعمالهم، وأخلاقهم فهذا منهم ومعهم بلا شك؛ لأن محبته إياهم أدت به إلى اتصافه بكل أوصافهم، وتشبهه بهم في كل أحوالهم، فقد بلغ أعلى طبقات المحبة، فكيف لا يكون منهم! وهذا - أعني: المشابهة بالقوم في كل أحوال القوم - أعظم شيء يلحقه بهم. ولقد أحسن القائل: [من المتقارب] إِذا أَعْجَبَتْكَ خِصالُ امْرِئ ... فَكُنْهُ يَكُنْ فِيْكَ ما يُعْجِبُكْ فَلَيْسَ عَلَىْ الْمَجْدِ وَالْمَكْرُما ... تِ إِنْ رُمْتَها حاجِبٌ يَحْجُبُكْ (¬2) ¬
وفي "رسالة" الأستاذ أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري رحمه الله تعالى بإسناده عن ذي النون المصري رحمه الله تعالى قال: من علامات المحب لله متابعة حبيب الله - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله، وأخلاقه، وأمره، وسننه (¬1). قلت: وهو مأخود من قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. والمعنى فيه: أن من أحب اللهَ أحبَّه اللهُ، فإذا تابع محبُّ الله حبيبَ الله فقد صدق في الحب، وصار هو - أيضا - حبيبَ الله. وإن كان مخالفا لهم في كل أفعالهم، مبايناً لهم في كل أحوالهم، فهذا ليس منهم قطعاً، وعلى ذلك حمل الغزالي كلام الحسن، وكذلك يحمل عليه كلام الفضيل؛ لأن الظاهر أن محبة هذا مجرد دعوى، ومحضُ تَمَنٍّ، وهذا لا يقال فيه: (محبٌّ) حقيقة، بل: (مدعي المحبة). ويدل عليه: ما رواه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في كتاب "الزهد" عن الحسن أنه قال: يا ابن آدم! زعمت أنك تحب الصالحين، وتفر من أعمالهم، وتبغض الفجار، وأنت أحدهم! وإن كان موافقا في البعض مخالفاً في البعض، فلا يخلو إما أن يخالفهم في أصل الإيمان، أو يوافقهم؛ فإن خالفهم في الإيمان فهذا ¬
ليس منهم قطعاً؛ لأنه - وإن توهم من قلبه محبتهم والميل إليهم - فقد باينهم في أصل الإيمان الذي هو عقيدتهم، وذلك عين العداوة، فأين المحبة؟ وأيُّ عداوة أشد من عداوة الدِّين؟ كما قيل: [من البسيط] كُلُّ الْعَداواتِ قَدْ تُرْجَىْ مَوَدَّتُها ... إِلاَّ عَداوَةَ مَنْ عاداكَ فِيْ الدِّيْنِ (¬1) ومن هذا القبيل: محبة اليهود والنصارى لأنبيائهم. وإن وافقهم في أصل الإيمان، وخالفهم في غيره من الطاعات ومكارم الأخلاق، فلا يخلو إما أن تكون مخالفته لهم في الطاعات والأخلاق والآداب رغبة عنها، وأَنَفَةً منها، ومحبة لما سواها، أو لا؛ فإن كان الأول فهذا - أيضاً - لا ينفعه أصل محبته لهم مع رغبته عن أخلاقهم وأوصافهم، ولا يلحقه بهم، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِيْ فَلَيْسَ مِنِّيْ" (¬2)؛ لأن رغبة هذا عن أخلاق من يدعي محبتهم، وإعراضه عن أوصافهم، دليل على أن محبته تلك لا حقيقة لها، وأنها مجرد دعوى. ولا يبعد أن تكون محبة اليهود والنصارى لأنبيائهم من هذا القبيل - أيضاً -؛ ألا ترى أنهم كانوا يدَّعون محبة إبراهيم عليه السلام، ثم كانوا يرغبون عن ملته، ثم كانوا يدَّعون أنه كان على ما هم عليه من ¬
اليهودية والنصرانية، ثم افترقوا فيه، فقالت اليهود: كان منا، وقالت النصارى: بل كان منا، فشتمهم الله تعالى في كتابه العزيز، وأكذبهم في ذلك كله، فقال تعالى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]. وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 65]. وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67]. فنفى عنه اليهودية والنصرانية، وأثبت له الإسلام، وعرفنا أن الإسلام دين قديم من عهد إبراهيم عليه السلام لم يحدث بعده بقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78]. فلا ينتفع من ادعى محبة قوم، وخالفهم في أخلاقهم، وأعمالهم رغبة عنها بمحبتهم، ولا يلحقه بهم. وكذلك - أيضاً - لو كان مشتغلاً عن متابعتهم، وموافقتهم بما هو فيه من شهوات النفس، وتُرَّهَاتِ الهوى، والعكوف على تحصيل الدنيا بأي وجه تيسرت به، بحيث غلب عليه الظلم والغش والمكر والخديعة وغير ذلك؛ فإنَّ ما يدعيه من محبتهم لا ينفعه، ولا يلحقه بهم؛ لأنه مجرد تَمَنٍّ، ومحضُ ادِّعاء لا يجدي، وكيف تثبت له محبتهم وقد عكف على أوصاف من سواهم، وجاء بأعمال من عداهم ممن ليسوا منهم؟
ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنا" (¬1) الحديث الآتي. ومن هذا القبيل محبة الظَّلَمةِ والفَسَقةِ للصالحين، وتقربهم من المباركين بعرض أموالهم عليهم، وإرسال الهدايا إليهم، وهم مُكِبُّوْنَ على ظلمهم للناس، وإسرافهم على أنفسهم، فهؤلاء لا تنفعهم محبة الصالحين، ولا تلحقه بهم. وإن كان الثاني؛ بأن كانت مخالفته لهم لا على طريق الرغبة عن أخلاقهم، ولا على سبيل الأَنَفَةِ من أحوالهم، بل كان ذلك على سبيل العجز والتقصير عن بلوغ درجاتهم، والانحطاط عن عُلُوِّ همتهم، أو على وجه غلبة الهوى عليه، وضعفه عن مصادمته ومخالفته، فوقعت منه الزلة، وألَمَّ تلك اللمة، ولو تيسر له اللحاق بهم في وصفٍ لم يتأخر عن الاتصاف به، أو في خُلقٍ لم يتوان عن التخلق به، فهذه المخالفة والتقصير لا يُقعدانه عن اللحاق بمن يحبهم، ولا يؤخره عن الكينونة معهم، وعلى ذلك تحمل الأحاديث والآثار الواردة في ذلك. ولا شك أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" جوابا لقول القائل: يا رسول الله! المرء يحب قوماً ولما يلحق بهم (¬2)؟ وفي حديث أبي ذر: ولا يستطيع أن يعمل بعملهم (¬3)؟ ¬
دليل على أن المحب لقومٍ معهم، وإن قصر عنهم في الأعمال والأحوال، ولذلك اشتد فرح المسلمين بذلك. وروي: أن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان شديد الحب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه، ونحل جسمه، فعرف في وجهه الحزن، فقال: "يا ثَوْبانُ! ما غَيَّرَ لَوْنَكَ؟ " فقال: يا رسول الله! ما بِيَ من ضُرٍّ ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، وأخاف أني لا أراك هناك؛ لأني عرفت أنك ترفع، وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبداً (¬1). فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. وروى الطبراني، وأبو نعيم، وغيرهما، وحسنه الضياء المقدسي في "المختارة"، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رجلاً قال: يا رسول الله! (¬2)، وذكر نحو حديث ثوبان - رضي الله عنه -. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "المحتضرين" عن عبد الرحمن بن ¬
صالح العجلي قال: قال ابن السَّمَّاك عند وفاته: اللهم إنك تعلم أني إذا عصيتك، فإني كنت أحب من يطيعك، فاجعل ذلك قربة لي إليك (¬1). ولَمَّا أملى الحافظ أبو الفضل شهاب الدين بن حجر العسقلاني حديث: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" أنشد في إثره - وأخبرنا به شيخ الإسلام الوالد عن مشايخه عنه -: [من السريع] وَقائِلٍ هَلْ عَمَلٌ صالحٌ ... أَعْدَدْتَهُ يَدْفَعْ عَنْكَ الْكُرَبْ فَقُلْتُ حَسْبِيْ خِدْمَةُ الْمُصْطَفَىْ ... وَحُبُّهُ فَالْمَرْءُ مَعْ مَنْ أَحبُّ (¬2) وأنشدنا الوالد رحمه الله تعالى لنفسه، وهو أحسن من قول ابن حجر: [من السريع] مَنْ رامَ أَنْ يَبْلُغَ أَقْصَىْ الْمُنَى ... فِيْ الْحَشْرِ مَعْ تَقْصِيْرهِ فِيْ الْقُرَبْ فَلْيُخْلِصِ الْحُبَّ لِمَوْلَىْ الْوَرَىْ ... وَالْمُصْطَفَىْ فَالْمَرْءُ مَعْ مَنْ أَحَبُّ ¬
تنبيه
قال والدي رحمه الله تعالى: وقد ظفرت بعد ذلك ببيتين لشيخ الإسلام الوالد - يعني: الشيخ رضي الدين -، وهما أحسن من قول ابن حجر، ومن قولي، وهما: [من الخفيف] إِنْ تَكُنْ عَنْ حالِ الَّذِيْنَ اجْتَبَاهُمْ ... ربُهُمْ عاجِزاً وَتَطْلُبْ قُرْبا حِبَّ مَوْلاكَ وَالَّذِيْنَ اصْطَفَاهُمْ ... تَبْقَ مَعْهُمْ فَالْمَرْءُ مَعْ مَنْ أَحَبَّا وقوله: "حِبَّ مولاك" - بكسر الحاء -؛ بمعنى: أَحِبَّ؛ لغة قليلة، يقال: حَبَّ، يَحِبُّ - بكسر ثاني المضارع -، كما في "القاموس" (¬1). * تَنْبِيهٌ: من شرط إلحاق المحبة من يحب بمن يحبه من الصالحين وأولياء الله تعالى: الإخلاص وحسن النية. وهذا مما أبعد المنافقين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه رضي الله تعالى عنهم؛ لأنهم أظهروا محبتهم لهم، ونيتهم غير ذلك. وقال ابن مسعود: هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس، فكان يسمى مهاجر أم قيس. رواه الطبراني في "الكبير" بسند صحيح (¬2). ¬
فتأمَّل كيف لما هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الظاهر - والهجرة إليه دليل حبه - فلما أشرك في هجرته غيره، وأضمر طلب أم قيس، سمي بها دونه! قال بعض العلماء: وهذا كان السبب (¬1) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الأَعْمالُ بِالنِّيَّاتِ، وإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَىْ، فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىْ اللهِ وَرَسُوْلهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَىْ اللهِ وَرَسُوْلهِ، وَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىْ دُنْيَا يُصِيْبُها، أَوْ إِلَىْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُها، فَهِجْرَتُهُ إِلَىْ ما هاجَرَ إِلَيْهِ". أخرجه الشيخان، وغيرهما من حديث عمر - رضي الله عنه - (¬2). وفي قوله: "أَوِ امْرَأةٍ ينْكِحُها" تلميحٌ بمهاجر أم قيس. وقد روى الطبراني - بسند جيد - عن الحسين بن علي - رضي الله عنهما - قال: من أحبنا للدنيا، فإن صاحب الدنيا يحبه البَرُّ والفاجر، ومن أحبنا لله تعالى، كنا نحن وهو يوم القيامة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى (¬3). ¬
وفي قوله: فإن صاحب الدنيا يحبه البَرُّ والفاجر: إشارة إلى أنَّ محبة أهل الدنيا ومؤاخاتهم ليس فيها فضيلة أصلاً، والأمر كذلك. وقد عوتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعراضه مرة عن الفقراء اشتغالاً بمحادثة من كان يرجو إسلامه من أرباب الدنيا (¬1)، بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. بل محبة أهل الدنيا للدنيا مكروهة أو حرام؛ لأنها ترجع إلى محبة الدنيا. وفي الحديث: "حُبُّ الدُّنْيا رَأْسُ كُلّ خَطِيْئَةٍ". رواه البيهقي في "شُعَب الإيمان" عن الحسن مرسلاً (¬2). وروى الإمام أحمد، والبزار، والطبراني، وابن حبَّان، والحاكم - وصححاه - عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحَبَّ دنْياهُ أَضَرَّ بآخِرَتهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْياهُ، فآثِرُوْا ما يَبْقَى عَلَى ما يَفْنَى" (¬3). ¬
فائدة زائدة
وفي "الحلية" لأبي نعيم: عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: إذا رأيت القارئ يلوذ بباب السلطان فاعلم أنه لصٌّ، وإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فهو مرائي (¬1). وقوله: يلوذ بالأغنياء؛ أي: يلزمهم، ويحرص على صحبتهم. * فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ: كما أن محبة أولياء الله تعالى من شرطها الإيمان به، كذلك - أيضاً - من شرط محبة الله تعالى الإيمان به، فلا يصح دعواها لغير مؤمن. ولذلك أكذب الله تعالى اليهود في قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] بقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]، وذلك لأنهم لو أحبُّوه لأحبَّهم، ولو أحبَّهم لم يعذبهم. ودليل أنهم لم يحبوه، أنهم لم يؤمنوا به كما ينبغي، ولو آمنوا به لم يؤثروا عليه شيئاً، ولَمَّا لم يحبهم عذَّبهم بذنوبهم. وفي الحديث: "وإِذا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً لَمْ يَضُرَّهُ ذَنْبٌ". رواه القشيري في "الرسالة"، وغيره عن أنس (¬2). ¬
ومعنى أنه "لم يضره ذنب": أنه لم يعذبه به بأن يوفقه للتوبة، أو يعفو عنه. ثمَّ لا بد مع الإيمان أن لا يقع من المحب المعصية على قصد المخالفة، والمعاندة لمباينتها للإيمان حينئذٍ، وهذا ما كان يقصده عبد الله ابن المبارك، ورابعة العدوية رحمهما الله تعالى بما كانا يتمثلان به من قول أبي العتاهية: [من الكامل] تَعْصِيْ الإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعَمْرِيْ فِيْ الأَنامِ بَدِيْع لَوْ كانَ حُبُّكَ صادِقًا لأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيْعُ بخلاف المعصية التي تكون عن خطأ وزلة؛ فإن ذلك مقتضى جِبِلَّة البشر، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ يَنِيْ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِيْنَ التَّوَّابُوْنُ". رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم - وصححاه - من حديث أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). ¬
فهذه المعصية لا تناقض محبة العبد لله تعالى، ولا تقعد بمحب الله ورسوله وأنبيائه وصالحي خلقه عن اللحاق بهم في جوار الله تعالى وداره. وعلى ذلك ما روي في الحديث الصحيح: أن نعيمان رضي الله تعالى عنه كان يؤتى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شارباً، فأتي به مرة، فحدَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وضربه بالنِّعال، فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَلْعَنْهُ"، وفي رواية: "لا تَسُبُّوْا نُعيْمانَ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُوْلَهُ" (¬1). فأثبت له النبي - صلى الله عليه وسلم - محبة الله ورسوله مع هذه المعصية؛ لأنها كانت عن خطأ وزلة، لا عن قصد المباينة والمخالفة؛ فإنها لو كانت كذلك لكانت مناقضة للمحبة؛ فإن هذه المعصية لا تجامع المحبة ¬
أصلاً بخلاف تلك. وأنت فتأمل في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]؛ فإنه أثبت للمحبين ذنوباً تغفر، وهي ذنوب الخطأ والزلات، لا ذنوب القصد والمخالفات. وفي الآية لطيفةٌ، وهي أنه سبحانه وتعالى جعل وجود المحبة مشروطاً بوجود الاتباع، لا بعدم المعصية. قال وهب بن منبه: قال إبليس: يا رب! إن عبادك يحبونك ويعصونك، ويبغضوني ويطيعوني، فقال الله تعالى: إني قد غفرت لهم ما يعصوني بما أحبوني، وعفوت عما يطيعونك بما أبغضوك. وروى الطبراني، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ ذَنْباً يَعْتَادُهُ الْفَيْنَةَ (¬1) بَعْدَ الْفَيْنَةِ، أَوْ ذَنْباً لا يَتْرُكُهُ حَتَّىْ يَمُوْتَ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ خَطَّاءَ نسَّاءَ، فَإِذَا ذَكَرَ ذُكِرَ" (¬2). وروى البزار، والطبرانيُ - وحسنه ابن حجر في "أماليه" - عن جابر رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمُؤْمِنُ وَاهٍ رَاقِعٌ (¬3)، وَسَعِيْدٌ ¬
تتمة
مَنْ ماتَ عَلَىْ رُقْعَةٍ" (¬1). وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمن قد يقع منه المعصية على وجه الخطأ والنسيان، ولا يضره ذلك إذا مات على توبة وإحسان، كيف وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115]. ويؤخذ من ذلك أن نسيان العبد وعصيانه مظهر لكرم الله وإحسانه؛ إذ لولا معصية العبد لما ظهر وصف العفو والحلم والعدل ونحوها. ومن ثَمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَالَّذِيْ نَفْسِيَ بِيَدهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوْا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُوْنَ، وَيَسْتَغْفِرُوْنَ اللهَ، فَيَغْفِرَ لَهُمْ". رواه الإمام أحمد، ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬2). ولنا في هذا المقام: [من السريع] إِذا عَصَيْنا اللهَ عَنْ زَلَّةٍ ... عُدْنا إِلَى خالِصِ غُفْرانِهِ وإنْ نَسِيْنا عَهْدَهُ إِنَّمَا ... نِسْياننُا مُظْهِرُ إِحْسانِهِ وَلَمْ نُعانِدْهُ بِعِصْيانِنا ... مُذْ مُلِئَ الْقَلْبُ بِإِيْمانِهِ * تَتِمَّة: مقتضى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" (¬3): أن المتحابين في الله ¬
متى كان أحدهما أرفع من الآخر مقاماً لحق به. ثم له فائدة أخرى في التحاب، بل لهما إذا تحابا في الله - وهما مقصران في الطاعة - في التحاب هذه الفائدة العظيمة، وهي ما رواه أبو نعيم عن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنا شَفِيْعٌ لِكُلِّ أَخَوَيْنِ تَحابَّا فِي اللهِ مِنْ مَبْعَثِي إِلَى يَومِ الْقِيامَةِ" (¬1). ولا شك أن الشفاعة إنما تكون لمن قصرت به أعماله. ¬
فصل
فَصْلٌ أسند الأستاذ الكبير العارف بالله تعالى شهاب الدين أبو حفص السُّهروَردي رحمه الله تعالى في باب (المتصوف والمتشبه) من كتاب "عوارف المعارف" حديث: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" (¬1)، ثم قال: فالمتشبه بالصوفية ما اختار التشبه بهم دون غيرهم من الطوائف إلا لمحبته إياهم. قال: وهو مع تقصيره عن القيام بما هم فيه يكون منهم لموضع إرادته ومحبته. ثم قال: ومحبة المتشبه إياهم لا تكون إلا لتنبه روحه لما تنبهت له أرواح الصوفية؛ لأن محبة أمر الله تعالى، وما يقرب منه، تكون بجاذبة الروح (¬2).انتهى. وفيه إشارة إلى ما قررناه سابقاً من أن المتشبه بقوم إنما يتشبه بهم في الغالب لمحبته إياهم، وأن محبته إياهم وتشبهه بهم إنما ¬
يكون لتوافق روحه وأرواحهم فيما تنبهت له أرواحهم من خير وشر، وهو كذلك. ولا شك أن الأرواح إذا تنبهت لشيء واحد واطمأنت إليه، فقد توافقت، وتجانست، وتشاكلت، وتشابهت، وتقاربت - وإن تباعدت أجسادها -. نعم، لو اجتمعت أجسادها يوماً لظهرت هذه المعاني بينها بالتحلي والتشبه والمجاورة والموافقة. ألا ترى إلى قول الله - عزوجل -: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]. فبيَّن أن قلوب السابقين واللاحقين تشابهت في الجهل والكفر حتى قالوا مثل ما قالوا، فاتفاقهم في القول سببه اتفاق القلوب والأرواح - وإن طالت المدد بينهم - فهم مجموعون في العذاب لاجتماع قلوبهم على الكفر والجهل، كما يجتمع أهل الإيمان في النعيم لاجتماع قلوبهم على الإيمان والمعرفة. فالعبرة باجتماع القلوب، واتفاق الأرواح - وإن تباعدت الأجساد -. وكذلك قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ
الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 62، 63]. فيه إشارة إلى أن من كانوا مجتمعين مع النبي علي - صلى الله عليه وسلم - في المعابد والمشاهد، ما قرت عينه منهم إلا ممن تألفت قلوبهم على المودة والإيمان بتأليف الله تعالى. ومن خالف قلبه قلوبهم، وعَقْدُهُ عقدَهم، لم يكن له فيه قرة عين؛ كعبد الله بن أبي ابن سلول (¬1)، وأضرابه من المنافقين على أنهم كانوا يصلون معه ومع أصحابه، ويشهدون معهم المشاهد، ثم كانوا يفترقون، فالمؤمن مع المؤمن، والمنافق مع المنافق، فيتسارُّ المنافقون بما اجتمعت عليه قلوبهم من الكفر وذم المؤمنين وأذاهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} [البقرة: 13، 14]. وأكثر المنافقين كانوا من أهل المدينة، فلما ظهرت منهم مَخايل النفاق هَجَرَهم الأنصار كما هجرهم المهاجرون - على أنهم كانوا هم والأنصار أهل مدينة واحدة، بل كانوا أقارب وعشائر - ¬
لافتراق قلوبهم. وتَوافَقَ الأنصار والمهاجرون لاتفاق قلوبهم على الإيمان، وتآلفها مع أن هؤلاء من بلاد، وهؤلاء من بلاد، ولم يكن بينهم قبل ذلك قرابة ولا عشرة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72]. وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: لو أن مؤمنًا دخل إلى مجلس فيه مئة منافق، ومؤمن واحد، لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقاً دخل إلى مجلس فيه مئة مؤمن، ومنافق واحد، لجاء حتى يجلس إليه. رواه البيهقي موقوفاً (¬1)، وذكره صاحب "الفردوس" من حديث معاذ - رضي الله عنه - مرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال حجة الإسلام رحمه الله تعالى: وهذا يدل على أن شبيه الشيء منجذب إليه بالطبع، وإن كان هو لا يشعر به (¬3). وأنشدوا في المعنى: [من الطويل] ¬
فَلا تَحْقِرَنْ شَخْصاً وَأَنْتَ خَلِيْلُهُ ... فَكُلُّ امْرِئٍ يَصْبُوْ إِلَىْ مَنْ يُجانِسُ (¬1) وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: لا يتفق اثنان في عشرة إلا وفي أحدهما وصف من الآخر؛ فإن أشكال الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران إلا وبينهما مناسبة. قال: فرأى يوماً غراباً مع حمامة فتعجب من ذلك، وقال: اتفقا وليسا من شكل واحد، ثم طارا، [فإذا هما أعرجان] (¬2)، فقال: من هاهنا اتفقا. قال حجة الإسلام: ولذلك قال: كل إنسان يأنس إلى شكله، كما أن كل طير مع جنسه (¬3). وقد روى الإمامان؛ البخاري من حديث عائشة، ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأَرْواحُ جُنُوْدٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْها ائتُلَفَ، وَما تَنَاكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ" (¬4). ¬
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: الأرواح جنود مجندة؛ تلاقى فتَشَامُّ كما تَشَامُّ الخيل، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. نقله البغوي في "شرح السنة" (¬1). ثم قال: وفي الحديث - يعني: المتقدم -: بيان أن الأرصل خلقت قبل الأجساد، وأنها مخلوقة على الائتلاف والاختلاف، كالجنود المجندة إذا تقابلت تواجهت. قال: وذلك على ما جعلها عليه من السعادة والشقاوة. ثم الأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب ما جعلت عليه من التشاكل والتناكر في بدء الخلق، فترى البَرَّ الْخَيِّرَ يحب مثله، والفاجر يألف شكله، وينفر كلٌّ عن ضده (¬2). انتهى. وقال بعضهم في عقد الحديث: [من البسيط] إِنَّ الْقُلُوْبَ لأَجْنادٌ مُجَنَّدَةٌ ... لِلَّهِ فِيْ الأَرْضِ بِالأَهْواءِ تَخْتَلِفُ ¬
فَما تَناكَرَ مِنْها فَهْوَ مُخْتَلِفٌ ... وَما تَعارَفَ مِنْها فَهْوُ مُؤْتَلِفُ (¬1) وقد روى الإمام أحمد، والحسن بن سفيان في "مسندهما" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن امرأة بمكة كانت تُضحِك النِّساء، وكانت بالمدينة أخرى، فنزلت المكيَّة على المدنيَّة، فدخلت على عائشة، فأضحكتها، فقالت: أين نزلتِ؟ فذكرت لها، فقالت: صدق الله ورسوله؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الأَرْوَاحُ جُنُوْدٌ مُجَنَّدةٌ"، الحديث (¬2). وروى البخاري في "أدبه"، والطبراني في "معجمه الكبير" عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ رُوْحَيِ الْمُؤْمِنَيْنِ يَلْتَقِيانِ عَلَى مَسِيرَةِ يَويم وَلَيْلَةٍ، وَما رَأَى واحِدٌ مِنْهُما وَجْهَ صاحِبِهِ" (¬3). ¬
قال بعض العلماء: إن الله تعالى خلق الأرواح، ففلق بعضها من بعض، وأطافها حول العرش، فأي روحين من فلقتين تعارفتا هناك والتقتا، تواصلا في الدنيا (¬1). انتهى. وقلت في هذا المعنى: [من الوافر] ذَرِئْنِيْ يَا أُمَيْمَةُ إِنَ وَجْدِيْ ... بِأُلاَّفِيْ مِنَ الْعَهْدِ الْقَدِيْمِ تَلاقَيْنا حَوالَي عَرْشِ رَبِّي ... وَقَدْ طَوَّفْتُ بِالْعَرْشِ الْعَظِيْمِ تَشَمُّ الرُّوْحُ مِنِّيْ رُوْحَ إِلْفِي ... عَلَىْ بُعْدِ الْهَياكِلِ وَالْجُسُوْمِ فَمَنْ يَكُ شَكْلُهُ شَكْلِي فَإِنِّيْ ... سآلَفُهُ وَأَجْعَلُهُ حَمِيْمِي وَأُشْبِهُهُ وُيشْبِهُنِيْ وَنَغْدُوْ ... وِفاقاً فِيْ الطِّباعِ وَفِيْ الْهُمُوْمِ وَمَنْ لَمْ ألفَ مِنْ أُلاَّفِ رُوْحِيْ ... سَأَرْجِعُ عَنْ مُوافَقَةِ اللَّئِيْمِ ¬
وقلت - مع الإشارة إلى معاني أخرى لطيفة، ومعارف رحمانيَّة شريفة -: [من البسيط] قُلُوْبُنا بِلَهِيْبِ الشَّوْقِ مُحْتَرِقَة ... مَعْ أَنَّهَا لِطِباقِ الْقُرْبِ مُخْتَرِقَهْ فَاعْجَبْ لِضِدَّيْنِ كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُما ... حالُ اللِّقاءِ وَحالُ الشَّوْقِ مُتَّفِقَهْ عُلْوِيَّةٌ لَقِيَتْ مَطْلُوْبَها وَغَدَتْ ... تَبْغِيْ الرُّقِيَّ إِلَى الْعَلْياءِ مُعْتَلِقَهْ لَكِنَّها أَلِفَتْ سُفْلِيَّ جُثَّتِها ... مَزْجاً بِهِ كمِياهِ الْعُوْدِ مُلْتَصِقَهْ وَتَبْتَغِيْ لَوْ وَفَّتْ حَقَّ الْجِوارِ لِما ... كانَتْ بِهِ بِدِيارِ الْحِسِّ مُعْتَنِقَهْ ما بَيْنَ هذَيْنِ تَلْقاهَا مُحَيَّرَةَ ... بَيْنَ الْمَعانِيْ وَبَيْنَ الْحِسِّ مُنْخَنِقَهْ حَتَّىْ إِذا غَلَبَ الْعَقْلُ الْحَكِيْمُ بِما ... يُعْطَىْ مِنَ الرُّشْدِ وَالتَّوْفِيْقِ وَالشَّفَقَهْ
طابَتْ بِنَشْوَتِها حَتىْ عَلَتْ وَعَلا ... جُثْمانُها بِجَنابِ الْقُدْسِ مُلْتَحِقَهْ فَاشْتَمَّ ناسُوْتُها اللاَّهُوْتَ مُرْتَقِياً ... فِيْ ساحَةِ الْمَلَكُوْتِ الْقَمْرَ وَالطَّبَقَهْ تَوافَقَتْ هِيَ وَالْجُثْمانُ فِيْ صُعُدٍ ... كَالشَنِّ وافَقَ فِيْ تَمْثِيْلِهِمْ طَبَقَهْ طابَتْ صَبُوْحًا بِكاساتِ الرِّضَا وَحَسَتْ ... كَأسَ الْهَنا بِرَحِيْقِ الأُنْسِ مُغْتَبِقَهْ طُهْرِيَّةُ الذَّاتِ مِعْطارٌ عَناصِرُها ... يَغْدُوْ بِها الأفْقُ وَالأَرْجاءُ مُعْتَبِقَهْ مَا لَمْ تُشَبْ بِهَواها وَهْوُ فاتِنُها ... مَهْما غَدَتْ بِسِهامِ البَيْنِ مُرْتَشِقَهْ مَخْذُوْلَةٌ رُتِقَتْ مِنْ بَعْدِما فُتِقَتْ ... ثُمَّ انْبَرَتْ بِنِصالِ الْمَقْتِ مُنْفَتِقَهْ أَوْدَىْ بِها الْجِسْمُ أَوْ أَوْدَتْ بِهِ كَلَفاً ... بِالتُّرَّهَاتِ وَلَمْ تُوْعَظْ بِمَنْ خَلَقَهْ
فَاسْتَلْحَقَتْ دَرَكاتِ التُّرْبِ هابِطةً ... أَدْنَىْ الْحَضِيْضِ كَيُرْبُوْعٍ أَتَىْ نَفَقَهْ شَتَّانَ بَيْنَ مُقامَيْها مُنَعَّمَةً ... عُلْواً وَفِيْ ثِقَلِ النَّاسُوْتِ مُحْتَرِقَهْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَوْ نالَتْ مَقامَةَ مَنْ ... أَضْحَتْ عَلَيْهِ مَعانِيْ الْكَوْنِ مُتَّسِقَهْ دامَتْ عَلَىْ الشَّوْقِ لا تُشْفَىْ غلائِلُها ... حَتَّىْ تَرَىْ اللهَ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْحَدَقَهْ أَرْخَىْ عَلَيْها مِنَ الرِّضْوانِ أَرْدِيَةً ... فِيْ جَنَّةِ الْخُلْدِ وَالأَلْطافُ مُتَّفِقَهْ مِنْ بَعْدِ فَيْنَاتِها الأُخْرَىْ وَقَدْ شَرَخَتْ ... لَهَا غُصُوْنُ شَبابِ الأُنْسِ مُنْبَسِقَهْ مَعَ الأَخِلاَّء كِانَتْ قَبْلُ أَنْفُسُهُمْ ... رُوْحٌ بِرُوْحٍ لِوَجْهِ اللهِ مُعْتَلِقَه إِذْ يَنْزِعُ اللهُ غِلاًّ مِنْ صُدُوْرِهِمُ ... فَوْقَ الأَسِرَّةِ وَالأَكوابُ مُنْدَهِقَهْ
ذاكَ الْعَطاءُ لِذاتٍ راقَ مَشْرَبُها ... مِنْ مَنْهَلِ الشَرْعِ لِلْخَيْراتِ مُسْتَبِقَهْ مَأخُوْذَةُ الْقَلْبِ عَنْ غَيْرِ الْحَبِيْبِ غَدَتْ ... بِحُرْمَةِ الْجَمْعِ فِيْ التَّحْقِيْقِ مُنْتَطِقَهْ مَمْحُوَّةٌ فِي وُجُوْدِ اللهِ فانِيَةٌ .... مَمْحُوْقَةٌ فِيْ شُهُوْدِ اللهِ مُنْسَحِقَهْ
فصل
فَصْلٌ ولما كان الطبع يسرق من الطبع، ويسري إليه - خصوصاً مع طول الصحبة، والمعاشرة - حتى يدعو ذلك الشخص إلى تخلقه بخلق مجاوره ومعاشره، كما ترى ذلك كثيراً في كثير من الحيوانات المتوحشة إذا أكثر مقامها بين الناس أَلِفَتْهُمْ، وفهمت إشاراتهم، ومنها ما يقبل التعليم كالببغاء، والقُمْرِيِّ من الطير، والفهد والقرد من السباع والبهائم، بل تبلغ من تآلفها بهم أن لو خرجت عنهم لاستوحشت إلى الأنس بهم، ونفرت عن الوحشة منهم، ولذلك قيل: للمجاورة تأثير، وقيل: من عاشر قوماً أربعين يوماً صار منهم. لَمَّا كان ذلك كذلك، جاء النهي عن الإقامة في بلاد الكفار وعن مساكنتهم ومجاورتهم، والأمر بالهجرة عنهم، فروى أبو داود، والترمذي، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَنَا بَرِيْءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيْمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِيْنَ؛ لا تَراءَىْ ناراهُما" (¬1). ¬
وفي هذا الحديث معنى آخر، وهو أن إقامة المسلم ببلادهم توجب ذِلَّة المسلم فيهم، وإهانته بينهم؛ وقد قال رسول الله - رضي الله عنه -: "لا يَنْبَغِيْ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ"، قيل: وكيف يدُّل نفسه؟ قال: "يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاءِ لِمَا لا يُطِيْقُ". رواه الإمام أحمد، وابن ماجه عن حذيفة - رضي الله عنه -، والطبراني - بسند جيد - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - (¬1). وروى الطبراني - أيضاً - في "معجمه الكبير" عن سَمُرة بن جندب رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُساكِنُوْهُمْ - يَعْنِيْ: الْمُشْرِكِيْنَ -، وَلا تُجامِعُوْهُمْ؛ فَمَنْ ساكَنهمْ، أَوْ جامَعَهُمْ، فَهُوَ مِثْلُهُم" (¬2). ورواه أبو داود بلفظ: "مَنْ جامَعَ الْمُشْرِكَ، وَسَكَنَ مَعَهُ، فَهُوَ مِثْلُهُ" (¬3). وقال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، ¬
وعلى فراق المشرك. رواه النسائي (¬1). وله - أيضاً - نحوه عن أبي نجيلة البجلي، [عنه] (¬2). وقوله: "وعلى فراق المشرك" شامل لمفارقته في الدار، فتجب الهجرة على من لم يقدر على إظهار الدِّيْن من بلاد الشرك إلى ديار الإسلام. ولقد قطع الله الموالاة بين المؤمن المهاجر، والمؤمن الذي لم يهاجر؛ إذ كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة؛ تأكيداً لوجوب الهجرة على المؤمنين من بلاد المشركين، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]. وروى الإمام أحمد، وغيره - وصححه الحاكم - عن جرير بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المهاجرون بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة (¬3). والمراد بالولاية في هذا الحديث: المناصرة والتوادُّ والتحالل. وذلك أن المهاجر لما هاجر من أرض قومه وهم على كفرهم ¬
وفارقهم، انقطعت الوصلة بينه وبينهم، واتصل بمن هاجر إليهم، وهذا بعينه هو السبب في اتحاد المهاجرين، والأنصار حتى جمعهم الله تعالى في كتابه، وقال في الأنصار: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9]؛ وكيف لا يحبون من هاجر إليهم وقد رغب عن قومه إليهم! والهجرة من شأن الأنبياء عليهم السلام، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرأً مِنَ الأَنْصارِ، وَلَوْ أَنَّ النَاسَ أَخَذُوْا وادِياً وَشِعْباً، وَسَلَكَتِ الأَنْصارُ وادِيًا وَشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وادِيَ الأَنْصارِ وَشِعْبَهُمْ". رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). ولقد هاجر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأمر أصحابه بالهجرة، وهاجر قبله أبوه إبراهيم عليه السلام وقال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]، وقال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ} [مريم: 48، 49] الآية. وهاجر معه ابن أخيه لوط عليهما السلام، وهاجر موسى عليه السلام من مصر إلى مَدْين، وهذه سنة الأنبياء والصالحين، ولو شاؤوا لدعَوا على أهل الشرك فهلَكوا، أو سلِموا هم من أذاهم، ولم يهاجروا من أوطانهم، ولكنهم فعلوا ذلك تشريعاً لأتباعهم؛ إذ لا يمكن كلاًّ من الأتباع ذلك، ولو أقاموا بين المشركين وآذوهم، لم يطيقوا، فربما ¬
فتنوهم، أو أهلكوهم، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَقامَ مَعَ الْمُشْرِكِيْنَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ". رواه الطبراني في "معجمه الكبير"، والبيهقي في "سننه" عن جرير - رضي الله عنه - (¬1). وهو - أعني: حديث جرير المار - شا مل - أيضاً - لمفارقة المشركين في الخلق والوصف والفعل، فهو متضمن النهي عن التشبه بالمشرك - أيضاً -، بل الحذر من التشبه بالمشركين هو السبب في نهي المسلم عن مساكنتهم، وأمره بمفارقتهم؛ فإن كثرة الاختلاط بالمشركين توجب ائتلاف من يخالطهم لأحوالهم، وتفضي به إلى التشبه بهم ولو في شيء ما من أحوالهم وأفعالهم، فتعينت مفارقتهم حذراً من سريان الطبع إلى الطبع - كما ذكرناه -. وكذلك ورد: "مَنْ أكثَرَ سَوادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" (¬2). وروى الخطيب البغدادي في "تاريخه" عن أنس رضي الله تعالى ¬
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَوَّدَ مَعَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَنْ رَوَّعَ مُسْلِماً لِرِضَىْ سُلْطانٍ جِيْءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَعَهُ" (¬1). وفي النهي عن تكثير سواد الكفار والفسَّاق مبالغة في التنفير عنهم وعن مخالطتهم؛ لأن ذلك صادق على الوقوف في سوادهم مرة واحدة. وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله - تعالى ذكره - فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] (¬2). فانظر كيف استوجب هؤلاء هذا الوعيد الشديد بمجرد تكثير سواد المشركين، ووقوفهم معهم مع اعتذارهم باستضعافهم واستهانتهم لمَّا كانت الهجرة ممكنة لهم، والمفارقة سائغة منهم، على أنه لم يثبت أنهم ساعدوا المشركين في قتالهم إلا بمجرد الوقوف معهم، وتكثير سوادهم، فما ظنك بمن يتشبه بالمشركين والفاسقين! وممَّا يدل على أن مجرد تكثير سواد الفاسقين موجب للحاق بهم: ¬
ما رواه الطبراني - ورجاله رجال الصحيح إلا ابن لَهيعة، وحديثه لا بأس به - عن خَرَشَة بن الحُرِّ - وكان من الصحابة رضي الله تعالى عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَشْهَدْ أَحَدُكُمْ قَتِيْلاً، فَعَسَىْ أَنْ يُقْتَلَ مَظْلُوْماً، فتَنْزِلَ السَّخْطَةُ عَلَيْهِمْ، فَتُصِيْبَهُ مَعَهُمْ" (¬1). فليس في هذا الحديث أن السخطة أصابته معهم إلا من حيث إنه شهد معهم قتل القتيل، وكثر سوادهم، ولم يباشر القتل؛ فما ظنك بمن يباشر القتل أو غيره من الفسوق، ويشارك أهله فيه، ويتشبه بهم! ومن ثَمَّ جاء النهي عن مصاحبة الفسَّاق ومجالستهم. وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه، عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُجَالِسُوْا أَهْلَ القَدَرِ ولا تُفَاتِحُوهُمْ" (¬2). وقال عمر - رضي الله عنه - في كلام له رواه عنه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وأبو نعيم في "الحلية"، والأصفهاني في "الترغيب"، وغيرهم: ¬
ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره (¬1). وقال علي رضي الله تعالى عنه، فيما رواه عنه الخطابي في "العزلة"، وأبو عبد الرحمن السلمي في "آداب الصحبة": [من الهزج] وَلا تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ ... وَإِيَّاكَ وإيَّاهُ فَكَمْ مِنْ جاهِلٍ أَرْدَىْ ... حَلِيْماً حِيْنَ واساهُ يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ ... إِذا ما هُوَ ماشاهُ وَلِلْقَلْبِ عَلَىْ الْقَلْبِ ... دليْلٌ حِيْنَ يَلْقاهُ وَلِلْمَرْءِ عَلَىْ الْمَرْءِ ... مَقايِيْسٌ وَأَشْباهُ (¬2) وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد"، والامام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبَّان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تُصاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِناً، وَلا يَأْكُلْ طعامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ" (¬3). ¬
وروى أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَرْءُ عَلَىْ دِيْنِ خَلِيْلِهِ" (¬1). إنَّ مآلهما إلى التوافق في الدِّين بسبب سريان طبع أحدهما إلى الآخر، ثم من كان منهما متمكناً في حاله غلب على الآخر؛ فإن كان حال الفاسق أمكن في فسقه من حال الصالح العدل في صلاحه وعدله غلب الفسق عليهما، وإن كان حال الصالح أمكن في صلاحه من حال الفاسق في فسقه وفجوره غلب الصلاح عليهما، ولكن يتعين على ذلك العدل الصالح أن لا يصحب ذلك الفاسق إلا إذا تحقق بغلبة حاله. ثم هو في ذلك على خطر عظيم لاحتمال غلبة حال الفاجر من حيث خفي ذلك عليه - خصوصاً في هذه الأعصار المتأخرة -، فإن الفجور غالب على الناس، والشر منتشر فيهم، وبضاعة الصلاح مُزْجاة بينهم، وقد قلَّ راغبوها، وعزَّ طالبوها، فلا تكاد تجد للتقوى طالباً، ولا للحق ناصراً، مع كثرة أنواع الباطل والفجور، وفرط الرغبة في أنواع اللهو والغرور. فإن فرض أن أحداً تحقق بقُوَّته في الدين، وأيقن بالتمكين، فلا بأس إذا صحب أهل الفجرة والشر رجاءَ نقلهم إلى الخير والبر، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجالس المنافقين، ويصاحبهم مع علمه بأحوالهم، وكذلك ¬
لم تزل الأنبياء عليهم السلام يصابرون كفار أممهم ومنافقيها حتى يتحققوا عدم إيمانهم. وقد روي: أن يحيى وعيسى عليهما السلام كانا يسوحان في البرية جميعًا، فإذا دخلا المدن نزل عيسى على شرار الناس رغبة في هدايتهم، ونزل يحيى على خيار الناس رغبة في صحبتهم. وقد رواه الإمام أحمد في "الزهد" على وجه آخر عن سفيان بن عيينة قال: كان عيسى ويحيى عليهما السلام يأتيان القرية، فيسأل عيسى عن شرار أهلها، ويسأل يحيى عن خيار أهلها، فقال: لِمَ تنزل على شرار الناس؟ فقال: إنما أنا طبيب أداوي المرضى (¬1). وأما من تحركت روحه، وتنبهت خليقته من أهل التخليط إلى الرغبة في التوبة، والإقلاع عن الحَوبة، فدعاه ذلك إلى التفتيش عن الصالحين، والاجتهاد في طلب المتقين، فهذا يتعين عليه إن ظفر بأحد منهم أن يحرص على موافقته ومرافقته، ولا يفرط في صحبته ومجالسته، فعسى أن تسري إليه أخلاقه وأفعاله، وتتفق له أوصافه وأعماله، وعلى الآخر أن يُقبل عليه، ويستوصي به خيراً؛ لأنه من أحباب الله تعالى؛ إذ يقول - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: جالسوا التوابين؛ فإنهم أرق شيء ¬
أفئدة. رواه ابن أبي شيبة، وغيره (¬1). وروى ابن المبارك في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: المؤمن شُعْبَة من المؤمن؛ إن به حاجته، إن به علته، إنه يكلمه، يفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، وهو مرآة أخيه، إن رأى منه ما لا يعجبه سدَّده وقوَّمه ووجَّهه، وخاطبه في السر والعلانية، إن لك من خليلك نصيبًا، إن لك نصيبا من ذِكْرِ من أحببت، فتَنَقَّ الأصحابَ والإخوان والمجالس (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن معاوية بن قرة قال: قال لقمان عليه السلام لابنه: يا بُنَيَّ! جالسِ الصالحين من عباد الله؛ فإنك تصيب من مجالستهم خيراً، ولعله أن يكون آخر ذلك أن تنزل عليهم الرحمة فتصيبك معهم. يا بُنَيَّ! لا تجالس الأشرار؛ فإنك لا تصيب من مجالستهم خيراً، ولعله في آخر ذلك أن تنزل عليهم عقوبةٌ فتصيبك معهم (¬3). وقد أشار لقمان - الذي امتنَّ الله عليه بالحكمة، ونوَّه باسمه في كتابه العزيز - إلى أن تكثير السواد لا بد له من أثر - خير أو شر -، وأقل ¬
ما في ذلك أن تكثير سواد أهل الخير يوجب المساواة معهم في الرحمة، وتكثير سواد أهل الشر يوجب المساواة معهم في العقوبة، ولو لم يكن فيه إلا ذلك لكفى. وروى ابن المبارك في "الزهد" عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم: أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه دعي إلى وليمة، فلما حضر إذا هو بصوت، فرجع، فقيل له: ألا تدخل؟ فقال: أسمع صوتاً، ومن كَثَّرَ سواداً كان من أهله، ومن رضي عملاً كان شريك مَن عمله (¬1). وروى البيهقي في "الشُّعَب" عن مكحول قال: إياك ورفيقَ السوء؛ فإن الشر للشر خُلِقَ (¬2). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن يحيى بن آدم قال: كان الثوري - يعني: سفيان - يتمثل: [من الكامل] اُبْلُ الرِّجالَ إِذا أَرَدْتَ إِخاهُمُ ... وَتَوسَّمَنَ أُمُوْرَهُمْ وَتَفَقَّدِ فَإِذا وَجَدْتَ أَخا الأَمانَةِ وَالتُّقَىْ ... فَبِهِ الْيَدَيْنِ قَرِيْرَ عَيْنٍ فَاشْدُدِ ¬
وَدعِ التَّخَشُّعَ وَالتَّذَلُّلَ تَبْتَغِي ... قُرْبَ امْرِئٍ إِنْ تَدْنُ مِنْهُ يَبْعُدِ (¬1) (¬2) وفي "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيْسِ الصَّالح وَجَلِيْسِ السُّوْءِ؛ كَحامِلِ الْمِسْكِ وَنافِخ الْكِيْرِ؛ فَحامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يَحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتاعَ مِنْهُ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحاً طَيِّبَةً، وَنافخُ الْكِيْرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثَوْبَكَ، وإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريْحاً مُنْتِنَةً" (¬3). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَحامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يَحْذِيَكَ" - بالحاء المهملة، والذال المعجمة، وأوله مفتوح -: أن يعطيك. هذا مثل الجليس الصالح؛ فإنه إما أن يعطيك من فوائده، ويهديك إلى مقاصده، وإمَّا أن تأخذ أنت من أخلاقه، وَيسري إليك من طباعه. ولذلك قال أبو محمد الجُريري رحمه الله تعالى: كمال الرجل في ثلاثة؛ في الغربة والصحبة والفطنة، أما الغربة فلتذليل النفس، وأما ¬
الصحبة فليتخلق بأخلاق الرجال، وأما الفطنة فللتمييز (¬1). "وإِمَّا أَنْ تَجِدَ عِنْده رِيْحاً طَيِّبةً" من حكمة تجدها عنده، أو رحمة تنزل عليه وأنت معه. وقد قلت في المعنى: [من الوافر] أَلا خَيْرُ الأُمُوْرِ لِكُلِّ عَبْدٍ ... يُحاوِلُ أَنْ يَنالَ نَدَىً عَظِيْماً جَلِيْسٌ صالحٌ يُحْذِيْهِ عِلْماً ... وَيهْدِيْهِ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيْما وُيكْسِبُهُ الْمَكارِمَ وَالْمَعالِيْ ... فَيَغْدُوْ فِيْ خَلائِقِهِ كَرِيْما وُيظْفِرُهُ وإِنْ لَمْ يَحْوِ فَضْلاً ... بِرَحْمَةِ رَبِّهِ الْبرِّ الرَّحِيْما وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَنافخ الْكِيْرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيابَكَ ... إلى آخره" هذا مثل جليس السوء؛ فإما يتلف عليك دينك، ويدنِّس منك عرضك، وإما أن تجد منه رائحة منتنة من غيبة أو نميمة أو نحو ذلك، أو من سخط ينزل عليه وأنت عنده، أو عذاب يأخذه وأنت معه، فمن يجالس العبد السوء فقد تعرض لذلك كله. ¬
وروى مسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها: أنها قالت في حديث: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعمْ، إِذا كَثُرَ الْخَبَثُ" (¬1). وروى البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا أَنْزَلَ اللهُ بِقَوْمٍ عَذاباً أَصابَ الْعَذابُ مَنْ كانَ فِيْهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوْا عَلَىْ أَعْمالِهِمْ" (¬2). ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. وبالجملة فلا يميل أحد إلى أحد، ولا يؤثر مجالسته ومخاللته ومرافقته ومشاكلته، إلا لتنبه روح كل منهما إلى ما تنبهت له روح الآخر، إلا أن تلك المناسبة الكامنة في أنفسهما ربما حال بينها وبين ظهورها إلى الحس والمشاهدة مباعدة في الدار، أو مخالفة طباع كل منهما لطباع الآخر من جهة أخرى، أو نحو ذلك، فلا يؤثر في ظهور تلك المناسبة الكامنة شيء مثل المجالسة وكثرة الاجتماع والصحبة، فإذا كانت المجالسة والصحبة ناشئة عن تلك المناسبة طالت الصحبة، وتأكدت المحبة، وإن (¬3) لم تكن مناسبة باطنة، أو كانت لكن عارضتها مناسبة ¬
أخرى لثالث، وغلبت عليها، لم تدم هذه الصحبة، ولا تثبت هذه المحبة. ولذلك قال بعض الحكماء: عماد المحبة المشاكلة، وكل وِدٍّ مع غير تشاكل فهو سريع التصرم (¬1). وقال آخر: الأشكال لا تفترق، والأضداد لا تتفق (¬2). وروى الخطابي في "العزلة" عن ابن الأعرابي قال: العرب تقول: أنت تَئِق، وأنا مَئِق، فكيف نتفق؟ (¬3) انتهى. والتئق - بالتاء المثناة فوق والقاف -: الممتلئ شباباً، ونشاطاً. والمئق: الشيخ. وكلاهما على وزن كتف. أو التئق: السريع إلى الشر. والمئق: الشديد الغضب. وقال الإمام أبو طالب المكي: إذا اصطحب اثنان برهة من الزمان، ولم يتشاكلا في الحال، فلا بد وأن يفترقا (¬4). قال حجة الإسلام: وهذا معنى خفي تَفطَّن له بعض الشعراء حتى قال: [من السريع] ¬
وَقائِلٍ كَيْفَ تَفارَقْتُما ... فَقُلْتُ قَوْلاً فِيْهِ إِنْصافُ لَمْ يَكُ مِنْ شَكْلِيْ فَفارَقْتُهُ ... وَالنَّاسُ أَشْكالٌ وَأُلاَّفُ (¬1) قلت: وقد ألممت بهذا المعنى في أبياتنا المتقدمة قبل هذا الفصل. والبيتان أنشدهما الخطابي في "العزلة" (¬2) عن بعض أهل الأدب بعد أن أسند عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما قال: لا يقول رجل في رجل خيراً لا يعلمه إلا يوشك أن يقول فيه شراً لا يعلمه، ولا يصطحب اثنان على غير طاعة الله تعالى إلا يوشك أن يفترقا على غير طاعة الله تعالى (¬3). وروى الدينوري في "مجالسته" عن الشعبي قال: يقال: إن لله ملكاً موكلاً بجمع الأشكال بعضها إلى بعض (¬4). وأنشد الخطابي في كتاب "العزلة" لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة رحمه الله تعالى: [من الطويل] ¬
تَبَيَّنْ وَكُنْ مِثْلِي أَوِ ابْتَغِ صاحِباً ... كَمِثْلِكَ إِنِّيْ مُبْتَني صاحِباً مِثْلِيْ وَلَنْ يَلْبَثَ الأَقْرانُ أَنْ يَتَفَرَّقُوْا ... إِذا لَمْ يُؤَلَّفْ رُوحُ شَكْلٍ إِلَىْ شَكْلِ (¬1) ونقل الماوردي في كتاب "أدب الدين والدنيا" عن علي - رضي الله عنه -: أنه قال: الصاحب مُنَاسِب. قال: وقال بعض الحكماء: اعرف أخاك بأخيه قبلك. وقال بعض الأدباء: يظن بالمرء ما ظن بقرينه. وقال ابن مسعود: ما شيء أدل على شيء - ولا الدخان على النار - من الصاحب على الصاحب (¬2). وقال أيضاً: اعتبروا الأرض بأسمائها، والصاحب بالصاحب (¬3). قال ابن حجر العسقلاني في "أماليه" - بعد أن أسند هذا الأثر عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه: رواه مُسدَّد في "مسنده"، قال: وقد وجدته في شعر قديم مات قائله قبل الهجرة (¬4). ¬
ثم أسند عن أبي العباس المُبرِّد، قال: بلغني أنه لما خرج خلف ابن خليفة الكوفي لقيه أعرابي فقال: ما تصنع هاهنا؟ قال: أو ما سمعت قول قيس بن الخطيم: [من السريع] يَا إيُّهَا السَّائِلُ عَمَّا مَضَىْ ... مِنْ حالِ هَذا الزَّمَنِ الذَّاهِبِ إِنْ كُنْتَ تَبْغِيْ الأَمْرَ عَنْ صِحَّةٍ ... وَشاهِداً يُخْبِرُ عَنْ غَائِب فَاختَبِرِ الأَرْضَ بِأَسْمائِها ... وَاعْتَبِرِ الصَّاحِبَ بِالصَّاحِبِ (¬1) وقال عدي بن زيد: [من الطويل] عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِيْنِهِ ... فَكُلُّ قَرِيْنٍ بِالْمُقارَنِ يَقْتَدِيْ إِذا كُنْتَ فِيْ قَوْمٍ فَصاحِبْ خِيارَهُمْ ... وَلا تَصْحَبِ الأَرْدَىْ فترْدَىْ مَعَ الرَّدِيْ (¬2) ¬
تنبيه لطيف
قلت: وفي هذا المعنى حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّمَا الْمَرْءُ بِخَلِيْلِهِ؛ فَلْيَنْظُرِ امْرُؤٌ مَنْ يُخالِلُ". وبهذا اللفظ أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (¬1). * تنبِيْهٌ لَطِيْفٌ: روى ابن المبارك في كتاب "الزهد"، وفي كتاب "البر والصلة" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "مَا تَوَادَّ مِنْ اثْنَيْنِ فِيْ الإِسْلامِ فَيُفَرَّقَ بَيْنَهُما إِلاَ مِنْ ذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُما" (¬2). ورواه البخاري في "الأدب المفرد" من حديث أنس رضي الله تعالى عنه ولفظه: "مَا تَوَادَّ اثْنانِ فِيْ اللهِ فَيُفرَّقَ بَيْنَهُما إِلاَ بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُما" (¬3). قلت: الحكمة في المفارقة بينهما: أن أحدهما إذا أذنب ذهبت المشاكلة بينهما؛ إذ كان يجمعهما الطاعة. وفي الحديث: إشارة إلى أن العقوبة على مقارفة العصيان قد ¬
تنبيه آخر
تكون بمفارقة الإخوان. وروى الإمام أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته": أن بشر بن الحارث الحافي رحمه الله تعالى كان له ثلاث أخوات مذكورات بالعبادة والورع - مضغة ومخة وزبدة - وكُبراهنَّ مضغة، وكانت أَسَنَّ من بشر، وماتت قبله، فتوجع عليها توجعا شديداً، وبكى بكاء كثيراً، فقيل له في ذلك، فقال: قرأت في بعض الكتب: أن العبد إذا قصر في خدمة ربه سلبه أنيسه، وهذه كانت أنيستي في الدنيا (¬1). وحكى الخطيب البغدادي عن إبراهيم الحربي: أن بشراً رحمه الله تعالى قال هذا يومَ ماتت أخته مخة رضي الله تعالى عنهم (¬2). * تَنْبِيْهٌ آخَرُ: قد يكون سبب الصحبة بين العبد الصالح وآخر ما يبدو له منه من الطاعة في الظاهر، ويكون في الباطن من الأمر بخلاف ذلك، فهذا لا يضر الصالح. نعم، متى اطلع منه على حقيقة ذلك تعينت عليه مفارقته. وقد روى ابن المبارك في "البر والصلة" عن الإمام محمد ابن الحنفية رحمه الله تعالى قال: من أحب رجلاً على عدلٍ ظهر منه - وهو في علم الله من أهل النار - آجره الله كما لو كان من أهل الجنة، ومن ¬
أبغض رجلاً على جَور ظهر منه - وهو في علم الله من أهل الجنة - آجره الله كما لو كان من أهل النار (¬1). ومن هنا كان السلف إذا كان للواحد منهم خليل أو صاحب، ورأى منه ما يخالف السنة، هجره وتخلى عنه، وهذا متعين. وقد روى الحافظ عبد الرزاق، وابن المنذر في "تفسيره" عن سعيد ابن المسيِّب قال: كان أبو بَكْرة رضي الله تعالى عنه أخا زيادٍ لأمه، فلما كان من أمر زياد ما كان - أي: من انتسابه إلى أبي سفيان، وانتفائه من أبيه - حلف أبو بكرة رضي الله تعالى عنه أن لا يكلم زياداً أبداً، فلم يكلمه حتى مات (¬2). وروى الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" عن الزهريّ: أن رجلاً سلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، ولم يرد عليه، فقيل له: لِم؟ قال: "لأَنَّهُ ذُوْ وَجْهَيْنِ" (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه رأى رجلاً يضحك في جنازة، فقال: تضحك وأنت في جنازة! والله لا أكلمك أبداً (¬4). ¬
وروى الترمذي وصححه، عن نافع: أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما جاءه رجل، فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام، فقال: إنه بلغني أنه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يَكوْن فِيْ هَذِهِ الأمَّةِ - أَوْ: فِيْ أمتِيْ - خَسْفٌ وَمَسْخٌ أَوْ قَذْفٌ فِيْ أَهْلِ الْقَدَرِ" (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول للمغيرة بن حبيب ما لا أحصي - وكان خَتَنَه -: يا مغيرة! كل أخ وجليس وصاحب لا تستفيد منه في دينك فانبذ عنه صحبتك (¬2). وقال الله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]. قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145] أي: بأن أهل الكتاب ليسوا على شيء لا قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - لإحداثهم وتغييرهم، ولا بعد بعثته لعدم إيمانهم به. وفيه إشارة إلى عذر من لم يعلم حتى يعلم، فالإنسان مع معارفه ¬
- من بَلَدِي أو عَصري أو جار أو صديق أو قريب - معذور إذا أحسن الظن بهم وعاشرهم حتى يعلم بأحوالهم، فإذا علم من حال أحد منهم ما يخالف الدين والسنة تعين عليه مفارقته، وإلا كان ظالماً. وإنما رتَّب الله تعالى الظلم في الآية على اتباع أهوائهم؛ لأنهم قد ثبت ظلمهم، ومتابعة الهوى دليل المحبة، والمرء مع من أحب، ومحبة أهل المعصية معصية، كما أن بغضهم طاعة، وكما أن الحب في الله خلق كريم من أخلاق الصالحين، فكذلك البغض في الله. وقد روى الإمام أحمد عن البراء، والحافظ أبو بكر الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن ابن مسعود قالا رضي الله تعالى عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْثَقُ عُرىْ الإِسْلامِ الْحُبُّ فِيْ اللهِ، وَالْبُغْضُ فِيْ اللهِ" (¬1). وروى أبو حفص بن شاهين، وأبو منصور الديلمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَقَرَّبُوْا إِلَىْ اللهِ بِبُغْضِ أَهْلِ الْمَعَاصِيْ، وَالْقَوْهُمْ بِوُجُوْهٍ مُكْفَهِرَّة، وَالْتَمِسُوْا رِضَىْ اللهِ بِسَخَطِهِمْ، وَتَقَرَّبُوْا إِلَىْ اللهِ بِالتَّباعُدِ مِنْهُمْ" (¬2). ¬
والوجوه الْمُكْفَهِرَّة: العابسة، المقطبة، الغليظة. واعلم أن الذي يُبْغَضُ في الله تعالى هو المخالف لأمره، فإن كان كافراً محارباً قُوتِل حتى يسلم، أو يُقْتَل، أو يُسْتَرَقَّ، وهذا غاية النَّكال والإهانة والإذلال. أو ذمياً فيستحق الإعراض عنه، وترك المفاتحة بالسلام والمصافحة، ثم لا يؤذى، ولكن الأَوْلى الكف عن مخالطته ومعاملته ومؤاكلته، فأما الانبساط معه، والاسترسال إليه فشديد الكراهية، وقد ينتهي إلى التحريم، ومودته حرام. وإن كان عاصياً؛ فإن كان مبتدعاً يُكفَّر ببدعته، فأمره أشد من الذمي، فإن لم يكفر بها تعين هجره، ووجب بغضه، والتحذر منه، والإنكار عليه أشد من الكافر؛ لأن الكافر يُحْذَر، ويُتَحَامى عنه، فلا يتعدى شره، بخلاف هذا؛ لأنه يَدَّعي الإسلام. وإن كان غير مبتدع؛ فإن كانت معصيته مما يستضر به الناس؛ كالظلم والغيبة والنميمة وشهادة الزور والزنا واللواط والعقوق والقطيعة والسحر والدياثة والسعاية والمكر والخديعة، فالإنكار عليه واجب أيضاً، والإعراض عنه مستحب. وإن كان معصية ظلم نفسه؛ كالشرب وترك الصلاة ولبس الحرير وسماع الآلات وضربها، فيجب الإنكار عليه عند مشاهدته على المعصية، ونصحه، ويستحب توبيخه وهجره زجراً له عن معصيته، فإن أصر على المعصية - وإن كانت صغيرة - وجب عليه بغضه، ولا يدعو
تتمة لما سبق، وتوضيح له
عليه، بل [يدعو] له بالهداية والتوبة، لا بطول البقاء ونحوه. ولا يجوز لعنه، بل لا يجوز لعن المعيَّن - وإن كان كافراً - لاحتمال حصول حسن الخاتمة له. ولا فائدة في محبة الْمُصِرِّ، وقد قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29]. وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف: 28]. وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]. * تَتِمَّةٌ لِمَا سَبَقَ، وَتَوْضِيْحٌ لَهُ: تقدم لنا ثلاثة أحاديث: - "مَنْ سَوَّدَ مَعَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" (¬1). - و"مَنْ أَحَبَّ قَوْما كانَ مَعَهُمْ" (¬2). - و"مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" (¬3). فأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "منْ سَوَّدَ مَعَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ": فهذا مشروط بأن يكون تسويده معهم باختياره لسوادهم، ومحبته ¬
لهم، وإيثاره لطريقتهم كالصحابة رضي الله تعالى عنهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأما لو كان تسويده معهم عجزاً، أو تَقِيَّة، أو توصلاً إلى الدنيا وطلباً للغنائم، أو تهكماً واستهزاء، أو تجسسا عليهم وكشفاً لأحوالهم، أو مُكرهاً= فهذا لا يكون منهم؛ كالمنافقين مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، كانوا يسودون معه لمعنى من المعاني، فإذا رأوا غنيمة ثبتوا معه، وإذا رأوا هزيمة فرُّوا عنه، وتركوه، فهؤلاء ليسوا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس هو منهم، كما قال الله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56]؛ أي: يخافون، فيُظهرون الإسلام والاتباع تَقِيَّةً منكم. وكذلك - أيضاً - تسويد المستضعفين من المسلمين مع الكفار لا يضرهم، ولا يصيِّرهم منهم، إلا إذا أمكنتهم الهجرة عنهم، فإن تمكنوا من الهجرة، ولم يهاجروا كانوا معهم، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 - 99]. وإنما استثناهم الله تعالى مع إقامتهم في أرض المشركين وكينونتهم معهم؛ لأنهم كانوا مع ذلك يكرهون ما هم عليه من الكفر
والضلال، ويعجزون عن الهجرة عنهم، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو لهم. روى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: "سمع الله لمن حمده"، في الركعة الأخيرة من صلاة العشاء قَنَتَ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِيْ رَبِيْعَةَ، اللَّهُمَ أَنْجِ الْوَليْدَ بْنَ الْمُغِيْرَةِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ ابْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِيْنَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَىْ مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْها عَلَيْهِمْ سِنِيْنَ كَسِنِيِّ يُوْسُفَ (¬1). فانظر كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو لهم بالنجاة بسبب إيمانهم المستلزم لكراهيتهم لأفعال المشركين وأخلاقهم وأحوالهم، مع إقامتهم فيهم، وتسويدهم معهم، فتبين بذلك أن مجرد التسويد مع القوم لا يلحق بهم في كل ما هم فيه، وأن العمدة على محبة القلب وكراهيته، فإذا انضم مع المحبة التسويد مع القوم والتشبه بهم كان ذلك آكدَ في الإلحاق، وكذلك لو انضم إلى الكراهية النفرة عن التسويد معهم، ومحبة الهجرة عنهم، والمخالفة لهم في الأفعال والأحوال، كان ذلك آكد في عدم الإلحاق. وقد روى أبو داود في "سننه" عن العُرس بن عَمير - بضم العين المهملة في الأول، وفتحها في الثاني - الكندي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا عُمِلَتِ الْخَطِيْئةُ فِيْ الأَرْضِ كانَ مَنْ شَهِدها فَكَرِهَهَا، ¬
كَمَنْ غابَ عَنْهَا، وَمَنْ غابَ عَنْها فَرَضِيَها، كانَ كَمَنْ شَهِدَها" (¬1). وروى البيهقي في "سننه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَضَرَ مَعْصِيَةً فَكَرِهَهَا، فَكَأَنَّما غابَ عَنْها، وَمَنْ غابَ عَنْها فَرَضِيَها، فَكَأَنَّهُ حَضَرَها" (¬2). نعم، إذا تجرد التسويد معهم عن المحبة والكراهية جميعاً، فقد يشاركهم فيما ينوبهم من رحمة أو نقمة - كما سبق في كلام لقمان - كمن يسود معهم عبثاً، أو للتفرج والتلهي بهم، كمن يقف على من يضرب بالآلة، أو بشعبات، أو يرقص القرود، أو على حلقة يعزر فيها من لا يستحق التعزير، أو على حلقة المتصارعين، أو المتداقفين، أو مع من يشهد من يمشي على الحبل، بل التسويد مع هؤلاء لهذه المعاني يلحق بهم بلا شك. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحَبَّ قَوْماً جَعَلَهُ اللهُ مَعَهُمْ" (¬3): فيه إلحاق من لم يشهد القوم، ولم يسود معهم بهم لمجرد محبته إياهم - كما تقدم -؛ أي: ما لم يخالفهم، أو يتشبه بغيرهم، كما روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه كان يقول: إني ¬
ألفيت أصحابي على أمر، وإني إن خالفتهم خشيت أن لا ألحق بهم (¬1). وفي الحديث بشارة عظيمة لسائر الأمة، وتقريع شديد لكل من أحب أحداً من طوائف الشرك والنفاق والابتداع - كان لم يسود معهم، ويلْقَهم -. وشَتَّانَ بين من يحب عبد الله بن أبي ابن سلول - رأس المنافقين - وأصحابه، أو يحب بشر المريسي (¬2) وأصحابه، أو واصل بن عطاء وأصحابه، أو نحو هؤلاء الضُّلاَّل، وبين من يحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم ويحب الأئمة الأربعة وأصحابهم، وأبا الحسن الأشعري وأصحابه، وسائر أهل السنة من أهل الحديث وغيرهم رحمهم الله تعالى. ومن فاته مشاهدة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقيه، والتسويد معه من المؤمنين لم يحرمه الله تعالى حظه منه، فإنه ألحقه به وبأصحابه الذين سودوا معه بالمحبة المشروطة بها الإيمان به وبما جاء به، ومحبة أهل بيته وأصحابه ¬
رضي الله تعالى عنهم. ثم لما كانت المحبة التي تترتب على السماع والإخبار، كما قيل: والأذن تعشق قبل العين أحياناً (¬1) أبلغَ وأعجب من المحبة التي تترتب على الصحبة واللقي ومشاهدة الذات، وملاحظة الصفات لخفاء سبب الأولى، وظهور سبب الثانية، فكانت الأولى أعظم ثواباً، وأبلغ أجراً، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طُوْبَىْ لِمَنْ رآنِيْ وَآمَنَ بِيْ مَرَّةً، وَطُوْبَىْ لِمَنْ لَمْ يَرَنيْ وآمَنَ بِيْ سَبع مَرَّاتٍ". رواه الإمام أحمد في "مسنده" من حديث أنس رضي الله تعالى عنه. وهو والبخاري في "تاريخه"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنهما (¬2). وروى الإمام إسحاق بن راهويه، والحافظ سعيد بن منصور ¬
- بإسناد صحيح كما قال الحافظ أبو الفضل بن حجر العسقلاني (¬1) - عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - بَيِّناً لمن رآه، والذي لا إله إلا هو، ما آمن مؤمن أفضل من إيمانٍ بغيب (¬2). قلت: ولا يلزم من ذلك تفضيل غير الصحابة عليهم، بل إنما أراد - صلى الله عليه وسلم - بأن تضعيف أجور الذين آمنوا به غيباً ليلحقهم بالمشاهدين له، ولآياته، ومعجزاته. ثم بيَّن فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم في أحاديث أخر فقال - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الْقُرُوْنِ قَرْنِيْ ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنهمْ". الحديث رواه الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬3). ومن لطائف الفهم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "طُوْبَىْ لِمَنْ رآنِيْ وَآمَنَ بِيْ مَرَّةً، وَطُوْبَىْ لِمَنْ لَمْ يَرَنيْ وَآمَنَ بِيْ سَبع مَرَّاتٍ": أنه لا شك في سبق الصحابة لأنهم السابقون الأولون، لكنهم تعجلوا من ثوابهم ونعيمهم لُقِيَّه - صلى الله عليه وسلم - والتملي من جمال طلعته الشريفة، والارتضاع من ¬
ثدي تربيته - صلى الله عليه وسلم -، فكرر النبي - صلى الله عليه وسلم - طوبى لمن آمن به ولم يَرَه سبعاً؛ ليكون ذلك جبراً لما فاتهم من الثواب المعجل المشار إليه، وترويحاً لقلوبهم عما تضرَّم فيها من نيران الشوق إلى جماله - صلى الله عليه وسلم -، كما أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله: "إِنَّ نَاسا مِنْ أُمَّتِيْ يَأْتُوْنَ بَعْدِيَ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوِ اشْترَىْ رُؤيتِيْ بِأَهْلِهِ وَمالِهِ". رواه الحاكم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "منْ تَشَبَّهَ بِقَوْيم فَهُوَ مِنْهُمْ" (¬2): فاعلم أن من أحبَّ قوماً، وتحقق بمحبتهم كان معهم على كل حال - كما علمت مما تقدم -، إلا أنه كلما كان أكثر لهم حباً كان أكثر إليهم قرباً، ولا تظهر آثار المحبة إلا بالتشبه بهم والتسويد معهم على الوجه الذي قررناه سابقاً ولاحقاً، فكلما كان العبد أكثر رغبة في التشبه بهم والكينونة معهم، كان أقربَ إليهم لأنه أَحَبُّ لهم. وكل من أحب قوماً فهو معهم إلا أنه يكون في القرب منهم على قدر تشبهه بهم، والكينونة معهم، فأما لو تشبه بغيرهم، أو سود مع غيرهم رغبة في أحوال من تشبه بهم، أو سود معهم، فإنه لا يكون معهم بمجرد دعواه أنه يحبهم؛ فإن دعواه محبتهم كَذَّبَهُ فيها كونُه مع غيرهم، وتشبهه بمن سواهم، كما تقدم. ¬
لا جرم لأجل ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنا" (¬1). وسيأتي هذا الحديث في محله. وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: إني ألفيت أصحابي على أمر، وإني إن خالفتهم خشيت أن لا ألحق بهم. رواه ابن أبي شيبة (¬2). وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: لو أن رجلاً قام بين الركن والمقام يعبد الله سبعين سنة، لبعثه الله تعالى يوم القيامة مع من يحب (¬3). ثم إن من أراد أن يتشبه بقوم لمحبته إياهم؛ فإما أن يراهم ويخالطهم، أو لا؛ فإن رآهم وخالطهم كان أقرب إلى سريان طباعهم إليه ممن لم يرهم ولم يخالطهم، فله لذلك مزية ظاهرة على غيره، وقد اتفقت هذه الفضائل للصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقيه ومخالطته والتسويد معه وصحبته والاقتداء به، فبذلك كانوا أفضل من غيرهم من أهل دائرة المحبة، وسكان دوحة الإيمان مع ما حصل لهم من فضيلة السبق. وقد قيل: [من الطويل] ¬
وَلَوْ قَبْلَ مَبْكاها بَكَيْتُ صَبابَةً ... شَفَيْتُ غَلِيْلَ النَّفْسِ قَبْلَ التَّنَدُّمِ وَلَكِنْ بَكَتْ قَبْلِيْ فَهَيَّجَ لِي الْبُكا ... بُكاها فَقُلْتُ الْفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّم (¬1) وأما من جاء بعد الصحابة من أهل الإيمان ففاتهم فضيلة اللُّقِيِّ والتسويد، ولم يفتهم فضيلة المحبة والاقتداء، ولذلك سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إخوانه" (¬2)؛ لأن الأخ هو المشاكل في الصفة أو في الخلق أو نحو ذلك، بخلاف الصاحب؛ فإنه المخالط في العشرة. ثم قد يكون الصاحب أخاً كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذَاً خَلِيْلاً غَيْرَ رَبِّيْ لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَلِيْلاً، وَلَكِنَّ أَبا بَكْرٍ أَخِيْ وَصاحِبِيْ، وَلَقَدِ اتَّخَذَ اللهُ صاحِبَكُمْ خَلِيْلاً". رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬3). ¬
وقال - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله تعالى عنه: "أَلا تَرْضَىْ أَنْ تَكُوْنَ مِنِّيَ بِمَنْزِلَةِ هارُوْنَ مِنْ مُوْسَى إِلاَّ أَنَّهُ لا نبِي بَعْدِيْ". رواه الشيخان - أيضا - عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - (¬1). وإنما لم يحدث جميع أصحابه بالأخوة التي بينه وبينهم بمقتضى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]؛ لإظهار مزية من حدث بأخوتهم منهم، ولئلا يفتضح أهل النفاق، وأهل القصور عن درجة الأخوة، ولئلا يتكلموا على ما يحدثهم به من ثبوت الأخوة لهم، أو يحصل لهم زهو بذلك وإعجاب، وهذا مأمون فيمن يأتي من بعدهم من إخوانه - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يذكرهم بأعيانهم، وإنما ذكر قوماً يأتون من بعده يؤمنون به إيماناً كاملاً يصيِّرهم إخوانه - صلى الله عليه وسلم -، فكل مؤمن يرجو هذه المزية، ويسعى على تحصيلها له. ولما فات هؤلاء فضيلة التسويد معه، والمجالسة له، جَبَر ما فاتهم بتشوقه إليهم مع تسميتهم إخوانه، والثناء على إيمانهم، وتفضيل إيمانهم، وإعجابه به، كما روى الإمام أحمد، والطبراني، وأبو يعلى - ورجال إسنادهما ثقات إلا أبا عائذ فضعفه ابن عدي (¬2)، ووثقه ابن حبان (¬3) - عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَدِدْتُ ¬
أنِّي لَقِيْتُ إِخْوانِي، الَّذِيْنَ آمَنُوْا بِيْ وَلَمْ يَرَوْنيْ" (¬1). ولفظ أبي يعلى: "مَتَىْ ألقَىْ إِخْوانِيَ؟ " قالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟ قال: "بَلَىْ، أَنْتُمْ أَصْحابِيْ، وإِخْوانِيَ الَّذِيْنَ آمَنُوْا بِيْ وَلَمْ يَرَورنيْ" (¬2). وروى أبو يعلى، والبزار، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: كنت جالساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أَنْبِئُوْنِيْ بِأَفْضَلِ أَهْلِ الإِيْمانِ إِيْماناً"، قالوا: يا رسول الله! الملائكة عليهم السلام، قال: "هُمْ كَذَلِكَ، وَيحِقُّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَما يَمْنَعُهُمْ وَقَدْ أَنْزَلَهُمُ اللهُ تَعَالَىْ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِيْ أَنْزَلَهُمْ بِهَا! " قالوا: يا رسول الله! فالشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء؟ قال: "هُمْ كَذَلِكَ، وَيَحِقُّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَما يَمْنَعُهُمْ وَقَدْ أَكْرَمَهُمُ اللهُ تَعَالَىْ بِالشَّهادةِ مَعَ الأَنْبِياءِ! بَلْ غَيْرُهُمْ"، قالوا: يا رسول الله! ومن هم؟ قال: "أَقْوامٌ فِيْ أَصْلابِ الرِّجالِ يَأْتُوْنَ بَعْدِيْ يُؤْمِنُوْنَ بِيْ، وَلَمْ يَرَوْنيْ، وُيصَدِّقُوْنيْ، وَلَمْ يَرَوْنيْ، يَجِدُوْنَ الْوَرَقَ الْمُعَلَّقَ فَيَعْمَلُوْنَ بِما فِيْهِ، فَهَؤُلاءِ أَفْضَلُ أَهْلِ الإِيْمانِ إِيْمَاناً" (¬3). ¬
ومعنى كونهم أفضل أهل الإيمان إيمانا: أبلغ، وأعجب - كما تقدم -. وكما في حديث آخر ممن رواه الحسن بن عرفة، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وأقرَّه ابن حجر العسقلاني في "أماليه" (¬1)، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيْماناً؟ " قالوا: الملائكة عليهم السلام، قال: "وَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُوْنَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ! " قالوا: فالأنبياء عليهم السلام؟ قال: "وَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُوْنَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ! " قالوا: فنحن؟ قال: "وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُوْنَ وَأنا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ! أَلا إِنَّ أَعْجَبَ الْخَلْقِ إِيْماناً قَوْمٌ يَأْتُوْنَ مِنْ بَعْدِكُمْ يَجِدُوْنَ صُحُفاً فِيْها كِتابٌ يُؤْمِنُوْنَ بِما فِيْهِ" (¬2). وروى البزار نحوه من حديث أنس - رضي الله عنه - (¬3)، ورجاله ثقات إلا سعيد ¬
تنبيه
ابن بشير (¬1)؛ فوثق، وضعف، لكن له شواهد عواضد، والله سبحانه وتعالى أعلم. * تنْبِيْهٌ: من لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد عزاه الله تعالى برؤية من سلك طريقه من الصحابة، أو ممن تبعهم، أو تبع من تبعهم إلى يوم القيامة، وفي ذلك تسلية له عن ما فاته من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما تكون هذه التسلية لمن طلب الأخيار، وهم أهل العلم والدين؛ فإنهم أبدال عن الأنبياء عليهم السلام، وورثة عنهم. وقد روى الطبراني في "الكبير"، والحاكم في "المستدرك" عن عبد الله بن بُسر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "طُوْبَىْ لِمَنْ رَآنِيْ وَآَمَنَ بِيْ، وَطُوْبَىْ لِمَنْ رَأَىْ مَنْ رَآَنِيْ، وَلِمَنْ رَأَىْ مَنْ رَأَىْ مَنْ رَآنِيْ وَآمَنَ بِيْ، طُوْبَىْ، وُحُسْنُ مآبٍ" (¬2). وهذا الحديث فيه فضل الصحابة والتابعين وتابعيهم. ¬
وعندي: إن من جاء بعد هؤلاء، وكان على طريقتهم، ومحبتهم أُلحق بهم، وهكذا إلى آخر الدهر؛ لدخولهم في قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس السابق: "وَطُوْبَىْ لِمَنْ لَمْ يَرنيْ وَآمَنَ بِيْ سَبْعَ مَرَّاتٍ" (¬1)؛ فقد وعدهم - صلى الله عليه وسلم - بطوبى كما وعمد أولئك. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "طُوبَى لِمَنْ رَآَنِيْ وَآمَنَ بِيْ وَلِمَنْ رَأَىْ مَنْ رَآنِيْ" (¬2) إلى آخره، عموم شامل لمن رآه، أو رأى من رآه في المنام، ولكن محل هذا من كان على طريقهم من المؤمنين، فأما من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أحداً من أصحابه رضي الله تعالى عنهم في المنام من الفسقة والظلمة، فلا تنفعه رؤياه، بل قد تدل على انتقام منه، واستدراج، والعياذ بالله. ¬
بَابُ بَيَان الحِكَمِ الظَّاهِرَة فِي تَأخِيرِ هَذِهِ الأُمَّةِ
باب بيان الحكم الظاهرة في تأخير هذه الأمة
بَابُ بَيَان الحِكَمِ الظَّاهِرَة فِي تَأخِيرِ هَذِهِ الأُمَّةِ 1 - التي منها: إرادة التشبه بالصالحين من الأمم السابقة، والتجنب عن قبائح الطالحين منهم. روى الشيخان في "الصحيحين" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نَحْنُ الآخِرُوْنَ السَّابِقُوْنَ يَوْمَ الْقِيامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوْتُوْا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِنا، وَأُوْتيْناهُ مِنْ بَعْدِهِمْ"، الحديث (¬1). اعلم أن تأخير هذه الأمة عن سائر الأمم إنما هو لحكم كثيرة يظهر بها أن تأخيرهم عين تقديمهم، وتفضيلهم، وأن الله تعالى لم يُرد بتأخيرهم في الزمان إلا تزكيتهم، وتكريمهم. قال بعض العلماء: أخَّر الله تعالى هذه الأمة إلى آخر الزمان؛ لئلا يطول مكثهم تحت الأرض، فكرَّمهم الله تعالى بأنهم أقل الأمم مكثاً تحت الأرض. قلت: هذا من الحِكَم التي أشرنا إليها. وقريب من هذا المعنى: أن الله تعالى جعل هذه الأمة أقصر الناس ¬
أعماراً، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَعْمَارُ أُمَّتِيْ مِنَ السِّتّيْنَ إِلَى السَّبْعِيْنَ، وَأقلُّهُمْ مَنْ يَجُوْزُ ذَلِكَ". رواه الترمذي وحسنه، عن أبي هريرة، وأبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنهم (¬1). وروى الطبراني في "معجمه الكبير" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أقل أُمَّتِيْ الَّذِيْنَ يَبْلُغُوْنَ السَّبْعِيْنَ" (¬2). والحكمة في قصر أعمارهم: أن الله تعالى أراد بذلك تقصير مدة التكليف عليهم ليخف عليهم حمل المشاق، ومعاناة غروب الدنيا، وخطوبها، وقد اقتضى أمرُ الله تعالى أن تكون الدنيا سجن المؤمن، كما روى الإمام أحمد، وغيره، وصححه الحاكم، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ، فَإِذا فارَقَ الدُّنْيا فارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ" (¬3)؛ أي: ولقي الراحة، والدَّعَة، والخصب، والسعة، وظفر بالتحفة، والبهجة، والمسرة، ¬
والمبرة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ" (¬1)، لما يرى من كرامة الله تعالى وثوابه. وقال سفيان: كان يقال: الموت راحة العابدين. رواهما ابن أبي الدنيا في كتاب "ذكر الموت". فأراد الله تعالى أن يجعل الراحة لهذه الأمة من الدنيا وأكدارِها، بقصر آجالها وأعمارها. ثم إنه الله تعالى ضاعف لهم الأعمال والأجور، واختصهم بخصائص تلحقهم في الزمن اليسير بمن سلف من أهل الجَدِّ والتشمير مع أعمارهم الطويلة، وآجالهم البعيدة، بل ورَقَّاهم الله تعالى عليهم، وجعلهم سابقين لهم، ولو حسبت ما يكتب لواحد من هذه الأمة في صلاة واحدة في المسجد الحرام من الحسنات لبلغت أرجح من عمر نوح عليه الصلاة السلام. وليلة واحدة من ليالي هذه الأمة في كل سنة - وهي ليلة القدر - خير من ألف شهر من شهور الأمم الخالية من ليلة القدر. وصيام يوم واحد من أيام هذه الأمة من نوافل صيامها - وهو صيام ¬
يوم عرفة لغير الحاج - يكفر ذنوب سنة قبله، وسنة بعده، بل ورد أنه يكفر ذنوب ألف يوم، وورد أن العمل الصالح فيه بألفٍ في غيره كسائر أيام رمضان. وصيام اليوم الذي قبل هذا اليوم - وهو يوم التروية - يكفر ذنوب عام. وكذلك صيام يوم آخر من أيام هذه الأمة، وهو يوم عاشوراء. وهذا كله في نوافل الصوم، فما ظنك برمضان، وما فيه من كثرة العتقاء من النار! ففي كل يوم منه مئة ألف عتيق، ويعتق في كل يوم جمعة منه وليلتها قدر ما أعتق في الأسبوع، وفي آخر يوم من رمضان قدر ما أعتق من أول الشهر إلى آخره. والصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر. والتسبيحة الواحدة كبدنة تُهدى إلى البيت العتيق، والتحميدة كفرس مسرجة في سبيل الله، والتكبيرة كالبعير في سبيل الله؛ مع مضاعفة ثواب التسبيح، وسائر الأعمال في يوم الجمعة، وفي الأشهر الحرم. وكل حسنات هذه الأمة في أي وقت مضاعفة إلى عشر أمثالها، أو إلى سبعين ضعفاً، أو سبع مئة، أو ألوف كثيرة، ومعاصيها لا تكتب إلا بعد ست ساعات، أو سبع؛ فإن استغفر ذلك العاصي، أو تاب، أو أحسن بعدها، لم تكتب تلك السيئة، وإلا كتبت سيئة واحدة، ثم هي ممحوة
2 - ومن الحكم الحاصلة بتأخير هذه الأمة - أيضا -: أن الأنبياء، والعارفين من الأمم السالفة أخبروا أممهم وأتباعهم ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -
بالتوبة، أو الاستغفار، أو بعمل صالح آخر، أو بمرض، أو بلاء - ولو قليلاً - أو سكرات الموت، وشدة النَّزع، أو بضمة القبر، أو بهول القيامة، أو يعفو الله، ويتجاوز. فانظر فيما أمد الله به هذه الأمة من الخير، وما ضاعف لها من الأجور، وما كفَّر عنها من الأوزار مع قصر أعمارها، وقرب آجالها! وفي "الصحيحين" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّمَا بَقاؤُكُمْ فِيْمَنْ سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صلاةِ الْعَصْرِ إِلَىْ غُرُوْبِ الشَّمْسِ؛ أتىْ أَهْلُ التَّوْراةِ فَعَمِلُوْا بِها حَتَّىْ إِذا انتصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوْا، فَأُعْطُوْا قِيْراطاً قِيْراطاً، ثُمَّ أتىْ أَهْلُ الإِنْجِيْلِ فَعَمِلُوْا إِلَىْ صلاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوْا، فَأُعْطُوْا قِيْراطاً قِيْراطاً، ثُمَّ أُوْتيْنا الْقُرآنَ فَعَمِلْنا إِلَىْ غُرُوْبِ الشَّمْسِ، فَأُعْطِيْنا قِيْراطَيْنِ قِيْراطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتابِ: أَيْ رَبَّنَا! أَعْطَيْتَ هَؤُلاءِ قِيْراطَيْنِ قِيْرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيْراطاً قِيْراطًا، وَنَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلاً! قالَ اللهُ تَعَالَىْ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قالُوْا لا، قالَ: هُوَ فَضْلِيْ أُوْتيْهِ مَنْ أَشاءُ" (¬1). 2 - ومن الحكم الحاصلة بتأخير هذه الأمة - أيضاً -: أن الأنبياء، والعارفين من الأمم السالفة أخبروا أممهم وأتباعهم ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬
3 - ومن الحكم، واللطائف في تأخير هذه الأمة - أيضا -: أن الله تعالى سترهم، ولم يفضحهم كما فضح عليهم من تقدمهم من الأمم
وبفضله، وفضل أمته قبل وجودهم، حتى تمنى طائفة من الأنبياء والفضلاء أن لو بقوا حتى يكونوا من أمته، ففي ذلك بمقامه - صلى الله عليه وسلم - ومقام أمته ما لا يخفى، وفيه شهادتنا بصدق الأنبياء المخبرين بوجودنا ووجود نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنهم لما أخبروا بوجوده ووجود أمته، ثم وجدوا، كان وجودهم مصداقاً لإخبار المخبرين لهم، وشاهداً على صدقهم، ولذلك كانت هذه الأمة شهداء الأنبياء عليهم السلام على أممهم، كما سيأتي. 3 - ومن الحكم، واللطائف في تأخير هذه الأمة - أيضاً -: أن الله تعالى سترهم، ولم يفضحهم كما فضح عليهم من تقدمهم من الأمم، وكشف عليهم أحوالهم كقوم نوح، وسخريتهم بنبيهم، وقوم إبراهيم، وأذيتهم له، وقوم موسى، وتشهيهم عليه، وقوم عيسى، ورميهم له ولأُمِّه - هذا حال غاليهم، ومفرطيهم -، وكقولهم فيه: (إنه الله)، أو: (شريك)، أو: (ابن) - هذا حال غاليهم، ومفرطيهم - وكقوم هود وطغيانهم وتمردهم، وقوم صالح وعقرهم للناقة، وقوم لوط وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقوا إليها، وعزمهم على رجم لوط، وتبييت (¬1) قتله، وقوم شعيب وأخذهم للمُكُوس، وقرض الدراهم، وغير هؤلاء مع ما بلغنا من نَكالهم، ووبالهم، وما عذبوا به من خسف، أو مسخ، أو قذف، أو غرق، أو حرق، أو غير ذلك ممَّا صان الله تعالى عنه هذه الأمة ببركة نبيها - صلى الله عليه وسلم -. ¬
4 - ومن الحكم المذكورة: أن الله تعالى لما سبق في علمه أنه يورث هذه الأمة الأرض بعد سائر الأمم
وقد روى الدارمي وغيره في حديث عن عمرو بن قيس رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ تَعَالَىْ أَجارَ أُمَّتَهُ مِنْ ثلاثٍ: لا يَعُمُّهُمْ بِسَنةٍ، وَلا يَسْتَأْصِلُهُمْ عَدُوٌ، وَلا يَجْمَعُهُمْ عَلَىْ ضَلالَةٍ" (¬1). وروى الخطيب البغدادي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَّا أُسْرِيَ بِيْ، قَرَّبَنِيْ رَبِّيْ حَتَّىْ كانَ بَيْنيْ وَبيْنَهُ كقابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، بَلْ أَدْنى، وَعَلَّمَنِيْ السِّماتِ؛ قالَ: يَا مُحَمَّدُ! قُلْتُ: لَبّيكَ يا رَبِّ، قالَ: هَلْ غمَّكَ (¬2) أَنِّي جَعَلْتُكَ آخِرَ النَّبِيِّيْنَ؟ قُلْتُ: يَا رَبِّ! لا، قَالَ: فَهَلْ غمَّ (¬3) أُمَّتَكَ أَنِّي جَعَلْتُهُمْ آخِرَ الأُمَم؟ قُلْتُ: لا يا ربِّ، قال: [أَبْلِغْ أُمَّتَكَ عنِّي السَّلامَ] (¬4)، وأخبرهم أني جعلتُهم آخِرَ الأُممِ؛ لأَفْضَحَ الأُمَمَ عِنْدَهُمْ، وَلا أَفْضَحَهُمْ عِنْدَ الأُمَمْ" (¬5). 4 - ومن الحكم المذكورة: أن الله تعالى لما سبق في علمه أنه يورث هذه الأمة الأرض بعد سائر الأمم، كان في تأخيرهم تنفيذ هذا القضاء المبرم السابق لهم بالوراثة؛ فإن الوارث لا بد أن يتأخر عن ¬
الموروث زماناً، وإلا لم يتحقق إرثه منه، ولذلك لم يُوَرِّثِ الغرقى، والمهدوم عليهم، والمقتولين في المعركة إذا انكشف الأمر عنهم أمواتاً، ولم نعلم السابق منهم بعضهم من بعض. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أخبرنا الله تعالى في التوراة والزبور، وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض، أن يورث أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الأرض (¬1). وقرأ أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه الآية، فقال: نحن الصالحون (¬2). رواهما ابن أبي حاتم في "تفسيره". بل نقول: إن الله تعالى أورث هذه الأمة ما هو أعظم من وراثة الأرض، وهو علم الكتاب الأول. قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ورثهم ¬
الله تعالى كل كتاب أنزله، فظالمهم مغفور له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب (¬1). وفي الحديث المرفوع ما يؤيده. وروى الإمام أبو نعيم الأصبهاني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مُوْسَىْ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ التَّوْراةُ، وَقَرَأَهَا، فَوَجَدَ فِيْها ذِكْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ، قالَ: يا رَبِّ! إِنِّيْ أَجِدُ فِيْ الأَلْواحِ أُمَّةً هُمُ الآخِرُوْنَ السَّابِقُوْنَ، فَاجْعَلْها أُمَّتِيْ، قالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ"، الحديث. إلى أن قال فيه "قال: رَبِّ! إِنِّيْ أَجِدُ فِيْ الأَلْواحِ أُمَّة يُؤْتَوْنَ الْعِلْمَ الأَوَّلَ، وَالْعِلْمَ الآخِرَ، فَيَقْتُلُوْنَ قُرُوْنَ الضَّلالَةِ، وَالْمَسِيْحَ الدَّجَّالَ، فَاجْعَلْها أُمَّتِيْ، قالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ" (¬2)، الحديث. ولا شك أن في توريث الأمة الكتاب، والعلم الأول تكريماً لهم وتزكية، وأي زكاة أعظم من زكاة العلم، والاطلاع على أسرار المعرفة، وحقائق التوحيد. ولا شك أن من أكثر علمه أكثر عمله، ونمت أحواله، وإلا لم يكن علمه معتداً به، ولا ملتفتاً إليه. ¬
5 - فمنها: شهادة هذه الأمة على الأمم السابقة
* وحيث كشف الله تعالى لهذه الأمة علم الأمم السابقة، وأخبارهم يترتب على ذلك فوائد وحكم، وهي في الحقيقة مترتبة على تأخير هذه الأمة أيضاً: 5 - فمنها: شهادة هذه الأمة على الأمم السابقة. قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. وفي "صحيح البخاري"، وغيره عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يُدْعَىْ نُوْحٌ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَيُقالُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُوْلُ: نعمْ، فَتُدْعَىْ أُمَّتُهُ، فَيُقالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فيَقُوْلُوْنَ: ما أَتانا مِنْ نَذِيْرٍ، وَما أَتانا مِنْ أَحَدٍ، فَيُقالُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيقُوْلُ: مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - وَأُمَّتُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالَىْ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، - قال: وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ - فتدْعَوْنَ، فَتَشْهَدُوْنَ لَهُ بِالْبَلاغ، وَأَشْهَدُ عَلَيْكُمْ" (¬1). فلولا تأخر هذه الأمة عن الأمم لم يكونوا شهداء على الناس؛ لأن الشاهد لا بد أن يشاهد ثم يشهد، ومحال أن يشاهد المرء شيئاً مات قبل وجوده، وإنما كانت شهادتهم على من تقدمهم مقبولة؛ لأن ذلك قد وصل إليهم بطريق يفيد اليقين، وهو خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن إخباره - صلى الله عليه وسلم - إياهم أتم في إفادتهم اليقين من مشاهدتهم له بالإبصار؛ لأن خبره مطابق ¬
للواقع كما هو عند الله تعالى بلا محالة، فخبره - صلى الله عليه وسلم - قائم مقام العيان، وأتم منه؛ إذ يمكن في المعاينة أن يحول بين المعاين وبين إدراكه الشيء على ما هو عليه حائل ما؛ كالغفلة المُكَدِّرة لإدراكه بنحو إفراط فرح أو تَرح، أو جوع أو عطش أو نعاس أو فتور أو مرض أو غلبة خلط أو غير ذلك، وهذا محال - أي: تكدير الإدراك بشيء من ذلك - في حقه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه معصوم، ولذلك قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، ولأن قلبه لم يكن لينام - وإن نامت عيناه -، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنامانِ وَلا يَنامُ قَلْبِيْ". رواه الشيخان (¬1). وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: حضرت عصابة من اليهود يوماً النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم: "أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِيْ أَنْزَلَ التَّوْراةَ عَلَىْ مُوْسَىْ عَلَيْهِ السَّلامُ: هَلْ تَعْلَمُوْنَ أَنَّ هَذا النَّبِيَّ تَنامُ عَيْناهُ، وَلا يَنامُ قَلْبُه؟ قالُوْا: اللَّهُمَّ نعمْ، قالَ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِني لأَنْظُرُ إِلَىْ ما وَرائِيْ كَما أَنْظُرُ إِلَىْ ما بَيْنَ يَدَيَّ". رواه الحاكم، وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬3)، وأصله في "الصحيحين" (¬4). ¬
وقال الله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]. وقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]. فإن فرض أنه حصل من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قد يحول بينه وبين الإدراك من أحوال البشر - كالنسيان -، فإن ذلك يكون في غير وقت التبليغ، بل هو - صلى الله عليه وسلم - في نفس تلك الأحوال مقيم على وظيفة التشريع، والتبليغ، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَنا لا أَنْسَىْ، وَلَكِنْ أُنسًّى لأُشَرِّعَ (¬1) "، وفي رواية: "لأَسُنَّ". رواه الإمام مالك، وغيره (¬2). وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر، فيتكلم في الغضب والرضى، فأمسكت عن الكتاب، وذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأومى بأصبعه إلى فيه، وقال لي: "اكْتُبْ، فَوَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدهِ ما يَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ حَقٌّ" (¬3)؛ يعني: سواء ¬
في ذلك حالة الرضى وحالة الغضب. ولهذا الذي ذكرناه بعينه كان - صلى الله عليه وسلم - شاهداً لأمته إذا شهدوا للأنبياء عليهم السلام على أممهم، ومزكياً لهم، وكفى به مزكياً. كيف واللهُ تعالى زكَاهم في الدنيا بقوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. والوسط العدل، كما تقدم تفسيره في الحديث. ويزكيهم في الآخرة - أيضاً -، كما يدل عليه ما رواه الإمام أحمد، والنسائي، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَجِيْءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلانِ، وَكثَرُ مِنْ فَلِكَ، فَيقالُ لَهُمْ: فَلْ بَلَّغْتُمْ؟ فَيُقُوْلُوْنَ: نعمْ، فَيُدْعَىْ قَوْمُهُمْ، فَيُقالُ لَهُمْ: هَلْ بَلّغُوْكُمْ؟ فَيقُوْلُوْنَ: لا، فَيُقالُ لِلنَّبِيِّيْنَ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ أَنَكمْ بَلَّغْتُم؟ فَيَقُوْلُوْنَ: أُمَّةُ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فَتُدْعَىْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَشْهَدُوْنَ أَنّهمْ قَدْ بَلَّغُوْا، فَيُقالُ لَهُمْ: وَما عِلْمُكُمْ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوْا؟ فَيَقُوْلُوْنَ: جَاءَنا نبِيُّنا بِكِتابٍ أَخْبَرَنا أَنَّهمْ قَدْ بَلَّغُوْا، فَصَدَّقْناهُ، فَيُقالُ: صَدَقْتُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَىْ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، - قَالَ: عَدْلاً -، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] الآية" (¬1). ¬
6 - ومن الفوائد المشار إليها: أن هذه الأمة لما ورثوا علوم الأولين اطلعوا على أخبارهم
6 - ومن الفوائد المشار إليها: أن هذه الأمة لمَّا ورثوا علوم الأولين اطلعوا على أخبارهم، وأحوالهم، وصبر أنبيائهم وصالحيهم، وما أوتي الصالحون منهم في مقابلة الصبر، والاحتمال كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فيكون ذلك تثبيتاً لأفئدتهم، وتسلية لقلوبهم، كما قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]. قال أبو عبد الرحمن السلمي في "حقائقه": سمعت محمد بن عبد الله، سمعت علي بن الأزهر الحلبي، سمعت أبا بكر الكسائي يقول: سألت الجنيد رحمه الله تعالى عن مجاراة الحكايات، فقال: هي جند من جنود الله في أرضه يقوي بها أحوال المريدين، فقلت: ألذلك أصل في الكتاب؟ قال: نعم؛ قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]. 7 - ومنها: أن الله تعالى حيث أورث هذه الأمة علوم المتقدمين، وأطلعهم على أخبار الأمم السالفين، وما كانوا عليه من الاسترسال في المعاصي، وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، والمكابرة في الكفر مع ورود الآيات البينات، والحجج القاطعات، وكيف أمهلهم الله تعالى المدد الكثيرة، والأعمار الطويلة، ثم كيف استأصلهم بالعذاب وأخذهم الأخذة الوبيلة، فيكون سبباً لانزجار هذه الأمة، واتعاظها، واعتبارها، واستبصارها، واستقامتها على أعمال الخير، وتجنبها عن أعمال السوء، كما قال الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [غافر: 21، 22]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 13، 14]. يعني - والله أعلم -: أتعملون بأعمالهم، أم تؤمنون بالثه، وتطيعونه؟ وروى أبو الشيخ: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قرأ هذه الآية فقال: صدق ربنا، ما جعلنا خلائف في الأرض إلا لينظر إلى أعمالنا، فأَرُوا الله خير أعمالكم بالليل والنهار، والسر والعلانية (¬1). وفي كلامه إشارة إلى أن الله تعالى ينظر إلى سر العبد كما ينظر إلى علانيته. وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَىْ صُوَرِكُمْ وَأَمْوالِكُمْ، وَلَكِنْ إِنَّما يَنْظُرُ إِلَىْ قُلُوْبِكُمْ وَأَعْمالِكُمْ" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْظُرُ إِلَىْ صُوَرِكُمْ وَأَمْوالِكُمْ"؛ أي: لا يعبأ بها، ¬
وإلا فإنه سبحانه بصير بكل شيء. ومن لطائف الاعتبارات بأحوال الأمم الماضية: ما رواه أبو نعيم في "الحلية"، وغيره عن علقمة بن مرثد: أنه قيل للربيع بن خُثيم رحمه الله تعالى حين أصابه الفالج: لو تداويت! قال: لقد علمت أن الدواء حق، ولكن ذكرت عاداً وثموداً وأصحاب الرس، وقرونا بين ذلك كثيراً؛ كانت فيهم الأوجاع، وكانت لهم الأطباء، فما بقي المداوِي، ولا المداوَى (¬1). وجه الاعتبار: أن المقيم في هذه الدنيا على أي حالة من نعمى أو بؤس، أو صحة أو مرض، فإن ثواه فيها قليل، ولا بد من الموت والانتقال إلى دار أخرى، واستعمال الدواء لا يفيد دفاع الموت - وإن أفاد البرء من المرض - فلا ينبغي الاهتمام به، بل بما ينفع في الدار الآخرة، فإن عادًا وثموداً، وسائر الأمم الماضية انقضت أيامهم، وبقيت آثامهم، فينبغي أن لا يكون على ما كانوا عليه من الاهتمام بنعيم الدنيا، ودفع مكروهها، بل بما نحن إليه صائرون، وعليه عابرون. وقال أبو العتاهية في معنى كلام الربيع: [من الكامل] إِنَّ الطَّبِيْبَ بِطِبِّهِ وَدَوائِه ... لا يَسْتَطِيع دِفاعَ مَكْرُوهٍ أتىْ ¬
مَا لِلطَّبِيْبِ يَمُوْتُ بِالدَّاءِ الَّذِيْ ... قَدْ كانَ يُبْرِيْ مِنْهُ فِيْما قَدْ مَضَىْ ذَهَبَ الْمُداوِيْ وَالْمُداوَىْ والَّذِيْ ... جَلَبَ الدَّواءَ وَباعَهُ وَمَنِ اشْتَرَىْ وفي "الحلية" عن الربيع بن خُثيم - أيضاً - قال: عجبت لملك الموت، وإتيانه ثلاثة: 1 - مَلِك ممتنع في حصونه، فيأتيه فينزع نفسه، ويدع مُلْكَه خلفه. 2 - ومسكين منبوذ بالطريق يقذره الناس أن يدنوا منه، لا يقذره ملك الموت، فينزع نفسه. 3 - وطبيب نحرير يداوي الناس، فيأتيه فينزع نفسه، ويدع طبه خلفه (¬1). ووجه تعجبه من إتيان ملك الموت هؤلاء الثلاثة: أن الموت رصد لهم، والملك غافل عنه لشغله بملكه، والفقير ناس له لاشتغاله بالفقر، وخوفه مما يترتب عليه من جوع، أو عري، أو غيرهما، والطبيب مشغول بتشخيص علل غيره، وعلاجه، وسعيه في نفع من سواه، فجاءه الموت فأبطل حركته، وعطَّل علاجه، ولم يمكنه دفعه عن نفسه، وجاء المسكين فأخذه قبل نزول ما كان يتوقعه من المكروه، وجاء الملك فأخلى منه ¬
8 - ومن الفوائد المذكورة: أن الله تعالى أطلع هذه الأمة على تعجيل هلاك الأمم
دساكره (¬1)، وشتَّت عنه عساكره، وعطل منه مجالسه ومناصبه، ونقل إلى غبرة خدامه ومراكبه، فسبحان من شغل ما شاء من القلوب عن قصد الفوز في دار الآخرة ونيل المطلوب. 8 - ومن الفوائد المذكورة: أن الله تعالى أطلع هذه الأمة على تعجيل هلاك الأمم، وتنكيله بهم، وتنويع إهلاكهم، وتدميرهم، وتضييقه عليهم في الشرائع كالأغلال، والآصار التي كانت على بني إسرائيل، وتكليفهم في التوبة أن يقتلوا أنفسهم، وتحريم ما حرموا على أنفسهم، وتكليف من أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة أن يقطع موضعها منه، وأن من عمل منهم ذنباً أصبح وذنبه مكتوب على بابه، إلى غير ذلك (¬2). ثم خفف الله تعالى ذلك كله على هذه الأمة، وجعل دينها سهلاً، وشرعها سمحاً يسيراً، لا حرج عليهم فيه، ولا تكليف عليهم فوق طاقتهم، ثم فضَّلهم بتضاعيف الأعمال والأفعال، وأثابهم على الخطرات والهمم، ولم يكلفهم بها، ولم يؤاخذهم بسببها، ولا بالخطأ ولا بالنسيان ولا بما استكرهوا عليه - ولو كان كفراً - إذا كان القلب مطمئناً بالإيمان، وزادهم فضائل وشمائل، وخصائص وخصائل، وجعل شريعة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لجميع الشرائع، حتى لو أن موسى عليه السلام كان حياً، أو غيره من الأنبياء عليهم السلام لما وسعهم إلا اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، ¬
9 - ومنها - وهو مقصودنا من ذكر هذا الباب في هذا الكتاب -
والانقياد له، والاقتداء به (¬1)، ولو أدركته الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لوجب عليهم نصره، والإيمان به لما أخذ الله عليهم من الميثاق بذلك. فإذا علمَتْ هذه الأمة ذلك إجمالاً، ونظرت في مفرداته تفصيلاً، عظم فضل الله عليهم، وكبرت نعمه عندهم، فانبعثوا للشكر، فاستوجبوا المزيد، ولا يزالون في الترقي لأن علومهم لا تنتهي، وإذا زادت علومهم، ومعارفهم ازدادت أعمالهم وطاعاتهم، ونما شكرهم، وتوالى ذكرهم، وكانوا حَمَّادين شَكَّارين ذَكَّارين جَأَّارين، فتمت بذلك نعمة الله عليهم، فتأمل ذلك؛ فإنه نفيس جداً والله سبحانه وتعالى أعلم! 9 - ومنها - وهو مقصودنا من ذكر هذا الباب في هذا الكتاب -: أن هذه الأمة حيث تأخرت أيامهم، وانكشفت لهم علوم الأمم المتقدمة وأخبارهم، وسنن الأنبياء السالفة وأحوالهم، واستبان لهم الفرق بين أحوال المؤمنين والمقربين، وأحوال الكافرين والمبعدين، وما أعد الله تعالى للطائفة الأولى من الجزاء الحسن، والثواب الجميل، وما أعد الله تعالى للطائفة الأخرى من الجزاء السوء، والعقاب الوبيل، لا جرم انبعثت قلوبهم، وتحركت أرواحهم، وانشرحت صدورهم، واطمأنت نفوسهم للتشبه بأولئك، وانقبضت وقعدت وضاقت وأَنِفَتْ من ¬
التشبه بهؤلاء، وقد وقعت الإشارة إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]؛ أي: وسبيل المؤمنين؛ على حد قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]؛ أي: والبرد. وقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ} [الأنعام: 55] متعلق بفعل محذوف تقديره: وفعلنا ذلك لتستبين. وقيل: هو معطوف على محذوف تقديره: ليظهر الحق، ولتستبين سبيل المجرمين؛ أي: وسبيل المؤمنين، كما عرفت. أو يقال: إذا استبان سبيل المجرمين فقد استبان سبيل المؤمنين بطريق اللزوم. وفي الاقتصار على ذكر استبانة سبيل المجرمين مع أن استبانة سبيل المؤمنين أمر مقصود - أيضا -، إشارة إلى الاهتمام باستبانة سبيل المجرمين أكثر من استبانة سبيل المؤمنين؛ لأن تجنب المحظور أعظم، وأشد من فعل المأمور به؛ إذ للنفس وَلَع بما منعت منه، فاجتنابه أشد عليها من فعل ما أمرت به، ومن ثَمَّ جاء في الحديث: "اتَّقِ الْمَحارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ" (¬1). ¬
وقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55] هو في قراءة أبي جعفر، ونافع بالتاء المثناة فوق، وفتح اللام من (سبيل) - على خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وابن كثير، وعاصم، ويعقوب كذلك، إلا أنهم ضموا اللام على إسناد الفعل إلى (سبيل) مع تأنيثه. وقرأ الباقون بالياء المثناة تحت، وضم اللام على تذكير السبيل، وهما وجهان جاريان في كلام العرب. ومعنى الآية - والله سبحانه وتعالى أعلم -: أننا نفصل الآيات في كتابنا العزيز لتستظهر، أو ليظهر لك يا محمد سبيل المؤمنين، فتتبعها أنت وأمتك، وسبيل المجرمين، فتتجنبها أنت وأمتك. ويوضح هذا المعنى قوله تعالى بعد ذلك: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)} [الأنعام: 56]. أي: لا أتبع أهواءكم، ولا أسلك سبيلكم؛ لأني إن فعلت ذلك، وقد تبينت لي الآيات، واستبنت بها سبيل المجرمين الذين أنتم منهم = فأنا ضال حينئذ، وما أنا من المهتدين الذين استَبَنْتُ أحوالهَم وسبلَهم ¬
بما تبين لي من سبيل المجرمين وأحوالهم؛ لأنها على الضد من أحوالهم. وقال الله تعالى بعد ذلك: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام: 57] الآية. أي: إني على يقين تبين لي من ربي، وحجة واضحة، ودليل قوي ينتهي بي إلى الحق، ويسلك بي الصراط المستقيم، لا على هوى وابتداع، فكيف أتبع سبيلكم، وقد علمت أنها كلها أهواء بما تبين لي من الآيات التي استبنت بها طريق كل فريق، وعرفت بها أحوال أهل الخذلان، وأحوال أهل التوفيق؟ قال القرطبي: وفي معنى هذه الآية ما أنشده مصعب بن عبد الله ابن الزبير لنفسه - وكان شاعراً محسناً -: أأقْعُدُ بَعْدَما رَجَفَتْ عِظَامِيْ إلى آخر الأبيات الآتية. قلت: بل هذه الأبيات أنشدها مصعب متمثلاً، ولم ينشدها لنفسه فيما أخرجه اللالكائي في كتاب "السنة" عن مصعب - يعني: الزبيري رحمه الله تعالى - قال: ناظرني إسحاق بن أبي إسرائيل، فقال: لا أقول كذا؛ يعني: في القرآن، فناظرته، فقال: لم أقل على الشك، ولكن أسكت كما سكت القوم قبلي، قال: فأنشدته هذا الشعر، فأعجبه، وكتبه، قال: وهو شعر قيل من "أكثر من عشرين سنة: [من الوافر]
أَأَقْعُدُ بَعْدَما رَجَفَتْ عِظَامِيْ ... وَكانَ الْمَوْتُ أَقْرَبَ مَا يَلِيْنيْ أُجادِلُ كُلَّ مُعْتَرِضٍ خَصِيْمٍ ... فَأَجْعَلُ دِيْنَهُ غَرَضاً لِدِيْنيْ وَأترُكُ ما عَلِمْتُ لِرَأْيِ غَيْرِيْ ... وَلَيْسَ الرَّأْيُ كَالْعِلْمِ الْيَقِيْنِ وَمَا أَناَ وَالْخُصُوْمَةُ وَهْيَ لَبْسٌ ... تُصَرِّفُ فِيْ الشّمالِ وَفِيْ الْيَمِيْنِ وَقَدْ سُنَّتْ لَنَا سُنَن قِوام ... يَلِجْنَ بِكُلِّ فَجٍّ أَوْ وَجِيْنِ وَكانَ الْحَقُّ لَيْسَ بِهِ خَفاءٌ ... أَغَرَّ كَغُرَّةِ الْفَلَقِ الْمُبِيْنِ وَما عِوَضٌ لَنا مِنْهاجُ جَهْمٍ ... بِمِنْهاجِ ابْنِ آمِنَةَ الأَمِيْنِ فَأَمَّا ما عَلِمْتُ فَقَدْ كَفانِيْ ... وَأَمَّا ما جَهِلْتُ فَجَنِّبوْنيْ فَلَسْتُ بِمُكْفِرٍ أَحَداً يُصِلِّيْ ... وَلَمْ أَجْرِمْكُمُ أَنْ تُكْفِرُوْنيْ وَكُنَّا إِخْوَة نَرْمِيْ جَمِيْعَاً ... وَنَرْمِيْ كُلَّ مُرْتابٍ ظَنِيْنِ فَما بَرِحَ التَّكَلُّفُ أَنْ تَشاءَتْ ... بِشَأنٍ واحِدٍ فِرَقُ الشُّؤُوْنِ فَأَوْشَكَ أَنْ يَخِرَّ عِمَادُ بَيتٍ ... وَينْقَطِعَ الْقَرِيْنُ مِنَ الْقَرِيْنِ (¬1) وهذه الأبيات أتم مما ذكره القرطبي في "تفسيره" (¬2)، وهي فائدة ¬
زائدة أحببت أن لا يخلو كتابي منها لأنها لا تكاد تعدو مطالبه ومقاصده. ومما يلائم ما نحن بصدده في هذا المقام قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26]. فقد أراد الله تعالى لإنزال القرآن أن يبين لنا سبيل المتقدمين، ويهدينا سنن الماضين، وما ذاك إلا لنأخذ في مسالك المؤمنين، ونتنزه عن مهالك المشركين، فنتشبه بالمحسنين، ولا نتشبه بالمسيئين، فإنا إذا تشبهنا بالمحسنين من الأمم السالفين فقد استفدنا بتشبهنا بهم فوائد؛ منها حصول ثواب حسن الاقتداء بهم والاتباع، وظفرنا بمحبة الصالحين منهم، وتحرك أرواحنا لما تحركت له أرواحهم. وإذا عملنا - مَعْشَرَ الأمة المحمدية - بأعمال الأولين، فقد تضاعفت أجور الأولين بسبب عملنا بأعمالهم؛ لأن "مَنْ سَن سُنَةً حَسَنَةً كانَ لَهُ أَجْرُها وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِها إِلَىْ يَوْمِ الْقِيامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُوْرِهِمْ شَيْئا" (¬1)، كما في الحديث الصحيح، فهذه الأمة مفضَّلون على الأمم السالفة؛ لكونهم سبباً في إيصال مثل أجورهم إليهم إذا اقتدوا بأعمالهم، فهم ممدون للأمم السالفة، وإن مضوا من هذه الحيثية. وعلى هذا يتخرج ما يحكى عن بعض العارفين: أنه زار قبر معروف الكرخي رحمه الله تعالى فقال: رقيتَ - أخي معروفاً - بزيارتي هذه ¬
كذا وكذا درجة. وكأنه استحضر من أعماله وخصاله شيئاً، فتشبه به فيه، أو نوى ذلك، فكتب له أجر عمله أو نيته، وكتب لمعروف مثل أجره. ومن جملة أعمال الأولياء رضي الله تعالى عنهم زيارة الصالحين - أحياءً وأمواتاً - فمن زار ولياً زيارة خالصة مقبولة فقد كتب لسائر الأولياء المتقدمين مثل أجره، ومنهم ذلك المزور، فيحصل له الترقية بسبب هذه الزيارة، وهذا غَور من المعرفة لا يهتدي إليه إلا قلوب المحققين. وإن كانت الترقية حاصلة بين أولياء هذه الأمة من تشبه بعضهم ببعض، فحصولها لصالحي الأمم الماضية بسبب تشبه هذه الأمة لهم أولى، وأقرب، ومن هنا يلوح لك سر قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. وذلك أن الله تعالى إنما أراد إيصال الخير إليهم، وتكميل أحوالهم بسبب سلوك النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيلهم، واقتدائه بهداهم، وفي ذلك إظهار مزية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفضله على سائر من أمر بالاقتداء بهم، وامتيازه عليهم؛ لأنه به حصلت لهم الترقية، وبسببه وصلت إليهم التزكية. وأيضاً يحصل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن أمته لصالحي الأمم السالفة ترقية في المقام بسبب الدعاء الحاصل منهم في صلاتهم وغيرها للصالحين من المتقدمين، والسلام الوارد منهم إليهم في قولهم: "السَّلامُ عَلَيْنا
وَعَلَىْ عِبادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ" (¬1)، وذلك - أيضا - من جملة أفضال هذه الأمة على مَنْ تقدمهم، ومن هداياهم الواصلة إليهم على ممر الأيام والليالي. ولا شك أن هذا - أيضا - من جملة الحِكَم والفوائد التي استودعها الله تعالى في تأخير هذه الأمة عن سائر الأمم. وفي حديث التشهد الصحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه من رواية ابن أبي شيبة، وغيره: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَإِنَّكمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ - يَعْنِيْ: قَوْلَهُمْ فِيْ التَّشَهُّدِ: السَّلامُ عَلَيْنا وَعَلَىْ عِبادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ - فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَىْ كُلِّ عَبْدٍ صالحٍ فِيْ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ" (¬2)؛ يعني: من الملائكة والإنس والجن الموجودين والماضين. ولا شك أن هذا أمر خاص بهذه الأمة مما فضِّلوا به على سائر الأمم، وللمصلي منهم بعدد كل صالح من الملائكة، وكل صالح وصالحة ممن تقدمه من الإنس والجن، وممن هو موجود حين صلاته منهم حسنات؛ لأن السلام على كل واحد منهم حسنة مستقلة. وفي رواية مسلم: "فَإذَا قَالَها أَصابَتْ كُلَّ عَبْدِ صالحٍ فِيْ السَّماءِ وَالأَرْضِ" (¬3). ¬
وأما إذا امتنعنا عن التشبه بالكفار والفسقة من الأمم المتقدمة فإنا نستفيد من ذلك فوائد أيضاً: منها: ثواب امتناعنا عن تلك الأفعال والأحوال القبيحة، واستبشاعنا لها، وتنكبنا عنها، وتجنبنا منها، وظفرنا بفضيلة بغض هؤلاء المبغضين الممقوتين في الله تعالى؛ إذ لا يتحقق بغضنا لهم إلا بتجنب أحوالهم، واتقاء أعمالهم، كما لا يتحقق حب الصالحين إلا بالتخلق بأخلاقهم. ولا شك أن البغض في الله لمن يستحق من أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله تعالى. قال أبو ذر - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمال إِلَىْ اللهِ الْحُبُّ فِيْ اللهِ وَالْبُغْضُ فِيْ الله". وفي لفظ آخر: "أَفْضَلُ الأَعْمالِ الْحُبُّ فِيْ اللهِ وَالْبُغْضُ فِيْ اللهِ". رواه باللفظ الأول الإمام أحمد (¬1)، وباللفظ الثاني أبو داود رحمة الله تعالى عليهما (¬2). وروى الإمام أحمد، وغيره عن عمرو بن الجموح رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يَجِدُ الْعَبْدُ صَرِيْحَ الإِيْمانِ حَتَّىْ يُحِبَّ لِلَّهِ، وَيُبْغِضَ لِلَّهِ، فَإِذا أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ فَقَدِ ¬
اسْتَحَقَّ الْوِلايَةَ للهِ" (¬1). وروى في كتاب "الزهد" عن أبي غالب رحمه الله تعالى قال: بلغنا أن هذا الكلام في وصية عيسى بن مريم عليهما السلام: يا معشر الحواريين! تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إلى الله بالمقت لهم، والتمسوا رضاه بسخطهم، قالوا: يا نبي الله! فمن نجالس؟ قال: جالسوا من يزيد في أعمالكم منطقُهُ، ومن يذكركم بالله رؤيته، ويزهدكم في الدنيا عمله (¬2). وهذا - أيضاً - من جملة فوائد تأخير هذه الأمة عن الأمم؛ لأن الأمم لما سبرت واستوفيت قبل هذه الأمة، كان ذلك سبباً لكثرة الصالحين وغير الصالحين من المتقدمين، وكلما كثرت أحباب المؤمن من الصالحين ومباغيضه من غيرهم، كان حبه في الله وبغضه في الله أكثر وأعظم، فيزداد أجره، ويعظم ثوابه. وأيضاً في اجتناب هذه الأمة لأحوال من تقدمهم ممن لا ترضى أفعالهم، ولا أحوالهم حجة بالغة لله تعالى على أولئك المتقدمين، فلله تعالى حق أكيد على هذه الأمة، بل على كل متأخر أن يجتنب ما ليس ¬
مرضياً لله تعالى من أحوال كل متقدم عليه؛ ليكون ذلك إظهاراً لحجة الله تعالى على ذلك المتقدم، ونصرة لله سبحانه؛ عَمَلاً بقوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]. وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]. وتصديقاً له سبحانه في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89]. ولقد استنصر الله تعالى على كل متول من هذه الأمة عن أمره، ومعرض عنه منهم بمن يأتي بعده ممن يقوم بأحكامه، ويراعي حق أمره، ونهيه بقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]. وفي هذه الآية إشارة إلى أمرين: الأول: أنه قد يكون في المتأخرين من هذه الأمة من تقوم الحجة به على بعض المتقدمين لكونه أطوعَ لله منه. والثاني: أن هذه الأمة لا ينقطع الخير منها إلى يوم القيامة. وفي حديث عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَزالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِيْ ظاهِرِيْنَ عَلَىْ الْحَقِّ حَتَىْ تَقُوْمَ السَّاعَة". رواه الحاكم (¬1)، وأصله في "الصحيحين" من حديث المغيرة (¬2) وغيره. ¬
وروى الإمامان مالك، وأحمد، والترمذي وحسنه، عن أنس، والإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن عمار، والطبراني عن ابن عمر، وابن عمرو، وأبو يعلى عن علي، والرامهرمزي في "الأمثال" عن عثمان رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ أُمَّتِيْ مَثَلُ الْمَطَرِ؛ لا يدْرَىْ أَوَّلُهُ خَيْرٌ، أَوْ آخِرُهُ" (¬1). ومن قام بهذا المنصب - وهو منصب التقوى، واجتناب ما لا يرضى، وهو المعبر عنه في الحديث بالظهور على الحق - فقد حُقَّ له إنجاز ما وعده الله تعالى به من رحمته التي وسعت كل شيء في قوله تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 156، 157] الآية. فانظر كيف استنصر الله تعالى لهذه الأمة على أمة موسى عليه السلام وباهاهم بهم، وبيَّن أنهم هم المفلحون بقوله آخرَ الآية: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ ¬
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 157]. فمن تابع بني إسرائيل، أو غيرهم من الأمم فيما كانوا عليه من المعاصي، ولم يتق الله تعالى، فقد قصر في إظهار الحجة الإلهية عليهم، ولا يؤثر قعوده عن إظهارها في إظهارها شيئاً، غير أنه خذل نفسه بقعوده عن ذلك حتى فاته هذا المقام، وإلا فإن الله تعالى غني عن العالمين؛ {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
خاتمة لطيفة لهذا الباب
خَاتِمَة لَطِيفَةٌ لِهَذَا البَاب معنى قوله تعالى في وصف هذه الأمة في التوراة - كما تقدم - هم السابقون الآخرون في الزمان، السابقون في الأعمال الصالحة والأحوال الشريفة، وإنما قيد النبي - صلى الله عليه وسلم - السبق في الحديث المتقدم أول الباب بيوم القيامة؛ لأنه ثَمَّ يظهر السَّبق والتقدم، ولقد قلت: [من المتقارب] إِذَا اشْتَبَهَتْ فِيْ ظلامِ الدُّجَىْ ... أُمُوْرٌ وَلَمْ يَظْهَرِ الْحَقُّ مِنْها فَعِنْدَ طُلُوْعِ النَّهارِ تَجَلَّتْ ... عِياناً وَقَدْ كُشِفَ الرَّيْبُ عَنْها ويجوز أن يكون معنى سبقهم: أنهم أول من يقضى بينهم من الأمم، ويؤيده ما رواه ابن ماجه رحمه الله تعالى عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَحْنُ الآخِرُوْنَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، الأَوَّلُوْنَ يَوْمَ الْقِيامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلائِق" (¬1). ¬
ثم هم أول الخلائق في القضاء، لا في الحشرة بدليل ما صححه الحاكم عن عبد الله بن سَلاَم - رضي الله عنه - قال: إِذَا كانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ، يَبْعَثُ اللهُ الْخَلِيْقَةَ أُمَّةً أُمَّة، وَنبِيَّا نبِيًّا، حَتَّىْ تَكُوْنَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - آخِرَ الأُمَمِ مَرْكَزاً، ثُمَّ يُوْضَعُ جِسْرٌ عَلَىْ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُنادِيْ مُنادٍ: أَيْنَ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ؟ فَيَقُوْمُ، فتَتْبَعُهُ أُمَّتُهُ - بَرُّهَا، وَفاجرُها -، فَيَأْخُذُوْنَ الْجِسْرَ، فَيَطْمِسُ اللهُ تَعَالَىْ عَلَىْ أَبْصارِ أَعْدائِهِ، فَيتَهافَتوْنَ فِيْها مِنْ شِمالٍ وَيَمِيْنٍ، وَينْجُوْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَالصَّالِحُوْنَ مَعَهُ، مَعَهُمُ الْمَلائِكَةُ تُبَوِّئُهُمْ مَنازِلَهُمْ فِيْ الْجَنَّةِ: عَلَىْ يَمِيْنكَ، عَلَىْ يَسارِكَ، حَتَّىْ يَنتهِيَ إِلَىْ رَبِّهِ. الحديث (¬1). فدل ذلك على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وأمته آخر الأمم في البعث والحشر؛ لئلا يطول موقفهم ومشاهدتهم للأهوال، ثم هم أول الأمم في القضاء، فيقضى لهم أول الناس، لتثبت عدالتهم على رؤوس الأشهاد، فتقبل شهادتهم على سائر العباد - وهذه نكتة لطيفة جداً - وليقضى عليهم يوم القيامة، ويخف هوله عليهم بقضاء ما بينهم، وليعجل لهم ثوابهم من الله تعالى؛ لأنهم أشد الأمم شوقاً إليه، وأتمهم محبة له، وأقواهم إرادة لوجهه تعالى. ومن هنا ينبغي أن نشرع في مقصود الكتاب، والله الملهم للصواب. ¬
القِسْمُ الأَوَّلُ في التَّشَبُّهِ بمَن وَرَدَ الأَمْرُ بِالتَّشَبُّهِ بِهِم وَالاقْتِدَاءِ بِهُدَاهُم وَهَدْيِهِم
القسم الأول في التشبه بمن ورد الأمر بالتشبه بهم والاقتداء بهداهم وهديهم
القِسْمُ الأَوَّلُ في التَّشَبُّهِ بمَن وَرَدَ الأَمْرُ بِالتَّشَبُّهِ بِهِم وَالاقْتِدَاءِ بِهُدَاهُم وَهَدْيِهِم اعلم أن كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ناطقان بالأمر بالتشبه بالأنبياء والملائكة والمقربين والصالحين، وبمدح المتشبهين بهم، والمتبعين لآثارهم وسننهم، وبأن المتشبهين بهم محشورون معهم وفي زمرتهم. قال الله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ} [لقمان: 15]. قال قتادة: أي: من أقبل عَلَيَّ. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]. قال تعالى {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95]. وقال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98]؛ أي: طوعاً، فإن كل شيء يسجد لله طوعاً أو كرهاً، وإنما أمره بالطاعة والاجتناب، لينال جزيل الثواب. وروى سعيد بن منصور في "سننه"، وابن المنذر في "تفسيره"، ¬
والحاكم في "تاريخه"، وابن مَردويه في "تفسيره"، وأبو منصور الديلمي في "مسند الفردوس" عن أبي مسلم الخَولاني - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمالَ وَأَكُوْنَ مِنَ التَّاجِرِيْنَ، وَلَكِنْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِيْنَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىْ يَأْتِيَكَ الْيَقِيْنُ" (¬1). وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مثله، وعن أبي الدرداء نحوه؛ كلاهما مرفوعاً. وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14]. أمرهم بالتشبه بالحواريين. وقال تعالى مُثنياً على عباده الصالحين: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]. قال البخاري رحمه الله تعالى: أي: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ¬
ويقتدي بنا من بعدنا (¬1). وقال الله سبحانه وتعالى ذامًّا من يتبع غير سبيل المؤمنين، متوعداً لهم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. وقد استدل الإمام الشافعي بهذه الآية على كون الإجماع حجة، وإذا أجمع المسلمون على اعتقادٍ أو قول أو فعل من أفعال الطاعة وأقوالها، فقد وجب على كل مسلم أن يتشبه بهم في ذلك الاعتقاد أو الفعل أو القول، وإن خالفهم كان خارقاً للإجماع، فإن كان ذلك مما عُلم من الدين ضرورة كان خرق الإجماع كفراً (¬2). وقال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. وفي أولي العزم أقوال أشهرها (¬3): 1 - إنهم إبراهيم، وموسى، ونوح، وعيسى عليهم السلام. 2 - ومنها: إنهم إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط عليهم السلام. ¬
لأن الله تعالى ذكرهم في سورة الأنعام، وأثنى عليهم، ثم قال تعالى {ذَلِكَ} [الأنعام: 88] أي: ما دان به هؤلاء الأنبياء عليهم السلام: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 88 - 90]. فأمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهداهم. وأما قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]، فهو نهي عن التشبه به في أمر خاص، وهو لا ينافي التشبه به في سائر أنواع الهدى. قال قتادة في قوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]: لا تعجل كما عجل، ولا تغاضب كما غاضب. رواه الإمام أحمد في "الزهد"، وغيره (¬1). ثم المشار إليهم بقوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ} [الأنعام: 89]. قال ابن عباس: هم أهل مكة (¬2). وقيل: هم قريش. ¬
وقيل: كفار عصره - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقوله: {بِهَا}، بالثلاثة المذكورة؛ وهي: الكتاب والحكم والنبوة. أو المراد بها: الشرائع التي دان بها هؤلاء الأنبياء عليهم السلام؛ أي: ما اجتمعوا عليه من الملة، وهي أصول التوحيد. وقوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا} [الأنعام: 89] أي: بحفظها، ودعايتها، والعمل بها، والإيمان بها. والمراد بالتوكيل التوفيق لهذه الأمور قوماً ليسوا بها بكافرين. قال ابن عباس: هم الأنصار. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬2). وروى نحوه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيِّب. وقيل: هم والمهاجرون. وقال قتادة: هم النبيون الثمانية عشر الذين قص الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم -. رواه عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وغيرهما (¬3). وقيل: غيرهم من الأنبياء ليقتدوا بهم، ويدل عليه قوله: {أُولَئِكَ ¬
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. وقال أبو رجاء: هم الملائكة. رواه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، وغيرهما (¬1). وعلى هذين القولين فالأنبياء، والملائكة عليهم السلام مأمورون بالتشبه بالصالحين، موكلون بالاستنان بسنتهم. وقال بعضهم: هو عام في كل مؤمن من الإنس والجن والملائكة (¬2). فكلهم على هذا موكلون بإقامة سنة هؤلاء الأنبياء عليهم السلام من أصول التوحيد، ومكارم الأخلاق. وهذا هو المختار عندي. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [الأنعام: 90]. وصفهم بالهدى بعد أن وصف دينهم بأنه هدى الله، تأكيداً ومبالغة في تصديقهم، وتحريضاً على الاقتداء بهم؛ حيث ذيَّل وصفهم بالهدى، وبأن الله هداهم؛ أي: تولى هدايتهم بنفسه بالأمر بالاقتداء بهم، حيث يقول: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. والاقتداء: موافقة المقتدى به في أفعاله، وأقواله، وهو معنى التشبه به. ¬
وقد استدل بعض العلماء بهذه على وجوب اتباع شرائع الأنبياء عليهم السلام فيما عدم فيه النص، كما في "صحيح مسلم"، وغيره أن ابنة الرَّبِيع أم حارثة جرحت إنساناً، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "الْقِصاصُ الْقِصاصُ"، فقالت أم الربِيع: أَيقتصُّ من فلانة! والله لا يقتصُّ منها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سُبْحَانَ اللهِ يَا أُمَّ الرَّبِيع الْقِصَاصُ كِتابُ اللهِ"، قالت: والله لا يقتصُّ منها أبداً، فما زالوا حتى قَبِلَ الدِّية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنْ عِبادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَىْ اللهِ لأَبَرَّه" (¬1). فأحال - صلى الله عليه وسلم - على قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. وليس في كتاب الله تعالى نص على القصاص في السِّن إلا في هذه الآية، وهي خبر عن شرع التوراة، ومع ذلك فحكم بها، وأحال عليها؛ ذكره القرطبي، ثم قال: وإلى هذا ذهب معظم أصحاب مالك، وأصحاب الشافعي. قال: وخالف في ذلك كثير من أصحاب مالك، وأصحاب الشافعي، والمعتزلة؛ لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. ¬
وقال: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل التقييد إلا فيما نص عليكم من الأخبار عنهم مما لم يأت في كتابكم (¬1). قال في "صحيح البخاري": عن العوام قال: سألت مجاهد عن سجدة (ص)، فقال: سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - قال بعد أن قرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]: فكان داود عليه السّلام ممن أمر بالاقتداء به (¬2). انتهى. وقال القاضي ناصر الدين البيضاوي رحمه الله تعالى: والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد، وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها؛ فإنها ليست هدى مضافاً إلى الكل، ولا يمكن التأسي بهم جميعًا فيها، فليس فيه دليل على أنه عليه السلام متعئد بشرع من قبله (¬3). وقال شيخ الإسلام الوالد رحمه الله تعالى موضحاً لكلام القاضي، وزائداً عليه: [من الرجز] فَبُهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ يُرِيْدُ مَا ... تَوَافَقُوْا عَلَيْهِ مِمَّا جَزَمَا بِهِ مِنَ التَّوْحِيْدِ وَالأصُوْلِ ... لِلدِّيْنِ لا التَّحْرِيْمِ وَالتَّحْلِيْلِ فِيْ أكثَرِ الأَشْيَا أَوِ الْفُرُوْعِ ... فَلا تَوَافُقٌ مِنَ الْجَمِيْعِ ¬
فَلَيْسَ ذلكُم (¬1) هُدَىً يُضافُ ... لِلْكُلِّ إِذْ حَصَلَ الاخْتِلافُ وَلَمْ تَصِرْ مِنْ بَعْدِ نسخِها هُدَىْ ... وَلَيْسَ نسخٌ فِيْ الأُصُوْلِ أَبَدَا وَلَيْسَ فِيْ ذَلِكَ أَنَّ أَحْمَدَا ... بِشَرْعِ مَنْ سبَقَهُ تُعُبِّدَا نَعَمْ يَدُلُّ أَنَّهُ تَفَضَّلا ... عَلَىْ الْجَمِيْعِ فَإِلَهُنا عَلا فَرَّقَ أَوْصافَ الْكَمالِ وَالشَّرَفْ ... فِيْهِمْ وَكُلُّها بِهِ قَدِ ائْتَلَفْ دَاوُدُ كَابْنِهِ سُلَيْمانَ شَكُوْرْ ... أيُّوْبُ فِيْ الْمِحْنَةِ وَالْبَلا صَبُوْرْ يُوْسُفُ جامعٌ لِذَيْنِ مُوْسَىْ ... مَعْ مُعْجِزَاتٍ جَمَعَ النَّامُوْسا وَشِرْعَةً وَزَكَرِيَّا وَالذِينْ ... مِنْ بَعْدِهِ ذَوُوْ زَهَادةٍ وَديْنْ وَكانَ إِسْماعِيْلُ صادِقَ الْمَقالْ ... يُوْسُفُ ذَا ضَرَاعَةٍ عِنْدَ السُّؤَالْ وَأُمِرَ الْهادِيْ بِأَنْ يَقْتَدِيا ... بِهِمْ وَقَطْعًا إِنَّهُ لَنْ ينيَا فِيْما بِهِ أَمَرَهُ اللهُ عَلا ... فَجَمَعَ الأَوْصافَ فِيْهِمْ كُمَّلا وَكانَ جامِعاً لِما تَفَرَّقا ... مِنْ مُوْجِبِ الْكَمالِ فِيْهِمْ مُطْلَقا وَحَيْثُ كانَ الأَمْرُ هَكَذَا فَلا ... شَكَّ بِأَنَّهُ عَلَيْهِمْ فُضِّلا وقد تبين بذلك أن الأنبياء عليهم السلام متوافقون في أصل التوحيد والاعتقادات، وكذلك في محاسن الأخلاق، ولطائف الآداب، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأَنْبِياءُ أَوْلادُ عَلاَّتٍ؛ أُمَّهاتُهُمْ شَتَّىْ، وَدِيْنُهُمْ واحِدٌ"، ¬
كما في "الصحيح" (¬1). والمراد: أن دينهم واحد من حيث أصل التوحيد، والتخلق بمكارم الأخلاق، والتأدب بمحاسن الآداب، وإلا فإنهم مختلفون في الشرائع، وكل نبي فشريعته ناسخة لما خالفها من شريعة من قبله، ومهما كانت الشريعة منسوخة لم يكن اتباعها في محل النسخ هدى - كما أشار إليه الشيخ الوالد رضي الله تعالى عنه في كلامه المذكور آنفاً -، وما أشار إليه في كلامه المتقدم - أيضاً - من أن أوصاف الكمال، ومحاسن الخصال لما كانت مُفَرَّقَة في الأنبياء عليهم السلام أراد الله تعالى أن يستتمها النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكون أكملهم، وأفضلهم، فامر بالاقتداء بهم في جميعها. هذا من أحسن ما يقال في هذا المقام. وممَّا يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ". رواه الإمام أحمد، وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وصححه الحاكم (¬2). ورواه البخاري في "الأدب المفرد"، والحاكم - وصححه أيضاً -، ¬
والبيهقي بلفظ: "إِنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالح الأَخْلاقِ" (¬1)؛ أي: لأستتمها. أو نقول: في الحديث إشارة إلى أن مكارم الأخلاق - وإن كانت قد تخلق بها الأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - كاحتمال نوح ويوسف، وصبر أيوب ويعقوب وزكريا، وسخاء إبراهيم، وشجاعة موسى، وحلم هارون عليهم السلام إلا أن الأخلاق الكريمة لم تتم إلا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم أنها لم تتم به حتى تمت له، وما تممها لغيره حتى استتمها لنفسه؛ إذ محال أن يامر نبيٌّ ببر لا يعمل به. وكذلك قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. ويوضح ما حررناه في ذلك: ما رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" من طريق جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ بَعَثَنِيْ بِتَمامِ مَكارِمِ الأَخْلاقِ، وَكَمالِ مَحاسِنِ الأَعْمالِ" (¬2)، فقد علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث استتم محاسن الأخلاق، وأتمها لأمته بما أمره الله تعالى به من الاقتداء بهدى الأنبياء عليهم السلام وبما زاده عليهم من الأخلاق والآداب والشرائع، فقد صار بذلك أكمل الأنبياء وأفضلهم، وصارت أمته أفضل الأمم وأتمهم شريعة، كما قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. ¬
فمن اقتدى به - صلى الله عليه وسلم - وتشبه به فقد اكتفى عن التشبه بغيره؛ لأنه هو الإنسان الكامل، الجامع لجميع متفرقات الكمالات والفضائل، ومن تشبه بأحد ممن أمر بالتشبه بهم من الأنبياء والصالحين في خصلة من خصال الخير، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، فهو متشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما علمت من أن الأخلاق الكريمة قد اجتمعت كلها فيه، وتممت له وبه - صلى الله عليه وسلم -، فهو بهذا الاعتبار مراة الوجود التي يتمثل فيها جميع ما في الوجود من الأخلاق السَّنِية، والأوصاف الزكية، وكما قال البوصيري في "الهمزية" رحمه الله تعالى: [من الخفيف] كَيْفَ تَرْقَىْ رُقُيَّكَ الأَنْبِيَاءُ ... يَا سَمَاءً ما طاوَلَتْها سَماءُ لَمْ يُساوُوْكَ فِيْ عُلاكَ وَقَدْ حا ... لَ سَمنا مِنْكَ دُوْنهمْ وَسَناءُ إِنَّما مَثَّلُوْا صِفَاتِكَ لِلنَّا ... سِ كَمَا مَثَّلَ النُّجُوْمَ الْماءُ أَنْتَ مِصْباحُ كُلِّ فَضْلٍ فَما تَصْد ... دُرُ إِلاَّ عَنْ ضَوْئِكَ الأَضْواءُ وحيث كان الأمر كذلك، فقد كان ينبغي أن لا يهتم بالأمر بالتشبيه بغيره - صلى الله عليه وسلم -، ولكن جاء الكتاب والسنة بالإرشاد إلى التشبه بمن نحن
ذاكروهم في هذا الكتاب، على طريقة التنويع في التشريع والإرشاد، والتوسيع في الطرق الموصلة إلى الخير والسداد، وأشارت إلى غَور بعيد من المعرفة، وهو أن الطرق - وإن تعددت - فإنها راجعة إلى طريقة واحدة، وهي طريقته - صلى الله عليه وسلم -، وكان سائر الطرق والشرائع، وجميع السبل والمشارع سواقٍ وجعافر (¬1)، وأنهار وغدائر، آخذة من البحر المحيط، راجعة إليه، صادرة عنه، واردة عليه، كما قال في البردة: [من البسيط] وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ مُلْتَمِسٌ ... غَرْفاً مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفاً مِنَ الدِّيَمِ ولا شك أن المتشبه بالأخيار والصالحين مقتبس من أنوارهم، مغترف من فيض بحارهم، ورُبَّ ضعيف يمنعه هول البحار، واختلاف أمواجها من الاستقاء منها، والارتواء من مائها، فإذا ورد ماء السواقي ظفر منها بالريِّ من نبعها، والبَلال من جرعها، ورُبَّ ضعيف عن احتمال أشعة الأنوار المحمديَّة، وشهب الأضواء المصطفويَّة يأتي إليه نصيبه منها على يدي بعض الورثة من العلماء والصلحاء، فلو حجر عليه أن لا يتلقى إلا من قِبَلِهِ - صلى الله عليه وسلم - لضاق به الفضاء، وعاد من البحر المحيط بلا ارتواء. ونظير ذلك أن الخفاش لضعف بصره لا يبصر في ضوء الشمس والقمر، ويبصر في الأضواء الضعيفة المستمدة من بعض الكواكب، أو ¬
ما بقي في أطراف الليل من أنوار الشمس. فكان التشبه بالصالحين والأخيار وسيلة موصلة للضعفاء إلى التشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وأيضاً لا شك أن الداعي للعبد إلى التشبه بالصالحين إنما هو محبتهم، وانجذاب روحه إلى أرواحهم، وتحرك قلبه لما تحركت له قلوبهم، ورُبَّ روح تنجذب إلى بعض الصالحين دون بعض لمجانسة ظاهرة أو باطنة، ومشاكلة بادية أو كامنة، وتضعف عن الانجذاب إلى الروح المحمديَّة بلا واسطة لكمال نورها وقوة سلطانها في ظهورها (¬1)، فورد الشرع بالإرشاد إلى التشبه بالصالحين ليكون وسيلة للضعفاء إلى التشبه به - صلى الله عليه وسلم -، وإلى انجذاب أرواحهم إلى روحه، فلا يعودون منه بغير حظ، ولا يَرِدون الآخرة بلا نصيب. وفي التشبه بهم - أيضا - إيصال الخير إلى الوسائط مع حصول الغرض الأعظم بالتشبه بهم، وهو التخلق بالأخلاق المحمدية، والاتصاف بالأوصاف الأحمدية؛ لما علمت من أن التشبه بهم راجع إلى المُتَشَبَّه به - صلى الله عليه وسلم -. ¬
فصل
فَصْلٌ قد ذكرنا من الآيات الواردة في الإرشاد إلى التشبه بالصالحين ما تيسر إيراده، وأما الأحاديث الواردة في ذلك فكثيرة جداً، وأكثرها مما صح، أو حَسُنَ إسناده. فمن ذلك ما روى أبو داود، والترمذي - وقال: حسن صحيح -، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والشيخ نصر المقدسي في كتاب "الحجة"، واللالكائي في "السنة"، وغيرهم عن العِرْباض بن سَارية رضي الله تعالى عنه قال: وَعَظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وَجِلت منها القلوب، وذَرَفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مُودِّع، فأوصنا، قال: "أُوْصِيْكُمْ بِتَقْوَىْ اللهِ، وَالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ - وإِنْ تأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ -، وإنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَىْ اخْتِلافاً كَثِيْراً، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِيْ، وَسُنَّةِ الْخُلَفاءِ الرَّاشِدِيْنَ الْمَهْدِيِّيْنَ؛ عَضُّوْا عَلَيْهَا بِالنَّواجِذِ، وإيَّاكُمْ وَمُحْدَثاتِ الأُمُوْرِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ" (¬1). ¬
وروى مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَ أَحْسَنَ الْحَدِيْثِ كِتابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْي هَدْيُ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وَشَرَّ الأمُوْرِ مُحْدَثَاتُها، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ ضَلالَةٌ" (¬1). والهدي هو: المذهب، والطريقة. وروى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "بَلَغَنِيْ أَنَّكَ تَصُوْمُ النَّهارَ، وَتَقُوْمُ اللَّيْلَ، فَلا تَفْعَلْ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقَّا، وَلِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقَّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، صُمْ وَأفطِرْ، صُمْ مِنْ كُل شَهْرٍ ثَلاثَةَ أيَّامٍ فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ"، فقلت: يا رسول الله! إن لي قوة، فقال: "فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ صُمْ يَوْماً، وَأَفْطِرْ يَوْماً"، وكان يقول: يا ليتني أخذت بالرخصة (¬2). ورويا عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَىْ اللهِ صِيامُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَىْ اللهِ صَلاةُ دَاوُدَ؛ كانَ يَنامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُوْمُ ثُلُثَهُ، وَيَنامُ سُدُسَهُ، وَكانَ يُفْطِرُ يَوْماً، وَيَصُوْمُ يَوْماً" (¬3). وروى البخاري، وغيره عن المقدام بن مَعْدِي كَرب رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدهِ، وَإِنَّ نبَيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَأكُلُ ¬
مِنْ عَمَلِ يَدهِ" (¬1). وروى ابن ماجه، والحاكم - وقال: صحيح الإسناد، واعْتُرِضَ في تصحيحه - عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! ما هذه الأضاحي؟ قال: "سُنَّةُ أَبِيْكُمْ إِبْراهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلامُ"، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؛ قال: "بِكُلِّ شَعْرَة حَسَنَةٌ"، قالوا: فالصوف؟ قال: "بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوْفِ حَسَنةٌ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والبخاري عن سَلَمة بن الأَكْوع رضي الله تعالى عنه، والحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارْمُوْا بَنِيْ إِسْماعِيْلَ؛ فَإِنَّ أَباكُمْ كانَ رامِياً" (¬3). وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، وغيرهما عن أبي أيوب - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِيْنَ، الْحَياءُ، وَالتَّعَطُّرُ، وَالنِّكاحُ، وَالسِّواكُ" (¬4). وروى أبو عوانة، وغيره - بإسناد صحيح - في كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى عتبة بن فَرقد - وهو أمير الجيش بأذربيجان - قال: ¬
أَمَّا بَعْدُ فَاتَّزِرُوْا، وَارْتَدُوْا، وَألقُوْا الْخِفافَ، وَالسَّرَاويلاتِ، وَعَلَيْكُمْ بِلِباسِ أَبِيْكُمْ إِسْماعِيْلَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتنَعُّمَ، وَزِيَّ الأَعَاجِمِ (¬1). وروى الإمام ابن أبي حاتم الرازي، ومحيى السنة البغوي في "تفسيريهما" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ظَلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائماً، ثم طوى، ثم ظل صائماً، ثم طوى، ثم ظل صائماً، قالَ: "يا عائِشَةُ! إِنَّ الدُّنْيا لا تنبَغِيْ لِمُحَمَّدٍ، وَلا لآلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّ اللهَ لَمْ يَرْضَ مِنْ أُوْلِيْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَىْ مَكْرُوْهِها، وَالصَّبْرِ عَنْ مَحْمُوْدها، وَلَمْ يَرْضَ مِنِّيَ إِلَّا أَنْ يُكَلِّفَنِيْ ما كَلَّفَهُمْ؛ قالَ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، وإِني لا بُدَّ لِيْ مِنْ طاعَتِهِ، وإِني - وَاللهِ - لأَصْبِرَنَّ كَمَا صَبَرُوْا جُهْدِيَ، وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ" (¬2). وروى مسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِيْنَ بِما أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِيْنَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ¬
آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكر الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَىْ السَّماءِ: يا رَبِّ، يا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرامِ، فَأَنَّىْ يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ! " (¬1). وهذا الحديث نص أن الله تعالى أوجب على المؤمنين أن يقتدوا بالمرسلين في أكل الطيب - وهو الحلال - وأن يتشبهوا بهم في ذلك، وفي العمل الصالح أيضاً. وروى أبو داود، والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْ كَما يَقُوْلُوْنَ، فَإِذا انتهَيْتَ فَسَلْ تُعْطَهْ" (¬2). وروى أبو داود، والحافظ ضياء الدين في "الأحاديث المختارة" عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُوْنَ كَأَبِيْ ضَمْضَمَ! كانَ إِذا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلهِ قالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِيَ عَلَىْ عِبادِكَ" (¬3). ¬
ورواه البزار، وابن السُّنِّي، ولفظه: "أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُوْنَ كَأَبِيْ ضَمْضَمَ؟ " قالوا: ومن أبو ضمضم يا رسول الله؟ قال: "كانَ إِذَا أَصْبَحَ قالَ: اللَّهُمَّ إِني قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِيَ وَعِرْضِيَ لَكَ، فَلا يَشْتُمُ مَنْ شَتَمَهُ، وَلا يَظْلِمُ مَنْ ظَلَمَهُ، وَلا يَضْرِبُ مَنْ ضَرَبَهُ" (¬1). وفي رواية قيل: ماذا كان يصنع أبو ضمضم؟ قال: "كانَ رَجُلاً مِمَّنْ كانَ قَبْلَنا إِذا أَصْبَحَ قالَ: اللَّهُمَّ إِني قَدْ تَصَدَّقْتُ الْيَوْمَ بِعِرْضِيَ عَلَىْ مَنْ ظَلَمَنِيْ؛ فَمَنْ ضَرَيَنيْ لا أَضْرِبُهُ، وَمَنْ شَتَمَنِيْ لا أَشْتُمُهُ، وَمَنْ ظَلَمَنِيْ لا أَظْلِمُهُ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إِني لا أَدْرِيْ ما قَدْرُ مُقامِيَ فِيْكُمْ، فَاقْتَدُوْا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِيَ - وأشار إلى أبي بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما - وَاهْتَدُوْا بِهَدْيِ عَمَّارَ، وَما حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُوْدٍ فَصَدِّقُوْه" (¬3). وروى البخاري، وغيره عن عبد الرحمن بن زيد قال: سألنا ¬
حذيفة - رضي الله عنه - عن رجل قريبِ السَّمْتِ والهَدْي من النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نأخذ عنه، فقال: ما أعلم أحداً أقربَ سمتاً، وهدياً، ودَلاًّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من ابن أُمِّ عبَد (¬1). يعني: عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. والسَّمت: حسن الهيئة. والهدي: المذهب، والطريقة. والدَّل: الشكل والشمائل - كما أفاد شيخ الإسلام الوالد رحمه الله تعالى في معاني الألفاظ الثلاثة، وقرأته بخطه -. وروى أبو الفرج بن الجوزي في "صفة الصفوة" عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى قال: لم يكن في زمان سالم بن عبد الله - رضي الله تعالى عنه وعن أبيه وجده - أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والقصد والعيش منه؛ كان يلبس الثوب بدرهمين، ورآه سليمان بن عبد الملك، وراه حسن السَّحَنة (¬2)، فقال له: أي شيء تأكل؟ قال: الخبز والزيت، وإذا وجدت اللحم أكلته، قال له: أو تشتهيه؟ قال: إذا لم أشتهه تركته حتى أشتهيَه (¬3). ¬
وروى أبو نعيم في "الحلية" في مناقب علقمة بن قيس النخعي رحمه الله تعالى: أن أبا معمر قال: دخلت على عمرو بن شرحبيل، فقال: انطلقوا بنا إلى أشبه الناس هدياً وسمتا بعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: فدخلنا على علقمة (¬1). وروى - أيضاً - عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنها - قال: كان الربيع بن خُثَيم إذا دخل على عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما لم يكن عليه إذن لأحد حتى يفرغ كل واحد من صاحبه، قال: فقال عبد الله: يا أبا يزيد! لو رآك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبَّك، وما رأيتُك إلا ذكرتُ المُخْبتينَ (¬2). أي: لِمَا أَراه منك من تحلِّيك بحُلاهم من الوَجَل، والصبر، وملازمة الصلوات، والإنفاق مما رزقت، كما قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 34، 35]. وقال ابن عباس (¬3)، وقتادة (¬4): {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34]: المتواضعين. ¬
وقال مجاهد: المطمئنين إلى الله (¬1). وقال عمرو بن أويس: الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا (¬2). فانظر كيف أثنى ابن مسعود - رضي الله عنه - على الربيع بن خُثَيم رحمه الله تعالى، ومدحه بما يلوح عليه من آثار مَنْ هَذِهِ صِفاتُهم، ولولا تخلقه بأخلاقهم، وتشبهه بهم لم تلح عليه آثارهم، ولم يشهد له بها ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. وروى ابن الجوزي في "صفة الصفوة": أن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى سئل عن مالك رحمه الله تعالى فقال: مالك سيد من سادات أهل العلم، وهو إمام في العلم والفقه، ثم قال: ومن مثل مالك؟ متبعٌ لآثار من تقدم مع عقل وأدب (¬3). وروى البخاري في "الصحيح" عن ابن أبي مُلَيكة: أنه سمع ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: وُضع عمر - رضي الله عنه - على سريره، وقد كنفه الناس يدعون، ويصلون قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يَرُعْني إلا رجل أخذ بمنكبي، فإذا علي رضي الله تعالى عنه فترحَّم على عمر، وقال: ما خلَّفتَ أحدًا أحبَّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت أظن أن يجعلك الله ¬
مع صاحبيك، إني كنت كثيراً أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ذهبْتُ أَنَا وَأَبُوْ بَكْرٍ وَعُمَرُ" (¬1). وروى ابن الجوزي عن جعفر بن محمد رحمهما الله تعالى، عن أبيه قال: لما غسل عمر، وكفن، وحمل على سريره، وقف عليٌّ - رضي الله عنه - فقال: والله ما على الأرض رجل أحبُّ أن ألقى الله بصحيفته من هذا المُسَجَّى بالثوب (¬2). فانظر في تمني علي رضي الله تعالى عنه أن يلقى الله بعمل مثل عمل عمر رضي الله تعالى عنه وصحيفة مثل صحيفته؛ فإنه من أعظم الأدلة على استحباب موافقة الصالحين في أعمالهم وخلائقهم. وروى أبو نعيم عن سعيد بن المسيِّب قال: مات ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يوم مات، وما في الأرض أحد أحب إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منه (¬3). وروى ابن الجوزي عن تميم بن خُرَيم قال: جالست أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما، ما رأيت أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أحب إلي أن كون في مسلاخه (¬4) من ¬
عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى أبو نعيم عن سليمانَ التَّيمي قال: ما أجد أحب إلي أن ألقى الله - عز وجل - بمثل صحيفته إلا محمد بن واسع رحمه الله تعالى (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي عبيدة بن مسعود أنه قال: ما من الناس من - أحمر ولا أسود، ولا عبد عجمي أو فصيح - أعلم أنه أفضل مني بتقوى إلا أحببت أن أكون في مسلاخه (¬3). وروى عبد الله - ابنه - في "زوائد الزهد" عن أبي إسحاق - يعني: السَّبيعي - قال: كان الحسن البصري يُشبه أصحابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وروي فيه عن ابن الشَّعبي: أن أباه والحسن اجتمعا لما أتيا ابن هُبيرة، فنزلا منزلاً، فجعل الشعبي يخف للحسن ويعاطيه، فقال له ابنه: يا أبتاه! إني أراك تصنع مع هذا الشيخ شيئاً لم أرك تصنعه بأحد؟ قال: يا بني! أدركت سبعين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم أر أحداً أشبه بهم ¬
من هذا الشيخ (¬1). وقال أبو طالب المكي: روينا عن أبي إسحاق الفزاري قال: زارنا الثوري، فحدثنا، ثم قمت إلى المرأة، فقلت: أخلصي لنا عصيدة (¬2)، قال: فقدمتها إليه في قصعة، وقلت: كل يا أبا عبد الله، فقال: لولا أني صائم لأحببت أن آكل معك، فقلت: اسمع حتى أحدثك عن أخيك إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: زارني يوماً، فقعد في موضعك هذا، فقمت إلى المرأة، فأمرتها أن تصنع لنا مثل هذا، ثم قدمته إليه، وقلت: كل يا أبا إسحاق، فأكل، فلما أراد أن يخرج قال: أما إني كنت صائماً، ولكني أفطرت لأجلك، قال: فوضع سفيان يده في القصعة تأسِّياً بإبراهيم (¬3). وروى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة عن كُلْثوم بن جبر قال: كان المتمني بالبصرة يقول: فقهُ الحسنِ، وورعُ محمد بن سيرين، وعبادةُ طَلْق بن جبيب، وحِلْمُ ابن يَسَار (¬4). وروى أبو نعيم عن سعيد بن جُبير قال: لو خيرت عبداً لله أكون في ¬
مسلاخه لاخترت زبيداً اليَامي (¬1). وروى هو من طريق عبد الله ابن الإمام أحمد، عن سَلَمة بن كُهَيل قال: ما بالكوفة أحد أكون في مسلاخه أحب إلي من ابن أَبجر (¬2). يعني: الإمام التابعي عبد الملك بن سعيد الكوفي، وكان من الورعين البكَّائين من خشية الله تعالى. وروى ابن الجوزي عن محمد بن فضيل قال: سمعت ابن شُبْرُمَة يقول: [من البسيط] لَوْ شِئْتَ كُنْتَ كَكُرْزٍ فِيْ تَعَبُّدهِ ... أَوْ كَابْنِ طارِقَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَالْحَرَمِ قَدْ حالَ دُوْنَ لَذِيْذِ الْعَيْشِ خَوْفُهُما ... وَسارَعا فِيْ طِلابِ الْفَوْزِ وَالْكَرَمِ (¬3) وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"، ومن طريقه أبو نعيم عن محمد بن فضيل، قال: رأيت ابن طارق في الطواف قد انفرج له أهل الطواف، وعليه نعلان مطرقتان، فحزر طوافه في ذلك الزمان، ¬
فإذا هو يطوف في اليوم والليلة عشرة فراسخ (¬1). صرويا عنه عن أبيه فُضيل بن غزوان قال: دخلت على كُرز بن وَبْرة بيته، فإذا عند مصلاه حفيرة قد ملأها تِبناً، وبسط عليها كساءً من طول القيام، وكان يقرأ في اليوم والليلة القرآن ثلاث مرات (¬2). ورويا عنه عن أبيه قال: كان لكرز عِذْقٌ عند المحراب يعتمد عليه إذا نَعِس (¬3). وروى أبو نعيم عنه، عن أبيه: أن كرز بن وبرة الحارثي دخل على ابن شبرمة يعوده وهو مبرسم، فتفل في أذنه، فبرئ (¬4). وروى أبو نعيم - أيضاً - عن ابن شبرمة قال: سأل كرز بن وبرة ربه أن يعطيَه اسمه الأعظم على أن لا يسأل به شيئاً من الدنيا، فأعطاه الله ذلك، فسأل أن يقوى حتى يختم القرآن في اليوم والليلة ثلاث ختمات (¬5). ومن هنا أرشد ابن شبرمة - في كلامه المتقدم - إلى التشبه بكرز بن وبرة، وابن طارق رحمهم الله تعالى أجمعين. ¬
وأمثال ذلك ما ورد من الآثار في الإرشاد إلى التشبه بالصالحين كثير لا يحصى، ولا يكاد لكثرته يستقصى. وقد فتح الله تعالى علينا بأبيات ملائمة لهذا المقام، حَرِيَّةٍ بالإثبات في سلك هذا النظام، وهي: [من المتقارب] عَلَيْكَ بِسُنَّةِ خَيْرِ السَّلَفْ ... فَكُنْ لَهُمُ مِنْ خِيارِ الْخَلَفْ بِحُسْنِ اتِّباعٍ لآثارِهِمْ ... فَشابِهْ وَلا تَكُ مِمَّنْ وَصَفْ وَما يَنْفَعُ الْوَصْفُ مِنْ واصفٍ ... إِذا كانَ عَنْ فِعْلِ خَيْر وَقَفْ فَحاوِلْ مُشابَهَةَ الصَّالِحِيـ ... ـنَ إِنْ كُنْتَ يا صاحِ مِمَّنْ عَرَفْ فَمَنْ يَتَحَلَّىْ حِلاهُمْ ينا ... لُ مِنْ نيلِهِمْ فِيْ عَوالِيْ الْغُرَفْ وإِنِّيْ أُحِبُّ لَوَاَنِّيْ فَتًى ... تَحَلَّىْ بِأَوْصافِهِمْ وَاتَّصَفْ فَمِنْ دُوْنِ هَذا الْمَقامِ السَّنا ... ءُ وَمَنْ لِلْمُلُوْكِ بِهَذا الشَّرَفْ مَقامٌ إِذا مَا ارْتَقاهُ الْفَتَىْ ... يُلاقِيْ الْمُنَىْ فِيْ مَراقِيْ الزُّلَفْ وَيَظْفَرُ بِالدُّر مَهْما يَحُمْ ... سِوَاهُ مِنَ النَّاسِ حَوْلَ الصَّدَفْ فَشَابِهْ خِيارَ الْبَرايا تَكُنْ ... مَعَ الْقَوْمِ فِيْ ظِلِّ عَرْشٍ وَرَفْ وَيَهْتِفُ بِالسْمِكَ فِيْهِمْ إِذا ... دَعاهُمْ مُنادِيْ النَّدَىْ أَوْ هَتَفْ فَيا لِسَبِيْلِ الْهُدَىْ وَالرِّضَا ... وَطُوْبَىْ لِعَبدٍ إِلَيْهَا عَطَفْ يُحاوِلُ راحاً بِحاناتِها ... مِنَ الْغُرِّ كُلُّ نَدِيْمٍ عَكَفْ
عَلَىْ دَنِّ خَمْرِ الْهَوَىْ خَاطِباً ... عَرائِسَ أَبْكار غِيْدَ التُّحَفْ يُواصِلُ فِيْ الشُّرْبِ أَوْقاتَهُ ... وَعَمَّا سِوَىْ حبِّ سُعْداهُ كَفْ فوقفت بعد نظم هذه الأبيات بمدة طويلة على كلام لطيف في المعنى رواه الخطيب أبو بكر البغدادي في "شرف أصحاب الحديث" عن الأوزاعي: أنه قال: عليك بآثار من سلف كان رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال كان زخرفوه بالقول؛ فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم (¬1). والآثار في عرف أصحاب الحديث عبارة عن الأخبار المروية عن الصحابة فمن بعدهم موقوفةً عليهم. ومنهم من جعلها أعم من ذلك، فأطلقها على الحديث المرفوع - أيضاً -، ولكنا في هذا المقام نحملها على أعم مما ذكر. فالمراد بآثار السلف كلامهم وأعمالهم وأخلاقهم وآدابهم. وفي كتاب الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]. والأثر في أصل اللغة: بقية الشيء، ولكنه يطلق على ما يدل على الشيء من خُلُقِ، أو عمل أو غير ذلك؛ لأنه بدلالته عليه كان بعضه. وقد قلت: [من الكامل] ¬
أثَرِيْ يَدُلُّ عَلَيَّ إِنْ لَمْ تَدْرِنيْ ... فَانْظُرْ إِلَىْ أثَرِيْ لِتَعْرِفَ مَنْ أَنا
فصل
فَصْلٌ اعلم أن المقصود بالتشبه بالصالحين والأخيار إنما هو الفلاح والفوز بدار القرار، وذلك حاصل للمؤمنين بدليل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]. لكن فلاح المؤمن إنما يكون بقدر ترقيه في الإيمان، فالتشبه بالمؤمنين مطلوب على كل حال ولو في أصل الإيمان، فإنه إن لم يحصل له الفلاح والفوز من دخول النار، فإنه يحصل له الفوز من الخلود فيها. وبالجملة فـ "لن يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له فيه" (¬1) - كما ورد في الحديث -، ولكن كما يقال: الكمال في الكمال. ولما قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] وصفهم بصفات كاشفات لما أراد بالمؤمنين الموصوفين بالفلاح بقوله تعالى: ¬
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 1 - 11]. روى ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَلَقَ اللهُ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدهِ لَبِنَةً مِنْ دُرَّةٍ بَيْضاءَ، وَلَبِنَةً مِنْ ياقُوْتَةٍ حَمْراءَ، ولَبِنَةً مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْراءَ، بَلاطُهَا مِسكٌ، حَشِيْشُها الزَّعْفَرانُ، حَصْباؤُها اللُّؤْلُؤُ، تُرابُها الْعَنْبَرُ، ثُمَّ قالَ لَهَا: انْطِقِيْ، فَقَالَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]، فَقالَ اللهُ - رضي الله عنه -: وَعِزَّتِيْ وَجَلالِيَ لا يُجَاوِرَني فِيْكِ بَخِيْلٌ". ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] (¬1). ففي هذا الحديث إشارة إلى أن المفلحين من المؤمنين إنما هم ¬
كُمَّلُهُمْ، وهم الذين وقوا شُحَّ أنفسهم. والمقصود أن أهل الفلاح الكامل هم أهل الإيمان الكامل، وقال الله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 - 5]؛ أي: الفلاح الكامل، لا غيرهم. وروى البخاري في "تاريخه "، والطبراني في "معجمه الكبير" عن قُرَّة بن هُبيرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبًّا" (¬1). وأخرجه البيهقي في "الشعب" بلفظ: "قَدْ أَفْلَحَ ... " (¬2). وقد: للتحقيق. واللب: هو العقل. والعقل الممدوح إنما هو العقل النافع الذي لا يدخل صاحبه النار، ولا يوقع صاحبه في الندم، والأسف كما يقع لأهل النار فيها كما قص الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10، 11]. ¬
والمراد بالذنب الذي اعترفوا به: أنهم لم يستعملوا عقولهم فيما خلقت له من الطاعة التي هي سبب النجاة من النار، فالعاقل اللبيب هو الطائع المجيب، وكلما بالغ في الطاعة والتخلق بالأخلاق المرضية كان أتم عقلاً، وأكمل لباً، فيكون أكثر فلاحاً، وأكمل فوزاً ونجاحا من حيث إنه تجنب أعمال أهل النار بعقله، وأقبل على أعمال أهل الجنة، ولم تغرَّه الحياة الدنيا، ومن ثَمَّ خص أهل العقول بالخطاب في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100]. والتقوى إنما تتم بالطاعة، واجتناب المعصية، وقال الله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]. وفي هذه الآية إشارة إلى أن الفوز الحقيقي والفلاح المعتد به إنما هو في الدار الآخرة دون الدنيا - وإن زعم أهل الدنيا أن ما فيها من رخاءٍ وعافيةِ ويسرٍ فوزٌ ونعيمٌ - فإنه لا حقيقة له لزواله، بخلاف نعيم الجنة لبقائه. ومن ثَمَّ قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20]؛ أي: وأصحاب النار هم الهالكون، وإن نالوا من الدنيا ما نالوا. ولذلك نودي في الأذان، والإقامة: (حي على الفلاح)، فأطلق الفلاح على الصلاة لأنها عماد الدين، وأم الأعمال الصالحة، ومن حافظ عليها كان على غيرها أشد محافظة، ومن ضيعها كان لغيرها أكثر إضاعة.
أو المراد بالفلاح كل عمل صالح، وفعل خير لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. وإنما أتى بالفلاح في الأذان والإقامة معرَّفًا باللام التي هي للعهد أو للاستغراق؛ إشارة إلى أن العمل الصالح هو الفلاح الحقيقي، أو أن كل فلاخ وفوز فهو في العمل الصالح، ودفعاً لما يتوهمه أهل الدنيا من أن الفلاح إنما هو في تحصيل الدنيا ومتاجرها والإمساك عليها. ومن ثَمَّ قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. وقال الله تعالى مشوقاً إلى سعادة الآخرة، معبراً عنها بالتجارة التي هي سبيل أهل الدنيا إليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]. وصف هذه التجارة بصفة فارقة بينها، وبين متاجر الدنيا بقوله: {تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]؛ فإن تجارة الدنيا ليست كذلك، بل قد تكون سبباً للعذاب الأليم، وغاية ما فيها أن صاحبها إذا كان سعيداً خرج منها رأساً برأس، بخلاف هذه التجارة التي لا تَبِعَةَ فيها. وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية: أنها لما نزلت قال المسلمون: لو علمنا هذه التجارة لأعطينا فيها الأموال والأهلين (¬1). ¬
فبين لهم التجارة فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 11]، ولا تتحقق التجارة إلا ببائع ومشترٍ، فالبائع المؤمنون، والمشتري هو الله تعالى؛ بدليل قوله - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. وإنما سماه الفوز العظيم؛ لأنه أوجب لهم أعظم المطالب وهو الجنة وما فيها وقد فصل ما أجمله في هذه الآية في الآية السابقة فقال: {ذلِكَم}؛ أي: الإيمان بالله تعالى ورسوله والجهاد في سبيله المعبر عنه بالتجارة المنجية من العذاب الأليم {خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي: من تجارة الدنيا ومكاسبها التي هي مظنة التَّبِعات، المأخوذ بها صاحبها في دار الآخرة {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؛ أي: إن كنتم من أهل العلم المكتسب من اللب الذي هو أصل كل فلاح، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبًّا" (¬1). ثم بين سبحانه ما في تجارة الآخرة من الخيرات فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}؛ أي: بسبب الإيمان والجهاد. {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] والتوبة إحدى الحسنات، وهي من أسباب الفلاح كما قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ¬
الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31]، والتوبة من الإيمان، ومن جهاد النفس - وهو من أعظم الجهاد - قال: {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 12]. وإنَّما طابت تلك المساكن بسبب خلوَّها من كدورات الدُّنيا من تعب ونَصَب ومرض وحزن ومَلال وقَنَر وغيرِ ذلك. وأعظم شيءٍ طيَّبها جوار الله تعالى ورضوانه، وتَجلَّي وجهه لهم مع الخلود لأن العدن هو الإقامة. ثمَّ قال: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}؛ أي: دون ما تعدونه في الدنيا فوزاً من مكالسب ومغانم وغيرها؛ لانصرامه وفنائه، والفوز العظيم إنَّما هو ما كان من إقامة وخلود، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13]؛ يعني: الجنة مع الخلود فيها. وهو الفلاح؛ فإنَّ الفلاح هو البقاء في الخير، كما في "القاموس" (¬1). ونقله أبو بكر بن الأنباري في كتاب "الزاهر" عن جماعة من أهل اللغة، وقال: معنى {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]: هم الباقون في الجنَّة. ومنه قول الراجز: [من المنسرح] لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُوْمِ سَعَهْ ... وَالْمَسْي وَالصُّبْحُ لا فَلاحَ مَعَهْ ¬
قال ابن الأنباري: أراد: لا بقاء ولا خلود (¬1). ومن ثَمَّ جاء في دعاء النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ صِحَّةً فِيْ إِيْمانٍ، وإيْمانًا فِيْ حُسْنِ خُلُقٍ، وَنَجاحاً يَتْبَعُهُ فَلاحٌ"، كما رواه الطبراني في "الأوسط" (¬2). النجاح: الظَّفَرُ بالخير. والفلاح: البقاء فيه. وكأن في هذه الآيات رداً على قول المتخلف المبطئ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73]، كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 72، 73] فبيَّن الله تعالى بقوله، {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 12] وقوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. أنَّ الفوز إنَّما هو فوز الآخرة دون مغانم الدُّنيا ومكاسبها. على أنَّ أهل الآخرة لا يحرمون من عاجل فضل الله تعالى، ولذلك ¬
قال تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، وقال تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 19، 20]؛ أي: علامة يعلمون بها أنَّهم من الله تعالى بمكان، كأنَّه يشير إلى أنَّه كما أنجز لهم ما وعدهم في الدُّنيا كذلك ينجز لهم موعود الآخرة. وقال الله تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة: 88]؛ أي: لهم منافع الدارين؛ النصرة والغنيمة في الدُّنيا، والجنَّة والكرامة في الآخرة. {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 89]؛ أي: - وإن نالوا من خيرات الدُّنيا - فإنَّ ما لهم في الآخرة هو الفوز العظيم. وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)} [التوبة: 20، 21]. وإذا كان المتخلِّف عن القوم في الدُّنيا يندم على ما فاته في الدُّنيا من الغنائم التي تفضَّل الله تعالى عليهم بها، ويقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73]، فكيف ندمه وأسفه على ما يفوته
من نعيم الآخرة مع ما يلحقه من الإهانة والعذاب والخلود فيه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14]، والمعصية المشار إليها في هذه الآية شاملة للكفر والشرك، كما أنَّ الطاعة في قوله تعالى في الآية السَّابقة: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ} [النساء: 13] شاملة للإيمان والتوحيد. فحقيقة الفلاح والفوز إنَّما هو في الطاعة والإيمان، والفوات والخيبة في المعصية والكفر، وإنَّما يظهر ذلك في الدَّار الآخرة، كما قال الله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8، 9]. وإنَّما قال: {خَسِرُوا}؛ لأنَّه شبَّه أعمال العبد بالمتاجر؛ فمن ثقلت موازينه بالإيمان والعمل الصالح ربح في تجارته وأفلح، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29، 30]، ومن خفَّت موازينه - إذ لا إيمان له بالكليَّة، أو لا عمل صالح، أو له معاص لا كفارة لها - فقد خسرت تجارته، وخاب مسعاه، كما قال الله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس: 45]، وقال تعالى:
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105]، وقال تعالى بعد ذكر المنافقين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]، وقال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]. وهذا معيار لا شبهة فيه: أنَّ الإيمان والعمل الصالح سبب الفلاح، والكفر والعمل السيء سبب الخسران والخذلان. وروى الإمام أحمد بسند حسن عن أبي ذرِّ رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي كل - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ قَلْبَهُ للإيمانِ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيْماَّ، وَلِسانهُ صادِقا، وَنفسَهُ مُطْمَئِنَةً، وَخَلِيْقَتَهُ مُسْتَقِيْمَةً، وَأُذُنهُ مُسْتَمِعَةً، وَعَيْنَهُ ناظِرَةً" (¬1). وروى هو، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفافاً، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِما آتاهُ" (¬2). ¬
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "شعب الإيمان" من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وقال: "وَصَبَرَ عَلَىْ ذَلِكَ" (¬1) موضعَ قوله: "وَقنَّعَهُ اللهُ بِما آتاهُ". وروي نحوه من حديث فَضَالة بن عُبيد رضي الله تعالى عنه (¬2). وقال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]. قال عطاء: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}؛ أي: آمن. وقال قتادة: بعمل صالح. رواهما ابن أبي حاتم (¬3). وروى البزَّار، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}؛ قال: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَخَلَعَ الأَنْدادَ، وَشَهِدَ أَنِّيْ رَسُوْلُ اللهِ"، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}؛ قال: "هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِنَّ" (¬4). ¬
وقال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]؛ أي: بالطاعة، {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]؛ أي: دنَّسا بالمعصية. وقال تعالى {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67]، والعمل الصالح شامل لسائر الطَّاعات. وقال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69] إنَّما رجالهم الفلاحَ بذكر الآلاء؛ لأنَّ ذكر آلاء الله تعالى يدعوه إلى طاعته، وترك معاصيه، وذلك عين النجاح والفلاح. وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، ؛ أي: في الدُّنيا بما يُجعل لكم من فضل الله تعالى، وفي الآخرة بما يحصل لكم من ثواب الذكر والعمل الصَّالح. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. وفيه لطيفة: وهي أنَّ الثبات مع الله تعالى في دار الدُّنيا بالجهاد، ومصابرة العدو، وكثرة الذكر على سائر الحالات يكون سبباً للثبات مع الله تعالى والبقاء معه في المعاد، وهو معنى الفلاح ليكون الجزاء من جنس العمل. وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]. فالسمع والطَّاعة هما سبب الفلاح، وهو وصف المؤمنين الذين هم المفلحون، كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا}؛ أي: بترك معاصيه، {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}؛ وهي لزوم الطَّاعة، {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} وهو شامل لمجاهدة النَّفس {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]. وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. وفي هذه الآية إشارةٌ أنَّ الفلاح لا يتمُّ إلا بموالاة المفلحين ومعاداة المبطلين. روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْثَقُ عُرَىْ الأيْمانِ الْحُبُّ فِيْ اللهِ، وَالْبُغْضُ فِيْ اللهِ" (¬1). ¬
وقال ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما: أَحِبَّ في الله، وأَبْغِضْ في الله، وعادِ في الله، ووالِ في الله؛ فينما تنالوا ولاية الله لذلك، ثمَّ قرأ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ} [المجادلة: 22] الآية. رواه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم (¬1). وروى ابن مردويه في "اتفسيره" عن كثير بن عطيّة، عن رجل: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَهُمَّ لا تَجْعَلْ لِفاجِرٍ وَلا لِفاسِقٍ عِنْدِيَ يَداً وَلا نِعْمَةً؛ فَإِنِّيْ وَجَدْتُ فِيْمَا أَوْحَيْتَ إِلَيَّ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬2). قال سفيان: يرون أنَّها نزلت فيمن يخالط السُّلطان. وقال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100]. قيل: الخبيث والطيِّب: الحلال والحرام. وقيل: الرديء والجيِّد. وقيل: الكافر والمؤمن. ¬
وقيل: العاصي والمطيع. قال القرطبي رحمه الله تعالى: والصحيح أنَّ اللفظ عام في جميع الأمور، متصوَّر في المكاسب والأعمال والنَّاس والمعارف من العلوم وغيرها؛ فالخبيث من هذا كلِّه لا يفلح، ولا ينجب، ولا يُحسن له عاقبة - وإن كَثُرَ - والطيِّب - وإن قلَّ - نافع جميل العاقبة (¬1). انتهى. روى أبو نعيم عن أيُّوب قال: رآني أبو قلابة وأنا أشتري تمراً رديئاً، فقال: قد كنت أظنّ أنَّ الله نفعك بمجالستنا، أما علمت أنَّ الله تعالى قد نزع من كلِّ رديء بركته؟ (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأعرابي الذي ذكر له الصَّلاة والزَّكاة والصوم والحج، فقال: لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَق". وأصله في "الصَّحيحين" (¬3). قال بعض العلماء: معناه: أفلح إن صدق في عدم النَّقص، لا في عدم الزيادة. وقال آخرون: هذا كان في صدر الإسلام حين كان - صلى الله عليه وسلم - يتألف القلوب للإيمان، ولم تفرض جميع الأحكام. قلت: والأولى عندي أنَّ المراد: أفلح فلاحاً يليق به حيث جاء ¬
بأصل الإيمان ودعائمه، لا أنَّه أفلح كلَّ الفلاح حتَّى يأتي بكلِّ دواعيه، أو يمنَّ الله عليه ويواليه؛ فالفلاح يكون في الدار الآخرة على قدر ما يأخذ العبد في دار الدُّنيا من الأعمال الصالحة، ويجتنب من المعاصي. وقد قلت: [من الرجز] أَفْلَحَ مَنْ صَلَّىْ مَعَاً وَصامَا ... وَأَنْفَقَ الزَّكاةَ وَاسْتَقاما وَأَمَّ بَيْتَ رَبِّهِ الْحَراما ... وَاجْتَنَبَ الشُّبْهَةَ وَالْحَراما وَصَدَّقَ الْمُهَيْمِنَ السَّلاما ... وَأَخْلَصَ الإِيْمانَ وَالإِسْلاما وروى الدَّيلمي في "مسند الفردوس" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ كانَ سُكُوْتُهُ تَفُكُّراً، وَنَظَرُهُ اعْتِباراً، أَفْلَحَ مَنْ وَجَدَ فِيْ صَحِيْفَتِهِ اسْتِغْفاراً كَثِيْراً" (¬1). وروى أبو نعيم عن سفيان الثَّوري: أنَّ رجلًا شكى إليه مظلمة فقال: شكى رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مظلمة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَظْلُوْمُوْنَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬2). ¬
وفيه تعريض بأنَّ الظَّالم لا يفلح. وفي كتاب الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى: 45]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)} [الأنعام: 21]. وقال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [المؤمنون: 117]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [يونس: 69]. وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السَّلام: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس: 77]، {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. وفيه تلويح بأنَّ الفلاح في اجتناب أعمال الشَّيطان وخطواته، وهو كذلك. وروى أبو داود عن المقدام بن معدي كرب رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب على منكبه، ثمَّ قال له: "أَفْلَحْتَ يا قُدَيْمُ إِنْ مِتَّ وَلَمْ تَكُنْ أَمِيْراً وَلا كاتِباً وَلا عَرِيْفاً" (¬1). ¬
والمراد أن لا يكون كاتباً للأمراء والعرفاء ونحوهم، لا مطلق الكتابة. وفيه إشارة إلى أنَّ الولاية والإمارة، ونحوها يتعرض بها الرَّجل إلى فوات الفلاح. روى أبو نعيم عن أحمد بن أبي الحواري عن أخيه محمَّد قال: مرَّ شيخ من الكوفيين كان كاتباً لسفيان الثوري، فقال له سفيان: يا شيخ! وَلِيَ فلان فكتبتَ له، ثمَّ عزل، وولي فلان، فكتبتَ له، ثمَّ عزل، وولي فلان، فكتبتَ له، وأنت يوم القيامة أسوؤهم حالاً، يدعى بالأوَّل فيسأل، ويدعى بك معه، فتسأل معه، ثمَّ يذهب، فتوقف أنت حتَّى يدعى بالآخر، فأنت يوم القيامة أسوؤهم حالاً. قال: فقال الشيخ: فكيف أصنع يا أبا عبد الله بعيالي؟ فقال سفيان: اسمعوا هذا يقول: إذا عصى الله رزق عياله، وإذا أطاع الله ضيَّع عياله. قال: ثمَّ قال سفيان: لا تعتدُّوا بصاحب عيال؛ فما كان عذر من عوتب إلا أن قال: عيالي (¬1). قلت: ومن هنا جاء: "ما أفلح صاحب عيال قط". رواه الدَّيلمي من حديث أبي هريرة، وابن عدي من حديث عائشة - رضي الله عنهما - (¬2). ¬
قال ابن عدي: وهو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منكر، وإنَّما هو من كلام سفيان ابن عيينة (¬1). والمراد أنَّه يفوته الفلاح إمَّا في الدُّنيا وإمَّا في الآخرة؛ إذ لا يصحُّ على إطلاقه. فأمَّا فوت الفلاح عنه في الدّنيا فيما يقاسيه من الجهد والكدِّ في طلب معيشتهم، وأمَّا في الآخرة فإذا ورد الموارد المهلكة بسبب معيشتهم (¬2). ¬
قال سفيان الثَّوري: يؤمر بالرجل إلى النَّار يوم القيامة، فيقال: هذا عياله أكلوا حسناته. رواه أبو نعيم (¬1). وروى الإمام أحمد، والبخاري، والتِّرمذي، والنَّسائي عن أبي بكرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْم وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأةً" (¬2). والمراد أن يولُّوها جميع أمورهم بحيث لو دعتهم إلى الإيمان بها لأطاعوا - كما اتفق لقوم سجاح المتنبئة -. أو يولوهَا الخلافة، أو يطيعوها في معصية الله تعالى. أو المراد بالفلاح الظفر بالدُّنيا. فأمَّا تولية المرأة ما يطلب منها من إصلاح بيتها وأولادها، فليس من هذا القبيل. وفي الحديث الصحيح: "وَالْمَرْأةُ راعِيَةٌ فِيْ بَيْتِ زَوْجِها، وَمَسْؤُوْلةٌ عَنْ رَعِيَّتِها" (¬3). ¬
وروى أبو داود، والبيهقي في "سننيهما" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "آمِرُوْا النِّساءَ فِيْ بَناتِهنَّ" (¬1). وآمروا -بالمد -أي: اجعلوهن أمراء. وذكر الإِمام أبو طالب المكِّي، وحجة الإِسلام الغزالي، وأبو حفص السُّهروردي: أنَّ إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال: من تعوَّد أفخاذ النِّساء لا يفلح (¬2). والمراد: أن يتعود أفخاذهن عَادة تشغله عن طاعة الله، أو توقعه في معصية الله، لا مجرد العود إلى الاستمتاع بهن؛ لأنَّ هذا يفعله الأنبياء والصدِّيقون. وروى أبو نعيم عن خلف بن تميم قال: سمعت سفيان الثَّوري يقول: من أحبَّ أفخاذ النِّساء لم يفلح (¬3). أي: حبًّا يدعو إلى مخالفة أمر الله تعالى. كما حكي: أنَّ أعرابيًّا راود امرأة عن نفسها، فلمَّا قعد منها مقعد النَّاكح أدركته العناية، فقام عنها، فقالت: ما لَكَ؟ ، قال: إنَّ رجلًا باع جنَّة عرضها السماوات، والأرض بمقدار ما بين فخذيك لمغبون (¬4). ¬
فأما محبتهن للعطف عليهن والشفقة بهن لأنهنَّ خلقن من ضِلَع عوجاء، أو لتأدية السنَة، وتنفيذ الحكمة، وطلب الولد، فهذا من جملة مسالك النجاح، ومدارك الفلاح، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حُبِّبَ إِليَ مِنْ دنيَاكُمُ النِّساءُ، وَالطيبُ، وَجُعِلَتْ قُرةُ عَيْنيَ فِيْ الصَّلاة". رواه الإِمام أحمد، والنَّسائي، والحاكم، والبيهقي من حديث أنس - رضي الله عنه - (¬1). وتأمل في قوله: "مِنْ دنياكُمْ"؛ إذ فيه إبعاد عن إضافة الدُّنيا إليه؛ فإنَ محبة الدُّنيا بحيث يؤثرها على شيء مما أمر به؛ فإنها قد تحول بين العبد وبين الفلاح، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَيْفَ تُفْلحُ وَالدُّنْيا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَحْنَىْ النَاسِ عَلَيْكَ؟ " رواه الخطيب من حديث جابر رضي الله تعالى عنه (¬2). وروى قاضي القضاة التاج ابن السُّبكي في "طبقاته" عن الشيخ أبي عبد الرَّحمن السُّلَمي قال: قلت للأستاذ أبي سهل الصُّعْلُوكي رحمه الله تعالى في كلام يجري بيننا: لِمَ؟ فقال لي: أما علمت أنَّ من قال لأستاذه: (لِمَ) لا يفلح؟ (¬3). ¬
أي: لا يظفر بالانتفاع منه؛ أي: ما لم يتب، ويراجع الأدب (¬1). كما قال الشيخ رضي الدين جدي رحمه الله تعالى في "ألفيَّته": [من الرجز] مَنْ لَمْ يُعَظِّمْ حُرْمَةَ الْمُؤَدِّبِ ... حَرَمَهُ اللهُ بُلُوْغَ الأَدبِ وإنَّ مَنْ قالَ لِشَيْخِهِ لِمه ... لَمْ يَنتفِعْ مِنْهُ بِما تَعَلَّمَهْ وقد يؤدِّي الاستخفاف بالأستاذ، وترك الأدب معه إلى فوات الفلاح الأخروي -والعياذ بالله -، ولقد رأيت أنَّ ممَّا كان سببًا لهلاك الأمم الاستخفاف بالمرسلين، وعدم سلوك الأدب معهم، كما بيَّنت ذلك في شرحي على ألفيَّة جدّي المسمَّى بِـ: "منبر التَّوحيد". ومن أشدِّ المعاصي حيلولة بين العبد، وترك الفلاح الابتداع في الدين، واتِّباع المبتدعين. ولقد أحسن الإِمام ابن الإِمام أبو بكر بن أبي داود السجستاني فيما أنشده لنفسه، ورويناه عنه في "الأربعين" لأبي الفُتوح الطائي: [من الطويل] ¬
تَمَسَّكْ بِحَبْلِ الله وَاتَّبعِ الْهُدَىْ ... وَلا تَكُ بِدْعِيًّا لَعَلَّكَ تُفْلِحُ وَلُذْ بِكِتابِ اللهِ وَالسُّنَنِ الَّتِيْ ... أتَتْ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ تَنْجُ وَتَرْبَحُ وَدع عَنْكَ آراءَ الرِّجالِ وَقَوْلَهُمْ ... فَقَوْلُ رَسُوْلِ اللهِ أَزْكَىْ وَأَشْرَحُ وَلا تَكُ مِنْ قَوْمٍ تَلَهَّوْا بِدِيْنهِمْ ... فَتَطْعَنَ فِيْ أَهْلِ الْحَدِيْثِ وَتَقْدَحُ إِذا مَا اعْتَقَدْتَ الدَّهْرَ يا صَاحِ هَذِهِ ... فَأَنْتَ عَلَىْ خَيْرٍ تَبِيْتُ وَتُصْبحُ (¬1) واعلم أنَّه لا يتمُ الفلاح إلا بترك المعاصي، وفعل الطَّاعات مع سلامتها من الآفات المفسدات، كالرياء، والإعجاب، وغير ذلك. ولقد روى التِّرمذي وحسَّنه، عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنَّ رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيُّ الدُّعاء أفضل؟ قال: "سَلْ رَبَّكَ الْعَافِيَةَ، وَالْمُعافاةَ فِيْ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ"، ثُمَّ أتاه في اليوم الثَّاني، فقال: يا رسول الله! أيُّ الدُّعاء أفضل؟ فقال له مثل ذلك، ثمَّ ¬
أتاه في اليوم الثَّالث، فقال له مثل ذلك، قال: "فَإِذا أُعْطِيْتَ الْعافِيَةَ فِيْ الدُّنْيا، وَأُعْطِيْتَها فِيْ الآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ" (¬1). ثمَّ إنَّ أوصاف المفلحين المندرجة في صفة الإيمان كثيرة جدًّا، وباعتبار تعدد أوصافهم تعددت أصنافهم، وكل صنف فالتشبُّه بهم في الوصف المحمود مندوب إليه، محثوث عليه، وكلُّ هؤلاء الأصناف تجمعهم الطَّاعة، ورأس الطَّاعة التَّوحيد، وقول: (لا إله إلا الله)، بل هي شرط في كلّ طاعة؛ إذ لا طاعة لمن لم يأتِ بها، وهي تدعو إلى كلّ طاعة، وتنهى عن كلِّ معصية، ولذلك أوَّل ما بدأت الأنبياء عليهم السَّلام بالدعوة إليها، حتَّى إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرضى من كلِّ أحد في أوَّل دعوته بأن يقولها. قال ربيعة بن عبَّاد الدَّيلي (¬2) رضي الله تعالى عنه: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -يعني: قبل ما أسلم - بسوق ذي المجاز يقول: "يَا أيها النَّاسُ! قُوْلُوْا: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ تُفْلِحُوْا"، فدخل فجاجها والنَّاس منقضُّون عليه، فما رأيت أحدًا يقول شيئًا، وهو لا يسكت؛ يقول: "يَا أيها النَّاسُ! قُوْلُوْا: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ تُفْلِحُوْا"، إلا أنَّ وراءه رجلًا أحول، وَضِيء الوجه، ذا غديرتين يقول: إنَّه صابئ كاذب، فقلت: من هذا الذي يكذِّبه؟ قالوا: هذا عمُّه أبو لهب. ¬
قال أبو الزناد: قلت له: كنت يومئذ صغيراً؟ قال: لا - والله - إنِّي لأعقل، وأحمل القربة. أخرجه أبو الحسين عبد الباقي بن قانع في "معجم "الصحابة" (¬1). ثمَّ إن الطَّائعين ينقسمون إلى أربعة أصناف: - أنبياء. - وصدِّيقين. - وشهداء. - وصالحين ليسوا بأنبياء، ولا صدِّيقين، ولا شهداء، وهم مندرجون في الصالحين أيضًا. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69]. وهذه الآية من أصرح الأدلة على أن من تشبَّه بقوم كان معهم؛ لأنَّ طاعة الله جامعة لكل أخلاق الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وأعمالهم التي من جاء بها كان متشبِّهًا بهم. ومهما كان العبد مطيعًا فقد تشبَّه بهم في الطاعة، ومن أطاع الله فهو ¬
من عباد الله الطَّائعين، وفي سلكهم في الدُّنيا والآخرة. وما الطَّائعون من الثقلين إلا هؤلاء الطَّوائف الأربعة، ومن أطاع الله تعالى فقد أخذ بحظ من التَّشبه بهم، والتخلُّق بأخلاقهم، فليحمد الله على هذه المِنَّة، وليشكره على هذه النعمة. وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب "العظمة" عن أحمد بن أبي الحواري رحمه الله تعالى قال: التقى حكيمان من الحكماء، فقال أحدهما لصاحبه: بم عرفت ربَّك؟ قال: بفسخ العزم، ومنع الهم؛ لما عزمت فحال بيني وبين عزمي القدر، وهممت فحال بيني وبين همي، علمت أنَّ المستولي على قلبي غيري. قال: فبم عرفت الشُّكر؟ قال: بكشف البلاء، لما رأيت البلاء مصروفًا عنّي، موجودًا في غيري شكرت على ذلك. قال: فبم أحببت لقاءه؟ قال: بأصل التَّخيير، وانتفاء التُّهمة. قال: فما أصل التَّخيير، وانتفاء التُّهمة؟ قال: لما اختار لي دين الملائكة والأنبياء أحسنت به الظَّن، ونفيت عنه التُّهمة، وعلمت أنَّ الذي اختار لي هذا لا يسيء إلي، فأحببت لقاءه (¬1). ومما يصرِّح وينصُّ على أنَّ الله تعالى اختار لأوليائه من عباده دين الأنبياء والملائكة عليهم السَّلام: أنه سبحانه أمرنا أن نسأله الهداية إلى صراطهم في كلِّ يوم وليلة سبع عشرة مرَّة في قراءة الفاتحة في الصَّلوات ¬
الخمس أمراً افترضه علينا، سوى ما ندبنا إليه من النَّوافل، وذلك في قولنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7]. روى الإِمام محمَّد بن جرير الطبري في "تفسيره" عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أنَّ المراد بالذين أنعمت عليهم: الأنبياء والملائكة والصدِّيقون والشُّهداء ومن أطاع الله وعَبَده (¬1). أي: وهم سائر الصَّالحين. وهذا أرجح الأقوال في تفسير المُنْعَم عليهم، وأعمُّها، وأتمُّها. فإن قلت: لم يذكر الله تعالى الملائكة في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية [النساء: 69]، مع أنَّ الملائكة من أهل الطَّاعة المنعم عليهم، كما في حديث ابن عبَّاس؟ قلت: لأنَّ هؤلاء الأربعة الأصناف - وإن شاركتهم الملائكة عليهم السَّلام في إحلال الرِّضوان عليهم في دار الآخرة مع الخلود - فإنَّهم يتميزون عنهم في تلك الدَّار بأنواع التَّمتعات الشَّهوانية الناشئة عن النُّفوس المطمئنَّة، كما قال الله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} [فصلت: 30] إلى قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ¬
{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31]. فمن أنواع التَّمتعات الْجِنانية ما يختصُّ به المقربون من البشر دون الملائكة عليهم السَّلام. وفي الآية إشارة إلى أنَّ من أطاع الله تعالى ورسوله لا يفوته شيء من نعيم الجنَّة، سواء ألحق بكلِّ الطَّوائف الأربعة، أو بطائفة منهم؛ لأنَّ كل طائفة منهم فلها حظُّها من سائر إمتاعات الجنَّة بخلاف الملائكة عليهم السَّلام، والإشارة إلى ذلك دقيقة، فينبغي تفهمها! وقد تحرر لك أنَّ الذين يحسن التَّشبه بهم من خلق الله تعالى هم هؤلاء الطوائف الأربعة المذكورون في الآية الكريمة، وطائفة أخرى خامسة، وهم الملائكة المكرمون. واستقصاء أعمال هؤلاء الطَّوائف وأخلاقهم وأحوالهم لا يمكن، إلا أنني أحببت أن أذكر منها نبذة في أبواب متفرقة، والله سبحانه هو الموفق والمعين. ***
(1) باب التشبه بالملائكة عليهم السلام
(1) بَابُ التَّشَبُّهِ بِالمَلَائِكَةِ عَلَيْهِم السَّلَام
(1) بَابُ التَّشَبُّهِ بِالمَلَائِكَةِ عَلَيْهِم السَّلَام اعلم أنَّ التَّشبه بالملائكة مشروع لأنَّهم من جملة من أمرنا بطلب الهداية إلى صراطهم في قراءة الفاتحة في قوله تعالى معلِّمًا لنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7]، كما تقدم عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما. ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَشَبَّه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" (¬1). ولأنَّه قد ورد: "تَخَلَّقُوْا بِأَخْلاقِ اللهِ تَعَالَىْ" (¬2) مع شدَّة المباينة بينه وبين خلقه، فجواز التخلق بأخلاق الملائكة عليهم السَّلام والتَّشبه بهم أولى. ولقد عاب الله تعالى إبليس الرَّجيم بتأخره عن التَّشبه بالملائكة عليهم السَّلام، وعاتبه على ذلك، ووبخه به، ولعنه بسببه - خصوصاً حين اعتذر عنه بما في رأيه القاصر -، فقال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ ¬
مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 30 - 35]. أخرجه من جنته حين باين أهل حضرته، وفارقهم، ثمَّ رجمه ولعنه. وحقيقة الرَّجم واللعن الإبعاد عن رحمة الله تعالى؛ لأنَّه بالغ في البعد عن أهل القربة والزلفة بتبرئته من عملهم، وتقبيحه حالهم، فبولغ في إبعاده، وأُبِّدت لعنته. وقد رغب آدم عليه السَّلام في التَّشبه بالملائكة حين حدَّثه إبليس أن أكل الشجرة يلحقه بالملائكة، فكان ذلك هو الدَّاعي له على أكل الشجرة، كما قال تعالى: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 20، 21]. قال قتادة: حلف لهما بالله إبليس حتى خدعهما، وقد يُخدع المؤمن بالله (¬1). قال: وكان بعض أهل العلم يقول: من خادعنا بالله خدعنا. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما (¬2). فلمَّا حَلف ظنَّ آدم أن أحدًا لا يحلف بالله إلا صادقًا. ¬
وقد استدل بالآية من فضل الملائكة على الأنبياء عليهم السَّلام. ولا دليل فيها؛ لأنَّه استقرَّ في العقول أنَّ الحقائق لا تنقلب، ولكن رغب آدم وحواء أن يكون لهما ما للملائكة من تمام القوَّة، وكمال القدرة على الطَّاعة، وطول العمر فيها، وكمال الفطرة، والغنية عن المأكل والمشرب. أو كان ذلك قبل اصطفاءآدم عليه السَّلام. أو ذلك على معتقد إبليس من أنَّ جنس الملك أفضل من جنس البشر، كما نصَّ على ذلك شيخ الإِسلام والدي في "تفسيره" وغيرُه (¬1). والمقصود: أنَّ طلب العبد لمشاركة الملائكة فيما هم عليه من كمال الطَّاعة، وسائر الخصال الحميدة من شأن الكلّ. ومن أعظم الأحاديث الدَّالة على استحباب التَّشبه بالملائكة عليهم السَّلام ما ثبت في "صحيح مسلم"، وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثِّياب، شديد سواد الشَّعر، لا يرى عليه أثر السَّفر، ولا يعرفه منَّا أحد، حتَّى جلس إلى النَّبيِّ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفَّيه على فخذيه، قال: يا محمَّد! أخبرني عن الإِسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُوْلُ اللهِ، وَتُقِيْمَ الصَّلاةَ، وَتُؤتيَ الزَّكاةَ، وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ ¬
سَبِيْلاً"، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله, ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: "أَنْ تُؤْمِنَ باللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الاَخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ؛ خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ"، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن "الإحسان" قال: "أَنْ تَعْبُدَ الله كَأنَّكَ تَراهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإِنَّهُ يَراك"، قال: فأخبرني عن السَّاعة، قال: "مَا الْمَسْؤُوْلُ عَنْها بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"، قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: "أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبتَها، وَأَنْ تَرَى الْحُفاةَ الْعُراةَ رِعاءَ الشَّاءِ يتَطاوَلُوْنَ فِيْ الْبُنْيانِ"، ثمَّ انطلق، فلبث مليًّا، ثمَّ قال: "أتَدرِيْ يا عُمَرُ مَنِ السَّائِلُ؟ " قلت: الله، ورسوله أعلم، قال: "فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ أَتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ" (¬1). فقوله: "أَتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ"؛ أي: يعلمكم أحكام دينكم، وكيف تأخذون دينكم، وتسألون عنه. أي: فعل ذلك معلِّمًا لكم لتتشبَّهوا به في أخذكم دينكم من نبيكم، ومن علمائكم. وقد اشتمل هذا الحديث على جملة من أخلاق الملائكة التي ينبغي التَّخلُّق بها كلبس الثّياب البيض، والتَّجمُّل للدخول على المعلِّم، والتَّادُّب معه في الجلوس بين يديه على نعت الأدب، ووضع اليدين على الرُّكبتين، والسؤال عن أحكام الدين، وعن دقائق العلم ورقائقه، ومكافأة المعلِّم بالتصديق فيما يقول، والسؤال عن العلم - وإن كان ¬
السَّائل عالمًا به- ليستفيد الحاضرون، وليتعلَّموا كيفية السؤال، وحمل المعلِّم -وهو معنى الاستملاء الذي اعتاده المحدِّثون -، والبداءة في تعلُّم العلم بالأهم فالأهم، وطلب رقائق العلم بعد التضلُّع من المحتاج إليه منه، وعدم الاعتراض على الأستاذ، والإقبال عليه دون غيره في مجلس التعلُّم، وغير ذلك. وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النَّدب إلى التَّشبه بجبريل عليه السَّلام في هذه الخصال بقوله: "هَذَا جِبْرِيْلُ أتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ". وقد قلت ملمِّحاً بهذا الحديث الشَّريف: [من الطويل] لَقَدْ جاءَ جِبْرِيْلُ النَّبيَّ مُحَمَّداً ... يُعَلّمُنا الدِّيْنَ الْقَوِيْمَ الْمُؤَيَّدَا لَهُ أَدَبٌ فِيْ سَمْتِهِ وَتَجَمُّلٌ ... لِيُتْبَعَ فِيْ حَمْلِ الْعُلُوْمِ وَيُقْتَدَىْ يُسائِلُ عَنْ أَحْكامِ دِيْنٍ وَيَبْتَدِيْ ... بِأَوْلَىْ فَأَوْلَىْ فِيْ اسْتِفَادتِهِ الْهُدَىْ وَمِنْ بَعْدِ حُكْمِ الدِّيْنِ يَسْأَلُ عَنْ دَقا ... ئِقَ تَعْلِيْماً لِعَبْدٍ بِهِ اقْتَدَا تَشَبَّهْ بِهِ فِيْما ذَكَرْتُ مُحاذِراً ... هَوَىْ مَنْ يُتابِعُهُ إِلَىْ الأَرْضِ أَخْلَدا
فَمَنْ يَكُنِ الرُّوْحُ الأَمِيْنُ إِمامَهُ ... فَفِيْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ يَبْقَىْ مُؤَبَّدا وذكر الإِمام أبو طالب المكي في كتاب "قوت القلوب": أنَّ في بعض كتب الله تعالى: يا بني إسرائيل! لا تقولوا: العلمُ في السَّماء من ينزل به؟ ولا في تخوم الأرض من يصعد به؟ ولا: من وراء البحار من يعبر فيجيء به؟ العلم مجعول في قلوبكم، تأدبوا بين يديَّ بآداب الروحانيين، وتخلَّقوا لي بأخلاق الصدِّيقين أظهر العلم من قلوبكم حتَّى يغطيكم، ويغمركم (¬1). أراد بالرُّوحانيين: الملائكة عليهم السَّلام. وقوله: مجعول في قلوبكم؛ يعني: إنَّ القلوب لها قابلية العلم، وإنَّما ينمو العلم فيها، ويظهر منها إذا تشبَّه العبد بالملائكة في الآداب، والصديقين في الأخلاق؛ لأنَّ الطَّاعة التي هي عبارة عن العمل بالعلم شكر لنعمة العلم، والشكر يقتضي المزيد. وفي الحديث: "مَنْ عَمِلَ بِما عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ ما لَمْ يَعْلَمْ". رواه أبو نعيم من حديث أنس - رضي الله عنه - (¬2). ¬
1 - فمنها: الشهادة لله تعالى بالوحدانية
وفي كتاب الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]؛ أي: إن تتقوه، وهو معنى العمل بالعلم. وروى أبو نعيم عن كثير بن الوليد قال: كنت إذا رأيت ابنَ شَوذَب ذكرت الملائكة (¬1). أي: لإقباله على الطَّاعة، وعدم السَّآمة منها، وملازمة الأدب. ولنذكر من أخلاق الملائكة عليهم السَّلام جملة صالحة سوى ما تقدَّم: 1 - فمنها: الشَّهادة لله تعالى بالوحدانية: قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]. ذكر البغوي (¬2): أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أعظم شهادة في القرآن، فأنزل الله تعالى عليه هذه الآية (¬3). قلت: وإنَّما كانت أعظم شهادة في القرآن لأنَّها جمعت بين شهادة الله تعالى، وشهادة ملائكته، وشهادة خواص الثقلين من خليقته، وهم أولوا العلم من الأولياء والأنبياء، والمشهود به في الشَّهادات الثلاث ¬
2 - ومنها: الشهادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة والنبوة
وحدانية الله تعالى واستبداده بالألوهية، وذلك أعظم مشهود به. وقد روى الطَّبراني، والبيهقي بسند معضل، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُجاءُ بِصاحِبِها -يعني: هذه الآية - يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَيقوْلُ اللهُ تَعَالَىْ: عَبْدِيْ عَهِدَ إِلَيَّ، وَأَنا أَحَقّ مَنْ وَفَا، أَدْخِلُوْا عَبْدِيَ الْجَنَّةَ" (¬1). وقال الشيخ الوالد رضي الله تعالى عنه في "تفسيره" عاقداً لهذا الحديث: [من الرجز] بِصاحِبِ الآيَةِ فِيْ الْحَشْرِ يُجَا ... وإنَّهُ ما بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَا إِذْ قالَ ذُوْ الْجَلالِ إِنَّ عَبْدِيْ ... هَذَا لَهُ عَهْدٌ عَظِيْمٌ عِنْدِيْ وَإِنّنَيْ أَحَق مَنْ وَفَىْ الْعُهُوْدْ ... فَأَدْخِلُوْهُ جَنَّتِيْ دَارَ الْخُلُوْدْ 2 - ومنها: الشَّهادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة والنُّبوَّة: قال الله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166]. ¬
تنبيه
وتقدَّم في حديث عمر رضي الله تعالى عنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل عليه الصَّلاة والسَّلام: "الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُوْلُ اللهِ"، الحديث، وقول جبريل له: "صدقت" (¬1). * تَنْبِيْهٌ: قد تبين بالآيتين المذكورتين آنفًا أنَّ من أوصاف الله تعالى شهادته لنفسه بالألوهية والوحدانية، ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة والنبوة - وكفى بالله شهيدًا، وبشهادته شهادة - فمن شهد بهاتين الشهادتين كان متخلقاً بخلقٍ من أخلاق الله تعالى، وأخلاق ملائكته الكرام عليهم السلام. 3 - ومنها: الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره؛ لحديث عمر المتقدم، ولقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]. الآية. * لَطِيْفَةٌ: قال بعض المحققين: في ثناء الله تعالى على الملائكة بالإيمان إشعار بأن حملة العرش وسكان الفرش في معرفة الله تعالى سواء (¬2). وفيه رد المجسِّمة، وإلا قال عوض: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 7]: ويشاهدون، أو: يعاينون. ونظير هذا قول إمام الحرمين في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُفَضِّلُوْنِي عَلَىْ ¬
4 - ومنها: الإحسان
يُوْنسُ بْنِ مَتَّىْ" (¬1): إن يونس حين كان في بطن الحوت لم يكن دون محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في القرب حين كان قاب قوسين أو أدنى. 4 - ومنها: الإحسان: لحديث عمر (¬2) أيضا؛ فإن الملائكة عليهم السلام دائماً إما في مشاهدة، وإما في مراقبة، ويشير إلى هذا قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]. 5 - ومنها: اعتقاد أن الحسنات والسيئات من الله، والخير والشر من الله، ومذاكرة العلم والمناظرة فيه لإظهار الحق، والرجوع إلى الحق في المناظرة دون التعميم على رأي النفس وقولها. روى البزار، والبيهقي في "شرح الأسماء" عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كنا جلوسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أبو بكر، وعمر - رضي الله عنهما - في قيام من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فجلس أبو بكر قريبًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجلس عمر قريبًا منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لم ارْتَفَعَتْ أَصْواتُكُما؟ " فقال رجل: يا رسول الله! قال أبو بكر: الحسنات من الله، والسيئات من أنفسنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَما قُلْتَ يا عُمَرُ؟ " قال: قلت: الحسنات، والسيئات من الله تعالى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّم فِيْهِ جِبْرِيْلُ، وَمِيْكائِيْلُ عَلَيْهِمَا السَّلامُ فَقَالَ مِيْكائِيْلُ مَقالتكَ ¬
6 - ومنها: الوضوء، ونضح الفرج بالماء بعده خشية الوسواس، وتعليم الوضوء، وسائر العبادات للغير
يا أَبَا بَكْرٍ، وَقالَ جِبْرِيْلُ مَقالتكَ يا عُمَرُ، فَقالَ: إِنْ نَخْتَلِفْ تَخْتَلِفْ أَهْلُ السَّماءِ، وإنْ تَخْتَلِفْ أَهْلُ السَّماءِ تَخْتَلِفْ أَهْلُ الأَرْضِ، فَتَحاكَما إِلَىْ إِسْرافِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَضَىْ بَيْنَهُما أَنَّ الْحَسَناتِ وَالسَّيئاتِ مِنَ اللهِ"، ثم أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر، وعمر، فقال: "احْفَظا قَضَائِيَ بَيْنَكُما، لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ لا يُعْصَىْ لَمْ يَخْلُقْ إِبْلِيْسَ" (¬1). 6 - ومنها: الوضوء، ونضح الفرج بالماء بعده خشية الوسواس، وتعليم الوضوء، وسائر العبادات للغير: روى الإِمام أحمد عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن جبريل عليه السلام لما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلمه الوضوء، فلما فرغ من وضوئه أخذ حفنة من ماء، فرشَّ بها نحو الفرج، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرش بعد وضوئه (¬2). 7 - ومنها: السواك: روى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن زيد بن رفيع قال: ¬
تنبيه
دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل وميكائيل وهو يستاك، فناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل السواك، فقال جبريل عليه السلام: كَبِّرْ. قال الترمذي: أي: ناول ميكائيل؛ فإنه أكبر (¬1). قلت: يحتمل أن الملائكة عليهم السلام تستاك حقيقة امتثالاً للأمر، وإرشاداً للخلق، وإن لم يكن في أفواههم ما يحتاج إلى الإزالة كما في أفواه بني آدم. * تنبِيْهٌ: في هذا الحديث إشارة إلى أن ميكائيل أكبر من جبريل عليهما السلام، والظاهر أن الكبر بمعنى القدم، ففيه دليل على أن ميكائيل خلق قبل جبريل، ولا يجوز حمله على الكبر بمعنى العظم من حيث الفضل؛ فإن جبريل عليه السلام أفضل. 8 - ومنها: إقام الصلاة: وهي صلاتنا المعهودة إن قلنا: إن الملائكة عليهم السلام متعبدون بشرع نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: فيما يتأتى منهم من الأحكام. ويدل لذلك حديث عمر المشار إليه -أيضًا -. وقال أبو عمر بن عبد البر: قد روي عن عكرمة ما يدل على أن أهل السماء يصلُّون في حين صلاة أهل الأرض، وُيؤَمِّنُوْنَ أيضًا، فمن ¬
وافق ذلك منهم غفر له (¬1). نقله ابن سيد الناس في "شرح الترمذي". وروى ابن أبي شيبة عن القاسم، عن أبيه قال: دخل عبد الله بن مسعود المسجد لصلاة الفجر، فإذا قوم قد أسندوا ظهورهم إلى القبلة، فقال: تنحوا عن القبلة، لا تَحُولوا بين الملائكة وبين صلاتها؛ فإن ما بين الركعتين صلاة الملائكة عليهم السلام (¬2). وروى الإِمام محمَّد بن نصر المروزي في كتاب "الصلاة"، وابن جرير، وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما فِيْ السَّماءِ مَوْضعُ قَدَمٍ إِلاَّ وَعَلَيْهِ ملك ساجِدٌ أَوْ قائِم، وَذَلِكَ قَوْلُ الْمَلائِكَةِ: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 164، 165] " (¬3). وروى محمَّد بن نصر، وابن عساكر عن العلاء بن سعد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومًا لجلسائه: "أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَها أَنْ تَئِطَّ؛ لَيْسَ مِنْها مَوْضعُ قَدَمٍ إِلاَّ عَلَيْهِ ملك راكِع أَوْ ساجِدٌ"، ثم قرأ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)} [الصافات: 164، 165] (¬4). ¬
9 - ومنها: كثرة السجود لله تعالى
وقال أبو طالب المكي: يقال: إن المصلين من الملائكة يُسَمَّون في السماوات خُدَّام الرحمن، ويفخرون بذلك على سائر المرسلين من الأملاك (¬1). 9 - ومنها: كثرة السجود لله تعالى: قال الله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49، 50]. وروى الإِمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنِّيْ أَرَىْ ما لا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ ما لا تَسْمَعُوْنَ؛ إِنَّ السَّماءَ أَطَّتْ وَحُقَّ لَها أَنْ تَئِط؟ ما فِيْها [موضع] أَرْبَع أَصابعَ إِلاَّ وَمَلَكٌ واضعٌ جَبْهَتَهُ ساجِداً لله تَعَالَىْ" (¬2). وفي لفظ: "أَطَّتِ السَّماءُ وَحُقَّ لَها أَنْ تَئِطَّ؛ ما مِنْها مَوْضعُ أَرْبَعِ أَصابعَ إِلاَّ وَعَلَيْهِ مَلَكٌ وَاضعٌ جَبْهَتَهُ" (¬3). وروى ابن أبي حاتم الرازي، وأبو القاسم الطبراني، والضياء ¬
تنبيه
المقدسي في "المختارة"، وغيرهم عن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه فقال لهم: "تَسْمَعُوْنَ ما أَسْمَعُ؟ " قالوا: ما نسمع من شيء، قال: "إِنَي لأَسْمَعُ أَطِيْطَ السَّماءِ، وَما تُلامُ أَنْ تَئِطَّ؛ ما فِيْها مَوْضعُ قَدَمٍ إِلاَّ عَلَيْهِ ملك ساجِدٌ أَوْ قائِمٌ" (¬1). وروى أبو بكر بن مردويه في "تفسيره" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَطَّتِ السَّماءُ وَيَحِقُّها أَنْ تَئِطَّ؛ وَالَّذِيْ نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ ما فِيْها مَوْضعُ شِبْرٍ إِلاَّ فِيْهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ ساجِدٍ يُسَبِّحُ الله بِحَمْدِه". وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "المتمنين" عن يحيى بن جعدة قال: قال عمر - رضي الله عنه -: لولا ثلاث لأحببت أن أكون قد مت؛ لولا أن أضع جبيني لله ساجداً، أو أجالس أقواماً يلتقطون طيب الكلام كما يلتقط طيب التمر والبُسر، أو أكون في سبيل الله، لأحببت أن أكون قد مت (¬2). * تنبِيْهٌ: يتأتى التشبه بالملائكة عليهم السلام في كثرة السجود بكثرة الصلاة، وبسجود التلاوة، وسجود الشكر عند هجوم نعمة أو اندفاع نقمة أو رؤية مبتلى. وأما السجود هكذا مجرداً عن هذه المعاني فإنه غير مشروع. ¬
فائدة
وأما ما ينقل عن بعض الصوفية من كثرة السجود فمحمول على أنهم مراقبون بسرائرهم وأحوالهم، فكلما فجأهم حال شريف، أو نزلوا في مقام منيف سجدوا شكرًا لهجوم تلك النعمة، وكلما تخلصوا من آفة من آفات الطريق سجدوا لاندفاع تلك الآفة، وكلما رأوا مبتلى بمعصية سجدوا لذلك. وأما سجود بعض المتصوفة لصورة جميلة، أو لشيوخهم فإنه ضلال شبيه بسجود النصارى لأساقفتهم، كما سيأتي. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كُنْتُ آمِراً أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِها" (¬1). رواه الإِمام أحمد عن معاذ، والترمذي وصححه، عن أبي هريرة، والحاكم وصححه، عن بريدة - رضي الله عنه -. * فَائِدَةٌ: قال أبو الليث السمرقندي في "تنبيه الغافلين": يقال: إن الله تعالى خلق سبع سماوات، وحَشَاها بالملائكة، وتعبَّدهم بالصلاة لا يَفْتُرُوْنَ ساعة، فجعل لأهل كل سماء نوعا من العبادة، فأَهْل سماء قيام على أرجلهم إلى نفخة الصور، وأهل سماء سجود، وأهل سماء مرخية الأجنحة من هيبته، وأهل عليين، ومن حول العرش يسبحون بحمد ¬
ربهم، ويستغفرون لمن في الأرض، فجعل الله تعالى ذلك كله في صلاة واحدة كرامة للمؤمن حتى يكون له حظ من عبادة كل سماء، وزادهم القرآن يتلونه فيها، وطلب منهم شكرها، وشكرُها إقامتها بشروطها، وحدودها. انتهى. وروى أبو نعيم عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَىْ فِيْ السَّماواتِ السَّبع مَلائِكَةً يُصَلُّوْنَ لَهُ غِنَىً عَنْ صلاةِ فُلانٍ"؛ عن رجل من المنافقين تخلف عن الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأراد عمر قتله، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: وما صلاتهم يا رسول الله؟ قال: فلم يردَّ عليه شيئًا، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: "يا نبي الله! سألك عمر عن صلاة أهل السماء؟ قال: نَعَمْ، فقال: اقرأ على عمر السلام، وأخبره أن أهل سماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة تقول: سبحان ذي الملك والملكوت، وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت" (¬1). وروى الإِمام عبد الله بن المبارك في "الزهد والرقائق" عن شريح ابن عبيد الحضرمي قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لكعب رحمه الله تعالى: خَوِّفنا يا كعب، قال كعب: والله إن لله لملائكة قياماً منذ يوم ¬
10 - ومنها: التهليل، والتكبير، والتسبيح، والتقديس، والتحميد، والحوقلة
خلقهم، ما انثنوا لأصلابهم، وآخرون ركوع ما رفعوا أصلابهم، وآخرون سجود ما رفعوا رؤوسهم حتى ينفخ في الصور النفخة الآخرة، فيقولون جميعًا: سبحانك، وبحمدك ما عبدناك ككنه ما ينبغي لك أن تعبد، ثم قال: والله لو أن لرجل يومئذ كعمل سبعين نبيًا لاستقل عمله، لشدة ما يرى يومئذ، وذكر الحديث (¬1). 10 - ومنها: التهليل، والتكبير، والتسبيح، والتقديس، والتحميد، والحوقلة: قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]. وقد سبق أن الملائكة عليهم السلام يصلون الصلاة المعهودة، وسيأتي أنهم يؤذنون، وهما مستلزمان التكبير. وقال الله تعالى: {يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7]. وقال تعالى حكايته عن الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]. قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: تسبيح الملائكة صلاتهم (¬2). ¬
ومنه قوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143]؛ أي: من المصلين. وقال الفضيل: تسبيح الملائكة رفع أصواتهم بالذكر. وقال قتادة: هو سبحان الله (¬1). قال القرطبي في "تفسيره": وهو الصحيح لما رواه أبو ذر (¬2): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: "ما اصْطَفَىْ اللهُ لِمَلائِكَتِهِ: سُبْحانَ اللهِ وَبِحَمْده". أخرجه مسلم (¬3). انتهى (¬4). قلت: هو من رواية أبي ذر رضي الله تعالى عنه، ومقتضاه أن تسبيحهم مجموع قوله: (سبحان الله وبحمده)، وهو مقتضى الآيات المتقدمة. وفي الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكى عن نوح عليه السلام أنها تسبيح كل شيء (¬5). ¬
ومصداقه من القرآن قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وروى ابن أبي شيبة عن مصعب بن سعد قال: إذا قال العبد: (سبحان الله) قالت الملائكة: (وبحمده)، وإذا قال: (سبحان الله وبحمده) صلوا عليه (¬1). والله الموفق. وروى أبو نعيم في "الحلية" عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، والبيهقي في "الشعب" عن الأوزاعي، قال: حدثني هارون بن رِئَاب، قالا: حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت رخيم، قال: فتقول أربعة منهم: سبحانك وبحمدك على حلمك بعد علمك، وتقول الأربعة الآخرون: سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك (¬2). رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الذكر"، والأصبهاني في "الترغيب" عن شهر بن حوشب، وزاد فيه: لِمَا يرون من ذنوب بني آدم. وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قُرط (¬3) رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به سمع في السماوات: "سبحان العلي ¬
الأعلى سبحانه وتعالى" (¬1). وروى ابن حيان (¬2) الأصبهاني عن محمَّد بن مسلم الطائفي، عن لوط بن أبي لوط، قال: بلغني أن تسبيح سماء الدنيا: سبحان ربي الأعلى، والثانية: سبحانه وتعالى، والثالثة: سبحانه، سبحانه وبحمده، والرابعة: سبحانه، لا حول ولا قوة إلا بالله، والخامسة: سبحان محيى الموتى وهو على كل شيء قدير، والسادسة: سبحان الملك القدوس، والسابعة: سبحان الذي ملأ السماوات والأرضين السبع عزة ووقارًا (¬3). وقوله: (تسبيح السماء الدنيا)؛ أي: تسبيح أهلها، وهم الملائكة عليهم السلام. وذكرت في هذا المقام ما قرأته بخط والدي شيخ الإِسلام لصاحبه العلامة السيد عبد الرحيم العباسي الإسطنبولي رحمه الله تعالى: [من مجزوء الرجز] يَا واهِبًا غُفْرانَهُ ... لِمَنْ أَعَزَّ شَانَهُ هَبْ لِفُؤَادِيَ قُوَّةً ... تزِدْ بِها إِيْمانَهُ حَتَّىْ يَقُوْلَ دائِماً ... لِمَنْ بَرَىْ جُثْمانَهُ سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ ... سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ ¬
وذكر أبو إسحاق الثعلبي في "تفسيره" عن علي رضي الله تعالى عنه: إن أول من قال: (سبحان ربي الأعلى) ميكائيل عليه السلام، وإن من قالها في سجود فإذا مات زاره ميكائيل كل يوم، ويشفع له يوم القيامة، فيدخل الجنة (¬1). وذكر في كتاب "العرائس"، ونقله عنه القرطبي، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جده، قال: إن لله تعالى ملكًا يقال له: حزقيائيل، له ثمانية عشر ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح مسيرة خمس مئة عام، فخطر له خاطر، هل يقدر أن يبصر العرش جميعه؟ فزاده الله أجنحةً مثلها، فكان له ستة وثلائون ألف جناح، ثم أوحى الله إليه: أيها الملك طِر، فطار مقدار عشرين ألف سنة، فلم يقطع رأس قائمة من قوائم العرش، ثم ضاعف الله له في الأجنحة والقوة، وأمره أن يطير، فطار مقدار ثلاثين ألف سنة أخرى، فلم يصل أيضًا، فأوحى الله إليه: أيها الملك لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك، وقوتك لم تبلغ ساق عرشي، فقال الملك: سبحان ربي الأعلى، فأنزل الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجْعَلُوْها فِيْ سُجُوْدِكُمْ" (¬2). وفي "مسند الإِمام أحمد"، و"سنن أبي داود"، و"ابن ماجه"، وآخرين وصححه ابن حبان، والحاكم، عن عقبة بن عامر الجهني ¬
رضي الله تعالى عنه قال: لما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الحاقة: 52]، قال: "اجْعَلُوْها فِيْ رُكُوْعِكُمْ"، ولما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: "اجْعَلُوْها فِيْ سُجُوْدِكُمْ" (¬1). وروى الطبراني في "معجمه الأوسط"، والحاكم في "المستدرك" وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله أَذِنَ لِيْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ دِيْكٍ قَدْ مَرَقَتْ رِجْلاهُ الأَرْضَ وَعُنُقُهُ مَثْنِيَّة تَحْتَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: سُبْحانَكَ ما أَعْظَمَكَ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ: لا يَعْلَمُ ذاكَ مَنْ حَلَفَ بِيْ كاذِباً" (¬2). وروى أبو الشيخ في كتاب "العظمة" عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلَّهِ دِيْكًا بَراثِنُهُ فِيْ الأَرْضِ السُّفْلَىْ، وَعُنُقُهُ مَثْنِيٌّ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَجَناحَاهُ فِيْ الْهَواءِ، يَخْفِقُ بِهِا فِيْ السَّحَرِ كُلَّ لَيْلةٍ، يَقُوْلُ: سُبْحانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوْسِ، رَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمَلِكُ لا رَبَّ غَيْرُه" (¬3). وروى الترمذي عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ صبَاحٍ يُصْبحُ الْعِبادُ إِلاَّ وَمُنادٍ يُنادِيْ: سُبْحانَ ¬
الْمَلِكِ الْقُدُّوْسِ" (¬1). وأخرجه ابن السُّني في "عمل اليوم والليلة"، ولفظه: "إلا صَرَخَ صارِخٌ: أَيُّهَا الْخَلائِقُ! سَبحُوْا الْمَلِكَ الْقُدُوْسَ" (¬2). وروى ابن حبان في كتاب "الثقات" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: إن لله ديكاً رجلاه في الأرض السابعة، جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، وعنقه مثنية تحت العرش، يسبح الله تعالى ويحمده، ويقدسه، فإذا مضى من الليل ما شاء الله أن يمضي صفق بجناحيه، فقال: قدوس قدوس، رب الملائكة، الحق لا إله إلا هو، فعند ذلك تصيح الديوك، وتصفق بأجنحتها (¬3). قلت: ورد أن هذا الديك ملك على صورة الديك (¬4). ويقال: إنه إسرافيل عليه السلام، والله الموفق. وفي "الحلية" عن كعب الأحبار قال: إن لله تعالى ملكًا على صورة ديك، رِجْلاه في التخوم الأسفل من الأرض، ورأسه تحت العرش، فما من ليلة إلَّا والجبار ينزله، أو ينزل إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا من سائل فيعطى، ألا من تائب فيتاب عليه، ألا من مستغفر فيغفر له، فيسبح ¬
الله تعالى، ويحمده، ثم يصوت حتى يفزع لذلك من حول العرش، فيسبحون الله، ويمجدونه، ثم أهل السماء الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم هذه السماء الدنيا، فأول من يعلم ذلك من أهل الأرض الدجاج، فأول ما يزقو الديك، فيقول: قوموا أيها العابدون، فإذا زقا الثانية قال: قوموا أيها المسبحون، فإذا زقا الثالثة قال: قوموا أيها القانتون، فإذا زقا الرابعة قال: قوموا أيها المصلون، فإذا زقا الخامسة قال: قوموا أيها الذاكرون، فإذا أصبح ضرب بجناحيه، وقال: قوموا أيها الغافلون، فمن قرأ بعشر آيات قبل أن يصبح لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ بعشرين آية قبل أن يصبح كتب من الذاكرين، ومن قرأ بخمسين آية كتب من المصلين، ومن قرأ بمئة آية كتب من القانتين، ومن قرأ بخمسين ومئة آية أعطي قنطاراً من الأجر، والقنطار مئة رطل، والرطل اثنان وسبعون مثقالًا، والمثقال أربعة وعشرون قيراطا، والقيراط مثل أُحُدٍ (¬1). وروى أبو يعلى، وابن مردويه بسند صحيح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُذِنَ لِيْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ قَدْ مَرَقَتْ رِجْلاهُ الأَرْضَ السَّابِعَةَ، وَالْعَرْشُ عَلَىْ مِنْكَبِهِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: سُبْحانَكَ أَيْنَ كُنْتَ، وَأَيْنَ تَكُوْنُ" (¬2). وروى الطبراني في "معجمه"الكبير" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَىْ مَلَكًا لَوْ قِيْلَ لَهُ: الْتَقِمِ السَّماواتِ السَّبع، وَالأَرَضِيْنَ بِلُقْمَةٍ لَفَعَلَ؛ تَسْبِيْحُهُ: سُبْحانَكَ حَيْثُ كُنْتَ" (¬1). وروى أبو الوليد الأزرقي في "تاريخ مكة" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضًا قال: حج آدم عليه السلام وطاف بالبيت سبعا، فلقيته الملائكة عليهم السلام في الطواف، فقالوا: بِرَّ حجك يا آدم، أَمَا إنَّا قد حججنا قبلك هذا البيت بألفي عام، قال: فما كنتم تقولون في الطواف؟ قال: كنا نقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، قال آدم: فزيدوا فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: فزادت الملائكة عليهم السلام فيها ذلك، ثم حج إبراهيم عليه السلام بعد بنائه البيت، فلقيته الملائكة في الطواف، فسلَّموا عليه، فقال لهم إبراهيم: ما كنتم تقولون في طوافكم؟ قالوا: كنا نقول قبل آدم: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فأعلمناه ذلك، فقال آدم عليه السلام: زيدوا فيها: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال إبراهيم عليه السلام: زيدوا فيها: العلي العظيم، ففعلت الملائكة ذلك (¬2). وروى أبو الشيخ في "العظمة" عن وهب قال: حَمَلَةُ العرش اليوم أربعة فإذا كانوا يوم القيامة أيدوا بأربعة آخرين: ¬
- ملك منهم في صورة إنسان يشفع لبني آدم في أرزاقهم. - وملك في صورة نسر يشفع للطير في أرزاقها. - وملك في صورة ثور يشفع للبهائم في أرزاقها. - وملك في صورة أسد يشفع للسباع في أرزاقها. فلما حملوا العرش وقعوا على ركبهم، فلقنوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فاستووا قيامًا على أرجلهم (¬1). وروى الديلمي في "مسند الفردوس" عن صفوان بن سليم، عن أنس بن مالك، عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -وهذا من لطائف الإسناد - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "مَا نَزَلَ مِنَ السَّماءِ مَلَكٌ، وَلا صَعِدَ مِنَ السَّماءِ مَلَكٌ حَتَّىْ يَقُوْلَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ" (¬2). وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن أبي سعيد الخدري، أو عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: (سُبْحانَ اللهِ) قالَ الْمَلَكُ: (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ)، وإذا قالَ: (سُبْحانَ الله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) قالَ الْمَلَكُ: (وَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهم)، وَإِذا قالَ: (سُبْحانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) قالَ الْمَلَكُ: (وَاللهُ أَكْبَرُ)، وإذا قالَ: (سُبْحانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ) قالَ الْمَلَكُ: ¬
(يَرْحَمُكُ اللهُ رَبُّكَ) (¬1) ". وروى الحافظ أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" عن سعد بن سنان قال: أتيت بيت المقدس أريد الصلاة، فدخلت المسجد، فبينما أنا على ذلك إذ سمعت حفيفًا له جناحان قد أقبل -وهو يقول: سبحان الدائم القائم، سبحان الحي القيوم، سبحان الملك القدوس، سبحان رب الملائكة والروح، سبحان الله وبحمده، سبحان العلي الأعلى، سبحانه وتعالى، ثم أقبل حَفيفٌ يتلوه يقول مثل ذلك، ثم أقبل حفيف بعد حفيف يتجاوبون بها حتى امتلأ المسجد، فإذا بعضهم قريب مني، فقال: آدميٌّ؟ قلت: نعم، قال: لا رَوع عليك، هذه الملائكة (¬2). وروى البيهقي عن علي - رضي الله عنه -: أنه قال: الروح ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، في كل وجه، سبعون ألف لسان، في كل لسان سبعون ألف لغة، يسبح الله تعالى بتلك اللغات (¬3). وقال الله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13]. وروى ابن المنذر في "تفسيره"، وأبو الشيخ في "العظمة" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: الرعد ملك يسوق السحاب بالتسبيح ¬
كما يسوق الحادي الإبل بحُدائه (¬1). ورويا عن الضحاك قال: الرعد ملك يسمى الرعد، وصوته الذي تسمع تسبيحه (¬2). وروى أبو الشيخ -أيضًا - عن ابن عباس قال: الرعد ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير (¬3). وروى البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كنا مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في سفر، فأصابنا رعد وبرق، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: (سبحان من يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته) ثلاثًا، عوفي مما يكون في ذلك. قال ابن عباس: فقلنا، فعوفينا. ثم أدركت عمر في بعض الطريق، فإذا بردة قد أصابت أنفه، فأثرت فيه، فذكرت له قول كعب، فقال عمر: هلا أعلمتمونا حتى كنا نقول (¬4). وروى الإِمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في "الأم" عن طاوس: ¬
أنه كان يقول إذا سمع الرعد: سبحان من سَبَّحْتَ (¬1). قال الشافعي: كأنه (¬2) يذهب إلى قوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد: 13]. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الذكر" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال أُبي بن كعب - رضي الله عنه -: لأدخلن المسجد فلأصلين، ولأحمدن الله بمحامد لم يحمده بها أحد، فلما صلى، وجلس ليحمد الله، ويثني عليه، فإذا هو بصوت عال من خلفه يقول: اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله -علانيته وسره- لك الحمد، إنك على كل شيء قدير، اغفر لي ما مضى من ذنوبي، واعصمني فيما بقي من عمري، وارزقني أعمالًا زاكية ترضى بها عني، وتب عليَّ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقصَّ عليه، قال: "ذَلِكَ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ" (¬3). وروى محمَّد بن نصر المروزي في كتاب "الصلاة"، وابن أبي الدنيا في كتاب "الهواتف" عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: أنه أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: بينما أنا أصلي إذ سمعت متكلمًا يقول: اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر ¬
فائدة
كله -علانيته وسره- أهلٌ أن تحمد، إنك على كل شيء قدير (¬1). ولفظ ابن أبي الدنيا: أهلُ الحمد، أنت على كل شيء قدير، اللهم اغفر لي جميع ما مضى من ذنوبي، واعصمني فيما بقي من عمري، وارزقني عملًا صالحًا ترضى به عني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ذَاكَ مَلكٌ أَتاكَ يُعَلِّمُكَ تَحْمِيْدَ رَبِّكَ". وروى محمَّد بن نصر -أيضًا - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: بينما أنا أصلي إذ سمعت متكلماً يقول: اللهم لك الحمد كله، فذكر الحديث بنحوه. * فَائِدَةٌ: روى ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الْحُوْرُ الْعِيْنُ خُلِقْنَ مِنْ تَسْبِيْحِ الْمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ" (¬2). وروى الطبراني في "المعجم الكبير" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُلِقَت الْحُوْرُ الْعِيْنُ مِنَ الزَّعْفَرانِ" (¬3). ¬
وروى ابن مردويه، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحُوْرُ الْعِيْنُ خُلِقْنَ مِنَ الزَّعْفَرانِ" (¬1). قلت: ولا تنافي بين الحديثين، فقد يكون من الحور العين من خلق من تسبيح الملائكة عليهم السلام، ومنهن من خلق من الزعفران، كما روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ غَدَاةٍ مِنْ غَدْواتِ الْجَنَّةِ إِلاَّ أَنَّهُ يُزَفُّ إِلَى وَلِيِّ اللهِ فِيْها زَوْجَة مِنَ الْحُوْرِ الْعِيْنِ؛ أَدْناهُنَّ التِيْ خُلِقَتْ مِنَ الزَّعْفَرانِ" (¬2). أو يكون الزعفران خلق من تسبيح الملائكة، ثم خلقت منه الحور العين. أو يكون جواهر الحور، وأجسادهن مخلوقة من الزعفران، ثم يَحْيَيْنَ من تسبيح الملائكة ليكون تسبيحهم كاللقح للزعفران. وروى الإِمام عبد الله بن المبارك عن زيد بن أسلم قال: إن الله تعالى لم يخلق الحور العين من تراب، إنما خلقهن من مسك وكافور وزعفران، وأنتم تطمعون أن تعانقوا هؤلاء ولا تطيعون الله فيما أمركم (¬3). ¬
11 - محبة مجالس الذكر، وإقبالهم عليها، وحنينهم إليها، وحفهم بها، ومساعدتهم لأهلها في الذكر، وتكثير سوادهم
وروى ابن أبي حاتم عن مالك بن دينار -كأنه عن بعض الكتب- قال: جنات النعيم بين جنان الفردوس، وبين جنان عدن، وفيها جَوارٍ خُلِقن من ورد الجنة، قيل: ومن يسكنها؟ قال: الذين همُّوا بالمعاصي فلمَّا ذكروا عظمتي راقبوني، والذين انثنت أصلابهم من خشيتي (¬1). ويجمع بين هذا وبين حديث أبي أمامة وأنس: بأن جمهور الحور خلقن من الزعفران، ومنهن من خلقن من مسك، أو كافور، أو ورد، فاقتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذكر الغالب. - ومن أخلاق الملائكة عليهم السلام: 11 - محبة مجالس الذكر، وإقبالهم عليها، وحنينهم إليها، وحفهم بها، ومساعدتهم لأهلها في الذكر، وتكثير سوادهم. روى مسلم، والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما: أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُوْنَ الله تَعَالَىْ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَغَشِيتهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِيْنَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيْمَنْ عِنْدَه" (¬2). وروى الشيخان، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِيْنَ فِيْ الأَرْضِ فُضُلاً (¬3) ¬
عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ، يَطُوْفُوْنَ فِيْ الطُّرُقِ يَلْتَمِسُوْنَ أَهْلَ الذّكْرِ، فَإِذا وَجَدُوْا قَوْمًا يَذْكُرُوْنَ الله تَعَالَىْ تَنادَوْا: هَلُمُّوْا إِلَىْ حاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّوْنَ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَىْ السَّماءِ الدُّنْيا، فَيَسْألهُمْ ربهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ-: ما يَقُوْلُ عِبادِيْ؟ فَيقُوْلُوْنَ: يُسَبحُوْنَكَ، وُيكَبروْنَكَ، وَيَحْمَدُوْنَكَ، وُيمَجِّدُوْنَكَ، فَيَقُوْلُ: هَلْ رَأَوْنيْ؟ فَيَقُوْلُوْنَ: لا -وَاللهِ- ما رَأَوْكَ، فَيَقُوْلُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنيْ؟ فَيقُوْلُوْنَ: لَوْ رَأَوْكَ كانُوْا أَشَدَّ لَكَ عِبَادةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيْداً، وَأكثَرَ لَكَ تَسْبِيْحاً، فَيَقُوْلُ: فَمَا يَسْألوْنيْ؟ فَيقوْلُوْنَ: يَسْألوْنَكَ الْجَنَّةَ، فَيَقُوْلُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيقُوْلُوْنَ: لا -وَاللهِ يا رَبِّ- ما رَأَوْها، فَيَقُوْلُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنهمْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُوْلُوْنَ: لَوْ أَنهمْ رَأَوْها كانُوْا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَها طَلَباً، وَأَعْظَمَ فِيْها رَغْبَةً، قالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُوْنَ؟ فَيقُوْلُوْنَ: مِنَ النَّارِ، فَيَقُوْلُ اللهُ تَعَالَىْ: وَهَلْ رَأَوْها؟ فَيقُوْلُوْنَ: لا -وَاللهِ يا رَب- ما رَأَوْها، فَيقوْلُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْها؟ فَيقوْلُوْنَ: لَوْ رَأَوْها كانُوْا أَشَدَّ مِنْها فِراراً، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، فَيقوْلُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَني قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَيَقُوْلُ ملك مِنَ الْمَلائِكَةِ: فِيْهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جاءَ لِحاجَةٍ، فَيَقُوْلُ: هُمُ الْقَوْمُ لا يَشْقَىْ بِهِمْ جَلِيْسُهُمْ" (¬1). وفي رواية مسلم: "إِنَّ للهِ تَبَارَكَ وَتَعالَىْ مَلائِكَةً سَيارَةً فُضُلاً عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ يَبْتَغُوْنَ مَجَالِسَ الذكْرِ، فَإذا وَجَدُوْا مَجْلِسًا فِيْهِ ذِكْرٌ قَعَدُوْا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّىْ يَمْلَؤُوْا ما بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّماءِ، ¬
فَإِذا تَفَرَّقُوْا عَرَجُوْا، وَصَعِدُوْا إِلَىْ السَّماءِ، قالَ: فَيَسْألهُمُ اللهُ -عز وجل، وَهُوَ أَعْلَمُ -: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُوْلُوْنَ: جِئْنا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِيْ الأَرْضِ يُسَبِّحُوْنَكَ، وُيكَبِّرُوْنَكَ، وَيُهَللوْنَكَ، وَيَحْمَدُوْنَكَ، وَيسْألوْنَكَ، قالَ: فَما يَسْألوْنيْ؟ قالُوْا: يَسْألوْنَكَ جَنَّتَكَ، قالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِيْ؟ قالُوْا: لا يا رَبِّ، قالَ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِيْ؟ قالُوْا: وَيسْتَجِيْرُوْنَكَ، قالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيْرُوْننِيْ؟ قالُوْا: مِنْ نارِكَ يا رَبِّ، قالَ: وَهَلْ رَأَوْا نارِيَ؟ قالُوْا: لا يا رَبِّ، قالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نارِيَ؟ قالَ: وَيَسْتَغْفِرُوْنَكَ، قالَ: فَيَقُوْلُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، وَأَعْطَيْتُهُمْ ما سَألوْا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجارُوْا، قالَ: فَيَقُوْلُوْنَ: رَبِّ! فِيْهِمْ فُلان عَبْدٌ خَطَّاءُ، إِنَّما مَرَّ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ، قالَ: فَيقُوْلُ: وَلَهُ قَدْ غَفَرْتُ؛ هُمُ الْقَوْمُ لا يَشْقَىْ بِهِمْ جَلِيْسُهُمْ" (¬1). وروى الطبراني في "معجمه الصغير" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - وهو يُذَكِّرُ أصحابه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا إِنكمُ الْمَلأُ الَّذِيْنَ أَمَرَنيْ اللهُ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِيَ مَعَهُمْ"، ثم تلا هذه الآية: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} إلى قوله: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. "أَمَا إِنَّهُ ما جَلَسَ عِدَّتُكُمْ إِلاَّ جَلَسَ مَعَهُمْ عِدَّتُهُمْ مِنَ الْمَلائِكَةِ؛ إِنْ سَبَّحُوْا الله سَبَّحُوْهُ، وَإِنْ حَمِدُوْا الله حَمِدُوْهُ، وإنْ كَبَّرُوْا اللهَ كَبَّرُوْهُ, ثُمَّ يَصْعَدُوْنَ إِلَىْ الرَّبِّ -جَلَّ ثَناؤُهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ- فَيَقُوْلُوْنَ: رَبَّنَا! ¬
عِبادُكَ سَبحُوْكَ فَسَبحْنَا، وَكَبرُوْكَ فَكَبرْنا، وَحَمِدُوْكَ فَحَمِدْنا، فَيَقُوْلُ ربُّنَا: يا مَلائِكَتِيْ! اشْهَدُوْا عَلَيَّ أَنِّيْ قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَيقُوْلُوْنَ: فِيْهِمْ فُلانٌ الْخَطَّاءُ، فَيَقُوْلُ: هُمُ الذِيْنَ لا يَشْقَىْ بِهِمْ جَلِيْسُهُمْ" (¬1). وفي هذا الحديث إشارة لطيفة، وهي أن من أخلاق الملائكة أنهم يتشبهون بالذاكرين إذا رأوهم، ويلائمونهم، فإذا سبحوا سبحوا، وإذا كبروا كبروا، وإذا حمدوا حمدوا. وروى ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقال المنذري: حسن، عن جابر - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يا أيهَا النَّاسُ! إِنَّ لِلَّهِ سَرايا مِنَ الْمَلائِكَةِ تَحُلُّ، وَتَقِفُ عَلَىْ مَجالِسِ الذِّكْرِ فِيْ الأَرْضِ، فَارْتَعُوْا فِيْ رِياضِ الْجَنَّةِ" قالُوْا: وَأَيْنَ رِياضُ الْجَنَّةِ؟ قالَ: "مَجالِسُ الذِّكْرِ، فَاغْدُوْا وَرُوْحُوْا فِيْ ذِكْرِ اللهِ، وَذَكّرُوْهَ أَنْفُسَكُمْ، مَنْ كانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلتهُ عِنْدَ اللهِ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللهِ عِنْدَهُ؛ فَإِنَّ الله يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ حَيْثُ أنزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ" (¬2). ¬
12 - ومنها: شفاعتهم للذاكرين، والترحم لهم، والأخذ بأيديهم، والثناء عليهم، واعتقاد الخير فيهم، والشهادة لهم عند الله، وتبشيرهم بالمغفرة بما هم فيه من الخير، والتأمين على دعائهم
12 - ومنها: شفاعتهم للذاكرين، والترحم لهم، والأخذ بأيديهم، والثناء عليهم، واعتقاد الخير فيهم، والشهادة لهم عند الله، وتبشيرهم بالمغفرة بما هم فيه من الخير، والتأمين على دعائهم. روى ابن أبي شيبة عن سلمان - رضي الله عنه - قال: إذا كان العبد يذكر الله في السراء، ويحمده في الرخاء، فأصابه ضر، فدعا الله تعالى، قالت الملائكة: صوت معروف من امرئ ضعيف، فيشفعون له، وإذا كان العبد لا يذكر الله في السراء، ولا يحمده في الرخاء، فأصابه ضر، قالت الملائكة: صوت منكر (¬1). وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلَّهِ سَيَّارَةً مِنَ الْمَلائِكَةِ إِذا مَرّوْا بِحِلَقِ الذِّكْرِ قالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اقْعُدُوْا، فَإِذا دَعا الْقَوْمُ أَمَّنُوْا عَلَىْ دُعائِهِمْ، فَإِذا صَلّوْا عَلَىْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَلّوْا مَعَهُمْ حَتَّىْ يَفْرُغُوْا، ثُمَّ يَقُوْلُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: طُوْبَىْ لِهَؤُلاءِ يَرْجِعُوْنَ مَغْفُوْراً لَهُمْ" (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن سهل بن حنظلة العبشمي (¬3) - رضي الله عنه - قال: ما اجتمع قوم يذكرون الله إلا ناداهم مناد من السماء: قوموا مغفوراً لكم (¬4). ¬
ورواه الطبراني مرفوعًا، لكن قال: عن سهل بن الحنظلية - وهي أمه كما قال ابن قانع في "معجمه" (¬1) -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسا يَذْكُرُوْنَ اللهَ عز وجل فِيْهِ فَيقُوْمُوْنَ حَتَىْ يُقالَ لَهُمْ: قُوْمُوْا قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكُمْ، وَبُدِّلَتْ سَيئاتُكُمْ حَسَناتٍ" (¬2). وروى الإِمام أحمد بسند حسن، والبزار، والطبراني عن أنس، والبيهقي عن عبد الله بن مُغَفل؟ كلاهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوْا يَذْكُرُوْنَ اللهَ تَعَالَىْ، لا يُرِيْدُوْنَ إلا وَجْهَهُ، إلا نادَاهُمْ مُنادٍ مِنَ السماءِ أَنْ قُوْمُوْا مَغْفُوْراً لَكُمْ قَدْ بُدِّلَتْ سَيئاتُكُمْ حَسَناتٍ" (¬3). وروى البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ لله تَعَالَىْ سَيَّارَةً مِنَ الْمَلائِكَةِ يَطْلُبُوْنَ حِلَقَ الذِّكْرِ، فَإِذا أَتَوْا عَلَيْهِمْ حَفُّوْا بِهِمْ، ثُمَ بَعَثُوْا رائِدهمْ إِلَىْ السماءِ إِلَىْ رَبِّ الْعِزةِ تَبارَكَ وَتَعالَىْ فَيَقُوْلُوْنَ: رَبَّنا! أَتَيْنا عَلَىْ عِبادٍ مِنْ عِبادكَ يُعَظِّمُوْنَ آلاءكَ، وَيتْلُوْنَ كِتابَكَ، وَيُصَلُوْنَ ¬
13 - ومنها: الأمر بذكر الله تعالى، وتسبيحه، وتحميده، وبكل معروف، وقد أمر جبريل نبينا وسائر الأنبياء -عليه م الصلاة والسلام أجمعين - بكل معروف أمره الله تعالى أن يبلغهم إياه
عَلَىْ نبِيِّكَ - صلى الله عليه وسلم -، وَيَسْألوْنَكَ لآخِرَتهِمْ وَدنياهُمْ، فَيقُوْلُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَىْ: غَشُّوْهُمْ رَحْمَتِيْ؛ فَهُمُ الْجُلَساءُ لا يَشْقَىْ بِهِمْ جَلِيْسُهُمْ" (¬1). 13 - ومنها: الأمر بذكر الله تعالى، وتسبيحه، وتحميده، وبكل معروف، وقد أمر جبريل نبينا وسائر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام أجمعين - بكل معروف أمره الله تعالى أن يبلغهم إياه. وروى أبو يعلى، وابن السُّنِّي عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ صَباحٍ يُصْبحُ الْعِبادُ فِيْهِ إِلاَّ صارِخ يَصْرُخُ: أيها الْخَلائِقُ! سَبِّحُوْا الْمَلِكَ الْقُدُّوْسَ" (¬2). وروى أبو الشيخ في "العظمة" عن ابن أبي عمرة رحمه الله تعالى (¬3) قال: حين يقول الملك: سبحوا الملك القدوس، تحرك الطير أجنحتها (¬4). وروى الطبراني في "معجمه الأوسط"، و"الصغير" وسنده جيد، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا يُنادِيْ عِنْدَ كُلِّ ¬
صلاةٍ: يا بَنِيْ آدَمَ! قُوْمُوْا إِلَىْ نِيْرانِكُمُ التِيْ أَوْقَدْتُمُوْها فَأَطْفِئُوْهَا" (¬1). وفي "الكبير" عن ابن مسعود، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُبْعَثُ مُنادٍ عِنْدَ حَضْرَةِ كُلِّ صلاةٍ فَيَقُوْلُ: يا بَنِيْ آدَمَ! قُوْمُوْا فَأَطْفِئُوْا ما أَوْقَدْتُمْ عَلَىْ أَنْفُسِكُمْ، فَيَقُوْمُوْنَ فَيتطَهرُوْنَ، وُيصَلُّوْنَ الظُّهْرَ، فَيُغْفَرُ لَهُمْ ما بَيْنَهُما، فَإذا حَضَرَتِ الْعَصْرُ قِيْلَ ذَلِكَ، فَإِذا حَضَرَتِ الْمَغْرِبُ قِيْلَ ذَلِكَ، فَإِذا حَضَرَتِ الْعَتَمَةُ قِيْلَ ذَلِكَ، فَيَنامُوْنَ؛ فَمُدْلجٌ فِيْ خَيْرٍ، وَمُدْلجٌ فِيْ شَر" (¬2). وروى البزار بسند حسن، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا موسى رضي الله تعالى عنه على سرية في البحر، فبينما هم كذلك قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة إذا هاتف فوقهم يهتف: يا أهل السفينة! قفوا أخبرْكم بقضاءٍ قضاه الله على نفسه، فقال أبو موسى: أخبرنا إن كنت مخبراً، قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يومٍ صائف، سقاه الله يومَ العطش (¬3). ¬
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "الهواتف" عن أبي بُردة، عن أبي موسى، قال: خرجنا غازين في البحر، فبينما نحن نسير بريحٍ طيِّبة إذ سمعنا مناديا ينادي: يا أهل السفينة! قفوا أخبرْكم حتى والى بين سبعة أصوات، قال: فقام أبو موسى على صدر السفينة فقال: من أنت؟ ومن أين أنت؟ ألا ترى أين نحن؟ وهل نستطيع وقوفاً؟ فأجابه الصوت: ألا أخبركم بقضاء قضاه الله عز وجل على نفسه؟ فقال: بلى، قال: إن الله عز وجل قضى على نفسه أنه من عطَّش نفسه لله عز وجل في يوم حار، كان حقًا على الله عز وجل أن يرويَه يوم القيامة. قال: وكان أبو موسى رضي الله تعالى عنه يتوخى اليوم الشديد الحر الذي يكاد الإنسان أن ينسلخ حرًا فيصومه (¬1). وفيه عن عبد الواحد بن الخطَّاب قال: أقبلنا قافلين من بلاد الروم نريد البصرة حتى إذا كنَّا بين الرصافة وحِمْص سمعنا صائحاً يصيح بين تلك الرمال - سمعته الآذان، ولم تره الأعين - يقول: يا مستور! يا محفوظ! اعقل في ستر مَنْ أنتَ، فإن كنت لا تعقل في ستر من أنت فاتق الدُّنيا؛ فإنها حمى الله عز وجل، فإن كنت لا تتقيها فاجعلها شَرَكًا، ثم انظر أين تضع قدميك منها (¬2). وأخبار الهواتف في الأمر بالمعروف كثيرة، وأقرب ما تحمل على ¬
14 - ومنها: قراءة القرآن العظيم، واستماعه، وحضور مجالس تلاوته
أنهم ملائكة عليهم السلام. 14 - ومنها: قراءة القرآن العظيم، واستماعه، وحضور مجالس تلاوته: ولا يخفى أن جبريل عليه السلام قرأ القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقرأه إياه، ومدارسته إياه القرآن في رمضان ثابتة في "الصحيح" من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام، وكان يلقاه جبريل عليه السلام في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فَلَرَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المُرْسَلة (¬1). وروى الإِمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، وغيرهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، قال: "تَشْهَدُهُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلائِكَةُ النَّهارِ تَجْتَمعُ فِيْها" (¬2). أي: في صلاة الفجر. وروى الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: أن ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية، قال: "يَشْهَدُهُ اللهُ، وَمَلائِكَةُ اللَّيْلِ، وَمَلائِكَةُ النَّهارِ" (¬1). وروى مسلم، وأبو داود، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما اجْتَمَعَ قَوْم فِيْ بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوْتِ يَتْلُوْنَ كِتابَ اللهِ، وَيتدَارَسُوْنهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِيْنَةُ، وَغَشِيتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيْمَنْ عِنْدَه" (¬2). وروى الإِمام عبد الله بن المبارك في كتاب "الزهد والرقائق" عنه (¬3) قال: البيت الذي يتلى فيه كتاب الله أكثر خيره، وحضرته الملائكة، وخرجت منه الشياطين، وإن البيت الذي لم يتل فيه كتاب الله ضاق بأهله، وقلَّ خيره، وحضرته الشياطين، وخرجت منه الملائكة (¬4). وروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أن أُسيد بن حُضير بينما هو في ليلة يقرأ في مِرْبده إذ جَالَت فرسُه، فقرأ، ثم جالت أخرى، فقرأ، ثم جالت أيضًا، قال أسيد - رضي الله عنه -: فخشيت أن تطأ يحيى؛ يعني: ولده، قال: فقمت إليها، فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، قال: فغدوت على ¬
تنبيه
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله! بينما أنا البارحة في جوف الليل أقرأ في مربدي ... الحديث. فذكر له الحديث، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تِلْكَ الْمَلائِكَةُ تَسْتَمعُ لَكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يراهَا النَاسُ ما تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ" (¬1). وروى الحاكم نحوه باختصار، وقال فيه: فالتفت فإذا أمثال المصابيح مدلاة بين السماء والأرض، فقال: يا رسول الله! ما استطعت أن أمضي، فقال: "تِلْكَ الْمَلائِكَةُ نزَلَتْ لِقِراءَةِ الْقُرْآنِ، أَمَا إِنَكَ لَوْ مَضَيْتَ لَرَأَيْتَ الْعَجائِبَ". قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" (¬2). * تنبِيْهٌ: لا مناقضة بين ما ذكرناه، ويين ما ذكره ابنُ الصلاح: أن قراءة القرآن خصيصة أوتيها البشر دون الملائكة، وأنهم حريصون على سماعه من الإنس (¬3)؛ لأن هذا في عامة الملائكة دون جبريل، ونحوه من خواص الملائكة عليهم السلام، كإسرافيل، كما سيأتي. وإذا ثبت أن جبريل عليه السلام كان يقرأ القرآن، ويدارسه، فقد ثبت أن ذلك من أخلاق الملائكة، بل من أخلاق خواصهم. ¬
فائدة جليلة
على أنه روى أبو عبيد القاسم بن سلام أن عمر رضي الله تعالى عنه سقط عليه رجل من المهاجرين وعمر يتهجد من الليل، يقرأ بفاتحة الكتاب لا يزيد عليها، ويكبر، ويسبح، ثم يركع، وسجد، فلما أصبح الرجل ذكر ذلك لعمر رضي الله تعالى عنه فقال عمر: لأمك الويل! أليست تلك صلاة الملائكة؟ (¬1). لكن أفاد السيوطي أن الملائكة عليهم السلام إنما أذن لهم في قراءة الفاتحة فقط (¬2). وكأنه أخذه من أثر عمر هذا من قوله: أليست تلك -أي: الصلاة بقراءة الفاتحة فقط- صلاة الملائكة عليهم السلام؟ * فَائِدَةٌ جَلِيْلَةٌ: المستمع لقراءة القرآن العظيم - مع كونه في ذلك متشبهاً بالملائكة والنَّبيين والصالحين - فإنه متخلق بخلق من أخلاق الله تعالى (¬3)، خصوصًا إذا كان القارئ حسن الصوت، حسن التأدية؛ لأن سماع القرآن من أخلاقه المقدسة؛ بدليل ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ كَمَا أَذِنَ لِنَبِي حَسَنِ الصَّوْتِ ¬
15 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام وأخلاقهم
يَتَغَنَّىْ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ". لفظ مسلم (¬1). قال المنذري: أذن -بكسر الذال -؛ أي: ما استمع الله؛ أي: لشيء من كلام النَّاس، كما استمع من يتغنى بالقرآن؛ أي: يحسن به صوته. قال: وذهب سفيان بن عيينة، وغيره إلى أنه من الاستغناء. وهو مردود؛ أي: لأن التغني بمعنى الاستغناء لا يعرف من كلام العرب. قال: وروى ابن جرير هذا الحديث بإسناد صحيح، وقال فيه: "مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ ما أَذِنَ لِنَبِي حَسَنِ التَرَنمِ بِالْقُرْآنِ" (¬2). قال: وروى الإِمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، والبيهقي عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "للهُ أشَدُّ أَذَناً لِلرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صاحِب الْقَيْنَةِ إِلَىْ قَيْنَتِهِ" (¬3). قال الحاكم: "صحيح على شرطهما" (¬4). 15 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام وأخلاقهم: تعليم القرآن، وقد علمه جبريل عليه السلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
16 - ومنها: قيام الليل، وإيقاظ المتهجدين
وقال الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5]. وفي "الفردوس" للديلمي، وأسنده أبو الحسن بن بشران في "فوائده"، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ ماتَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَظْهِرَهُ، أَتاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ يُعَلِّمُهُ فِيْ قَبْرِهِ، وَيَلْقَىْ الله وَقَدِ اسْتَظْهَرَهُ" (¬1). وقال الحسن البصري رحمه الله: بلغني أن المؤمن إذا مات ولم يحفظ القرآن، أمر حفظته أن يعلموه القرآن في قبره حتى يبعثه الله يوم القيامة مع أهله. وقال يزيد الرَّقاشي رحمه الله تعالى: بلغني أن المؤمن إذا مات وقد بقي عليه من القرآن شيء لم يتعلمه، بعث الله ملائكة يحفظونه ما بقي عليه منه حتى يبعث من قبره. رواهما ابن أبي الدنيا. 16 - ومنها: قيام الليل، وإيقاظ المتهجدين. واعلم أن ما وصف الله تعالى به ملائكته من المداومة على العبادة، وعدم الفتور عنها كقوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا ¬
يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] دليل واضح على أنهم لا ينامون. وأيضًا فإن النوم فتور مستولٍ على الدماغ حتى يغمره بسبب الأبخرة المتصاعدة إليه من الأغذية، وذلك مفقود في الملائكة عليهم السلام. وقد تقدم حديث مدارسته جبريل عليه السلام القرآن في كل ليلة من رمضان. وروى البزار عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى مِنْكُمْ بِاللَّيْلِ فَلْيَجْهَرْ بِقِراءَتِهِ؛ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تُصَلِّيْ بِصَلاتِهِ، وَتَسْتَمعُ لِقِراءَتِهِ، وَإِنَّ مُؤْمِنِيْ الْجِنِّ الَّذِيْنَ يَكُوْنُوْنَ فِيْ الْهَواءِ، وَجيرانه فِيْ مَسْكَنِهِ يُصَلُوْنَ بِصلاِتهِ، وَيسمَعُوْنَ قِراءَتَهُ، وإنَّهُ يَطْرُدُ بِقِراءَتِهِ عَنْ دارِه، وَعَنْ الدُّوْرِ الَّتِيْ حَوْلَهُ فُسَّاقَ الْجِنِّ وَمَرَدَةَ الشَّياطِيْنِ"، الحديث (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "قيام الليل" عن كُرز - رضي الله عنه - قال: بلغني أن الملائكة ينظرون من السماء إلى الذين يصلون بالليل كما تنظرون أنتم إلى نجوم السماء (¬2). ¬
وروى فيه عن رجل -وسماه في "الهواتف" بأسعد من أهل الإسكندرية- قال: كنت أبيت في مسجد بيت المقدس، وقلَّ ما يخلو من المتهجدين، فقمت ليلة فلم أرَ متهجداً، فقلت: ما حال النَّاس لا أرى أحدًا يصلي؟ فوالله إني لأذكر ذلك في نفسي إذ سمعت قائلًا من نحو القبة التي على الصخرة يقول: [من الطويل] فَيا عَجَباً لِلنَّاسِ لَذَّتْ عُيُوْنهمْ ... مَطاعِمُ غَمْضٍ دُوْنَها الْمَوْتُ مُنْتَصِبْ وَطُوْلُ قِيامِ اللَّيْلِ أَيْسَرُ مُؤْنةً ... وَأَهْوَنُ مِنْ نارٍ تَفُوْرُ وَتَلْتَهِب قال: فسقطت على وجهي، فلمَّا أفقت فإذا لم يبقَ متهجد إلَّا قام (¬1). وروى ابن أبي الدنيا -أيضًا - في كتاب "الزهد" عن أُويس القَرني رحمه الله تعالى: أنه قال: لأعبدنَّ الله في الأرض كما تعبده الملائكة في السماء. وكان إذا استقبل الليل قال: يا نفسُ! الليلةَ للقيام، فيصفّ قدميه حتى يصبح، ثم يستقبل الليلة الثانية، فيقول: يا نفسُ! الليلةَ للركوع، ¬
17 - ومنها: شهود جماعات المؤمنين في صلواتهم، وخصوصا في صلاة الفجر، وصلاة العصر
فلا يزال راكعًا حتى يصبح، ثم يستقبل الليلة الثالثة قال: يا نفسُ! الليلةَ للسجود، فلا يزال ساجداً حتى يصبح (¬1). 17 - ومنها: شهود جماعات المؤمنين في صلواتهم، وخصوصاً في صلاة الفجر، وصلاة العصر. روى الإِمام مالك في "الموطأ"، والستة إلَّا الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا قالَ الإمامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُوْلُوْا: آمِيْنَ؟ فَإِنَّهُ مَنْ وافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ" (¬2). فهذا الحديث يشير إلى أنهم يشهدون الجماعة في كل صلاة. وروى الشيخان عن أبي هريرة -أيضًا - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَتَعاقَبُوْنَ فِيْكُمْ مَلائِكَةٌ بِالليْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهارِ، وَيجْتَمِعُوْنَ فِيْ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الذِيْنَ باتُوْا فِيْكُمْ، فَيَسْألهُمْ ربهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ -: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبادِي؟ فَيقُوْلُوْنَ: تَرَكْناهُمْ وَهُمْ يُصَلُّوْنَ" (¬3). وسبق عنه ما حسنه الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، قال: "تَشْهَدُهُ مَلائِكَةُ ¬
فائدة
اللَّيْلِ، وَمَلائِكَةُ النَّهارِ تَجْتَمعُ فِيْها" (¬1). وفي "الصحيحين" عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَجْتَمعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلائِكَةُ النَّهارِ فِيْ صَلاةِ الْفَجْرِ". يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] (¬2). * فَائِدَةٌ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مَلائِكَةَ النَّهارِ أَرْأَفُ مِنْ مَلائِكَةِ اللَّيْلِ". رواه ابن النَّجار في "تاريخه" عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬3). قلت: وهذا من منَّة الله تعالى على عباده، ولطفه بهم أن جعل ملائكة النهار أرأف من ملائكة الليل؛ لأن حركات بني آدم بالنهار أكثر منها بالليل، وكثيراً ما تهدأ حركاتهم بالليل، ولا تكاد تهدأ بالنهار، فيقارفون بسبب ذلك في النهار ما لا يقارفونه بالليل من المعاصي، والذنوب، فكانت ملائكة النهار أرأف ليُكثروا من الاستغفار للعباد، والترحم عليهم، ولو كان الغضب لله تعالى أغلب عليهم من الرأفة بعباده لهلك الخلق بدعائهم. - وأيضًا فإن منهم الحفظة، فالحفظة بالنهار - حيث هم أرأف منهم ¬
18 - ومنها: التصدق على المصلي منفردا بالصلاة خلفه
بالليل - تأنوا في كتابة السيئات، وبادروا إلى تقييد الحسنات. وقد استفيد من ذلك: أن من أخلاق الملائكة التي ينبغي للعبد أن يتشبه بهم فيها الرأفة على عباد الله، والرحمة عليهم، والغضب لله تعالى لا لأنفسهم. 18 - ومنها: التصدق على المصلي منفردًا بالصلاة خلفه: روى عبد الرزاق عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: إذا كان الرجل بخلاء من الأرض فأذن، وأقام، صلى معه أربعة آلاف ملك، أو أربعة آلاف ألف من الملائكة (¬1). وعن طاوس قال: إذا صلى الرجل فأقام، صلى معه مَلَكَاهُ، وإذا أذَّن وأقام، صلى معه من الملائكة كثير (¬2). وعن مكحول، وسعيد بن المسيب نحوُه (¬3). وعن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كانَ الرَّجُلُ بِأَرْضٍ قِيٍّ (¬4) فَحانَتِ الصَّلاةُ، فَلْيتوَضَّأ، فَإِنْ أَقامَ صَلَّىْ مَعَهُ مَلَكَاهُ، فَإِنْ أَذَّنَ، وَأَقامَ صَلَّىْ خَلْفَهُ مِنْ جُنُوْدِ الله ما لا يَرىْ طَرْفاه". وأخرجه ابن ¬
19 - ومنها: الإمامة
أبي شيبة موقوفًا" (¬1). 19 - ومنها: الإمامة: روى أبو الشيخ، عن الليث، عن خالد، عن سعيد قال: بلغنا أن إسرافيل عليه السلام مؤذن أهل السماء، فيؤذن لاثنتي عشرة ساعة من النهار، ولاثنتي عشرة ساعة من الليل، لكل ساعة تأذين، يسمع تأذينه من في السموات السبع، ومن في الأرضين السبع إلا الجن والإنس، ثم يتقدم عظيم الملائكة، فيصلي بهم. قال: وبلغنا أن ميكائيل يؤم الملائكة في البيت المعمور (¬2). وروى أبو الشيخ -أيضًا - عن موسى بن أبي عائشة قال: بلغني أن جبريل -عليه السلام - إمام أهل السماء (¬3). قلت: ويجمع بين هنا وبين ما قبله: أن جبريل عليه السلام إمام الملائكة في السماء، وميكائيل إمامهم في الأرض. والمراد بالبيت المعمور: الكعبة. أو ميكائيل إمام ملائكة مخصوصين بالبيت المعمور، وجبريل ¬
إمام عامة من في السماء. روى ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور: 4] قال: هو بيت حِذَاءَ العرش تعمره الملائكة، يصلي فيه كل ليلة سبعون ألفا، ثم لا يعودون إليه (¬1). وروى هو، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "الشعب"، وغيرهم عن خالد بن عرعرة: أن رجلًا قال لعلي رضي الله تعالى عنه: ما البيت المعمور؟ قال: بيت في السماء يقال له: الضراح، وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة لا يعودون إليه أبدًا (¬2). وفي الباب عن أنس، وعن أبي هريرة، وعن عائشة مرفوعًا، وعن عبد الله بن عمرو موقوفًا (¬3). ويجوز أن يكون معنى قول ابن أبي عائشة: إن جبريل إمام أهل السماء أي: خليفة الله عليهم، وواليهم كالخليفة في الأرض، فهو أمير ¬
20 - ومنها: القيام عن يمين الإمام
الملائكة، كما أن الخليفة والسلطان أمير المؤمنين. 20 - ومنها: القيام عن يمين الإِمام، وهو سنة - خصوصاً إذا كان إمام ومأموم فقط - فإذا كانوا ثلاثة استحب أن يقوم المأمومان منهم خلف الإِمام، فإن كانوا أكثر من ذلك فالميمنة أفضل إلا أن تتعطل الميسرة. وقد يستدل لذلك بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَىْ الصَّلاةِ فَلا يَبْزُقْ أَمامَهُ؛ فَإِنَّما يُنَاجِيْ الله ما دامَ فِيْ مُصَلاَّهُ، وَلا عَنْ يَمِيْنِهِ؛ فَإِنَّ عَنْ يَمِيْنِهِ مَلَكًا، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَساره، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَيَدْفِنَهَا". رواه البخاري (¬1). وقوله: "فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَساره" محله في غير المسجد، فإن بَصَقَ في المسجد حرم عليه، وعليه أن يدفنه كما قال النووي في "شرح المهذب" (¬2). 21 - ومنها: الدعاء، والسؤال في الصلاة وخارج الصلاة: قال الله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29]. قال أبو صالح: يسأله من في السماوات الرحمة، ومن في الأرض المغفرة والرزق (¬3). ¬
وقال ابن جريج في الآية: الملائكة يسألونه الرزق لأهل الأرض، والأرض يسأله أهلها الرزق لهم (¬1). رواهما ابن المنذر. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الذكر" عن ابن أبي رواد (¬2) قال: من دعاء الملائكة عليهم السلام: اللهم ما لم تبلغه قلوبنا من خشيتك يوم نقمتك من أعدائك فاغفره لنا (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال: كانوا إذا رأى أحدهم في منامه ما يكره قال: أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسولُهُ من شر ما رأيت في منامي أن يصيبني شيء أكرهه في الدنيا والآخرة (¬4). وسبق في حديث أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قول جبريل عليه السلام في دعائه: اغفر لي ما مضى من ذنوبي، واعصمني في ما بقي من عمري، وارزقني أعمالًا زاكية ترضى بها عني، وتب علي (¬5). وروى ابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬
22 - ومنها: قول: آمين إذا قال الإمام: {ولا الضالين}
"إِذا دَخَلْتَ عَلَىْ مَرِيْضٍ فَمُرْهُ يَدْعوْ لَكَ؛ فَإِنَّ دُعاءَهُ كَدُعاءِ الْمَلائِكَة" (¬1). 22 - ومنها: قول: آمين إذا قال الإِمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] لحديث أبي هريرة المتقدم، بل لا خصوصية لذلك بالصلاة، بل جائز أن تؤمِّن الملائكة عليهم السلام على كل دعاء يدعو به المؤمِّنون في خير. وقد روى النسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "إِذا أَمَّنَ الْقارِئُ فَأَمِّنُوْا؛ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تُؤَمّنُ، فَمَنْ وافَقَ تأمِيْنَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدمَ مِنْ ذَنْبِه" (¬2). القارئ أعم من أن يكون مصلياً، أو غير مصل. وروى مسلم، وأبو داود عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ دَعا لأَخِيْهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قالَ الْمَلَكُ: آمِيْنَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ" (¬3). وروى مسلم عن صفوان بن عبد الله بن صفوان - وكانت تحته الدرداء؛ يعني: بنت أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه - قال: قدمت الشام، فأتيت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه في منزله، فلم أجده، ووجدت أم ¬
الدرداء رضي الله تعالى عنها فقالت: أتريد الحج العام؟ فقلت: نعم، قالت: فأدعو لنا بخير؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "دعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأَخِيْهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَلٌ كُلما دَعا لأَخِيْهِ بِخَيْرٍ قالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَلُ بِهِ: آمِيْنَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ"، قال: فخرجت إلى السوق، فلقيت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه فقال لي مثل ذلك، يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس موقوفًا عليه، والخطيب البغدادي عنه مرفوعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالأَرْضَ، فَإِذا مَرَرْتُمْ بِهِ فَقُوْلُوْا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201]؛ فَإنَّهُ يَقُوْلُ: آمِيْنَ، آمِيْنَ" (¬2). وروى الأزرقي في "تاريخه" عن مجاهد: أنه كان يقول: ملك موكل بالركن اليماني منذ خلق الله السماوات والأرض يقول: آمين، فقولوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] الآية (¬3). ¬
تنبيه
وفيه عن سالم بن عبد الله، عن أبيه أنه قال: على الركن اليماني ملكان موكلان يُؤَمِّنَانِ على دعاء من يمر بهما، وإن على الأسود ما لا يحصى (¬1). يعني: من الملائكة الْمُؤَمّنِيْنَ. وروى ابن ماجه عن عطاء بن أبي رباح: أنه سئل عن الركن اليماني وهو في الطواف قال: حدثني أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وُكِّلَ بِهِ سَبْعُوْنَ مَلَكاً، فَمَنْ قالَ: اللهُمَّ إِنَي أَسْألكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِيْ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، رَبَّنا آتِنا فِيْ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِيْ الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ، قالُوْا: آمِيْنَ" (¬2). وروى الدارمي عن حُميد الأعرج قال: من قرأ القرآن ثم دعا أَمَّنَ على دعائه أربعة آلاف ملك (¬3). * تنبِيْهٌ: كما تؤمن الملائكة على دعاء الإنسان بالخير فتؤمن على دعائه بالشر، ولعل هذا فيما لو دعا على نفسه أو ماله أو أهله ونحو ذلك. ومن ثَمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَدْعُوْا عَلَىْ أنفُسِكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ؛ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ يُؤَمّنُوْنَ عَلَىْ ما تَقُوْلُوْا". رواه الإِمام أحمد، ومسلم، وأبو داود ¬
فائدة لطيفة
عن أم سلمة -رضي الله عنها (¬1). * فَائِدَة لَطِيْفَةٌ: التشبه بالملائكة في قول: آمين خاص بهذه الأمة لم يتفق لأحد قبلهم إلا لهارون عليه السلام. روى ابن (¬2) عدي في "الكامل"، والبيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ تَعَالَىْ أَعْطانِيْ ثلاثَ خِصَالٍ لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلِيْ" (¬3). ورواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، ولفظه: "إِنَّ اللهَ أَعْطَىْ أُمَّتِيْ ثَلاثًا؛ الصَّلاةَ فِيْ صُفُوْفٍ، وَالتَّحِيةِ مِنْ تَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَآمِيْنَ؛ إلا أَنَّهُ أَعْطَىْ مُوْسَىْ أَنْ يَدْعُوَ، وُيؤَمّنَ هارُوْنُ عَلَيْهِمَا السَّلامُ" (¬4). وروى الإِمام أحمد، والبخاري في "تاريخه"، وابن ماجه - في سنة ست وخمسين - عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬
23 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام قول: (ربنا ولك الحمد) إذا قال الإمام: (سمع الله لمن حمده)
"ما حَسَدَتْكُمُ الْيَهُوْدُ عَلَىْ شَيْءٍ ما حَسَدَتْكُمْ عَلَىْ السَّلامِ وَالتَّأمِيْنِ" (¬1). وروى ابن ماجه عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما حَسَدَتْكُمُ الْيَهُوْدُ عَلَىْ شَيْءٍ ما حَسَدَتْكُمْ عَلَىْ آمِيْنَ، فَأَكْثِرُوْا مِنْ قَوْلِ: آمِيْنَ" (¬2). 23 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام قول: (ربنا ولك الحمد) إذا قال الإِمام: (سمع الله لمن حمده). روى الإِمام مالك، والستة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا قالَ الإِمامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُوْلُوْا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ - وفي رواية للشيخين: اللهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، بزيادة الواو -؛ فَإِنَّ مَنْ وافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬3). قلت: مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه: أن المصلي يقول إذا رفع رأسه من الركوع: سمع الله لمن حمده، فإذا استوى قائما قال: ربنا ولك الحمد، ويستحب الإتيان بهذين الذكرين في محليهما للإمام والمأموم والمنفرد. ¬
وبذلك قال عطاء، وأبو بردة، وابن سيرين، وإسحاق، وداود (¬1). وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يقول الإِمام، والمنفرد: سمع الله لمن حمده فقط، ويقول المأموم: ربنا لك الحمد فقط. وحكاه ابن المنذر عن ابن مسعود، وأبي هريرة، والشعبي، ومالك، وأحمد. قال: وبه أقول. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد: يجمع الإِمام بين الذكرين، ويقتصر المأموم على: ربنا ولك الحمد (¬2). واحتجَّ القائلون بأن المأموم يقتصر على ذلك بأحاديث منها حديث أبي هريرة المتقدم. واحتجَّ الشافعي، والأولون بما ثبت من قوله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته: "سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" (¬3)، مع ما ثبت من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلُّوْا كَمَا رَأَيْتُمُوْنيْ أُصَلِّيْ" (¬4). فإن قلتَ: فإن عَمِل المأموم بقول الشافعي رضي الله تعالى عنه، وقال: سمع الله لمن حمده، فاتته موافقة الملائكة، والتشبه بهم في ¬
24 - ومنها: إتمام الصف الأول في الصلاة، والتراص في الصف، وإقامة الصفوف؛ أي: تسويتها، وجمع المناكب
ذلك، كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه المتقدم؟ قلتُ: لئن فاتته موافقة الملائكة، والتشبه بهم في ذلك فقد حصل على فضل الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والتشبه به حيث يقول: "صَلّوْا كَمَا رَأَيْتُمُونِيْ أُصَلِّيْ" (¬1). على أننا لا نسلم أن موافقة الملائكة تفوته بذلك؛ إذ من الجائز أن يكون الملائكة يجمعون بين الذكرين، فيوافقهم. 24 - ومنها: إتمام الصف الأول في الصلاة، والتراصُّ في الصف، وإقامة الصفوف؛ أي: تسويتها، وجمع المناكب. قال الله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات: 1]. روى ابن جرير عن ابن مسعود، وعن مسروق، وعن السّدِّي (¬2)، وابن المنذر عن ابن عباس (¬3)، وابن أبي حاتم عن السدي، وعن الربيع ابن أنس، وعن قتادة (¬4): أنهن الملائكة عليهم السلام. وقال الله تعالى حكايته عن الملائكة، كما يدل عليه ما تقدم: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 165]. وروى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، ومسلم، والأربعة إلا الترمذي ¬
عن جابر بن سَمُرة رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أَلا تَصُفُّوْنَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلائِكَةُ عِنْدَ رَبها؟ " فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: "يتمُّوْنَ الصَّفَّ الأَوَّلَ، وَيتَراصُّوْنَ فِيْ الصَّفِّ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صُفُّوْا كَما تَصُفُّ الْمَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ"، قالوا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: "يُقِيْمُوْنَ الصُّفُوْفَ، وَيجْمَعُوْنَ مَناكِبَهُمْ" (¬2). وروى ابن أُبي شيبة عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الصَّفَّ الأَوَّلَ لَعَلَىْ مِثْلِ صَفِّ الْمَلائِكَةِ، وَلَوْ تَعْلَمُوْنَ لابْتَدرْتُمُوْهُ" (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" بسند منقطع، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فُضلْتُ بِأَرْبَعِ؟ جُعِلْتُ أَنا وَأُمَّتِيْ فِيْ الصَّلاةِ كَمَا تَصُفُّ الْمَلائِكَةُ، وَجُعِلَ الصَّعِيْدُ لِيْ وَضُوْءاً، وَجُعِلَتْ لِيَ ¬
25 - ومنها: تكثير سواد المصلين
الأَرْضُ مَسْجِدًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنائِمُ" (¬1). 25 - ومنها: تكثير سواد المصلين؛ فإن ما كثر جمعه أفضل، ومعاونة المصلين في تحصيل ثواب الجماعة - خصوصاً لمن فاتته لعذر فصلى منفردًا -؛ فإن الاقتداء به سنة، وهو من أعمال الملائكة كما سبق. روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد"، وأبو نعيم في "الحلية" عن كعب قال: قال إبراهيم عليه السلام: يا رب! إنه ليحزنني أنني لا أرى أحدًا في الأرض يعبدك غيري، فأنزل الله تعالى ملائكة يصلون معه، ويكونون معه (¬2). وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد"، وأبو نعيم عن نوف البَكَالي قال: قال إبراهيم عليه السلام: يا رب! إنه ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، فأنزل الله تعالى ثلاثة آلاف ملك، فأمَّهم ثلاثة أيام (¬3). وروى البيهقي في "الشعب"، والأصبهاني في "الترغيب" عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ ¬
تنبيهان
رَجُلٍ يَكُوْنُ بِأرْضِ فَلاةٍ تَحْضُرُهُ الصَّلاةُ فَيُؤَذنُ، وُيقِيْمُ الصَّلاةَ، فَيُصَلِّيْ إِلاَّ صَلَّىْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ ما لا يَرَىْ طَرْفاهُ، يَرْكَعُوْنَ بِرُكُوْعِهِ، وَيَسْجُدُوْنَ بِسُجُوْدِهِ، وُيؤَمنُوْنَ عَلَىْ دُعائِهِ" (¬1). * تنبِيْهانِ: الأَوَّلُ: لا تقتدي الملائكة بالمنفرد إلا إذا أذن وأقام، فإن اقتصر على الإقامة لم يُصَلَّ معه سوى ملكيه؛ لما رواه عبد الرزاق عن سعيد بن المسيِّب رحمه الله تعالى قال: من صلى بأرض فلاة فأقام، صلى عن يمينه ملك وعن يساره ملك، فإذا أذن وأقام صلى معه من الملائكة أمثال الجبال (¬2). ورواه الليث، عن ابن المسيب، عن معاذ رضي الله تعالى عنه. وقال الدارقطني في "العلل": إنه الأصح (¬3). وروى عبد الرزاق -أيضًا - حديث سلمان المتقدم بلفظ: "إِذا كانَ الرَّجُلُ بِأرْضِ فَلاةٍ فَحانَتِ الصَّلاةُ فَلْيتوَضَّأ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ماءً فَلْيتَيَمَّمْ، فَإِنْ أَقامَ صَلَّىْ مَعَهُ مَلَكانِ، وَإِنْ أَذَّنَ وَأَقامَ صَلَّىْ خَلْفَهُ مِنْ جُنُوْدِ اللهِ ¬
ما لا يَرَىْ طَرْفاه" (¬1). التَّنْبِيْهُ الثَّانِيْ: لعلك تقول: إن فضيلة الجماعة لا ينالها الإِمام ما لم ينو الإمامة والجماعة -على الأصح - فعليه: لا تحصل فضيلة الجماعة للمنفرد إذا اقتدى به غيره، فأي فائدة له في اقتداء غيره به؟ فالجواب عن ذلك: إن المقتدي بهذا المنفرد إن كان لم يُصَلِّ قبل ذلك، أو صلى منفردًا، فقد حصل فضيلة الجماعة لنفسه باقتدائه بالمنفرد المذكور، وإن كان قد صلى قبل ذلك صلاته في جماعة فقد حصل باقتدائه المذكور فضيلة هذه الصلاة الثانية نفلًا، وفرضه الأولى في الأصح. ثم المنفرد لا يخلو عن فائدة باقتداء هذا المقتدي به إن قلنا بالقول الثاني: (إن فضيلة الجماعة تحصل له وإن لم ينو الإمامة أو الجماعة). ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد جاء بعد العصر رجل إلى المسجد -: "مَنْ يتصَدَّقُ عَلَىْ هَذا فَيُصَلِّ مَعَهُ؟ " فصلى معه رجل. رواه أبو داود، وغيره، وحسنوه (¬2). وإن قلنا بالقول الأول -وهو الأصح -: (إن فضيلة الجماعة لا تحصل له إلا بنية الجماعة) فلا تفوته الفضيلة أيضًا؛ لأنه يمكنه أن ينويَ ¬
بقلبه الجماعة في أثناء صلاته، فينال الفضيلة من حينئذ. وقال القاضي حسين من أصحابنا الشافعية رضي الله تعالى عنهم فيمن صلى منفردًا، فاقتدى به جمع، ولم يعلم بهم: ينال فضيلة الجماعة لأنهم نالوها بسببه، بخلاف ما لو علم بهم؛ فإنه لا ينال الفضيلة ما لم ينوها؛ لأن تركه للنية مع علمه يشعر بإعراضه عن تحصيل الفضيلة (¬1). وعلى هذا القول: ففي مسألة اقتداء الملائكة بالمؤمن إذا صلى في أرض فلاة لا تفوته -إن شاء الله - فضيلة جماعتهم لأنه لا يحس بهم، فإن أحس بهم - بأن كان من أرباب الكشف، وأصحاب الأحوال السَّنِية، وكشف له عن حقائقهم وجواهرهم - فحينئذ ينبغي أن ينوي الجماعة على ما فصَّله القاضي حسين رحمه الله تعالى. ثم على كل حال: فإن المقتدي بالمنفرد مع تشبهه بالملائكة عليهم السلام متسبب لإقامة جماعة من جماعات المسلمين، فلا يخلو لذلك عن ثواب وأجر. وكذلك إن اقتدى بمن يصلي في جماعة إماما لا يخلو من ثواب زائد على فضيلة الجماعة -وهو تكثير سواد المصلين - لأن "من أكثر سواد قوم فهو منهم" (¬2) - كما سبق - مع فضيلة التشبه بالملائكة عليهم السلام في ذلك. ¬
26 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام: ركعتا الفجر.
26 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام: ركعتا الفجر. روى عبد الرزاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: دخل ابن مسعود المسجد قبل صلاة الفجر، فرأى قوما قد أسندوا ظهورهم إلى القبلة، واستقبلوا الناس، فقال: "لا تَحُوْلُوا بين الملائكة وبين صلاتها، فإنها صلاة الملائكة" (¬1). 27 - ومنها: سجود التلاوة، أو سجدة النحل بالخصوص. وقد سبق أنه مندرج في السجود الذي ذكرناه من أعمالهم. قال الله تعالى في سورة النحل: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)} [النحل: 49]. وروى الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - قال: في القرآن خمس عشرة سجدة، والذي نفسي بيده إن الملائكة في السماء لتسجد بالسجدة التي في سورة النحل. بل السجود مطلقًا لعظمة الله تعالى. 28 - ومنها: سجودهم لآدم عليه السلام. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانت السجدة لآدم، والطاعة لله (¬2). ¬
29 - ومنها: صلاة الضحى.
وقال الحسن: كرامة من الله تعالى كرم بها آدم عليه السلام (¬1). رواهما ابن أبي حاتم. وروى ابن عساكر عن أبي إبراهيم المزني صاحب الإِمام الشافعي رحمة الله عليهما: أنه سئل عن سجود الملائكة لآدم، فقال: إن الله تعالى جعل آدم كالكعبة (¬2). وسبق أن ملائكة بعض السماوات سجود أبدًا. وروى ابن المبارك في "الزهد" عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي عيسى -شيخ قديم- أن ملكًا لما استوى الرب سبحانه وتعالى على كرسيه سجد لم يرفع رأسه، ولا يرفع رأسه حتى تقوم الساعة، فيقول يوم القيامة: يا رب! لم أعبدك حق عبادتك، إلَّا أني لم أشرك بك شيئًا، ولم أتخذ من دونك وليًا (¬3). وهذا السجود سجود تعظيم وإجلال، وهو خاص بالله تعالى، بل هذا هو أصل مشروعية السجود، فلذلك لم يجز السجود لغيره كما سبق. 29 - ومنها: صلاة الضحى. روى الديلمي في "مسند الفردوس" عن عبد الله بن زيد رضي الله ¬
30 - ومنها: لزوم المساجد، وعمارتها بالعبادة، والتبكير إليها، والتأخر فيها
تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَأَلْتُ رَبّيَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَىْ أُمَّتِيْ صَلاةَ الضُّحَىْ، فَقالَ: تِلْكَ صَلاةُ الْمَلائِكَةِ، فَمَنْ شاءَ صَلاَّها، وَمَنْ شاءَ تَرَكَها، وَمَنْ صَلاَّها فَلا يُصَلِّها حَتَّىْ تَرْتَفِعَ" (¬1). يعني: الشمس. 30 - ومنها: لزوم المساجد، وعمارتها بالعبادة، والتبكير إليها، والتأخر فيها. قال تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور: 4]؛ سمي معمورًا لأن الملائكة تعمره بالصلاة والتسبيح والتقديس. روى ابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْبَيْتُ الْمَعْمُوْرُ فِيْ السَّماءِ السَّابِعَةِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ لا يَعُوْدُوْنَ إِلَيْهِ حَتَىْ تَقُوْمَ السَّاعَةُ" (¬2). وفي رواية لابن جرير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَمَّا عَرَجَ بِيَ الْمَلَكُ إِلَىْ السَّماءِ السَّابِعَةِ انتهَيْتُ إِلَىْ بِناءٍ، فَقُلْتُ لِلْمَلَكِ: ما هَذا؟ قالَ: هَذا بِناءٌ بَناهُ اللهُ تَعالَىْ لِلْمَلائِكَةِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُوْنَ ألفاً يُقَدِّسُوْنَ الله، وُيسَبِّحُوْنَهُ، لا يَعُوْدُوْنَ فِيْهِ" (¬3). ¬
وروى ابن جرير -أيضًا - عن قتادة قال: ذُكر لنا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومًا لأصحابه: "هَلْ تَدْرُوْنَ ما الْبَيْتُ الْمَعْمُوْرُ؟ ! قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ فِيْ السَّماءِ بحِيالِ الْكَعْبَةِ، لَوْ خَرَّ مِنْهُ حَجَرٌ خَرَّ عَلَيْهَا، يُصَلِّيْ كُل يَوْمِ فِيْهِ سَبْعُوْنَ ألفُ مَلَكِ إِذا خَرَجُوْا مِنْهُ لَمْ يَعُوْدُوْا آخِرَ ما عَلَيْهِمْ" (¬1). وروى الإِمام أحمد، ومسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيْثَةِ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنا؟ فَإِنَ الْمَلائِكَةَ تتَأَذَّىْ مِمَّا تتَأذى مِنْهُ الإِنْسُ" (¬2). وروى البغوي، وابن قانع في "معجميهما" عن شريك بن شرحبيل رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيْثَةِ - يَعْنِيْ: الثُّوْمَ - فَلا يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ؟ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تتَأَذَّىْ مِمَّا يَتَأَذَّىْ مِنْهُ بَنُوْ آدَمَ" (¬3). وهذا يدل على ملازمة الملائكة عليهم السلام المساجد. وروى الإِمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ لِلْمَساجِدِ أَوْتادًا الْمَلائِكَةُ جُلَسَاؤُهُمْ؟ إِنْ غابُوْا ¬
يَفْتَقِدُوْهُمْ، وإنْ مَرِضُوْا عادُوْهُمْ، وإنْ كانُوْا فِيْ حاجَةِ أَعانُوْهُمْ"، ثم قال: جَلِيْسُ الْمسْجِدِ عَلَىْ ثَلاثِ خِصالِ؛ أخٌ مُسْتَفادٌ، أَوْ كَلِمَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ رَحْمَةٌ مُنْتَظَرةٌ (¬1). وفيه إشارة أن من خصال الملائكة عليهم السلام تفقد الإخوان في الله تعالى، والسؤال عنهم إذا غابوا، وعيادتهم إذا مرضوا، وقضاء حوائجهم. وروى الإِمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن ابن أبي جبلة قال: آخر من يخرج من المسجد يخرج معه الملائكة عليهم السلام بلوائهم بين يديه حتى يأتيَ منزله، فيكونون كما هم حتى يخرج إلى المسجد، فينطلقون بلوائهم بين يديه، فهم كذلك مع آخر من يخرج من المسجد، وأول من يدخل (¬2). وروى الطبراني في "المعجم الكبير" -ورواته موثقون - عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه رأى قوماً قد أسندوا ظهورهم إلى القبلة بين أذان الفجر والإقامة، فقال: لا تحولوا بين الملائكة وبين صلاتها (¬3). وتقدم نحوه من رواية عبد الرزاق. ¬
31 - ومنها: التبكير إلى المساجد يوم الجمعة للشهادة للسابقين والمبكرين على اختلاف مراتبهم
31 - ومنها: التبكير إلى المساجد يوم الجمعة للشهادة للسابقين والمبكرين على اختلاف مراتبهم، ولحضور الخطيب، وسماع الخطبة، والإنصات لها، وشهود الصلاة بعدها. روى الشيخان، وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا كانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَىْ بابِ الْمَسْجِدِ يَكْتبوْنَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الذِيْ يُهْدِيْ بَدَنةً، ثُمَّ كَالَّذِيْ يُهْدِيْ بَقَرَة، ثُمَ كَبْشا، ثُمَّ دَجاجَة، ثُمَّ بَيْضَة، فَإذَا خَرَجَ الإِمامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ يَسْتَمِعُوْنَ الذِّكْرَ" (¬1). قال الحافظ زين الدين العراقي رحمه الله تعالى: المراد بالملائكة الذين يحضرون الجمعة، ويكتبون الناس على منازلهم غير الحفظة الموكلين ببني آدم؛ لأن الحفظة يكتبون كل شيء عمله ابن آدم. قال: وهؤلاء الملائكة الذين يكتبون منازل الجائين إلى الجمعة يجتمعون لذلك، كما روي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه (¬2)، وكما قاله أبو بكر بن العربي. ¬
فائدة
* فَائِدَةٌ: الصحف التي تكتب فيها الملائكة أسماء المصلين يوم الجمعة من الفضة، وأقلامهم التي يكتبون بها من الذهب؟ لما رواه الإِمام ابن الإِمام؛ عبد الله بن أحمد بن حنبل في "زوائد الزهد" عن ثابت البُناني رحمه الله تعالى قال: بلغنا أن لله ملائكة معهم ألواح من فضة، وأقلام من ذهب يطوفون، ويكتبون من صلى ليلة الجمعة ويوم الجمعة في جماعة (¬1). وقد قلت في "منظومتي" التي في خصائص يوم الجمعة: [من الرجز] وَتَكْتُبُ الْمَلائِكُ الأَجِلاّ ... مَنْ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ كانَ صَلَّىْ أَوْ يَوْمَها جَمَاعَةً وَالْمُكْتَتَب ... آلواحُ فِضَّةٍ بِأَقْلامِ الذَّهَبْ وَتَكْتُبُ الأَوَّلَ ثُمَّ الأَوَّلاَ ... مِنَ الْمُبَكِّرِيْنَ حَتَّىْ يَدْخُلا إِمامُهُمْ إِلَىْ صَلاةِ الْجُمُعَة ... فَتَحْضرَنَهُ إِذَنْ مُسْتَمِعَةْ ¬
32 - ومنها: كراهية السفر يوم الجمعة.
32 - ومنها: كراهية السفر يوم الجمعة. وهو حرام على المقيم إذا طلع الفجر، إلا أن يخاف فوات الرفقة، أو يكون في طريقه جمعة يدركها (¬1). روى ابن النَّجار في "تاريخه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سافَرَ مِنْ دارِ إِقامَتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَعَتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ: لا يُصْحَبْ فِيْ سَفَرِهِ، وَلا يُعانُ عَلَىْ حاجَتِهِ". 33 - ومنها: تفقد الإخوان الذين كانوا يجتمعون معهم في الصلاة، ومجالس الذكر، وسائر مشاهد الخير، والسؤال عن أحوالهم، وعيادة مرضاهم، ومساعدتهم في حوائجهم. وقد جاء في الأثر، كما ذكره الإِمام أبو طالب المكي في كتاب "القوت": أن الملائكة عليهم السَّلام يفتقدون العبد إذا تأخر عن وقته يوم الجمعة، فيسأل بعضهم بعضا عن ما فعل فلان؟ وما الذي آخره؟ اللهُمَّ إن كان آخره فقر فَأغْنِه، وإن كان آخره مرض فاشفه، وإن كان آخره شغل ففرغه لعبادتك، وإن كان آخره لهوٌ فَأَقْبِلْ بقلبه على طاعتك (¬2). وفي قوله: إذا تأخر عن وقته إشارة إلى أنهم إنما يفتقدون من كان له عادة، ووقتٌ يحضر فيه، لا من لم تكن له عادة بذلك؛ فإنه أبعد الناس ¬
عن موالاة الملائكة لتلبسه بأخلاق المنافقين، كما سيأتي. وقد سبق حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في تفقد الملائكة أوتاد المساجد، وعيادتهم إذا مرضوا، ومعاونتهم في حوائجهم (¬1). وقد أشرت إلى ذلك في "منظومتي" المشار إليها، مشيراً إلى الملائكة عليهم السَّلام بقولي: [من الرجز] وَيتَفَقَّدُوْنَ مَنْ تَأَخَّرا ... عَنْ وَقْتٍ اعْتادَ بِهِ أَنْ يَحْضُرا وَيَتَساءَلُوْنَ عَنْهُ ما فَعَلْ ... وَما الَّذِيْ أَخَّرَهُ مِنَ الْعِلَلْ إِنْ كانَ عَنْ فَقْرٍ فَنَوِّلْهُ الْغِنا ... أَوْ مَرَضٍ فَعَافِهِ يَا رَبَّنَا أَوْ شُغُلٍ ربِّ فَفَرِّغَنْه ... حَتَّى يُطِيْعَنَّ فَتَرْضَى عَنْهُ أَوْكانَ عَنْ لَهْوٍ فَأَقْبِلْ يا كَرِيْمْ ... بِقَلْبِهِ إِلَيْكَ حَتَّىْ يَسْتَقِيْمْ هُمْ جُلَسَاءُ أَهْلِ كُلِّ مَسْجِدِ ... يُذَكِّرُوْنَ الْقَوْمَ بِالتَّفَقُّد ¬
34 - ومنها: التذكير بالصلاة إذا حان وقتها، والدعاء إلها.
إِنْ مَرِضُوْا عَادُوْهُمُ أَوْ كَانُوْا ... فِيْ حاجَةٍ فَهُمْ لَهُمْ أَعَانُوْا 34 - ومنها: التذكير بالصَّلاة إذا حان وقتها، والدعاء إلها. روى الطبراني، والضياء في "المختارة" عن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ لله مَلَكًا يُنادِيْ عِنْدَ كُلَّ صَلاةٍ: يا بَنِيْ آدَمَ! قُوْمُوْا إِلَىْ نِيْرَانِكُمُ الَّتِيْ أَوْقَدْتُمُوْها عَلَىْ أَنْفُسِكُمْ فَأَطْفِئُوْهَا" (¬1). وقد تقدم هذا مع حديث ابن مسعود في المعنى. 35 - ومنها: إيقاظ النائم للصلاة - سواء صلاة الليل وغيرها كالصُّبح - وقد سبق أنهم يوقظون المتهجدين. روى الطبراني في "الأوسط" عن عبد الله -يعني: ابن مسعود رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ الصَلاةَ مِنَ اللَيْلِ أَتاهُ ملك، فَقالَ لَهُ: قُمْ فَقَدْ أَصْبَحْتَ، فَصَل، وَاذْكُرْ رَبَّكَ، فَيَأْتِيْهِ الشَّيْطَانُ، فَيقُوْلُ لَهُ: عَلَيْكَ لَيْل طَوِيْلٌ، وَسَوْفَ تَقُوْمُ، فَإنْ قامَ، فَصَلَّىْ أَصْبَحَ نشَطاً، خَفِيْفَ الْجِسْمِ، قَرِيْرَ الْعَيْنِ، وَإِنْ هُوَ أَطاعَ الشَّيْطانَ حَتَّىْ أَصْبَحَ، بالَ فِيْ أُذُنيهِ" (¬2). واعلم أن قول الملك للمصلي لا يلزم منه أن يسمعه ويفهمه، بل استيقاظه يكون من الملك، للطف الملائكة لا يحتاج من تتوجه إليه ¬
36 - ومنها: الأذان والإقامة
نصيحتهم أن يسمع كلامهم كما يسمع كلام الآدميين، بل قد يكون ذلك إلقاء في الروح، وربما سمع بعض الصَّالحين ذلك جهرة، وسيأتي لذلك مزيد بيان في التشبه بالشيطان. وقد روى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزُّهد" عن هشام بن زياد أخي العلاء بن زياد قال: كان العلاء بن زياد يحيى كل ليلة جمعة، قال: فوجد ليلة فترة، فقال: يا أسماء! - لامرأته - إني أجد فترة، فإذا مضى كذا وكذا فأيقظيني، قالت: نعم، فأتى آت في منامه، فأخذ بناصيته، فقال: يا ابن زياد! قم فاذكر الله عز وجل يذكرْك، قال: فقام، فما زالت تلك الشعرات التي أخذها منه قائمة حتى مات (¬1). 36 - ومنها: الأذان والإقامة: سبق أن إسرافيل عليه السَّلام مؤذن أهل السماء. وروى أبو نعيم في "الحلية"، وابن عساكر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نزَلَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالْهِنْدِ، وَاسْتَوْحَشَ، فَنَزَلَ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَنادَىْ بالأَذانِ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ -مَرَّتَيْنِ-، أَشْهَدُ أَنًّ مُحَمَّداً رَسُوْلُ اللهِ -مَرَّتَيْنِ-، قالَ آدَمُ: مَنْ مُحَمَّد؟ قالَ: آخِرُ وَلَدِكَ مِنَ الأَنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ" (¬2). ¬
وروى البزار عن علي رضي الله تعالى عنه قال: لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل عليه السلام بدابة يقال لها: البراق، فذهب يركبها، فاستصعبت، فقال لها جبريل عليه السلام: اسكني، فوالله ما ركبك عبد أكرم على الله من محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فركبها حتى انتهى إلى الحجاب الذي يلي الرَّحمن، فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا جِبْرِيْلُ! مَنْ هَذا؟ " قال: والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانًا، وإن هذا الملك ما رأيته قط منذ خلقت قبل ساعتي هذه، فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، فقيل له من وراء الحجاب: صدق عبدي؛ أنا أكبر، أنا أكبر، ثم قال الملك: أشهد أن لا إله إلا الله، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي؛ لا إله إلا أنا، فقال الملك: أشهد أن محمدًا رسول الله، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي؛ أنا أرسلت محمدًا، فقال الملك: حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي؛ أنا أكبر، أنا أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي؛ لا إله إلا أنا، ثم أخذ الملك بيد محمَّد فقدمه، فأمَّ أهل السَّماوات فيهم آدم ونوح، فيومئذ كمل الله تعالى لمحمد الشرف على أهل السَّماوات والأرض (¬1). قلت: هذه كيفية الإقامة لأن ألفاظها فرادى، ولزيادة لفظ الإقامة ¬
37 - ومنها: سماع الأذان، والإنصات للمؤذن
فيها، وإنما سماها عليٌّ - رضي الله عنه - أذانا على ضرب من المجاز، ولأن العرب قد تسمي الإقامة أذانًا. وفي الحديث: "بَيْنَ كُلِّ أَذانينِ صَلاة" (¬1)؛ أي: بين كل أذان وإقامة. وفي حديث علي رضي الله تعالى عنه إشارة إلى أن إجابة المؤذن خُلق من أخلاق الله تعالى، والله الموفق. 37 - ومنها: سماع الأذان، والإنصات للمؤذن: روى ابن عدي في "الكامل" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَهْلَ السَّماءِ لا يَسْمَعُوْنَ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ إِلاَّ الأَذَانَ" (¬2). 38 - ومنها: الاستغفار للمصلين: روى ابن خزيمة في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَجْتَمعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلائِكَةُ النَّهارِ فِيْ صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، فَيَجْتَمِعُوْنَ فِيْ صَلاةِ الْفَجْرِ، فتَصْعَدُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ، وَتَثْبُتُ مَلائِكَةُ النَّهارِ، وَيَجْتَمِعُوْنَ فِيْ صَلاةِ الْعَصْرِ، فتَصْعَدُ مَلائِكَةُ النَّهارِ، فَيَسْألهُمْ رَبُّهُمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِيْ؟ فَيقُوْلُوْنَ: أتيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّوْنَ، وَتَرَكْناهُمْ وَهُمْ يُصَلُّوْنَ، فَاغْفِرْ لَهُمْ يَوْمَ الدِّيْنِ" (¬3). ¬
39 - ومنها: الاستغفار لمن بات على طهارة
39 - ومنها: الاستغفار لمن بات على طهارة: روى الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "طَهرُوْا هَذهِ الأَجْسامَ - طَهَّرَكُمُ اللهُ -؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَبِيْتُ طَاهِرًا إلا باتَ مَعَهُ فِيْ شِعارهِ مَلَكٌ، لا يَنْقِلُبُ ساعَةً مِنْ اللَّيْلِ إِلاَّ قالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِكَ؛ فَإنَّهُ باتَ طَاهِراً" (¬1). 40 - ومنها: الاستغفار لمن قرأ: {حم} [الدخان: 1] من الليل. روى الترمذي عن أبي هريرة أنَّه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَ {حم} الدُّخَان فِيْ لَيْلَةٍ، أَصْبَحَ يَسْتِغْفِرُ لَهُ سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ" (¬2). 41 - ومنها: الاستغفار لمن صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتاب: روى الطبراني، وأبو الشيخ، والمستغفري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلىْ عَلَيَّ فِيْ كِتابٍ لَمْ يَزَلِ الْمَلائِكَةُ يَسْتَغْفِرُوْنَ لَهُ ما دامَ اسْمِيَ فِيْ ذَلِكَ الْكِتَابِ" (¬3). ¬
42 - ومنها: الاستغفار للعلماء
42 - ومنها: الاستغفار للعلماء: روى الترمذي وصححه، عن أبي أسامة - رضي الله عنه - قال: ذُكِر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان؛ أحدهما عابد، والآخر عالم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَضْلُ الْعالِمِ عَلَىْ الْعابِدِ كَفضْلِيَ عَلَىْ أَدْناكُمْ". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله، وَمَلائِكَتَهُ، وَأَهْلَ السَّماواتِ، وَأَهْلَ الأَرْضِ، حَتَّىْ النَّمْلَةَ فِيْ جُحْرِها، وَحَتَّىْ الْحُوْتَ، لَيُصَلُّوْنَ عَلَىْ مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ" (¬1). وصلاة الملائكة بمعنى: الاستغفار. ويدل عليه ما رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ سَلَكَ طَرِيْقًا يَلْتَمِسُ فِيْهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيْقًا إِلَىْ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطالِبِ الْعِلْمِ رِضَىً بِما يَصْنَعُ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِيْ السَّماواتِ وَمَنْ فِيْ الأَرْضِ، حَتَّىْ الْحِيْتَانُ فِيْ الْماءِ، وَفَضْلُ الْعالِمِ عَلَىْ الْعابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَىْ سائِرِ الْكَواكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَماءَ وَرثةُ الأَنْبِياءِ، وَإِنَّ الأَنْبِياءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِيْنارًا، وَلا دِرْهَماً، وَإِنَّما وَرَّثُوْا الْعِلْمَ؛ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وافِرٍ" (¬2). ¬
43 - ومنها: الاستغفار لمحبي أبي بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما, ولعن مبغضيهما
43 - ومنها: الاستغفار لمحبي أبي بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما, ولعن مبغضيهما: روى ابن باكُويه الشيرازي في كتاب "الألقاب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ فِيْ سَماءِ الدُّنْيا ثَمانِيْنَ ألفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُوْنَ لِمَنْ أَحَبَّ أَبا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَفِيْ السَّماءِ الثَّانِيَةِ ثَمَانِيْنَ ألفَ مَلَكٍ يَلْعَنُوْنَ مَنْ يُبْغِضُ أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ" (¬1). 44 - ومنها: الاستغفار لصُوَّام رمضان: روى البيهقي بسند صالح، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُعْطِيَتْ أُمتِيْ فِيْ شَهْرِ رَمَضانَ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نبِي قَبْلِيْ: أما واحِدَةٌ فَإنَّهُ إِذا كانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ نَظَرَ اللهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ نَظَرَ اللهُ إِلَيْهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ أَبَداً. وَأما الثانِيَةُ: خُلُوْفُ أَفْواهِهِمْ حِيْنَ يُمْسُوْنَ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ ريحِ الْمِسْكِ. ¬
45 - ومنها: الاستغفار لعائد المريض
وَأَمَّا الثَّالِثة: فَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الْمَلائِكَةُ فِيْ كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَأَمَّا الرَّابِعَةُ: فَإِنَّ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُ جَنَّتَهُ فَيَقُوْلُ: اسْتَعِدّيْ، وَتَزَينيْ لِعِبَادِيْ؛ أَوْشَكَ أَنْ يَسْتَرِيْحُوْا مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا إِلَىْ دارِيْ وَكَرامَتِيْ. وَأَمَّا الْخامِسَةُ: فَإِنَّهُ إِذا كانَ آخِرُ لَيْلَةٍ غَفَرَ اللهُ لَهُمْ جَمِيْعاً". فقال رجل من القوم: هي ليلة القدر؟ قال: "لا، ألمْ تَرَ إِلَىْ الْعُمَّالِ يَعْمَلُوْنَ، فَإِذا فَرَغُوْا مِنْ أَعْمالِهِمْ وُفُّوْا أُجُوْرَهُمْ! " (¬1). 45 - ومنها: الاستغفار لعائد المريض: روى ابن أبي الدنيا في "المرض والكفارات" عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا عادَ الرَّجُلُ أَخًا مَرِيْضًا فِيْ اللهِ تَعالَىْ مَشَىْ مَعَهُ سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُوْنَ لَهُ، وَكانَ يَخُوْضُ فِيْ الرَّحْمَةِ، حَتَّىْ إِذا دَخَلَ عَلَيْهِ غَرِقَ فِيْها" (¬2). 46 - ومنها: الاستغفار لمن قال: سبحان من تعزز بالقدرة، وقهر العباد بالموت: روى الإِمام أحمد في "الزهد" عن عبد الله بن إبراهيم قال: مر يحيى ابن زكريا على قبر دانيال النبي عليهم السلام قال: فسمعه وهو في القبر يقول: سبحان من تعزز بالقدرة، وقهر العباد بالموت، قال: فسمع ثم ¬
47 - ومنها: الاستغفار لكافة المؤمنين
مضى، قال: فناداه مناد من السماء: يا يحيى! أنا الذي تعززت بالقدرة، وقهرت العباد بالموت، من قالها استغفر له السَّماوات والأرض ومن فيهن (¬1). 47 - ومنها: الاستغفار لكافة المؤمنين، مع التنصيص في استغفارهم على التائبين، والمتبعين سبيل الله تعالى، ومع الدُّعاء لهم بالنَّجاة من النار والفوز بالجنة وانجاز الموعود والتوفيق، كما في قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)} [الشورى: 5]، وقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7 - 9]. فينبغي للإنسان أن يقتدي بالملائكة عليهم السلام في الدُّعاء، والاستغفار لإخوانه المؤمنين؛ فإن في ذلك فضلاً كثيرًا، وأجراً غزيراً. روى الطبراني في "معجمه الكبير" عن عُبادة بن الصَّامت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِناتِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعا وَعِشْرِيْنَ مَرَّةً كانَ مِنَ الَّذِيْنَ يُسْتَجابُ لَهُمْ، وُيرْزَقُ ¬
48 - ومنها: الصلاة على الصف الأول من المصلين مرتين
بِهِمْ أَهْلُ الأَرْضِ" (¬1). ومن فضل الترحم، والاستغفار لهذه الأمة بالخصوص ما رواه الخطيب البغدادي في "تاريخه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ دُعاءٍ أَحَبُّ إِلَىْ اللهِ تَعالَىْ مِنْ أَنْ يَقُوْلَ الْعَبْدُ: اللهُمَّ ارْحَمْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ رَحْمَةً عامَّةً" (¬2). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن مَعروف الكَرخي قال: من قال كل يوم: اللهم أصلح أمة محمَّد، اللهم فرج عن أمة محمَّد، اللهم ارحم أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، كُتِب من الأبدال (¬3). 48 - ومنها: الصَّلاة على الصفِّ الأول من المصلين مرتين، وعلى الصف الثاني مرة، وعلى ميامن الصفوف، وعلى الذين يَصِلَون الصفوفَ، وعلى من ينتظر الصلاة، ومن في وجهه أثر السجود، وعلى الْمُتَعَمِّمِيْنَ يوم الجمعة، وعلى من يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الرجل ما دامت مائدته موضوعة، وعلى المقتنين للأغنام، ¬
49 - ومنها: صلاتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيأتي عدها من خصالهم في محله إن شاء الله تعالى.
وعلى المتسحِّرين، وعلى الصَّائم إذا أكُل بين يديه، وعلى من فَطَّر صائمًا، وعلى عائد المريض، وعلى زائر أخيه، وعلى من يسلم على أخيه، وعلى من يردُّ السلام، وعلى معلِّم الخير، وعلى العبد عند ختم القرآن، وعلى من قرأ سورة (آل عمران) يوم الجمعة، وعلى المجاهد ما دام سلاحه عليه، وعلى الذاكرين الله كثيراً، والمسبحين الله بكرة وأصيلاً، بل على سائر أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. والصلاة من الملائكة عليهم السلام في هذه الأماكن، وأمثالها بمعنى: الترحم، والاستغفار. 49 - ومنها: صلاتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيأتي عدها من خصالهم في محله إن شاء الله تعالى. والتشبه بهم في ذلك بالمعنى؛ أي: بالدعاء لهؤلاء بلفظ الاستغفار، ونحوه، لا بلفظ الصَّلاة؛ لأن الأكثرين على أنَّ الصلاة لا تشرع إلا على الأنبياء والملائكة، ولا تشرع على غيرهم إلا بالتبعية لهم. وأمَّا أدلة ما أشرنا إليه: فروى الإِمام أحمد بإسناد لا بأس به، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَىْ الصَّفِّ الأَوَّلِ"، قالوا: يا رسول الله! وعلى الثاني؟ قال: "إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَىْ الصَّفِّ الأَوَّلِ"، الحديث (¬1). ¬
وروى -أيضًا بإسناد جيد، عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَىْ الصَّفّ الأَوَّلِ، أَوِ الصُّفُوْفِ الأُوَلِ" (¬1). وروى أبو داود، وابن ماجه بإسناد حسن، عن عائشة رضي الله عنهَا قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَىْ مَيامِنِ الصُّفُوْفِ" (¬2). وروى ابن خزيمة في "صحيحه" عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي الصف إلى ناحيتيه، فيمسح مناكبنا، أو صدورنا، ويقول: "لا تَخْتَلِفُوْا فتخْتَلِفَ قُلُوْبُكُمْ"، قال: وكان يقول: "إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَىْ الَّذِيْنَ يَصِلُوْنَ الصُّفُوْفَ الأُوَلَ" (¬3). وروى هو، والإمام أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، والحاكم، وقال: على شرط مسلم، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، ¬
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَىْ الذِيْنَ يَصِلُوْنَ الصُّفُوْفَ" (¬1). وروى الإِمام أحمد عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذا جَلَسَ فِيْ مُصَلاَّهُ بَعْدَ الصَّلاةِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ، قالَ: وَصَلاتُهُمْ عَلَيْهِ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ" (¬2). قلت: هذا الحديث أحد الأدلة لما بيناه من معنى الصلاة من الملائكة على المذكورين، والله الموفق. وروى مسلم، وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَزالُ الْعَبْدُ فِيْ صَلاةٍ ما دامَ الْعَبْدُ فِيْ مُصَلاهُ يَنتظِرُ الصَّلاةَ، وَالْمَلائِكَةُ يَقُوْلُوْنَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ" (¬3). وروى أبو نعيم عن عُبيد بن عُمير قال: لا تَزالُ الْمَلائِكَةُ تُصَلِّيْ عَلَى الْعَبْدِ ما دامَ أَثَرُ السُّجُوْدِ فِيْ وَجْهِهِ (¬4). وروى الطبراني في "معجمه الكبير" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى ¬
عنه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الله وَمَلائِكَتُهُ يُصَلُّوْنَ عَلَىْ أَصْحابِ الْعَمائِمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ" (¬1). قلت في منظومتي المسماة بِـ: "الفوائد المجتمعة في خصائص يوم الجمعة": وَاللهُ وَالأَمْلاكُ كُلُّهُمْ مَعَه ... صَلُّوْا عَلَىْ الْمُعَمَّمِ يَوْمَ الْجُمُعَهْ وروى أبو نعيم في "الحلية"، والضياء في "المختارة" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّىْ عَلَيَّ صَلاةً صَلَّتِ الْمَلائِكَةُ عَلَيْهِ ما صَلَّىْ عَلَيَّ، فَلْيُكْثِرْ عَبْدٌ، أَوْ لِيُقِلَّ" (¬2). وروى ابن ماجه عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّيْ عَلَيَّ إِلاَّ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ، فَلْيُقِلَّ عَبْدٌ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ لِيُكْثِرَ" (¬3). وروى أبو بكر بن عاصم في "فضل الصلاة" على النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صَلَّىْ عَلَيَّ صَلاةً ¬
صَلَّىْ اللهُ وَمَلائِكَتُهُ عَلَيْهِ عَشْراً؛ فَلْيُقِلَّ عَبْدٌ أَوْ لِيُكْثِرَ". وروى الإِمام أحمد بسند حسن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: من صلى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةً، صلَّى اللهُ عليه وملائكته سبعين صلاة، فلْيُقِلَّ عبدٌ من ذلك أو ليُكْثِرَ (¬1). وروى الطبراني بأسانيد قريبة للحُسْنِ، عن أبي طلحة - رضي الله عنه - قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسارير وجهه تَبْرُقُ - فقلت: يا رسول الله! ما رأيتك أطيب نفسًا, ولا أظهر بِشراً من يومك هذا، قال: "وَما لِيَ لا تَطِيْبُ نَفْسِيْ، وَيَظْهَرُ بِشْرِيْ! صاِئما فارَقَنِيْ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ السَّاعَةَ، فَقَالَ: يا مُحَمَّدُ! مَنْ صَلَّىْ عَلَيْكَ مِنْ أُمَّتِكَ صَلاةً كَتَبَ اللهُ لَهُ بِها عَشْرَ حَسَناتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيئاتٍ، وَرَفَعَهُ بِها عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَقالَ لَهُ الْمَلَكُ مِثْلَ ما قالَ لَكَ، قُلْتُ: يا جِبْرِيْلُ! وَما ذاكَ الْمَلَكُ؟ قال: إِنَّ الله عز وجل وَكَّلَ لَكَ مَلَكًا مِنْ لَدُنْ خَلْقِكَ إِلَىْ أَنْ بَعَثَكَ؟ لا يُصَلِّيْ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَتِكَ إِلاَّ قالَ: وَأَنْتَ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْكَ" (¬2). وقوله: "إِنَّ الله وَكَّلَ بِكَ مَلَكًا"؛ أي: يحفظك من لَدُن خلقك إلى بعثك، ثم هو معك؟ لا يصلي عليك أحد إلا قال له: "وَأَنْتَ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْكَ". ¬
وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَزالُ تُصَلِّيْ عَلَىْ أَحَدِكُمْ ما دامَتْ مائِدَتُهُ مَوْضُوْعَةً" (¬1). وروى محمَّد بن سعد في "طبقاته" عن بعض الصَّحابة رضي الله تعالى عنهم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ تَرُوْحُ عَلَيْهِمْ ثَلاثةٌ مِنَ الْغَنَمِ إِلاَّ باتَتِ الْمَلائِكَةُ تُصَلِّيْ عَلَيْهِمْ حَتَّىْ تُصْبحَ" (¬2). وروى الإِمام أحمد بإسناد قوي، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السَّحُوْرُ كُلُّهُ بَرَكَةٌ؛ فَلا تَدَعُوْهُ، وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ ماءٍ؛ فَإِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَىْ الْمُتَسَحِّرِيْنَ" (¬3). وروى ابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "معجمه الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية" عن ابن عمر - رضي الله عنه - قالت (¬4): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ وَملائِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَىْ الْمُتَسَحِّرِيْنَ" (¬5). ¬
وروى الترمذي وصححه، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، وغيرهم عن أم عمار رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل إليها، فقدمت إليه طعاما، فقال: "كُلِيْ"، فقالت: "إني صائمة"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّائِمُ إِذا أكَلَتْ عِنْدَهُ الْمَفاطِيْرُ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ" (¬1). وفي رواية: "إِنَّ الصَائِمَ تُصَليْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ إِذا أُكِلَ عِنْدَهُ حتَّى يَفْرُغُوْا" (¬2). وربما قال: "حَتَّىْ يَشْبَعُوْا". وروى ابن ماجه، والبيهقي عن بُريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال رضي الله تعالى عنه: "الْغَداءَ يا بِلالُ"، فقال: إني صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نأكُلُ رِزْقَنا، وَفَضْلَ رِزْقِ بِلالٍ فِيْ الْجَنَّةِ، شَعَرْتُ يا بِلالُ أَنَّ الصَّائِمَ تُسَبِّحُ عِظامُهُ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُ الْمَلائِكَةُ ما كُلَ عِنْدَه" (¬3). قلت: لعل صلاة الملائكة عليهم السَّلام على الصَّائم إذا أكل عنده، ¬
واستغفارهم له لكونه في ذلك متخلقاً بأخلاقهم لأنهم قد يحضرون الطعام وهم لا يأكلون ولا يشربون، كما سيأتي، والله الموفق. وروى الطَّبراني في "معجمه الكبير" عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ فَطَّرَ صائِمًا عَلَىْ طَعامٍ وَشَرابٍ مِنْ حَلالٍ، صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ فِيْ ساعاتِ شَهْرِ رَمَضانَ، وَصَلَّىْ عَلَيْهِ جِبْرِيْلُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ" (¬1). وروى الإِمام أحمد، وأبو يعلى، والبيهقي في "سننه" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذا عادَ الرَّجُلُ أَخاهُ الْمُسْلِمَ مَشَىْ فِيْ خِرَافَةِ الْجَنَّةِ -أي: مجتناها- حَتَّىْ يَجْلِسَ، فَإِذا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِنْ كانَ غُدْوَةً صَلَّىْ عَلَيْهِ سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ حَتَّىْ يُمْسِيَ، وَإِنْ كانَ عِشاءً صَلَّىْ عَلَيْهِ سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ حَتَّىْ يُصْبحَ" (¬2). وروى الترمذي وحسنه، ولفظه: "ما مِنْ مُسْلِمٍ يَعُوْدُ مُسْلِماً غُدْوَةً إِلاَّ صَلَّىْ عَلَيْهِ سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ حَتَّىْ يُمْسِيَ، وإنْ عادَهُ عَشِيَّةً صَلَّىْ عَلَيْهِ ¬
سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ حَتَّىْ يُصْبحَ، وَكانَ لَهُ خَرِيْفٌ فِيْ الْجَنَّةِ" (¬1). وقوله: "وَكانَ لَهُ خَرِيْفٌ فِيْ الْجَنَّةِ" يحتمل وجهين: الأول: أنه أراد به النخل التي تخرص. والمعنى: كان له خريف نخيل مباحة له، كما أن النخل يخرص ليباح لمالكه التصرف فيه، ويدل عليه قوله في الرواية الأخرى: "مَشَىْ فِيْ خِرافَةِ الْجَنَّةِ"؛ أي: مجتناها. ومنه الخريف لثلاثة أشهر بين القيظ والشتاء؛ تخترف فيها الثمار؛ أي: تجتنى. والوجه الثاني: أن يكون أراد بالخريف السنة والعام؛ من باب تسمية الكل باسم البعض. ومنه الحديث: "يَهْوِيْ سَبْعِيْنَ خَرِيْفًا"؛ أي: عامًا. والمعنى: وكان له مسافة عام في الجنة. وروى الإِمام أبو بكر بن باكُويه الشيرازي في "الألقاب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الله وَكَّلَ بِعائِدِ السَّقِيْمِ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِيْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِيْها سَبْعِيْنَ ألفَ مَلَك يُصَلُّوْنَ عَلَيْهِ إِلَىْ مِثْلِها مِنَ الْغَدِ". وروى الطَّبراني في "الأوسط" عن أبي رَزين العقيلي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا رَزَيْنٍ! إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذا زارَ أَخاهُ الْمُسْلِمَ ¬
شَيَّعَهُ سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ يُصَلُّوْنَ عَلَيْهِ؛ اللهُمَّ كَما وَصَلَهُ فِيْكَ فَصِلْه" (¬1). وروى الديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا سَلَّمَ الْمُسْلِمُ عَلَىْ الْمُسْلِمِ فَرَدَّ عَلَيْهِ، صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ سَبْعِيْنَ مَرَّةً" (¬2). قلت: يحتمل أن يكون الضمير عائدًا على المبتدئ بالسلام؛ لأن الشرط عقد على فعله. ويحتمل أن يكون عائدًا على الرادِّ؛ لأنه الأقرب إلى الضمير. وعليه: فالمبتدئ بالسلام شريكه في صلاة الملائكة عليهم السلام؛ لأنه هو الذي كان سببًا في تحصيل صلاة الملائكة له، والله الموفق. وروى الطبراني في "الكبير"، والضياء في "المختارة" عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ، حَتَّىْ النَّمْلَةَ فِيْ جُحْرِها، وَحَتَّىْ الْحُوْتَ فِيْ الْبَحْرِ، لَيُصَلُّوْنَ عَلَىْ مُعَلِّمِ [الناس] الْخَيْر" (¬3). وروى الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، عن جابر رضي الله ¬
تعالى عنه، والبزار عن عائشة رضي الله عنها قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُعَلِّمُ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُل شَيْءٍ، حَتَىْ الْحِيْتانُ فِيْ الْبِحارِ" (¬1). وروى البيهقي عن أبي الدَّرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ غَدا يُرِيْدُ الْعِلْمَ لا يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَىْ، فَتَحَ اللهُ لَهُ بَاباً إِلَىْ الْجَنَّةِ، وَفَرَشَتْ لَهُ الْمَلائِكَةُ أَكْنافَهَا، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ مَلائِكَةُ السَّمَاواتِ، وَحِيْتانُ الْبَحْرِ، وَلِلْعالِمِ مِنَ الْفَضْلِ عَلَىْ الْعابِدِ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَىْ أَصْغَرِ كَوْكَبٍ فِيْ السَّماء، وَالْعُلَماءُ وَرَثَةُ الأَنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ؛ إِنَّ الأَنْبِياءَ لَمْ يُوَرِّثُوْا دِيْناراً، وَلا دِرْهَمًا، وَلَكِنَّهُمْ وَرثُوْا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظِّهِ، وَمَوْتُ الْعالِمُ مُصِيْبَةٌ لا تُجْبَرُ، وثُلْمَةٌ لا تُسَدُّ، وَهُوَ نَجْم طُمِسَ، مَوْتُ قَبِيْلَةٍ أَيْسَرُ مِنْ مَوْتِ عالِمٍ" (¬2). وقد سبق هذا الحديث بلفظ آخر، وفي هذا اللفظ زيادة. وقوله: "لا يتعلمُهُ إِلاَّ للهِ ... إلى آخره"؛ يشير إلى أن هذا الثواب، وصلاة الملائكة إنما يكون للمخلصين من العلماء، وهو كذلك. وقد روى الطبراني في "الأوسط" بسند جيد، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُلَمَاءُ هَذِهِ الأمَّةِ رَجُلانِ: ¬
رَجُل آتاهُ اللهُ عِلْمًا، فَبَذَلَهُ لِلنَّاسِ، وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ طَمَعاً، وَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ ثَمَنًا، فَذَلِكَ تَسْتَغْفِرُ لَهُ حِيْتانُ الْبَحْرِ، وَدَوابُّ الْبَرِّ، وَالْطَّيْرُ فِيْ جَوِّ السَّماءِ. وَرَجُل آتاهُ اللهُ عِلْماً، فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبادِ اللهِ، وَأَخَذَ بِهِ طَمَعا، وَشَرَىْ بِهِ ثَمَناً، فَذَلِكَ يُلْجَمُ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ، وَيُنادِيْ مُنادٍ: هَذا الَّذِيْ آتاهُ اللهُ عِلْماً فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبادِ اللهِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعاً، وَشَرَىْ بِهِ ثَمَناً، وَكَذَلِكَ حَتَّىْ يَفْرُغَ الْحِسابُ" (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنِ أَوَّلَ النَّهارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ حَتَّىْ يُمْسِيَ، وَمَنْ خَتَمَهُ آخِرَ النَّهارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ حَتَّىْ يُصْبحَ" (¬2). وروى أبو عُبيد في "فضائل القرآن" عن إبراهيم التَّيمي رحمه الله تعالى قال: كان يقال: إذا ختم الرجل القرآن في أول النهار صلت عليه الملائكة بقيةَ يومه، وإذا ختمه أول الليل صلت عليه الملائكة بقيةَ ليلته. ¬
قال: وكانوا يحبون أن يختموا في أول النهار، أو في أول الليل (¬1). وروى في "الحلية" نحوه عن عَبدة بن أبي لُبابة (¬2). وفيها عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي قال: إذا قرأ الرجل القرآن نهارًا صلت عليه الملائكة حتَّى يمسي، وإذا قرأه ليلاً صلت عليه الملائكة حتَّى يصبح. قال الأعمش: فرأيت أصحابنا يعجبهم أن يختموه أول النهار وأول الليل (¬3). وفي هذه الرواية أن الملائكة يصلون على القارئ أول النهار وأول الليل، وإن لم يختمه. وروي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا خَتَمَ الْعَبْدُ الْقُرْآنَ صَلَّىْ عَلَيْهِ عِنْدَ خَتْمِهِ سِتُّوْنَ ألفَ مَلَكٍ" (¬4). وفي هذا الحديث: أن صلاتهم عليه لا تتقيد بأن يكون الختم أول ¬
النهار، أو أول الليل، أو في غيرهما. وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَ السُّوْرَةَ الَّتِيْ يُذْكَرُ فِيْها آلُ عِمْرانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَمَلائِكَتُهُ حَتَّىْ تَجِبَ الشَّمْسُ" (¬1)؛ أي: تسقط للغروب. وروى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَلائِكَةُ تُصَلِّيْ عَلَىْ الْغازِيْ ما دامَتْ حَمَائِلُ سَيْفِهِ فِيْ عُنُقِهِ" (¬2). وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41 - 43]. قال أبو العالية في الآية: صلاة الله: ثناؤه، وصلاة الملائكة: الدعاء (¬3). وقال سعيد بن جبير فيها: الله يغفر لكم، وتستغفر لكم الملائكة. ¬
رواهما ابن أبي حاتم. وقال الأزهري: الصلاة من الله الرحمة (¬1). وقال غيره: الرحمة مع التعظيم (¬2). قلت: وفي قوله في الآية: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] إشارة إلى أن معنى الصلاةِ الرحمةُ. أو المعنى: وكان بالمؤمنين -أي: بعامَّتِهم- رحيماً؛ فإن ذكروا الله كثيرًا، وسبحوه بكرة وأصيلاً، خصهم بالرحمة المقرونة بالتعظيم، المخصوصة باسم الصَّلاة. وروى الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، والبيهقي في "الدلائل" عن سليم بن عامر قال: جاء رجل إلى أبي أمامة رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا أمامة! إني رأيت في منامي أن الملائكة يصلون عليك كلما دخلت، وكلما خرجت، وكلما قمت، وكلما جلست. فقال أبو أمامة: اللهم غفراً، دعونا عنكم، وأنتم لو شئتم صلت عليكم، ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 41 - 43] الآية (¬3). ¬
ونقل الثعلبي، والبغوي عن أنس - رضي الله عنه - (¬1)، ورواه عبد بن حميد، وابن المنذر مرسلاً، قال [مجاهد] (¬2): لما نزلت {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! ما أنزل الله عليك خيراً إلا أشرَكَنا فيه، فنزلت {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] (¬3). وروى ابن المنذر عن ابن جريج في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]. قال: لما نزلت جعل الناس يهنؤنه بهذه الآية (¬4). وقال أُبي بن كعب - رضي الله عنه -: ما أنزل الله فيك خيراً إلا أخلطنا به معك إلا هذه الآية، فنزل ذكر المؤمنين في الآية الأخرى (¬5). وروى ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري: أنه سئل عن قوله: "اللهم صل على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صليْت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم"؟ قال: أكرم الله أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فصلى عليهم كما صلى على الأنبياء، فقال: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]. ¬
أشار سفيان إلى أن آل محمَّد أمته، وأن آل إبراهيم ذريته الأنبياء. وروى عبد الرزاق، وغيره عن الحسن في قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 43] قال: إن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام: هل يصلي ربك؛ فكان ذلك كبر في صدر موسى، فأوحى الله تعالى إليه: أخبرهم بأني أصلي، وأن صلاتي: إن رحمتي سبقت غضبي (¬1). وأخرجه عبد بن حميد بنحوه عن شَهْر بن حَوشب، وزاد فيه: "ولولا ذلك هلكوا" (¬2). وروى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به قال له جبريل: إن ربك يصلي، قال: "يا جِبْرِيْلُ! كَيْفَ يُصَلِّيْ؟ " قال: يقول: سُبُّوْحٌ قُدُّوْسٌ رَبُّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوْحِ، سَبقَتْ رَحْمَتِيْ غَضَبِيْ (¬3). وعن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْتُ لِجِبْرِيْلَ: هَلْ يُصَلِّيْ ربكَ؟ "قال: "نعم"، قلت: "وَما صَلاتُهُ؟ " قال: "سُبُّوْحٌ قُدُوْسٌ، تغلب رحمتي غضبي" (¬4). ¬
50 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: لعن أهل المعاصي المصرين عليها بحيث لا يتوبون منها, ولا يستحيون من الله تعالى، خصوصا الكفار
قلت: إنما سأل جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال في ليلة الإسراء، كما في حديث ابن الزُّبير، وكان بمكة قبل أن ينزل عليه آيتا الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، و {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] , فإن سورة الأحزاب مدنية. وروى ابن أبي شيبة عن مصعب بن سعد قال: إذا قال العبد: سبحان الله، قالت الملائكة: وبحمده، وإذا قال: سبحان الله وبحمده، صلوا عليه (¬1). 50 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: لعن أهل المعاصي الْمُصِرِّين عليها بحيث لا يتوبون منها, ولا يستحيون من الله تعالى، خصوصاً الكفار. ثم وردت آثار بأنهم يلعنون أهل معاص مخصوصين. والتشبه بهم في لعن الموصوفين بالمعاصي، دون لعن المعين بذاته واسمه جائزٌ. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]. ¬
قال قتادة في قوله: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]: من ملائكة الله، والمؤمنين. رواه ابن جرير، وغيره (¬1). وأكثر المفسرين أن هذه الآية في علماء أهل الكتاب الذين كتموا صفة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وغيرها مما في كتاب الله تعالى. وذهب آخرون إلى أنها عامة فيمن كتم علماً من علوم الدِّين سئل عنه من محتاج إليه، ولم يكن ثَمَّ من بينه غيره (¬2). وعليه حمل الحديث: "فَمَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلجِمَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ" (¬3). وفي لفظ: "مَنْ كتَمَ عِلْما مِمَّا يَنْفَعُ اللهُ بِهِ النَّاسَ فِيْ أَمْرِ الدّيْنِ ألجَمَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ" (¬4). رواهما ابن ماجه؛ بالأول عن أنس، وبالثاني عن أبي سعيد. وفي الباب أحاديث أخرى. ويؤيده ما في "صحيح البخاري"، وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لولا آيتان (¬5) في كتاب الله ما حدثت أحدًا بشيء أبدًا، ثم تلا هذه الآية: ¬
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] الآية (¬1). وروى الإِمام أحمد، وأبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَلائِكَةَ لتلْعَنُ أَحَدَكُمْ إِذا أَشارَ إِلَىْ أَخِيْهِ بِحَدِيْدَة، وإنْ كانَ أَخاهُ لأَبِيْهِ وَأُمِّهِ" (¬2). وأخرجه مسلم، والترمذي بمعناه (¬3). وروى الشِّيرازي في "الألقاب" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دَخَلَ الْحَمامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ لَعَنَهُ الْمَلَكانِ". وروى أبو بكر بن السُّنِّي عن عُمير بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دَعا رَجُلًا بِغَيْرِ اسْمِهِ لَعَنتهُ الْمَلائِكَة" (¬4). وهذا محمول على ما لو دعاه بغير اسمه ليهينه، ويؤذيه، ونحو ذلك. فأما إذا لم يعرف اسمه فناداه بنحو: (يا رجل)، فلا بأس. ويدل على ذلك: ما أخرجه الإِمام عبد الله بن المبارك في "الزُّهد" ¬
عن أبي مريم الغَسَّاني: أن رجالاً من الجند خرجوا ينتضلون؛ منهم سعيد ابن عامر رضي الله تعالى عنه، فبينما هم كذلك إذا أصابهم الحر، فوضع سعيد قَلَنْسُوتهُ عن رأسه - وكان رجلًا أصلع -، فلما رأى سعيد صاح به الواصف في شيء ذكره من رميته: يا أصلع -وهو لا يعرفه -، فقال له سعيد: إن كنتَ لَغَنِيًا أن تلعنك الملائكة، فقال رجل منهم: ومم تلعنه الملائكة؟ قال: من دعا امرأً بغير اسمه لعنته الملائكة عليهم السَّلام (¬1). وروى الشيخ الإِمام الفقيه الزاهد نصر المقدسي في كتاب "الحجة على تارك المحجة" عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَتانِيْ جبْرِيْلُ وَمِيْكائِيْلُ وَإِسْرافِيْلُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مَعَ كُلِّ واحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعُوْنَ ألفًا، فَقَالُوْا: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ الله عز وجل يُقْرِئُكَ السَّلامَ، وَيقُوْلُ لَكَ: بَلِّغْ أُمَّتَكَ أَنَّ مَنْ ماتَ مِنْهُمْ وَهُوَ مُفارِقٌ الْجَماعَةَ لَمْ يَشَمَّ رائِحَةَ الْجَنَّةِ وَلَوْ كانَ أكثَرَ أَهْلِ الأَرْضِ عَمَلاً، وَمَنْ تَرَكَ الْجَماعَةَ لَعَنْتُهُ أَنا وَمَلائِكَتِيْ، وَقَدْ لَعَنْتُهُ فِيْ التَّوْراةِ وَالإِنْجِيْلِ وَالزَّبُوْرِ، وَتارِكُ الْجَماعَةِ يُصْبحُ وُيمْسِيْ فِيْ لَعْنَتِيْ وَسَخَطِيْ" (¬2). وروى ابن لاَل، وابن عساكر عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَفْتَىْ بِغَيْرِ عِلْم لَعَنَتْهُ مَلائِكَةُ السَّماءِ وَالأَرْضِ" (¬3). ¬
وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ" (¬1). وروى فيه عن عبادة بن الصَّامت - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "مَنْ ظَلَمَ أَهْلَ الْمَدِيْنَةِ وَأَخافَهُمْ [فأخفه]، وعَلَيْهِ (¬2) لَعْنَةُ الله وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ" (¬3). وفي الباب عن جابر، وغيره. وروى الدَّارقطني في "الأفراد" عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ غَشَّ أُمَّتِيْ فَعَلَيْهِ لَعْنة الله وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ"، قالوا: يا رسول الله! وما الغش؟ قال: "أَنْ يَبْتَدِعَ لَهُمْ بِدْعَةً فَيُعْمَلَ بِها" (¬4). وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَثَّلَ بِأَخِيْهِ - وفي رواية: مَنْ مَثَّلَ بِحَيَوانٍ - فَعَلَيْهِ ¬
لَعْنَةُ اللهِ، وَالْمَلائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ" (¬1). وروى الإِمام أحمد، والحاكم عن أبي بكر (¬2) رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُوْرِ الْمُؤْمِنِيْنَ شَيْئاً فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَداً مُحاباةً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ" (¬3). وروى البزار عن ثوبان، والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا، أَوْ آوَىْ مُحْدِثا، أَوِ ادَّعَىْ إِلَىْ غَيْرِ أَبِيْهِ، أَوْ تَوَلىْ غَيْرَ مَوالِيْهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ، لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْلاً" (¬4). وروى الحاكم في "تاريخ نيسابور" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَهَيأ لِلنَّاسِ بِقَوْلهِ وَلِباسِهِ وَخالَفَ فِيْ ذَلِكَ فِيْ أَعْمالِهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ". ¬
وروى مسلم، وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَوَلَّىْ قَوْما بِغَيْرِ إِذْنِ مَوالِيْهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ، لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ صَرْفاً، وَلا عَدْلاً" (¬1). وأخرجه ابن جرير من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه -، ولفظه: "مَنْ تَوَلَّىْ مَوْلَى قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوالِيْهِ ... "، الحديث (¬2). وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ رَاع مُؤْمِناً، لَعَنتهُ الْمَلائِكَةُ" (¬3). وروى أبو داود، والنسائيُّ، وابن ماجه، والبيهقيُّ عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: "مَنْ قُتِلَ فِيْ عِمّيَا أَوْ رِمّيَا تَكُوْنُ بَيْنَهُمْ بِحَجَرٍ أَوْ بِسَوْطٍ فَعَقْلُهُ عَقْلُ خَطاءٍ، وَمَنْ قُتِلَ عَمْداً فَقَوَدُ يَدَيْهِ، فَمَنْ حالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ" (¬4). روى ابن عساكر عن معاوية بن صالح، عن بعضهم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ وَالْمَلائِكَةُ رَجُلاً تأنثَ، وَامْرَأة تَذَكرتْ، وَرَجُلاً تَحَصَّرَ بَعْدَ يَحْيى بْنِ زكرِيَّا، وَرَجُلاً قَعَدَ عَلَىْ الطَّرِيْقِ يَسْتَهْزِئُ مِنْ أَعْمَىْ، ¬
وَرَجُلاَ شَبعَ مِنَ الطَّعامِ فِيْ يَوْمِ مَسْغَبَةِ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط"، والحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَلَّ سَخِيْمَتَهُ -يعني: الغائط - عَلَىْ طَرِيْقِ عَام مِنْ طَرِيْقِ الْمُسْلِمِيْنَ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ" (¬2). وروى الشيخان، وأبو داود، والنَسائي عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأتهُ إِلَىْ فِراشِهِ فَلَمْ تأتِهِ فَباتَ غَضْبانَ، لَعَنَتْها الْمَلائِكَةُ حَتَّىْ تُصْبحَ" (¬3). وفي رواية للشيخين، والنسائي: "إِذا باتَتِ الْمَرْأة هاجِرَة فِراشَ زَوْجِها, لَعَنتها الْمَلائِكَةُ حَتَّىْ تُصْبحَ" (¬4). ورواه أبو نعيم، ولفظه: "لا تَهْجُرُ امْرَأةٌ فِراشَ زَوْجِها إِلاَّ ¬
لَعَنَتْها مَلائِكَةُ اللهِ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَرْأة إِذا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتها وَزَوْجُها كارِهٌ، لَعَنَها كُلُّ مَلَك فِيْ السَّماءِ، وَكُلُّ شَيْء مَرَّتْ عَلَيْهِ، غَيْرِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ حَتَّىْ تَرْجِعَ" (¬2). وروى ابن ماجه، والطَّبراني عن واثلة - رضي الله عنه -: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ باعَ عَيْباً لَمْ يُبيِّنْهُ، لَمْ يَزَلْ فِيْ مَقْتِ اللهِ، وَلَمْ تَزَلِ الْمَلائِكَةُ تَلْعَنُهُ" (¬3). واللعنة من الله تعالى: الإبعاد والطرد. ومن الملائكة والناس: طلب ذلك منه سبحانه وتعالى، أو الإخبار بطرد الملعون، وإبعاده عن حضرة القرب. ومن ثَمَّ قال أكثر العلماء: لا يجوز لعن المُعيَّن؛ لأنه لا يعلم بماذا يختم له. نعم، من مات على الكفر يجوز لعنه. ¬
فأما لعن العصاة بالوصف؛ كلعن الظالم، جائزٌ. ثم إن الإبعاد والطرد إذا حق من الله تعالى لبعض عباده، فقد حق للملائكة والنَّاس لعنه لأنه تصديق الله تعالى. ومن ثمَّ قال - صلى الله عليه وسلم - للشيطان الذي عرض له في صلاته: "ألعَنُكَ بِلَعْنَةِ الله" (¬1). ومن هنا: فكل من لعنه الله تعالى فهو ملعون عند الملائكة عليهم السَّلام. وما سبق فيما ورد التنصيص على لعن الملائكة فيه لطوائف مخصوصة. وبقي طوائف ورد لعن الله تعالى لهم فهم ملعونون -أيضًا - عند الملائكة، فينبغي الإشارة إلى ذلك. قال الله تعالى في حق إبليس -وهو أول المَلاعين -: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 77، 78]. وقال تعالى في اليهود: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64]. وروى الإِمام أحمد، والشيخان عن عائشة وابن عباس معًا رضي الله تعالى عنها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[قال]: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُوْدَ وَالنَّصارَىْ؛ اتَّخَذُوْا قُبُوْرَ أَنْبِيائِهِمْ مَساجِد" (¬2). ¬
وروى الإِمام أحمد، وأبو داود، وغيرهما عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُوْدَ؛ إِنَّ الله حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُوْمَ فَباعُوْها، وَأَكلُوْا أثمانهَا، وَإِنَّ الله إِذا حَرَّمَ عَلَىْ قَوْمٍ أكلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ" (¬1). وروى الشيخان، والنَّسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ؛ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فتقْطَعُ يَدُهُ، وَيسْرِقُ الْحَبْلَ فتقْطَعُ يَدُه" (¬2). وروى الإمام مالك في "الموطأ"، والإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن ابن عباس، وابن ماجه عن أبي هريرة، والطَّبراني في "الكبير" عن أبي بكرة قالوا - رضي الله عنهم -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ الْمُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّساءِ بِالرّجالِ، وَالْمُتَشَبِّهِيْنَ مِنَ الرِّجالِ بِالنِّساءِ" (¬3). وروى الإِمام أحمد، ومسلم عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬
"لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرَّبا، وَمُوْكِلَهُ، وَشاهِدَيْهِ، وَكاتِبَهُ؛ هُمْ فِيْه سَواءٌ" (¬1). وروى أبو داود، والحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، والترمذي، وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه، والطَّبراني في "الكبير" عن عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنهم - قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ، وَشارِبَها، وَساقِيَها، وَبائِعَها، وَمُبْتاعَها، وَعاصِرَها، وَمُعْتَصِرَها، وَحامِلَها، وَالْمَحْمُوْلَةَ إِلَيْهِ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا" (¬2). وروى الإِمام أحمد، والشيخان، والنَّسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوانِ" (¬3). وروى الإِمام أحمد، ومسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
حمارًا قد وُسِمَ في وجهه، فقال: "لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا" (¬1). ورويا، والترمذي عن علي رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ والِدَه (¬2)، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَىْ مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنارَ الأَرْضِ" (¬3). وروى الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ الله سبعةً من خَلْقِه من فوقِ سَبع سماوات"، فردَّد اللعنة على واحد منهم ثلاث مرات، ولعن كل واحد منهم لعنةً لعنةً، وقال: "مَلْعُوْنٌ، مَلْعُوْنٌ، مَلْعُوْنٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوْطٍ، مَلْعُوْنٌ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَرْأة وبِنْتِها، مَلْعُوْنٌ مَنْ سَبَّ شَيْئًا مِنْ والِدَيْهِ، مَلْعُوْنٌ مَنْ أتىْ شَيْئاً مِنَ الْبَهائِمِ، مَلْعُوْنٌ مَنْ غَيَّرَ حُدُوْدَ الأَرْضِ، مَلْعُوْنٌ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، مَلْعُوْنٌ مَنْ تَوَلَّىْ غَيْرَ مَوالِيْهِ" (¬4). ولعبد الرزاق نحوه من حديث ابن عباس (¬5). ورواه الطبراني، والحاكم وصححه، وأشار المنذري إلى تحسينه (¬6)، ¬
من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللهُ سَبْعَةً مِنْ خَلْقِهِ مِنْ فَوْقِ سَبع سَمَاواتٍ، ورَددَ اللعْنَةَ عَلَىْ واحِدٍ مِنْهُمْ ثَلاثا، وَلَعَنَ كُلَّ واحِدٍ مِنْهُمْ لَعْنةً تَكْفِيْهِ، قالَ: مَلْعُوْنٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوْطٍ، مَلْعُوْنٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوْطٍ، مَلْعُوْنٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوْط، مَلْعُوْنٌ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَىْ، مَلْعُوْن مَنْ أتَىْ شَيْئا مِنَ الْبَهائِمِ، مَلْعُوْن مَنْ عَقَّ والِدَيْهِ، مَلْعُوْنٌ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأة وَابْنَتِها، مَلْعُوْنٌ مَنْ غَيرَ حُدْوُدَ الأَرْضِ، مَلْعُوْن مَنِ ادَّعَىْ إِلَىْ غَيْرِ مَوالِيْهِ" (¬1). وروى ابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيرَ تُخُوْمَ الأَرْضِ، لعَنَ اللهُ مَنْ كَمَّهَ أَعْمَىْ عَنِ السَّبِيْلِ، وَلعَنَ اللهُ مَنْ سَبَّ والِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ تَوَلَىْ غَيْرَ مَوالِيْهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوْطٍ، قالَها ثَلاثا فِيْ عَمَلِ قَوْمِ لُوْطٍ" (¬2). ¬
وروى أبو داود، والترمذي وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي" (¬1). وأخرجه ابن ماجه، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعْنَةُ اللهِ عَلَىْ الرَّاشِيْ وَالْمُرْتَشِيْ" (¬2). وروى الإِمام أحمد، وأبو يعلى، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن ثوبان رضي الله تعالى عنه، والحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ الَّذِيْ يَمْشِيْ بَيْنَهُمَا" (¬3). نعم، يستثنى من الراشي من يدفع بالرشوة الظلم عن نفسه (¬4). والرائش حكمه حكم موكله. وروى الإِمام أحمد، والستة عن ابن عمر، والثلاثة الأولون والنسائي عن عائشة، وهؤلاء وابن ماجه عن أسماء بنت أبي بكر الصديق، والطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى ¬
عنهم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ الْواصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْواشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَة" (¬1). وروى الإِمام أحمد، والستة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللْهُ الْواشِماتِ وَالْمُسْتَوْشِماتِ، وَالْمُتَنَمّصاتِ، وَالْمُتَفَلِّجاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيّراتِ لِخَلْقِ اللهِ" (¬2). وروى الإِمام أحمد، وابن أبي شيبة، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن علي - رضي الله عنه -، والإمام أحمد، وابن أبي شيبة، والترمذي وصححه، والنسائي عن ابن مسعود، والترمذي عن جابر، وابن ماجه عن ابن عباس، والإمام أحمد والبيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "لَعَنَ اللهُ الْمُحَللَ، وَالْمُحَلَّلَ لَه" (¬1). وروى البيهقي في "السنن" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللهُ النَّائِحَةَ، وَالْمُسْتَمِعَةَ، وَالْحالِقَةَ (¬2)، وَالسَّالِقَةَ (¬3)، وَالْواشِمَةَ، وَالْمُوْتشَمَةَ" (¬4). وروى هو، والإمام أحمد، وأبو داود عن أبي سعيد، والطَّبراني في "الكبير" عن ابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللهُ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ" (¬5). ¬
وروى الإِمام مالك في "الموطأ"، والإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ زائِراتِ الْقُبُوْرِ، وَالْمُتَّخِذِيْنَ عَلَيْها الْمَساجِدَ وَالسُّرُجَ" (¬1). وروى ابن ماجه، والطبراني في "الكبير"، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ الْخامِشَةَ وَجْهَها، وَالشَاقَّةَ جَيْبَها، وَالدَّاعِيَةَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُوْرِ" (¬2). وروى الطبراني في"الكبير" عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللهُ مَنْ سبَّ أَصْحابِيْ" (¬3). وروى الديلمي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَلْعُوْن مَنْ لَعِبَ بِالشَّطْرَنج" (¬4). ¬
وعن بهز، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَلْعُوْنٌ مَنْ كَذَبَ" (¬1). وكلاهما ضعيف. وروى الطبراني في "الكبير"، والحاكم في "التاريخ"، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَلْعُوْن مَنْ سَألَ بِوَجْهِ اللهِ، وَمَلْعُوْن مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللهِ، ثُمَّ يَمْنَعُ سائِلَهُ، ما لَمْ يسْأَلْ هَجْرًا" (¬2). وروى البيهقي في "السنن" عن الحسن مرسلاً، والديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ النَّاظِرَ، وَالْمَنْظُوْرَ إِلَيْهِ" (¬3)؛ يعني: النظر إلى العورة. وروى ابن ماجه، والبيهقي (¬4) عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللهُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوالِدَةِ وَوَلَدِها، ¬
وَبَيْنَ الأخ وَأَخِيْهِ" (¬1). وروى أبو داود، والترمذي، والحاكم عن حذيفة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ مَنْ قَعَدَ وَسْطَ الْحَلَقَةِ" (¬2). أي: (لغير ضرورة)، أو: (بغير إذن أهلها) ليخرج الْمُسْتَمْلي، ونحوه. وروى الترمذي وحسنه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللهُ عَبْدَ الدِّيْنارِ، لَعَنَ اللهُ عَبْدَ الدِّرْهَمِ" (¬3). وروى الديلمي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ عز وجل فَقِيْراً تَواضَعَ لِغَنِي مِنْ أَجْلِ غِناهُ؛ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَدْ ذهبَ ثُلُثا دِيْنِهِ" (¬4). وروى الإِمام أحمد، عن معاوية رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "لَعَنَ اللهُ الَّذِيْنَ يُشَقّقُوْنَ الْخُطَبَ تَشْقِيْقَ الشِّعْرِ" (¬1)؛ يعني: التفصح في الكلام. وروى الإِمام مالك في "الموطأ"، والإمام الشافعيُّ، والبيهقيُّ في "السُّنن" عن عمرة بنت عبد الرحمن مرسلاً، والبيهقي عنها، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللهُ الْمُخْتَفِيَ وَالْمُخْتَفِيَةَ" (¬2). قال في "القاموس": المختفي: النباش؛ كأنه من اختفيته: إذا أزلت خفاياه (¬3). وروى البخاري في "تاريخه" عن عكرمة مرسلاً، والخطيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ الْمُسَوِّفاتِ" (¬4). ورواه الطَّبراني في "الكبير" من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وزاد فيه: "الَّتِيْ يَدْعُوْها زَوْجُها إِلَىْ فِراشِهِ فَتَقُوْلُ: (سَوْفَ) ¬
حَتَّىْ تَغْلِبَهُ عَيْناه" (¬1). وروى أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ الْمُفْسِلَةَ التِيْ إِذا أَرادَ زَوْجُها أَنْ يَأتِيَها قالَتْ: أَنا حائِضُ [وليست بحائض] (¬2) " (¬3). وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى مرسلاً، قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتاب في أرض فقال: "لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذا، لا تَضَعُوْا كِتابَ اللهِ إِلاَّ مَوْضِعَهُ" (¬4). وروى الإِمام أحمد، وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَلْعُوْن مَنْ أتىْ امْرَأةً فِيْ دُبُرِهَا" (¬5). وروى الترمذي، والدَّارقطني، والبيهقيُّ في "شعب الإيمان" عن ¬
أبي بكر رضي الله تعالى عنه: "مَلْعُوْنٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِناً، أَوْ مَكَرَ بِهِ" (¬1). وروى الدارقطني في "العلل" عن علي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لُعِنَتِ الْقَدَرَّيةُ عَلَىْ لِسانِ سَبْعِيْنَ نبَيًّا". وفي "تاريخ الحاكم" عن أبي أمامة نحوه (¬2) في المرجئة. وروى الطَّبراني في "الكبير" عن جابر بن سَمُرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ مَنْ بَدا بَعْدَ هَجْرِه، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ بَدا بَعْدَ هَجْرِه، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ بَدَا بَعْدَ هَجْرِه إِلاَّ فِيْ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّ الْبَدْوَ فِيْ الْفِتْنَةِ خَيْرٌ مِنَ الإِقامَةِ فِيْها" (¬3). وروى الترمذي، والحاكم وصححه، والطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم، والبيهقي في "الشعب" عن عائشة رضي الله عنها، والحاكم وصححه، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سِتَّةٌ لَعَنْتُهُمْ -وَكُلُّ نبَى مُجابٌ -: الزَّائِدُ فِيْ كِتابِ اللهِ، وَالْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللهِ، وَالْمُتَسَلِّطُ بِالْجَبَرُوْتِ فَيُعِزُّ بِذَلِكَ مَنْ أَذَلَّ اللهُ، وَيُذِلُّ مَنْ أَعَزَّ اللهُ، وَالْمُسْتَحِلُّ لِحُرَمِ الله، وَالْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتيْ ما حَرَّمَ اللهُ، وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِيْ" (¬4). ¬
وأخرجه الطبراني في "الكبير" من حديث عمرو بن شفوي اليافعي - رضي الله عنه - بنحوه إلا أنه قال: "سَبْعَةٌ لَعَنْتُهُمْ، وَزادَ: وَالْمُسْتَأْثِرُ بِالْفَيْءِ" (¬1). وروى عبد بن حُميد، وأبو الشيخ، وابن مَردويه في "تفاسيرهم"، والطَّبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ بَنِيْ إِسْرائِيْلَ لَمَّا عَمِلُوْا الْخَطِيْئَةَ نهَاهُمْ عُلَماؤُهُمْ تَعْذِيْراً، ثُمَّ جالَسُوْهُمْ، وَواكَلُوْهُمْ، وَشارابوْهُمْ كَأنْ لَمْ يَعْمَلُوْا بِالأَمْسِ قَطِيْعَةً، فَلَمَّا رَأَىْ اللهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ ضَرَبَ بِقُلُوْبِ بَعْضِهِمْ عَلَىْ بَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ عَلَىْ لِسانِ نبِيٍّ مِنَ الأَنْبِياءِ". ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78] حتى فرغ من الآية، ثم قال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَاللهِ لتأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوْفِ، وَلتنْهُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلتأْطُرُنَّهُمْ عَلَىْ الْحَق أَطْراً، أَوْ لَيَضْرِبَن اللهُ بِقُلُوْبِ بَعْضِكُمْ عَلَىْ بَعْضٍ، وَلَيَلْعَننَّكُمْ كَما لَعَنَهُمْ" (¬2). ¬
51 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: الصلاة على الميت من المسلمين
وروى ابن ماجه عن عمر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْجالِبُ مَرْزُوْقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُوْنٌ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير"، وابن قانع في "معجمه" عن المهاجر ابن قنفذ رضي الله تعالى عنه قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثلاثة على دابة، فقال: "الثَّالِثُ مَلْعُوْن" (¬2). وهذا محمول على أنه أراد الثالث من أولئك الثلاثة، أو على أنه فيما لو ضعفت الدَّابة عن حمل الثلاثة. 51 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: الصَّلاة على الميت من المسلمين. روى ابن باكُويه الشِّيرازي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَلائِكَةَ صَلَّتْ عَلَىْ آدَمَ فَكَبَّرَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعاً". ورواه أبو نعيم في "الحلية"، ولفظه: "كَبَّرَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَىْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَرْبَعاً" (¬3). وهو بهذا اللفظ عند الحاكم في "المستدرك" من حديث ¬
فائدة جليلة
أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى الدارقطني، والبيهقي في "سننه" بسند صحيح، عن أُبي رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صَلَّتِ الْمَلائِكَةُ عَلَى آدَمَ عَلَيهِ السَّلامُ فَكَبَّرَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعا، وَقالَتْ: هَذه سُنتكُمْ يا بَنِيْ آدَمَ" (¬2). * فَائِدَةٌ جَلِيْلَةٌ: روى محمَّد بن سعد في "طبقاته"، والبيهقي في "الدَّلائل" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كنَّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبوك، فطلعت الشمس بضياء وشعاع ونور، لم أرها طلعت فيما مضى، فأتى جبريل عليه السَّلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يَا جِبْرِيْلُ! ما لِيْ أَرَىْ الشَّمْسَ الْيَوْمَ طَلَعَتْ بِضِياءٍ وَنُوْرٍ وَشُعاعٍ لَمْ أَرَها طَلَعَتْ فِيْما مَضَىْ؟ قال: ذاك أن معاوية بن معاوية الليثي مات بالمدينة اليوم، فبعث الله إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه. قال: وَفِيْمَ ذاكَ؟ قال: كان يكثر قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] بالليل والنهار، وفي ممشاه وقعوده، فهل لك أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه؟ ¬
تنبيهان
قال: نعَمْ"، فصلى عليه (¬1). وقال في رواية أخرى: جاء جبريل عليه السلام فقال: "يا محمَّد! مات معاوية بن معاوية المزني، أتحب أن تصلي عليه؟ " قال: "نعَمْ"، قال: فضرب بجناحه فلم يبق من شجرة ولا أكمة حتى اتضعت له، ورفع السرير له حتَّى نظر إليه، وخلفه صفَّان من الملائكة، في كل صف سبعون ألف ملك، قال: "قلت: يا جِبْرِيْلُ! بِمَ نالَ هَذهِ الْمَنْزِلَةَ مِنَ اللهِ تَعَالَىْ؟ " قال: "بحبِّه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] يقرؤها قائمًا، وقاعداً، وذاهباً، وجائيًا، وعلى كل حال" (¬2). * تنبِيهانِ: الأَوَّلُ: روى الإِمام أحمد بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُصَلِّيْ الْمَلائِكَةُ عَلَىْ نائِحَةٍ، وَلا مُسْتَمِعَةٍ" (¬3)؛ أي: لا تصلي صلاة الميت عليهما، أو: لا تستغفر لهما. الثَّانِيْ: وروى الدَّارقطني في "سننه" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: صلى ¬
جبريل على آدم عليه السّلام، وكبر عليه أربعاً، صلَّى جبريل بالملائكة يومئذٍ في مسجد الخيف، وأخذ من قبل القبلة، ولحد له، وسَنَّم قبره (¬1). وروى ابن عساكر عنه: أنَّ جبريل ولي آدم عليهما السلام، وجاء بكفن وحنوط وسدر، ثم قال: يا بني آدم أترون ما أصنع بأبيكم؟ فاصنعوا بموتاكم، فغسَّلوه، وكفنوه، وحنَّطوه، ثم حملوه إلى الكعبة، فصلى عليه جبريل، فعرف فضل جبريل يؤمئذ على الملائكة، فكبر عليه أربعاً، ووضعوه مما يلي القبلة عند القبور، ودفنوه في مسجد الخيف (¬2). فأي الروايتين صح كان دالاُّ على أن الملائكة صلوا عليه في المسجد. وفيه: جواز الصَّلاة على الميت في المسجد. والعمدة في الاحتجاج له: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد (¬3). وبهذا قال الشافعي، وأحمد. قال الزركشي: وهي رواية المدنيين عن مالك. وقال أبو حنيفة - وتلك في الرواية المشهورة عنه -: لا تصح الصَّلاة عليه في المسجد. ¬
52 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام
واحتج لهذا المذهب بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "مَنْ صَلَّىْ عَلَىْ جَنازَةٍ فِيْ الْمَسْجِدِ فَلا شَيْءَ لَه" (¬1)، وهو ضعيف. وقال الخطيب البغداديُّ: المحفوظ في الرواية: "فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ"، فتكون تلك الرواية محمولة على هذه، واللام فيها بمعنى على كما في قوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]؛ أي: عليها (¬2). 52 - ومن أعمال الملائكة عليهم السَّلام: الإعلام بالموت -لا سيما بموت الصَّالحين - ليصلى عليهم، وتحضر جنائزهم لإعلام جبريل عليه السلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموت معاوية بن معاوية (¬3). وقد صحح النووي رضي الله تعالى عنه في "مجموعه" استحباب الإعلام بموت المسلم لكثرة المصلين عليه (¬4). 53 - ومنها: تغسيل الموتى، وتكفينهم، وتحنيطهم، ودفنهم: وروى الطَّبراني في "الأوسط" عن أُبي بن كعب رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ آدَمَ غَسَّلَتْهُ الْمَلائِكَةُ بِماءٍ، وَسِدْرٍ، وَكَفَّنُوْهُ، ¬
وَلَحَدُوْا لَهُ، وَدَفَنُوْهُ، وَقالُوْا: هَذِهِ سُنتكُمْ يا بَنِيْ آدَمَ فِيْ مَوْتاكُمْ" (¬1). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن جبريل عليه السلام ولي آدم عليه السلام، فجاءه بكفن وحنوط وسدر (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَيْتُ الْمَلائِكَةَ تُغَسِّلُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطلِبِ، وَحَنْظَلَةَ بنَ الرَّاهِبِ" (¬3). وروى ابن سعد عن الحسن رحمه الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ رَأَيْتُ الْمَلائِكَةَ تُغَسِّلُ حَمْزَةَ" (¬4). وروى ابن أبي الدُّنيا في "الهواتف" عن أبي بكر بن أبي مريم قال: حج قوم، فمات صاحب لهم بأرض فَلاَة، فطلبوا الماء، فلم يقدروا عليه، فأتاهم آتٍ، فقالوا: دلنا على الماء، فقال: إن حلفتم لي ثلاثًا وثلاثين يمينا أنه لم يكن صَرَّافا, ولا مَكَّاسا, ولا عريفا، ولا بريدا دللتكم على الماء، فحلفوا له ثلاثًا وثلاثين يمينا، فدلهم على الماء، وكان منهم غير بعيد، ثم قالوا: عاونا على غسله، فقال: إن حلفتم لي ثلاثًا وثلاثين ¬
تنبيه
يمينًا [أنه لم يكن صَرَّافاً، ولا مَكَّاساً، ولا عريفاً، ولا بريداً، دللتكم على غسله، فأعانهم على غسله، قالوا له: تقدمْ فصلِّ عليه، فقال: لا، إلا أن تحلفوا لي أربعًا وثلاثين يمينًا أنه لم يكن صَرَّافاً، ولا مَكَّاساً، ولا عريفاً، ولا بريداً صليت عليه، فحلفوا له أربعث وثلاثين يمينًا، فصلى عليه، ثم ذهبوا ينظرون، فلم يروا أحدًا، فكانوا يرون أنه ملك (¬1). * تنبِيْهٌ: قال ابن هبيرة في "الإشراف على مذاهب الأشراف": اتفقوا على أن الشهيد -وهو من مات في قتال الكفار- لا يغسل، انتهى. فعلى هذا: لا يقتدى بالملائكة في تغسيل الشهيد؛ حيث غسَّلوا حمزة وحنظلة -كما علمت- وقد قتلا شهيدين في غزوة أحد، لكنا أوردنا حديث ابن عبَّاس والحسن في هذا المحل؛ إشارة إلى أن أصل تغسيل الميت من عمل الملائكة عليهم السَّلام، ولذلك قدمنا حديث تغسيلهم لآدم عليه السَّلام؛ لأنه محل الاقتداء بهم لأن آدم لم يمت شهيدًا. وروي: أن الملائكة لم تغسّل حمزة وحنظلة إلا لأنهما كانا جُنُبَيْن حين استشهدا. فالنظر حينئذٍ في الشهيد إذا مات جنبًا هل يُغسَّل أم لا؟ فقال مالك رضي الله تعالى عنه: لا يُغسَّل. ¬
تتمة
وهو الأصح من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه. لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يغسل حمزة وحنظلة مع أنهما ماتا جنبين، وإنما أخبر عن الملائكة أنهم غسلوهما. وقال الشافعي في قوله الآخر، وأبو حنيفة، وأحمد رضي الله تعالى عنهم: يُغسَّل (¬1). ومن فعل ذلك على هذا القول كان متشبها بالملائكة عليهم السَّلام في غسل الشهيد الجنب. * تَتِمَّةٌ: روى الحاكم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قتل حمزة رضي الله تعالى عنه جنباً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "غَسَّلَتْهُ الْمَلائِكَةُ" (¬2). وروى هو وصححه، وأبو نعيم، عن عبد الله بن الزُّبير - رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنْ حَنْظَلَةُ تُغَسِّلُهُ الْمَلائِكَةُ، فاسألوا (¬3) أهلَه: "ما شأنه"، قالت: "خرج وهو جنب حين سمع الهائعة"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ" (¬4). ¬
فائدة
* فَائِدَةٌ: قال العلماء رحمهم الله تعالى: الحكمة في عدم تغسيل الشهيد إبقاء أثر الشهادة عليه. وهذا هو الحكمة في استحباب تكفينه في ثيابه الملطَّخة بالدَّم. قالوا: وفي عدم غسله حكمة أخرى، وهي أن القتل طُهر، فلا يحتاج إلى طهارة أخرى. وكذلك -أيضاَّ - الحكمة في أنه لا يصلى عليه، كما هو مذهب الإِمام مالك، والشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد = أنَّ الصلاة على الميت شفاعة، والشهيد لا يحتاج إلى شافع. * فَائِدَةٌ أُخْرَىْ: روى أبو نعيم عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أن سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه لما مات يوم الخندق، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسرعًا، فإنه لينقطع شسع الرجل فما يرجع، ويسقط رداؤه فما يلوي، وما يعرج أحد على أحد، فقالوا: يا رسول الله! إن كدت لتقطعنا؟ قال: "خَشِيْتُ أَنْ تَسْبِقَنا الْمَلائِكَةُ إِلَىْ غَسْلِهِ كَمَا سَبَقَتْنا إِلَىْ غَسْلِ حَنْظَلَةَ". قلت: في هذا الحديث إشارة إلى استحباب منافسة الملائكة عليهم السَّلام، ومسابقتهم إلى أعمال الخير فضلًا عَن الاقتداء بهم، والتشبه بهم.
تنبيه
* تنبِيْهٌ: حصلت لسعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه شهادة الآخرة، ولم تتم له شهادة الدُّنيا بحيث إنه لا يغسل، فلذلك غسله النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الشهيد الذي لا يغسل ولا يصلى عليه هو الذي مات في قتال الكفار المباح بسبب القتال - ولو بعَوْدِ سلاحه إليه، أو بإصابة سلاح مسلم إياه، أو سقوطه، أو رمح دابته، أو نحو ذلك - فإن مات بعد انقضاء القتال وفيه حياة مستقرة - ولو بسبب جراحة فيه من القتال يقطع بموته منها -، أو مات في قتال البُغاة، فلا يجري عليه حكم الشهادة في الدنيا، وإن أعطي الشهادة في الآخرة، وكذلك كان حال سعد بن معاذ - رضي الله عنه -. روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أصيب سعد ابن معاذ رضي الله تعالى عنه يوم الخندق، رماه حِبَّان بن العَرَقة في الأكحل، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخندق، ووضع السِّلاح، واغتسل، أتاه جبريل عليه السَّلام وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: قد وضعت السِّلاح، والله ما وَضَعْتُهُ، اخرج إليهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فَأَيْنَ؟ " فأشار إلى بني قريظة، فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلوا على حكمه، فرد الحكم إلى سعد، قال: فإنِّي أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النِّساء والذُّرية، وأن تقسم أموالهم، فقال سعد: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحبَّ إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولَك، وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب، فافجرها،
54 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: الأسف على الصالحين عند موتهم
واجعل موتي قريبًا، فانفجرت من لبته، فمات سعد بن معاذ - رضي الله عنه - (¬1). وحِبَّان بن العرقة - بكسر الحاء المهملة، وتشديد الموحدة، وبالنون - وقيل: هو جبَّار - بالجيم، وتشديد الموحدة، وبالراء -. والعَرَقة: بفتح العين المهملة، والراء، وقيل: بكسرها، وهو المشهور، وبالقاف (¬2). 54 - ومن خصال الملائكة عليهم السَّلام: الأسف على الصَّالحين عند موتهم: روى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزُّهد" عن ثابت البُناني رحمه الله تعالى قال: لما مات موسى بن عمران عليه السَّلام جالت الملائكة في السَّماوات بعضها إلى بعض واضعي أيديهم على الخدود ينادون: مات موسى كَليمُ الله، وأي الخلق لا يموت؟ (¬3). وفي ذلك أن وضع اليد على الخد - وهي هيئة الكآبة والحزن - ليس بمذموم، بخلاف لطم الخد. وقلت في المعنى: [من البسيط] وَضَعْتُ كَفِّيْ عَلَىْ خَدِّيْ لِفُرْقَتِهِمْ ... حُزْنًا عَلَيْهِمْ كَحَالِ الْمُفْكِرِ الْوَجِعِ ¬
55 - ومنها: البكاء لموت الغريب لغربته لا جزعا لموته.
وَلَمْ أَكُنْ لاطِمًا خَدِّيْ لِبَيْنِهِمُ ... لأَنَ ذَاكَ دليْلُ السُّخْطِ وَالْجَزَعِ 55 - ومنها: البكاء لموت الغريب لغربته لا جزعا لموته. * مَطْلَبٌ: إذا توفي في غربته لم يعذَّب. روى ابن أبي الدُّنيا في "كتاب الموت" عن الحسن قال: إن الله عز وجل إذا توفي المؤمن ببلاد غربته لم يعذبه رحمة لغربته، وأمر الملائكة فبكته لغيبة بواكيه عنه (¬1). 56 - ومنها: حضور جنائز الصالحين، وحملها، وتشييعها: روى الإِمام أحمد في "الزُّهد"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي الجلد: أن داود عليه السَّلام قال في مسألته: إلهي! فما جزاء من شيع الجنائز ابتغاء مرضاتك؟ قال الله: جزاؤه أن تشيعه الملائكة يوم يموت إلى قبره، وأن أصلِّيَ على روحه في الأرواح (¬2). وروى البيهقي في "الدَّلائل" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه: "تَحَرَّكَ لَهُ ¬
الْعَرْشُ، وَشَيَّعَ جَنازَتَهُ سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ" (¬1) وروى ابن سعد، عن محمود بن لَبِيد - رضي الله عنه -: أن القوم قالوا: يا رسول الله! ما حَمَلْنا ميتًا أخف علينا من سعد؟ قال: "ما يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَخِفَّ عَلَيْكُمْ وَقَدْ هَبَطَ مِنَ الْمَلائِكَةِ كَذا وَكَذا، لَمْ يَهْبِطُوْا قَطُّ قَبْلَ يَوْمِهِمْ، قَدْ حَمَلُوْهُ مَعَكُمْ" (¬2). وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: لما مات ابن معاذ - وكان رجلًا جسيماً، جزلاً - جعل المنافقون يقولون: لم نر رجلًا أخف منه، وقالوا: تدرون لم ذاك؟ لمحكمه في بني قريظة، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَده لَقَدْ كانَتِ الْمَلائِكَةُ تَحْمِلُ سَرِيْرَه" (¬3). وروى هذا الحديث الحاكم بنحوه من طريق قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - (¬4). قلت: كذلك يطمس الله على قلوب المنافقين حتى يروا الأمور الحسنةَ قبيحةً؛ فإن خفة جنازة سعد رضي الله تعالى عنه إنما كانت لكرامته، فزعموا أنها كانت بخلاف ذلك، وأنها عقوبة له على حكمه في بني قريظة مع أنه موافق في حكمه الله تعالى. وأين نظر هؤلاء من نظر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه الكرام - رضي الله عنهم - الذين ¬
منهم حسان بن ثابت -رضي الله تعالى عنه، القائل - يبكي سعداً، ويرثيه رضي الله تعالى عنهما: [من الطويل] لَقَدْ سَمَحَتْ مِنْ فَيْضِ عَيْنيَ عَبْرَةٌ ... وَحُق لِعَيْنيْ أَنْ تَفِيْضَ عَلَىْ سَعْدِ قَتِيْلٌ ثَوَىْ فِيْ مَعْرَكٍ فُجِعَتْ بِهِ ... عُيُوْنٌ درارِيْ الذَمْعِ دائِمَةُ الْوَجْدِ عَلَىْ مِلةِ الرَّحْمَنِ وارِثُ جَنَةٍ ... مَعَ الشُهَداءِ وَفْدُهُمْ أَكْرَمُ الْوَفْدِ فَإِنْ تَكُ قَدْ وَدَعْتَنا وَتَرَكْتَنا ... وَأَمْسَيْتَ فِيْ غَبْراءَ مُظْلِمَةِ اللَّحْدِ فَأَنْتَ الَّذِيْ يا سَعْدُ أُبْتَ لِمَشْهَدٍ ... كَرِيْمٍ وَأَبْوَابِ الْمَكارِمِ وَالْمَجْدِ بِحُكْمِكَ فِيْ حُييِّ قُرَيْظَةَ بِالَّذِيْ ... قَضَىْ اللهُ فِيْهِمْ ما قَضَيْتَ عَلَىْ عَمْدِ فَوافَقَ حُكْمَ الله حُكْمُكَ فِيْهِمُ ... وَلَمْ تَعْفُ إِذْ ذَكَّرْتَ ما كانَ مِنْ عَهْدِ فَإِنْ كانَ ريبُ الدَّهْرِ أَقْصاكَ فِيْ الأُلَىْ ... شَرَوْا هَذِهِ الدُّنْيا بِجَنَاتِها الْخُلْدِ
فَنِعْمَ مَصيْرُ الصَّادِقِيْنَ إِذا دُعُوْا ... إِلَىْ اللهِ يَوْماً لِلْوَجاهَةِ وَالْقَصْدِ (¬1) - ومن شهود الملائكة لجنائز الصَّالحين: ما رواه الطَّبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "معرفة الصَّحابة" رضي الله تعالى عنهم، عن سهم ابن حبيش - وكان ممن شهد قتل عثمان - رضي الله عنه - قال: فلما أمسينا قلت: لئن تركتم صاحبكم حتى يصبح مثلوا به، فانطلقوا به إلى بَقيع الغَرقد، فأمكنا له من جوف الليل، ثم حملناه، وغشينا سواد من خلفنا، فهبناهم حتى كدنا أن نتفرق عنه، ومنادٍ: لا روع عليكم اثبتوا؛ فإنَّا جئنا لنشهده معكم. وكان ابن حبيش يقول: هم -والله- الملائكةُ عليهم السلام (¬2). ومن ذلك ما رواه أبو الحسن بن جَهْضَم، ونقله عنه الإِمام عبد الحق الإشبيلي في كتاب "العاقبة" عن أبي بكر المصري من شهود الملائكة لجنازة ذي النون المصري، ولجنازة أبي إبراهيم المزني رحمهما الله في صُور طيرٍ خُضْر (¬3). قلت: وكذلك شاهد غَيْرُ واحد طيراً خضراً ترفرف حول جنازة شيخ الإِسلام الوالد حول نعشه، وقد خفَّ نعشُه على حامليه حتى كاد ¬
تنبيه
يطير، وقد ذكرت ذلك في كتاب ترجمة الوالد المسمى: "بلغة الواحد" بأبسط من ذلك. وقلت ملمًا بالقصة: [من الطويل] وَلَمْ أَرَ يَوْمًا فَوْقَ نَعْشٍ يُرَفْرِفُ ... طُيُوْر مِنَ الأَمْلاكِ تَحْنُوْ وَتَعْطِفُ كَما قَدْ رَأَيْنا فِيْ جَنازَةِ مَنْ بَكَتْ ... عَلَيْهِ قُلُوْبُ الْخَلْقِ تَذْكُوْ وَتَنْطِفُ أَبِيْ الْبَرَكاتِ الْعامِرِيِّ وَمَنْ بِهِ ... مَقادِيْرُنا تَسْمُوْ السِّماكَ وَتُشْرِفُ وَذَلِكَ أَمْرٌ شاهَدَتْهُ جَماعَة ... وَرُبَّ فَتَىً غَيْرِيَ بِذَلِكَ أَعْرَفُ وَقَدْ خَفَّ فِيْهِمْ نَعْشُهُ وَكَأنَّهُ ... يَطِيْرُ وَأَجْسادُ الْمُحِبِّيْنَ تَلْطُفُ * تنبِيْهٌ: إنما قيدنا هذه الخصلة من خصال الملائكة عليهم السَّلام؛ أعني: شهود الجنائز، بجنائز الصالحين لأنها محل الاقتداء بالملائكة، والتشبه بهم في حضورها، وإلا فإن الملائكة ورد أنهم يحضرون جنائز الكفار أيضًا، كما في الحديث الذي رواه عبد الله ابن الإِمام أحمد، والطحاوي
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا مَرَتْ بِكُمْ جَنازَةٌ فَإِنْ كانَ مُسْلِمًا، أَوْ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرانِيًّا فَقُوْمُوْا لَها؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ نقُوْمُ لَها، وَلَكِنْ نَقُوْمُ لِمَنْ مَعَها مِنَ الْمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ" (¬1). في هذا الحديث إشارة إلى أن الملائكة تحضر جنائز الكفار كما تحضر جنائز المسلمين، وكأن جنائز المسلمين تحضرها ملائكة الرَّحمة، وجنائز الكفار تحضرها ملائكة العذاب. ويدل على هذا حديث أبي سعيد الخُدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "إِنَّ رَجُلاً قتَلَ تِسْعَة وَيسْعِيْنَ نَفْساً، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَىْ راهِبٍ، فَأَتاهُ، فَقالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتسْعِيْنَ نَفْساً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَىْ رَجُلٍ عالِمٍ، فَقالَ لَهُ: إِنَّهُ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُوْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَىْ أَرْضِ كَذا وَكَذا؟ فَإِنَّ بِها ناساً يَعْبُدُوْنَ اللهَ، فَاعْبُدِ الله مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَىْ أَرْضِكِ؛ فَإِنَّها أَرْضُ سُوءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّىْ إِذا انْتَصَفَ الطَّرِيْقُ فَأَتاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيْهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذابِ، فَقالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جاءَ تائِباً مُقْبِلاً، وَقالَتْ مَلائِكَةُ الْعَذابِ: إِنَّه لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ، فَأَتاهُمْ ملك فِيْ صُوْرَةِ آدمِيٍّ، فَجَعَلُوْهُ بَيْنَهُمْ، فَقالَ: قِيْسُوْا ما بَيْنَ الأَرْضَيْنِ، قالَ: أيُّتُها ¬
كانَ أَدْنى فَهُوَ لَهُ، فَقاسُوْهُ، فَوَجَدُوْهُ أَدنى إِلَىْ الأَرْضِ الَّتِيْ أَرادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَة". أخرجه الإِمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه (¬1). فالملائكة التي تحضر جنازة الكافر والفاسق الذي مات مُصِرًّا هم ملائكة العذاب. وذكر الحافظ عبد العظيم المنذري في حديث عمار رضي الله تعالى عنه الذي أخرجه أبو داود، وغيره: "إِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَحْضُرُ جَنازَةَ الْكافِرِ بِخَيْرٍ، وَلا الْمُتَضَمِّخِ بِالزعْفَرانِ، وَلا الْجُنُبِ" (¬2): أن المراد بالملائكة هنا هم الَّذين يتنزلون بالرَّحمة، والبركة دون الْحَفَظَةِ؛ فإنهم لا يفارقون على حال من الأحوال (¬3). ا. هـ. وأما شهود المسلم لجنازة الكافر فلا فائدة فيه للميت؛ فإنه خالد في النَّار، ولا للحي؛ إذ لا ثواب له في ذلك، بل هو مكروه. إلا أنه لا بأس باتباع المسلم جنازة قريبه الكافر. قال الأذرعي: و [لا] يبعد إلحاق الزوجة والمملوك بالقريب. قال: وفي الجار نظر (¬4). ¬
57 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: المشي في الجنائز، والامتناع من الركوب فيها
وفي اتباع المسلم جنازة المسلم الفاسق مع الثواب نفع الميت بالدُّعاء، وغيره. 57 - ومن خصال الملائكة عليهم السَّلام: المشي في الجنائز، والامتناع من الركوب فيها: روى الترمذيُّ، وابن ماجه، وصححه الحاكم، عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازةٍ، فرأى ناسًا ركبانًا، فقال: "أَلا تَسْتَحْيُوْنَ؟ إِنَّ مَلائِكَةَ اللهِ عَلَىْ أَقْدامِهِمْ، وَأَنْتُمْ عَلَىْ ظُهُوْرِ الدَّوابِّ؟ ! " (¬1). وروى أبو داود من حديثه أيضًا: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بدابة وهو مع الجنازة، فأبى أن يركبها، فلمَّا انصرف أُتِيَ بدابة، فركب، فقيل له، فقال: "إِنَّ الْمَلائِكَةَ كانَتْ تَمْشِيْ فَلَمْ أكُنْ لأَرْكَبَ وَهُمْ يَمْشُوْنَ، فَلَمَّا ذَهَبُوْا رَكِبْتُ" (¬2). وفي هذا الحديث إشارة إلى أنَّ كراهة الرُّكوب إنَّما هو في تشييع الجنازة وكذلك هو في مذهب الشّافعيِّ رضي الله تعالى عنه، إلا لعذرٍ. ولا يكره الرُّكوب في الرُّجوع منها لهذا الحديث، وعليه حمل ¬
فائدة
حديث جابر بن سمُرة رضي الله تعالى عنه في "صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود"، و"الترمذي"، قال: كنَّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة أبي الدَّحداح وهو على فرس له يسعى، ونحن حوله، وهو يتوقَّص به (¬1). بدليل رواية مسلم، وأبي داود، والنسائي عن جابر بن سمُرة أيضًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتبع جنازة أبي الدَّحداح ماشيًا، ورجع على فرس (¬2). * فَائِدةٌ: روى الديلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَلائِكَةُ يَمْشُوْنَ مَعَ الْجَنازَةِ يَقُوْلُوْنَ: سُبْحانَ مَنْ تَعَزَّزَ بِالْقدْرَةِ، وَقَهَرَ الْعِبادَ بِالْمَوْتِ" (¬3). 58 - ومنها: المشي أمام الجنازة: روى أبو بكر بن أبي شيبة، عن ابن عم - رضي الله عنهما -: أنَّ أباه أوصاه: إن أنت حملتني على السرير فامش مشيًا بين المشيين، وكن خلف الجنازة؛ فإن مقدمها للملائكة، وخلفها لبني آدم (¬4). يستفاد من هذا الأثر: أن الملائكة عليهم السَّلام تمشي أمام ¬
الجنازة، وأن الإنسان ينبغي أن يُخلي أمامها لهم، وبذلك أخذ أبو حنيفة - رضي الله عنه -، فقال: إن المشي خلف الجنازة أفضل (¬1). ولا شك أن المشي أمام الجنازة فيه مخالطة للملائكة، وتشبه بهم، ولا زحمة تحصل للملائكة بذلك لأنهم أرواح لطيفة، فالأَولى أن يكون المشي أمام الجنازة أفضل، وإن كان في المشي خلفها فضل أيضًا، وإلى هذا ذهب أكثر الصَّحابة والتابعين، وهو مذهب مالك، والشَّافعي، وأحمد - رضي الله عنهم -؛ لقول ابن عمر - رضي الله عنهما -: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة. رواه أصحاب السُّنن (¬2). وروى الترمذي، وابن ماجه، عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يمشي أمام الجنازة وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم (¬3). وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح، عن أبي صالح قال: كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يمشون أمام الجنازة (¬4). ¬
59 - ومنها: الفكر في حال الميت، وما قدم من الأعمال، لا فيما ترك من الأهل والأموال.
وروى البيهقي عن زياد بن قيس الأشعريِّ قال: أتيت المدينة، فرأيت أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يمشون أمام الجنازة (¬1). قلت: في وصية عمر لابنه أن يمشي خلف سريره إشارة لِمَا النَّاس عليه اليوم من مشي أقارب الجنازة خلفها، وتقديم النَّاس أمامها؛ فإن عمر أوصى ابنه أن يمشي خلفه، ولم يامر أن يمشي سائر النَّاس خلفه. 59 - ومنها: الفكر في حال الميت، وما قدَّم من الأعمال، لا فيما ترك من الأهل والأموال. روى الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في "صفة الصَّفوة" عن سُويد ابن غَفَلَة قال: إنَّ الملائكة تمشي أمام الجنازة، وتقول: ما قدم؟ ويقول الناس: ما أخر؟ (¬2). وروى البيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا ماتَ الْمَيتُ تَقُوْلُ الْمَلائِكَةُ: ما قَدَّمَ؟ وَتَقُوْلُ النَّاسُ: ما خَلَّفَ؟ " (¬3). 60 - ومنها: زيارة قبور الصالحين، والأبرار: روى ابن عدي في "الكامل" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ زارَ قَبْرَ أَبَوَيْهِ، أَوْ أَحَدِهِما احْتِسابًا كانَ كَعَدْلِ ¬
61 - ومنها: الدعاء بالمأثور عند رؤية الهلال
حَجَّةٍ مَبْرُوْرَة، وَمَنْ كانَ زَوَّاراً لَهُما زارَتِ الْمَلائِكَةُ قَبْرَهُ" (¬1). وروى أبو نعيم عن عليٍّ رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا عَلِيُّ! تَعَلَّمِ الْقُرْآنَ، وَعَلِّمْهُ النَّاسَ؛ فَلَكَ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَناتٍ؛ فَإِنْ مِتَّ مِتَّ شَهِيْداً، يا عَلِيُّ! تَعَلَّمِ الْقُرْآنَ، وَعَلِّمْهُ النَّاسَ؛ فَإِنْ مِتَّ حَجَّتِ الْمَلائِكَةُ إِلَىْ قَبْرِكَ كَما يَحُجُّ النَّاسُ إِلَىْ الْبَيْتِ الْعَتِيْقِ" (¬2). 61 - ومنها: الدُّعاء بالمأثور عند رؤية الهلال: روى عبد الرَّزَّاق، عن ابن جريج، عن عطاء قال: بينما رجل يسير في فَلاَة من الأرض إذ هلَّ هلال، فجعل ينظر إليه، فسمع قائلًا يقول - ولا يراه -: اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسَّلامة والإسلام، والهدى والمغفرة، والتوفيق لما ترضى، والحفظ مما تسخط، ربي وربُّكَ الله؛ فلم يزل يرددها حتى حفظها الرَّجل (¬3). وأخرجه ابن أبي الدُّنيا في "الهواتف" بنحوه (¬4). 62 - ومنها: الصيام، والإمساك عن الطَّعام والشراب، وعن سائر الشهوات، بل هذه الحالة لازمة للملائكة عليهم السَّلام؛ ¬
63 - ومنها: الاقتيات بالذكر
فإنهم يَقْتَاتون بالذِّكر، والتسبيح. قال جعفر الصادق رحمه الله تعالى: الصيام فيه تشبه بالملائكة عليهم السَّلام؛ لأنهم لا يأكلون ولا يشربون، يسبحون الليل والنهار، لا يَفْتُرُوْنَ. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 69، 70]. قال القاضي ناصر الدين البيضاوي رحمه الله تعالى في "تفسيره": إنا ملائكة مرسلة إليهم، وإنما لم نمد أيدينا إليه لأنا لا نأكل (¬1). 63 - ومنها: الاقتيات بالذكر: وهو أبلغ من الصيام، وهو حال الصمدانيين الذين كانوا يطوون الأربعينيات، وأكثر منها، ودونها بحيث يكون خارقًا للعادة، فيكتفون بالذكر، والفكر عن الطعام، والشراب. وقد قيل: [من البسيط] لها مَنَاهل مِنْ ذكراكَ تَشْغَلُها ... عن الشَّرابِ وتُلْهيها عن الزَّادِ ومن هذا القبيل ما ذكره أبو طالب المكي في "القوت"، وأبو حامد ¬
الغزالي في "الإحياء": عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه: أنه كان يطوي ستة أيام، وعن عبد الله بن الزُّبير رضي الله تعالى عنهما: أنه كان يطوي سبعة أيام، وعن الثوري، وابن أدهم: أنهما كانا يطويان ثلاثة أيام، وعن محمد بن عمر العوفي، وعبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيْم، وإبراهيم التَّيمي، وحجَّاج بن قرافصة، وحفص العابد المصِّيصي، والمستلم بن سعيد، وزهير الباني، وسليمان الخَوَّاص، وسهل بن عبد الله، وإبراهيم بن أحمد الخواص: أن طَيَّهم وصل إلى ثلاثين يومًا (¬1). وعن بعض هذه الطائفة: أنه وقف على راهب، فذاكره بحاله، وطمع في إسلامه، وترك ما هو عليه من الغرور، وكلمه في ذلك بكلام كثير إلى أن قال له الراهب: إن المسيح عليه السلام كان يطوي أربعين، وإنه معجزة لا تكون إلا لنبي صادق، قال له الصوفي: فإن طويت خمسين يومًا تترك ما أنت عليه، وتدخل في دين الإسلام، وتعلم أنه حق، وأنك على باطل؟ قال: نعم، فقعد لا يبرح إلا حيث يراه، فطوى خمسين يوماً، فقال: أزيدك أيضاً؟ فطوى إلى تمام الستين، فعجب الراهب منه، وقال: ما كنت أظن أن أحداً يجاوز المسيح، وكان ذلك سبب إسلامه (¬2). وقال أبو عثمان المغربي رحمه الله تعالى: الرباني يأكل مرة في ¬
أربعين يومًا، والصمداني في ثمانين يومًا (¬1). ومن أعجب ما في هذا الباب ما روي عن سهل بن عبد الله: أنه اقتات بثلاثة دراهم في ثلاث سنوات (¬2). وعن الشيخ محي الدين بن العربي: أنه اقتات من أول المحرم إلى عيد الفطر بلوزة واحدة. وذلك كله من باب خرق العادة، والالتحاق بالملائكة عليهم السَّلام في هذا الْخُلُقِ الشريف، وهو محمول على الاقتيات بالذكر. وعن بعض العلماء العاملين أنه قال: إني لأقتات بوردي من الذكر كما أقتات بالطَّعام والشَّراب. وقد قلت في المعنى: [من السريع] ذِكْرُكَ لِيْ قُوْتٌ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ ... قُوْتا فَقَدْ فاتَ بِهِ الْفَوْتُ وَأَنْتَ لِيْ رُوْحٌ وَمَنْ يَنْفَصِلْ ... عَنْ رُوْحِهِ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ وقال الشيخ العارف بالله شهاب الدين السُّهروردي في "عوارف المعارف": قيل لسهل بن عبد الله: هذا الذي يأكل في كل أربعين، وأكثر ¬
مرةً (¬1)؛ أين يذهب لهب الجوع عنه؟ قال: يطفئه النور. قال: وقد سألت بعض الصالحين عن ذلك، فذكر لي كلامًا بعبارة دلت على أنه يجد فرحاً بربه ينطفئ معه لهب الجوع. قال: وهذا واقع في الخلق أن الشخص يطرقه فرح - وقد كان جائعاً - فيذهب عنه الجوع، وهكذا في طَرق الخوف يقع ذلك (¬2). انتهى. فإن قيل: قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الوصال في الصوم، فقيل له: إنك تواصل، فقال: "لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ؛ إِنَّ اللهَ يُطْعِمُنِيْ، وَيَسْقِيْنِي" (¬3)، فهذا يخالفه ما تقدم؟ فالجواب: أن هذا النهي إنما هو في مقام الدَّعوة العامة، والتشريع لكافة الناس، ولئلا يتخذ الوِصال سنة جارية يتعاطاه القادر عليه والضعيف عنه، فيحتاج إلى التكلف، فأما من كان يقتات بالذكر بحيث يستغني عن الطَّعام والشَّراب فقد يقال في حقه بإباحة الوصال له خاصة (¬4). وعلى ذلك يخرج أحوال من أسلفنا ذكرهم من السَّلف رضوان الله عليهم أجمعين. ¬
وقد حكى القاضي عِياض رحمه الله تعالى عن ابن وهب، وإسحاق ابن راهويه، وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى: أنهم أجازوا الوصال (¬1). وحكى ابن حزم أن ابن وَضَّاح من المالكية كان يواصل أربعة أيام (¬2). وأطلق أكثر الشافعية العبارة بكراهية الوصال، واختلفوا هل هي كراهة تنزيه، أو تحريم على وجهين؛ أصحهما الثاني (¬3)، وهو ظاهر كلام الشَّافعيِّ رضي الله تعالى عنه؛ فإنه قال بعد أن ذكر حديث النهي عن الوصال: وفرق الله تعالى بين رسوله وبين خلقه في أمور أباحها له، وحظرها عليهم (¬4). وكذلك مذهب أبي حنيفة، ومالك - رضي الله عنهما - (¬5). ¬
وقال الحافظ زين العراقي في "شرح الترمذي": وأصرح ما يستدل به على عدم تحريم الوصال: ما رواه أبو داود بإسناد صحيح، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحجامة، والمواصلة، ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه، فقيل له: يا رسول الله! إنك تواصل إلى السحر؟ فقال: "إِنِّي أُواصِلُ إِلَىْ السَّحَرِ وَرَبِّي يُطْعِمُنِيْ، وَيَسْقِيْنِيْ" (¬1)، انتهى (¬2). قلت: وهنا أصل أصيل، وهو أن إدخال الطعام والشراب في الجوف إنما هو في الأصل مباح، وإنما يندب تعاطيه، أو يلزم إذا احتاج إليه الإنسان من حيث إنه يتقوت به، ويتحفظ به على حياته، فإذا أخذ الإنسان منه حاجته وكفايته لم يحسن في حقه أن يتناول زيادة عنها، بل إذا شبع منه حرم الزيادة عليه حذراً من الهلاك الذي من حذره ألجئ إلى استعمال الطعام والشراب إذا احتاج إليه، فإذا كان في عباد الله من ¬
رزقه الله تعالى حالة شريفة لحالة الشبع بحيث لا يحصل له معها وَهن في بدنه، ولا ضعف في قواه، ولا توقان إلى الطعام يشغله عن الذكر والطاعة، فظاهر هذا القياس أنه ما دام غنيًا عن الطعام والشراب، ففي هذه الحالة لا نكلفه تناول شيء من المطعومات ولا من المشروبات حتى يحتاج إليه، بل الدنيا - وإن كان الأصل في مطعوماتها ومشروياتها الإباحة - فإن اشتغال المقبل على الله تعالى بها اشتغال بما لا يعنيه، فمقتضى طريقه أن لا يتناول منها شيئا إلا أن يحتاج إليه، ويضطر إلى الأخذ منه، فمهما أغناه الله تعالى عنه فلا يتناوله أصلاً، فمن رزقه الله تعالى حالة تغنيه عن الطعام والشراب، وتدفع عنه المحذور المدفوع بهما كما يدفعانه، وزيادة ينبغي أن لا نكلفه بها، ولو واصل الصيامَ عُمُرَه. ثم كان بعض الطاوين من أهل الله تعالى إذا طوى يتناول عند الغروب مفطراً ما - ولو قطرة ماء - عملاً بالسنة، وخروجاً من الخلاف. وعلى ذلك: فينبغي أن يتناول عند السحر شيئًا ما بنية السحور عملاً بالنسبة أيضًا، واغتناما لصلاة الله وملائكته، كما في الحديث المتقدم "إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَىْ الْمُتَسَحِّرِيْنَ" (¬1). ولما وقف شيخنا الإمام أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام أبي النَّدى يونس العيثاوىِ الشافعي - نفع الله به، وفسح فى مدته - على ما كتبته هنا استجاده، ثم قال: وفي تناوله لمفطر ما عند الغروب وعند ¬
فائدة
السحر مع العمل بالسنة فائدة أخرى، وهي أن عبادته تتعدد؟ فإنه يجدد لكل يوم نية، ويحصل على عبادة الصيام، وسنة الفطر، وسنة السحور (¬1). * فَائِدَةٌ: روى الحاكم في "المستدرك" عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "طَعامُ الْمُؤْمِنِيْنَ فِيْ زَمَنِ الدَّجَّالِ طَعامُ الْمَلائِكَةِ: التَّسْبِيْحُ وَالتَّقْدِيْسُ، فَمَنْ كانَ يَوْمَئِذٍ مَنْطِقَهُ التَّسْبِيْحُ وَالتَّقْدِيْسُ أَذْهَبَ اللهُ عَنْهُ الْجُوْعَ" (¬2). وفي هذا الحديث دليل لما ذكرناه من أنَّ الله تعالى يهب حالة شريفة لبعض عباده تغنيه عن الطَّعام والشَّراب، وأن هذه الحالة تكون في فتنة الدَّجال لكافة المؤمنين، وإنما كانت حينئذٍ لعموم أهل الإيمان لأن من فتنة الدجال أن يمر على البلدة فيقول لأهلها: اعبدوني، واتبعوني، فإن اتبعوه أمر السَّماء فأمطرت، والأرض فأنبتت، فكانوا في أرغد عيش، وإلا أمر السماء أن لا تمطر، والأرض أن لا تنبت، فكانوا في أضيق عيش (¬3)، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هذه الفتنة لا تضر المؤمنين إذا انقطعوا ¬
64 - ومن أخلاق الملائكة عليهم السلام طلب ليلة القدر،
بالتسبيح، والتقديس؛ فإنهم يستغنون بذلك عما تمطره السماء، وتنبته الأرض. وروى ابن ماجه في "سننه"، وابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وغيرهم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "يا أَيُّها النَّاسُ! إِنَّها لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ عَلَىْ وَجْهِ الأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ". وفيه يقول: و"إِنَّ قَبْلَ خُرُوْجِ الدَّجَّالِ ثَلاثَ سَنَواتٍ شِدادٍ يُصِيْبُ النَّاسَ فِيْها جُوْعٌ شَدِيْدٌ؛ يَأْمُرُ اللهُ السَّماءَ السَّنَةَ الأُوْلَىْ أَنْ تَحْبِسَ ثُلُثَ مَطَرِها، وَيَأْمُرُ الأَرْضَ، فَتَحْبِسُ ثُلُثَ نبَاتِها، ثُمَّ يَأْمُرُ السَّماءَ فِيْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، فتَحْبس ثُلُثَيْ مَطَرِها، وَيَأْمُرُ الأَرْضَ، فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ نبَاتِها، ثُمَّ يَأْمُرُ السَّماءَ فِيْ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، فَتَحْبِسُ مَطَرَها كُلَّهُ، وَيَأْمُرُ الأَرْضَ، فَتَحْبِسُ نبَاتَها كُلَّهُ، فَلا تُنْبِتُ خَضْراءَ، فَلا تَبْقَىْ ذاتُ ظِلْفٍ إِلاَّ هَلَكَتْ إِلاَّ ما شاءَ اللهُ"، قالوا: فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: "التَّهْلِيْلُ، وَالتَّكْبِيْرُ، وَالتَّحْمِيْدُ، وَيُجْرَىْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مَجْرَىْ الطَّعامِ" (¬1). 64 - ومن أخلاق الملائكة عليهم السلام طلب ليلة القدر، والتماسها، وشهودها، والدعاء فيها، والابتهال إلى الله تعالى فيها. قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) ¬
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5]. روى أبو الشيخ بن حبان في كتاب "الثواب"، والبيهقي، والأصبهاني في "الترغيب" عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما: أنهَّ سمع رسول الل - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ الْجَنَّةَ لتَتَنَجَّدُ، وَتتَزَيَّنُ مِنَ الْحَوْلِ إِلَىْ الْحَوْلِ لِدُخُوْلِ شَهْرِ رَمَضانَ" ... فذكر الحديث، وفيه: "إِذا كانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ يَأْمُرُ اللهُ عز وجل جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَيَهْبِطُ فِيْ كَبْكَبَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ وَمَعَهُمْ لِواءٌ أَخْضَرُ، فَيَرْكِزُوْنَ اللِّواءَ عَلَىْ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، وَلَهُ مِئَةُ جَناحٍ؛ مِنْها جَناحانِ لا يَنْشُرُهُما إِلاَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَيَنْشُرُهُما فِيْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَيُجاوِزُ الْمَشْرِقَ إِلَىْ الْمَغْرِبِ، فَيَحُثُّ جِبْرِيْلُ الْمَلائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فِيْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَيُسَلِّمُوْنَ عَلَىْ كُلِّ قائِمٍ، وَقاعِدٍ، وَمُصَلٍّ، وَذاكِرٍ، وُيصافِحُوْنَهُمْ، وَيُؤَمِّنُوْنَ عَلَىْ دُعائِهِمْ حَتَّىْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَإِذا طَلَعَ الْفَجْرُ يُنادِيْ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعاشِرَ الْمَلائِكَةِ: الرَّحِيْلَ الرَّحِيْلَ، فَيَقُوْلُوْنَ: يا جِبْرِيْلُ! فَما صَنعَ اللهُ فِيْ حَوائِجِ الْمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أُمَّةِ أَحْمَد - صلى الله عليه وسلم -؟ فَيَقُوْلُ: نَظَرَ اللهُ إِلَيْهِمْ فِيْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فَعَفا عَنْهُمْ إِلاَّ أَرْبَعَةً"، قلنا: يا رسول الله! من هم؟ قال: "رَجُلٌ مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَعَاقٌّ لِوالِدَيْهِ، وَقاطِعُ رَحِمٍ، وَمُشاحِنٌ"، الحديث (¬1). ¬
فائدة
وروى الإمام أحمد، والبزار، والطبراني بإسناد حسن صحيح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في ليلة القدر: "إِنَّها لَيْلَةُ سابِعَةٍ، أَوْ تاسِعَةٍ وَعِشْرِيْنَ، إِنَّ الْمَلائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِيْ الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَا" (¬1). * فَائِدَةٌ: قال أبو عبد الرحمن السلمي في "حقائقه" عن بعضهم في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4]. قال: نزول الملائكة في تلك الليلة لاسترواح قلوب العارفين. وقال في قوله تعالى: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}. نقلاً عن بعضهم أيضًا: بإذن الله تعالى للملائكة في زيارة عباده المؤمنين (¬2). فيستفاد من ذلك أن من أخلاق الملائكة - أيضًا - ترويح قلوب العارفين بالله تعالى؛ وذلك بالذِّكر والأنس. وفي الحديث: "أَرِحْنا بِها يا بِلالُ" (¬3)؛ أي: بالصَّلاة. ¬
ننبية
وروحها ذكر الله تعالى، والاقتراب منه؛ {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. وكذلك يستفاد منه أن من أخلاقهم زيارة المؤمنين، ولاسيما في الأوقات الفاضلة، والليالي المباركة، وهي من السنن المؤكدة. * نَنْبِيْةٌ: التشبه بالملائكة في شهود ليلة القدر، وإحيائها، والاحتفال بها خاص بهذه الأمة؛ لأنَّ هذه الليلة خاصة بهم. قال النووي في "شرح المهذب": ليلة القدر مختصة بهذه الأمة لم تكن لمن قبلنا (¬1). قال مالك - رضي الله عنه - في "الموطأ": بلغني أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُرِيَ أعمارَ النَّاس قبله، وما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] (¬2). وروى الدَّيلمي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ وَهَبَ لأُمَّتِيْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَلَمْ يُعْطِها مَنْ كانَ قَبْلَهُمْ" (¬3). * فَائِدَةٌ جَلِيْلَةٌ: روى أبو نعيم عن عمران بن خالد الخزاعي قال: كنت عند عطاء ¬
65 - ومن أخلاق الملائكة عليهم السلام - أيضا -: السرور بفطر هذه الأمة من رمضان،
جالسًا، فجاء رجل فقال: يا أبا محمد! إن طاوسًا يزعم أن من صلى العشاء، ئم صلى بعدها ركعتين يقرأ فيها في الأولى: {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2]، وفي الثانية " {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] , كتب له مثل وقوف ليلة القدر، فقال عطاء: صدق طاوس، ما تركتها (¬1). 65 - ومن أخلاق الملائكة عليهم السَّلام - أيضاً -: السرور بفطر هذه الأمة من رمضان، وحضور صلاة العيد معهم، والاستبشار باستيفاء أجورهم. ذكر ابن عبَّاس في حديثه المتقدم آنفاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَإِذا كانَتْ لَيْلَةُ الْفِطْرِ سُمِّيَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الْجَائِزَةِ، فَإِذا كانَتْ غَداةُ الْفِطْرِ بَعَثَ الله عز وجل الْمَلائِكَةَ فِيْ كُلِّ بِلادٍ، فَيَهْبِطُوْنَ إِلَىْ الأَرْضِ، فَيَقُوْمُوْنَ عَلَىْ أَفْواهِ السِّكَكِ، فَيُنادُوْنَ بِصَوْتٍ يُسْمَعُ مِنْ خَلْقِ اللهِ إِلاَّ الْجِنَّ وَالإِنْسَ، فَيَقُوْلُوْنَ: يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! اخْرُجُوْا إِلَىْ رَبٍّ كَرِيْمٍ، يُعْطِيْ الْجَزِيْلَ، وَيَعْفُوْ عَنِ الْعَظِيْمِ، فَإِذا بَرَزُوْا إِلَىْ مُصَلاَّهُمْ، يَقُوْلُ الله عز وجل لِلْمَلائِكَةِ: ما جَزاءُ الأَجِيْرِ إِذا عَمِلَ عَمَلَهُ؟ قالَ: فَتَقُوْلُ الْمَلائِكَةُ: إِلَهَنا، وَسَيِّدَنا! جَزاؤُهُ أَنْ تُوفِّيَهُ أَجْرَهُ، قالَ: فَيَقُوْلُ: إِنِّيْ أُشْهِدُكُمْ يا مَلائِكَتِيْ أَنِّيْ قَدْ جَعَلْتُ ثَوابَهُمْ مِنْ صِيامِهِمْ شَهْرَ رَمَضانَ، وَقِيامِهِمْ رِضائِيْ، وَمَغْفِرَتيْ، وَيقُوْلُ: يا عِبادِيْ! سَلُوْنِيْ فَوَعِزتَّيْ، وَجَلالِيْ لا تَسْأَلُوْنِيْ الْيَوْمَ شَيْئًا فِيْ جَمْعِكُمْ لآخِرَتكُمْ إِلاَّ أَعْطَيْتُكُمْ، وَلا لِدُنْياكُمْ إِلاَّ نَظَرْتُ لَكُمْ، فَوِعِزَّتِيْ لأَسْتُرَنَّ عَلَيْكُمْ ¬
66 - ومنها: اختيار صحبة الصالحين في السفر، والتنزه عن المسافرة مع أهل المعاصي،
عَثَراتِكُمْ ما رَاقَبْتُمُوْنِيْ، وَعِزَّتِيْ لا أُخْزِيْكُمْ، وَلا أَفْضَحُكُمْ بَيْنَ أَصْحابِ الْحُدُوْدِ، انْصَرِفُوْا مَغْفُوْراً لَكُمْ، قَدْ أَرْضَيْتُمُوْنِيْ، وَرَضِيْتُ عَنْكُمْ" (¬1). فتعرج الملائكة، وتستبشر بما يعطي الله عز وجل الأمة إذا أفطروا من شهر رمضان. 66 - ومنها: اختيار صحبة الصَّالحين في السفر، والتنزه عن المسافرة مع أهل المعاصي، وفي الرَّكْب الذي فيه كلب، أو جرس، أو نمر. وروى الطبراني بإسناد حسن، عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ راكِبٍ يَخْلُوْ فِيْ مَسِيْرِهِ بِاللهِ وَذِكْرِهِ إِلاَّ رَدِفَهُ مَلَكٌ، وَلا يَخْلُوْ بِشِعْرٍ وَغَيْرِهِ إِلاَّ رَدِفَهُ شَيْطانٌ" (¬2). وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَصْحَبُ الْمَلائِكَةُ رِفْقَةً فِيْها جُلْجُلٌ وَلا نَمِرٌ" (¬3). ¬
67 - ومنها: قصد البيت الحرام بالحج، والعمرة، والزيارة،
وروى هو، والإمام أحمد، ومسلم، والترمذي عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَصْحَبُ الْمَلائِكَةُ رِفْقَةً فِيْها كَلْبٌ، وَلا جَرَسٌ" (¬1). وروى النَّسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَصْحَبُ الْمَلائِكَةُ رِفْقَةً فِيْها جُلْجُلٌ" (¬2). وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود نحوه من حديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها (¬3). 67 - ومنها: قصد البيت الحرام بالحج، والعمرة، والزيارة، والطواف، والاعتكاف، وفعل ذلك. تقدم قول الملائكة لآدم عليهم السلام: بِرَّ حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام (¬4). وروى الأزرقي عن وهب بن مُنبِّه رحمه الله تعالى: أنه قرأ في بعض الكتب الأولى أن ليس من ملك بعثه الله تعالى إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت، فينقض من تحت العرش محرمًا ملبيًا حتى يستلم الحجر، ثم يطوف بالبيت سبعًا، ويركع في جوفه ركعتين، ثم يصعد (¬5). ¬
وروى الأزرقي - أيضًا - عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما: أن جبريل عليه السلام وقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه عصابة حمراء قد علاها الغبار، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما هَذا الْغُبارُ الَّذِيْ أَرَىْ عَلَىْ عِصابَتِكَ أَيُّها الرُّوْحُ الأَمِيْنُ؟ " قال: "إني زرت البيت، فازدحمت الملائكة على الركن، فهذا الغبار الذي ترى مما تثيره بأجنحتها" (¬1). وروى - أيضًا - عن عثمان بن يسار قال: بلغني - والله أعلم - أن الله تعالى إذا أراد أن يبعث ملكًا من الملائكة لبعض أمور في الأرض استأذنه ذلك الملك في الطواف ببيته، فيهبط الملك مهلاً (¬2). وروى - أيضًا - عن مقاتل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يصلي في البيت المعمور كل يوم سبعون ألف ملك، ثم يقومون إذا أمسوا فيطوفون بالكعبة، ثم يسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ينصرفون، ولا تنالهم النوبة حتى يوم القيامة (¬3). ونقل القرطبي في "تفسيره" عن الحسن: أنه قال في قوله تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)} [الطور: 4]: هو الكعبة البيت الحرام الذي هو معمور من الناس، فيعمره الله تعالى في كل سنة بست مئة ألف، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله تعالى بالملائكة، وهو أول بيت وضع للعبادة في الأرض (¬4). ¬
وذكره أبو طالب المكي، وأبو حامد الغزالي، وغيرهما حديثاً مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولفظه: "إِنَّ اللهَ وَعَدَ هَذا الْبَيْتَ أَنْ يَحُجَّهُ فِيْ كُلِّ سَنَةٍ سِتُّ مِئَةِ أَلْفِ إِنْسانٍ، فَإِنْ نَقَصُوْا أَكْمَلَهُمُ اللهُ تَعَالَىْ بِالْمَلائِكَةِ" (¬1). وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: أول من طاف بالبيت الملائكة (¬2). ورواه الطبراني في "الكبير" في أثناء حديث طويل من كلام ابن عبَّاس، ورجال إسناده ثقات (¬3). وذكر الشيخ جمال الدين أبو اليمن ابن الإمام محب الدين أبي جعفر الطبري رحمها الله تعالى في كتاب "التشويق إلى البيت العتيق" عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علىِّ رضي الله تعالى عنهم: أن الله تعالى لما قال للملائكة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]؛ ظنوا أن الله عز وجل غضب عليهم، فعاذوا بالعرش، فطافوا حوله سبعة ¬
أطواف يسترضون ربهم، فرضي عنهم، وقال لهم: ابنوا لي في الأرض بيتاً يعوذ به كلُّ من سخطتُ عليه من خلقي، ويطوف حوله كما فعلتم بعرشي، فأغفر له كما غفرت لكم، فبنوا هذا البيت (¬1). وروى الأزرقي عن القاسم بن عبد الرحمن الأنصاري، عن محمد ابن علي، عن أبيه علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم: أنه سئل عن بدء الطواف: لم كان؟ وأنَّى كان؟ وحيث كان؟ وكيف كان؟ فقال رضي الله تعالى عنه: أما بدء هذا الطواف بهذا البيت فإن الله تعالى قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، قالت الملائكة: أي ربِّ! خليفةً من غيرنا؟ ممن يفسد فيها، ويسفك الدِّماء، ويتحاسدون، ويتباغضون؟ ويتباغون؟ أي ربِّ! اجعل ذلك الخليفة منا؛ فنحن لا نفسد فيها، ولا نسفك الدماء، ولا نتباغض، ولا نتحاسد، ولا نتباغى، ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك، ونطيعك، ولا نعصيك، قال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. قال: فظنَّتِ الملائكة أن ما قالوه رد على ربهم عز وجل, وأنه قد غضب من قولهم، فلاذوا بالعرش، ورفعوا رؤوسهم، وأشاروا بالأصابع يتضرعون، ويبكون إشفاقاً لغضبه، وطافوا بالعرش ثلاث ساعات، فنظر الله تعالى إليهم، فنزلت الرحمة عليهم، فوضع الله سبحانه تحت ¬
العرش بيتا على أربع أساطين من زبر جد، وغشاه ياقوتة حمراء، وشممى: البيت الضُّراح، ثم قال الله عز وجل للملائكة: طوفوا بهذا البيت، ودَعُوا العرش. قال: فطافت الملائكة بالبيت، وتركوا العرش، وصار أهون عليهم، وهو البيت المعمور الذي ذكره الله عز وجل يدخله كل يوم وليلة سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبداً. ثم إنَّ الله عز وجل بعث ملائكة فقال: ابنوا لي بيتًا في الأرض بمثاله وقدره، فأمر الله تعالى من في الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت كما تطوف أهل السماء بالبيت المعمور. فقال السائل لعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: صدقت يا ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). هكذا كان الضُّرَاح - بضم الضاد المعجمة، وبالراء، والحاء المهملة -. قلت: وهذا الأثر صريح في أن الله تعالى أراد من أهل الأرض أن يتشبهوا بأهل السماء في الطواف بالبيت وأمرهم بذلك. وكذلك ما رواه الأزرقي - أيضًا - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض من الجنة كان رأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، وهو مثل الفلك في رعدته، قال: فطاطأ الله ¬
فائدة لطيفة
منه إلى ستين ذراعًا، فقال: يا ربِّ! ما لي لا أسمع أصوات الملائكة، ولا حسهم؟ قال: خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فابنِ لي بيتًا، فطف به، واذكرني حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي، قال: فأقبل آدم يتخطى، فطويت له الأرض، وقبضت له المفاوز، فصار كل مفازة يمر بها خطوة ... ، فذكر الحديث في بناء آدم البيت (¬1). والبيت الحرام بنته الملائكة أولاً، ثم عفا، ثم أمر آدم ببنائه ثانيةً، كما في الأثر. وبذلك يجمع بين ما ذكرناه آنفًا عن ابن عباس، وما ذكرناه قبله عن علي بن الحسين - رضي الله عنهم -. * فَائِدَةٌ لَطِيْفَةٌ: ذكر الإمام أبو سعيد الخركوشي رحمه الله تعالى في كتاب "شرف المصطفى - صلى الله عليه وسلم -": أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْكَعْبَةُ مَحْفُوْفَةٌ بِسَبْعِيْنَ أَلفاً مِنَ الْمَلائِكَةِ يَسْتَغْفِرُوْنَ لِمَنْ طافَ بِها، وَيُصَلُّوْنَ عَلَيْهِ" (¬2). ففي هذا الحديث أن من أعمال الملائكة الدعاء لعامة الطائفين، والصلاة عليهم. وقد تقدم لذلك نظائر، فينبغي الاقتداء بالملائكة في ذلك بتعميم الدعاء عند الكعبة، وغيرها من الأماكن الشريفة. ¬
لطيفة أخرى
وقد تلبس الإمام عمر بن عبد العزيز بهذه الخصلة الشريفة - فيما ذكره أبو سعيد - أيضًا - عن سفيان بن عيينة، عن ابن عبد الملك، قال: حجَّ عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه بالناس، فلما نظر إلى مجتَمَع الناس بعرفةَ قال: اللهم زد في إحسان محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وراجع بمسيئهم إلى التوبة، وحُطَّ من أوزارهم بالرَّحمة (¬1). قال ابن عيينة: هكذا يكون الراعي يدعو لأهل رعيته. قلت: وإذا كان الراعي داعيًا لأهل رعيته كان دعاؤه دليل الشفقة والرحمة، وبذلك يكون خيار الرعاة. وفي "صحيح مسلم" عن عوف بن مالك - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خِيارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِيْنَ تُحِبُّوْنَهُمْ، وَيُحِبُّوْنَكُمْ، وَتُصَلُّوْنَ عَلَيْهِمْ، وَيُصَلُّوْنَ عَلَيْكُمْ، وَشِرارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِيْنَ تُبْغِضُوْنَهُمْ، وُيبْغِضُوْنَكُمْ، وَتَلْعَنُوْنَهُمْ، وَيَلْعَنُوْنَكُمْ" (¬2). * لَطِيْفَةٌ أُخْرَىْ: ذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزيِّ رحمه الله تعالى في كتاب "مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن" عن وهيب بن الورد رحمه الله تعالى قال: كنت أطوف أنا وسفيان الثوري رضي الله تعالى عنه ليلاً، فانقلب سفيان، وبقيت في الطَّواف، فدخلت الْحِجْرَ، فصليت تحت الميزاب، ¬
68 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: التلبية في النسك وغيره
فبينا أنا ساجد إذ سمعت كلامًا بين أستار البيت والحجارة، وهو يقول: يا جبريل! أشكو إلى الله ثم إليك هؤلاء الطائفين حولي من تفكههم في الحديث، ولغطهم وسهوهم. قال وهيب: فأولت أن البيت شكى إلى جبريل عليه السَّلام (¬1). 68 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: التلبية في النُّسُكِ وغيره: روى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "التوبة" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَوَّلَ مَنْ لَبَّىْ الْمَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، قال اللهُ تَعَالَىْ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، فَرَادُّوْهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَطافُوْا بِالْعَرْشِ سِتَّ سِنِيْنَ يَقُوْلُوْنَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، اعْتِذاراً إِلَيْكَ، لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ نَسْتَغْفِرُكَ، وَنتُوْبُ إِلَيْك" (¬2). 69 - ومنها: لقاء الحجاج، ومصافحتهم، ومعانقتهم: قال أبو الليث السَّمرقنديُّ: روي في الخبر: أنَّ الملائكة يتلقون الحاج، فيسلمون على أصحاب الجِمال، ويصافحون أصحاب البغال والحمير، ويعانقون الرَّجَّالة (¬3). ¬
70 - ومنها: زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -
وروى البيهقي "الشعب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتُصافِحُ رُكَّابَ الْحَجِّ، وَتَعْتَنِقُ الْمُشاةَ (¬1). 70 - ومنها: زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: تقدم حديث مقاتل أن الملائكة الذين ينزلون من البيت المعمور كل يوم لزيارة البيت يزورون البيت، ثم يسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، وابن عدي في "الكامل" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِيْنَ فِيْ الأَرْضِ يُبَلِّغُوْنِيْ عَنْ أُمَّتِيْ السَّلامَ" (¬2). ولا يخفى أن مِنْ لازِمِ ذَلِكَ زيارتُهُ. وذكر أبو سعيد في "شرف المصطفى"، وابن الجوزي في "مثير الغرام الساكن" عن كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه قال: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفًا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم، ويصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا أمسوا عَرَجوا، وهبط مثلهم، فصنعوا مثل ذلك، حتى إذا انشقت الأرض خرج في سبعين ألفاً ¬
لطيفة
من الملائكة يوقرونه - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ورواه أبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن وهب بن منبه، عن كعب (¬2). * لَطِيْفَةٌ: لعل من منع زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3) والتوسل به، ولم يزره أشبه الناس بالشياطين (¬4)، كما أن من سن زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - والتوسل به، وزاره، وتوسل به أشبه الناس بالملائكة الحافين بقبره الشريف، المتقربين به إلى الله تعالى. ¬
وأكثر هذا الفريق يعتقدون أنَّه - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره، وأن زيارته في قبره كزيارته قبل موته، وهذه مسالة لا يشك فيها أحد من أهل البصائر. وقد روى الطبراني، والبزار، وابن عدي، وابن خزيمة، والدارقطني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ زارَنِيْ بَعْدَ وَفاتِيْ فَكَأَنَّما زارَنِيْ فِيْ حَياتِيْ" (¬1). وروى أبو نعيم، والبيهقي عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأَنْبِيَاءُ أَحْياءٌ فِيْ قُبُوْرِهِمْ" (¬2). وروى البيهقي، والأصبهاني في "الترغيب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِه، لَيَنْزِلَنَّ عِيْسَىْ بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِما السَّلامُ ثُمَّ لَئِنْ قامَ عَلَىْ قَبْرِيَ لأُجِيْبَنَّهُ" (¬3). ¬
وروى الخطيب في "رواة مالك" - وقال: حديث غريب جداً - عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما مرض أبي أوصاني أن يؤتى به قبر - صلى الله عليه وسلم -، ويقال: هذا أبو بكر يدفن عندك يا رسول الله، فإن أذن لكم فادفنوني، وإن لم يؤذن لكم فاذهبوا بي إلى البقيع، فأتي به إلى الباب، فقيل: هذا أبو بكر، وقد اشتهى أن يدفن عندك يا رسول الله، وقد أوصانا: إن أُذِنَ لنا دخلنا، وإن لم يؤذن لنا انصرفنا، فنودينا؛ أي: ادخلوا وكرامة. وروى أبو نعيم في "دلائل النبوة" عن سعيد بن المسيب قال: لقد رأيتني ليالي الحَرَّة وما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيري، وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان من القبر (¬1). وروى الأصهباني عن إبراهيم بن شيبان قال: حججت في بعض السنين فجئت المدينة، فتقدمت إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلمت عليه، فسمعت من داخل الحجرة: وَعَلَيْكَ السَّلامُ. وقد قلت في المعنى: [من الخفيف] إِنَّما قامَتِ الأَدِلَّةُ بِالنَّصِّ ... عَلَىْ وِفْقِ ما أَفادَ الشُّهُوْدُ ¬
أَنَّ خَيْرَ الْوَرَىْ وَكُل نبِيٍّ ... فِيْ حَياةِ هَيْئَةٍ لا تَبِيْدُ رُدَّتِ الرُّوْحُ بَعْدَ مَوْتٍ إِلَيْهِمْ ... إِنَّ رَبِّيْ كَمَا بَدَاهُمْ يُعِيْدُ إِنَّ أَرْضًا تُسْتَوْدَعُ الرُّسْلُ فِيْها ... لَيْسَ تَسْخُو أَنْ يَأْكُلَ الرُّسْلَ دُوْدُ إِنَّ مَنْ دُوْنَهُمْ إِذا ماتَ قَتْلاً ... لَيْسَ يَبْلَىْ لأَنَّ ذاكَ شَهِيْدُ فَهْوَ حَىٌّ وَالرِّزْقُ يَغْدُوْ عَلَيْهِ ... كُلَّ يَوْمِ وَراحَ وَهْوُ سَعِيْدُ أَتُرَىْ حِلْيَةُ النَّبِيِّيْنَ تَبْلَى ... دُوْنَ مَنْ دُوْنَهُمْ فَكَيْفُ تُفِيْدُ لَسْتَ - وَاللهِ - مُنْصِفًا لَوْ تَرَاهُ ... لا وَلا الْقَوْلُ فِيْهِ مِنْكَ سَدِيْدُ إِنَّ طَهَ الأَمِيْنَ إِنْ زُرْتَ قَبْراً ... ضَمَّ أَعْضاءَهُ وَأَنْتَ شَهِيْدُ فَإِذا ما سَلَّمْتَ أَنْتَ عَلَيْه ... مِنْ قَرِيْبٍ وَالشَّوْقُ مِنْكَ شَدِيْدُ
71 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام
رَدَّ مِنْ قَبْرِهِ السَّلامَ وَلَكِنْ ... لَيْسَ يُصْغِيْ إِلَىْ الْكلامِ بَلِيْدُ وَإِذا فُهْتَ بِالسَّلامِ عَلَيْهِ ... نائِيَ الدَّارِ وَالْمَزارُ بَعِيْدُ بَلَّغَتْهُ الْمَلائِكُ الْغُرُّ حَقًّا ... عَنْكَ ما كُنْتَ بِالسَّلامِ تَجُوْدُ عَجَباً مِنْكَ فِيْ الصَّلاةِ تُنادِيْ ... ذَاتَهُ أَيُّها النَّبِيُّ الْمَجِيْدُ وَتُحَييْهِ بِالْخِطابِ كِفاحاً ... ثُمَّ تَنْفِيْ حَياتَهُ وَتَمِيْدُ فَعَلَيْهِ الصَّلاةُ ما افْتَرَّ رَوْضٌ ... وَعَلَيْهِ السَّلامُ ما اخْضَرَّ عُوْدُ 71 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام: إبلاغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من سلم عليه وصلاته، كما تقدم في حديث ابن مسعود، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم. وروى البخاري في "تاريخه" عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَكاً أَعْطاهُ اللهُ أَسْماعَ الْخَلائِقِ، قائِمٌ عَلَىْ
72 - ومنها: الصلاة، والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -
قَبْرِيَ، فَما مِنْ أَحَدٍ يُصَلِّيْ عَلَيَّ صَلاةً إِلاَّ بُلِّغْتُها" (¬1). ورواه البزار، وغيره، ولفظه: "إِنَّ اللهَ تَعالَىْ وَكَّلَ بِقَبْرِيَ مَلَكاً أَعْطاهُ اللهُ أَسْماعَ الْخَلائِقِ، فَلا يُصَلِّ عَلَيَّ أَحَدٌ إِلَىْ يَوْمِ الْقِيامَةِ إِلاَّ أَبْلَغَنِيْ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيْهِ؛ هَذا فُلانٌ ابْن فُلانٍ صَلَّىْ عَلَيْكَ" (¬2). ويحصل على التشبه بالملائكة عليهم السلام في هذه الخصلة من يحمل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الزوار سلام من لم يستطع البلوغ إليه - صلى الله عليه وسلم -، وحمل الإنسان السلام عليه أمانة يتعيَّن على حاملها تأديتُها، وتحمُّلُ الزوارِ السَّلامَ إليه - صلى الله عليه وسلم - محبوب مقبول فعله العلماء والصالحون. وقد صح، واشتهر أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - كان يبرد البريد من الشام إلى المدينة للسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). 72 - ومنها: الصلاة، والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ¬
73 - ومنها: الإكثار من ذكره - صلى الله عليه وسلم - المبني على محبته المستتبعة للإكثار من الصلاة والسلام عليه.
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] أي: اقتدوا بالله، وملائكته في ذلك. وقد تقدم ما نقلناه عن كعب الأحبار في زيارة الملائكة لقبره الشريف. وروى ابن عساكر عن عبد الرَّحمن بن غُنْم رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَلَّمَ عَلَيَّ مَلَكٌ، ثُمَّ قالَ لِي: لَمْ أَزَلْ أَسْتَأْذِنُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِيْ لِقائِكِ حَتَّىْ كانَ هَذا أَوانَ أَذِنَ لِيْ أَنِّي أُبَشِّرُكَ: لَيْسَ أَحَدٌ أَكْرَمَ عَلَىْ اللهِ مِنْكَ" (¬1). وروى الديلمي عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَنْجاكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنْ أَهْوالِها وَمَواطِنِها أَكْثَرُكُمْ عَلَيَّ صَلاةً فِيْ دارِ الدُّنْيا، إِنَّهُ قَدْ كانَ فِيْ اللهِ وَمَلائِكَتِهِ كِفايَةٌ إِذْ يَقُوْلُ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنِيْنَ لِيُثيْبَهُمْ" (¬2). 73 - ومنها: الإكثار من ذكره - صلى الله عليه وسلم - المبنيُّ على محبته المستتبعة للإكثار من الصَّلاة والسَّلام عليه. فقد قالت عائشة رضي الله عنها: من أحب شيئاً أكثر من ذكره. ¬
74 - ومنها: موالاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومظاهرته، ومناصرته
ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديثها. وروى أبو القاسم الخَتلي في "دِيباجه"، وابن عساكر في "تاريخه" عن كعب الأحبار رحمه الله تعالى: أن الله أنزل على آدم عليه السَّلام عصيًا بعدد الأنبياء المرسلين، ثم أقبل على ابنه شيث عليه السَّلام فقال: أي بُنَيَّ! أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التقوى، والعروة الوثقى، وكلما ذكرت الله عز وجل فاذكر إلى جنبه اسم محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فإني رأيت اسمه مكتوبًا على ساق العرش - وأنا بين الروح، والطين - ثم إني طفت السماوات فلم أر في السماوات موضعًا إلا رأيت اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - مكتوبًا عليه، وإن ربي أسكنني الجنة، فلم أر في الجنة قصراً، ولا غرفة إلا رأيت اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - مكتوبًا عليه، ولقد رأيت اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - مكتوبًا على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب آجام الجنة، وعلى ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، فأكثر من ذكره؛ فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها (¬1). 74 - ومنها: موالاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومظاهرته، ومناصرته: قال الله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]. 75 - ومنها: محبة الصالحين، ومجالستهم، ومساعدتهم على ¬
76 - ومنها: محبة العلم، والعالم، والمتعلم، وكراهية الجهل، وأهله
طاعة الله تعالى، وتكثير سوادهم، ومؤانسة الغرباء: روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن كعب قال: إن إبراهيم عليه السلام شكى إلى الله تعالى فقال: يا رب! إني ليحزنني أني لا أرى أحداً في الأرض يعبدك، قال: فبعث الله تعالى ملائكة يصلون معه ويكونون معه (¬1). وسبق حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: "إِنَّ لِلْمَساجِدِ أَوْتاداً الْمَلائِكَةُ جُلَسَاؤُهُمْ؛ إِنْ غابُوْا يَفْتَقِدُوْهُمْ، وَإِنْ مَرِضُوْا عادُوْهُمْ، وَإِنْ كانُوْا فِيْ حاجَةٍ أَعانُوْهُم" (¬2). 76 - ومنها: محبة العلم، والعالم، والمتعلم، وكراهية الجهل، وأهله: وروى أبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ عَلَىْ بابِهِ مَلَكانِ، فَإِذا خَرَجَ قالا: اغْدُ عالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّماً، وَلا تَكُنِ الثَّالِثَ" (¬3). 77 - ومنها: الإرشاد إلى أفاضل العلماء، وزهادهم، والدلالة عليهم، والإشارة بالتعلم منهم، واستفتائهم: روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن سويد بن ¬
78 - ومنها: موالاة العلماء، ومخالطتهم، والتبرك بهم
إبراهيم قال: شهدت الحسن - يعني: البصري - وجاءته امرأة من بني تيم الله من عُبَّاد أهل البصرة لم يكن في زمانها أفضل منها، فقالت: يا أبا سعيد! إني رأيت في المنام فيما يرى النائم كأني أستفتي ملأً من الملائكة في المستحاضة، فقالوا: تستفتينا! وفيكم الحسن بيده خاتم جبريل عليه السلام؟ (¬1). 78 - ومنها: موالاة العلماء، ومخالطتهم، والتبرك بهم: روى أبو نعيم في "الحلية" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذا الْعِلْمِ أَقْوامًا فَيَجْعَلُهُمْ قاَةً يُقْتَدَىْ بِهِمْ فِيْ الْخَيْرِ، وَتُقْتَصُّ آثارُهُمْ، وَتُرْمَقُ أَعْمالُهُمْ، وَتَرْغَبُ الْمَلائِكَةُ فِيْ خُلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِها تَمْسَحُهُمْ" (¬2). 79 - ومنها: كتابة القرآن: قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 - 16]. روى ابن جرير عن ابن عباس في الآية؟ قال: هم الملائكة (¬3). ¬
80 - ومنها: تعلم العلم، وتعليمه والتأدب بالآداب اللائقة بطلبة العلم والعلماء
وقال مجاهد: السفرة: الكتبة [من] الملائكة. رواه عبد بن حُميد (¬1). وقال: القاضي البيضاوي في قوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس: 15]: كتبه من الملائكة ينسخون الكتب من اللوح (¬2). 80 - ومنها: تعلم العلم، وتعليمه والتأدب بالآداب اللائقة بطلبة العلم والعلماء: وقد تقدم ذلك في حديث سؤال جبريل عليه السلام عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، وأمارات الساعة، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هَذا جِبْرِيْلُ أَتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ" (¬3). 81 - ومنها: الوعظ، والنصيحة، والنطق بالحكمة: وهذا جبريل عليه السلام جاء بذلك كله إلى الأنبياء عليهم السلام. وقال وُهَيب بن الورد رحمه الله تعالى: بينما أنا في السوق إذ أخذ آخِذٌ بقفاي، فقال: وهيبُ! خف الله في قدرته عليك، واستحي من الله في قربك منه، فالتفتُّ فلم أر أحداً (¬4). وقال عبد العزيز بن أبان - وليس بالقرشي -: كنت أصلي ذات ¬
ليلة، أو كنت نائمًا فهتف بي هاتف: يا عبد العزيز! نظيف الثوب حسن الصورة يتقلب بين أطباق جهنم غداً (¬1). وقال عبد الواحد بن الخطاب: أقبلنا قافلين من بلاد الروم نريد البصرة، حتى إذا كنا بين الرصافة وحمص سمعنا صائحاً يصيح من تلك الرمال - سمعته الآذان، ولم تره الأعين - يقول: يا مستور! يا محفوظ! اعقل في ستر من أنت؛ فإن كنت لا تعقل في ستر من أنت فاتَّقِ الدنيا؛ فإنها حمى الله عز وجل، فإن كنت لا تتقيها فاجعلها شَرَكًا، ثم انظر أين تضع قدميك منها (¬2). وقال رجاء بن عيسى: قال لي عمرو بن حزم: أتدري أي شيء كانت توبتي؟ خرجت مع أحداث بالكوفة، فلما أردت آتي المعصية هتف بي هاتف: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] (¬3). وقال زِرُّ بن أبي أسماء: إن رجلاً دخل غَيْضَة، فقال: لو خلوت هاهنا بمعصية من كان يراني؟ فسمع صوتًا ملأ ما بين لابتي الغيضة: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] (¬4). ¬
82 - ومنها: قولهم فيما لا يعلمون: "لا علم لنا"، أو: "لا ندري"
وقال المستلم بن سعيد: كان رجل بأرض طبرستان - قال: وهي أرض آسية كثيرة الشجر - قال: فبينما هو يسير إذ نظر إلى ورق الشجر قد جف، فتساقط، وتراكم بعضه على بعض، فجعل يفكر في نفسه وهو يسير: أترى الله عز وجل يحصي هذا كله؟ فسمع منادياً ينادي: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] (¬1). روى هذه الآثار ابن أبي الدنيا في كتاب "الهواتف". وأقرب ما يحمل عليه ما فيها أن الهواتف بهؤلاء من الملائكة عليهم السَّلام. 82 - ومنها: قولهم فيما لا يعلمون: "لا علم لنا"، أو: "لا ندري": قال الله تعالى حكاية عن الملائكة عليهم السلام: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]. قال القرطبي: الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: (الله أعلم)، و: (لا أدري) اقتداء بالملائكة، والأنبياء، والفضلاء من العلماء (¬2). انتهى. وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا علم لي بها، فقيل: ألا تستحيي؟ قال: ولِمَ أستحيي مما لم تستحِ منه ملائكة الرحمن حين قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]؟ . ¬
وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن جُبير بن مُطْعِم رضي الله تعالى عنه، وأبو يعلى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أي البلاد شر؟ " قال: "لا أَدْرِيْ حَتَّىْ أَسْأَلَ"، فسأل جبريل عليه السلام عن ذلك، فقال: "لا أدري حتى أسأل"، فانطلق ثم جاء، فقال: "إني سألت ربي عن ذلك، فقال: شر البلاد الأسواق" (¬1). قال الحاكم: هذا الحديث أصل في قول العالم: (لا أدري) (¬2). وروى ابن حبان في "صحيحه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ البقاع شر؟ فقال: "لا أَدْرِيْ حَتَّىْ أَسْأَلَ جِبْرِيْلَ"، فسأل جبريل فقال: "لا أدري حتى أسأل ميكائيل"، فجاءه فقال: "خيرُ البقاعِ المساجدُ، وشرُّها الأسواقُ" (¬3). وروى ابن مردويه بأسانيدَ حِسانٍ، عن جابر بن عبد الله، وعن قيس ابن سعد بن عبادة، وعن أنس بن مالك - وكلهم من الأنصار - رضي الله عنهم -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] قال لجبريل: "ما هَذا؟ " قال: "لا أدري حتى أسأل العليم"، ثم رجع فقال: "إن ربك يأمرك أن تَصِلَ من قطعك، ¬
وتعطيَ من حرمك، وتعفوَ عن من ظلمك" (¬1). وأنشد القرطبي ليزيد بن الوليد بن عبد الملك (¬2)، واستحسنه: [من المتقارب] إِذا ما تَحَدَّثْتُ فِيْ مَجْلِسٍ ... تَنَاهَىْ حَدِيْثِيْ إِلَىْ ما عَلِمْتُ وَلَمْ أَعْدُ عِلْمِيْ إِلَىْ غَيْرِهِ ... وَكانَ إِذا مَا تَناهَىْ سَكَتُّ (¬3) وقلت: وذيلت عليه بقولي: [من المتقارب] وَلَوْ جاءَنِيْ أَحَدٌ سائِلاً ... عَنِ الشَّيْءِ أَعْلَمُهُ لأَفَدْتُ وَقُلْتُ لِمَا لَمْ أَكُنْ عَالِماً ... بِهِ إِنْ أَكُنْ عَنْهُ يَوْمًا سُئِلْتُ إِلَيْكَ اعْتِذارِيَ لا عِلْمَ لِيْ ... بِهَذا وَلا غَرْوَ فِيْما فَعَلْتُ ¬
83 - ومنها: التواضع مع الأستاذ، وتعظيم حرمته، والتأدب معه
مَلائِكَةُ اللهِ قَبْلِيْ أَجابُوْا ... إِلَهَ السَّماءِ بِما قَدْ أَجَبْتُ 83 - ومنها: التواضع مع الأستاذ، وتعظيم حرمته، والتأدب معه: قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 31] إلى قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة: 34]. قيل: أراد به السجود الحقيقي تعظيمًا لآدم عليه السلام. وقيل: أراد بالسجود التواضع لآدم، والتذلل له (¬1). وذكر النقَّاش في تفسير هذه الآية: أن الملائكة لما أُمروا بالسجود كان أولهم سجوداً إسرافيل عليه السَّلام فلذلك منحه الله تعالى علم اللوح المحفوظ (¬2). قلت: وفيه إشارة إلى أن من كان من التلامذة أو المريدين أسرع إلى خدمة الأستاذ والشيخ وأطيب نفسًا بها، كان أرقى في وراثة علم الأستاذ وأقرب؛ فإن علم اللوح المحفوظ المحيط بمجريات الكون التي سبق بها القضاء والقدر، إنما جُوزيَ به إسرافيل عليه السلام على مبادرته إلى السجود لآدم الذي أقامه الله تعالى في مقام الأستاذية والتربية للملائكة عليهم السَّلام لكونه أشبه بعلم آدم بالأسماء كلها. ¬
84 - ومنها: الشفقة، والعطف على ولد الأستاذ وذريته - خصوصا
وروى ابن عساكر في "تاريخه" عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه قال: لما أمر الله تعالى الملائكة بالسُّجود لآدم عليهم السَّلام، كان أول من سجد إسرافيل عليه السَّلام، فأثابه الله أن كتب القرآن في جبهته (¬1). وروى ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في "العظمة" نحوه عن ضَمْرة (¬2). ولا يخلو إما أن يراد بالقرآن جميع كتب الله، أو القرآن المنزل على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعلى كلا الوجهين، فإن القرآن شبيه بعلم آدم الأسماء كلها، بل جميع العلوم في القرآن. 84 - ومنها: الشفقة، والعطف على ولد الأستاذ وذريته - خصوصاً العلماء منهم، والصالحون -؛ فإن للملائكة عليهم السلام من الشفقة والعطف على أولاد آدم الذي هو أستاذ الملائكة ما لا يخفى، ولذلك يستغفرون لهم، ويصلون عليهم، كما تقدم. 85 - ومنها: التواضع لوجه الله تعالى، خصوصًا مع العلماء، وطلبة العلم: وروى أبو نعيم في "الحلية" عن كعب قال: اطلبوا العلم لله، ¬
وتواضعوا فيه؛ فإن الملائكة تتواضع لله (¬1). وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، والحاكم، عن صفوان بن عسال - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ خارِجٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ فِيْ طَلَبِ الْعِلْمِ إِلاَّ وَضَعَتِ الْمَلائِكَةُ أَجْنِحَتَها رِضًى بِما يَصْنَعُ" (¬2). وروى البزار عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ طالِبَ الْعِلْمِ تَبْسُطُ الْمَلائِكَةُ لَهُ أَجْنِحَتَها، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُ" (¬3). وروى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، وغيرهم عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ سَلَكَ طَرِيْقًا يَلْتَمِسُ فِيْهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيْقاً إِلَىْ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَها لِطالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بِما يَصْنَعُ، وَإِنَّ الْعالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِيْ السَّماواتِ وَمَنْ فِيْ الأَرْضِ، حَتَّىْ الْحِيْتانُ فِيْ الْمَاءِ"، الحديث (¬4). وهذا الباب فيه أحاديث كثيرة. ¬
قد ألهمني الله تعالى في وضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم وللعالم: أن الملائكة رأت لطالب العلم والعالم عليها حقين: الأول: أنه ولد أستاذها، ومعلمها؛ أعني: آدم عليه السَّلام. الثاني: أنه أراد الاقتداء بأبيه، ومشابهته في التعلم والتعليم؛ فلذلك خصته بوضع الأجنحة له تواضعاً زيادة على ما هي عليه من المودة والشفقة على سائر المؤمنين من بني آدم كما تواضعت لأبيه آدم بالسُّجود. وهذا من لطائف العلم. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى في مؤلف جمع فيه كلام أبي علي الدقاق أستاذه: وسمعته يقول في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَها لِطالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ" (¬1)، قال: أراد به التواضع على جهة التشريف كقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} [الشعراء: 215] وقوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء: 24]. قال: وقيل: على الحقيقة تضع أجنحتها لهم فيمشون عليها، ولا ندركها للطافة أجسامهم. ويحتمل أنه أراد بها يوم القيامة يضعون أجنحتهم لطالب العلم، ويحملونهم إلى الجنة. قال الله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85]؛ ركبانًا على أجنحة الملائكة. ¬
تنبيه، وموعظة
قال: ثم هذا لطالب العلم، فكيف بمن طلب المعلوم؟ انتهى. وأراد بالمعلوم: الله تعالى. وعندي أن الملائكة عليهم السَّلام إنما تضع أجنحتها لمن أراد بعلمه وجهه سبحانه وتعالى لقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، ومن كان علمه محموداً عند الله تعالى. فاما من طلب علمًا مذموماً؛ كالسحر والكهانة، أو محموداً لغير الله تعالى لم تفعل الملائكة معه ذلك؛ لأنه من بُغَضَاءِ الله تعالى وأعدائه، وهم إنما يتواضعون مع أحبائه وأوليائه. وأيضاً فإن الشياطين رفقاء مَنْ هذا وَصْفُهُم كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221، 222]، والملائكة، والشياطين لا يجتمعون؛ فافهم! نعم، يتفاوت تواضعهم مع العلماء المصلحين من المخلصين على قدر تفاوت درجاتهم في العلم الصالح، وفي الإخلاص فيه. * تَنْبِيْهٌ، وَمَوْعِظَةٌ: أخبرنا شيخ الإسلام والدي إجازة عن الشيخ أبي الفتح المزي، عن شيخ الإقراء ابن الجزري صاحب "النشر"، وغيره [ح] وأخبرنا - أيضًا - عن البرهان بن أبي شريف، عن الزين القباني؛ كلاهما عن ابن الخباز، عن شيخ الإسلام أبي زكريا النواوي، أنا الأنباري، أنا الحافظ عبد القادر الرهاوي، أنا عبد الرحيم بن علي الشاهد، أنا محمَّد بن طاهر المقدسي
الحافظ، أنا أبو الفتح المفيد، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن طلحة بن سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، سمعت أبا يحيى زكريا بن يحيى السَّاجي قال: كنا نمشي، وكان معنا رجل ماجن متهم في دينه، فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة - كالمستهزى" -، فما زال من موضعه حتى جفت رجلاه، وسقط (¬1). قال الحافظ عبد القادر: إسناد هذه الحكاية كالأخذ باليدين، أو كرأي العين؛ لأن رواتها أعلام، وراويها الإمام (¬2). قلت: وكذلك الرواة بيننا وبين الرهاوي كلهم أعلام مشاهير، وتوثيقهم وتعديلهم لا يحتاج إلى مزيد تقدير رحمهم الله تعالى. وبالإسناد إلى محمد بن طاهر قال: أنا يحيى بن الحسن العلوي، أنا الحسن العتيقي، قال: سمعت عبد الله بن محمد بن محمد العكبري قال: سمعت محمد بن عبد الله بن محمد بن يعقوب الْمَتُّوْثِي، قال: سمعت أبا داود السجستانيَّ يقول: كان في أصحاب الحديث رجل خليع إلى أن سمع لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - "إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بِما يَصْنعُ" (¬3)، فجعل في رجليه مسمارين من حديد، وقال: أريد ¬
86 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: الأمر بالسنة، ووفاء الحقوق، والحث على المحافظة على ذلك.
أن أطأ أجنحة الملائكة، فأصابته الأَكِلَة في رجله. قال النووي رحمه الله تعالى: الْمَتُّوْثِىُّ: بميم مفتوحة، ثم تاء مثناة من فوق مشددة مضمومة، ثم واو ساكنة، ثم ثاء مثلثة، ثم ياء النسب. وقال: ذكر الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن الفضل في كتابه في "شرح صحيح مسلم" هذه الحكاية، وقال فيها: فَشُلَّتْ يداه، ورجلاه، وسائر أعضائه. قال: ورأيت في بعض الروايات أنه تفسخت بنيته (¬1). 86 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: الأمر بالسنة، ووفاء الحقوق، والحث على المحافظة على ذلك. روى الإمام أحمد، والطبراني بسند صحيح، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما جاءَنِيْ جِبْرِيْلُ قَطُّ إلَّا أَمَرَنِي بِالسِّواكِ، حَتَّىْ لَقَدْ خَشِيْتُ أَنْ أُحْفِيَ مُقَدَّمَ فَمِيْ" (¬2). وروى الشيخان، وغيرهما عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما زالَ جِبْرِيْلُ يُوْصِيْنِيْ بِالْجارِ حَتَّىْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ" (¬3). ¬
وروى البيهقي بسند حسن، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما زالَ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ يُوْصِيْنِيْ بِالْجارِ حَتَّىْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ، وَما زالَ يُوْصِيْنِيْ بِالْمَمْلُوْكِ حَتَّىْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَضْرِبُ لَهُ أَجَلاً أَوْ وَقْتًا إِذا بَلَغَهُ عَتُقَ" (¬1). وروى الحكيم الترمذي عن حنظلة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما جاءَنِيْ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلاَّ أَمَرَنِيْ بِهاتَيْنِ الدَّعْوَتَيْنِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِيْ طَيِّباً، وَاسْتَعْمِلْنِيْ صالِحًا" (¬2). إلى غير ذلك من أحاديث الإرشاد إلى الأعمال الصَّالحات المروية عن جبريل عليه السَّلام. ومن لطائف الشيخ أبي النجيب عبد القاهر السُّهروردي قوله رضي الله تعالى عنه: [من المتقارب] أَداءُ الْحُقُوْقِ دَلِيْلُ الْكَرَمْ ... وَفِيْ ذاكَ مَرْضاةُ مَوْلَىْ الأُمَمْ وَمَنْ قامَ لِلَّهِ فِيْ خَلْقِهِ ... بِحُسْنِ الرِّعايَةِ حازَ النِّعَمْ ¬
87 - ومنها: الدعاء إلى الله تعالى، والتذكير بآلائه، والتزهيد في
87 - ومنها: الدعاء إلى الله تعالى، والتذكير بآلائه، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والدعاء للمنفقين، وعلى الممسكين، ولا يقال: (منفق) إلا إذا أنفق في وجوه الخير، وإلا فهو غارم وخاسر. وروى الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه، واللفظ له، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلاَّ بُعِثَ بِجَنْبَتَيْها مَلَكانِ؛ إِنَّهُما يُسْمِعانِ أَهْلَ الأَرْضِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ: يا أَيُّها النَّاسُ! هَلُمُّوْا إِلَىْ رَبِّكُمْ، فَإنَّ ما قَلَّ وَكَفَىْ، خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَىْ، وَلا غَرَبَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلاَّ وَبُعِثَ بِجَنْبَتَيْها مَلَكانِ يُنادِيانِ: اللَّهُمَّ عَجِّلْ لِمُنْفِقٍ خَلَفًا، وَعَجِّلْ لِمُمْسِكٍ تَلَفًا (¬1). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ صَباحٍ يُصْبحُ الْعِبادُ فِيْهِ إِلاَّ وَمَلَكانِ يَنْزِلانِ فَيَقُوْلُ أَحَدُهُما: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُوْلُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً" (¬2). ورواه ابن حبان في "صحيحه"، ولفظه: "إِنَّ مَلَكًا بِبابٍ مِنْ أَبْوابِ الْجَنَّةِ ... " (¬3). ¬
88 - ومنها: الإيجاز في الخطبة والتذكرة.
ورواه الطَّبراني: "بِبابٍ مِنْ أَبْوابِ السَّماءِ يَقُوْلُ: مَنْ يُقْرِضِ الْيَوْمَ يُجْزَ غَداً، وَمَلَكٌ بِبابٍ آخَرَ يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وَأَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً" (¬1). وروى أبو نعيم عن الأوزاعي قال: بلغني أن في السماء ملكاً ينادي كل يوم: ألا ليت الخلائق لم يخلقوا، أو: يا ليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا له، وجلسوا مجلساً، وذكروا ما عملوا (¬2). 88 - ومنها: الإيجاز في الخطبة والتذكرة. وروى الطبراني في "معجمه الصغير"، و"الأوسط" عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قالَ لِيْ جبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفارِقُهُ، وَاعْمَلْ ما شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلاقِيْهِ، وَعِشْ ما شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ". وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْجَزَ لِيْ جِبْرِيْلُ فِيْ الْخُطْبَةِ" (¬3). 89 - ومنها: النصيحة للمسلمين: كما يستدل لذلك بالخصال المذكورة آنفاً، وفيما سبق. وروى أبو نعيم في "الحلية" عن مُطَرِّف رحمه الله تعالى قال: ¬
90 - ومنها: الصدق، وتصديق أهل الصدق
وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش العباد لعباد الله الشياطين (¬1). 90 - ومنها: الصدق، وتصديق أهل الصدق: قال الله تعالى حكاية عن رسل إبراهيم عليه السَّلام: {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}: [الحجر: 64]. وتقدم قول جبريل عليه السَّلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين أجابه عن سؤاله عن الإسلام، والإيمان، والإحسان: " صدقت، ... صدقت" (¬2). 91 - ومنها: الجهاد في سبيل الله: روى مسلم، وغيره عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلث مئة وسبعة عشر رجلاً، فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة، ثم مد يده، فجعل يهتف بربه مادًّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبه، فأتاه أبو بكر - رضي الله عنه - فأخذ رداءه، فألقاه عن منكبه، ثم التزمه من ورائه، فقال: يا نبي الله! كذلك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] الآية. ¬
فائدة
قال: وأمده الله تعالى بالملائكة. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فبينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسَّوط فوقه، وصوت الفارس: أقْدِم حَيزوم؛ إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه لضربة السوط (¬1)، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري، وحدث بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّماءِ الثَّالِثَةِ"، فقتلوا يومئذٍ سبعين، وأسروا سبعين (¬2). وروى البيهقي عن خارجة بن إبراهيم رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل من القائل يوم بدر من الملائكة: "أقدم حَيْزُوم (¬3) "، فقال جبريل عليه السَّلام: "ما كل ملائكة السماء ... " (¬4). * فَائِدةٌ: روى الطبراني عن رافع بن خَديج - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ لِلْمَلائِكَةِ الَّذِيْنَ شَهِدُوْا بَدْراً فِيْ السَّماءِ لَفَضْلاً عَلَىْ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ" (¬5). ¬
وروى البخاري عن معاذ بن رَفاعة الزُّرقي، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر رضي الله عنه - قال: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما تَعُدُّون أهل بدرِ فيكم؟ قال: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِيْنَ" - أو كلمة نحوها -، قال: "كذلك من شهد بدراً من الملائكة" (¬1). وروى أبو نعيم في "معرفة الصحابة" عن رفاعة بن رافع بن مالك قال: سمعت أبي يقول: إن جبريل عليه السلام قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف أهل بدر فيكم؟ قال: هُمْ أَفاضِلُنا"، فقال جبريل عليه السلام: "ومن شهد بدراً من الملائكة هم أفاضلنا" (¬2). قال شيخ الإسلام الوالد في "تفسيره": [من الرجز] وَمالِكٌ رَوَىْ بَلاغاً أَنْ سَأَلْ ... نبِيَّنَا جِبْرِيْلُ ما هُوَ مَحَلْ غُزاةِ بَدْرٍ فِيْكُمُ قالَ الْخِيارْ ... فَقالَ إِنَّهُمْ كَذَلِكَ يُشارْ إِلَيْهِمُ فِيْنا فَدَلَّ ذَلِكْ أَنَّ ... اصْطِفاءَ النَاسِ وَالْمَلائِكْ ¬
تنبيه
لَمْ يَكُ بِالذَّاتِ وَلَكِنْ بِالْفِعالْ ... وَأَنَّ مِنْ أَفْضَلِ الأعْمالِ الْقِتالْ * تَنْبِيهٌ: روى محمد بن جرير الطبري، والبيهقي، وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيض أرسلوها في ظهورهم ويوم حنين عمائم حمر، ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عدداً، ومدداً، لا يضربون (¬1). وقوله: (لم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر)؛ أي: في حروب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي مشهد الناس. ويجوز أنها كانت تقاتل في بعض حروبه غير بدر، ولم يشهدها أحد، ولم يخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، أو لم يبلغ ابن عباس ذلك، وهذا أحسن الأوجه كلها. وقد صح أنهم قاتلوا في أُحُدٍ أيضاً. فروى الشيخان عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: رأيت يوم أحد عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن يساره رجلين عليهما ثياب ¬
بيض يقاتلان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما رأيتهما قبل ذلك، ولا بعده (¬1)؛ يعني: جبريل، وميكائيل عليهما السَّلام. وروى الطبراني، وغيره عن محمود بن لَبيد رضي الله تعالى عنه قال: قال الحارث بن الصِّمَّة - رضي الله عنه -: سألني النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وهو في الشِّعْبِ عن عبد الرَّحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه فقلت: رأيته إلى جنب الجبل، فقال: "إِنَّ الْمَلائِكَةَ تُقاتِلُ مَعَه". قال الحارث: فرجعت إلى عبد الرَّحمن، فأجد بين يديه سبعة صرعى، فقلت: ظفرت عينك! أكلَّ هؤلاء قتلت؟ قال: أَمَّا هذا وهذا فإني قتلتهما، وأما هؤلاء فقتلهم من لم أره، فقلت: صدق الله ورسوله (¬2). ومن مقاتلة الملائكة عليهم السَّلام في غير حروب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قاله الشيخ أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري الحافظ في كتاب "المقامات العلية في الكرامات الجلية"، وهي قصيدة عينية نظمها في كرامات بعض الصحابة، وشرحها، وقال فيها بعد أن مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر مناقب أصحابه رضي الله تعالى عنهم: [من الكامل] وَسَرَتْ سَرِيْرَتُنا إِلَىْ أَصْحابِه ... فَلَهُمْ خَوارِقُ ما ادَّعاها مُدَّعِيْ ¬
92 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: تكثير سواد
فَلِعَسْكَرِ الصِّدِّيْقِ إِمْدادُ السَّما ... وَلَمْ تَلُحْ مِنْ بَعْدِها فِيْ مَجْمَعِ ثم قال في الشرح المذكور: أما شهود الملائكة الحروب التي كانت في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فذكره الثعلبي، وغيره من المفسرين. قال: وذكر وليمة بن موسى في كتاب "الردة" في قتالِ خالدِ بن الوليد رضي الله تعالى عنه مسيلمةَ أن غلامين من أهل اليمامة من بني يَشْكُر نظر أحدهما في اليوم الأول من أيام القتال، فقال لأخيه: هل ترى ما أرى؟ قال: نعم، قال: فما ترى؟ قال: أرى ملائكة تنزل من السماء بأيديها سيوف من نار تضرب وجوه القوم وأدبارهم، فقال: لقد رأيت. ذكر الخبر، وذكر فيه قولهما لخالد رضي الله تعالى عنه: لقينا ملائكة السماء وبأيديها (¬1) سيوف من نار، فخفنا يوماً كيوم بدر. ا. هـ. 92 - ومن خصال الملائكة عليهم السَّلام: تكثير سواد المجاهدين، كما علمت من خبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وروى الإمام أحمد، والبزار وصححه، والبيهقي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قيل لي ولأبي بكر رضي الله تعالى عنه يوم بدر؛ قيل لأحدنا: "معك جبريل"، وقيل للآخر: "معك ميكائيل"، قال: وإسرافيل ¬
93 - ومنها التسويم في الحرب
ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل، ويكون في الصَّف (¬1). 93 - ومنها التسويم في الحرب: قال الله تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]. قرأ أبو عمر، وابن كثير، وعاصم: {مُسَوِّمِينَ} - بكسر الواو - على أنه اسم فاعل؛ أي: معلمين أنفسهم، وخيلهم، أو مرسلين خيلهم في الغارة. وقرأ الباقون بفتح الواو على أنه اسم مفعول؛ أي: معلمين بعلامات. واختلف في تلك العلامات، فقال علي رضي الله تعالى عنه: إن الملائكة اعتمت بعمائم بيض أرسلوها بين أكتافهم، وذلك في يوم بدر (¬2). وتقدم عن ابن عباس نظيره، واستثنى منهم جبريل عليه السَّلام؛ فإنه كان بعمامة صفراء على مثال الزُّبير بن العوَّام رضي الله تعالى عنه. روى أبو نعيم في "فضائل الصحابة" عن عروة رحمه الله تعالى ¬
قال: نزل جبريل عليه السلام يوم بدر على سيما الزبير وهو معتجر بعمامة صفراء (¬1). وروى هو، وابن عساكر عن عباد بن عبد الله بن الزُّبير: أنه بلغه أن الملائكة نزلت يوم بدر وهم طير بيض عليهم عمائم صفر، وكان على رأس الزبير يومئذٍ عمامة صفراء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نزَلَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَىْ سِيْما أَبِيْ عَبْدِ الله"، قال: وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه عمامة صفراء (¬2). وروى ابن أبي شيبة، وابن جرير، وغيرهما عن عبد الله بن الزُّبير رضي الله تعالى عنهما: أن الزُّبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجراً بها، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر (¬3). وروى الطَّبراني بسند ضعيف، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود، ويوم حنين عمائم حمر (¬4) (¬5). ¬
وروى هو، وابن إسحاق عنه قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمر (¬1) (¬2). وقيل: كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بُلْقٍ (¬3). وروى البيهقي، وابن عساكر عن سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه قال: رأيت يوم بدر رجالاً بيضا على خيل بُلْقٍ بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون (¬4). وروى ابن أبي شيبة، وغيره عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها (¬5). ¬
وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في قوله: {مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]؛ قال: بالعِهْن الأحمر (¬1). وروى هو، وابن أبي شيبة عن مجاهد في قوله: {مُسَوِّمِينَ}؛ قال: معلمين، مجزوز أذناب خيولهم، ونواصيها فيها الصُّوف والعِهْن (¬2). قلت: هذا يصلح أن يكون أصلاً فيما يعتاده الناس من جز أذناب الخيل ونواصيها، لكنهم يخصون ذلك بصغار الخيل المركوبة، والله الموفق. وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر لأبي بكر - رضي الله عنه -: "أَبْشِرْ يا أَبا بَكْرٍ، هَذا جِبْرِيْلُ مُعْتَجِرٌ بِعَمامَةٍ صَفْراءَ آخِذٌ بِعِنانِ فَرَسِهِ بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ" (¬3). قال في "القاموس": الاعتجار: لف العمامة دون التلحي (¬4). ¬
94 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: ركوب الخيل
وفي "النهاية": إنه لف العمامة على رأسه، ورد طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئاً تحت ذقنه (¬1). قلت: وهذه الهيئة لائقة بالحرب؛ فإن في كشف الوجه دون التلحي إظهاراً للشجاعة، وكمالاً للمبارزة، وفي رد طرف العمامة على الوجه ضبطا لها وصيانةً عن السقوط عند الفروسية والطعان. وفي جميع ما ذكرناه دليل على اتخاذ الشارة والعلامة لطوائف المقاتلة وكتائبها، يجعلها السلطان أو نائبه لهم لتتميز كل كتيبة وطائفة من غيرها، ونص عليه القرطبي في "تفسيره" (¬2). وروى ابن جرير عن عكرمة في قوله: {مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]؛ قال: عليهم سيما القتال (¬3). قلت: وهذا شامل للبس الدرع، والمِغْفَر، وحمل السلاح، والدَّرْق، وغير ذلك من آلات القتال. وعليه: فمن تلبس بذلك كله فهو متشبه بالملائكة عليهم السَّلام. 94 - ومن خصال الملائكة عليهم السَّلام: ركوب الخيل في الحرب - وخصوصاً البُلْق - لما تقدم من فعل الملائكة يوم بدر من نزولهم على خيل بُلْقٍ. ¬
95 - ومنها: معاونة المجاهدين، ومساعدتهم، وحس الكلال عنهم وعن دوابهم.
قال القرطبي: ولعلهم نزلوا على الخيل البُلْقِ موافقة لفرس المقداد رضي الله تعالى عنه؛ فإنه كان أبلق، ولم يكن لهم فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البُلْقِ إكراماً للمقداد، كما نزل جبريل عليه السَّلام معتجراً بعمامة صفراء على مثال الزُّبير - رضي الله عنه - (¬1). قلت: وفي ذلك إشارة إلى استحباب الملائكة عليهم السَّلام للتشبه بالصالحين، وقد تقدم نظير ذلك. وفي كون فرس المقداد وخيل الملائكة بلقاً في بدر، وحصول النصرة فيها دليل واضح على يُمْنِ الخيل البلق، ورَدّ على من يتطير بالفرس الأبلق، والله الموفق. 95 - ومنها: معاونة المجاهدين، ومساعدتهم، وحَسُّ الكَلال عنهم وعن دوابهم. روى محمَّد بن سعد في "طبقاته" عن محمود بن لَبيد رضي الله تعالى عنه قال: حدثنا عبيد بن أوس قال: لما كان يوم بدر أسرت العباس وعقيل بن أبي طالب، فلما نظر إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَعانَكَ عَلَيْهِما مَلَكٌ كَرِيْمٌ" (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن محمد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أحد: "اقْدُمْ مُصْعَبُ"، فقال له عبد الرَّحمن ¬
ابن عوف رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! ألم يقتل مصعب؟ قال: "بَلَىْ، وَلَكِنْ مَلَكٌ قامَ مَقامَهُ، وَتَسَمَّىْ بِاسْمِهِ" (¬1). وروى ابن عساكر، وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد فيرده علي رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه حتى كان بعد، فظننت أنه ملك (¬2). وروى هو، والبيهقي عن عمير بن إسحاق قال: لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسعد يرمي بين يديه، وفتى ينبل له، . كلما ذهبت نبَلة أتاه بها، وقال: ارم أبا إسحاق! فلفَا فرغوا نظروا مَنِ الشَّابُ، فلم يروه، ولم يُعرف (¬3). وروى الطبراني في "معجمه الكبير" عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَنْزِلُوْنَ فِيْ كُلِّ لَيْلَةٍ يَحُسُّوْنَ الْكَلالَ (¬4) عَنْ دَوابِّ الْغُزاةِ إِلاَّ دابَّةً فِيْ عُنُقِها جَرَسٌ" (¬5). ¬
96 - ومنها: تثبيت المجاهدين، وتشجيعهم
وروى الخطيب البغدادي في "تالي التلخيص" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح فرساً له بثوبه ويقول: "عاتَبَنِيْ فِيْهِ جِبْرِيْلُ الْبارِحَة". وروى أبو داود في "المراسيل" عن نعيم بن أبي هند رحمه الله تعالى: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بفرس، فقام إليه يمسح وجهه وعينيه ومنخريه بكُمّ قميصه، فقيل: يا رسول الله! تمسح بكم قميصك؟ فقال: "إِنَّ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عاتَبَنِيْ فِيْ الْخَيْلِ" (¬1). 96 - ومنها: تثبيت المجاهدين، وتشجيعهم: قال الله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]. قال القاضي البيضاوي: بالبشارة، أو بتكثير سوادهم، أو بمحاربة أعدائهم (¬2). وروى البيهقي في "دلائل النبوة" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس يثبتونهم، فيقول: إني دنوت منهم - يعني: الكفار - فسمعتهم يقولون: لوحملوا علينا ما ثبتنا ليسوا بشيء (¬3). ¬
97 - ومنها: حفظ العبد وحراسته، وكلأته من الشياطين ومن كل ما يؤذيه،
فذلك قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]. قلت: والكذب في الحرب نَصَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إباحته (¬1)، لكن الأحسن أن يحمل ذلك من الملائكة على حقيقته، وأن الملك كان يدنو من الكفار فيسمعهم يقولون ذلك لشدة ما دخل قلوبهم من الرُّعب، ثم يبلغون ذلك المؤمنين تثبيتاً لهم، والله الموفق. 97 - ومنها: حفظ العبد وحراسته، وكَلأَتُه من الشياطين ومن كل ما يؤذيه، وإحصاء حسناته له، وسيئاته عليه، وكتابة ذلك. ويتشبه بالملائكة في ذلك من حفظ أخاه المؤمن في نفسه بالحراسة، والجاه، والذبِّ عنه وعن ماله وعرضه، وبتعويذه بأسماء الله تعالى وكلماته، وبتعلم الفرائض والحساب والكتابة، ونحو ذلك. قال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]. وقال تعالى: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61]. قال السُّدِّي: هم المعقبات من الملائكة يحفظونه، ويحفظون ¬
عمله. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وقال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]. قال مجاهد: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} [الرعد: 11]؛ يعني: هي الْحَفَظة (¬2). وقال ابن عباس: هم الملائكة تعقب بالليل والنهارة تكتب على ابن آدم. رواهما ابن جرير، وابن المنذر (¬3). وروى الطبراني عن أبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كان عبد الله - يعني: أباه رضي الله تعالى عنه - يقول: يتدارك الحرسان من ملائكة الله عز وجل حارس الليل، وحارس النهار عند طلوع الفجر (¬4). وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في الآية: ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط، أو يتردَّى في بئر، أو يأكله سبع، أو غرق، أو حرق، فإذا جاء القدر خَلَّوا بينه وبين القدر. رواه ابن ¬
المنذر، وأبو الشيخ (¬1). وفي رواية لابن المنذر: لكل عبد حفظةٌ يحفظونه؛ لا يخر عليه حائط، أو يتردى في بئر، أو يصيبه دابة، حتى إذا جاء القدر الذي قدر له تخلت عنه الحفظة، فأصابه ما شاء الله أن يصيبه (¬2). وأخرجه أبو داود، وابن أبي الدنيا، وابن عساكر. وفي رواية لأبي داود: ليس من الناس أحد إلا وقد وكل به ملك فلا تريده دابة، أو شيء إلا قال: اتقه، اتقه، فإذا جاء القدر خلى عنه (¬3). وروى ابن جرير عن أبي مَجْلِز قال: جاء رجل من مُراب إلى عليٍّ وهو يصلي، فقال: احترس فإن ناساً من مراد يريدون قتلك، فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر عليه، فإذا جاء القدر خَلَّيا بينه وبينه، وإن الأجل عدة حصينة (¬4). وروى هو، وأبو الشيخ عن كعب الأحبار قال: لو تجلى لابن آدم كل حزن وسهل لرأى على كل شيء من ذلك شياطين، لولا أن الله ¬
وكل بكم ملائكة يذُبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذن لتَخَطَّفَتْكم (¬1). وروى ابن أبي الدُّنيا في "مكائد الشيطان"، والطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وُكِّلَ بِالْمُؤْمِنِيْنَ ثَلاثُ مِئَةٍ وَسِتُّوْنَ مَلَكاً يَدْفَعُوْنَ عَنْهُ ما لَمْ يُقَدَّرْ عَلَيْه؛ مِنْ ذَلِكَ: لِلْبَصَرِ سَبْعَةُ أَمْلاكٍ يَذُبُّوْنَ عَنْهُ كَما يُذَبُّ عَنْ قَصْعَةِ الْعَسَلِ مِنَ الذُّبابِ فِيْ الْيَوْمِ الصَّائِفِ، وَما لَوْ بَدا لَكُمْ لَرَأَيْتُمُوْهُ عَلَىْ كُلِّ سَهْلٍ وَجَبَلٍ كُلُّهُمْ باسِطٌ يَدَيْهِ فَاغِرٌ فاهُ، وَما لَوْ وُكِلَ الْعَبْدُ إِلَىْ نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لاخْتَطَفَتْهُ الشَّياطِيْنُ" (¬2). وروى ابن جرير عن كِنانة العدويّ قال: دخل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ فقال: "مَلَكٌ عَنْ يَمِيْيكَ عَلَىْ حَسَناتِكِ، وَهُوَ أَمِيْرٌ عَلَىْ الَّذِيْ عَلَىْ الشِّمالِ؟ إِذا عَمِلْتَ حَسَنَةً كُتِبَتْ عَشْراً، فَإِذا عَمِلْتَ سَيهمَةً قالَ الَّذِيْ عَلَىْ الشِّمالِ: أَكْتُبُ؟ قَالَ: لا، لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللهَ ويَتُوْبُ، فَإِذا قالَ ثَلاثاً قالَ: نعَمْ، اكْتُبْهُ أَراحَنَا اللهُ مِنْهُ، فَبِئْسَ الْقَرِيْنُ ما أقلَّ مُراقَبَتَهُ لِلَّهِ، وَأقلَّ اسْتِحْياءَهُ مِنْهُ، يَقُوْلُ اللهُ تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ ¬
تنبيه
رَقِيبٌ عَتِيدٌ}: [ق: 18]، وَمَلَكانِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ؛ يَقُوْلُ اللهُ: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، وَمَلَكٌ قابِضٌ عَلَىْ ناصِيَتِكَ، فَإِذا تَواضَعْتَ لِلَّهِ رَفَعَكَ، فَإِذا تَجَبَّرْتَ عَلَىْ اللهِ قَصَمَكَ، وَمَلَكانِ عَلَىْ شَفَتَيْكِ لَيْسَ يَحْفَظانِ عَلَيْكَ إِلاَّ الصَّلاةَ عَلَىْ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وَمَلَكٌ قائِمٌ عَلَىْ فِيْكَ لا يَدَعُ [الحيَّةَ تدخل] (¬1) فِيْ فِيْكَ، وَمَلَكانِ عَلَىْ عَيْنَيْكَ، فَهَؤُلاءِ عَشَرَةُ أَمْلاكٍ عَلَىْ كُلِّ بَنِيْ آدَمَ، يَنْزِلُوْنَ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ عَلَىْ مَلائِكَةِ النَّهارِ؛ لأَن مَلائِكَةَ اللَّيْلِ سِوَىْ مَلائِكَةِ النَّهارِ، فَهَؤُلاءِ عِشْرُوْنَ مَلَكاً عَلَىْ كُل آدَمِي، وَإِبْلِيْسُ بِالنَّهارِ وَوَلدُهُ بِاللَّيْلِ" (¬2). * تَنْبِيْهٌ: قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى في قوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]؛ قال: حفظهم إياه من أمر الله. رواه ابن جرير (¬3). وقال ابن عباس: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} " [الرعد: 11]؛ قال: عن أمر الله من بين يديه، ومن خلفه (¬4). ¬
98 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام: السعي في مصالح المسلمين؛
قال أيضاً: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}: بإذن الله. رواهما ابن أبي حاتم (¬1). وقال: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}: بأمر الله. رواه أبو الشيخ (¬2). فَ: (مِنْ) للتبعيض على قول سعيد؛ أي: حفظهم إياه بعض أمر الله. وللسببية على قول ابن عباس؛ أي: حِفْظُهم إياه ناشع عن أمر الله تعالى، فهم مسخرون من قِبَلِه سبحانه لحفظ العبد، وحفظه من جملة أعمالهم التي بأمره يعملون. وليس معنى الآية أنهم يحفظونه من قضاء الله وقدره؛ فإن هذا محال. 98 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام: السعي في مصالح المسلمين؛ فإنهم يصعدون بأعمالهم الصَّالحة، ويسوقون أرزاقهم إليهم باذن الله تعالى. روى الحاكم وصححه، والبيهقي، وغيرهما عن المحارب بن سليم قال: قال عبد الله رضي الله تعالى عنه: إذا حدثناكم بحديث بتصديق ذلك من كتاب الله عز وجل: إن العبد المسلم إذ قال: الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وتبارك الله، أخذها ملك، فجعلها تحت ¬
جناحه، ثم صَعِدَ بها، فلا يمر على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن، حتى يجيء بها وجه الرحمن، ثم قرأ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] (¬1). وقد تكلم حجة الإسلام أبو حامد في كتاب الشكر من "الإحياء" في تسخير الله تعالى الملائكة عليهم السلام لعباده في القيام بمصالح أغديتهم ومنافعهم بما لا مزيد عليه؛ كالملائكة الموكلين بالسحاب، وغيرهم (¬2). وروى الديلمي في "مسند الفردوس" عن بُريدة الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ نبتٍ يَنْبُتُ إِلاَّ وَتَحْتَهُ مَلَكٌ مُوَكَّل بِهِ حَتَّىْ يُحْصَدَ" (¬3). وروى ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عبد الله بن الحارث قال: ما في الأرض من شجرة - صغيرة ولا كبيرة، كمغرز إبرة، رطبة ¬
ولا يابسة - إلا عليها ملك موكل بها يأتي الله بعلمها - أي: وهو أعلم -؛ رطوبتها إذا رطبت، ويبسها إذا يبست كل يوم (¬1). قال الأعمش: وهذا في الكتاب: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] (¬2). قلت: ولا شك أن هذا تسخير للملائكة في حفظ أرزاق العباد. وقد قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، والملائكة: ما في السَّموات والأرض. وقال كعب: ما من شجرة، ولا موضع إبرة إلا وملك موكل بها، يرفع علم ذلك إلى الله تعالى؛ فإن ملائكة السَّماء كثر من عدد التراب (¬3). وقال الحسن: ما من عام بأمطر من عام، لكن الله يصرفه حيث يشاء، وُينزل مع المطر كذا وكذا من الملائكة يكتبون حيث يقع فيه المطر، ومن يرزقه، وما يخرج منه مع كل قطرة (¬4). رواهما أبو الشَّيخ. ¬
وروى الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنَّسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن اليهود سألوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الرَّعد: ما هو؟ قال: "مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحابِ مَعَهُ مَخارِيْقُ مِنْ نارِ يَسُوْقُ بِها السَّحابَ حَيْثُ شاءَ الله"، قالوا: فما الصوت الذي نسمع فيه؟ قال: "زَجْرُهُ السَّحابَ حَتَّىْ يَنْتَهِيَ إِلَىْ حَيْثُ أُمِرَ"، قالوا: صدقت (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: إن تحت الأرض الثالثة، وفوق الأرض الرابعة من الجن ما لو أنهم لو ظهروا لكم لم تروا معه نوراً، على كل زاوية من زواياه خاتم من خواتيم الله، على كل خاتم ملك من الملائكة يبعث الله إليه في كل يوم ملكاً من عنده: أن احتفظ بما عندك (¬2). ولا شك أنَّ في حبس الملائكة، وطردهم الشياطين - كما سبق - مصالح كثيرة لبني آدم، ودَرء مفاسد كثيرة، وما ذلك إلا كرامة للمؤمنين منهم، ولكن كان التسخير لعامة بني آدم ليتم حفظ المؤمنين بحفظ عامتهم، وليرحم العامة بعمل الخاصة، وحِكَمُهُ تبارك وتعالى بديعةٌ بلغةٌ. ¬
99 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام، وهو مندرج فيما قبله: قضاء حوائج العباد.
99 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام، وهو مندرج فيما قبله: قضاء حوائج العباد. روى البيهقي عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ مُوَكَّلٌ بِحاجاتِ الْعِبادِة فَإِذا دَعا الْمُؤْمِنُ قالَ: يا جِبْرِيْلُ! احْبِسْ حاجَةَ عَبْدِيْ؛ فَإِنِّي أُحِبُّهُ، وَأُحِبُّ صَوْتَهُ، وَإِذا دَعا الْكافِرُ قالَ: يا جِبْرِيْلُ! اقْضِ حاجَةَ عَبْدِيْ؛ فَإِنِّيْ أُبْغِضُهُ، وَأُبْغِضُ صَوْتَه" (¬1). وروي من طرق أخرى نحوه. فقضاء حوائج العباد عبادة مَلائِكِيَّةٌ (¬2)، والآتي بها متشبةٌ بالملائكة الكرام. وقد روى ابن أبي الدُّنيا في "قضاء الحوائج" عن جابر - رضي الله عنه -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ يَكُنْ فِيْ حاجَةِ أَخِيْهِ يَكُنِ اللهُ فِيْ حاجَتِه" (¬3). وهو في "صحيح البخاري" من حديث ابن عمر بلفظ: "مَنْ كانَ ... " (¬4). وروى ابن أبي الدُّنيا عن الحسن رحمه الله تعالى مرسلاً قال: ¬
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلَّهِ عِباداً خَلَقَهُمْ لِحَوائِجِ النَّاسِ، فَقَضاها عَلَىْ أَيْدِيْهِمْ؟ أُوْلَئِكَ آمِنُوْنَ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ الْقِيامَة" (¬1). وعنه قال: لأن أقضيَ لمسلم حاجة أحب إِلَيَّ من أن أصلي ألف ركعة (¬2). وقال: لأن أقضي لأخٍ حاجة أحب إِلَيَّ من أن أعتكف شهرين (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَضَىْ لأَخِيْهِ حاجَةً كانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خَدَمَ اللهَ عُمُرَهُ". وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (¬4). وروى الخطيب عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَضَىْ لأَخِيْهِ ¬
100 - ومنها: المكافأة على المعروف، والتوسل بالصالحين، وطلب الدعاء منهم، والإحسان إليهم
الْمُسْلِمِ حاجَة كانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ كَمَنْ حَجَّ وَاعْتَمَر" (¬1). قلت: وإنما كان قضاء حاجة العبد بمثابة خدمة الله في عمر القاضي كله، أو بمثابة الحج والعمرة، والاعتكاف والصَّلاة؛ لأن العبد محتاج إلى تلك الحاجة، أو إلى المعونة فيها، والله سبحانه غنيٌّ عن العالمين. ولطف أبو العتاهية في قوله: [من مجزوء الكامل المرفل] وَاقْضِ الْحَوائِجَ ما اسْتَطَعـ ... ـتَ وَكُنْ لِهَمِّ أَخِيْكَ فارِجْ فَلَخَيْرُ أَيَّامِ الْفَتَىْ ... يَوْمٌ قَضَىْ فِيْهِ الْحَوائِجْ 100 - ومنها: المكافأة على المعروف، والتوسل بالصالحين، وطلب الدعاء منهم، والإحسان إليهم: روى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عيسى قال: كان فيمن كان قبلكم رجلٌ عَبَدَ الله أربعين سنة في البر، ثم قال: يا رب! قد اشتقت أن أعبدك في البحر، فأتى قوماً، فاستحملهم، فحملوه، وجرت بهم سفينتهم ما شاء الله أن تجري، ثم قامت، فإذا شجرة في ناحية الماء، قال: فقال: ضعوني على هذه الشجرة، قال: فقالوا: ما يعيشك على هذه؟ قال: إنما استحملتكم، فضعوني حيث أريد، فوضعوه، وجرت بهم سفينتهم، فأراد مَلَكٌ أن يعرج إلى السَّماء، فتكلم بكلامه الذي كان يعرج به، فلم يقدر على ذلك، فعلم أن ذلك لخطيئة كانت منه، فأتى صاحب الشجرة، ¬
101 - ومنها: موافقة الطائعين، والقرب منهم، والثناء عليهم، ومجانبة العاصين، والتحذير منهم
فسأله أن يشفع له إلى ربه، قال: فصلى، ودعا للمَلَكِ، قال: وطلب إلى ربه أن يكون هو يقبض نفسه ليكون أهون عليه من ملك الموت، فأتاه حين حضر أجله فقال: إني طلبت إلى ربي أن يشفعني فيك كما شفعك فيَّ، وأن أكون أقبض نفسك، فمن حيث شئت قبضتها، قال: فسجد سجدة، فخرجت دمعة (¬1) من عينه، فمات (¬2). 101 - ومنها: موافقة الطائعين، والقرب منهم، والثناء عليهم، ومجانبة العاصين، والتحذير منهم: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت: 30 - 31]. وروى الإمام أحمد، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ أَنَّكمْ تَكُوْنُوْنَ عَلَىْ كُل حالَةٍ عَلَىْ الْحالَةِ الَّتِيْ أَنْتُمْ عَلَيْها عِنْدِيْ لَصافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ، وَلَزارَكُمْ فِيْ بُيُوْيكُمْ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوْا لَجاءَ اللهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُوْنَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ" (¬3). وروى الامام أحمد، والطبراني بسند قريب، عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "ما مِنْ خارِجٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلاَّ بِبابِهِ رايَتانِ؛ رَايَةٌ بِيَدِ مَلكٍ، وَرايَةٌ بِيَدِ شَيْطانٍ، فَإنْ خَرَجَ لِما يُحِبّ اللهُ اتَّبَعَهُ الْمَلَكُ بِرايَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رايَةِ الْمَلَكِ حَتَّىْ يَرْجِعَ إِلَىْ بَيْتِهِ، وإِنْ خَرَجَ إِلَىْ سَخَطِ اللهِ اتَّبَعَهُ الشَّيْطانُ بِرايَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رايَةِ الشَّيْطانِ حَتَّىْ يَرْجِعَ إِلَىْ بَيْتِهِ" (¬1). وسبق حديثه: "إِنَّ لِلْمَساجِدِ أَوْتاداً، الْمَلائِكَةُ جُلَساؤُهُم؛ إِنْ غابُوْا يَفْتَقِدُوْهُمْ، وإِنْ مَرِضُوْا عادُوْهُمْ، وإِنْ كانُوْا فِيْ حاجَةٍ أَعانُوْهُمْ" (¬2). وذكر الإمام أبو طالب المكي في كتاب "القوت": أن الله تعالى أوحى أيُّوب عليه السلام: "ما من عبد لي من الآدميين إلا ومعه ملكان، فإذا شكر على نعمائي قال: اللهم زده نِعَماً على نعمك؛ فإنك أهل الشكر والحمد، فكن من الشاكرين قريباً، وزدهم شكراً، وزدهم من النعماء، وكفى بالشاكرين - ياأيُّوب - علو المرتبة عندي، وعند ملائكتي، فأنا أشكر شكرهم، وملائكتي تدعو لهم، والبقاع تحبهم، والآثار تبكي عليهم، فكن لي - ياأيُّوب - شاكراً، ولآلائي ذاكراً، ولا تذكر لي حتى أذكر، ولا تشكر لي حتى أشكر أعمالك، أنا أوفِّق ¬
102 - ومنها: المؤاخاة في الله
أوليائي لصالح الأعمال، وأشكرهم على ما وفقتهم، وأقتضيهم الشكر، ورضيت به مكافأة، فرضيت بالقليل عن الكثير، وتقبلت القليل، وجازيت عليه بالجزيل، وشر العبيد عندي من لم يشكرني إلا عند حاجته، ولم يتضرع إليَّ إلا في وقت عقوبته" (¬1). 102 - ومنها: المؤاخاة في الله: روى أبو القاسم البغوي، والباوردي، وابن قانع، والطبراني في "معاجمهم"، وابن عساكر عن زيد بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد المدينة فجعل يقول: "أَيْنَ فُلانٌ؟ أَيْنَ فُلانٌ؟ "، فلم يزل يتفقدهم، ويبعث إليهم حتى اجتمعوا عنده، فقال: "إِني مُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيْثٍ فَاحْفَظُوْهُ، وَعُوْهُ، وَحَدِّثُوْا بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ: إِنَّ اللهَ اصْطَفَىْ مِنْ خَلْقِهِ خَلْقًا - وَتَلا هذه الآية: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ} [الحج: 75]- خَلْقَا يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وإِنِّيْ مُصْطَفٍ مِنْكُمْ مَنْ أُحِبُّ أَنْ أَصْطَفِيَه، وَمُؤَاخٍ بَيْنَكُمْ كَمَا آخَىْ اللهُ بَيْنَ الْمَلائِكَةِ؛ قُمْ يا أَبا بَكْرٍ ... ". فذكر الحديث في مؤاخاته - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه رضي الله تعالى عنهم (¬2). ¬
103 - ومنها: محبة أحباب الله، وبغض بغضاء الله تعالى، والحب فيه، والبغض فيه
103 - ومنها: محبة أحباب الله، وبغض بُغَضاء الله تعالى، والحب فيه، والبغض فيه: روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ إِذا أَحَبَّ عَبْداً دَعا جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلاناً فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيْلُ، ثُمَّ يُنادِيْ جِبْرِيْلُ فِيْ السَّماءِ، فَيَقُوْلُ: إِنِّي أُحِبُّ فُلاناً فَأَحِبُّوْهُ, فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّماءِ، ثُمَّ يُوْضَعُ لَهُ الْقَبُوْلُ فِيْ أَهْلِ الأَرْضِ، وَإِذا أَبْغَضَ اللهُ عَبْداً دَعا جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَيَقُوْلُ: إِنِّيْ أُبْغِضُ فُلاناً فَأَبْغِضْهُ، فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيْلُ، ثُمَّ يُنادِيْ فِيْ أَهْلِ السَّماءِ: إِنَّ اللهَ تَعالَىْ يُبْغِضُ فُلاناً فَأَبْغِضُوْهُ، ثُمَّ تُوْضَعُ لَهُ الْبَغْضاءُ فِيْ أَهْلِ الأَرْضِ" (¬1). وأخرجه بنحوه هو، والبخاري، والترمذي (¬2). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً قَذَفَ حُبَّهُ فِيْ قُلُوْبِ الْمَلائِكَةِ، وإِذا أَبْغَضَ عَبْداً قَذَفَ بُغْضَهُ فِيْ قُلُوْبِ الْمَلائِكَةِ، ثُمَّ يَقْذِفُهُ فِيْ قُلُوْبِ الآدَميِّيْنَ" (¬3). وروى البيهقي في "الأسماء والصفات" عن عبد الرحمن بن أبي ¬
104 - ومنها: موالاة الصالحين: لقوله تعالى: {إن الذين قالوا
ليلى، قال: كتب أبو الدرداء إلى سلمة بن مخلد: سلام عليك، أما بعد: فإن العبد إذا عمل بطاعة الله أحبَّه الله، فإذا أحبَّه الله حبَّبه إلى عباده، وإن العبد إذا عمل بمعصية الله أبغضه الله، فإذا أبغضه الله بغَّضه إلى عباده (¬1). قلت: الإضافة في: (عباده) للتشريف؛ أي: إلى عباده المؤمنين. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ، "ثُم يُوْضَعُ لَهُ الْقَبُوْلُ فِيْ أَهْلِ الأَرْضِ"؛ المراد: المؤمنون والصالحون منهم، فلا اعتبار بقبول الكفار والفساق، ولا بِرَدَّهم. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْتُمْ شُهَداءُ اللهِ فِيْ الأَرْضِ"؛ لأن الكافر والفاسق ليسا أهلاً للشهادة. وقد روى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، وابن مَردويه في "تفسيره" عن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] ما هو؟ قال: "الْمَحَبَّةُ فِيْ صُدُوْرِ الْمُؤْمِنِيْنَ، وَالْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبِيْنَ، يا عَلِيُّ! إِنَّ اللهَ أَعْطَىْ الْمُؤْمِنَ المِقَة (¬2) وَالْمَحَبّةَ، وَالْحَلاوَةَ، وَالْمَهَابَةَ فِيْ صُدُوْرِ الصَّالِحِيْنَ" (¬3). 104 - ومنها: موالاة الصالحين: لقوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوْا ¬
105 - ومنها: السلام ابتداء وردا، أو المعانقة، والمصافحة، والزيارة
رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} [فصلت: 30] إلى قوله: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت: 31]. ومن موالاتهم للصالحين: إيناسهم في الغربة، والوحدة، والسفر، ومساعدتهم في الرِّزق، ونحو ذلك. وقد حكى الشيخ محي الدين بن عربي في "مسامراته" عن بعض العارفين، عن أبي عبد الله الغزالي - من أقران أبي مدين - قال: كان يحضر مجلس شيخنا أبي العباس بن العريف الصنهاجي رجل لا يتكلم، فإذا فرغ الشيخ خرج، فوقع في قلبي منه شيء؛ أحببت أن أعرفه، وأعرف موضعه، فتبعته عشيةً يوم انفصاله من مجلس الشيخ من حيث لا يشعر بي، فلما كان في بعض سكك المدينة - يعني: المرية - وإذا شخص قد تلقاه من الهواء، وانقض عليه انقضاض الطائرة بيده رغيف حسن، فتناوله منه، وانصرف عنه، فجذبته من خلفه، وقلت: السلام عليكم، فعرفني، فرد السلام، قلت له: من هذا الشخص - عافاه الله - الذي ناولك الرغيف؟ فأقسمت عليه، فقال: يا هذا! هذا ملك الأرزاق يأتيني كل يوم بما قدر لي من الرزق حيث كنت من أرض ربي. 105 - ومنها: السلام ابتداءً ورداً، أو المعانقة، والمصافحة، والزيارة: وكل ذلك منهم مع المؤمنين. قال الله تعالى حكاية عن رسل إبراهيم عليهم السلام: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 25].
وروى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَلَقَ اللهُ آدم عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَىْ صُوْرتِهِ، وَطُوْلُهُ سِتُّوْنَ ذِراعاً، ثُمَّ قالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَىْ أُوْلَئِكَ النَّفَرِ - وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ جُلُوْسٌ - فَاسْمَعْ ما يُجِيبُوْنَكَ؛ فَإِنَّهَا تَحيَّتُكَ وَتَحيَّةُ ذُرَّيَّتِكَ، فَذَهَبَ، فَقالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقالُوْا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزادُوْهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، وَكُل مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَىْ صُوْرَةِ آدَمَ طُوْلُهُ سِتُّوْنَ ذِراعاً، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّىْ الآنَ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والبيهقي في "الدلائل" بسند صحيح، عن حارثة بن النعمان رضي الله تعالى عنه قال: مررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه جبريل عليه السلام فسلمت عليه، ومررت، فلما رجعنا، وانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "هَلْ رَأَيْتَ الَّذِيْ كانَ مَعِي؟ " قلت: نعم، قال: "فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَقَدْ رَدَّ عَلَيْكَ السَّلامَ" (¬2). وروى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أفشُوْا السَّلامَ بَيْنَكُمْ؛ فَإِنَّها تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِذا مَرَّ رَجُلٌ عَلَىْ مَلأٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ دَرَجَةٌ إِنْ ردُّوْا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَرُدُّوْا ¬
عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمُ؛ الْمَلائِكَةُ" (¬1). وروى البيهقي عن قتادة في قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]؛ قال: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، وإذا دخلت بيتاً لا أحد فيه فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإنه كان يؤمر بذلك. قال: وحدثنا أن الملائكة ترد عليه (¬2). وروى مسلم عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: إن الملائكة كانت تسلم عليَّ، فلما اكتويت انقطع عنِّي، فلما تركت عاد إليَّ (¬3). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن قتادة رحمه الله تعالى: إن الملائكة كانت تصافح عمران بن حصين حتى اكتوى فتنحت (¬4). ¬
تنبيه
وذلك أن عمران رضي الله تعالى عنه كان به مرض دام به سنين، وكانت الملائكة عليهم السلام تزوره، وتسلم عليه، وتصافحه، فاكتوى طلباً للبُرء، فتنحَّت عنه الملائكة، فلما عزم أن لا يعود إلى الاكتواء أعادوا الزِّيارة والسلام عليه. وقد قدَّمت آنفا الحديث الشاهد بمصافحة الملائكة للمؤمنين لو داموا على حالة القرب والرقة. وسبق الحديث الشاهد بمصافحة الملائكة رِكاب الحاج، ومعانقة رجالتهم. * تَنْبِيْهٌ: ذكر الديلمي في "فردوس" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَلائِكَةُ تَعْجَبُ مِنَ الْمُسْلِمِ يَمُرُّ عَلَىْ الْمُسْلِمِ فَلا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ" (¬1). 106 - ومنها: الاستئذان: روى ابن جرير، والبيهقي عن مجاهد في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20]؛ قال: هو استئذان الملائكة عليهم لا يدخل عليهم إلا بإذن (¬2). ¬
107 - ومنها: القيام للصالحين، والعلماء إكراما
وروى ابن جرير، وأبو نعيم نحوه عن سفيان الثوريِّ رحمه الله تعالى (¬1). 107 - ومنها: القيام للصالحين، والعلماء إكراماً: وروى الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في "فضائل عمر رضي الله تعالى عنه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه في المسجد، وأهل بيته حوله، فدخل أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقام لهما - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعض أصحابه: يا رسول الله! ألست قد نهيتنا أن يقوم بعضا لبعض إلا لثلاثة: للأبوين، ولسلطانٍ عادل، ولعالم يعمل بعلمه؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "نعمْ، كانَ عِنْدِيَ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَلَمَّا دَخلا قامَ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِجْلالاً لَهُما، فَقُمْتُ أَنا مَعَ جِبْرِيْل". ذكره المحب الطبري في "الرياض النضرة" (¬2). وسيأتي في التشبه بالأعاجم بيان ما يحسن من القيام، وما يكره. 108 - ومنها: تلقين العاطس: "الحمد لله"، وتكميله له، وتشميته إذا حمد، وأتم الحمد: روى أبو بكر بن السُّنِّي، والطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا عَطَسَ الرَّجُلُ فَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ" قالَتِ الْمَلائِكَةُ: "رَبِّ الْعالَمِيْنَ"، فَإِذا قالَ: "رَبِّ الْعالَمِيْنَ" قالَتِ ¬
الْمَلائِكَةُ: "يَرْحَمُكَ الله" (¬1). فينبغي للعبد الاقتداء بالملائكة في ذلك. قال النووي رحمه الله تعالى في "الأذكار": فإذا عطس ولم يحمد الله، ولم يسمعه الإنسان، لم يشمته، فإن كانوا جماعة فسمعه بعضهم دون بعض، فالمختار أن يشمته من سمعه دون غيره. ثم قال: واعلم أنه إذا لم يحمد أصلاً يستحب لمن عنده أن يذكره بالحمد، هذا هو المختار (¬2). انتهى. قال البغوي رحمه الله تعالى: حكي أن رجلاً عطس عند الأوزاعي فلم يحمد الله، فقال الأوزاعي: كيف تقول إذا عطست؟ قال: أقول: الحمد لله، قال: يرحمك الله، قال: فأراد الأوزاعي رضي الله تعالى عنه أن يستخرج منه الحمد، فقال: يرحمك الله إن كنت حمدت (¬3). وقال النووي في "شرح المهذب": قال أصحابنا: وإنما يسن التشميت إذا قال العاطس: "الحمد لله"، فإن لم يقل: "الحمد لله" كره ¬
فائدة
تشميته للحديث السابق (¬1). يعني: عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللهَ فَشِّمتُوْهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ فَلا تُشَمِّتُوْهُ". رواه مسلم (¬2). * فائِدَةٌ: تشميت العاطس هو الدعاء بالرحمة، وأول من شمت رب العزة جلَّ وعلا شمت آدم؛ أي: أعطاه الرحمة، وبشره بما أعطاه، فالتشميت خلق رباني، والمشمِّت متخلِّق به. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَطَسَ، وَألهَمَهُ رَبّهُ أَنْ قالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ"، قالَ لَهُ رَبُّهُ: "يَرْحَمُكَ اللهُ"، فَلِذَلِكَ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ" (¬3). وقال أنس - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَّا نَفَخَ اللهُ فِيْ آدَمَ الرُّوْحَ فَبَلَغَ الرُّوْحُ رَأْسَهُ عَطَسَ، فَقالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعالَمِيْنَ، فَقالَ لَهُ تَبارَكَ وَتَعالَ: يَرْحَمُكَ الله" (¬4). ¬
109 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام: المذاكرة في أحوال الناس، والمسامرة من غير خوض فيما لا يعني.
رواهما ابن حبان في "صحيحه". 109 - ومن أعمال الملائكة عليهم السلام: المذاكرة في أحوال الناس، والمسامرة من غير خوض فيما لا يعني. روى البزار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ مَلائِكَةَ اللهِ يَعْرِفُوْنَ بَنِيْ آدَمَ - أَحْسِبُهُ قالَ: وَيعْرِفُوْنَ أَعْمالَهُمْ - فَإِذا نظَرُوْا إِلَىْ عَبْدٍ يَعْمَلُ بِطاعَةِ اللهِ ذَكَرُوْهُ بَيْنَهُمْ، وَسَمَّوْهُ، وَقالُوْا: أَفْلَحَ اللَّيْلَةَ فُلانٌ، وَإِذا نَظَرُوْا إِلَىْ عَبْدٍ يَعْمَلُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ ذَكَرُوْهُ بَيْنَهُمْ، وَسَمَّوْهُ، وَقالُوْا: هَلَكَ فُلانٌ اللَّيْلَة" (¬1). 110 - ومنها: كراهية الغيبة، وإنكارها: روى أبو نعيم عن مجاهد قال: لابن آدم جلساءُ من الملائكة، فإذا ذكر الرجل المسلم أخاه بخير قالت الملائكة: لك مثله، وإذا ذكره بسوء قالت الملائكة: يا ابن آدم المستور عورته! أرْبَعْ على نفسك، واحمد الله (¬2) الذي ستر عليك (¬3). وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فارتفعت ريح جيفة منتنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
111 - ومنها: التودد للناس، والتنزل لعقولهم لأجل تعليمهم وإرشادهم،
"أتدْرُوْنَ ما هَذهِ الرِّيْحُ؟ هَذهِ رِيْحُ الَّذِيْنَ يَغْتابُوْنَ النَّاس" (¬1). ولا شك أنَّ الملائكة أشد إدراكا لذلك من الناس، وهم يتأذون من الروائح الكريهة، ويكرهونها. 111 - ومنها: التودد للناس، والتنزل لعقولهم لأجل تعليمهم وإرشادهم، وإيصال الخيرات الربانية إليهم، ولذلك كانت الملائكة يتشكلون للناس بحسب ما يليق بهم، وبأحوالهم. قال الله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9] وقال تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]. وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن الملائكة كانوا يتصورون لأهل بدر في صور من يعرفون من الناس يثبتونهم. والأحاديث الواردة في تمثل جبريل عليه السلام في صورة دِحية الكلبي رضي الله تعالى عنه شائعة، منها: ما رواه الشيخان عن أبي عثمان النهديِّ رحمه الله تعالى قال: نبئت أن جبريل عليه السلام أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فجعل يتحدث ثم قام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ هَذا"؟ قالت: قلت: هذا دحية الكلبي، قالت: ما حسبته إلا إياه حتى سمعت خطبة ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - بِخَبَرِ جبريل. قيل لأبي عثمان: ممن سمعت هذا؟ قال: من أسامة رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى الحاكم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: رأيت جبريل عليه السلام واقفا في حجرتي هذه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناجيه، فقلت: يا رسول الله! من هذا؟ قال: "بِمَنْ شَبَّهْتِهِ؟ " قلت: بدحية، قال: "لَقَدْ رَأَيْتِ جِبْرِيْل"، قالت: فما لبثت إلا يسيراً حتى قال: "يا عائِشَةُ! هَذا جِبْرِيْلُ يُقْرِئُكِ السَّلام"، فقلت: وعليه السَّلام، جزاه الله مِنْ دَخِيْل خيراً (¬2). ومن هذا القبيل تشكل طائفة من الأولياء يقال لهم: (الأبدال) حتى ربما تصرفوا في وقت واحد في أبدان متعددة، كما حكي أن رجلاً اتهم قضيب البان البغدادي رحمه الله تعالى أنه لم يصل، فتصور له على الفور في صور مختلفة، وقال له: في أي صورة من هذه الصور رأيتني لم أُصَلِّ؟ فرجع عن الإنكار (¬3). وكذلك رُئي جماعات بالموقف من عرفات، وبأماكن أخرى من بلاد أخر في وقت واحدة منهم: سهل بن عبد الله التُّسْتَري، والشيخ ¬
112 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: إغاثة اللهفان
مُفَرِّج الدَّمَامِيني، والشيخ عبد الله المَنُوفي، والشيخ تاج الدين بن عطاء الله الإسكندري، وغيرهم (¬1). وألف جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في هذه المسألة مؤلفاً مستقلاًّ بسبب أن رجلين من أصحاب سيدي عبد القادر الدشطوطي المصري حلف كل منهما بالطلاق أن الشيخ عبد القادر المذكور بات عنده في الليلة الفلانية، فلم يوقع الطلاق على واحد منهما (¬2). قلت: وأنا شاهدت ممن أعطي حال التصور والتشكل جماعة، منهم: شيخ الإسلام الوالد رضي الله تعالى عنه، فأخبرني من أثق به أنهم كانوا يدخلون عليه فلا يجدونه في أثوابه، ثم يجدونه بعد ساعة لطيفة. والإيمان بكرامات الأولياء مذهب أهل السنة رضي الله تعالى عنهم، والله الموفق. 112 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: إغاثة اللهفان: روى أبو بكر بن أبي الدُّنيا في كتاب "الهواتف"، والأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رجلٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار تاجراً يتجر بمال له ولغيره، وكان يَزِنُ بنسك وورع، فخرج مرة فلقيه لصُّ مقنع في السِّلاح، فقال له: ضع ما معك فإني قاتلك، قال: ما تريد بي؟ شأنك بالمال، قال: أما المال ¬
فلي، ولست أريد إلا رأسك، قال: إذ أبيت فذرني أصلي أربع ركعات، وكان من دعائه في آخر سجدة: يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما يريد! أسألك بعزك الذي لا يرام، وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني، ثلاث مرات، فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة واضعها بين أذني فرسه، فلما بصر به اللص أقبل نحوه، فطعنه فقتله، ثم أقبل إليه، فقال: من أنت - بأبي أنت وأمي - فقد أغاثني الله بك اليوم؟ قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة؛ دعوتَ بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة، ودعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة، ودعوت بدعائك الثالث فقيل: دعاء مكروب، فسألت الله أن يوليني قتله. قال أنس: إنه من توضأ وصلى أربع ركعات، ودعا بهذا الدعاء استجيب له، مكروبا كان أو غير مكروب (¬1). وروى ابن أبي الدُّنيا في "الهواتف" عن خَوَّات بن جُبير رضي الله تعالى عنه قال: أصاب الناس قحط شديد على عهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فخرج بالناس وصلى بهم ركعتين، وخالف بين طرفي ردائه - اليمين على اليسار، واليسار على اليمين - ثم بسط يديه، فقال: اللهم إنا نستغفرك، ونستسقيك، قال: فما برح من مكانه حتى مطر، فبينما هم كذلك إذا أعراب قدموا المدينة فأتوا عمر بن الخطاب ¬
رضي الله تعالى عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين! بينا نحن في بوادينا، في يوم كذا وكذا، في وقت كذا وكذا - إذ أظلتنا غمامة، وسمعنا صوتاً ينادي: أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص (¬1). وروى فيه عن عمارة بن زاذان قال: كنت مع زياد النُّميري في طريق مكة، فَضَلَّتْ ناقة لصاحب لنا، فطلبناها، فلم نقدر عليها، فأخذنا نقسم متاعه، فقال زياد: ألا تقول شيئاً؟ سمعت أنساً - رضي الله عنه - يقرأ: {حم} , وتسجد وتدعو، فقلنا: بلى، فقرأه: {حمَ} السجدة، وسجد ودعا، فرفعنا رؤوسنا، فإذا رجل معه الناقة التي ذهبت، فقال زياد: أعطوه من طعامكم، فلم يقبل، قال: أطعموه، قال: إني صائم، قال: فنظرنا فلم نر شيئا، قال: فلا أدري ما كان (¬2). وقال الشيخ محي الدين بن العربي في "المسامرات": حدثنا عبد الكريم بن حاتم بن وحشي بمكة سنة ست مئة، قال: خرج عندنا رجل من المجاورين يريد مصر، فركب غراباً في البحر، فطاب الريح بالليل، فنام كل من في المركب إلا الذي يدبره، فأراد الرجل الحاجة، فقعد في مقدم المركب يقضي حاجته، فزلقت قدمه، فأخذه البحر، وغطته الأمول، والرئيس ينظر إليه، والمركب قد سار عنه بمسافة غيبته ¬
113 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: إجلال أبي بكر،
عن عين الرئيس، والرئيس لا يتكلم مخافة أن يشوش على الناس ولا ينفعه ذلك، فلم يلبث أن رأى طائراً قد قبض عليه فأخرجه من الماء، وطار به حتى ألقاه في المركب، وقعد الطائر على جامور الصاري ساعة، ثم إن الطائر مد منقاره موضعه حتى ألصقه بأُذن الرجل، ثم قبضه وطار، فلما كان من الغد حسن الرئيس ظنه بذلك الرجل، وبادر إلى كرامته، ففطن له الرجل، فقال: يا أخي! لست والله ممن تظن، وإنما كان ما رأيت من أمر الله علمي وعلمك فيه سواء، ما شعرت بنفسي إلا وقد أخذتني الأمواج وأيقنت بالتلف، فسلمت الأمر لله تعالى وقلت: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]، فإذا بذلك الطائر قد فعل ما رأيت، فقال له الرئيس: فرأيته مد منقاره إليك، فهل كلمك؟ قال الرجل: نعم؛ وذلك أني فكرت في نفسي ما هو هذا الطائر، فألصق منقاره بأُذني، فقال لي: يا هذا! أنا تقدير العزيز العليم. والحكايات في ذلك كثيرة. 113 - ومن خصال الملائكة عليهم السلام: إجلال أبي بكر، وتوقير عمر، واستحياء من عثمان، وحب هؤلاء وعلي بن أبي طالب، وحب سائر الصَّحابة رضي الله تعالى عنهم، ومعرفة فضلهم. وأقسم بالله تعالى: ليس في ملائكة الله تعالى رافِضِيٌّ، ولا شيعيٌّ. روى أبو يعلى عن عقَار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا جِبْرِيْلُ! أَخْبِرْييْ عَنْ فَضائِلِ عُمَرَ عِنْدَكُمْ"، فقال له جبريل عليه السلام: "لَوْ مَكَثْتُ فِيْكُمْ ما مَكَثَ نُوْحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيْ
قَوْمِهِ ما حَدَّثتكَ بِفَضِيْلَةٍ واحِدَةٍ مِنْ فَضائِلِ عُمَرَ، وَإِنَّ عُمَرَ لَحَسَنةٌ واحِدَةٌ مِنْ حَسَناتِ أَبِيْ بَكْرٍ - رضي الله عنهما (¬1) -. وروى ابن عدي في "الكامل" عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما فِيْ السَّماءِ مَلَكٌ إِلاَّ وَهُوَ يُوَقِّرُ عُمَرَ، وَلا فِيْ الأَرْضِ شَيْطانٌ إِلاَّ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْ عُمَرَ" (¬2). وروى ابن عساكر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُثْمانُ حَيِيٌّ تَسْتَحْيِيْ مِنْهُ الْمَلائِكَةُ" (¬3). وروى البخاري، وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان جالساً بحافة بئر، وهو مكشوف الفخذ، فدخل أبو بكر - رضي الله عنه - فلم يغط فخذه، ودخل عمر رضي الله تعالى عنه فلم يغطه، ودخل عثمان فغطاه، وقال: "أَلا أَسْتَحِيْ مِمَّنْ اسْتَحْيَتْ مِنْهُ الْمَلائِكَةُ" (¬4). ¬
وروى الَّلالكائيُّ في "السنة" عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر، وعمر - رضي الله عنه -: "وَاللهِ إِنِّيْ لأُحبُّكُما لِحُبِّ اللهِ إِيَّاكُما، وَاللهِ إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتُحِبُّكُما لِحُبِّ اللهِ عز وجل لَكُما، أَحَبَّ اللهُ مَنْ أَحَبَّكما، وَوَصَلَ مَنْ وَصَلَكُما، قَطَعَ اللهُ مَنْ قَطَعَكُما، أَبْغَضَ اللهُ مَنْ أَبْغَضَكُما فِيْ دُنْياكُما وَآخِرَتكُما" (¬1). وروى الترمذي عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُحِبُّ عَلِيًّا مُنافِقٌ، وَلا يُبْغِضُهُ مُؤْمِنٌ" (¬2). وكذلك ورد أن: حب الأنصار من الإيمان، وبغضهم من النفاق (¬3). والمهاجرون أولى منهم بذلك لأنهم أفضل منهم، والملائكة عليهم السلام من خواص المؤمنين. ¬
114 - ومنها: شهود النكاح والخطبة، والإملاك، والخطبة لذلك
114 - ومنها: شهود النكاح والخِطْبَة، والإملاك، والْخُطْبَةُ لذلك: روى أبو نعيم في "الحلية" عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: أصابت فاطمة رضي الله تعالى عنها صبيحة يوم العرس رعدة، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا فاطِمَةُ! زَوَّجْتُكِ سَيِّداً فِيْ الدُّنْيا، وإِنَّهُ فِيْ الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِيْنَ، يا فاطِمَةُ! لَمَّا أَرادَ اللهُ عز وجل أَنْ يُمَلِّكَكَ بِعَلِي رَضِيَ اللهُ تَعالَىْ عَنْهُ أَمَرَ اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَىْ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقامَ فِيْ السَّماءِ الرَّابِعَةِ، فَصَفَّ الْمَلائِكَةَ صُفُوْفاً، ثُمَّ خَطَبَ عَلَيْهِمْ، فَزَوَّجْتُكِ مِنْ عَلِيٍّ، ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعالَىْ شَجَرَ الْجِنانِ فَحَمَلَتِ الْحُلِيَّ وَالْحُلَلَ، ثُمَّ أَمَرَهَا فَنَثَرَتْهُ عَلَىْ الْمَلائِكَةِ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَيْئا أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ غَيْرُهُ افْتَخَرَ بِهِ إِلَىْ يَوْمِ الْقِيامَةِ"، قالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: لقد كانت فاطمة رضي الله تعالى عنها تفتخر على النساء لأن أول من خطب عليها جبريل عليه السَّلام (¬1). ¬
وروى الطبراني، ومن طريقه أبو نعيم عن زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها قالت: خطبني عدة من قريش، فأرسلت أختي حَمْنَة رضي الله عنها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستشيره، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيْنَ هِيَ مِمَّنْ يُعَلِّمُها كِتابَ رَبِّها وَسُنَّةَ نبِيِّها"؟ قالت: ومن هو يا رسول الله؟ قال: "زيدُ بْنُ حارِثَة - رضي الله عنه - "، فغضبت حمنة غضباً شديداً، فقالت: يا رسول الله! أتزوِّجُ ابنة عمتك مولاك؟ قالت: وجاءتني فغضبت أشد من غضبها، فقلت أشد من قولها، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] الآية قالت: فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إني أستغفر الله، وأطيع الله ورسوله، وأفعل يا رسول الله ما رأيت، فزوجني زيداً. وكنت أزري عليه، فشكاني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَاتَّقِ الله"، فقال: يا رسول الله! أنا أطلقها، قالت: فطلقني، فلما انقضت عدتي لم أعلم إلا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دخل على بيتي وأنا مكشوفة الشعر، فعلمت أنَّه أمر من السَّماء، فقلت: يا رسول الله! بلا خطبة ولا إشهاد؟ فقال: "اللهُ الْمُزَوِّجُ، وَجِبْرِيْلُ الشَّاهِدُ" (¬1). ¬
115 - ومنها: التهنئة بالنكاح، وبالتوبة، وبكل ما يهنأ به
115 - ومنها: التهنئة بالنكاح، وبالتوبة، وبكل ما يهنأ به: روى ابن عساكر عن عطاء رحمه الله تعالى قال: إن الله تعالى لما خلق حواء من ضِلَع آدم ليسكن إليها جاءته الملائكة، وهنوه، وسلموا عليه عليهم السلام (¬1). وروى ابن المنذر عن محمَّد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه، وعن آبائه -: "إن آدم عليه السَّلام لما تاب الله عليه جاءته الملائكة عليهم السَّلام أفواجاً تهنيه" يقولون: نهنئك توبة الله يا أبا محمد" (¬2). 116 - ومنها: تجنب اللهو، واللعب، وكل باطل: روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَدْخُلُ الْمَلائِكَةُ بَيْتاً فِيْهِ تَماثِيْلُ، أَوْ تَصاويرُ" (¬3). وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان نحوه (¬4) عن أبي سعيد (¬5). ¬
تنبيه
وروى أبو داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النَبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَدْخُلُ الْمَلائِكَةُ بَيْتًا فِيْهِ جَرَسٌ" (¬1). ورواه النسائي عن أم سلمة مثله، وزاد: "وَلا تَصْحَبُ رَكْباً فِيْهِ جَرَسٌ" (¬2). وروى الإمام أحمد، وأبو داود عن أم حبيبة رضي الله تعالى عنها عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَصْحَبُ الْمَلائِكَةُ رِفْقَةً فِيْها جَرَسٌ" (¬3). وأخرجه النسائي عن ابن عمر، وقال: "جُلْجُلٌ"، وقد سبق (¬4). وروى ابن أبي شيبة عن شريح: أنه سمع صوت دف فقال: "إن الملائكة لا يدخلون بيتاً فيه دف" (¬5). وأخرج نحوه عن سويد (¬6). * تنبِيْهٌ: روى البزار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تَحْضُرُ الْمَلائِكَةُ مِنْ لَهْوِكُمْ إِلاَّ الرِّهانَ وَالنِّضالَ" (¬7). ¬
وروى ابن عدي في "الكامل" عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَلائِكَةُ تَشْهَدُ ثَلاثاً: الرَّمْيَ، وَالرِّهانَ، وَمُلاعَبَةَ الرَّجُلِ أَهْلَهُ" (¬1). وروى الثقفي في "فوائده" عن أبي أيُّوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: "لا تحضر الملائكة من اللهو شيئا إلا ثلاثة: لهو الرجل مع امرأته، وإجراء الخيل، والنِّضال" (¬2). وروى النسائي، والبزار، والطبراني عن عطاء بن أبي رباح، وقال: رأيت جابر بن عبد الله، وجابر بن عمير يرتميان، فمل أحدهما، فجلس، فقال الآخر: كسلت؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ فَهُوَ لَغْوٌ وَلَهْوٌ إِلاَّ أَرْبَعُ خِصالٍ: مَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ، وَتأْدِيْبُ فَرَسِهِ، وَمُلاعَبَةُ أَهْلِهِ، وَتَعْلِيْمُ السِّباحَةِ" (¬3). ¬
117 - ومنها: لبس البياض
117 - ومنها: لبس البياض: تقدم أن سيما الملائكة كانت يوم بدر "عمائم بيضاً" (¬1). وسبق في صدر الباب في حديث سؤال جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان في وصفه: "شديد بياض الثياب" (¬2). وروى الشيخان عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عليهما ثياب بيض كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد (¬3). زاد في رواية لمسلم: يعني: جبريل وميكائيل عليهما السَّلام (¬4). 118 - ومنها: لبس العمائم خصوصا البيض، وإرخاء العَذَبة لها: روى الطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن عبادة بن الصَّامت - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه - قال: "عَلَيْكُمْ بِالْعَمَائِمِ؛ فَإِنَّها سِيْما الْمَلائِكَةِ، وَأَرْخُوْا لَهَا خَلْفَ ظُهُوْرِكُمْ" (¬5). ¬
تنبيه
وروى ابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: عَمَّمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وترك من عمامته مثل ورق العشر، ثم قال: "أَكْثَرُ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُعتمين (¬1) " (¬2). وروى أبو داود الطَّيالسي، والبيهقيُّ عن علي رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ أَمَدَّ فِيْ يَوْم بَدْرٍ وَحُنَيْنٍ بِمَلائِكَةٍ يَعْتَمُّوْنَ بِمِثْلِ هَذهِ الْعِمَّةِ؛ إِنَّ الْعَمائِمَ حاجِزَةٌ بَيْنَ الْكفْرِ وَالإِيْمانِ" (¬3). * تَنْبِيْهٌ: قال السيوطي في "الخصائص الكبرى": وذكر ابن تيمية أن أصل العَذَبة أنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى ربه واضعا يديه بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعَذَبة. ¬
لكن قال العراقي: لم نجد لذلك أصلاً (¬1)، انتهى (¬2). ¬
قلت: لا يخفى ما في ذلك من الانتصار لمذهب التجسيم، ولو كان لإكرام موضع اليد -كما زعم - لكان ينبغي أن يختص إرخاؤها بين الكتفين بالنبي - صلى الله عليه -؛ لأن ذلك لم يتفق لغيره، والحق أن الأصل في إرخاء العَذَبة التشبه بالملائكة، كما علمت (¬1). ¬
وروى البيهقي في "الشعب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ¬
تنبيه
رأيت رجلاً يوم الخندق على صورة دِحْية الكلبي على دابة يناجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليه عمامة قد أسدلها خلفه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: "ذاكَ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَمَرَنِيْ أَنْ أَخْرُجَ إِلَىْ بَنِيْ قُرَيْظَةَ" (¬1). وتقدم قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاً قد أسدلوها خلف ظهورهم (¬2). * تَنْبِيْهٌ: روى أبو الشيخ عن وهب بن مُنِّبه رحمه الله تعالى: أن ذا القرنين أول من لبس العمامة، وذكر أنه كان برأسه قرنان كالظلفين يتحركان، فلبس العمامة من أجل ذلك (¬3). فقوله: إنه أول من لبس العمامة؛ يعني: من البشر. وقيل: إن ذا القرنين كان من الملائكة. والأصح أنه كان من البشر، واختلف في نبوته (¬4). وفيه إشارة إلى أن من محاسن العمامة وفوائدها أنها تستر ما يكون في الرأس من كِبَرٍ، أو صِغَرٍ، أو عيب، أو غير ذلك، وهو ظاهر. ¬
119 - ومنها: لباس الصوف تواضعا، وقناعة
119 - ومنها: لباس الصوف تواضعاً، وقناعة: روى ابن أبي شيبة عن حميد بن إسحاق قال: قيل لهم يوم بدر: تسوموا؛ إن الملائكة قد تسومت، قال: فأول ما جعل الصوف ليومئذ (¬1). ونص القرطبي على استحباب لبس الصوف تشبها بالملائكة في تسومهم يوم بدر (¬2). وروى الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: هبط جبريل عليه السَّلام على النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه عباءتان قطوانيتان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَإِنَّكمْ لَتلْبَسُوْنَ هَذا؟ " قال: إي وربي، وإنه للباس حملة العرش (¬3). ولباس الصوف مشروط استحبابه بالسَّلامة من الرّياء، وطلب الشهرة، وطلب الدُّنيا بلباسه. وأحسن من قال: [من الوافر] لَبِسْتَ الصُّوْفَ مَرْقُوْعَا وَقُلْتا ... أَنَا الصُّوْفِىُّ لَيْسَ كَمَا زَعَمْتا ¬
120 - ومنها: الائتزار إلى أنصاف السوق
فَمَا الصُّوْفِيُّ إِلاَّ مَنْ تَصَافا ... مِنَ الأَكْدَارِ وَيْحَكَ لَوْ عَقَلْتا 120 - ومنها: الائتزار إلى أنصاف السوق: روى الطبراني في "الأوسط"، والديلمي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ائْتَزِرُوْا كَما رَأَيْتُ الْمَلائِكَةَ تَأْتَزِرُ"، قالوا: يا رسول الله! كيف رأيت؟ قال: "إلَىْ أَنْصافِ سُوْقِها" (¬1). وفي الحديث الصحيح: "إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَىْ أَنْصافِ ساقَيْهِ" (¬2). 121 - ومنها: التأذي بالروائح الكريهة، وسائر ما يُتَأذَّى منه: روى مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ، وَالثُّوْمَ، وَالْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تتَأَذَّىْ مِمَّا ¬
يَتَأَذَّىْ مِنْهُ بَنُوْ آدَمَ" (¬1). وروى أبو نعيم، والخطيب عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل الثوم ولا البصل ولا الكراث من أجل أن الملائكة تأتيه، وأنه يكلم جبريل عليه السلام (¬2). وروى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "المنامات" قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله! ما تقول في الثوم والبصل؟ فقال: "الْمَلائِكَةُ تتَأَذَّىْ بهما" (¬3). وروى الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، عن عبد الله بن يزيد (¬4) رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُنْقَعْ بَوْلٌ فِيْ طَسْتٍ فِيْ الْبَيْتِ؟ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتاً فِيْهِ بَوْلٌ مُنْتَقِعٌ، وَلا تَبُوْلَنَّ فِيْ مُغْتَسَلِكَ" (¬5). وروى "فيه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّه قال: مر ¬
122 - ومنها: الرثاء لحال الفقراء والضعفاء، والتعطف عليهم، ولذلك يفرحون بذهاب الشتاء
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصنم من نحاس، فضرب ظهره بظهر كفه، ثم قال: "خَابَ وَخَسِرَ مَنْ عَبَدَكَ مِنْ دُوْنِ اللهِ"، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام ومعه ملك، فتنحى الملك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما شَأْنُهُ تَنَحَّىْ"؟ قال: "إنه وجد منك ريح نحاس، وإنا لا نستطيع ريح النحاس" (¬1). قلت: ولعل هذا هو السبب في أن الملائكة لا تصحب ركباً فيه جرس ولا جلجل، كما ورد في الحديث، مع كونهما مما يتلهى به، والله الموفق. 122 - ومنها: الرثاء لحال الفقراء والضعفاء، والتعطف عليهم، ولذلك يفرحون بذهاب الشتاء: روى الطبراني عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَلائِكَةَ لتفْرَحُ بِذَهَابِ الشِّتاءِ رَحْمةً لِمَا يَدْخُلُ عَلَىْ فُقَراءِ الْمُسْلِمِيْنَ مِنَ الشِّدَّةِ" (¬2). ورواه الخطيب في "تلخيص المتشابه"، ولفظه: "تَفْرَحُ الْمَلائِكَةُ بِذَهابِ الشِّتاءِ لِما يَدْخُلُ عَلَى فُقَراءِ أُمَّتِيْ". ¬
123 - ومنها: الفرح بتيسير الطاعة على المؤمنين
123 - ومنها: الفرح بتيسير الطَّاعة على المؤمنين: روى الإمام أحمد في "الزهد" عن قتادة رحمه الله تعالى قال: إن الملائكة لتفرح بالشتاء للمؤمن؛ يقصر النهار فيصومه، ويطول الليل فيقومه (¬1). ومثل ذلك لا يقال من قِبَل الرأي، فحكمه حكم المرفوع. * تَنْبِيْهٌ: اختلف السبب في فرح الملائكة بإقبال الشتاء وفرحهم بذهابه، فلا تعارض بينهما. 124 - ومنها: إدخال السُّرور على قلوب المؤمنين، وتبشيرهم، وتعزية المحزونين، وتسليتهم: قال الله تعالى حكاية عن رسل إبراهيم عليه السَّلام {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)} [الحجر: 53]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)}. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - "أَنَّ رَجُلاً زارَ أَخاً لَهُ فِيْ اللهِ، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ مَلَكاً فَقالَ: أَيْنَ تُرِيْدُ؟ فَقالَ: أُرِيْدُ ¬
أَنْ أَزُوْرَ أَخِيْ فُلاناً، قالَ: لِحاجَةٍ لَكَ عِنْدَهُ؟ قالَ: لا، قالَ: لِقَرابَةٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ قالَ: لا، قالَ: فِيْمَه؟ قالَ: أُحِبُّهُ فِيْ اللهِ، قالَ: فَإِنَّ اللهَ تَعالَىْ أَرْسَلَنِيْ إِلَيْكَ يُخْبِرْكُ بِأَنَّهُ يُحِبُّكَ لِحُبِّكَ إِيَّاهُ، وَقَدْ أَوْجَبَ لَكَ الْجَنَّةَ" (¬1). وروى ابن أبي الدّنيا، والطَّبرانيُّ عن العِرباض بن سارية - رضي الله عنه -: أنه كان يحب أن يقبض، فكان يقول: اللهم كَبُرْ سني، ووَهَنَ عظمي، فاقبضني إليك، قال: فبينما أنا يوماً في مسجد دمشق وأنا أصلي، وأدعو أن أقبض إذ أنا بفتى شاب من أجمل الرجال، وعليه رداء أخضر، فقال: ما هذا الذي تدعو به؟ قلت: وكيف أدعو؟ قال: اللهم حسن العمل، وبلغ الأجل، قلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا روقيائيل (¬2) الذي يسل الحزن من صدور المؤمنين، ثم التفتّ فلم أر أحدا (¬3). ¬
وروى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النَّبى - صلى الله عليه وسلم - "أَنَّ مُشَيِّعِيْ الْجَنازَةِ قَدْ وَكَّلَ اللهُ بِهِمْ مَلَكا وَهُمْ مُهْتَمُّوْنَ مَحْزُوْنُوْنَ، حَتَّىْ إِذا أَسْلَمُوْهُ فِيْ ذَلِكَ القَبْرِ، وَرَجَعُوْا راجِعِيْنَ أَخَذَ كَفَّا مِنْ تُرابِ فَرَمَىْ بِهِ وَهُوَ يَقُوْلُ: ارْجِعُوْ إِلَىْ دُنْياكُمْ، أنساكُمُ اللهُ مَوْتاكُمْ، فَيَنْسَوْنَ ميِّتَهُمْ وَيَأْخُذُوْنَ فِيْ شَرابِهِمْ وَبَيْعِهِمْ كَأنهمْ لَمْ يَكُوْنُوْا مِنْهُمْ" (¬1). والمعنى: أن هذا الملك موكل بتسلية النَّاس عن مصائبهم ليرجعوا إلى معاشهم، فتظهر مظاهر أسمائه تعالى فيهم أمراً ونهياً، ووعداً ووعيداً، وثواباً وعقاباً، فيبرز كل شيء سبق به القضاء على وفق ما قضى؛ إذ لولا الأمل لخربت الدَّنيا، والدُّنيا مزرعة الآخرة. وقد روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزُّهد" عن الحسن قال: لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة: إن الأرض لا تسعهم، قال: إني جاعلٌ موتاً، قالوا: إذاً لا يهنؤهم عيش، قال: إني جاعل أملاً (¬2). وقد قلت: [من الخفيف] مَا سَلا مَنْ سَلا بَعْدَ مَوْتٍ نَزَلْ ... وَأَتَىْ الْمَرْءَ مِنْ بَعْدِ زُهدٍ أَمَلْ ¬
125 - ومنها: تفقد الإخوان، ومعاونتهم، وعيادة مرضاهم
لِسِوَىْ حِكْمَةٍ ذَاقَهَا مَنْ عَقَلْ ... وَلِنَيْلِ الْمُنَىْ أَمْرُهَا قَدْ كَمَلْ لَوْ تَمَادَىْ بِنَا حُزْنُنُا وَالْوَجَلْ ... ظَهَرَ النَّقْصُ فِيْ أَمْرِنَا أَوْ بَطَلْ عَزَّ مَنْ أَحْكَمَ الصُّنعَ فِيْنَا وَجَلْ ... رَبَّنَا الْطُفْ بِنَا لانْتِهَاءِ الأَجَلْ 125 - ومنها: تفقد الإخوان، ومعاونتهم، وعيادة مرضاهم: روى البيهقيُّ عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه قال: إن للمساجد أوتاداً هم أوتادها، وإن لهم جلساً من الملائكة تفقدهم الملائكة إذا غابوا، فإن كانوا مرضى عادوهم، وإن كانوا في حاجة عاونوهم (¬1). وقد سبقت الإشارة في هذا المعنى في لزوم المساجد، وذكرنا ثَمَّ حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فيه. * تَنْبِيْهٌ: روى أبو الشيخ عن العُتبي قال: إذا مرض العبد، ثم عوفي فلم يزدد خيراً، قالت الملائكة: داويناه فلم ينفعه الدَّواء (¬2). ¬
126 - ومنها: الأمر بالتداوي خصوصا بالحجامة
وقد قلت: [من السريع] قَدْ يَمْرَضُ الْعَبْدُ فِيْ دائِهِ ... أَدْوِيةٌ لِلْقَلْبِ لَوْ يَعْقِلُ نَضجُّ مِنْ أَدْوائِنَا وَهِيَ مِنْ ... أَدْوِيةِ الأَدْوَاءِ لَوْ نَعْقِلُ لَكِنْ دَوَاءُ الْفَاسِد الطَّبْعِ لَوْ ... تُؤْتِيهِ مَا شِئْتَ لا يَفْعَلُ 126 - ومنها: الأمر بالتداوي خصوصاً بالحجامة: روى الترمذي وحسَّنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مَرَرْتُ بِمَلأٍ مِنَ السَّماءِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِيْ بملإ من الملائكة إِلاَّ قالَ: عَلَيْكَ بِالْحِجامَةِ" (¬1). وروى ابن ماجه بسند حسن، عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِيْ بِمَلأٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِلاَّ قالُوْا: مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجامَةِ" (¬2). 127 - ومنها: مداواة المرضى، ومباشرة علاجهم، ومؤانستهم: وسبق في ذلك قصة عمران بن حصين مع الملائكة عليهم السَّلام (¬3). ¬
وروى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "المنامات" عن محمَّد بن المُنْكَدر قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر - رضي الله عنه - فرآه ثقيلاً - يعني: في المرض - فخرج من عنده، ودخل على عائشة رضي الله تعالى عنها فإنه ليخبرها بوجع أبي بكر - رضي الله عنه - إذ جاء أبو بكر يستأذن، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أبي -والله -، فدخل فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعجب لما عجل الله تعالى له من العافية، فقال: ما هو إلا أن خرجت من عندي فغفوت، فأتاني جبريل عليه السَّلام فسعطني سعطة، فقمت وقد برئت" (¬1). وروى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "الرضا" عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال: قال لقمان لابنه عليهما السَّلام: يا بُنَيَّ! لا ينزلن بك أمر -رضيته أو كرهته - إلا جعلت في الضمير منك أن ذلك خير لك، قال: أما هذه فلا أعطيكها دون أن أعلم ما قلت كما قلت، قال: يا بُنَيَّ! فإن الله قد بعث نبيًّا هلم حتى نأتيه فنصدقه، قال: اذهب يا أبه، فخرج على حمار وابنه على حمار، وتزودا، ثم سارا أياماً وليالي حتَّى لقيتهما مفازة، وأخذا أُهبتهما لها، فدخلا فسارا ما شاء الله حتَّى ظهرا وقد تعالى النهار واشتد الحر، ونفِدَ الماء والزاد، واستبطآ حماريهما، فنزلا، فجعلا يشتدان على مرقهما، فبينما هما كذلك إذ نظر لقمان أمامه، فإذا هو بسواد ودخان، فقال في نفسه: السواد الشجر، والدخان العمران والنَّاس، فبينما ¬
هما كذلك يشتدان إذ وطئ ابن لقمان على عظم ناتئ على الطريق، فخر مغشياً عليه، فوثب لقمان فضمه إلى صدره، واستخرج العظم بأسنانه، ثم نظر إليه فذرفت عيناه، فقال: يا أبه! أنت تبكي وأنت تقول: هذا خير لي؟ فكيف يكون هذا خيراً لي ونَفِدَ الطعام والماء، وبقيت أنا وأنت في هذا المكان، فإن ذهبت وتركتني على حالي ذهبت بهم وغم ما بقيت، وإن أقمت معي متنا جميعاً؟ فقال: يا بُنَيَّ! أما بكائي فَرِقَّةُ الوالدين، وأما ما قلت: كيف يكون هذا خياراً لي؟ فلعل ما صُرف عنك أعظم ما ابتليت به، ولعل ما ابتليت به أيسر مما صرف عنك، ثم نظر لقمان أمامه فلم ير ذلك الدخان والسواد، وإذا بشخص أقبل على فرس أبلق عليه ثياب بياض وعمامة بيضاء يمسح الهواء مسحاً، فلم يزل يرمُقُه بعينه حتى كان منه قريبا، فتوارى عنه، ثم صاح به: أنت لقمان؟ قال: نعم، قال: أنت الحكيم؟ قال: كذلك يقال، قال: ما قال لك ابنك؟ قال: يا عبد الله! من أنت؟ أسمع كلامك ولا أرى وجهك، قال: أنا جبريل؛ أمرني ربي بخسف هذه المدينة ومن فيها، فأخبرت أنكما تريدانها، فدعوت ربي أن يحبسكما عني بما شاء، فحبسكما بما ابتلى به ابنك، ولولا ذلك لخسف بكما مع من خسف، ثم مسح جبريل يده على قدم الغلام فاستوى قائماً، ومسح يده على الذي كان فيه الماء فامتلأ، ثم حملهما وحماريهما فرحل بهما كما يرحل الطير، فإذا هما في الدار [التي خرجا منها] (¬1) ¬
بعد أيام وليالي (¬1). ولا شك أن مسح جبريل عليه السلام على قدم الغلام علاج ومداواة لو لم يكن إلا أناله بركة يده، وكان ذلك قائماً مقام التكميد، ومن هنا يستحب لعائد المريض أن يضع يده عليه. كما روى الترمذي، وابن السُّنِّي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَمامُ عِيادَةِ الْمَرِيْضِ أَنْ يَضَعَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ عَلَى يَدِهِ، فَيَسْأَلَهُ: كَيْفَ هُوَ؟ " (¬2). ولفظ ابن السُّنِّي: "مِنْ تَمامِ الْعِيادَةِ أَنْ تَضَعَ يَدَكَ عَلَىْ الْمَرِيْضِ فَتَقُوْلَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ وَكَيْفَ أَمْسَيْتَ؟ " (¬3). ويلوح لي أن وضع اليد على المريض إنما شرع لينال المريض بركة يد المؤمن. وقول لقمان لابنه (¬4): "لعل ما صرف عنك أعظم ما ابتليت به" هو أصل ما هو دائر على ألسنة الناس من قولهم: (ما دفع الله كان أعظم)، ولم أجده في الحديث المرفوع. ¬
128 - ومنها: الرقية بذكر الله تعالى، وأسمائه، وكلامه
128 - ومنها: الرقية بذكر الله تعالى، وأسمائه، وكلامه: روى ابن ماجه، وغيره، وصححه الحاكم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أَرْقِيْكُمْ بِرُقْيَةٍ رَقانِيْ بِها جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ؟ يَقُوْلُ: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيْكَ، وَاللهُ يَشْفِيْكَ، مِنْ كُلِّ داءٍ آتِيْكَ، مِنْ شَرِّ النَّفاثاتِ فِيْ الْعُقَدِ، وَمِنْ شَر حاسِدٍ إِذا حَسَدَ؛ يَرْقِيْ بِها ثَلاثَ مَرَّاتٍ" (¬1). وروى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقاه جبريل عليه السلام؟ قال: "بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، من شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين" (¬2). وعن أبي سعيد: أن جبريل عليه السلام أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا محمد! اشتكيت؟ " فقال: "نَعَمْ"، قال: "بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك" (¬3). وأخرجه الترمذي، والنَّسائي، وابن ماجه بالأسانيد الصحيحة، وصححه الترمذي (¬4). ¬
129 - ومنها: حضور العبد المؤمن عند وفاته، وتسليته،
129 - ومنها: حضور العبد المؤمن عند وفاته، وتسليته، وتبشيره، وتطييب خاطره، وتحسين ظنه بربه، وتلقينه كلمة الشهادة، وتحريفه إلى القبلة، وتغميضه: وأدلة ذلك كثيرة جداً. منها قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} [فصلت: 30] الآية. قال مجاهد: ذلك عند الموت. رواه البيهقي (¬1). وروى عنه ابن أبي حاتم، وغيره أنه قال في الآية: أي: لا تخافوا مما تقدمون عليه من الموت وأمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفتم من أمر الدُّنيا من ولد أو أهل، أو دَينٍ؛ فإنه سيخلفكم الله تعالى في ذلك كله (¬2). وروى الطَّبراني في "معجمه الكبير"، وأبو نعيم في "معرفة الصَّحابة" عن جعفر بن محمَّد، [عن أبيه، عن الحارث بن الخزرج، عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3): أن ملك الموت يتصفح وجوه أهل البيت عند مواقيت الصَّلاة، فإذا نظر عند الموت فإن كان ممن يحافظ على الصَّلاة ¬
تنبيه
دنا منه الملك، وطرد عنه الشَّيطان، ويلقنه الملك: لا إله إلا الله محمَّد رسول الله، في ذلك الحال العظيم (¬1). وروى ابن أبي شيبة، وغيره عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: احضروا موتاكم، ولقنوهم: لا إله إلا الله؛ فإنهم يرون، ويقال لهم (¬2). وروى سعيد بن منصور، وغيره عن مكحول قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه: لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله، واعقلوا ما تسمعون من المطيعين منكم؛ فإنه تجلى لهم أمور صادقة (¬3). وروى عبد الرزاق عن الحسن قال: إن الملائكة وجَّهوا آدم حين حضره الموت، ثم غَمَّضوه (¬4). * تَنْبِيْهٌ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن الْمَلائِكَةَ لا تَحْضُرُ الْجُنُبَ، وَلا الْمُتَضَمِّخَ بِالْخَلُوْقِ حَتَّىْ يَغْتَسِلا". رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس - رضي الله عنه - (¬5). ¬
130 - ومنها: زيارة قبور الصالحين، وحملة القرآن
وقالت ميمونة بنت سعد رضي الله تعالى عنها: يا رسول الله! هل يرقد الْجُنُبُ؟ قال: "ما أُحِبُّ أَنْ يَرْقُدَ حَتَّىْ يَتَوَضَّأَ فَإِنِّيْ أَخافُ أَنْ يُتَوَفَّى وَلا يَحْضُرَهُ جِبْرِيْلُ". رواه في "الكبير" أيضاً (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو داود عن عمَّار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَحْضُرُ جَنازَةَ الْكافِرِ بِخَيْرٍ، وَلا الْمُتَضَمّخِ بِالزَّعْفَرانِ، وَلا الْجُنُبِ" (¬2). وفي قوله: "بخير" إشارة إلى أن الملائكة تحضر جنازة الكافر بشرٍّ. وقد ذكرنا فيما سبق أن ملائكة العذاب تتبع جنازة الكافر، وملائكة الرحمة تتبع جنازة المؤمن، والله الموفق. 130 - ومنها: زيارة قبور الصالحين، وحَمَلَة القرآن: روى أبو نعيم عن علي رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا عَلِيُّ! تَعَلَّمِ الْقُرْآنَ وَعَلِّمْهُ النَّاسَ؛ فَلَكَ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَناتٍ، فَإِنْ ¬
131 - ومنها: طرد الشياطين
مِتَّ مِتَّ شَهِيْداً، يا عَلِيُّ! تَعَلَّمِ الْقُرْآنَ وَعَلِّمْهُ النَّاسَ، فَإِنْ مِتَّ حَجَّتِ الْمَلائِكَةُ إِلَىْ قَبْرِكَ كَما يَحُجُّ النَّاسُ إِلَىْ بَيْتِ الله" (¬1). والمراد بالحج هنا قصد قبور حملة القرآن بالزيارة، والاستغفار لهم. 131 - ومنها: طرد الشَّياطين: ومن الأمثال السَّائرة: إذا حضرت الملائكة فرت الشَّياطين. وقد تقدم في كلام جعفر بن محمَّد رضي الله تعالى عنه: أن الملائكة تطرد الشَّياطين عن المحافظ على الصلوات عند الموت. وروى الإمام ابن الإمام، عبد الله بن أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهما في "زوائد الزهد" عن يحيى بن سليم الطَّائفي، عن من ذكره قال: الكلمة التي تزجر بها الملائكة الشياطين حين يسترقون السمع: ما شاء الله (¬2). وقال الله تعالى - حكاية عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8، 9]. قال ابن عباس: كانت الجن قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمعون من السَّماء، فلما بعث حُرِسَتْ، فلم يستطيعوا أن يستمعوا، فجاؤوا إلى قومهم يقولون للذين لم يستمعوا: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ ¬
حَرَسًا شَدِيدًا} [الجن: 8] الملائكة, {وَشُهُبًا} [الجن: 8] وهي الكواكب، {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9]، يقول: نجماً قد أرصد له يرمى به. رواه ابن مردويه (¬1). وقال ابن جريح في قوله: {يَجِدْ لَهُ شِهَابًا} [الجن: 9]، قال: من النجوم، {رَصَدًا} [الجن: 9]: من الملائكة. رواه ابن المنذر (¬2). وروى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وآخرون عن مَعْمَر، عن الزُّهريِّ، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً في نفر من أصحابه، فرمي بنجم، فاستنار، قال: "ما كُنتُمْ تَقُوْلُوْنَ إِذا كانَ مِثْلُ هَذا فِيْ الْجَاهِلِيَّةِ؟ " قالوا: كنا نقول: يولد عظيم، أو يموت عظيم، قال: "فَإِنَّها لا يُرْمَىْ بِها لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا حَياتِهِ، وَلَكِنْ رَبُّنا إِذا قَضَىْ أَمْراً يَهِيْجُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ يُسَبِّحُ أَهْلُ السَّماءِ، فَيَقُوْلُ الَّذِيْنَ يَلُوْنَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: ما قالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُوْنَهُمْ، وَيُخْبِرُ أَهْلُ كُلِّ سَماءٍ سَماءً حَتَّىْ يَنتهِيَ الْخَبَرُ إِلَىْ هَذهِ السَّماءِ، وَيَخْطِفَ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيُرْمَوْنُ، فَما جاؤُوْا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُوْنَ وَيزِيْدُوْنَ فِيْهِ" (¬3). ¬
132 - ومنها: تعظيم جلال الله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأمره
قال معمر: قلت للزهري (¬1): أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال معمر: قال: أرأيت: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)} [الجن: 9]، قال: غُلِّظَت، وشدد أمرها حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 132 - ومنها: تعظيم جلال الله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأمره: روى الشيخان، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه - قال: "إِذا قُضِيَ الأَمْرُ فِيْ السَّماءِ ضَرَبَتِ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِها خُضْعانًا لِقَوْلهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَىْ الصَّفْوانِ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ ... "، الحديث (¬3). وفي حديث خرجه أبو نصر السِّجْزِي في "الإبانة" عن عائشة رضي الله تعالى عنها [قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬4): "فَإِذا أَرادَ ذُوْ الْعَرْشِ أَمْراً سَمِعْتِ الْمَلائِكَةُ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَىْ الصَّفا فَيُغْشَىْ عَلَيْهِمْ، فَإِذا قامُوْا: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] قالَ مَنْ شاءَ اللهُ: ¬
133 - ومنها: الحياء، وغض البصر
{الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] " (¬1). وروى الطَّبراني عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ كِتابِ يُلْقَىْ بِمَضْيَعَةٍ مِنَ الأَرْضِ إِلاَّ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِ مَلائِكَةً يَحُفُّوْنَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ، وُيقَدِّسُوْنَهُ حَتَّىْ يَبْعَثَ اللهُ إِلَيْهِ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيائِهِ يَرْفَعُهُ مِنَ الأَرْضِ، وَمَنْ رَفَعَ كِتاباً فِيْهِ اسْمٌ مِنْ أَسْماءِ اللهِ رَفَعَ اللهُ اسْمَهُ فِيْ عِلِّيِّيْنَ، وَخَفَّفَ عَنْ وَالِدَيْهِ الْعَذابَ وإِنْ كانا كافِرَيْنِ" (¬2). 133 - ومنها: الحياء، وغض البصر: روى ابن أبي شيبة، عن الحسن بن عبيد الله قال: مررت إلى الحمام فرآني أبو صادق، فقال: معك إزارٌ؟ فإن عليا كان يقول: من كشف عورته أعرض عنه الملَك (¬3). وروى عبد الرزاق عن عطاء قال: لا تشهدك الملائكة وأنت على الخلاء (¬4). وعن مجاهد قال: يجتنب الملك الإنسان في موطنين: عند ¬
134 - ومنها المبادرة إلى الطاعة
غائطه، وعند جِماعِهِ. وروى البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يَنْهاكُمْ عَنِ التَّعَرِّيْ؛ فَاسْتَحْيُوْا مِنْ مَلائِكَةِ اللهِ الَّذِيْنَ مَعَكُم، الْكِرامِ الْكاتِبِيْنَ الَّذِيْنَ لا يُفارِقُوْنكُمْ إِلاَّ عِنْدَ إِحْدَىْ ثلاثِ حاجاتٍ: الْغائِطِ، وَالْجَنابَةِ، وَالْغُسْلِ" (¬1). 134 - ومنها المبادرة إلى الطاعة: قال تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وقال تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)} [الأنبياء: 27]. * لَطِيْفَةٌ: روى أبو نعيم عن عكرمة قال: قال جبريل عليه السلام: إن ربي عز وجل ليبعثني إلى شيء لأمضيه فأجد الكَونَ قد سبقني إليه (¬2). أراد بالكون المشار إليه بقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. ¬
135 - ومنها: استدلال النفوس في طاعة الله، وعدم الاستكبار والاستنكاف عنها
فإن قلت: إذا كان الكون سبق جبريل إلى ذلك الشيء، فما الحكمة في إرسال جبريل إليه؟ قلت: الحكمة فيه حصول جبريل عليه السلام على ثواب الطاعة، وإظهار عجائب القدرة الإلهية له ليسبح الله تعالى ويمجده، ويعترف له بالقدر. 135 - ومنها: استدلال النفوس في طاعة الله، وعدم الاستكبار والاستنكاف عنها: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} [الأعراف: 206]. وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]. وقال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20]. وروي أن أُويس القَرني رحمه الله تعالى قال: والله لأعبدن الله عبادة الملائكة، وكان ليلة يَقْطَعُها قائماً، وليلة يقطعها ساجداً (¬1). وفي ذلك إشارة إلى أن أولياء الله من بني آدم تَرَبَأُ هممُهم إلى التشبه بالملائكة، والاقتداء بهم، والتساوي معهم في الطَّاعات. ¬
136 - ومنها: التبري من الحول والقوة في الطاعة وغيرها،
136 - ومنها: التبري من الحول والقوة في الطَّاعة وغيرها، والاعتراف بالعجز عن القيام بحق الله تعالى وعدم الإعجاب بالطَّاعة، والنظر إليها: روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن سفيان، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي عيسى شيخ قديم قال: إن ملكاً لما استوى الرب تبارك وتعالى على كرسيه سجد، فلم يرفع رأسه ولا يرفعه حتى تقوم الساعة، فيقول يوم القيامة: رب لم أعبدك حق عبادتك إلا أني لم أشرك بك شيئا، ولم أتخذ من دونك ولياً (¬1). وروى أبو نعيم عن صفوان بن سليم قال: ما نهض ملك من الأرض حتَى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله (¬2). وأخرجه الديلمي من طريقه -مرفوعا - بسند ظريف تقدم (¬3). وروى ابن منده في "الصَّحابة" عن جرير رضي الله تعالى عنه قال: خرجت إلى فارس فقلت: ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، فسمعني رجل فقال: ما هذا الكلام الذي لم أسمعه من أحد منذ سمعته من السماء؟ فقلت: ما أنت وخبر السماء؟ قال: إني كنت مع كسرى فأرسلني في بعض أموره، فخرجت ثم قدمت، فإذا شيطان خلفني في أهلي على ¬
137 - ومنها: شدة التحرز عن المعصية، وفرط الانبعاث إلى الطاعة، وشدة المبادرة إلى الامتثال والاعتصام بالله تعالى
صورتي، فبدا لي، فقال: شارطني على أن يكون لي يوم ولك يوم وإلا أهلكتك، فرضيت بذلك، فصار جليسي يحادثني وأحادثه، فقال لي ذات يومٍ: إني ممن يسترق السمع والليلة نوبتي، قلت: فهل لك أن أختبئ معك؟ قال: نعم، فتهيأ، ثم أتاني، فقال: خذ بمعرفتي، وإياك أن تتركها فتهلك، فأخذت بمعرفته، فعرج حتى لمست السماء، فإذا قائل يقول: ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، فسقطوا بوجوههم، فسقطت، فرجعت إلى أهلي، فإذا أنا به يدخل بعد أيام، فجعلت أقول: ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: فيذوب بذلك حتى يصير مثل الذباب، ثم قال لي: قد حفظتَه فانقطعْ عنَّا (¬1). 137 - ومنها: شدة التحرز عن المعصية، وفرط الانبعاث إلى الطاعة، وشدة المبادرة إلى الامتثال والاعتصام بالله تعالى: قال الله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6]. وقال تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. 138 - ومنها: التوبة، كما تقدم في حديث أنس رضي الله تعالى عنه: أنهم حين أعرض الله عنهم لقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] طافوا بالعرش ست سنين يقولون: لبيك ¬
لبيك، اعتذاراً إليك، لبيك لبيك، نستغفرك ونتوب إليك (¬1). والملائكة -وإن كانوا معصومين على أحد القولين - فإن لهم توبةً تليق بهم كما في توبة الأنبياء، واستغفارهم مع أنهم معصومون أيضا. وقد قال ذو النون وغيره من العارفين: حسنات الأبرار سيئات المقربين (¬2). ولذلك خاطب الله تعالى جميع المؤمنين بالتوبة، فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] مع أن هذا الخطاب شامل للمعصومين. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أَيُّها النَّاسُ! تُوْبُوْا إِلَىْ رَبِّكُمْ؛ فَوَاللهِ إِنِّي لأتُوْبُ إِلَىْ اللهِ فِيْ الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ". رواه أحمد، ومسلم (¬3). قيل: توبته - صلى الله عليه وسلم - من تنزله إلى أوطان الرخصة لأجل التشريع. أو من إقامته في طَور من أطوار الشريعة في نظرة، أو خطرة، أو ¬
نحو ذلك دون الترقي في مدارج الكمال، وسائر الأطوار والأحوال. وقيل غير ذلك. وكذلك تنزل توبة الملائكة على ما يليق بهم، فقد يكون توبة الملك حذراً من تقصير بفرض في وقت من الأوقات أو مخالفة لما هو من شأنهم من المداومة على الطَّاعة من غير فتور. وقد روى الدينوري في "مجالسته" عن يوسف بن أسباط قال: سمعت الثوري يقول: بلغني أن الله تعالى يأمر الملك من الملائكة بالأمر فيقصر الطيران، فيقص جناحه، فلا يصعد إلى السَّماء إلى يوم القيامة (¬1). وقد تكون توبة الملائكة من رؤية النفس، أو من سؤال عن وجه الحكمة كما في قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ} [البقرة: 30]. روى ابن جرير عن الحسن، وقتادة رحمهما الله تعالى قالا: لما أخذ الله في خلق آدم همست الملائكة فيما بينها، فقالوا: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه، فلما خلقه أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا، ففضله عليهم، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه، فقالوا: إن لم نكن خيراً منه فنحن أعلم منه لأنا كنا قبله، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)} [البقرة: 31]، فعُلِّمَ اسم كل شيء، [و] جعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضوا عليه أمة أمة، ثم عرضهم على الملائكة فقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ ¬
139 - ومنها: شدة الخوف من الله تعالى مع أنهم على قدم
صَادِقِينَ} [البقرة: 31]، ففزعوا إلى التوبة فقالوا: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا} [البقرة: 32] الآية (¬1). 139 - ومنها: شدة الخوف من الله تعالى مع أنهم على قدم الاستقامة كما يظهر لك من هذه الآية: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} [النحل: 50] إذا جعلت الواو في قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} واو الحال؛ أي: يخافون ربهم خوف العبد الذليل المفتقر من الرَّب العظيم المقتدر، كما يفهم من قوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ} إذ هي فوقية العظمة والاقتدار؛ أي: هذا شأنهم، والحال أنهم يفعلون ما يؤمرون بفعله على حد المبادرة إلى الامتثال، وعدم التأخر والتأمل بدليل أنه قال: {مَا يُؤْمَرُونَ} , ولم يقل: ما أمروا، فخوف الملائكة مع الاستقامة والجد في الطَّاعة لا مع الانحراف والتقصير؛ ولذلك يقولون لأهل الإيمان والاستقامة: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت: 31]؛ فالحالة الجامعة بين الملائكة وبينهم هي الإيمان والاستقامة، وهي سبب الولاية التي بينهم. وقد أثنى الله تعالى على من تشبه بالملائكة في هذه الخصلة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61]. ¬
وروى الحاكم وصححه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: يا رسول الله! قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] أهو الرجل يزني، ويسرق، ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله عز وجل؟ قال: "لا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُوْمُ، وَيُصَلِّيْ، وَيَتَصَدَّق وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخافُ اللهَ عز وجل" (¬1). وأما الأحاديث، والآثار الواردة في خوف الملائكة عليهم السلام فكثيرة نذكر منها نبذة هنا. روى ابن عساكر في "تاريخه" عن عليِّ رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما شِئْتُ أَنْ أَرَىْ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ مُتَعَلِّقاً بِأَسْتارِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ يَقُوْلُ: يا واحِدُ! يا ماجِدُ! لا تُزِلْ عَنِّيْ نِعْمَةً أَنْعَمْتَ بِها عَلَيَّ، إِلاَّ رَأَيْتُهُ" (¬2). وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب "الصَّلاة"، والبيهقي في "الدلائل" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِيْ وَجِبْرِيْلُ بِالْمَلأِ الأَعْلَىْ كَالْحِلْسِ الْبالِيْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ" (¬3). ¬
والحلس هو: الكساء الذي يلقى على ظهر البعير مما يلي ظهره. وروى أبو الشيخ الأصبهاني عن ابن عباس لهما قال: إن جبريل عليه السلام يوم القيامة لَقائمٌ بين يدي الجبار ترتعد فرائصه فَرَقاً من عقاب الله (¬1)؛ أي: خوفاً منه. وروى الإمام أحمد، وابن أبي الدُّنيا بسند جيد، عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه - سأل جبريل عليه السلام: "ما لِيَ لا أَرَىْ مِيْكائِيْلَ يَضْحَكُ؟ " فقال جبريل: "ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار" (¬2). ¬
وروى البيهقي مثل ذلك في حق إسرافيل عليه السلام (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الخائفين" عن رباح بن زيد رحمه الله تعالى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل عليه السلام: " ... ما لَكَ لا تَأْتِيْنِيْ إِلاَّ وَأَنْتَ صارٌّ بَيْنَ عَيْنَيْكَ؟ " قال: "إني لم أضحك منذ خلقت النار" (¬2). وروى "فيه" عنه، عن أبي فضالة، عن أشياخه قال: إن لله تعالى ملائكة لم يضحك أحدهم منذ خلقت النار مخافة أن يغضب الله عليهم فيعذبهم (¬3). وروى "فيه" عن بكر العابد قال: قلت لجليس لابن أبي ليلى - يعني: أبا الحسن -: أتضحك الملائكة؟ قال: ما ضحك مَنْ دُوْنَ العرش منذ خلقت جهنم (¬4). وروى "فيه" عن محمد بن المُنْكَدر قال: لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة من أماكنها، فلما خُلِقت بنو آدم عادت (¬5). وروى أبو نعيم عن طاوس رحمه الله تعالى قال: لما خلقت النار ¬
طارت أفئدة الملائكة، فلما خلق آدم عليه السلام سكنت (¬1). وقال الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد": أخبرنا عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، قال: إن من دعاء الملائكة عليهم السلام: اللهم ما لم تبلغه قلوبنا من خشيتك يوم نقمتك من أعدائك فاغفره لنا، أو نحو ذلك (¬2). وروى الدِّينوري في "المجالسة" عن شعيب بن سليمان قال: أتى ذو القرنين مغرب الشمس، فرأى ملكا من الملائكة كأنه يترجح في أرجوحة من خوف الله تعالى فهاله ذلك، فقال له: علمني علماً لعلي أزداد إيمانا، قال: إنك لا تطيق ذلك، قال: لعل الله أن يُطَوِّقَنِي ذلك، فقال له الملك: لا تغتم لغدٍ، واعمل في اليوم لغد، وإذا آتاك الله من الدنيا سلطاناً فلا تفرح به، وإذا صرفه عنك فلا تأسَ عليه، وكن حسن الظن بالله، وضع يدك على قلبك، فما أحببت أن تصنع لنفسك فاصنع بأخيك، ولا تغضب؛ فإن الشيطان أغضب ما يكون على ابن آدم حين يغضب، فَرُدَّ الغضب بالكظم، وسكِّنه بالتؤدة، وإياك والعجلة؛ فإنك إذا عجلت أخطأت، وكن سهلاً لينا للقريب والبعيد، ولا تكن جباراً عنيداً (¬3). ¬
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ «وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ» تَألِيف العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة 977 هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة 1061 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى تَحقِيقَ وَدِرَاسَة لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ بِإِشْرَافِ نُورِ الدِّين طَالِب المُجَلَّد الثَّاني دَارُ النَّوادِرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ (2)
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 7 - 84 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
تَابِع (1) باب التَّشَبُّه بِالمَلاَئِكَةِ عَلَيْهِم السَّلَام
140 - البكاء من خشية الله تعالى
تَابِع (1) بَابُ التَشَبُّه بِالمَلاَئِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَام ومن أخلاق الملائكة عليهم السلام: 140 - البكاء من خشية الله تعالى: روى أبو الشيخ عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد قال: نظر الله تعالى إلى جبريل وميكائيل عليهما السلام وهما يبكيان، فقال الله تعالى: "ما يبكيكما وقد علمتما أني لا أجور؟ " فقالا: "يا رب! إنا لا نأمن مكرك"، قال: "هكذا فافعلا؛ فإنه لا يأمن مكري إلا كلُّ خاسر" (¬1). وروى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "الرقة والبكاء" عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: "إِنَّ لِلَّهِ عز وجل مَلائِكَةٌ تُرْعَدُ فَرائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَتِهِ، ما مِنْهُمْ مَلَكٌ يَقْطُرُ دَمْعَةً مِنْ عَيْنِهِ إِلاَّ وَقَعَتْ مَلَكاً يُسَبِّحُ اللهَ، قال: وَلِلَّهِ عز وجل مَلائِكَةٌ سُجُوْدٌ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ لَمْ يَرْفَعُوْا رُؤُوْسَهُمْ، وَلا يَرْفَعُوْنَها إِلَىْ يَوْمِ الْقِيامَةِ، فَإِذا كانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ تَجَلَّىْ لَهُمُ اللهُ عز وجل فَنَظَرُوْا إِلَيْهِ تَبارَكَ ¬
وَتَعالَىْ فَقالُوْا: سُبْحانَكَ! ما عَبَدْناكَ كَما يَنْبَغِيْ لَكَ" (¬1). وروى "فيه" عن زياد بن أبي حبيب قال: إن من حملة العرش من يسيل من عينيه أمثال الأنهار من البكاء، فإذا رفع رأسه قال: سبحانك! ما نخشاك حق خشيتك، قال الله عز وجل: لكن الذين يحلفون باسمي كاذبين لا يعلمون ذلك (¬2). وروى "فيه" عن أبي عِمْرانَ الجَوني قال: بلغنا أن جبريل عليه السلام جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبكي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يُبْكِيْكَ؟ " قال: "أوما تبكي أنت يا محمد؟ ما جفت لي عين منذ خلق الله جهنم مخافة أغضبه فيلقيني فيها" (¬3). وروي "فيه" عن يوسف بن يعقوب، ولقمان الحنفي قالا: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لَمَّا عُرِجَ بِيْ وَكُنْتُ فِيْ السَّماءِ الرَّابِعَةِ سَمِعْتُ دَوِيًّا، فَقُلْتُ: يا جِبْرِيْلُ! ما هَذا الدَّوِيُّ الَّذِيْ أَسْمَعُ؟ قالَ: هَذا بُكاءُ الْكُرُوْبِيِّيْنَ عَلَى أَهْلِ الذُّنُوْبِ مِنْ أُمَّتِكَ" (¬4). ¬
141 - ومنها: الخضوع، والخشوع
وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما شَهِدَ الْمَلائِكَةُ مِنْ لَهْوِكُمْ إِلاَّ الرِّهانَ وَالنِّضالَ" (¬1). قال الأزهري، وغيره من أئمة اللغة: النضال: يقال في المسابقة في الرمي بالسهام، ونحوها (¬2). الرهان: في المسابقة على الخيل، ونحوها (¬3). والسباق: يقال فيهما (¬4). وإنما لم يشهدوا اللهو لأنه يلهي ويضحك، وحالهم الخوف والبكاء -كما علمت -؛ وإنما يشهدون السباق لأنه يعين على الجهاد، ولا يلزم من شهودهم إياه أن يلهوا ويضحكوا. 141 - ومنها: الخضوع، والخشوع: وهو في السمع والبصر كالخضوع في البدن، وأصلهما في القلب. روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه - بَلَغَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا قُضِيَ الأَمْرُ فِيْ السَّماءِ ضَرَبَتِ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِها خُضْعانا لِقَوْلهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوانٍ" (¬5). ¬
142 - ومنها: التلطف بأهل الشام، وإرادة الخير لهم، ودفع السوء عنهم
والخضعان -بكسر الحاء المعجمة -: جمع خاضع. وبضمها: المصدر. وروى عبد بن حُميد عن مَيسرة قال: حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى، ورؤوسهم قد حرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وهم أشد خوفا من أهل السماء السابعة، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء التي تليها، والتي تليها أشد خوفاً من التي تليها (¬1). قلت: فيه إشارة إلى أن الخوف على قدر القرب، فكلما كان العبد من الله أقرب كان منه أخوف، وقرب المقربين منه قرب المكانة والإكرام، لا قرب المكان؛ فَافْهَم. 142 - ومنها: التلطُّف بأهل الشَّام، وإرادة الخير لهم، ودفع السوء عنهم: وهو معنى بسط أجنحة الملائكة عليها المشار إليه في حديث زيد ابن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً ونحن عنده: "طُوْبَىْ لِلشَّامِ؛ إِنَّ مَلائِكَةَ الرَّحْمَنِ باسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهِمْ". رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه هو، وابن حبان، والحاكم (¬2). ¬
143 - ومنها: حضور مجالس العلم
143 - ومنها: حضور مجالس العلم: وقد تقدم أن الملائكة يحفون بمجالس الذكر، ومجالس العلم أفضل مجالس الذكر، وتقدَّم أيضاً: أن الملائكة عليهم السَّلام "تضع أجنحتها لطالب العلم" (¬1)، وتوالي أهل العلم وتزورهم، وكل ذلك يدل على أنهم يحضرون مجالسهم. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن ابن سيرين قال: دخلت فإذا حميد بن عبد الرحمن يذكر العلم، وإذا سعيد بن عبد الرحمن يقص في ناحية، فقلت: إلى أيهما أجلس؟ قال: فلم أقعد إلى واحد منهما، ووضعت رأسي إلى سارية فنمت، وأتاني آت في المنام، فقال لي: أَمْثَلْتَ بينهما؟ لئن شئت لأريتك مقعد جبريل عليه السلام من حميد بن عبد الرحمن؛ يعني: الحميدي (¬2). وقد قلت في فضل مجالس العلم، وحِلَقِهِ: [من الخفيف] حِلَقُ الْعِلْمِ كَالرِّيَاضِ الْبَدِيْعَة ... سَامِيَات عَلَى الرَّوابِي الرَّفِيْعَة حَفَّ أَمْلاكُ رَبَّتَا بِحِماهَا ... فَأَصاخَتْ إِلَى هُداها سَمِيْعة ¬
فَاحْتَضِرْ فِيْ حَضارِها إِنَّ عَبْداً ... يَجْتَبِيْها لَفِي حُصُوْنٍ مَنِيْعَة كَيْفَ لا وَهْوَ فِيْ حِمَى الْمَلأِ الأَعْـ ... ـــلَىْ وَهُمْ خَيْرُ رِفْقَةٍ وَطَلِيْعَة وَالَّذِيْ حادَ عَنْ حِماها وَوَلَّى ... فَهْوَ وَاللهِ هَائِمٌ بِمَضِيْعة خَائِرٌ في مَهامِهِ الْجَهْلِ يَسْعَى ... كُلَّما أَبْصَر السَّرابَ بِقِيْعة فَإِذا جاءَ لَمْ يَجِدْهُ بِشَيْءٍ ... بَلَّ مِنْ بَرْدِهِ الظَّما بِنَقِيْعَة فَالْزَمِ الْعِلْمَ تَأمَنِ التِّيْهَ وَالْحِيْـ ... ــــــرَةَ مَهْمَا لَزِمْتَ حُكْمَ الشَّرِيْعَة وَتَقَرَّ الْعُيُوْنُ مِنْكَ وَتَأمَنْ ... وَصْمَةَ الْبُعْدِ وَالْجَفَا وَالْقَطِيْعَة رَبِّ زِدْنِي بِمَحْضِ فَضْلِكَ عِلْماً ... أتَّخِذْهُ إِلَىْ رِضاكَ ذَرِيْعَة وَأَبحْنِيْ فَراغ قَلْبِي وَخَلِّصـ ... ـــــه لِمَا تَرْتَضِيْهِ مِنِّي جَمِيْعَه
144 - ومنها: ختم المجالس بالتسبيح والتحميد
144 - ومنها: ختم المجالس بالتسبيح والتحميد: وقد يستدل على أن ذلك من فعل الملائكة عليهم السلام بقوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]؛ فإن القائلين: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هم الملائكة، أو أهل الجنة، على قولين للمفسرين. وروى البغوي في "تفسيره" عن علي رضي الله تعالى عنه: أنه قال: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه: سبحان ربك رب العزة عفا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن الشَّعبي مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتالَ بِالْمِكْيالِ الأَوْفَىْ مِنَ الأَجْرِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَلْيَقُلْ فِيْ آخِرِ مَجْلِسِهِ حِيْنَ يُرِيْدُ أَنْ يَقُوْمَ: سُبْحانَ رَبّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفوْنَ، وَسَلامٌ عَلَىْ الْمُرْسَلِيْنَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِيْنَ" (¬2). ¬
فصل
فَصْلٌ فهذه جملة صالحة من أخلاق الملائكة عليهم السلام، وأعمالهم، وهي من أخلاق الأنبياء عليهم السلام أيضاً، فينبغي التشبه بهم فيها؛ فإن الطمع في أخلاقهم، واللحاق بهم من شأن العُبَّاد والصَّالحين، ولولا الطمع في الالتحاق بالملائكة عليهم السَّلام ما أكل آدم وحواء عليهما السَّلام من الشجرة، كما تقدم بيان ذلك أول الباب. وقال القاضي ناصر الدين البيضاوي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]: كان من المعلوم أن الحقائق لا تنقلب، وإنما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما - أيضاً - ما للملائكة من الكمالات الفطرية، والاستغناء عن الأطعمة والأشربة (¬1)، انتهى. وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان قد يترقى في كمال الذات حتى يغلب عليه عالم الروح، ويلتحق بالملائكة. قال الشيخ أبو النجيب عبد القاهر السُّهْرَوردي رضي الله تعالى ¬
عنه في كتاب "آداب المريدين": وأجمعوا أن العبد ينتقل في الأحوال حتَّى يصير إلى نعت الروحانيين، فتنطوي له الأرض، ويمشي على الماء، ويغيب عن الأبصار. وقال جدي شيخ الإسلام الرضي الغزي في منظومته المسماة بِـ: "الدرر اللوامع في الأصول": [من الرجز] وَالْعَبْدُ يَنْتَقِلُ (¬1) بِالإِحْسانِ ... إِلَىْ صِفاتِ الْمَلَكِ الرُّوْحَانِي تُطْوَىْ لَهُ مَسَافَةُ الْبَيْداءِ ... وَيَعْتَلِيْ فِيْ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ قلت: ومن الأدلة الواضحة على ذلك تلطف جثمانية النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كان لا يرى له في الشمس ظل (¬2). روى الحكيم الترمذي عن ذكوان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرى له ظل في شمس ولا قمر (¬3). وقال ابن سبع: من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أن ظله كان لا يقع على الأرض، وأنه كان نوراً، وكان إذا مشى في الشمس والقمر لا يظهر له ظل. ¬
قال السيوطي - نقلاً عن بعضهم -: ويشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَاجْعَلْنِيْ نوْراً" (¬1) (¬2) قلت: الخصيصة به إنما هي عدم ظهور ظله في ضياء الشَّمس ونور القمر، وأما النورانية فقد تكون لغيره من الأنبياء والأولياء، ولقد قال الله تعالى حكاية عن صواحبات يوسف عليه السلام: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]. روى الحاكم عن كعب الأحبار: أن يوسف عليه السلام كان إذا تبسَّم رأيت النور في ضواحكه (¬3). وروى أبو الشيخ عن إسحاق بن عبد الله قال: كان يوسف عليه السلام إذا سار في أزقة مصر يُرَى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى تلألؤ الماء والشمس على الجدران (¬4). وروى هو، وابن أبي حاتم، وآخرون عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان وجه يوسف عليه السَّلام مثل البرق، وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به (¬5). ¬
يعني: لشدة حيائه وكرمه. ومن ثَمَّ قال النسوة فيه: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]. قال القاضي البيضاوي في هذه الآية: كأن الجمع بين الجمال الرائق، والكمال الفائق، والعصمة البالغة من خواص الملائكة (¬1)، انتهى. قلت: وصدق القاضي رحمه الله تعالى؛ فلا يكون العبد ملحقاً بالجمال والحسن بالملائكة عليهم السَّلام إلا إذا كان معصوماً أو محفوظاً، والذي استقرأته في مدة عمري - ولا أعتقد إلا أنه سنة من سنن الله تعالى جارية - أنه ما من جمال حفظه صاحبه، وصانه بالتقوى إلا ازداد بهاؤه وضياؤه كما طعن صاحبه في السن، وما من جمال عرضه صاحبه للتهم فامتهنه الفساق بأبصارهم (¬2)، وانتهكه الشعراء بأشعارهم (¬3) إلا عاد قبحاً وإجراماً في الْكِبَر. وقد شاهدت جماعة من أولياء الله تعالى - في سن الشيخوخة؛ بحيث لو كان غيرهم لأدركه الهرم - يتلألأ في وجوههم أنوار التقوى ¬
والصيانة، وكمال الخلقة والخليقة حتى لا تكاد الأبصار تروى من النظر إلى جمالهم؛ منهم شيخ الإسلام الوالد رضي الله تعالى عنه، ولم تر عيناي مثله جلالاً وجمالاً في عالم الحسن، ولعلي لا أنفرد بهذا الاعتقاد عن سائر من شاهد الشيخ رضي الله تعالى عنه، ولقد كان بالصفة التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ آتاهُ اللهُ وَجْهاً حَسَناً، وَاسْماً حَسَناً، وَجَعَلَهُ اللهُ فِيْ مَوْضعٍ غَيْرِ شائِنٍ، فَهُوَ مِنْ صَفْوَةِ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ". قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قال الشاعر: [من الخفيف] (¬1) أَنْتَ شَرَطُ النَّبِيِّ إِذْ قالَ يَوْماً ... اطْلُبُوْا الْخَيْرَ مِنْ حِسَانِ الْوُجُوْهِ وروى أبو نعيم في "الحلية" عن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: من كان ذا صورة حسنة في موضع لا يشينه، ووسع عليه ¬
رزقه، ثم تواضع لله، كان من خالصة الله - عز وجل - (¬1). وقال الحافظ أبو الفضل بن حجر العسقلاني في معناه: [من السريع] مَنْ كانَ ذَا حُسْنٍ وَذا حَسَبٍ ... زَاكٍ وَوُسِّعَ رِزْقُهُ وَغَدَا مُتَوَاضِعاً لِلَّهِ فَهُوَ إِذَنْ ... مِنْ خَالِصِ الرَّبِّ الرَّحِيْمِ غَدَا وقلت في ذلك: [من البسيط] مَنْ وَسَّعَ اللهُ فِيْ أَرْزاقِهِ وَلَهُ ... فِيْ غَيْرِ مَوْضعِ شَيْنٍ صُوْرَةٌ حَسَنَة وَقَدْ تَوَاضَعَ فَهْوَ مِنْ خُلاصَةِ خَلـ ... ــــقِ اللهِ حَيْثُ تَرَاهُ جاءَ بِالْحَسَنَة وقد صار في غاية القلة مَنِ اتصفَ بهذه الخلة، بل يكاد أن يكون معدوماً مَنْ كان بهذه الصفة موسوماً. ومنذ زمان ومدد قال الحارث بن أسد - وقد روى عنه هذه المقالة ¬
جماعة؛ منهم القشيري في "الرسالة" -: فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الأمانة، وحسن الإخاء مع الوفاء (¬1). ومن الأدلة على أن المرء قد يترقى في الصفاء والنورانية بالتقوى حتى يلتحق بالملائكة: ما رواه الترمذي، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة (¬2) - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رَأَيْتُ جَعْفَرَ بْنَ أِبيْ طالِب مَلَكاً يَطِيْرُ فِيْ الْجَنَّةِ بِجَناحَيْنِ" (¬3). وروى الطبراني بسندين - أحدهما حسن - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَيْتُ جَعْفَرَ بْنَ أَبِيْ طالبٍ - صلى الله عليه وسلم - مَلَكاً يَطِيْرُ فِيْ الْجَنَّةِ ذَا جَناحَيْنِ، يَطِيْرُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ مَقْصُوْصَةً قَوادِمُهُ بِالدِّماءِ" (¬4). ¬
وفي هذا الباب أحاديث أخر. وما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - عن جعفر - وإن كان ذلك بعد موته، وهو رضي الله تعالى عنه في البرزخ - فإن حال العبد في البرزخ مرتبةٌ على حاله في الدُّنيا، وقد كان جعفر في حياته كأنه ملك كريم، ولذلك أثَّرَتْ قراءته لسورة مريم بين يدي النجاشي في النجاشي، ومن عنده من الأساقفة والقسيسين حتى فاضت أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق (¬1) - وإن كان القرآن في نفسه كافياً في تأثير القلوب التي سبقت لها السعادة - فإن صدق المؤدي وتقواه مما يزيد في تأثيرها، ورُبَّ قاسي قلب لا يتأثر من سماع القرآن عمره حتى إذا سمعه من صادق تقيٍّ دُكَّتْ جبالُ نفسه وهواه لما تجلى في قلبه من كلام مولاه، فلعل جعفراً رضي الله تعالى عنه كان يشاهده الصادقون كما شاهد النسوة يوسف عليه السَّلام؛ فإنَّ من كان في مثل هذه الحالة لا يخفى في الغالب عن بصائر الصَّادقين. كما روى أبو نعيم في "الحلية" عن كثير بن الوليد قال: كنت إذا رأيت ابن شَوذب ذكرت الملائكة عليهم السلام (¬2). وروى ابن السمعاني في "أماليه" عن الإمام أبي الفتح ناصر بن الحسين العمري قال: لم يكن في زمان أبي بكر القفال أفقه منه، ¬
ولا يكون بعده مثله، وكنا نقول: إنه ملك في سورة إنسان (¬1). وفي قوله: ولا يكون بعده مثله، نظر. وقد يكون للمؤمن حالة يلتحق فيها بالملائكة عليهم السَّلام كان لم يكن معصوماً ولا محفوظاً، وهي حالة الضعف والافتقار إلى الله تعالى من مرض أو فقر أو جوع أو غلبة عدو أو انقطاع بمضيعة؛ فإنه حينئذ يرق قلبه، ويقرب من ربه ما لا يتفق له في حال القوة والاستغناء باعتبار ما يتوكله العبد - وإن كان افتقاره لازماً باعتبار الحقيقة - ولذلك كانت دعوة المسافر والصائم والمريض والمضطر مستجابة كما نطق بذلك الأحاديث الشريفة. وروى ابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا دَخَلْتَ عَلَىْ مَرِيْضٍ فَمُرْهُ يَدْعُوْ لَكَ؛ فَإِنَّ دُعاءَهُ كَدُعاءِ الْمَلائِكَة" (¬2). ¬
فصل
فَصْلٌ وحيث ثبت أن العبد يجوز أن يلتحق بالملائكة في كثير من صفاتهم لترَقِّيْهِ في الإيمان والإحسان، فلا بِدْعَ حينئذٍ أن يشاهد في هذه الحالة جواهر الملائكة وأرواح الأنبياء عليهم السلام وقد نص على هذه المسألة حجة الإسلام في كتاب "الأربعين في أصول الدين"، فقال رضي الله تعالى عنه - بعد أن ذكر لباب الذكر، وهو أن يستمكن المذكور من القلب ويمحى الذكر ويخفى -؛ قال: وذلك بأن لا يلتفت القلب إلى الذكر، ولا إلى القلب، بل يستغرق المذكور جملته، ومهما ظهر له في أثناء ذلك التفات إلى الذكر فذلك حجاب شاغل، قال: فهذه الحالة التي يعبر عنها العارفون بالفناء، وبسط رضي الله تعالى عنه في تقرير حال الفناء. ثم قال: فإذا فهمت الفناء في المذكور، فاعلم أنه أول الطريق، وهو الذهاب إلى الله تعالى، وإنما الهدي بعدُ؛ أعني بالهدي: هدي الله، كما قال الخليل عليه السلام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]؛ فأول الأمر ذهاب إلى الله تعالى، ثم ذهاب
في الله، وذلك هو الفناء والاستغراق به. قال: لكن هذا الاستغراق أولاً يكون كبرق خاطف قلما يثبت ويدوم، فإذا دام ذلك وصارت عادة راسخة، وهيئة ثابتة يخرج به إلى العالم الأعلى، وطالع الوجود الحقيقي، وانطبع فيه نقش الملكوت، وتجلى له قدس اللاهوت. قال: وأول ما يتمثل له من ذلك العالم جواهر الملائكة، وأرواح الأنبياء، والأولياء في سورة جميلة تفيض إليه بواسطتها بعض الحقائق، وذلك في البداية إلى أن تعلو درجته عن المثال، ويكافح بصرائح الحق في كل شيء (¬1). انتهى. قال شيخ الإسلام الجد في "ألفيته في التصوف" في معنى ذلك: [من الرجز] الذِّكْرُ أَنْ تَغِيْبَ فِيْ الْوُجُوْدِ ... عَنْكَ وَتَنْدَرِجَ فِيْ الشُّهُوْدِ فَلا تُحِسُّ بِجَمِيْع الْخَلْق ... وَذَاكَ فِيْ التَّحْقِيْقِ حَقُّ الْحَقِّ هَذَا هُدَى اللهِ إِلَيْهِ فَاهْتَدُوْا ... وَلا تَضِلُّوْا عَنْ هُدَاهُ تُلْحِدُوْا ¬
مَنْ غابَ فِيْ ذِيْ الْحَضْرَةِ الْمُبَارَكَة ... رَأَىْ بِهَا جَواهِرَ الْمَلائِكَة مُشاهِداً أَرْواحَ الأنْبِياءِ ... مُخالِطاً فِيْها لِلأوْلِيَاءِ وهذا لا شبهة فيه؛ أعني: مشاهدة بعض صلحاء البشر غير الأنبياء لبعض الملائكة كما شاهدت مريم عليها السلام منهم جبريل عليهم السلام وقد تمثل لها بشراً سوياً، وقال تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42]. وقد جاءت أحاديث صحيحة كثيرة تشهد لجواز رؤية البشر للملائكة كما جازت رؤية الصحابة لجبريل في سورة دحية الكلبي (¬1) - وقد تقدم بعضها -، وأحاديث رؤيتهم الملائكة في غزاة بدر (¬2)، وغيرها، وحديث عمر رضي الله تعالى عنه المتقدم في صدر الباب في مجيء جبريل عليه السَّلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسؤاله إياه عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذا جِبْرِيْلُ أَتاكُمْ يُعَلّمُكُمْ دِيْنَكُمْ" (¬3). ¬
وكذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المروي في "صحيح مسلم" عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّ رَجُلاً زارَ أَخاهُ فِيْ قَرْيَةٍ فَأَرْصَدَ اللهُ عَلَىْ مَدْرَجَتِهِ - أَيْ: طَرِيْقِهِ - مَلَكاً، فَلَمَّا أتَىْ إِلَيْهِ قالَ: "أَيْنَ تُرِيْدُ؟ " لا قالَ: "أُرِيْدُ أَخاً لِيْ فِيْ هَذهِ الْقَرْيَةِ"، قالَ: "هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّها؟ " قالَ: "لا، غَيْرَ أَني أَحْبَبْتُهُ لِلَّهِ تَعالَىْ"، قالَ: "فَإِنِّي رَسُوْلُ اللهِ إِلَيْكَ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَما أَحْبَبْتَهُ فِيْهِ" (¬1). قال النووي رحمه الله تعالى في "شرح مسلم": وفي هذا الحديث فضل المحبة في الله، وأنها سبب لحب الله تعالى العبدَ، وفيه فضيلة زيارة الصَّالحين، والأصحاب، وفيه أن الآدميين قد يرون الملائكة (¬2)، انتهى. وقد ذكرت لهذه المسألة أدلة أخر في كتاب "منبر التوحيد" الذي شرحت فيه "ألفية الجد" رحمه الله تعالى. ثم إذا قلنا بجواز رؤية الملائكة لبعض البشر، فهل يتفق لهم رؤيتهم على أصل خلقتهم، أم متمثلين بصور تليق بحال الرائي؟ لا مانع من رؤية الملائكة على أصل خِلقتهم؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل عليه السلام على أصل خلقته مرتين، وما جاز أن يكون ¬
معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي (¬1). ومنع بعض العلماء من رؤية جبريل عليه السلام على أصل خلقته إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إنها من خصائصه. قلت: وقد يستأنس للأول بما رواه البيهقي، وغيره عن عمار رضي الله تعالى عنه: أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله! أرني جبريل في صورته، قال: "اقْعُدْ"، فنزل جبريل عليه السلام على خشبة كانت في الكعبة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ارْفَعْ طَرْفَكَ فَانْظُر"، فرفع رأسه، فرأى قدميه مثل الزمرُّد الأخضر (¬2). ¬
فائدة
ولكن الغالب أن تتمثل الملائكة للصالحين في سورة مأنوسة لهم للمجانسة. قال الله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9] وقد تقدم حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان الملك يتصور في سورة من يعرفون من الناس يثبتونهم؛ يعني: في غزاة بدر (¬1). * فائِدةٌ: روى الدينوري في "مجالسته"، والثعلبي في "تفسيره" عن محمد ابن جبير بن سليم، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: لم يسمع أحد بالوحي يلقى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، فإنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجده يوحى إليه، فسمع: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] (¬2). قلت: ولِبنتِ الصديق عائشة رضي الله عنها خصوصية قريبة من هذه الخصوصية التي لأبيها؛ فقد روى البخاري، والترمذي [عن عائشة]، والنسائي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "يا أُمَّ سَلَمَةَ! لا تُؤْذِيْنيْ فِيْ عائِشَةَ؛ فَإِنَّهُ - وَاللهِ - ما نزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنا فِيْ لِحافِ امْرَأةٍ منْكُنَّ غَيْرِها" (¬3). ¬
فائدة أخرى
* فائِدةٌ أُخْرَىْ: ملازمة الطهارة، والذكر، والإنابة إلى الله تعالى توجب دوام صحبة الملائكة عليهم السلام ومحافظتهم على العبد، وطرد الشياطين عنه لما علمت من إحفاف الملائكة بالذاكرين، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "طَهِّرُوْا هَذهِ الأَجْسادَ طَهَّرَكُمُ اللهُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَبِيْتُ طاهِراً إِلاَّ باتَ مَعَهُ فِيْ شِعارِهِ مَلَكٌ لا يَتَقَلَّبُ ساعَةً مِنْ لَيْل إِلاَّ قالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِكَ فَإِنَّهُ باتَ طاهِراً". رواه الطبراني في "معجمه الأوسط" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬1). وروى الحاكم، ومسلمٌ عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا أَوَىْ الرَّجُلُ إِلَىْ فِراشِهِ ابْتدَرَهُ مَلَكٌ وَشَيْطانٌ فَيَقُوْلُ الْمَلَكُ: أخْتِمْ بِخَيْرٍ، وَيَقُوْلُ الشَّيْطانُ: اخْتِمْ بِشَرٍّ، فَإِنْ ذَكَرَ اللهَ ثُمَّ نامَ باتَ الْمَلَكُ يَكْلَؤُهُ، وإِذا اسْتَيْقَظَ قالَ الْمَلَكُ: افْتَحْ بِخَيْرٍ، وَقالَ الشَّيْطانُ: افْتَحْ بِشَرٍّ، فَإِنْ قالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِيْ رَدَّ عَلَيَّ نَفْسِي، وَلَمْ يُمِتْها فِيْ مَنامِها، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِيْ {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ} [فاطر: 41] إِلَىْ آخِرِ الآيَةِ، الْحَمدُ لِلَّهِ الَّذِيْ {يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]، فَإِنْ وَقَعَ عَنْ سَرِيرهِ، وَماتَ دَخَلَ الْجَنّةَ" (¬2). ¬
وروى الإمام أحمد - بسند رجاله رجال الصَّحيح - عن شَدَّاد بن أَوس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما مِنْ رَجُلٍ يَأْوِيْ إِلَىْ فِراشِهِ فَيَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتابِ اللهِ تَعالَىْ، إِلاَّ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكاً يَحْفَظُهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيْهِ حَتَّىْ يَهُبَّ مَتَىْ هَبَّ (¬1) " (¬2). وفي "الصحيح (¬3) " عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: وكَّلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة الفطر، فأتاني آتٍ، فجعل يحثو من الطعام، فذكر الحديث وفيه قوله لأبي هريرة: "إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ لم يزل معك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتَّى تصبح"، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوْبٌ، ذاكَ شَيْطانٌ" (¬4). قوله: "حافظ"؛ أي: مَلَكٌ يحفظك. وروى الطبراني بسند حسن، عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى ¬
مسألة
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ راكِبٍ يَخْلُوْ فِيْ مَسِيْرِهِ بِاللهِ وَذِكْرهِ إِلاَّ رَدِفَهُ مَلَكٌ، وَلا يَخْلُوْ بِشِعْرٍ وَنَحْوِهِ إِلاَّ رَدِفَهُ شَيْطانٌ" (¬1). * مَسْألةٌ: هل تجوز المعصية على الملائكة عليهم السَّلام أم لا؟ قال القرطبي: أما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة، وأن يوجد فيهم خلاف ما كلفوه، وأن تخلق فيهم الشَّهوات؛ إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم. قال: ووقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسَّمع، ولم يصح (¬2). انتهى. ذكر هذا في تفسير سورة البقرة بعد أن قطع بضعف ما روي عن عليٍّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أنه لما أكثر الفساد من أولاد آدم - وذلك في زمن إدريس عليه السَّلام - عيرتهم الملائكة، فقال الله تعالى: "أما إنكم لو كنتم مكانهم وركَّبت فيكم ما ركَّبت فيهم - يعني: الشهوة - لعملتم مثل أعمالهم"، فقالوا: "سبحانك ما كان ينبغي لنا ذلك"، قال: "فاختاروا ملكين من خياركم"، فاختاروا هاروت وماروت، فأنزلهما الله تعالى إلى الأرض، فركَّب فيهما الشهوة، فما مرَّ بهم شهر حتى فتنا بامرأة اسمها الزُّهرة اختصمت إليهما، فراوداها عن نفسها، فأبت إلا أن يدخلا في دينها، ويشربا الخمر، ويقتلا النفس التي ¬
حرم الله، فأجاباها، وشربا الخمر، وقتلا، وألمَّا بها، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السَّماء، فعلماها، فتكلمت به، فعرجت، فمسخت كوكباً (¬1). وقال سالم بن عبد الله: فحدثني كعب الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتَّى عملا ما حرم الله عليهما (¬2). وفي غير هذا الحديث: فخُيِّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدُّنيا، فهما يعذبان ببابل في سِرب من الأرض (¬3). وقيل: علقا مُنكَّسين، وليس بينهما وبين الماء إلا قدر شبر، وهما يلهثان من العطش. وكان ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما فيما يرويه عطاء - إذا رأى الزهرة وسُهيلاً سبَّهما وشتَمَهما، ويقول: إن سهيلاً كان عشاراً باليمن، ¬
وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت (¬1). قلت: نص شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر العسقلاني على ثبوت هذه القصة لأنها رويت من طرق متعددة مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وموقوفة على من تقدم ذكرهم من الصَّحابة رضي الله تعالى عنهم (¬2). ¬
وممن خرجها الإمام أحمد، وابن حبان، والبيهقي، وغيرهم (¬1). وقال شيخ الإسلام والدي في "تفسيره" بعد أن قطع بصحة ذلك، ونقله عن ابن حجر: [من الرجز] وَصَحَّ تَعْذِيْبُهُمَا بِبَابِلْ ... مُنَكَّسَانِ الآنَ بِالسَّلاسِلْ وَهُوَ اخْتِيَارٌ لِعَذَابِ الدُّنْيَا ... عَلَىْ الْعَذَابِ بِدِيَارِ الْبُقْيَا وحيث صح أنهما يعذبان، فهو شاهد للحديث الشاهد بوقوع المعصية منهما، وهذه المعاصي التي صدرت منهما حكمها كبائر، بل من أكبر الكبائر، وإذا جاز وقوع الكبائر منهم، فوقوع (¬2) الصغائر من باب أولى (¬3). ¬
ولا يعارض هذا قوله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وقوله {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26، 27]؛ فإنا نقول هذا باعتبار ما جُبِلت عليه الملائكة من الطَّاعة وعدم المعصية لخلولهم عن الشهوة، ثم دَرَجَ على هذا غالبُهم، كما جبلت بنو آدم على المعصية لتركيب الشهوة فيهم، وعليها درج غالبهم، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ بَنِيْ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِيْنَ التَّوَّابُوْنَ". رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم وصححاه، من حديث أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). ثم كون الملائكة عليهم السلام مجبولين على الطاعة، وعدم المعصية لا يمنع وقوع المعصية منهم على وجه الندور والقلة، كما أن كون بني آدم مجبولين على الخطأ لا يمنع حصول العصمة لبعضهم كما هي للأنبياء عليهم السلام، وإنما جاز وقوع المعصية من الملائكة عليهم السلام لتظهر الحكمة الإلهية، والسطوة العظموتية، ويتمحض الكمال لله تعالى، ويبدو عذر بني آدم في عصيانهم من حيث تركيب ¬
الشهوة فيهم، ويعلم فضلهم إذا عصوا وأطاعوا، بل لا مانع من حصول الزلة من خواص الملائكة، ولو أن تكون بخلاف الأولى؛ فإن ذلك زلة بالنسبة إلى مقامهم. وقد صدر ذلك منهم حيث قال الله تعالى لهم {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]، فأدَّبهم الله تعالى بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، أي: من أن خلق آدم وذريته - وإن كان منهم العاصي والمفسد - أليق بالحكمة لتظهر مظاهر الأسماء الإلهية كالحليم، والستار، والعَفُوِّ، والغفور، والرحيم، والحَكَم، والعدل، والمقسط، والمنتقم، والكبير، والعظيم، ونحوها إلى غير ذلك من الأسرار الإلهية المستودعة في خلق الإنسان الذي به، وفيه لتظهر هذه المظاهر الإلهية، ولذلك أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لأبي البشر بعد أن علمه {الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 31 - 33]، أي: وأعلم ما كنتم تكتمون من أنكم معصومون، وكيف يخلق مع وجودنا في السماوات والأرض ونحن بهذه الصفة من يعصي الله، ويفسد، ويسفك الدماء، ففي ذلك تعريض بمعاتبتهم، كما قال شيخ الإسلام
والدي في "تفسيره": [من الرجز] مُعَرِّضاً فِيْ ذاكَ بِالْعِتابِ ... لَهُمْ عَلَىْ شَيْءٍ مِنَ الآدابِ بِهِ أَخَلُّوا وَهْو أَنْ يَرْتَقِبُوا ... ظُهُوْر حِكْمَةٍ إِلَيْهِ تُنْسَسبُ فِي خَلْقِهِ وَأنَّهُ حَكِيْمُ ... وَهْو بِكُلِّ خَلْقِهِ عَلِيْمُ وما كان قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} إلى آخره، اعتراضاً على الذات العليَّة، ولا انحرافاً عن الاستحسان لأفعالها المرضية، ولكن كان على سبيل الاستفسار والاستخبار عن وجه الحكمة في خَلْقِ خَلْقٍ خطائين مع وجود خَلْقٍ معصومين، وكان اللائق بمقامهم - لأنهم مقربون - أن لا يستفسروا عن وجه الحكمة أيضاً، بل يصمتوا حتى يفيض الله تعالى عليهم من علم وجه الحكمة ما قسمه لهم؛ فإن هذا خلق الحكماء. كما روى الحاكم، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن لقمان كان عند داود عليهما السَّلام وهو يسرد الدِّرع، فجعل يفتله هكذا بيده، فجعل لقمان يتعجب، ويريد أن يسأله، ويمنعه حكمه أن يسأله، فلما فرغ منها عرضها على نفسه، فقال: نِعْمَ درع الحرب هذه، فقال لقمان: الصمت من الحكمة، وقليلٌ فاعله؛ كنت أردت أن أسألك، فسكت حتى لقنتني (¬1). ¬
وقيل: إن لقمان كان يتردد سنة وهو يريد أن يعلم ذلك، ولم يسأل حتَّى قال داود ما قاله (¬1). ولو وقع الاستفسار المذكور من غير الملائكة ممن هو دون مقامهم لم يكن محسوباً عليه بزلة؛ إذ لم يُعَدَّ ذلك زلة عليهم إلا من حيث إنهم عباد مكرمون، ولذلك أدبوا عليه، وعوتبوا، ولو وقعت من أحدهم زلة أعظم منها لزاد الله تعالى في عقوبته فوق ما يعاقب به من دونهم على تلك الزلة، ألا ترى إلى تعذيب الملكين ببابل هاروت وماروت إما بحبسهما في سِرب تحت الأرض، واما بتعليقهما منكسين ليس بينهما ويين الماء إلا قريب من شبر وهما يلهثان عطشاً عذابا دائماً إلى يوم القيامة؟ ! وكان يكفي في عقوبة غيرهما على الشرب والزنا مع عدم الإحصان الجلدُ وحده في الأول، ومع التغريب في الثاني، وعلى قتل النفس القتلُ، ولا شك أن التألم به ينقضي بسرعة، بخلاف هذا العذاب الشديد الدائم إلى يوم الوعيد، فدل ذلك على أن الذنب كلما كان صاحبه مقرباً عند الله تعالى كان عظيماً، وكان عقابه شديداً، ولذلك اشتدت عقوبة العلماء إذا لم يعملوا بعلمهم حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويلُ لِمَنْ لا يَعْلَمُ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَعَلَّمَهُ، وَويلٌ لِمَنْ يَعْلَمُ وَلا يَعْمَلُ؛ سَبع مِنَ الْوَيْلِ". رواه سعيد بن منصور في "سننه" عن جَبَلَة بن سُحيم مرسلاً (¬2). ¬
وأنشدوا: [من الكامل] لا يَحْقِرِ الرَّجُلُ الشَّرِيْفُ جَرِيْرةً ... فِيْ مِثْلِها كَمْ لِلْحَقِيْرِ مَعاذِرُ فَصَغائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيْرِ كَبائِرٌ ... وَكَبائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيْرِ صَغائِرُ (¬1) ¬
فصل
فَصْلٌ روى أبو نعيم في "دلائل النبوة" عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال ورقة - يعني: ابن نوفل رضي الله تعالى عنه - لما ذكرت له خديجة رضي الله تعالى عنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر لها جبريل عليه السَّلام: سُبُّوْح سُبُّوْحٌ، وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي يعبد فيها الأوثان، جبريل أمين الله بينه وبين رسله، اذهبي إلى المكان الذي رأى فيه ما رأى، فإذا رآه فتحسري، فإن يكن من عند الله لا يراه، ففعلت، فلما تحسرت تغيب جبريل فلم يره، فرجعت، فأخبرت ورقة، فقال: إنه ليأتيه الناموس الأكبر (¬1). الحديث فيه دليل على أن جبريل عليه السلام تغيب من خديجة حياءً، وصيانة لخديجة، وإجلالاً لها، وقد سبق أن من صفة الملائكة الحياء، حتى إنهم لا يحضرون العبد عند حاجته، وجِمَاعِهِ. وليس فيه دليل على وجوب الغض على الملائكة؛ لأن الفتنة ¬
التي تخشى في النظر إلى الأجنبية مأمونة في الملائكة، ومن ثَمَّ حضرت رسل إبراهيم عليه السلام على سارة رضي الله عنها وخلا جبريل بمريم عليهما السَّلام حين تمثل لها بشراً سوياً وهي في عزلتها عن أهلها. وقيل: كانت تغتسل في شرفتها فتمثل لها (¬1). وليس لأحد من البشر أن يتشبه بالملائكة في مثل ذلك؛ لأن الفتنة في البشر غير مأمونة حتى قال يوسف عليه السلام: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53]. قال ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} يعني: جبريل عليه السَّلام {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]؛ يعني: معتدلاً شاباً أبيض الوجه، جَعْداً، قططا حين اخضر شاربه، فلما نظرت إليه قائماً بين يديها: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18]؛ يعني: إن كنت تخاف الله. رواه ابن عساكر، وغيره (¬2). قال في "الكشاف": وإنما مثل لها في سورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت، ولم تقدر على استماع كلامه. ¬
قال: ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن، وكان تمثله على تلك الصفة ابتلاءً لها، وسبراً لعفتها (¬1)، انتهى. وقال القاضي: أتاها جبريل عليه السلام في سورة غلام (¬2) أمرد سويِّ الخلق لتستأنس بكلامه، ولعله لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها (¬3). انتهى. ويدل له ما رواه ابن عساكر عن ابن عبَّاس قال: فدنا جبريل، فنفخ في جيبها، فوصلت النفخة جوفها، فاحتملت كما تحمل النساء في الرحم والمشيمة، ووضعته كما تضع النساء (¬4). وفيه دليل على أن عيسى عليه السلام مخلوق من نطفة أمه، وكان بدو جبريل لمريم ونفخه في جيبها بأمر الله تعالى لتظهر هذه الآية العظيمة، والحكمة البالغة، ويظهر أن مريم في أعلى طبقات العفة كما أمر الله تعالى رسل إبراهيم عليهم السلام أن يظهروا لقوم لوط في صور بشر مرد حسان ليكونوا شهداء عليهم بالعزم على الفاحشة، وكانوا أربعة على عدد الشهود الذين يثبت بهم الزنا واللواط. ¬
روى ابن أبي حاتم عن عثمان بن محصن في ضيف إبراهيم قال: كانوا أربعة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ورفائيل (¬1). وروى ابن أبي حاتم أيضاً، عن عبد الرحمن بن بشر الأنصاري رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ النَّاسَ كانُوْا أَنْذَرُوْا قَوْمَ لُوْطٍ، فَجاءَتْهُمُ الْمَلائِكَةُ عَشِيَّةً، فَمَرُّوْا بنادِيْهِمْ، فَقالَ قَوْمُ لُوْطٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لا تُنَفِّرُوْهُمْ - وَلَمْ يَرَوْا قَوْماً قَطُّ أَحْسَنَ مِنَ الْمَلائِكَةِ - فَلَمَّا دَخَلُوْا عَلَىْ لُوْطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ رَاوَدُوْهُ عَنْ ضَيْفِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّىْ عَرَضَ عَلَيْهِمْ بَناتِهِ، فَأَبَوْا، فَقالَتِ الْمَلائِكَةُ {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: 81]، قالَ: رُسُلُ رَبِّيْ؟ قالُوْا: نعَمْ، قالَ لُوْطٌ: فَالآنَ إِذَنْ" (¬2). أي: فالآن لا أخاف عليكم من قومي؛ اطمأن عليهم حين علم أنهم ملائكة يمتنعون من قومه. ولو أن بشراً لهم جمالهم وحسنهم لم يكن لهم أن يخالطوا قوم لوط وهم يعلمون أنهم كانوا يأخذون الغرباء قهراً، وينكحونهم جبراً - كما ذكر عنهم في الأثر - (¬3) بل ربما جرى من الملائكة ما لا يجوز لأحد من البشر أن يتشبه بهم فيه؛ لأنهم إنما فعلوا ¬
ذلك بأمر من يملك البرية، وهم عباده، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. كما روي: أن ملكين التقيا في السماء - أحدهما صاعد، والآخر هابط - فقال: الهابط للصاعد: أين كنت؟ قال: في الأرض، قال: لماذا بعثت؟ قال: لأسوق حوتا من قرار البحر إلى مدينة كذا ليأكله فلان الكافر، قال: وأنت أين تذهب؟ قال: بعثت لأهريق زيتاً اشتراه فلان العابد بدانق (¬1). فلو أراد أحد من البشر أن يتشبه بهذين الملكين، لم يجز له؛ لأن فعلهما دائر في أفعال البشر بين إعانة لعاص، وإضرار ببارِّ، وإنما أمر به الملكان إملاءً للأول، وابتلاءً للثاني. ومن هذا الفن تعليم الملكين الناسَ السحرَ ببابل امتحاناً، كما قال الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]. وروى عبد بن حُميد عن أبي مِجْلَز في قوله تعالى: {إلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]، قال: إن إسرائيل هو يعقوب عليه السلام، وكان رجلاً بطيشاً، فلقي ملكاً، فعالجه، فصرعه الملك، ثم ¬
ضرب فخذه، فلمَّا رأى يعقوب ما صنع به بطش به، فقال: ما أنا بتاركك حتى تسمينَي اسماً، فسماه إسرائيل، فلم يزل يوجعه ذلك العِرْق حتى حَرَّمَهُ من كل دابة (¬1). فانظر كيف بعث الله هذا الملك فصرع يعقوب حتى أوجعه عِرقُ النَّسَا، فحرم بسببه كل عرق، ثم كان في تحريمه ابتلاء لبني إسرائيل من بعده، ومثل ذلك لا يتأتى فيه التشبه بالملك. وكذلك بعث الله الملكين في سورة الخصوم إلى داود عليه السلام لامتحانه. قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 21، 22] الآية. روى ابن جرير، عن ابن عبَّاس: أن الملك لما قال لداود: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]، قال له داود: كنت أحوج إلى نعجتك منه، {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24] إلى قوله: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، ونسي نفسه - صلى الله عليه وسلم -، فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك، فتبسم أحدهما إلى الآخر، فرآه داود، فظن أنما فتن، {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] أربعين ليلة حتى نبتت الخضرة ¬
من دموع عينيه، ثم شد الله ملكه (¬1). والخصمان اللذان تخاصما إلى داود في النعاج المكنَّى بها عن النساء كانا ملكين عند ابن عبَّاس وأكثر المفسرين، ولا نعاج ولا نساء، وإنما أمرا بفعل ذلك تمثيلاً لحال داود ليتيقظ ويتفطن، ولذلك لما فَطِن تاب واستغفر، وبكى على ذنبه أربعين يوماً. وهذا من باب المعاريض، وليس بكذب، وإنما عَرَّضا به لأجل هذا الأمر العظيم، والمقصود المهم. وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ ثَلاثَةَ نَفَرٍ فِي بَنِيْ إِسْرائِيْلَ، أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَىْ، بَدا لِلَّهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكاً، فَأَتَىْ الأَبْرَصَ فَقالَ: أَيّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلدٌ حَسَن، وَيَذهَبُ عَنّيْ هَذا، قَدْ قَذِرنيْ النَّاسُ، فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ، وَأُعْطِيَ لَوْناً حَسَناً، وَجِلْداً حَسَناً، فَقالَ: أَيُّ الْمالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: الإِبِلُ، فَأُعْطِيَ ناقَةً، عُشَراءَ، فَقالَ: يُبارَكُ لَكَ فِيْها. وَأَتَىْ الأَقْرَعَ فَقالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ فَقالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ هَذا عَنِّيْ، قَدْ قَذِرَنِيْ النَّاسُ، فَمَسَحَهُ، فَنَهبَ، وَأُعْطِيَ شَعْراً حَسَنا، قالَ: فَأَيُّ الْمالِ أَحبُّ إِلَيْكَ؛ قالَ: الْبَقَرُ، فَأَعْطاهُ بَقَرَةً حامِلاً، وَقالَ: يُبارَكُ لَكَ فِيْها. ¬
وَأَتَىْ الأَعْمَىْ فَقالَ: أَيّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: يَرُدُّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِيْ، فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قالَ: فَأَيُّ الْمالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: الْغَنَمُ، فَأَعْطاهُ شاةً وَالِداً. فَأَنتجَ هَذانِ، وَوَلَدَ هَذا، فَكانَ لِهَذا وادٍ مِنَ الإِبِلِ، وَلِهَذا وادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذا وادٍ مِنْ غَنَمٍ. ثُمَّ إِنَّهُ أَتَىْ الأَبْرَصَ فِيْ صُوْريهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقالَ: رَجُلٌ مِسْكِيْنٌ تَقَطَّعَتْ بِهِ الْحِبالُ فِيْ سَفَرِهِ، فَلا بَلاغَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْألكَ وَبِالَّذِيْ أَعْطاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيْراً أتَبَلَّغُ بِةِ فِيْ سَفَرِيْ، فَقالَ لَهُ: إِنَّ الْحُقُوْقَ كَثِيْرةٌ، فَقالَ لَهُ: كَأنَّي أَعْرِفُكَ؛ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذِرُكَ النَّاسُ؟ فَقِيْراً فَأَعْطاكَ اللهُ؟ قالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكابِرٍ عَنْ كابِرٍ، قالَ: فَإِنْ كُنْتَ كاذِباً فَصَيَّرَكَ إِلَىْ ما كُنْتَ. وَأتىْ الأَقْرَعَ فِيْ صُوْرتِهِ، فَقالَ لَهُ مِثْلَ ما قالَ لِهَذا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ ما رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فَقالَ: إِنْ كُنْتَ كاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَىْ ما كُنْتَ. وَأَتَىْ الأَعْمَىْ فِيْ صُوْرَتهِ، فَقالَ: رَجُل مِسْكِيْنٌ، وَابْنُ سَبِيْلٍ، وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبالُ فِيْ سَفَرِيْ، فَلا بَلاغَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْألكَ بِالَّذِيْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أتبَلَّغُ بِها فِيْ سَفَرِيْ، فَقالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللهُ بَصَرِيْ، وَفَقِيْراً [فقد أَغْنَاني]، فَخُذْ ما شِئْتَ، فَوَاللهِ لا أَجْهَدُكَ (¬1) الْيَوْمَ لِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقالَ: أَمْسِكْ مالَكَ؛ فَإِنَّما ابْتُلِيْتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ ¬
عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَىْ صاحِبَيْكَ" (¬1). فقد علم بذلك أن أفعال الملائكة عليهم السَّلام على وفق ما يؤمرون به لا يمنعهم من فعل ما أمروا به منها حظ نفس، ولا طلب شهوة، ولا قسوة، ولا رحمة، اطلعوا على حكمته أم لم يطلعوا، وأنه لا يتهيأ للبشر التشبه بهم في كل ما يفعلونه لاتصافهم بالحظوظ، وابتلائهم بالشهوات، ولغير ذلك. بل ثَمَّ أفعال يتأتى صدورها عن البشر على وفق الشرائع التي كلفوا بها، فيحسن التشبه بهم منهم فيها دون ما لا يتأتى منهم صدوره منها على وفق الشريعة؛ فافهم. ¬
فصل
فَصْلٌ اعلم أن لهذه الأمة المحمدية طاعات يباهي الله تعالى بهم الملائكة بسببها؛ إمَّا لأنها ليست من أعمال الملائكة، وإمَّا لأنها تؤدى في البشر أكمل مما تؤدى في الملائكة، وإمَّا لغير ذلك، فأردت أن أذكر هنا نبذة في خاتمه هذا الباب. روى مسلم، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن معاوية رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقة من أصحابه فقال: "ما أَجْلَسَكُمْ؟ " قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومَنَّ به علينا، قال: "آللهِ ما أَجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ؟ " قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: "أَما إِنَّي لا أَسْتَحْلِفُكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتانِيْ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَخْبَرنيْ أَنَّ اللهَ يُباهِيْ بِكُمُ الْمَلائِكَةَ" (¬1). المباهاة: من البهاء، وهو الحسن والجمال؛ أي: يفاخر الملائكة بحالتكم البهية، ويقول لهم: انظروا إلى عبادي كيف حاشهم ¬
ذكري، وجمع بينهم شكري. وروى الإمام أحمد بسند حسن، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه إذا لقي الرجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تعال نؤمنْ بربنا ساعة، فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! أما ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَرْحَمُ اللهُ ابْنَ رَواحَةَ؛ إِنَّهُ يُحِبُّ الْمَجالِسَ الَّتِيْ تباهَىْ بِها الْمَلائِكَةُ" (¬1). قلت: معنى تباهي الملائكة بمجالس الذكر: أن الملائكة الذين شهدوا مجلس الذكر يباهون الذين لم يشهدوها، أو يباهي أهل المجلس الذي أهله أقرب إلى الإخلاص والصدق أهل المجلس الذي لم يكن كذلك. وليس معناه المباهاة في الهيئة والصفة الظاهرة، أو في الألحان، أو فيما يشتمل عليه المجلس من التغيير بالشعر ونحوه؛ فإن ذلك مذموم، وهو حال من ينسب الآن إلى الصوفية، ولم يشموا للطريق رائحة، ولا من وراءِ وراء. وقد وردت المفاخرة بالذكر والذاكرين بين البقاع، وهي أبلغ منها بين الملائكة. ¬
روى أبو حفص بن شاهين في "التَّرغيب في الذكر" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ بُقْعَةٍ يُذْكَرُ اللهُ فِيْها إِلاَّ اسْتَبْشَرَتْ بِذِكْرِ اللهِ إِلَىْ مُنتهاها مِنْ سَبع أَرَضِيْنَ، وَفَخَرَتْ عَلَىْ ما حَوْلَها مِنَ الْبِقاعِ، وَما مَرَّ مُؤْمِنٌ بِقَوْمٍ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ إِلاَّ تَزَخْرَفَتْ بِهِ الأَرْضُ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ بُقْعَةٍ يُذْكَرُ اللهُ فِيْها إِلاَّ فَخَرَتْ عَلَىْ ما حَوْلَها مِنَ الْبِقاعِ، وَاسْتَبْشَرَتْ لِذِكْرِ اللهِ مُنتهاها إِلَىْ سَبع أَرَضِيْنَ" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" بإسناد صحيح، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه: يا فلان! هل مرَّ بك اليوم لله ذاكر؟ استبشاراً لذكر الله - عز وجل - (¬3). وقال الشيخ محي الدين بن العربي في "الفتوحات" - بعد أن ذكر السياحة والسائحين -: وذلك أن العارفين بالله لما علموا أن الأرض تزهو، وتفخر بذكر الله عليها، وهم أهل إيثار، وسعي في حق الغير، ¬
رأوا أن المعمور من الأرض لا يخلو من ذاكر لله تعالى من البشر، فلزم بعض العارفين السياحة صدقة منهم على البَيداء، وسواحل البحار، وبطون الأودية، وقُلَلِ الجبال والشِّعاب التي لا يطرقها إلا أمثالهم (¬1). انتهى. ثم إن مباهاة الله تعالى ملائكته بالذاكرين تارة تكون بأنفسهم، وتارة بمجلسهم، وتارة بهما، وحديث معاوية يدل على المعاني الثلاثة، وحديث ابن رواحة يدل على المعنى الثاني فقط. وروى ابن أبي شيبة، عن عبد الرَّحمن بن سابط قال: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حلقة وهم يذكرون الله، فقال: "إِنَّ اللهَ لَيُباهِيْ بِمَجْلِسِكُمْ أَهْلَ السَّماء" (¬2). ومجالس الذكر شاملة لمجالس العلم، بل هي أفضلها. وقد روى الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" عن الوليد بن مسلم قال: شيَّعَنا الأوزاعيُّ رحمه الله تعالى وقتَ انصرافِنا من عنده، فأبعد في تشييعنا حتى مشى معنا فرسخين أو ثلاثة، فقلنا له: أيها الشيخ! يصعب عليك المشي على كبر السن، قال: امشوا واسكتوا، لو علمت أن لله تعالى طبقة أو قوماً يباهي الله بهم، أو أفضل منكم لمشيت معهم وشيعتهم، ولكنكم أفضل الناس (¬3). ¬
وروى ابن النجار في "تاريخه"، والديلمي في "مسند الفردوس" عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثَةُ أَصْواتٍ يُباهِيْ اللهُ بِهِنَّ الْمَلائِكَةَ: الأَذانُ، وَالتَّكْبِيْرُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ". قلت: الثلاثة كلها من ذكر الله تعالى، ولكن كان لها خصوصية في المباهاة لم تكن لسائر الأذكار. وروى الخطيب في "تالي التلخيص" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَقَلَّدَ سَيْفاً فِيْ سَبِيْلِ اللهِ قَلَّدَهُ اللهُ وِشاحاً فِيْ الْجَنَّةِ لا تَقُوْمُ لَهُ الدُّنْيا مُنْذُ يَوْمِ خَلَقَها اللهُ إِلَىْ يَوْمِ يُفْنِيْها، وإِنَّ اللهَ لَيُباهِيْ بِسَيْفِ الْغازِيْ، وَرُمْحِهِ، وَسِلاحِهِ، وإِذا باهَىْ اللهُ بِعَبْدٍ لَمْ يُعَذِّبْهُ اللهُ" (¬1). وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: صلَّينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب، فرجع من رجع، وعقب من عقب، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسرعاً قد حَفَزَه النَّفَسُ قد حَسَرَ عن ركبته، قال: "أَبْشِرُوْا؛ هَذا رَبّكُمْ قَدْ فَتَحَ باباً مِنْ أَبْوابِ السَّماءِ يُباهِيْ بِكُمُ الْمَلائِكَةَ، يَقُوْلُ: انْظُرُوْا إِلَىْ عِبادِيْ قَدْ قَضَوْا ¬
فَرِيْضَةً، وَهُمْ يَنْتَظِرُوْنَ أُخْرَىْ" (¬1). وروى البزار، والطبراني في "الكبير" عن معاوية رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلى ومعه جماعة من أصحابه الأولى، ثم جلسوا فخرج عليهم، فقال: "ما بَرَحْتُمْ بَعْدُ؟ " قالوا: لا، قال: "لَوْ رَأَيْتُمْ رَبَّكُمْ فَتَحَ باباً فِيْ السَّماءِ، فَأَرَىْ مَجْلِسَكُمْ مَلائِكَتَهُ يُباهِيْ بِكُمْ وَأَنتُمْ تَرْقُبُوْنَ الصَّلاةَ" (¬2). وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري رضي الله تعالى عنه في "جزء" جمع فيه كلام أستاذه أبي علي الدَّقَّاق - رضي الله عنه -: وسمعته يقول: الملائكة لهم عبادة، وليس لهم انتظار العبادة، الانتظار لنا، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُنتظِرُ لِلصَّلاةِ فِيْ الصَّلاةِ" (¬3)، والانتظار من صفات المحبين، وأنشد: [من الطويل] أُرَاعِيْ نُجُوْمَ اللَّيْلِ حَتَّىْ كَأَنَّنِيْ ... عَلَىْ كُلِّ نَجْمٍ فِيْ السَّمَاء رَقِيْبُ (¬4) ¬
قلت: والظاهر أن انتظار الفرج كانتظار العبادة في تخصيصه بأخيار البشر؛ لأنه يحتاج إلى صبر، وهو خاص بهم، كما سيأتي. وقد روى القضاعي عن ابن عمر، وابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "انْتِظارُ الْفَرَجِ بِالصَّبْرِ عِبادةٌ" (¬1). وأخرجه ابن أبي الدنيا من رواية علي رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "انْتِظارُ الْفَرَجِ عِبادةٌ، وَمَنْ رَضِيَ بِالْقَلِيْلِ مِنَ الرِّزْقِ رَضِيَ اللهُ مِنْهُ بِالْقَلِيْلِ مِنَ الْعَمَلِ" (¬2). وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَلُوْا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَأَفْضَلُ الْعِبادَةِ انْتِظارُ الْفَرَج" (¬3). ¬
أي: أفضل العبادة للمكروب والمهموم انتظار الفرج، والكرب والهم لا يتحقق في حق الملائكة عليهم السلام؛ إذ لا شهوة لهم يخشون فواتها؛ إذ عيشهم فيما هم فيه، فلا يبعد أن يكون انتظار الفرج مما يباهى به الملائكةُ - أيضاً -. وروى ابن السني، والديلمي عن طلحة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُباهِيْ الْمَلائِكَةَ بِالشَّابِّ الْعابِدِ؛ يَقُوْلُ: انْظُرُوْا إِلَىْ عَبْدِيْ تَرَكَ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِيْ". وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن خالد بن معدان رحمه الله تعالى قال: إن الله تبارك وتعالى يفاخر ملائكته بعبديه الشابين - يعني: الشاب، والشابة - يقول لملائكته: انظروا إلى عبدَيَّ كيف يلتمسان مرضاتي؛ أي: بطاعتي، وعبادتي. وروى ابن عدي في "الكامل" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُباهِيْ الْمَلائِكَةَ بِمَنْ قَلَّ مَطْعَمُهُ (¬1) فِيْ الدُّنْيا يَقُوْلُ: انْظُرُوْا إِلَىْ عَبْدِيْ ابْتَلَيْتُهُ بِالطَّعامِ وَالشَّرابِ فِيْ الدُّنْيا، فترَكَهُما، أُشْهِدُكُمْ يا مَلائِكَتِيْ: ما مِنْ أكلَةٍ يَدَعُها إِلاَّ أَبْدَلتهُ بِها دَرَجاتٍ فِيْ الْجَنَّةِ" (¬2). وروى الطبراني بإسناد جيد، عن عُبادة بن الصَّامت رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوماً - وحضر رمضان -: "أَتاكُمْ رَمَضانُ، ¬
شَهْرُ بَرَكَةٍ يَغْشاكُمُ اللهُ فِيْهِ، فَيُنَزِّلُ الرَّحْمَةَ، وَيَحُطّ الْخَطايا، وَيَسْتَجِيْبُ فِيْهِ الدّعاءَ، يَنْظُرُ اللهُ إِلَىْ تَنافُسِكُمْ فِيْهِ، وَيُباهِيْ بِكُمْ مَلائِكَتَهُ، فَأَرُوْا اللهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْراً؛ فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ فِيْهِ رَحْمَةَ اللهِ - عز وجل - " (¬1). وإنما تقع المباهاة بالصائمين في رمضان من هذه الأمة؛ لأن الصوم - وإن كان من عبادات الملائكة كما تقدم - فإنه من بني آدم أتم؛ لأن ترك الطعام والشراب من الملائكة ليس فيه كبير أمر لأنهم لا يحتاجون إليه؛ إذ لا شهوة لهم، وسلطان الشهوة لا يقاومه الإنسان إلا بقوة زائدة، وصبر شديد، ولو ركبت تلك الشهوة في الملائكة لما أطاقوا مقاومتها كما علمت من قصة هاروت وماروت، فلذلك يباهي الله بالصَّائم. ألا ترى أن الله تعالى يقول في مباهاة الملائكة: "انظروا إلى عبدي ترك شهوته من أجلي؟ " (¬2). ¬
وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدم يُضاعَفُ؛ الْحَسَنةُ بِعَشْرَةِ أَمْثالِها إِلَىْ سَبع مِئَةِ ضِعْفٍ، قالَ اللهُ - عز وجل -: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِيْ، وَأَنا أَجْزِيْ بِهِ؛ يَدَعُ طَعامَهُ، وَشَرابَهُ، وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِيْ". رواه الأئمة مالك، وأحمد، والستة (¬1). وأراد بقوله: "وشهوته": النكاح؛ لأنه أشار إلى شهوة الطعام والشراب أولاً. وإذا كانت المباهاة للملائكة تكون بترك الشهوة الحلال في الصوم، فكيف بترك الشهوة الحرام إذا أمكنت؟ ومن ثَمَّ كان من دعته امرأة ذات حسن فقال: "إني أخاف الله" (¬2) من السبعة المظللين يوم القيامة في ظل العرش، كما سيأتي. بل الصبر عن كل معصية تدعو إليها الشهوة؛ كشرب الخمر، وطلب الدنيا بالطرق المحرمة، ينبغي أن يكون مخصوصاً ببني آدم؛ فإن الصبر كما قال حجة الإسلام: عبارة عن ثبات باعث الدين في مصادمة باعث الهوى (¬3)، والملائكة خالون عن الشهوة والهوى، فلا يتحقق معنى الصبر فيهم. ¬
وفي الحديث تسمية رمضان "شهر الصبر" (¬1). وفيه: "الصوم نصف الصبر" (¬2)، أي (¬3): الصوم المخصوص ببني آدم، أو بالثقلين نصف الصبر. فأمَّا الصوم من الملائكة فليس من الصبر في شيء؛ إذ لا شهوة لهم، فالمباهاة بالصائمين إنما هي بصبرهم في صومهم عن الشهوات التي لا يتأتى نظيره من الملائكة عليهم السلام، وقد وقعت الإشارة إلى هذا في حديث ابن مسعود السابق يقول الله تعالى: "انظروا إلى عبدي! ابتليته بالطعام والشراب في الدنيا، فتركهما" (¬4). وروى أبو نعيم عن كعب قال: إني لأجد نعت قوم تكون في هذه الأمة بمنزلة الرهبانية، قلوبهم على نور، تنطق ألسنتهم بنور الحكمة، تعجب الملائكة من اجتهادهم واتصالهم بمحبة الله، قيل: يا أبا إسحاق! من هم؟ قال: قوم جوَّعوا أنفسهم له، وظمؤوها، ينادى يوم القيامة: ألا ليقم أهل الجوع والظمأ، فيلقطون من بين الصفوف، فيؤتى بهم إلى مائدة منصوبة لم تر العيون ولم تسمع ¬
الآذان بمثلها، يحبسون عليها والناس في الحساب (¬1). وروى الحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: نزل جبريل عليه السلام فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَيْفَ رَأَيْتَ عِيْدَنا؟ " فقال: "لقد تباهى به أهل السماء" (¬2)، الحديث؛ يعني: عيد الأضحى، والتباهي بما فيه من نحر الأضاحي، كما يدل عليه آخر الحديث. وأخرجه البزار، ولفظه: جاء جبريل عليه السَّلام إلى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى، فقال: "كَيْفَ رَأَيْتَ نُسُكَنا هَذَا؟ " قال: "تباهى به أهل السَّماء" (¬3). ويحتمل أن تكون المباهاة بالاجتماع يوم العيد على الذِّكر والصَّلاة، فيكون المباهاة بعيد الفطر - أيضاً -. وروى الإمام أحمد، والطَّبرانيُّ عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُباهِيْ مَلائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ؛ ¬
يَقُوْلُ: انْظُرُوْا إِلَىْ عِبادِيْ! أتوْنِيْ شُعْثاً غُبْراً" (¬1). ورواه ابن حبان، والحاكم وصححاه، والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ: "إِنَّ اللهَ يُباهِيْ بِأَهْلِ عَرَفاتٍ أَهْلَ السَّماءِ، فَيَقُوْلُ: انْظُرُوْا إِلَىْ عِبادِيْ هَؤُلاءِ! جاؤُوْنيْ شُعْثاً غُبْراً" (¬2). وروى مسلم، والنسائي، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيْهِ عَبِيْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وإِنَّهُ لَيَدْنُوْ فَيتَجَلَّىْ، ثُمَّ يُباهِيْ بِهِمُ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُوْلُ: ما أَرادَ هَؤُلاءِ" (¬3). وروى أبو يعلى، والطبراني وسنده جيد، وأبو نعيم، والبيهقي في "الشعب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُباهِيْ بِالطَّائِفِيْنَ" (¬4). ¬
وروى الطبراني في "الكبير"، والبزار - واللفظ له - عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنت جالساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد منى، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف، فسلما عليه، ثم قالا: يا رسول الله! جئنا نسألك، فقال: "إِنْ شِئْتُما أَخْبَرْتُكُما عَمَّا جِئْتُما تَسْأَلانِيْ عَنْهُ فَعَلْتُ، وَإِنْ شِئتُما أَنْ أُمْسِكَ وَتَسْأَلانِيْ فَعَلْتُ"، فقالا: أخبرنا يا رسول الله، فقال الثقفي للأنصاري: سَلْ، فقال: أخبرني يا رسول الله، فقال: "جِئْتَنِيْ تَسْأَلنِيْ عَنْ مَخْرَجِكَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ الْحَرامَ، وَما لَكَ فِيْه؟ وَعَنْ رَكْعَتَيْكِ بَعْدَ الطَّوافِ، وَما لَكَ فِيْهِما؟ وَعَنْ طَوافِكَ بَيْنَ الصَّفا وَالْمَرْوَةِ، وَما لَكَ فِيْه؟ وَعَنْ وُقُوْفِكَ عَشيَّةَ عَرَفَةَ، وَما لَكَ فِيْهِ؟ وَعَنْ رَمْيِكَ الْجِمارَ، وَما لَكَ فِيْهِ؟ وَعَنْ نَحْرِكَ، وَما لَكَ فِيْهِ مَعَ الإِفاضَةِ؟ ". فقال: والذي بعثك بالحق لَعَنْ هذا جئت أسألك. قال: "فَإِنَّكَ إِذا خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ الْحَرامَ لا تَضَعُ ناقتُكَ خُفًّا، وَلا تَرْفَعُهُ إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَكَ بِهِ حَسَنَةً، وَمَحا عَنْكَ خَطِيْئَةً. وَأَمَّا رَكْعَتاكَ بَعْدَ الطَّوافِ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِيْ إِسْماعِيْلَ. وَأَمَّا طَوافُكَ بِالصَّفا وَالْمَرْوَةِ كَعِتْقِ سَبْعِيْنَ رَقَبَةً. ¬
وَأَمَّا وُقُوْفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَإِنَّ اللهَ يَهْبِطُ إِلَىْ سَماءِ الدُّنْيا فَيُباهِيْ بِكُمُ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُوْلُ: عِبادِيْ جَاؤُونيْ شُعْثاً مِنْ كُلِّ فَج عَمِيْقٍ يَرْجُوْنَ جَنَّتِيْ، فَلَوْ كانت ذُنُوْبُكُمْ كَعَدَدِ الرَّمْلِ، وَكَقَطْرِ الْمَطَرِ، أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ لَغَفَرْتُها، أَفِيْضُوْا عِبَادِيْ مَغْفُوْراً لَكُمْ، وَمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ. وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمارَ، فَلَكَ بِكُلِّ حَصاةٍ رَمَيْتَها تَكْفِيْرُ كَبِيْرَةٍ. وَأَمَّا نَحْرُكَ، فَمَدْخُوْرٌ لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ. وَأَمَّا طَوافُكَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّكَ تَطُوْفُ وَلا ذَنْبَ لَكَ، يَأْتِيْ مَلَكٌ فَيَضَعُ يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَيَقُوْلُ: اعْمَلْ فِيْمَا يُسْتَقْبَلُ، فَقَدْ غُفِرَ لَكَ ما مَضىْ" (¬1). وقال الشيخ أبو عبد الرَّحمن السلمي في "الحقائق": لما دخلت على الشيخ الحصري - قدس الله روحه - ببغداد قال لي: أحاجٌّ أنت؟ قلت: أنا مع القوم، قال لي: أليس فرائض الحج أربعة: الإحرام، والدخول فيه بلفظ التلبية؟ قلت: نعم، قال: والتلبية إجابة؟ قلت: نعم، قال: والإجابة من غير دعوة سوء أدب؟ قلت: نعم، قال: فتحققت الدعوة حتى تجيب؟ ثم الوقوف؟ قلت: نعم، قال: فاجتهد فيه؟ فإنه محل المباهاة، انظر كيف يكون ثَمَّ. ¬
والطواف، وهو محل القربة من الحق، فيكون قربك منه بحسن الأدب. ثم السعي، وهو محل الفرار إليه بالتبري مما سواه، فإياك أن تتعلق بعد سعيك بعلاقة من الدارين وما فيهما (¬1). وروى ابن أبي الدُّنيا في "الإخلاص" عن كعب قال: رجال يباهي الله بهم ملائكته: الغازي في سبيل الله، ومقدمة القوم إذا حملوا، وحاميتهم إذا هزموا، والذي يخفي صلاته، والذي يخفي صدقته، والذي يخفي كل عمل صالح مما ينبغي أن يخفى (¬2). وروى أبو نعيم من طريق الإمام أحمد في "الزهد" عن عقبة بن عبد الغافر قال: دعوة في السر أفضل من سبعين علانية، وإذا عمل العبد في العلانية عملاً حسناً، وعمل في السر مثله، قال الله تعالى لملائكته: هذا عبدي حقاً (¬3). وروى أبو نعيم عن كعب قال: من سره أن يصحبه كتائب من الملائكة يستغفرون له، ويحفظونه، ويكفى ما أهمه، فلْيُخْفِ (¬4) في بيته من صلاته ما شاء (¬5). ¬
وقال كعب: طوبي للدَّين يجعلون بيوتهم قبلة؛ يعني: مسجداً. قال: والمساجد بيوت المتقين في الأرض، ويباهي الله ملائكته بالمخفي صلاته، وصيامه، وصدقته (¬1). وذكر حجة الإسلام في "الإحياء" عن عطية بن عبد الغفار قال: إذا وافقت سريرة المؤمن علانيته، باهى الله به الملائكة، فيقول: هذا عبدي حقاً (¬2). وذكر "فيه" أيضاً: أنه يقال: إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: قل لبني إسرائيل: إني لا أنظر إلى صلاتكم، ولكن أنظر فيمن شك في شيء فتركه لأجل ذلك الذي أريده بنظري، وأباهي به ملائكتي (¬3). وروى أبو الحسن بن جَهْضَم في "بهجة الأسرار" عن أبي بكر المروزي، عن رجل من طرسوس قال: فكرت ليلة في أحمد بن حنبل، وصبره على ضرب السياط، وكيف قوي على ذلك مع ضعف بدنه، قال: فبكيت، فرأيت في منامي كأن قائلاً يقول لي: فكيف لو رأيت الملائكة في السماوات وهو يضرب وهي تتباهى به؟ قال: قلت: وعلمت الملائكة بضرب أحمد؟ فقال: ما بقي في السماوات ¬
ملك إلا وأشرف عليه وهو يضرب. وروى ابن السمعاني في "أماليه" عن حبيش بن مبشرة قال: رأيت يحى بن معين في المنام فقلت: ما صنع بك ربك؟ قال: أدخلني عليه، وزوجني ثلاث مئة امرأة، وجعل يباهي بي، ومهد لي بين الياسمين - وبيده شبه الورق - فقلت: يا أبا زكريا! ما هذا؟ قال: بهذا، وأومأ بيده التي فيها الورق؛ يعني: كتابة الحديث (¬1). أخبرنا شيخ الإسلام الوالد - رضي الله عنه - إجازة، قال: أخبرنا شيخ الإسلام زكريا، أنا العزُّ بن الفرات، عن أبي حفص المراغي، أنا الفخر بن البخاري، عن أبي المكارم أحمد بن محمد اللَّبَّان، وأبي الحسن مسعود ابن محمد بن أبي المنصور الكمال، قالا: أنا أبو علي الحسين بن أحمد الحداد، أنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ثنا أبو عمرو عثمان ابن محمد العثماني، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى، حدثني أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي قال: نور المعرفة في القلب، وإشراقه في عيني الفؤاد في الصدر، فبذكر الله يرطب القلب ويلين، وبذكر الشهوات واللذات يقسو القلب وييبس، فإذا شغل القلب عن ذكر الله بذكر الشهوات كان بمنزلة شجرة؛ إنما رطوبتها ولينها من الماء، فإذا منعت الماء يبست عروقها، وذبلت أغصانها، فإذا منعت السقي، وأصابها حر القَيظ يبست الأغصان، فإذا مددت غصناً منها انكسر، فلا تصلح إلا للقطع، فتصير ¬
وقوداً للنار، وكذلك القلب إذا يبس وخلا من ذكر الله تعالى فأصابته حرارة النفس، ونار الشهوة، امتنعت الأركان من الطاعة، فإذا مددتها انكسرت، فلا تصلح إلا حطباً للنار، وإنما يرطب القلب بالرحمة، وما من نور في القلب إلا ومعه رحمة من الله بقدر ذلك. فهذا هو أصل، والعبد مادام في الذكر، فالرحمة دائمة عليه كالمطر، فإذا قحط فالصدر في ذلك الوقت كالسَّنَة الجرداء اليابسة، وحريق الشهوات فيها كالعمائم (¬1)، والأركان معطلة عن أعمال البر. فدعا الله الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس رحمة منه عليهم، وهيأ لهم فيها ألوان العبادة لينال العبد من كل قول وفعل شيئاً من عطاياه، والأفعال كالأطعمة، والأقوال كالأشربة، وهي عرس الموحدين هيأها رب العالمين لأهل رحمته في كل يوم خمس مرات حتَّى لا يبقى عليهم دَنَسَ ولا غبار؛ فإن الله تعالى اختار الموحدين ليباهي بهم يوم الجمع الأكبر في تلك العَرَصَة الملائكة؛ لأن آدم وولده ظهر خلقهم من يده بالمحبة (¬2)، والملائكة ظهر خلقهم من القدرة لقوله: كن فكان، فمن محبته للآدميين يفرح بتوبتهم، خلقهم والشهوات والشياطين في دار الابتلاء، فيباهي بهم في ذلك الجمع، ويقول: يا معشر ملائكتي! إن محاسنكم خرجت منكم، ومن النور خلقتكم، وأنتم في أعالي المملكة تعاينون بها عظمتي وحجتي وسلطاني، وقد عريتم من الشَّهوات ¬
والشَّياطين، والآدميون خرجت منهم هذه المحاسن من نفوسهم الشَّهوانية، والشَّياطين قد أحاطت بهم في أداني المملكة، ومن التراب خلقتهم، فلذلك استوجبوا مني داري وجواري (¬1). انتهى. ولا يخفى ما فيه من بيان وجه المباهاة للملائكة عليهم السَّلام. ¬
خاتمة في لطائف تتعلق بهذا الباب
خَاتِمَة فِي لطَائَف تَتَعَلَّق بِهَذَا البَاب روى الشَّيخ الزَّاهد الفقيه سيِّدي نصر المقدسي رضي الله تعالى عنه في كتاب "الحجة" عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى: أنه قال: الملائكة حراس السَّماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض (¬1). قلت: الملائكة عليهم السلام يحرسون السماء من الشياطين كما قال الله تعالى حكاية عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8]. وأصحاب الحديث، ومن كان على قدمهم من العلماء، يحرسون القلوب في الأرض أن تضلها الشياطين من الجن والإنس عن عقائد السنة. ويحوز أن يكون حراستهم الأرض: أن الله تعالى يمنع العذاب بهم عن أهل الأرض، ويدفع بهم البلايا عنهم. وروى الخَلاَّل قال: أخبرني أحمد بن الحسين بن حسان قال: ¬
سمعت رجلاً من خراسان يقول: عندنا بخراسان يرون أن أحمد بن حنبل لا يشبه البشر، يظنون أنه من الملائكة (¬1). قلت: وفي أمثال الناس إذا أرادوا أن يثنوا على الرجل بحسن الأخلاق، ونفع الناس، وكف الأذى قالوا: فلان كأنه ملك، أو: فلان من الملائكة. وفي أمثالهم: لا تقاس الملائكة بالحدادين (¬2)، وهذا المثل أورده حجة الإسلام في "الإحياء" متمثلاً به (¬3). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "امْشُوْا أَمامِيَ، خَلُّوْا ظَهْرِيَ لِلْمَلائِكَةِ" (¬4). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن نَوف البَكَالي قال: انطلق رجل مؤمن ورجل كافر يصيدان السَّمك، فجعل الكافر يلقي شبكته، ويذكر آلهته، فتجيء بدمشق، ويلقى الرجل، ويذكر الله - عز وجل -، فلا تجيء بشيء، قال: فتعاهد ذلك إلى مغيب الشمس، ثم إن المؤمن اصطاد سمكة فأخذها بيده، فاضطربت، فوقعت في الماء، فرجع المؤمن وليس معه ¬
شيء، ورجع الكافر وقد امتلأت سفينته، فأسف مَلَك المؤمن، فقال: أي رب! عبدك هذا المؤمن الذي يدعوك رجع ليس معه شيء، وعدوك الكافر رجع وقد امتلأت سفينته؟ فقال الله - عز وجل - لملك المؤمن: تعال، فأراه مسكن المؤمن في الجنة، فقال: ما يضر عبدي المؤمن ما أصابه بعد أن يصير إلى هذا، وأراه مسكن الكافر في النار، فقال: هل يغني عنه من شيء أصاب في الدنيا؟ قال: لا والله يا رب (¬1). وروى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "المرض والكفارات" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مَرِضَ مُسْلِمٌ إِلاَّ وَكَّلَ اللهُ بِهِ مَلَكَيْنِ مِنْ مَلائِكَتِهِ لا يُفارِقانِهِ حَتَّىْ يَقْضِيَ اللهُ فِيْ أَمْرِهِ بِإِحْدَىْ الْحُسْنَيَيْنِ؛ إِمَّا بِمَوْتٍ، وإمَّا بِحَياةٍ، فَإِذا قالَ لَهُ الْعُوَّادُ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقالَ: أَحْمَدُ الله، أَجِدُنِيْ - وَاللهُ مَحْمَوْدٌ - بِخَيْرٍ، قالَ لَهُ الْمَلكانِ: أَبْشِرْ بِدَمٍ هُوَ خَيْر مِنْ دَمِكَ، وَصِحَّةٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ صِحَّتِكَ، فَإِنْ قالَ: أَجِدُنِيْ فِيْ بَلاءٍ وَشِدَّةٍ، قالَ لَهُ الْمَلَكانِ مُجِيْبِيْنَ لَهُ: أَبْشِرْ بِدَمٍ هُوَ شَرٌّ مِنْ دَمِكَ، وَبِبلاءٍ هُوَ أَطْوَلُ مِنْ بَلائِكَ" (¬2). وروى الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ رَجُلاً قَتَلَ تِسْعَةً وتسعِيْنَ نَفْساً، ثُمَّ ¬
عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَىْ راهِبٍ، فَأتاهُ، فَقالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتسعِيْنَ نَفْساً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقالَ: لا، فَقَتَلَهُ وَكَمَّلَ بِهِ مِئَة، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَىْ رَجُلٍ عالِمٍ، فَقالَ: إِنَّةُ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُوْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَىْ أَرْضِ كَذَا وَكَذا؛ فَإِنَّ بِها ناساً يَعْبُدُوْنَ اللهَ تَعَالَىْ، فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَىْ أَرْضِكَ؛ فَإِنَّها أَرْضُ سُوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّىْ إِذا نصَفَ (¬1) الطَّرِيْقُ أَتاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيْهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذابِ، فَقالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جاءَنا تائِباً مُقْبِلاً، وَقالَتْ مَلائِكَةُ الْعَذابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ، فَأَتاهُمْ مَلكٌ فِيْ صُوْرَةِ أدَمِي، فَجَعَلُوْهُ بَيْنَهُمْ، فَقالَ: قِيْسُوْا ما بَيْنَ الأَرْضَيْنِ، فَإِلَىْ أَّيَّتِهِما كانَ أَدْنى فَهُوَ لَهُ، فَقاسُوْهُ فَوَجَدُوْهُ أَدْنى إِلَىْ الأَرْضِ الَّتِيْ أَرادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمةِ" (¬2). قلت: هذا الحديث موافق لقوله تعالى في الحديث القدسي: "إن رحمتي تَغلِبُ غضبي" (¬3). ولا لوم على الملائكة في هذا الخصام؛ لأن كل طائفة منهم قائمة بأمر الله تعالى، ولو لم يختصموا لكانوا مقصِّرين فيما أُمروا به. ¬
وفي هذا الحديث دليل على أن الملائكة عليهم السلام متعبَّدون بالاجتهاد. وروى الطبراني في "الكبير" عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَنْزِلُ عَلَىْ قَوْمٍ فِيْهِمْ قاطِعُ رَحِم" (¬1). والمراد ملائكة الزيارة والإكرام، فأمَّا ملائكة الحفظ، فإنهم ملازمون العبد كما سبق، وهذا منهم من باب هجران أهل العصيان. وروى الترمذي، وأبو نعيم، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا كَذَبَ الرَّجُلُ كَذْبَة تَباعَدَ عَنْهُ الْمَلَكُ مِيْلاً مِنْ نتَنِ ما جاءَ بِهِ" (¬2). والمراد بهذا الملك الحافظ، وتباعدُه استقذارٌ لما أتى به صاحبه من الكذب. واستقباح الكذب ونحوه من الأعمال السيئة، والأقوال الخبيثة، واستقذاره إنما يدرك بالسر، لا بالحواس الظاهرة، فهو أمر روحاني، والروح تدرك من نتن المعاني وقبحها ما يسهل عنده أقبح رائحة تدرك بحاسة الشم. ¬
وروى الشيخان، وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائِشَةُ! هَذا جِبْرِيْلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلامَ" قالت: قلت: وعليه السلام ورحمة الله، ترى ما لا نرى؛ تريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). وسبق أن السلام، والرد من أعمال الملائكة. وفي هذا الحديث أنهم يرسلون السلام إلى أهل الخير، ويذكرون عند أهل الخير أهلهم بخير، وفي ذلك إدخال السرور عليهم. وروى مسلم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَتانِيْ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ: يا رَسُوْلَ اللهِ! هَذِه خَدِيْجَةُ قَدْ أَتَتْكَ مَعَها إِناءٌ فِيْهِ إِدامٌ، أَوْ طَعامٌ، أَوْ شَرابٌ، فَإذا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْها السَّلامَ مِنْ رَبِّها، وَبَشِّرْها بِبَيْتٍ فِيْ الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيْهِ وَلا نَصَبَ" (¬2). وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، والطبراني في "الكبير"، والحافظ ضياء الدين المقدسي في "الأحاديث المختارة" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]: "أَتانِيْ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ: أَقْرِئْ عُمَرَ السَّلامَ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّ رِضاهُ حُكْمٌ، وَإِنَّ غَضَبَهُ عِزٌّ" (¬3). ¬
وروى الإمام أحمد، والترمذي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ حَسَّانَ بِرُوْحِ الْقُدُسِ ما نافَحَ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة، عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: "اهْجُ الْمُشْرِكِيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيْلَ مَعَكَ" (¬2). وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: مرَّ عمر بحسان رضي الله تعالى عنهما وهو ينشد في المسجد، فنظر إليه، فقال: قد كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، فسكت، ثم التفت حسان إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله! هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَجِبْ عَنِّيَ، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوْحِ الْقُدُسِ؟ "، قال: نعم (¬3). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن ابن بُريدة: أن جبريل عليه ¬
السلام أعان حسان بن ثابت على مدحة النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبعين بيتاً (¬1). قلت: في هذه الأحاديث دليل على أن إنشاء الشعر في مدح الله ورسوله، وهجاء أعدائهم، ونحو ذلك مما يرضى به الملائكة، ويستمعون إليه، بل في حديث ابن بريدة أنه من فعل جبريل، وهو أفضل الملائكة عليهم السَّلام. وروى الدينوري في "المجالسة"، وابن عساكر - بسند فيه متهم (¬2) - عن أنس - رضي الله عنه -: أن الله تعالى لما حشر الخلائق إلى بابل هبطت ملائكة الخير والشر، وملائكة الحياء والإيمان، وملائكة الصحة والشفاء، وملائكة الغنى، وملائكة الشرف، وملائكة المروءة، وملائكة الجفاء، وملائكة الجهل، وملائكة السيف، وملائكة البأس حتى انتهوا إلى العراق، فقال بعضهم لبعض: افترقوا، فقال ملك الإيمان: أنا أسكن المدينة ومكة، فقال ملك الحياء: أنا معك. وقال ملك الشفاء: أنا أسكن البادية، فقال ملك الصحة: وأنا معك. فقال ملك الجفاء: وأنا أسكن المغرب، فقال ملك الجهل: وأنا معك. ¬
فقال ملك السيف: أنا أسكن الشام، فقال ملك البأس: وأنا معك. فقال ملك الغنى: أنا أقيم هاهنا، فقال ملك المروءة: وأنا معك. فقال ملك الشرف: وأنا معكما، فاجتمع الغنى والمروءة والشرف بالعراق (¬1). قلت: معنى إقامة الملائكة بهذه المعاني بالعراق: أن سلطان تلك المعاني بالعراق - وإن كانت موجودة بغيره - إلا أنها فيه أكثر منها في غيره. وكذلك سكنى الإيمان والحياء بالحرمين، معناه أنهما فيهما أكثر منهما في غيرهما، وكذا الباقي. وروى أبو نعيم في "الحلية" عن سليم الخَوَّاص أنه قال: الناس ثلاثة أصناف: صنف شبه الملائكة، وصنف شبه البهائم، وصنف شبه الشياطين؛ فأمَّا الذين شبه الملائكة فالمؤمنون في ليلهم ونهارهم طائعين يحبون أهل الطاعة، وأما الذين شبه البهائم فالذين ليس لهم هَمٌّ إلا الأكل والشرب والنكاح والنوم، فهم كالبهائم، وأما الذين شبه الشياطين فالذين في معاصي الله صباحاً ومساءً (¬2). ¬
وروى البزار، والحاكم، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ صَباحِ إِلاَّ وَمَلَكانِ يُنادِيانِ، يَقُوْلُ أَحَدُهُما: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وَيَقُوْلُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً، وَمَلَكانِ مُوَكَّلانِ بِالصُّوْرِ يَنْتَظِرانِ مَتَىْ يُؤْمَرانِ فَيَنْفُخانِ، وَمَلَكانِ يُنادِيانِ، يَقُوْلُ أَحَدُهُما: يا باغِيَ الخَيْرِ هَلُمَّ، وَيَقُوْلُ الآخَرُ: يا باغِيَ الشَرِّ أَقْصِرْ، وَمَلَكانِ يُنادِيانِ، يَقُوْلُ أَحَدُهُما: وَيْلٌ لِلرِّجالِ مِنَ النِّساءِ، وَيَقُوْلُ الآخَرُ: وَيْلٌ لِلنِّساءِ مِنَ الرِّجالِ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن كعب قال: أجد في الكتاب: ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة بيدي ملك، فإن ارتفع وضعه الله تعالى، وإن تواضع رفعه الله - عز وجل - (¬2). وروى الطبراني بإسناد حسن، عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ آدَمِيِّ إِلاَّ وَفِيْ رَأْسِهِ حِكْمَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِذا تَواضَعَ قِيْلَ لِلْمَلَكِ: ارْفَعْ حِكْمَتَهُ، وَإِذا تَكَبَّرَ قِيْلَ لِلْمَلَكِ: ضَعْ حِكْمَتَهُ" (¬3). ¬
وأخرجه البزار بنحوه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بإسناد حسن (¬1). وروى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "الذكر" عن حَجَّاج بن فرافصة قال: إن لله خلقاً من الملائكة عليهم السلام نصفه ثلج ونصفه نار، يقول: يا مؤلفاً بين الثلج والنار! ألف بين قلوب العباد (¬2). وروى أبو نعيم عن عبد الرَّحمن بن ميسرة الحَضْرمي قال: إن لله ملكاً اسمه روقيل، نصفه ثلج ونصفه نار، صلاته يقول: اللهم كما ألفت بين هذا النور وبين هذا الثلج، فلا الثلج يطفئ النور ولا النور يطفئ الثلج، فألف بين عبادك المؤمنين. قال: وكان يقال: وكِّل بالصيام (¬3). وروى أبو نعيم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً فِيْ السَّماءِ أَبْصَرُ بِعَمَلِ بَنِيْ آدَمَ مِنْ بَنِيْ آدَمَ، تَفْخَرُ بِهِمُ السَّماءُ، فَإِذا نَظَرُوْا إِلَىْ عَبْدٍ عَمِلَ بِطاعَةِ اللهِ ذَكَرُوْهُ بَيْنَهُمْ، فَقالُوْا: أَفْلَحَ اللَّيْلَةَ فُلانٌ، فازَ اللَّيْلَةَ فُلانٌ، وَإِذا رَأَوْا عَبْداً يَعْمَلُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَىْ قالُوْا: ¬
خَسِرَ اللَّيْلَةَ فُلانٌ، هَلَكَ اللَّيْلَةَ فُلانٌ" (¬1). قلت: ومثل ذلك لا يكون غيبة؛ لأن الله تعالى أطلعهم على حقيقة الأمر، وأمرهم بذلك؛ فإنهم كما قال الله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. ويحتمل أن يكون قولهم: "خسر الليلة فلان، هلك الليلة فلان" من باب الرحمة والأسف عليه، لا من باب التفكُّه بذكره؛ فإن هذا من خلق بني آدم، لا من خلق الملائكة. وروى حسين المروزي راوي كتاب "البر والصلة" لابن المبارك في "زوائده" عن مجاهد قال: إن الملائكة مع ابن آدم، فإذا ذكر أخاه المسلم بخير قالت الملائكة: ولك بمثله، وإذا ذكره بسوء قالت الملائكة: ابن آدم المستور عورته أَرْبَع على نفسك، واحمد الذي ستر عورتك (¬2). وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن جُبير بن نُفير رضي الله تعالى عنه قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس صلاة الصبح، فلما فرغ أقبل بوجهه على الناس رافعاً صوته حتى كان يسمع من الخدور، وهو يقول: "يا مَعْشَرَ الَّذِيْنَ أَسْلَمُوْا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيْمانُ فِيْ قُلُوْبهِمْ! لا تُؤْذُوْا الْمُسْلِمِيْنَ، وَلا تُعَيِّرُوْهُمْ، وَلا تتَّبِعُوْا عَثَراتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ ¬
يَتَّبعُ عَثْرَةَ أَخِيْهِ الْمُسْلِمِ يَتَّبعُ اللهُ عَثْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبعُ اللهُ عَثْرَتَهُ يَفْضَحُهُ وَهُوَ فِيْ قَعْرِ بَيْتِهِ". فقال قائل: يا رسول الله! وهل على من ستر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سُتُوْرُ اللهِ عَلَىْ الْمُؤْمِنِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَىْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَعْمَلُ بِالذُّنُوْبِ فَيَهْتِكُ اللهُ عَنْهُ سُتُوْرَهُ سِتْراً سِتْراً، حَتَّىْ لا يَبْقَىْ عَلَيْهِ مِنْها شَيْءٌ، فَيَقُوْلُ اللهُ تَعالَىْ لِلْمَلائِكَةِ: اسْتُرُوْا عَلَىْ عَبْدِيَ مِنَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُعَيِّرُوْنَ وَلا يُغَيِّرُوْنَ، فَتَحُفُّ بِهِ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِها يَسْتُرُوْنه مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ تابَ قَبِلَ اللهُ مِنْهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ سُتُوْرَهُ، وَمَعَ كُلِّ سِتْرٍ تِسْعَةُ أَسْتارٍ، فَإِنْ تَتابَعَ فِيْ الذُّنُوْبِ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: رَبَّنا! إِنَّهُ قَدْ غَلَبَنا وَأَقْدَرَنا، فَيَقُوْلُ لِلْمَلائِكَةِ: اسْتُرُوْا عَبْدِيَ مِنَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُعَيِّرُوْنَ وَلا يُغَيِّرُوْنَ، فَتَحُفُّ بِهِ الْمَلائِكَةُ بِاَجْنِحَتِها يَسْتُرُوْنَهُ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ تابَ قَبِلَ اللهُ مِنْهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ سُتُوْرَهُ، وَمَعَ كُلِّ سِتْرٍ تِسْعَةُ أَسْتارٍ، فَإِنْ تَتابَعَ فِيْ الذُّنُوْبِ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: يا رَبَّنا! إِنَّهُ قَدْ غَلَبَنا وَأَقْدَرَنا، فَيَقُوْلُ اللهُ: اسْتُرُوْا عَلَىْ عَبْدِيَ مِنَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُعَيّرُوْنَ وَلا يُغَيِّرُوْنَ، فَتَحُفُّ بِهِ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا يَسْتُرُوْنَهُ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ تابَ قَبِلَ اللهُ مِنْهُ، وَإِنْ عادَ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: رَبَّنا! إِنَّهُ قَدْ غَلَبَنَا وَأَقْدَرَنا، فَيَقُوْلُ اللهُ تَعَالَىْ لِلْمَلائِكَةِ: تَخَلَّوْا عَنْهُ، فَلَوْ عَمِلَ ذَنْباً فِيْ بَيْتٍ مُظْلِمٍ فِيْ لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِيْ جُحْرٍ أَبْدَىْ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ عَوْرتِهِ" (¬1). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن خيثمة رحمه الله تعالى: أنه قال: تقول الملائكة: يا رب! عبدك المؤمن تَزوي عنه الدنيا، وتعرضه للبلاء؟ قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن ثوابه، فإذا رأوا ثوابه قالوا: يا رب! لا يضره ما أصابه من الدُّنيا. ويقولون: عبدك الكافر تزوي عنه البلاء، وتبسط له الدنيا؟ قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن عقابه، فإذا رأوا عقابه قالوا: يا رب! لا ينفعه ما أصابه من الدنيا (¬1). وسبق في نحو ذلك عن نوف البكالي رحمه الله تعالى حكاية المؤمن والكافر في صيد السمك. وروى ابن أبي شيبة عن الحسن قال: لما خلق الله آدم عليه السلام وذريته قالت الملائكة: إن الأرض لا تسعهم، قال: إني جاعل موتاً، قال: إذاً لا يهنيهم عيش، قال: إني جاعل أملاً (¬2). وروى أبو نعيم عن عبد الأعلى التيمي رحمه الله تعالى قال: إذا جلس قوم فلم يذكروا الجنة والنار قال الملائكة: أغفلوا العظيمتين، ومن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَنْسَوُا الْعَظِيْمَتَيْنِ"، قلنا: وما العظيميتان ¬
يا رسول الله؟ قال: "الْجَنَّةُ وَالنَّارُ". رواه أبو يعلى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬1). والمراد بذكر الجنة أن تطلب من الله، وذكر النار أن يستعاذ به منها. أو ذكرهما وما فيهما مما ورد به الكتاب والسنة ترغيباً لنفس الذاكر، أو لغيره في الجنة، وترهيباً من النار. وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن الحارث رضي الله تعالى عنه قال: ما من شجرة - صغيرة ولا كبيرة -، ولا مغرز إبرة - رطبة ولا يابسة - إلا ملك متوكل بها يأتي الله بعلمها كل يوم، ورطوبتها إذا رطبت، ويبوستها إذا يبست (¬2). وروى أبو الشيخ في "العظمة" عن الحسن قال: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء، وينزل مع المطر كذا، وكذا من الملائكة يكتبون حيث يقع فيه المطر، ومن يرزقه، وما يخرج منه مع كل قطرة (¬3). وروى الحاكم وصححه، والبيهقي في "الدلائل" عن سعيد بن هلال قال: سمعت أبا جعفر محمَّد بن علي رضي الله تعالى عنه وتلا: ¬
{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، فقال: حدثني جابر رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال: "إِنِّيْ رَأَيْتُ فِيْ الْمَنامِ كَأَنَّ جِبْرِيْلَ عِنْدَ رَأْسِيَ، وَمِيْكائِيْلَ عِنْدَ رِجْلِيَ، يَقُوْلُ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: اضْرِبْ لَهُ مَثلاً، فَقالَ: اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُكَ، وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ: إِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ داراً، ثُمَّ بَنَىْ فِيْها بِناءً، ثُمَّ جَعَلَ فِيْها مَأْدُبَةً، ثُمَّ بَعَثَ رَسُوْلاً يَدْعُوْ النَّاسَ إِلَىْ طَعامِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجابَ الرَّسُوْلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ، فَاللهُ هُوَ الْمَلِكُ، وَالدَّارُ الإِسْلامُ، وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وَأَنْتَ يا مُحَمَّدُ رَسُوْلٌ، فَمَنْ أَجابَكَ دَخَلَ الأسْلامَ، وَمَنْ دَخَلَ الإِسْلامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مِنْها" (¬1). وروى أبو بكر بن مردويه في "تفسيره" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: استقبلني النبي - صلى الله عليه وسلم -، فانطلقنا حتى أتينا موضعاً لا ندري ما هو، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه في حجري، ثم إن ناساً أتوا، عليهم ثياب بيض طوال، وقد أغفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال عبد الله: فأرعبت منهم، فقالوا: لقد أعطي هذا العبد خيراً؛ إن عينه نائمة والقلب يقظان، ثم قال بعضهم لبعض: هلم فنضرب له مثلاً، قال بعضهم لبعض: اضربوا له ونتأول نحن، أو نضرب نحن وتتأولون أنتم، فقال بعضهم: مثله كمثل سيد اتخذ مأدُبة، ثم ابتنى بنياناً ¬
حصيناً، ثم أرسل إلى الناس، فمن لم يأت طعامه عذبه عذاباً شديداً، قال الآخرون: أما السيد فهو رب العالمين، وأما البنيان فهو الإسلام، والطعام الجنة، وهذا الداعي؛ فمن اتبعه كان في الجنة، ومن لم يتبعه عذب عذاباً أليماً، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استيقظ فقال: "ما رَأَيْتَ يا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ؟ " فقلت: رأيت كذا وكذا، قال: "أَفَخَفِيَ عَلَيَّ مِمَّا قالُوْا شَيْءٌ؟ " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ" (¬1). وروى أبو الشيخ عن عبيد بن أبي مرزوق قال: من قرأ عند نومه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] بسط عليه ملك جناحه حتى يصبح، وعوفي من السرق (¬2). وروى الحاكم وصححه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إذا حدثتكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك في كتاب الله؛ إن العبد إذا قال: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وتبارك الله" قبض عليهن ملك، فضمهنَّ تحت جناحه، ويصعد بهن لا يمرُّ بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يُحَيَّا بهن وجه ¬
الرحمن، ثم تلا عبد الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] (¬1). ورواه الطبراني فقال: "حتى يجيء بهن وجه الرحمن" (¬2). وروى الترمذي وحسنه، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ ابْتَغَىْ الْقَضاءَ وَسَألَ عَلَيْهِ الشُّفَعاءَ وُكِلَ إِلَىْ نَفْسِهِ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللهُ تَعالَىْ مَلَكاً يُسَدِّدُهُ" (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الذكر" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال أُبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: لأدخلن المسجد فلأصلين، ولأحمدن الله بمحامد لم يحمده بها أحد، فلما صلى وجلس ليحمد الله، ويثني عليه، فإذا هو بصوت عالٍ من خلفه يقول: "اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله - علانيته وسره - لك الحمد إنك على كل شيء قدير، اغفر لي ما مضى ¬
من ذنوبي، واعصمني فيما بقي من عمري، وارزقني أعمالاً زاكية ترضى بها عني، وتب عليَّ"، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقص عليه، فقال: "ذَاكَ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ" (¬1). وهذا الحديث سبق ذكره مع نظائره. وفي هذا الحديث دليل على أن جبريل عليه الصلاة والسلام قد يتصور لغير الأنبياء عليهم السلام ليعلمهم لا على سبيل الوحي. وروى أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قالَ - يعني: إذا خرج من بيته -: بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَىْ اللهِ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، يُقالُ لَهُ: كُفِيْتَ، وَوُقِيْتَ"، وَتَنَحَّىْ عَنْهُ الشَّيْطانُ (¬2). وروى ابن السُّنِّي من حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها: أنه إذا قال: "بسم الله" قال الملك: "هديت"، وإذا قال: "توكلت على الله" قال له الملك: "كفيت"، وإذا قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله" قال له الملك: "وقيت" (¬3). وهذا يدل أن المراد بالقائل في حديث أنس الملائكة. ¬
وفي "الفردوس" من حديث أنس رضي الله تعالى عنه: وإذا قال: "حسبي الله ونعم الوكيل" قالت الملائكة: "كفيت من كل بلاء" (¬1). وروى البزار، والطبراني عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ؛ أَيَّدَنِيْ بِأَرْبَعَةِ وُزَراءَ؛ اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ السَّماءِ: جِبْرِيْلَ، وَمِيْكائِيْلَ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَاثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ: أَبيْ بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعالَىْ عَنْهُما" (¬2). وأخرجه الحاكم وصححه، من حديث أبي سعيد بمعناه (¬3). وروى الطبراني بسند حسن، عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ فِيْ السَّماءِ مَلَكَيْنِ أَحَدُهُما يَأْمُرُ بِالشّدَّةِ، وَالآخَرُ يَأْمُرُ بِاللِّيْنِ، وَكُلٌّ مُصِيْبٌ: جِبْرِيْلَ وَمِيْكائِيْلَ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَنبِيَّيْنِ أَحَدَهُما يَأمُرُ بِاللِّيْنِ، وَالآخَرَ يَأْمُرُ بِالشِّدَّةِ، وَكُلٌّ مُصِيْبٌ، وَذَكَرَ نُوْحاً وَإِبْراهِيْمَ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَلِيْ صاحِبانِ أَحَدُهُما يَأْمُرُ بِاللِّيْنِ، وَالآخَرُ بِالشِّدَّةِ، وَكُلٌّ مُصِيْبٌ"؛ وذكر أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - (¬4). ¬
وروى الجندي في "فضائل مكة" عن وُهَيب بن الورد قال: كنت أطوف أنا وسفيان بن سعيد الثوري ليلاً فانقلب سفيان، وبقيت في الطواف، فدخلت الحجر، فصليت تحت الميزاب، فبينا أنا ساجد إذ سمعت كلاماً بين أستار الكعبة والحجارة وهو يقول: يا جبريل! أشكو إلى الله، ثم إليك ما يفعل هؤلاء الطائفون حولي من تفكههم في الحديث، ولغطهم، وشؤمهم. قال وهيب رحمه الله تعالى: فأولت أن البيت يشكو إلى جبريل عليه السلام (¬1). وروى الحاكم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَكاً مُوَكَّلاً بِمَنْ يَقُوْلُ: يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، فَمَنْ قالَها ثَلاثاً قالَ الْمَلَكُ: إِنَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكَ فَسَلْ حاجَتَكَ" (¬2). وروى الدينوري في "المجالسة" عن قتادة رحمه الله تعالى قال: إذا راءى العبد يقول الله تعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي يتهزأ بي (¬3). وهذا وما سبق من مباهاة الملائكة ببعض أهل الطاعة في طرفي نقيض. ¬
و"فيها" عن أحمد بن شعيب قال: كنا عند بعض المحدثين بالبصرة فحدثنا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَلائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَها لِطالِبِ الْعِلْمِ"، وفي المجلس معنا رجل من المعتزلة، فجعل يستهزئ بالحديث، فقال: لله لأقطرن غداً نعلي، فأطأ بها أجنحة الملائكة، قال: ففعل ومشى في النعلين، فجفت رجلاه جميعاً، ووقعت في رجليه جميعاً الأكِلَة (¬1). وقد سبق نظير هذا إلا أن الذي فعل ذلك كان ماجناً، وفي هذه أنه كان معتزلياً، والمعتزلة ينكرون الجن ومسيسهم كما سيأتي، ومنهم من ينكرون الملائكة. وهذا كأنه كان ينكر وجود الملائكة، أو ينكر تواضعهم للعلماء، ووضعهم أجنحتهم لهم، أو فعل ذلك امتهاناً للملائكة، وامتهانهم ضلال، وعداوتهم كفر. قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]. وروى البيهقي في "شعب الإيمان"، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا ماتَ الْمَيِّتُ تَقُوْلُ الْمَلائِكَةُ: ما قَدَّمَ؟ وَيَقُوْلُ النَّاسُ: ما خَلَّفَ؟ " (¬2). وروى الدِّينوري في "المجالسة" عن الأصمعي قال: نزلنا في طريق ¬
بين مكة والبصرة في بعض المناهل، فحضرت الجمعة، ولم يحضر الإمام، فقيل لأعرابي: يا أعرابي! قم فاخطب، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس! إنما الدنيا دار بلاع، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم؛ فإن العبد إذا هلك قالت الملائكة: ما قدم؟ وقال بنو آدم: ما خلف؟ فقدموا لأنفسكم بعضاً تجدوه قريباً، ولا تخلفوا كلًّا فيكون عليكم ثقيلاً، والمحمود الله، والمصلى عليه محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والمدعوُّ (¬1) له الخليفة، والأمير جعفر، قوموا إلى صلاتكم (¬2). وإنما تسأل الملائكة عما قدم العبد لأنه هو الذي يبقى؛ فإن كان خيراً علموا أنه في الخير، وإن كان سوءاً علموا أنه في السوء الدائم. والمسؤول من الملائكة مَلَكَا العبد، أو يسألهما بعض الملائكة، ثم يتحاكون عن عمله في السماء. والناس يسألون عما خلف - أي: من الأموال والورثة - لأن المال مطرح نظر الأكثرين منهم، وإنما يسألون عن الورثة للغبطة والحسد، أو للتشفي، أو نحو ذلك مما الملائكة منزهون عنه. فينبغي للعاقل من الناس أن يكون اعتباره إذا حضر الميت، أو ¬
سمع بموته فيما قدم بين يديه، وما يقول وما يقال له، وما يجازى به، وليعلم أنه صائر إلى مثل ما صار إليه. ولقد أحسن القائل: [من السريع] يَا أَيُّهَا الْبَاكِيْ عَلَىْ غَيْرهِ ... ابْكِ عَلَىْ نَفْسِكَ لاتَبْكِهِ إِنَّ الَّذِيْ تَبْكِيْ عَلَىْ فَقْدِهِ ... يُوْشِكُ أنْ تَسْلُكَ فِيْ سِلْكِهِ (¬1) ونقل الدميري في "حياة الحيوان" عن الجاحظ: أن جُرْهُمًا كان من نتاج الملائكة، وبنات آدم. قال: وكان الملك من الملائكة إذا عصى ربه في السماء أهبط إلى الأرض في صورة رجل كما فعل بهاروت وماروت. قال: فوقع بعض الملائكة على بعض بنات آدم، فولدت منه جُرهماً. قال: ولذلك قال شاعرهم: [من الرجز] لاهُمَّ إِنَّ جُرْهُماً عِبادُكا ... النَّاسُ طُرْفٌ وَهُمُ تِلادُكا (¬2) ¬
قال: ومن هذا الضرب بلقيس ملكة سبأ. قال: وكذلك ذو القرنين كانت أمه آدمية وأبوه من الملائكة. قال: ولذلك لما سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلاً ينادي رجلاً: يا ذا القرنين! قال: أَفَرَغْتُم من أسماء الأنبياء فارتفعتم إلى أسماء الملائكة؟ (¬1) انتهى. قلت: هذا من تخبيط الجاحظ، وقياساته الفاسدة، وتلاعبه في الكلام، وقد كان من المبتدعة، كما بَيَّنَ حاله ابن قتيبة، وغيره. والملائكة معصومون من الزنا، مجردون عن الشهوة إلا ما كان من أمر هاروت وماروت على وجه الابتلاء، كما سبق، وما ذكره عن جرهم فإنه من خرافات الجاهلية، وما ذكره في ذي القرنين وبلقيس فإنه كذب لا أصل له أصلاً. نعم، روى ابن جرير الطبري، وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَدُ أَبَوَيْ بَلْقِيْسَ كانَ جِنِّيًّا" (¬2). ¬
وروى ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن مجاهد قال: صاحبة سبأ كانت أمها جنية (¬1). وابن أبي حاتم عن زهير بن محمد قال: هي بلقيس بنت شراحيل ابن مالك بن الريان، وأمها (¬2) فارعة الجنية (¬3). وأمَّا الأثر عن عمر رضي الله تعالى عنه فروى ابن أبي حاتم الرازي، وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رجلًا ينادي بمنى: يا ذا القرنين! فقال له عمر: ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء، فما بالكم وأسماء الملائكة؟ (¬4) وهذا الأثر لا يدل على أن ذا القرنين متولد بين الملك والإنس، بل يحتمل وجهين: ¬
الأول: أن يكون ذو القرنين اسماً مشتركاً سمي به بعض الملوك، وبعض الملائكة كإسماعيل. والثاني: أن يكون ذو القرنين من الملائكة لا متولداً منهم ومن البشر، وهو أحد الأقوال في ذي القرنين (¬1). روى ابن أبي حاتم عن جُبير بن نُفير: أن ذا القرنين ملك من الملائكة أهبَطَه الله إلى الأرض، وآتاه من كل شيء سبباً (¬2). والصحيح: أنه كان من ملوك البشر من صلحائهم، واختلف في نبوته. وقال ابن عباس: ذو القرنين: عبد الله بن الضحاك بن معد. رواه ابن مردويه (¬3). وروى البيهقي في "الأسماء والصفات" عن عروة بن الزبير: أنه سأل عمرو بن العاص: أي الخلق أعظم؟ قال: الملائكة (¬4). وروى الطبراني في "الأوسط"، عن أبي سعيد الخدري رضي الله ¬
تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثهم عن ليلة أسري به، قال: "فَصَعِدْتُ أَنا وَجِبْرِيْلُ إِلَى السَّماءِ الدُّنْيا، فَإِذا بِالْمَلَكِ يُقالُ لَهُ: إِسْماعِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ صاحِبُ سَماءِ الدُّنْيا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ سَبْعُوْنَ أَلْفَ مَلَكٍ، مَعَ كُلٍّ مَلَكٍ جُنْدُهُ مِئَةُ أَلْفٍ"، وتلا هذه الآية: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] (¬1). وفي حديث الإسراء: "ثُم عُرِجَ بِنا إِلَىْ السَّماءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيْلَ: مَنْ هَذا؟ قالَ جِبْرِيْلُ، قِيْلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيْلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنا، فَإِذا أَنا بِإِبْراهِيْمَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَىْ الْبَيْتِ الْمَعْمُوْرِ، فَإِذا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ لا يَعُوْدُوْنَ إِلَيْهِ". رواه مسلم، وغيره من حديث أنس (¬2). وقد سبق أن كل واحد من بني آدم موكل به ملكان، بل ملائكة لحفظه، والحفظ عليه. وفي حديث أخرجه ابن جرير، والبيهقي في "الدلائل"، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى ليلة الإسراء على كل ورقة من أوراق سدرة المنتهى ملكاً (¬3). وهي شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها. ¬
وتقدم في الحديث أن ما من موضع شبر، أو أربعة أصابع من السماء إلا وفيه ملك ساجد. وروى الإمام أحمد، ومسلم، وآخرون عن عائشة رضي الله تعايى عنها قالت: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُوْرٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مارِج مِنْ نارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ" (¬1). وروى الطبراني بسند حسن، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه جبريل عليه السلام يناجيه إذ انشق أفق السماء، فأقبل جبريل يتضاءل، ويدخل بعضه في بعض، ويدنو من الأرض، فإذا ملك قد مثل بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يا محمد! إن ربك يقرئك السلام، ويخيرك بين أن تكون ملكاً نبياً، وبين أن تكون نبياً عبداً"، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَأَشارَ إِلَيَّ بِيَدهِ أَنْ تَواضَعْ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لِيْ ناصِحٌ، فَقُلْتُ: عَبْدٌ نبِيٌّ، فَعَرَجَ ذَلِكَ الْمَلَكُ إِلَىْ السَّماءِ، فَقُلْتُ: يا جِبْرِيْلُ! قَدْ كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا فَرَأَيْتُ مِنْ حالِكَ ما شَغَلَنِيْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَنْ هَذا يا جِبْرِيْلُ؟ " قال: "هذا إسرافيل خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافاً قدميه، لا يرفع طرفه، بينه وبين الرب سبعون نوراً، ما منها نور يدنو منه إلا احترق، بين يديه اللوح المحفوظ، فإذا أذن الله في شيء في السماء، أو في الأرض ارتفع ذلك اللوح فضرب جبهته، فينظر فيه، فإن كان من عملي أمرني، وإن كان من عمل ميكائيل أمره به، وإن كان من عمل ملك الموت أمره به "، ¬
قلت: "يا جِبْرِيْلُ! عَلَىْ أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ؟ " قال: "على الرياح والجنود"، قلت: "عَلَىْ أَيِّ شَيْءٍ مِيْكائِيْلُ؟ " قال: "على النبات والقطر"، قلت: "عَلَىْ أَيِّ شَيْءٍ مَلَكُ الْمَوْتِ؟ " قال: "على قبض الأنفس، وما ظننت أنه هبط إلا بقيام الساعة، وما ذاك الذي رأيتَ مني إلا خوفاً من قيام الساعة" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن عطاء بن يسار قال: إذا كانت ليلة النصف من شعبان دفع إلى ملك الموت صحيفة فيقال: اقبض من في هذه الصحيفة؛ فإن العبد ليغرس الغراس، وينكح الأزواج، ويبني البنيان، وإن اسمه قد نسخ في الموتى. وروى الدينوري في "المجالسة" عن راشد بن سعد مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فِيْ لَيْلَةِ النصْفِ مِنْ شَعْبانَ يُوْحِيْ اللهُ إِلَىْ مَلَكِ الْمَوْتِ بِقَبْضِ كُل نَفْسٍ يُرِيْدُ قَبْضَها فِيْ تِلْكَ السَّنَةِ" (¬2). ولهذا شواهد من الحديث المرفوع. وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله تعالى؛ {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} [الدخان: 4]؛ قال: في ليلة النصف من شعبان يبرم أمر السنة، ونسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج، فلا ¬
يزاد فيهم أحد، ولا ينقض منهم أحد (¬1). والأكثرون على أن المراد بالليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن، و {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} [الدخان: 4]: ليلة القدر من رمضان (¬2). قال في "الكشَّاف": وقيل: يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة؛ يعني: ليلة النصف من شعبان، ويقع الفراغ في ليلة القدر. قال: فيدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الحج إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت (¬3). ¬
وروى أبو الشيخ في كتاب "العظمة" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بَيْنَ مِنْكَبَيْ جِبْرِيْلَ مَسِيْرَةُ خَمْسِ مِئَةِ عامٍ لِلطَّائِرِ السَّرِيْعِ الطَّيَرانِ" (¬1). وعن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ فِيْ الْجَنَّةِ لَنَهْراً ما يَدْخُلُهُ جبْرِيْلُ مِنْ دَخْلَةٍ فَيَخْرُجُ فَيَنْتَفِضُ إِلاَّ خَلَقَ اللهُ مِنْ كُلِّ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْهُ مَلَكًا" (¬2). وعن العلاء بن هارون قال: لجبريل في كل يوم اغتماسة في نهر الكوثر، ثم ينتفض، فكل قطرة يخلق منها ملك (¬3). وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن ابن شهاب - وهو الزهري - مرسلاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل عليه السلام أن يتراءا له في صورته، فقال جبريل: "إنك لن تطيق ذلك"، قال: "إِنّيْ أُحِبّ أَنْ تَفْعَلَ"، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى في ليلة مقمرة، فأتاه جبريل في صورته، فغشي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه، ثم أفاق وجبريل مسنده، وواضع إحدى يديه على صدره، والأخرى بين كتفيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كُنْتُ أَرَىْ أَنَّ شَيْئاً مِنَ الْخَلْقِ هَكَذَا"، فقال جبريل: "فكيف لو رأيت إسرافيل؟ إن له لاثني عشر جناحاً؛ منها جناح في ¬
المشرق وجناح في المغرب، وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضاءل الأحيان لعظمة الله حتى يصير مثل الوصع حتى ما يحمل عرشه إلا عظمته" (¬1). الوصع - بفتح الواو والصاد المهملة (¬2)، وتسكن، وروي بالوجهين - هو الصعوة: طائر من صغار العصافير أحمر الرأس. وقال ابن الأثير: أصغر من العصفور، وجمعه: وصعان (¬3). وروى أبو الشيخ عن الليث، عن خالد بن سعيد قال: بلغني أن إسرافيل مؤذن أهل السماء، فيؤذن لاثنتي عشرة ساعة من النهار، ولاثنتي عشرة ساعة من الليل، لكل ساعة تأذين، يسمع تأذينه من في السماوات السبع، ومن في الأرضين السبع إلا الجن والإنس، ثم يتقدمهم عظيم الملائكة فيصلي بهم (¬4). قال: وبلغنا أن ميكائيل يؤم الملائكة في البيت المعمور (¬5). ¬
وعن عكرمة بن خالد: أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الخلق كرم على الله - عز وجل -؟ قال: "لا أَدْرِيْ"، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: "يا جِبْرِيْلُ! أَيُّ الْخَلْقِ أَكْرَمُ عَلَىْ الله؟ " قال: "لا أدري"، فعرج جبريل، ثم هبط، فقال: "أكرم الخلق على الله جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت؛ فأما جبريل فصاحب الحرب وصاحب المرسلين، وأما ميكائيل فصاحب كل قطرة تنقط وكل ورقة تنبت (¬1) وكل ورقة تسقط، وأما ملك الموت فهو موكل بقبض كل روح عبد في بر أو بحر، وأما إسرافيل فأمين الله بينه وبينهم" (¬2). وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْرَبُ الْخَلْقِ جِبْرِيْلُ وَمِيْكائِيْلُ وإسْرافِيْلُ، وَهُمْ مِنْهُ مَسِيْرَةُ خَمْسِيْنَ أَلْفَ سَنَةٍ، جِبْرِيْلُ عَنْ يَمِيْنْهِ، وَمِيْكائِيْلُ عَنْ يَسارِهِ، وَإِسْرافِيْلُ بَيْنَهُما" (¬3). وعن خالد بن أبي عمران قال: جبريل أمين الله على رسله، وميكائيل يتلقى الكتب التي ترفع من أعمال الناس، وإسرافيل كمنزلة الحاجب (¬4). وروى الإمام أحمد، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، والبيهقي ¬
في "البعث"، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: إسرافيل صاحب الصور، وجبريل عن يمينه، وميكائيل (¬1) عن يساره (¬2). وروى أبو الشيخ عن وهب بن مُنبِّه قال: إن أدنى الملائكة من الله جبريل، ثم ميكائيل، فإذا ذكر عبداً بأحسن عمله قال: فلان ابن فلان عمل كذا وكذا من طاعتي، صلواتي عليه، ثم سأل ميكائيل جبريل عليهما السلام: ما أحدث ربنا؟ فيقول: فلان ابن فلان ذكر بأحسن عمله فصلى عليه، صلوات الله عليه، ثم سأل ميكائيل من يراه من أهل السماء، فيقول: ماذا أحدث ربنا؟ فيقول: ذكر فلان ابن فلان بأحسن عمله، فصلى عليه، صلوات الله عليه، فلا تزال تقع من سماء إلى سماء حتى تقع على الأرض. فإذا ذكر عبد بأسوأ عمله قال: عبدي فلان ابن فلان عمل كذا وكذا من معصيتي، فلعنتي عليه، ثم سأل ميكائيل جبريل عليهما السلام: ماذا أحدث ربنا؟ فيقول: ذكر فلان ابن فلان بأسوء عمله، فعليه لعنة الله، فلا تزال تقع من سماء إلى سماء حتى تقع إلى الأرض (¬3). ¬
قلت: وفي معناه حديث أبي هريرة المتقدم. ويدخل هذا الأثر في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]، وفي تفسير قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. وروى الحكيم الترمذي، عن زيد بن رُفَيع رضي الله تعالى عنه قال: دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل وميكائيل عليهما السلام وهو يستاك، فناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل السواك، فقال جبريل: "كَبِّرْ". قال الترمذي: أي: ناول ميكائيل؛ فإنه أكبر (¬1). قلت: لعل معناه: أقْدَم؛ ففيه إشارة إلى أن خلق ميكائيل قبل خلق جبريل، وليس معناه أنه أفضل وأكرم لما سبق أن جبريل أكرم الملائكة، وأقربهم إلى الله. وروى الإمام أحمد في "الزهد"، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغمي عليه ورأسه في حجرها، فجعلت تمسح وجهه، وتدعو له بالشفاء، فلما أفاق قال: "لا، بَلْ أَسْاَلُ اللهَ الرَّفِيْقَ الأَعْلَىْ مَعَ جِبْرِيْلَ وَمِيْكائِيْلَ وَإِسْرافِيْلَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ" (¬2). وروى الحاكم وصححه، عن أبي المَلِيح، عن أبيه - وهو أسامة ¬
ابن عمير الهذلي - صلى الله عليه وسلم -: أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتي الفجر، فصلى قريباً منه، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين خفيفتين، قال: فسمعته يقول: "اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيْلَ، وَمِيْكائِيْلَ، وإسْرافِيْلَ، وَمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -! أَعُوْذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، ثلاث مرات" (¬1). وأخرجه ابن السُّنِّي، ولفظه: "ثم سمعته يقول وهو جالس .. " (¬2). وفي إضافة الرب - عز وجل - إلى هؤلاء - وإن كان رب كل شيء - إشارة إلى تعظيم شأنهم. قال بعض العارفين: ولهذا الذكر خصوصية في هذا الوقت في حياة القلوب؛ فإن جبريل صاحب الوحي، وبه حياة الطائعين، وميكائيل صاحب المطر والنبات، وبهما حياة الأرض ومن فيها، وإسرافيل صاحب اللوح المحفوظ والنفخ في الصور، وبه حياة الخلق، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من أحيا الله به القلوب والإسلام، وإذا حيي قلب عبد فقد نجا من النار. وروى ابن عساكر عن معاوية بن قُرَّة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل عليه السلام: "ما أَحْسَنَ ما أَثْنَىْ عَلَيْكَ رَبُّكَ: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ¬
ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)} [التكوير: 20، 21] فَما كانَتْ قُوَّتُكَ؟ وَما كانَتْ أَمانَتُكَ؟ " قال: "أما قوتي فإني بعثت إلى مدائن لوط، وهي أربع مدائن، وفي كل مدينة أربع مئة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب، ثم هويت بهم، فقلبتهن، وأما أمانتي فلم أؤمر بشيء فعدوته إلى غيره" (¬1). وروى عَبد بن حُميد عن أبي مِجْلَز في قوله تعالى: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]؛ قال: إن إسرائيل هو يعقوب عليه السلام، وكان رجلاً بطيشاً، فلقي ملكاً فعالجه فصرعه الملك، ثم ضرب فخذه، فلما رأى يعقوب ما صنع به بطش به، فقال: ما أنا بتاركك حتى تسميَني اسماً، فسماه إسرائيل، فلم يزل يوجعه ذلك العرق حتى حرمه من كل دابة (¬2). وفي قوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]: قال قتادة: بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة أجنحة، وبعضهم له أربعة أجنحة. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬3). وقال ابن جريح: للملائكة الأجنحة من اثنين إلى اثني عشر. ¬
قال: وأصحاب الموازين أجنحتهم عشرة عشرة. قال: وأجنحة الملائكة زغبة. ولجبريل عليه السلام ستة أجنحة؛ جناح بالمشرق، وجناح بالمغرب، وجناحان على عينه، وجناحان منهم من يقول: على ظهره، ومنهم من يقول: متسرول بهما. رواه ابن المنذر (¬1). وقوله: "زغبة": جمع أزغب، والزغب - بالفتح -: صغار الشعر والريش، ولينه. قاله في "القاموس" (¬2). وروى الطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات"، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله؛ إن العبد المسلم إذا قال: "سبحان الله وبحمده، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وتبارك الله" قبض عليهن ملك، فضمهن تحت جناحه، ثم صعد بهن إلى السماء، فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الرحمن، ثم قرأ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] (¬3). وروى الخطيب البغدادي في "المتفق والمفترق" عن وهب بن مُنَبِّه ¬
قال: الروح ملك من الملائكة له عشرة آلاف جناح، ما بين كل جناحين منها ما بين المشرق والمغرب، له ألف وجه لكل وجه ألف لسان، وشفتان وعينان يسبحون الله تعالى (¬1). وروى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: 85]؛ قال: هو ملك واحد له عشرة آلاف جناح؛ جناحان منها ما بين المشرق والمغرب، له ألف وجه؛ لكل وجه لسان وعينان وشفتان يسبحان الله إلى يوم القيامة (¬2). وروى هؤلاء، والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، ولكل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان منها سبعون ألف لغة، يسبح الله بتلك اللغات كلها، يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة (¬3). وروى ابن الأنباري في كتاب "الأضداد" عن مجاهد قال: الروح ¬
خلق من الملائكة لا يراهم الملائكة كما لا ترون أنتم الملائكة، والروح خلق يستأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه أحد من خلقه، وهو قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. وروى البيهقي في "الأسماء والصفات" عن ابن عباس في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: 85]؛ قال: الروح ملك (¬1). وروى هو، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه قال: هو ملك من أعظم الملائكة خلقاً (¬2). وروى ابن المنذر، وأبو الشيخ عن مقاتل بن حيان قال: الروح أشرف الملائكة، وأقربهم من الرب، وهو صاحب الوحي (¬3). وروى عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} [النبأ: 38]؛ قال: جبريل عليه السلام (¬4). ¬
وروى أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن جبريل يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فَرائصُه فرقاً من عذاب الله، يقول: "سبحانك لا إله إلا أنت، ما عبدناك حق عبادتك"؛ إن ما بين منكبه كما بين المشرق والمغرب، أما سمعت الله يقول: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] (¬1) .. ومما يرجح أن الروح جبريل قولُه تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} [الشعراء: 193]؛ فإنه جبريل باتفاق المفسرين. بل روى أبو الشيخ في "العظمة" عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآية قال: "الرُّوْحُ الأَمِيْنُ جِبْرِيْلُ، رَأَيْتُ لَهُ سِتَّ مِئَةِ جَناحٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ قَدْ نشًرَها مِثْلَ ريْشِ الطَّواوِيْسِ" (¬2). وفي "كتاب الترمذي" وحسنه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل عليه السلام مرتين؛ مرة عند سِدرة المنتهى، ومرة عند جياد؛ له ست مئة جناح قد سدَّ الأفق (¬3). بل في "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} [النجم: 9] قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
جبريل له ست مئة جناح (¬1). وروى الإِمام أحمد، والطبراني، وآخرون عنه قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل في صورته وله ست مئة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم (¬2). وما سبق عن ابن جريج: أن لجبريل ستة أجنحة، لعله أراد أصول أجنحته، أو عبر عن كل مئة جناح منها بجناح. وروى البيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا كانَ لَيْلَةُ القَدْرِ نزَلَ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيْ كَبْكَبَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ يُصَلُّوْنَ عَلَىْ كُلِّ عَبْدٍ قائِمٍ" (¬3)، الحديث. وهو يصلح لتفسير قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ ¬
رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4] قال الحسن في قوله: {سَلَامٌ هِيَ} [القدر: 5]: إذا كان ليلة القدر لم تزل الملائكة تخفق بأجنحتها بالسلام من الله تعالى والرحمة من لدن صلاة المغرب إلى طلوع الفجر. رواه ابن المنذر (¬1). وذهب جماعة إلى أن الروح غير الملائكة. وقال عكرمة في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]؛ قال: الروح أعظم خلقا من الملائكة، ولا ينزل ملك إلا ومعه روح. رواه عبد بن حُميد، وابن المنذر (¬2). وروى مسلم، وأبو داود، والنسائي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه: "سُبُّوْحٌ قُدُّوْسٌ، رَبُّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوْحِ" (¬3). وروى أبو الشيخ في كتاب "الثواب" عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكثِرْ مِنْ أَنْ تَقُوْلَ: سُبْحانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوْسِ، رَبِّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوْحِ" (¬4). • • • ¬
(2) باب التشبه بالأخيار من بني آدم
(2) باب التَّشَبُّه بِالأَخْيَار مِنْ بَنِي آدَم
(2) باب التَّشَبُّه بِالأَخْيَار مِنْ بَنِي آدَم اعلم - وفقني الله وإيّاك - أننا قدَّمنا أن الذين يحسنُ التشبه بهم من بني آدم هم الأخيار من الطوائف الأربعة المذكورين في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. وإنما يكون العبد مع هؤلاء إذا تشبه بهم في أصل الطاعة لقوله تعالى في الآية {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} [النساء: 69]، وقد بينا ذلك فيما سبق أيضًا. ثم لا يكون مجرد التشبه بهم ملحقاً له بهم، وهو منحرف عن طريقتهم باقترافه المعاصي، أو بمخالفة ظاهره لباطنه، بل لا بد أن يشبه باطنُه بواطنَهم، كما يشبه ظاهرُه ظواهرَهم. قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه؛ لا يشبه الزيُّ الزيَّ حتى تشبه القلوبُ القلوبَ. رواه ابن أبي شيبة، وغيره (¬1). ¬
وروى العُقيلي، والديلمي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْغَضُ الْعِبادِ إِلَىْ الله تَعَالَىْ مَنْ كانَ ثَوْباهُ خَيْرًا مِنْ عَمَلِهِ؛ أَنْ تَكُوْنَ ثِيابُهُ ثِيابَ الأَنْبِياءِ، وَعَمَلُهُ عَمَلَ الْجَبَّارِيْنَ" (¬1). وروى الطبراني في "المعجم الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَزَيَّنَ بِعَمَلِ الآخِرَةِ وَهُوَ لا يَطْلُبُها, لُعِنَ فِيْ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ" (¬2). وروى الإِمام أحمد، وابن حبان، والحاكم وصححاه، والبيهقي عن أُبَيِّ بن كعب أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بَشِّرْ هَذهِ الأُمَّةَ بِالتيْسِيْرِ، وَالسَّناءِ، وَالدِّيْنِ، وَالرِّفْعَةِ، وَالتَّمْكِيْنِ؛ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيْ الآخِرَةِ نَصِيْبٌ" (¬3). وروى الطبراني في "المعجم الكبير" عن الجارود - رضي الله عنه - قال؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ طَلَبَ الدُّنْيا بِعَمَلِ الآخِرَةِ طُمِسَ وَجْهُهُ، وَمُحِقَ ¬
ذِكرُهُ، وَأثبِتَ اسْمُهُ فِيْ النَّارِ" (¬1). وقوله: "طُمِسَ وَجهه"، أي: وَجْهُ قَلْبِهِ، بمعنى: عَمِيَت بصيرتُه. وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْرُجُ فِيْ آخِرِ الزَّمانِ رِجالٌ يَخْتِلُوْنَ (¬2) الدُّنْيا بِالدِّيْنِ، يَلْبَسُوْنَ لِلنَّاسِ جُلُوْدَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّيْنِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَىْ مِنَ الْعَسَلِ، وَقُلُوْبُهُمْ قُلُوْبُ الذِّئابِ، فَيَقُوْلُ اللهُ عز وجل: أَبِيْ يَغْتَرُّوْنَ؟ أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِؤُوْنَ؟ فَبِيْ حَلَفْتُ لأَبْعَثَنَّ عَلَىْ أُوْلَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيْمَ مِنْهُمْ حَيْرَانًا" (¬3). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن ابن أبي مُلَكية، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ذهب الناس، وبقي النَّسْنَاس، قيل: ما النسناس؟ قال: الذين يتشبهون بالناس وليسوا بناس (¬4). وروى الدِّينوري في "المجالسة" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: ذهب الناس وبقي النسناس، ولو تكاشفتم ما تدافنتم (¬5). وذكره الهروي في "الغريب"، والزمخشري في "الفائق"، وابن الأثير ¬
في "النهاية" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1) وقد قلت في ذلك: [من الكامل] لا تَظْهَرَنَّ بِزِيِّ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ ... أَهْلِ التُّقَىْ وَالدِّيْنِ أَوْ أَهْلِ الْكَرَمْ حَتَّىْ تَكُوْنَ النَّفْسُ مِنْكَ شَرِيْفَةً ... وَعَنِ السَّفَاسِفِ فِيْ نِهَايَاتِ الشَّمَمْ فَإِذَا اتَّسَمْتَ بِوَسْمِ قَوْمٍ فَامْتَطِ ... بِلَحَاقِهِمْ دُهْمَ الْعَزَائِمِ وَالْهِمَم لا تَأتِيَنَّ بِخَصْلَةٍ لا تُرْتَضَىْ ... مِمَّنْ بِأوْصَافِ الأَمَاجِدِ يَتَّسِمْ لا تَدْخُلَنَّ مَوَالِجاً رُوَّادُهَا ... بَيْنَ الأَنَامِ بِقُبْحِ فِعْلى تُتَّهَمْ لا يَتَّقِيْ مِنْ قُرْبِهَا وَنزوْلِهَا ... إِلاَّ كِرَامٌ فِيْ الْخَلائِقِ وَالشِّيَمْ ¬
مَهْمَا أتيْتَ بِمَا يُخَالِفُ سَمْتَهُمْ ... أَثَّمْتَ فِيْهِمْ مَنْ يَرَاكَ مِنَ الأُمَمْ وَتَرَكْتَ مَنْ قَدْ كانَ يَهْوَىْ قُرْبَهُمْ ... يَبْغِيْ الْهِدَايَةَ فِيْ التَّحَيُّرِ وَالْوَهَمْ وَحَرَمْتَهُ مِنْ نَفْعِهِمْ وَتَرَكْتَ مَنْ ... حَقَّتْ رِعَايَةُ حَقِّهِ لا يُحْتَرَمُ يَا عَابِثاً مَا أَنْتَ إِلاَّ عَابِثٌ ... فِيْ الأَرْضِ لَمْ تَرع الذِّمَامَ وَلا الذِّمَمْ آلَيْتَ بِاللهِ الْعَظِيْمِ وَلا أَرَىْ ... بِسِوَىْ اسْمِهِ عَقْدُ الأَلِيَّةِ وَالْقَسَمْ مَا أَنْتَ إِلاَّ فِيْ غُرُوْرٍ فَاتَّعِظْ ... أَرَضِيْتَ مِنْ إسْمِ التَّزَهُّدِ بِالْعَلَمْ وَمِنَ الْفُتُوَّةِ بِالْكَلامِ وَبِالْمُنَىْ ... وَمِنَ الْمَعَالِمِ بِالْمَرَاسِمِ وَالرّقَمْ مَا نِلْتَ مَجْداً يا فَتَىْ إِنْ لَمْ يَكُنْ ... لَكَ فِيْ خِلالِ الصِّدْقِ رَاسِخَةُ الْقَدَمُ أَوْ لا فَمَا لَكَ يَوْمَ كَشْفِ السِّرِّ فِيْ ... يَوْمٍ بِهِ حُشِرَ الْوَرَىْ إِلاَّ النَّدَمْ
ومن لطائف أهل الإشارة: ما روي عن أبي عبد الله السِّجْزي رضي الله تعالى عنه: أن قائلًا قال له: لِمَ لا تلبس المرقعة؟ فقال: من النفاق أن تلبس لباس الفتيان، ولا تدخل في حمل أثقال الفتوة (¬1). وحكي: أن جماعة من أصحاب المرقعات دخلوا على بِشْر بن الحارث الحافي فقال: يا قوم! اتقوا الله فلا تظهروا هذا الزي؛ فإنكم تعرفون به، وتكرمون له، فسكتوا كلهم، فقام شاب من بينهم فقال: الحمد لله الذي جعلنا ممن يعرف به، ويكرم له، والله لنظهرن هذا الزي حتى يكون الزي كله لله، فقال له بشر: أحسنت يا غلام؛ مثلك من يلبس المرقعة. وقال أبو سعيد الحسن بن علي الواعظ في كتاب "الحدائق لأهل الحقائق": يقال: إن أربعة من الكبائر: لبس الصوف لطلب الدنيا، وادعاء فضل الصالحين وترك فعلهم، وذم الأغنياء والأخذ منهم، وادعاء بغض الفاسقين والعمل بمثل أعمالهم. وأنشدوا: [من الوافر] لَبِسْتَ الصُّوْفَ مَرْقُوْعا وَقُلْتَا ... أَنَا الصُّوْفيُّ لَسْتَ كَمَا زَعَمْتا فَمَا الصوْفيُّ إِلاَّ مَنْ تَصَافا ... مِنَ الأكدَارِ وَيْحَكَ لَوْ عَقَلْتَا ¬
وهذا الباب متسع جداً، وقد عرجت على طرف منه صالح في كتاب "منبر التوحيد". وفي "الحلية" عن ابن شَوذَب قال: سمعت فَرْقدًا -يعني: السَّبخي رحمه الله تعالى - يقول: إنكم لبستم ثياب الفراغ قبل العمل، ألم تروا إلى الفاعل إذا عمل كيف يلبس أدنى ثيابه، فإذا فرغ اغتسل ولبس ثوبين نفيسين؟ وأنتم تلبسون ثياب الفراغ قبل العمل (¬1). الإشارة في كلامه أن زي الصلاح ينبغي أن لا يظهر على أهله إلا بعد حصوله، فأما لبسه قبل الحصول فإنه خلاف الحكمة. وقد ضرب الإِمام أبو حامد في "الإحياء" للمتصوفة الذين تزيوا بظاهر زي الصوفية ومراسمهم، ولم يتبعوا نفوسهم في المجاهدة، والرياضة، ومراقبة القلب، وتطهير الباطن والظاهر من الآثام الخفية والجلية مثالاً عجيبا ينطبق عليهم، وعلى كل من تشبه بقوم كرام من العلماء، والفقهاء، والوُعَّاظ، والمدرسين، والمتعبدين في ظاهر الزي مع خلوه من مكارم أخلاقهم، ومحاسن خصالهم. وذلك أنه مثَّلهم بامرأة عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال من المقاتلين تثبت أساميهم، ويقطع كل واحد منهم قطرًا من أقطار المملكة، فتاقت نفسها إلى أن يقطع لها مملكة، فلبست درعا، ووضعت على رأسها مغفراً، وتعلمت من رجز الأبطال أبياتًا، وتعودت إيراد تلك الأبيات بنغماتهم حتى تيسرت عليها، وتعلمت ¬
كيف هيئة تبخترهم في الميدان، وكيف تحريكهم الأيدي، وتلقفت جميع شمائلهم في الزي والمنطق، والحركات والسَّكَنات، ثم توجهت إلى المعسكر ليثبت اسمها في ديوان الشُّجعان، فلما وصلت إلى المعسكر أُنْفِذت إلى ديوان العرض، وأمر بأن تجرد عن المغفر والدرع، وينظر ما تحته، وتمتحن بالمبارزة مع بعض الشجعان ليعرف قدر عَنائها في الشَّجاعة، فلما جردت إذا هي عجوز ضعيفة زَمِنَة لا تطيق حمل الدِّرع والمغفر، فقيل لها: أجئت للاستهزاء بالملك؟ ولاستحماق أهل حضرته، والتلبيس عليه؟ خذوها فألقوها إلى الفيل، فألقيت إليه. قال حجة الإِسلام: وهكذا يكون حال المدعين للتصوف في القيمة إذا كشف عنهم الغطاء، وعرضوا على القاضي الأكبر الذي لا ينظر إلى الزي والمرقع، بل إلى سر القلب (¬1)، انتهى. ومن لطائف ما يلحق بهذا الباب قول سالم بن وابصة بن قيس الأسدي -وكان من الطَّبقة الأولى من التابعين الأنجاب -: [من البسيط] يَا أيَّهَا الْمُتَحَلِّيْ غَيْرَ شِيْمَتِهِ ... وَمَنْ خَلِيْقَتُهُ الإِفْرَاطُ وَالْمَلَقُ عَلَيْكَ بِالْقَصْدِ فِيْمَا أَنْتَ قائِلُهُ ... إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِيْ دُوْنَهُ الْخُلُقُ ¬
وَلا يُؤَاتِيْكَ فِيْمَا نَالَ مِنْ حَدَثٍ ... إِلاَّ أَخُوْ ثِقَةٍ فَانْظُرْ بِمَنْ تَثِقُ لا تُنْكِرِ الْحَقَّ مَظْلُوْمًا وَلا وَكِلًا ... فِيْ النَّائِبَاتِ وَلا هَيَّابةٌ فَرِقُ يَا صاحِ إِنْ تُبْلِ سِرْبَالَ الشَّبَابِ فَلا ... يَبْقَىْ جَدِيْد عَلَىْ الدُّنْيَا وَلا خَلِقُ وإنَّمَا النَّاسُ وَالدّنْيَا عَلَىْ سَفَرٍ ... فَنَاظِرٌ أَجَلاً مِنْهُمْ وَمُنْطَلِقُ (¬1) *** ¬
فصل
فَصْلٌ واعلم أن أخلاق الأصناف الأربعة المشار إليهم في الآية المتقدمة كلها مجتمعة في النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل الكتاب، وكان ينبغي الاكتفاء بالتشبه به عن التشبه بمن سواه، ولكن تعلق بذلك حِكَم إلهية من أجلها شرع التشبه بمن سواه من أخيار بني آدم، وقد تقدمت الإشارة إليها أيضًا. وأزيدك هنا أن الله تعالى إنَّما ذكر هؤلاء الأصناف في هذه الآية؛ أعني: قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء: 69] الآية؛ إشارة إلى أن من تقدم عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم من النبيين، والصّديقين، والشُّهداء، والصالحين لو أدركوا زمانه ما وسعهم إلا طاعته واتباعه، فمن أطاع الله ورسوله فهو معهم لأنه متشبه بهم في ذلك وإن لم يتفق ذلك منهم بالفعل؛ إذ لم يمنعهم من ذلك إلا تأخر عصره - صلى الله عليه وسلم - عن أعصارهم، وإلا فقد أعطوا عهودهم ومواثيقهم بذلك؛ بدليل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]. وروى ابن أبي حاتم، عن السُّدِّي في الآية قال: لم يبعث نبي قط من لدن نوح عليه السلام إلا أخذ الله ميثاقه ليؤمنن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ولينصرنه إن خرج وهو حي، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به وينصروه إن خرج وهم أحياء (¬1). وأيضًا في ذكر الله تعالى النَّبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الآية تشويق، وتحريك لقلوب الطائعين إلى طلب مقاماتهم، ورجاء اللحاق بدرجاتهم، وإشارة للطائع إلى أنه مهما أطاع كان هؤلاء رفقته في طريقه إلى الله تعالى وعند الله سبحانه وتعالى كما قال: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، ولا شك أن اختيار الرفيق مما نَدَب اللهُ إليه عبادَه. وروى الخطيب البغدادي عن علي رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْجارُ قَبْلَ الدَّارِ، وَالرَّفِيْقُ قَبْلَ الطَّرِيْقِ، وَالزَّادُ قَبْلَ الرَّحِيلِ" (¬2). قلت: وقد وقعت الإشارة إلى هذه الثلاثة؛ أعني: الجار، والرفيق، والزاد في الآية المشار إليها؛ فالزاد هو طاعة الله تعالى ¬
وطاعة رسوله، وهما عين التقوى التي قال تعالى فيها: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، والرفقة هم الأنبياء ومن بعدهم، والجار هو الله تعالى. وتقدير الآية: فأولئك عند الله مع الذين أنعم الله عليهم؛ لأن ذلك مقام هؤلاء. قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55]. وقال تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 40]. وقال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30]. وروى الإِمام عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن قدامة ابن أيُّوب العَتَكي -وكان من أصحاب عتبة الغلام- قال: رأيت عتبة في المنام فقلت: يا أبا عبد الله! ما صنع الله بك؟ قال: يا قدامة! دخلت الجنة بتلك الدعوة المكتوبة في بيتك، قال: فلما أصبحت أتيت فإذا خط عتبة في الحائط مكتوب: يا هادي المضلين، وراحم المذنبين، ومُقيل عثرات العاثرين! ارحم عبدك ذا الخطأ العظيم، والمسلمين كلهم أجمعين، واجعلنا مع الأحياء المرزوقين، مع الَّذين أنعمت عليهم من النَّبيين والصَّديقين والشهداء، والصالحين، آمين رب العالمين (¬1). ¬
ومما سمعناه من لفظ شيخ الإِسلام الوالد، وحضرنا وهو ينشد لنفسه - رضي الله عنه - في سنة أربع وثمانين وتسع مئة، وهي السنة التي مات في سادس عشر من شوالها: [من مجزوء الكامل المرفل] إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا ... قَدْ قَدرَ الرَّحْمَنُ كَائِنْ فَاطْرَحْ هُمُوْمَكَ وَاسْتَرِحْ ... وَاخْلِ الْفُؤَادَ مِنَ الْغَبَائِنْ وَاصْبِرْ عَلَىْ ضَرِّ الْبَلا ... فَالصَّبْرُ لِلْخَيْراتِ ضامِنْ وَاحْذَرْ تَكُنْ مُتَعَرِّضاً ... فِيْ ظَاهِرٍ يَوْمًا باطِنْ فَاللهُ جَلَّ لِلُطْفِهِ ... فِيْمَا يُقَدِّرُهُ مُعَاوِنْ كَمْ مِحْنَةٍ هِيَ مِنْحَة ... فِيْ طَيِّهَا التَّدْبِيْرُ كامِنْ وإذَا ارْتَقَيْتَ إِلَىْ الرِّضَا ... بِاللهِ فُزْتَ بِمَا تُعَايِنْ وَسَلِمْتَ مِنْ كَيْدِ الْمُعَا ... نِدِ ذِيْ الْمَكَائِدِ وَالضَّغَائِنْ وَظَفِرْتَ بِالنَّصْرِ الْعَزِيزِ ... عَلَىْ الْمُعَادِيْ وَالْمُبَايِنْ وَخَلُصْتَ مِنْ أُسْدِ الرَّدَىْ ... ذاتِ الأَظَافِرِ وَالْبَرَاثِنْ وَنَعِمْتَ فِيْ نِعَيم لَهَا ... فَيْضٌ يُمَدُّ مِنَ الْخَزائِنْ وَبَقِيْتَ فِيْ الدُّنْيا وَفِيْ الـ ... أُخْرَىْ مِنَ الأَسْواءِ آمِنْ وَنَجَوْتَ مِنْ ضِيْقِ اللُّحُوْ ... دِ وَمِنْ أَذَىْ أَفْتَانِ فاتِنْ وَسَكَنْتَ فِيْ جَنَّاتِ عَدْ ... نٍ بِالرِّضَا أَعْلا الْمَسَاكِنْ جَنَّاتِ رِضْوانٍ بِهَا ... رِضْوَانُ بَوَّابٌ وَخَازِنْ
مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ تجـ ... ـريْ فِيْ الظَّوَاهِرِ وَالْبَوَاطِنْ مِنْ خَمْرٍ أَوْ لَبَنٍ وَمِنْ ... عَسَلٍ وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنْ وَوَرَاءَ طَوْرِ الْعَقْلِ فِيـ ... ـها ما يُعَدُّ مِنَ الْمَحَاسِنْ وَصَحِبْتَ كُلَّ الأَنْبِيَا ... وَالرُّسْلِ فِيْ تِلْكَ الأَمَاكِنْ وَكَفَاكَ فَخْراً أَنْ تُرَا ... فِقَهُمْ بِها أَوْ أَنْ تُسَاكِنْ فِيْ ظِلّ عَرْشِ الله ثا ... وٍ مَعْهُمُ دَوْمًا وَقَاطِنْ وَبِحَسْبِكَ الرضْوَانُ مِنـ ... ـه لِلرِّضَا عَنْهُ مُقَارِنْ ***
فصل
فَصْلٌ واعلم أن العبد الطائع مهما أطاع الله تعالى ورسوله في أصل الإيمان, وتأدية الفرائض مع ملاحظة القلب بالإخلاص والصدق والتنزه عن المعاصي، فإنه يكون مع هؤلاء المنعم عليهم، وهذا منطوق الآية. ويؤيده ما رواه الإِمام أحمد، والبزار، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحهما"، والبيهقي عن عمرو بن مُرَّة الجُهَني رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل من قُضَاعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وصمت رمضان، وقمته، وآتيت الزكاة، فممن أنا؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ماتَ عَلَىْ هَذا كانَ مَعَ النَّبِيِّيْنَ وَالصّدِّيْقِيْنَ وَالشّهَداءِ يَوْمَ الْقِيامَةِ هَكَذا - ونصب أصبعيه - ما لَمْ يَعُقَّ وَالِدَيْهِ" (¬1). ثم إن العبد كلما كان لله تعالى أطوع كان إلى هؤلاء الطوائف أقرب، وفيهم أدخل، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبَكمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبِكُمْ ¬
مِنِّيْ مَجْلِسا يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ " قالوا: نعم، قال: "أَحْسَنكُمْ أَخْلاقًا". رواه الإِمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (¬1). وإنما كان كذلك؛ لأن حسن الخلق يجمع الطَّاعات، ولأنه وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وقال: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. فلا يكون من اقتصر على تأدية الفرائض في القرب من هؤلاء المنعم عليهم كمن زاد على ذلك جملة من الطاعات ومحاسن الخصال، وكلما أكثر من النوافل وحسن الخلق، كلَّما توغل في أوصافهم ودخل في جملتهم، وبقدر انتظامه في سلكهم وسلوكه في طريقهم، يكون قربه من مولاه تعالى، كما في الحديث الصحيح: أن الله تعالى يقول: "وَما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِيْ بِشَيْءٍ أَحَب إِلَيَّ مِمَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلا يَزالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتَّىْ أُحِبَّهُ" (¬2). وقد قلت: [من الرجز] اقْرُبْ إِلَىْ اللهِ بِقَدْرِ طاقَتِكْ ... فَقُرْبُهُ مِنْكَ بِقَدْرِ طاعَتِكْ بِقُرْبِهِ تَصْحَبُ أَنْبِيَاءَهُ ... وَالصَّالِحِيْنَ لِقِيَامِ ساعَتِكْ *** ¬
فصل
فَصْلٌ واعلم أن العبد المطيع يوم القيامة إما أن يرافق الصَّالحين الذين ليسوا بأنبياء، ولا صديقين، ولا شهداء، وإما أن يرافق الشّهداء، وإما أن يرافق الصِّديقين، وإما أن يرافق الأنبياء عليهم السَّلام، وذلك على حسب همته ولهفته في طاعة الله تعالى. وقد يكون العبد مرافقاً لكل هذه الطوائف لتخلقه بأخلاق كل طائفة منهم، وتشبهه بكل فريق منهم، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أ: "التَّاجِرُ الصَّدُوْقُ الأَمِيْنُ مَعَ النَّبِيِّيْنَ وَالصِّدّيْقِيْنَ وَالشّهَداءِ". رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، من حديث أبي سعيد الخُدْريِّ رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى ابن النجار في "تاريخه" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "التَّاجِرُ الصَّدُوْقُ لا يُحْجَبُ مِنْ أَبْوابِ الْجَنَّةِ" (¬2). ¬
والمعنى أنه يدخل من أي الأبواب شاء، فلا يحجب من باب أصلًا، لكونه من أهل ذلك الباب؛ لتخلقه بأخلاقهم. وروى الإِمام أحمد، والبخاري، وغيرها عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِيْ سَبِيْلِ الله، نُوْدِيَ مِنْ أَبْوابِ الْجَنَّةِ: يا عَبْدَ اللهِ! هَذا خَيْرٌ، فَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دعِيَ مِنْ بابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الجهاد دُعِيَ مِنْ بابِ الجهاد، وَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الصيامِ دُعِيَ مِنْ بابِ الرّيانِ، وَمَنْ كانَ مِنْ أهلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بابِ الصَّدَقة، فقال أبو بكر: بأبي وأنت وأمي يا رسول الله! ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نعمْ، وَأَرْجُوْ أَنْ تَكُوْنَ مِنْهُمْ" (¬1). وروى الطبرانيُّ في "الكبير" بسند حسن، عن جرير رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ ماتَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئا، وَلَمْ يَتَنَدَّ بِدَمٍ حَرامٍ، دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوابِ الْجَنَّةِ شاءَ" (¬2). وروى الشيخان عن عبادة بن الصَّامت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَأَنَّ عِيْسَىْ عَبْدُ اللهِ، وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ ألقاها إِلَىْ مَرْيَمَ، وَرُوْحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَق، أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ ¬
أَبْوابِ الْجَنَّةِ الثَّمانِيَةِ شاءَ" (¬1). وروى مسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضّأُ فَيُبْلِغُ الْوُضُوْءَ، أَوْ يُسْبغُ الْوُضُوْءَ، ثُمَّ يَقُوْلُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوابُ الْجَنَّةِ الثَّمانِيَةُ، يدخلُ مِنْ أَيِّها شاءَ" (¬2). وهو عند الإِمام أحمد من حديث أنس، وإبن أبي شيبة بلفظ: "مَنْ تَوَضَّاَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوْءَ، ثُمَّ قالَ ثَلاثَ مَرَّات: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ... إلى آخره، فُتِحَ لَهُ ثَمانِيَةُ أَبْوابِ الْجَنَّةِ مِنْ أَيِّها شاءَ يدخُلُ" (¬3). وزاد الترمذي في حديث عمر: "اللهُمَّ اجْعَلْنِيْ مِنَ التَّوَّابِيْنَ، وَاجْعَلْنِيْ مِنَ الْمُتَطَهّرِيْنَ" (¬4). وزاد أحمد، وأبو داود فيه: "ثُمَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَىْ السَّماءِ فَقالَ ... " (¬5). ¬
وروى أبو يعلى، والطبراني في "الأوسط" عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاثٌ مَنْ جاءَ بِهِن مَعَ الإيْمانِ دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوابِ الْجَنَّةِ شاءَ، وَزُوِّجَ مِنَ الْحُوْرِ الْعِيْنِ حَيْثُ شاءَ: مَنْ عَفا عَنْ قاتِلِهِ، وَأَدَّىْ ديناً خَفِيًّا، وَقَرَأَ فِيْ دبُرِ كُلِّ صَلاةٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أو إحداهن يا رسول الله؟ قال: "أَوْ إِحْداهُنَّ" (¬1). وروى الإِمام أحمد، والطبراني بإسناد حسن، عن عبد الرَّحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا صَلَّتِ الْمَرْأة خَمْسَها، وَصامَتْ شَهْرَها، وَحَصَّنَتْ فَرْجَها، وَأَطاعَتْ زَوْجَها قِيْلَ لَها: ادْخُلِيْ الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ" (¬2). وروى الطَّبرانيُّ في "الأوسط" بإسناد حسن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما امْرَأَةٍ اتَّقَتْ رَبها، وَحَفِظَتْ فَرْجَها، وَأَطاعَتْ ¬
زَوْجَها فُتِحَ لَهَا أَبْوابُ الْجَنَّةِ، فَقِيْلَ لَها: ادْخُلِيْ مِنْ حَيْثُ شِئْتِ" (¬1). وروى النسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّيْ الصَّلَواتِ الْخَمْسِ، وَيَصُوْمُ رَمَضانَ، وَيُخْرِجُ الزكاةَ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبائِرَ، إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوابُ الْجَنَّةِ الثَّمانِيَةُ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬2). ولا شك أن دعاء العبد من كل باب من أبواب الجنة، وإباحته إياها كلها، دليل أنه من أهل عمل ذلك الباب، وهم لا يَعْدُوْنَ الطوائف الأربعة: الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. وفي "مسند الإِمام أحمد"، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لِكُلِّ أَهْلِ عَمَلٍ بابٌ مِنْ أَبْوابِ الْجَنَّةِ يُدْعَوْنُ مِنْهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ" (¬3). وفي "مسند البزار" بسند حسن، عنه: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا كانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ دُعِيَ الإِنْسانُ بِأَكْثَرِ عَمَلِهِ، فَإِنْ كانَتِ الصَّلاةُ أَفْضَلَ دعِيَ ¬
بِها، وإنْ كانَ الصيامُ أفْضَلَ دُعِيَ بِهِ"، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أثَمَّ أحد يدعى بعملين؟ قال: "نعَمْ؛ أنْتَ" (¬1). وروى الإِمام أحمد، وابن السُّني، والطبراني في "الكبير"، والحاكم، والبيهقي في "سننه" عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَرَأَ ألفَ آيَةٍ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، كُتِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَعَ النَّبِيِّيْنَ وَالصِّدِّيْقِيْنَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِيْنَ، وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيْقًا" (¬2). وروى ابن عساكر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أعانَ مُسْلِما بِكَلِمَةٍ، أَوْ مَشَى لَهُ خُطْوَةً، حَشَرَهُ اللهُ عز وجل يَوْمَ الْقِيامَةِ مَعَ الأَنْبِياءِ وَالرُسُلِ آمِناً، وَأَعْطاهُ عَلَىْ ذَلِكَ أَجْرَ سَبْعِيْنَ شَهِيْداً قُتِلُوْا فِيْ سَبِيْلِ اللهِ" (¬3). وما ذكر في هذه الأحاديث، وأمثالهم من إلحاق من يستقل عمله بالطوائف المشار إليهم، أو من يدعى من كل باب من أبواب الجنة، قد يكون لانطوائه على ما للجميع من الأخلاق والأعمال، وقد يكون محمولاً على ما لو بقي على عمله حتَّى يموت عليه قبل أن يحدث، ¬
وقد يكون لخصوصية لم نَطَّلِع نحن عليها، وإنما كان عمله المرغب فيه علامة على تلك الخصوصية. وروى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "الرقة والبكاء"، وفي كتاب "الخوف"، وأبو نعيم في "الحلية" عن بكر بن مصاد قال: سمعت عبد الواحد بن زيد يقول: يا إخوتاه! ألا تبكون خوفاً من النيران؟ ألا إنه من بكى خوفًا من النار أعاذه الله منها، يا إخوتاه! ألا تبكون من شدة العطش يوم القيامة؟ يا إخوتاه! ألا تبكون؟ ألا فابكوا على الماء البارد في أيام الدنيا، لعله أن يسقيكموه في حظائر القدس مع خير النُّدماء والأصحاب من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا (¬1). *** ¬
فصل
فَصْلٌ واعلم أن من تشبه بقوم فإنه تارة يكون منهم حقيقة كمن تشبه بالصالحين في أعمال الصلاح الآتية؛ فإنه يكون منهم حقيقة، وإن تأخر عنهم زمانًا. وعلى هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 74، 75]. وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. فجمع بين المهاجرين والأنصار وبين تابعيهم بإحسان فيما وعدهم به من الرضوان والخلود في الجنان وإن تفاوتت مراتبهم باعتبار زيادة الإيمان, وقوة اليقين، والترقي في مدارج الرضا عن الله تعالى. وهذا لا ينافي ما نطق به الكتاب والسنة من تقديم الصحابة على من
بعدهم؛ أي: من حيث عموم الطبقة، لا من حيث خصوص الأشخاص كما اختاره ابن عبد البر من أنه لا مانع من أنه يكون في التابعين والمتأخرين من هو أفضل من بعض الصحابة الذين هم ليسوا من أفاضلهم (¬1). ونقل القرطبي في "تفسيره": أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ: {وَالْأَنْصَارُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ}، برفع (الأنصار)، وإسقاط الواو من (الذين) على أنه نعت للأنصار، فراجعه زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، فسأل عمر أُبَيَّ بن كعب رضي الله تعالى عنه فصدق زيدًا، فرجع إليه عمر، وقال: لقد كنا نرى أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد، وفي رواية: كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد، فقال أُبي رضي الله تعالى عنه: إني أجد مصداق ذلك في كتاب الله تعالى في أول سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]، وفي سورة الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وفي سورة الأنفال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75] (¬2). نعم، للصحابة رضي الله تعالى عنهم فضل اللُّقِيِّ والاجتماع بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن تشبه بهم من بعدهم فإنما يكون منهم من حيث إنهم ¬
صالحون وشهداء وصدِّيقون، لا من حيث إنهم صحابة؛ لأنه لم يتشبه بهم في نفس الصُّحبة، وبذلك يتضح لك أن من تشبه بقوم في خصلة من خصالهم دون خصلة: أنه لا يكون منهم من كل وجه، وإنما يكون منهم من حيث الخصلة التي شاركهم فيها. وتارة لا يكون المتشبه بقوم منهم حقيقة، وإنما يكون منهم بمعنى معهم، أو من أوليائهم، كما في الحديث: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِيْ فَلَيْسَ مِنِّيْ" (¬1)؛ أي؛ من أوليائي. وفي الحديث أيضًا: "سَلْمانُ مِنَّا آلَ الْبَيْتِ" (¬2)؛ أي: من أوليائنا. وكذلك قول طالوت: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]. فالمتشبه بالأنبياء منهم بمعنى أنه يحشر معهم، أو يكون من أوليائهم، لا على معنى أنه منهم حقيقة فيكون نبيًا؛ فإن النبوة موهبة لا تدخل تحت الاختيار، ولأنها الآن خُتمت بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. أو نقول (¬3): المتشبه بالأنبياء عليهم السلام إنما يتشبه بهم في الأعمال والأخلاق، فهو منهم من حيث إنهم صالحون وصديقون ومتقون ومحسنون إلى نحو ذلك، لا من حيث إنهم أنبياء. ¬
وكذلك المتشبه بالملائكة عليهم السلام فهو منهم؛ أي: في منزلتهم، أو من أوليائهم؛ لأن الملائكة يتولَّون أمر المؤمنين المستقيمين في الدنيا والآخرة بنص القرآن، والمتشبه بالملائكة ملحق بهم في التجرُّد عن الشهوة، أو في الأمن من غوائلها، أو في القربة من الله تعالى، أو نحو ذلك. فلما كانت النبوة والصحبة والملكية مما لا يمكن الإنسان التوصل إليه مطلقًا في الملكية، وفي هذه الأزمنة في النبوة، والصحبة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - انقطعت بانتقاله إلى الدار الآخرة، لم يحرم الله الإنسان من الحشر مع هؤلاء، واللحاق بهم، فجعل التشبه بهم طريقًا لإلحاقهم بهم، وحشرهم معهم: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265]. وروى أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن بن جهضم الهمداني في "بهجة الأسرار" عن محمَّد بن حسان قال: شهدت فُضيل بن عِياض رحمه الله تعالى وجلس إليه سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى فتكلم الفضيل بكلام، وقال فيما تكلم: كنتم معشرَ العلماء سُرُجَ البلاد يُستضاء بكم، فصرتم ظلمة، وكنتم نجوماً يهتدى بكم، فصرتم حيرة، ثم لا يستحيي أحدكم يأخذ من مال هؤلاء، وقد علم من أين هو حتى يسند ظهره ويقول: حدثني فلان عن فلان، وحدثنا فلان عن فلان، فرفع سفيان رأسه -وكان مطأطئًا- فقال: هاه هاه! والله لئن كنا لسنا بصالحين فإنا نحب الصالحين، قال: وسكت الفضيل، فطلب إليه سفيان، فحدثنا بثلاثين حديثاً.
فتأمل! فإن الفضيل لم ينكر على ابن عيينة تعلقه بمحبة الصالحين على فرض أنه لم يكن منهم، ولقد قيل: [من الوافر] أُجِلُّ الصَّالِحِيْنَ وَلَسْتُ مِنْهُمْ ... لَعَلِّيْ أَنْ أَنَالَ بِهِمْ شَفَاعَةْ وَأَكْرَهُ مَنْ بِضَاعَتُهُ الْمَعَاصِي ... وإنْ يَكُ لِيْ شَرِيْكا فِيْ الْبِضَاعَةْ وحدثني شيخنا الإِمام العلامة محب الدين الحنفي -فسح الله في مدته-: أن شيخه العلامة العارف بالله سيدي أبا الوفاء ابن الشيخ العارف بالله سيدي علوان الحموي رضي الله تعالى عنهما كان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت: [من الكامل] إِنْ لَمْ تَكُوْنُوْا مِثْلَهُمْ فَتَشَبَّهُوْا ... إِنَّ التَّشَبهَ بِالْكِرَامِ فَلاحُ وهذا البيت من قصيدة مشهورة للسُّهروردي المقتول بحلب المعروف بالشاب الظريف، وهي: [من الكامل] أَبَداً تَحِنُّ إِلَيْكُمُ الأَرْوَاحُ ... وَوِصَالُكُمْ رَيْحَانها وَالرَّاحُ وَقُلُوْبُ أَهْلِ وِدَادِكُمْ تَشْتَاقُكُمْ ... وَإِلَىْ لَذِيْذِ لِقَاكُمُ تَرْتَاحُ
وَارَحْمَتَا لِلْعَاشِقِيْنَ تَكَلَّفُوْا ... سُنَنَ الْمَحَبَّةِ وَالْهَوَىْ فَضَّاحُ بِالسِّرِّ إِنْ بَاحُوْا تُبَاحُ دِمُاؤُهُمْ ... وَكَذَا دِمَاءُ الْبَائِحِيْنَ تُبَاحُ فَإِذَا هُمُ كَتَمُوْا تَحَدَّثَ عَنْهُمُ ... عِنْدَ الْوُشَاةِ الْمَدْمَعُ السَّحَّاحُ وَكَذَا شَوَاهِدُ لِلسِّقَامِ عَلَيْهِمُ ... فِيْهَا لِمُشْكِلِ أَمْرِهِمْ إِيْضَاحُ خُفِضَ الْجَنَاحُ لَكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمُ ... لِلصَّبِّ فِيْ خَفْضِ الْجَناح جُنَاحُ فَإِلَىْ لِقَاكُمْ نَفْسُهُ مُرْتَاحَةٌ ... وإلَىْ رِضَاكُمْ طَرْفُهُ طَمَّاحُ عُوْدُوْا بِنُوْرِ الْوَصْلِ مِنْ غَسَقِ الْجَفَا ... فَالْهَجْرُ لَيْلٌ وَالْوِصَالُ صَبَاحُ صَافاهُمُ فَصَفَوْا لَهُ فَقُلُوْبُهُمْ ... فِيْ نُوْرِهَا الْمِشْكَاةُ وَالْمِصْبَاحُ وَتَمَتَّعُوْا فَالْوَقْتُ طابَ بِقُرْبِكُمْ ... راقَ الشَّرَابُ وَرَاقَتِ الأَقْدَاحُ
يا صاحِ لَيْسَ عَلى الْمُحِبِّ مَلامَةٌ ... إِنْ لاحَ فِيْ أُفْقِ الْوِصالِ صَبَاحُ لا ذَنْبَ لِلْعُشَّاقِ إِنْ غَلَبَ الْهَوَىْ ... كِتْمَانهمْ فَنَمَى الْغَرَامُ وَباحُوا سَمَحُوْا بِأَنْفُسِهِمْ وَما بَخِلُوا بِها ... لَمَّا درَوْا أَنَّ السَّمَاحَ رَباحُ وَدَعاهُمُ داعِيْ الْحَقائِقِ دَعْوَةً ... فَغَدَوْا بِها مُسْتَأْنِسِيْن وَراحُوا رَكِبُوا عَلى سُفُنِ الدُّجَى فَدُمُوْعُهُمْ ... بَحْرٌ وَشِدَّةُ شَوْقِهِمْ مَلاَّحُ وَاللهِ ما طَلَبُوا الْوُقُوْفَ بِبابِه ... حَتَّى دُعُوْا وَأتاهُمُ الْمِفْتاحُ لا يَطْرَبُوْنَ لِغَيْرِ ذِكْرِ حَبِيْبِهِمْ ... أَبَداَ فَكُل زَمَانِهِمْ أَفْراحُ حَضَرُوا وَقَدْ غابَتْ شَواهِدُ ذَاتِهِمْ ... فَتَهَتَّكُوْا لَمَّا رَأَوْهُ وَصاحُوْا فَتَشَبَّهُوْا إِنْ لَمْ تَكُوْنُوا مِثْلَهُمْ ... إِنَّ التَّشَبهَ بِالْكِرامِ فَلاحُ
قُمْ يا نَدِيْمُ إِلَى الْمُدامِ فَهاتِها ... فِيْ كَأْسِها قَدْ دارَتِ الأَقْداحُ مِنْ كَرْمِ إِكْرام بِدَنِّ دِيانَةٍ ... لا خَمْرَةٍ قَدْ داسَها الْفَلاَّحُ (¬1) *** ¬
فصل
فَصْلٌ قسم الله تعالى المُنْعَم عليهم المذكورين في الآية المتقدمة أربعة أقسام بحسب منازلهم في العلم والعمل، وحثَّ كافة الناس على أن لا يتأخروا عنهم، ولا يقصروا عن اللحاق بهم، وهم: 1 - الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل، المتجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل بالفهم وبالوحي. 2 - والصدِّيقون الذين صعدت نفوسهم إلى أَوج المعرفة؛ إما بطريق النظر في الآيات، أو بطريق التصفية والرياضات، وقد يتجاوزون درجة الكمال إلى درجة التكميل أيضًا، لكن لا بطريق الوحي، بل بطريق الفهم من نصوص الشرائع، والتلقي عن سائر الأنبياء بطريق الإرث. 3 - والشهداء الذين أدى بهم الحرص على الطاعة، والجد في إظهار الحق إلى أن بذلوا مُهَجَهُمْ في إعلاء كلمة الله تعالى. وقيل: الصدِّيقون هم العارفون بالله، وهم خواص العلماء. والشهداء هم العلماء؛ لأنهم شهداء الله في الأرض. 4 - والصالحون هم الذين صرفوا أعمارهم في طاعة الله تعالى،
وأموالهم في مرضاته (¬1). فالصالحون هم المطيعون، أعم من أن يكونوا أنبياء أو صديقين أو شهداء، فمنهم الأبرار والمتقون والمحسنون والمخلصون، إلى غير ذلك من الأنواع. والأنبياء خواص هؤلاء كلهم. والصِّديقون خواصهم بعد الأنبياء. والشُّهداء خواصهم بعد الصِّديقين. فأوصاف الصَّالحين، وأخلاقهم تنطوي في أخلاق الشُّهداء وأوصافهم. وأخلاق الشُّهداء وأوصافهم تنطوي في أخلاق الصِّديقين وأوصافهم. وأخلاق الصِّديقين وأوصافهم تنطوي في أخلاق النبيين وأوصافهم. وينبغي أن نشير على سبيل التدريج والترقية، إلى جملة من أخلاق الصَّالحين وأعمالهم، ثم الشهداء، ثم الصِّديقين، ثم الأنبياء عليهم السَّلام. ثم نختم الكلام بجملة لطيفة من مجامع أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أخلاق هؤلاء كلهم وأوصافهم منطوية في أخلاقه وأوصافه كما علمت؛ فهو الإنسان الكامل - صلى الله عليه وسلم - في البُكر والأصائل، ثم نتمم الخاتمة بفصل في التخلق بأخلاق الله تعالى، وبذلك يتم القسم الأول، والله الموفق لكل خير. • • • ¬
(3) باب التشبه بالصالحين رضي الله تعالى عنهم أجمعين
(3) بَابُ التَّشَبُّه بِالصَّالِحِينَ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم أجْمَعِيْنَ
(3) بَابُ التَّشَبُّه بِالصَّالِحِينَ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم أجْمَعِيْنَ اعلم أن التَّشبه بالصَّالحين، والدخول في عدادهم، مندوب إليه، محثوث عليه؛ لأنه يورث تولي الله لعبده، وهو مطلوب الأنبياء عليهم السَّلام، ومن أوصافهم التي يحمدون بها وعليها. قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 195، 196]. ولو لم يكن في التشبه بالصالحين إلا تولي الله تعالى العبدَ المتشبه بهم لكفى. وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130]. وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27]. وإنما خص كونه من الصَّالحين بالآخرة إشارة إلى أن العبرة بصلاح الآخرة، أو أن الصلاح المعتد به ما كان نافعًا في الآخرة وهو الخالص،
فلا اعتبار لصورة الصَّلاح في الدُّنيا، والمتصف بها في الآخرة من الصَّالحين. وقال تعالى حكايته عن إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 99، 100]؛ أي: ولدًا صالحا. وقال تعالى بعد ذكر إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب: {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء: 72]. وقال تعالى بعد ذكر هؤلاء ونوح، وداود، وسليمان، وإسماعيل، وإدريس، وذا الكفل: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 86]. وقال تعالى في حق لوط عليه السلام: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 75]. وقال تعالى حكايته عن إبراهيم عليه السلام في طلب اللحاق بالصالحين: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83]. وقال تعالى حكايته عن يوسف عليه السَّلام: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. وقال تعالى حكايته عن سليمان عليه السلام: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].
قال العلماء: إنما أثنى الله تعالى على هؤلاء الأنبياء بالصلاح - وإن كان الصَّلاح من لازم نبوتهم - لينبه سبحانه على فضل الصلاح، وأنه مجمع القُرب، سواء وصل صاحبه إلى مقام النبوة والصِّديقية ونحوهما، أم لا. وكذلك في طلب يوسف وسليمان عليهما السلام من الله تعالى أن يلحقهما بالصالحين، تنويه بمقدار الصلاح، وتنبيه على شرفه. وقال الله تعالى حكايته عن النجاشي، وأصحابه في معرض الثناء عليهم: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة: 83، 84]. وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن هارون بن عنيزة قال: سمعت الحسن رحمه الله تعالى يقول: اللهم اغفر لنا ذنوبنا، ووسع لنا في ذاتنا، واجعلنا من صالح من بقي، وألحقنا بصالح من مضى. وقال البغوي في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]؛ قال: حريص على إيمانكم وصلاحكم (¬1). ¬
وروى أبو نعيم في "الحلية"، عن سفيان الثوري رحمه الله قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: أبقاك الله، قال: قد فُرِغ من هذا، فادع الله لي بالصلاح (¬1). وفي كلام عمر بن عبد العزيز هذا، إشارة إلى أن الدعاء بالبقاء أو بطول العمر، كالضرب في حديد بارد؛ لأن هذا مما فُرِغ منه. وفي "صحيح مسلم"، و"سنن النسائي"، وغيرهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قالت أم حبيبة رضي الله تعالى عنها: اللهم أمتعني بزوجي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَكِ سَأَلْتِ الله لآجالٍ مَضْرُوْبَةٍ، وَأيامٍ مَعْدُوْدةٍ، وَأَرْزاقٍ مَقْسُوْمَةٍ، وَلَنْ يُعَجّلَ شَيْئاً قَبْلَ أَجَلِهِ، أَوْ يُؤَخَرَ شَيْئا عَنْ أَجَلِهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ الله عز وجل أَنْ يُعِيْذَكِ مِنْ عَذابٍ فِيْ النَّارِ، أَوْ عَذابٍ فِيْ الْقَبْرِ، كانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ" (¬2). فإن كان المدعو له فاسقًا أو ظالماً، فلا يفيد الدعاء شيئًا، إلا أنه أفصح أن الداعي أراد بقاء الفاسق أو الظالم، والفسق والمعصية، وهذا ليس من شأن الصالحين، بل الطالحين. ومن ثمَّ قال سفيان الثوري، كما رواه أبو نعيم: من دعا لظالم بطول البقاء، فقد أحب أن يعصى الله (¬3). ¬
وذكره بعضهم حديثاً (¬1). ورواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي من كلام الحسن رحمه الله تعالى (¬2). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا أَوَىْ أَحَدُكُمْ إِلَىْ فِراشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِراشَهُ بِداخِلِ إِزارِه؛ فَإِنَّهُ لا يَدْرِيْ ما خَلَّفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُوْلُ: بِاسْمِكَ رَبِّيْ وَضعْتُ جَنْبِيَ، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِيَ فَارْحَمْها، وَإِنْ أَرْسَلْتَها فَاحْفَظْها بِما تَحْفَظُ بِهِ عِبادَكَ الصَّالِحِيْنَ" (¬3). وحفظُه سبحانه لعباده الصالحين إنما هو بتوفيقه لهم، وإرشاده إياهم، وكَلأَته (¬4) لهم، ودفع الآفات عنهم بسبب أعمالهم الصالحة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: "احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظِ الله تَجِدْهُ تُجاهَك" (¬5)، وفي رواية: "أَمامَكَ" (¬6). ¬
فلا يحفظ الله العبد بما حفظ الله عباده الصالحين إلا بأن يوفقه لما وفقهم إليه، حتى يثبتوا في دار ولايته، محفوفين بعين عنايته. وروى ابن الجوزي في "صفوته" عن محمَّد بن يزيد بن خُنيس قال: قال وُهَيب بن الورد رحمه الله تعالى: لو أن علماءنا -عفا الله عنا وعنهم - نصحوا الله في عباده، فقالوا: يا عباد الله! اسمعوا ما نخبركم عن نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، وصالح سلفكم من الزهد في الدنيا، فاعملوا به، ولا تنظروا إلى أعمالنا هذه الفَسْلَةِ، كانوا نصحوا الله في عباده، ولكنهم يأبون إلا أن يجروا عباد الله إلى فتنتهم، وما هم فيه (¬1). ففي هذا القول من وهيب رضي الله تعالى عنه إشارة إلى أن الإرشاد إلى التخلق بأخلاق الصالحين، والاقتداء بهديهم من جملة وظائف العلماء، وأن ذلك منهم لو اتفق عين النصيحة لله، والشفقة على عباده. وذكر حجة الإِسلام في "الإحياء" عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: محدثان أحدثا في الإِسلام: رجل ذو رأي سوء يزعم أن الجنة لمن يرى مثل رأيه، ومترف يعبد الدنيا، لها يغضب، ولها يرضى، وإياها يطلب، فارفضوهما إلى النار؛ إن رجلًا أصبح في هذه الدنيا بين مترف يدعوه إلى دنياه، وصاحب هوى يدعوه إلى هواه -وقد عصمه الله منهما - يجيء إلى السلف الصالح يسأل عن فعالهم، ويقتفي آثارهم، ¬
متعرضٌ لأجر عظيم، فكذلك كونوا (¬1). أي: سائلين عن آثار السلف الصالحين، مقتفين لآثار القوم المفلحين. وفيه إشارة إلى أن من كان متصفاً بهذه الصفة في غاية العزة، خصوصًا في هذه الأزمنة المتأخرة، ونحن الآن بعد ألف بسنوات، فهو أحق وأحرى أن يسمى غريبًا، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طُوْبَىْ لِلْغُرَباءِ"، قيل: فمن الغرباء؟ قال: "قَوْمٌ يُصْلِحُوْنَ حِيْنَ يُفْسِدُ النَّاسُ". رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم بن المغيرة، أو ابن أبي المغيرة رضي الله تعالى عنه (¬2). وفي لفظ آخر: "ناس قَلِيْلُوْنَ صالِحُوْنَ فِيْ ناس كَثِيْرٍ؛ مَنْ يُبْغِضُهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ" (¬3). ورواه الإِمام أحمد في "مسنده" من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما, ولفظه: "طُوْبَىْ لِلْغُرَباءِ"، قيل: فمن الغرباء؟ قال: "أُناس صالِحُوْنَ فِيْ أُناسِ سُوْءٍ كَثِيْرٍ؛ مَنْ يَعْصِيْهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُم" (¬4). وروى الطبراني في "المعاجم الثلاثة" عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الإِسْلامَ بَدَأَ غَرِيْباً، ¬
وَسَيَعُوْدُ غَرِيْبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوْبَىْ لِلْغُرَباءِ"، قالوا: يا رسول الله! ومن الغرباء؟ قال: "الَّذِيْنَ يُصْلِحُوْنَ عِنْدَ فَسادِ النَّاسِ" (¬1). وأخرجه في "الأوسط" من حديث جابر - رضي الله عنه - بنحوه (¬2). وأخرجه الإِمام أحمد، وأبو يعلى وإسنادهما حسن، والبزار عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه بلفظ: "إِنَّ الإِيْمانَ بَدَأَ غَرِيْبًا" (¬3). وروى ابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن أبي الخير العتلي قال: سمعت إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى يقول لجماعة عنده: من تعدُّون الغريب في زمانكم هذا؟ فقال واحد منهم: الغريب من نأى عن وطنه، وقال آخر: الغريب من فارق أحبابه، وقال كل واحد منهم شيئًا، فقال إبراهيم: الغريب في زماننا رجل صالح عاش بين قوم صالحين؛ إن أمر بالمعروف آزروه، وإن نهى عن المنكر أعانوه، وإن احتاج إلى ¬
شيء من الدنيا مانوه، ثم ماتوا وتركوه (¬1). يعني: إنه حين مات رفقاؤه وبانت أصدقاؤه صار غريبًا. وروى أبو نعيم عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: [قال دانيال] (¬2): يا لهفي عن زمن يلتمس فيه الصالحون فلا تجد منهم أحدًا إلا كالسنبلة في أثر الحاصد، أو كالخصلة في أثر القاطف؛ يوشك نوائح أولئك وبواكيهم أن تبكيَهم (¬3). وما أحسن قولَ الشيخ الإِمام العلامة أبي الفتح تقي الدين بن دقيق العيد القشيري رحمه الله تعالى: [من السريع] قَدْ عُرِفَ الْمُنْكَرُ وَاسْتُنْكِرَ الـ ... ـمعْرُوْفُ فِيْ أيامِنَا الصَّعْبَةْ وَصَارَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيْ وَهْدَةٍ ... وَصارَ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيْ رتبَةْ حَادُوْا عَنِ الْحَقِّ فَمَا لِلَّذِيْ ... سادُوْا بِهِ فِيْما مَضَىْ نِسْبَةْ ¬
فَقُلْتُ لِلأَبْرارِ أَهْلِ التُّقَى ... وَالذيْنِ لَمَّا اشْتَدَّتِ الْكُرْبَة لا تُنْكِرُوْا أَحْوَالَهُمْ قَدْ أتَت ... نَوْبَتُكُمْ فِيْ زَمَنِ الْغُرْبَةْ (¬1) *** ¬
فصل
فَصْلٌ يحصل التشبه بالصالحين بكل عمل صالح مع الإيمان بالله تعالى، لكن الظاهر أن من اقتصر على عمل واحد، أو على أعمال قليلة من الصَّالحات لا يقال: إنه صالح حتى يتمرَّن على الأعمال الصالحة، ويداوم عليها كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)} [العنكبوت: 9]. ومع ذلك فإن من اقتصر على عمل صالح مع الإيمان، فعسى أن ينفعه الله تعالى بذلك العمل الصالح يومًا ما؛ فإنه ليس من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له. وقد روى أبو يعلى في " المسند"، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الشعب" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْخَصْلَةَ الصَّالِحَةَ تَكُوْنُ فِيْ الرَّجُلِ فَيُصْلِحُ اللهُ بِها عَمَلَهُ كُلَّهُ، وَطُهُوْرُ الرَّجُلِ لِصَلاتِهِ يُكَفِّرُ ذُنُوْبَهُ، وَتَبْقَىْ صَلاتُهُ لَهُ نافِلَةً" (¬1). ¬
وقال الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه: من استطاع منكم أن يكون له خبيء من عمل صالح فليفعل (¬1). وأخرجه الخطيب البغدادي عنه مرفوعًا (¬2). وقيل: [من الكامل] وَإذَا افْتَقَرْتَ إِلَىْ الذَّخائِرِ لَمْ تَجِدْ ... ذُخْرًا يَكُوْنُ كَصالِحِ الأَعْمالِ (¬3) وقال محمد بن علي المصري: [من الخفيف] افْعَلِ الْخَيْرَ ما اسْتَطَعْتَ وَإِنْ كا ... نَ قَلِيْلاً فَلَسْتَ مُدْرِكَ كُلَّهْ وَمَتَىْ تَفْعَلُ الْكَثِيْرَ مِنَ الْخَيـ ... ـر إِذا كُنْتَ تَارِكًا لأَقَلِّهْ؟ (¬4) ¬
ثم الأعمال الصالحات هي كل ما لله تعالى فيه رضى من قول العبد، أو فعله، أو نيته، وهو ما كان خالصًا لوجه الله تعالى، كما قال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. قال أبو عاصم الأنطاكي في الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ (110)} [الكهف: 110]: من خاف المقام بين يدي الله تعالى فليعمل عملاً يصلح للعرض عليه (¬1). وقال يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: العمل الصالح ما يصلح أن تلقى به الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تستحيي (¬2) منه في ذلك (¬3). نقلهما أبو عبد الرحمن السلمي في "حقائق التفسير". وفسر الأنطاكي الرجاء بالخوف لتلازمهما تطبيقًا بين الآية وبين قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40 - 41]. وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: العمل الصالح الذي لا تريد أن ¬
يحمدك عليه إلا الله تعالى (¬1). رواه ابن أبي الدُّنيا في كتاب "النية والإخلاص". وروى "فيه" عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (2)} [الملك: 2]؛ قال: أخلصه، وأصوبه. قال: والخالص إذا كان له، والصواب إذا كان عن السنة (¬2). وعن مُطرِّف رحمه الله تعالى قال: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية (¬3). ولا شك أن النية محلها القلب، فأول الصلاح صلاحه، وبصلاحه يصلح العمل، وبصلاح العمل يصلح القلب آخرًا. أي: ينقله من حالة إلى أصلح منها، أو يدوم له الصلاح. ومما يدل على ذلك حديث "الصحيحين": "أَلا إِنَّ فِيْ الْجَسَدِ مُضْغَةً، مَتَىْ صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَمَتَىْ فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ" (¬4). وإنما قلنا: إن العمل الصالح هو الخالص الذي يرضى الله به؛ ¬
لأن الله تعالى لا يرضى أن تكفر نعمة، ومن كفران النعمة أن يشكر عليها غير المنعم بها. وإن من أفاضل نعم الله عليك وجودك وجوانحك، فمهما صرفتها - أو شيئًا منها - في غير خدمته تعالى بغير إذنه، فقد كفرت هذه النعم: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ (7)} [الزمر: 7] وإنما يرضى لهم الشكر كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ (7)} [الزمر: 7] ومتى صرفت من القلب حصة لغير الله تعالى، فقد كفرت نعمته؛ لأنه لا يقبل الشَّرِكة، كما قال أبو مدين رحمه الله تعالى: ليس للقلب إلا وجهة واحدة، فلا تجعلها لغير وجه الله تعالى (¬1). وقد أشار إلى ذلك ولي الله العارف به الشيخ أرسلان الدمشقي رضي الله تعالى عنه فقال في "رسالته": ما صلحت لنا ما دام فيك بقية لسوانا، فإذا حولت السوى أفنيناك عنك، وصلحت لنا، فأودعناك سرنا. وقلت في "نظم الرسالة الأرسلانية" في هذه الحقيقة العرفانية: [من الرجز] مَا أَنْتَ صَالِحٌ لَنَا ما دَامَ فِيْكْ ... بَقِيَّةٌ لِمَا سِوانا تَقْتَفِيْك ¬
فَحُلْ عَنِ السِّوَىْ وَحَوِّلْ عَنْكا ... نُفْنِكَ عَنْكَ ننتَقِذْكَ مِنْكا فَعُدْتَ صالِحاً لَنا فَنُوْدِعَك ... مِنْ سِرِّناَ شَيْئا بِهِ نُمَتِّعَكْ واعلم أن العمل الصالح= لأَنْ يخدم الله تعالى به، هو الخالص لوجهه الكريم؛ لِما عرفت، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ ما كانَ لَهُ خالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ" رواه أبو داود، والنسائي من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه (¬1). ولقوله - صلى الله عليه وسلم -، يرويه عن ربه عز وجل: "أَنا خَيْرُ الشُّرَكاءِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيْهِ غَيْرِي، فَأَنا بَرِيْءٌ مِنْهُ". رواه مسلم، وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬2). = هو الذي يبقى للعبد عند الله تعالى، والله خير وأبقى. قال أبو سعيد الحسن بن علي في "الحدائق": {مَا عِنْدَكُمْ ¬
يَنْفَدُ} [النحل: 96]: يعني: ما كان لأجل الكون، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ (96)} [النحل: 96] ما كان لأجل الْمُكَوِّنِ. قال: وأعمال المخلصين بحكم هذه الآية داخلة في حكم البقاء، وأعمال المرائين داخلة في حكم الفناء، وذلك أن أعمال المخلصين كانت لأجل المكون؛ أي: فبقيت لبقاء مَنْ هي لأجله، وأعمال المرائين كانت لأجل الكون؛ أي: ففنيت لفناء ما هي لأجله. وقال الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ (88)} [القصص: 88]. قال ابن عباس في تفسير الآية: إلا ما أريد به وجهه. رواه عبد بن حميد (¬1). وقال مجاهد: إلا ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة. رواه ابن أبي حاتم (¬2). وقال الربيع بن خُثَيم: ما لم يرد به وجه الله يَضْمَحِلُّ. رواه ابن أبي شيبة (¬3). وقال محمد ابن الحنفية: كل ما لا يبتغي به وجه الله يَضْمَحِلُّ. رواه ابن أبي الدنيا، وأبو نعيم (¬4). ¬
فالعمل الصالح هو الباقي؛ لأنه ما كان إلا لثواب الله في الآخرة ورضاه. وقد قال تعالى: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه: 131]؛ أي: ما ادَّخره لك في الآخرة (¬1)، كما قال القاضي ناصر الدين البيضاوي أخذًا من قول السدي في الآية: أن المراد رزق الجنة (¬2)؛ أي: رزق ربك في الجنة - وهو الثواب بعينه - خير وأبقى. وقال تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 17]. وقال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ (72)} [التوبة: 72]. ولا شك أن الصالح ضد الفاسد، والفاسد هو الهالك الذي لا ينتفع به، وكل شيء هالك إلا ما أريد به وجه الله، كما عملت. ومن صرف عمره في الأعمال الصالحات كمن جعل له وليُّه رأس مال، وأمره أن يتجر فيه، ويقلبه لأجل النمو والفائدة؛ فإن قلبه في طرق التجارة المنتجة للفوائد، كان صالحاً في ماله مصلحاً له، ولذلك قيل في الرشد: إنه صلاحية الدَّيْن والمال، وإن تركه بغير تقليب، أو قلبه في غير الطرق المنتجة للفوائد، ولا غنى له عن الصرف منه، فهو غير صالح لماله، ولا مصلح له، بل مفسد لرأس ماله، متلف له. وكذلك عمر العبد رأس ماله الذي سلمه إليه ربه ووليه سبحانه ¬
وتعالى؛ فمن صرفه في الأعمال الصالحة الباقية عند الله تعالى فهو الصالح الرشيد، ومن ضيعه في البطالات، أو صرفه في غير وجوه الخيرات فقد أفسده؛ إما بتضييعه في غير فائدة ولا عائدة، وإما بصرفه فيما تبقى عليه تبعته، وتذهب عنه لذته. وكما يبقى ثواب العمل الصالح يبقى عقاب العمل السيئ، كما قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} [طه: 127]، فهو غير صالح، ولا رشيد، ويأتي يوم القيامة مفلسا معدماً، ولا يأمَن أن يقول تأسفاً وتندماً: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ (56)} [الزمر: 56]. وقد ضرب الله تعالى هذا المثال في كتابه العزيز، فقال في حق المفسدين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} [البقرة: 16]، وذلك بعد أن شهد عليهم بالإفساد، ونفى الإصلاح عنهم بقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة: 11 - 12]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [المائدة: 64]. فالمفسد متعرض لمقت الله تعالى وطرده عن قربه، وعزله عن حبه، ولذلك قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا (56)} [الأعراف: 56]. وأول ما يلزمك عمارة أرض نفسك بالإصلاح، وتنزيهها عن الإفساد، وإذا كنت لأرضك مفسداً، كنت لغيرها أكثر فساداً. وقال تعالى: {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)} [الأعراف: 86].
فالإفساد سبب سوء العاقبة، كما أن الإصلاح سبب حسن الخاتمة، ودفع الأسواء؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [هود: 117]؟ وقال تعالى في حق المصلحين لرؤوس أموالهم التي هي أعمالهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)} [فاطر: 29]. وما أحسن قول منصور بن عمار الواعظ فيما أنشده أبو الحسن ابن جهضم في "بهجة الأسرار" عن ظاهر بن العباس عنه رحمهم الله تعالى: [من الطويل] وَإِنَّ امْرَأً لَمْ يَرْتَحِلْ بِبِضَاعَةٍ ... إِلَىْ دَارِهِ الأُخْرَىْ فَلَيْسَ بِتاجِرِ وَإِنَّ امْرَأً يَبْتَاعُ شَيْئًا بِدِيْنِهِ ... لَمُنْقَلِبٌ مِنْها بِصَفْقَةِ خاسِرِ (¬1) وقال الله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)} [الكهف: 30]. ¬
وأمر موسى أخاه عليهما السلام باتباع المصلحين، ونهاه عن اتباع المفسدين، فيما حكاه الله تعالى عنه بقوله: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} [الأعراف: 142]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28]. وهذه الآية تدل على أن بين الفريقين بَوناً بعيدًا، وأنهما في طرفي نقيض. قال قتادة رحمه الله تعالى، وقرأ هذه الآية: لقد تفرق القوم في الدنيا وعند الموت، فتباينوا في المصير. رواه عبد بن حميد (¬1). فالمتشبه بالصالحين هو المصلح لرأس ماله، الراجي للتجارة الباقية التي لن تبور، ولن تَبيد، ولا تنتهي فوائدها وعوائدها على التأبيد، فشأنه كما وجد رِبحًا في عمل صالح سارع إليه، وكلما سمع بفائدة في خلق جميل ثابر عليه. قال الله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)} [آل عمران: 113 - 114]. ¬
ثم قال تعالى مرغَّباً في هذه التجارة، وحاثًّا عليها بأرشق عبارة: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)} [آل عمران: 115]. وفي قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)} [التوبة: 44]: إشارة إلى أن عماد هذه التجارة الإخلاص فيها والصِّدق، اللذان هما عبارة عن التقوى؛ لأن التقوى محلها القلب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث رواه مسلم: " التَّقْوَىْ هَاهُنا" (¬1)، وأشار إلى صدره الذي هو هيكل قلبه، ولا شك أن الإخلاص والصدق هما عمدة الأفعال القلبية التي مبنى الصلاح عليها، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث "الصحيحين": "أَلا إِنَّ فِيْ الْجَسَدِ مُضْغَةً، مَتَىْ صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ" (¬2). ولذلك كان من أسئلة الصالحين طلب إصلاح القلوب. روى ابن أبي الدنيا في كتاب "المنامات" عن صالح المُرِّي رضي الله تعالى عنه قال: كنت أقول: اللَّهُمَّ لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فناداني منادٍ من ناحية البيت: يا صالح! زدنا فيها: اللهم إليك أشكو فساد قلبي، وإياك أستعين على صلاحه (¬3). وروى الحاكم في "تاريخ نيسابور" عن عبد الله بن عمرو رضي الله ¬
تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحْسَنَ فِيْما بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ، كَفاهُ اللهُ ما بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ أَصْلَحَ سَرِيْرَتَهُ أَصْلَحَ اللهُ عَلانِيَتَهُ". وروى ابن أبي الدنيا في "الإخلاص" عن مَعْقِل بن عبيد الله الجَريري رحمه الله تعالى قال: كانت العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، وإذا غابوا كتب بها بعضهم إلى بعض: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله، كفاه الله ما بينه وبين النَّاس، ومن اهتم بأمر آخرته، كفاه الله أمر دنياه (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: لكل امرئ جَوَّانِيٌّ وبَرَّانِيٌّ؛ من يصلح جَوَّانِيَّهِ يصلح الله بَرَّانِيَّهِ، ومن يفسد جَوَّانِيَّهِ يفسد الله بَرَّانِيَّهِ (¬2). وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن بُريد (¬3) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ صالحٌ تَحَنَّنَ اللهُ عَلَيْهِ" (¬4). والمعنى: أن العبد إذا حاول إصلاح قلبه وسريرته، تحنَّن الله تعالى عليه، فوفَّقه لإصلاح أعماله وعلانيته، ثم هو في إصلاح قلبه لا حول له ولا قوة إلا بربه. ¬
والحنان - كما في "القاموس" -: الرحمة، والرزق، والبركة (¬1). وفسره ابن عباس، ومجاهد بالتعطف، كما رواه عبد بن حميد. ونتيجة هذه المعاني كلها إذا أريدت في الحديث إصلاح الأعمال في الدنيا، وحسن الجزاء في الآخرة. وروى ابن أبي الدُّنيا في "الإخلاص" عن سفيان قال: قال ابن عجلان رحمه الله تعالى: لا يصلح العمل إلا بثلاث: التقوى به، والنية الحسنة، والإصابة (¬2). قلت: ومعنى الإصابة: أن يصيب بعمله عملاً مأخوذاً به في الشرع، موافقاً للعلم على سَنَن السنة، فلا بد في الصالح أن يكون متبعًا للسنة، متجنبًا عن البدعة ومحدثات الأمور، وذلك من لازم التقوى أيضاً؛ فإن المبتدع لو جاء بطاعة نوح، وكرم إبراهيم، وفتوة يوسف، وتواضع موسى، وزهد عيسى، وحزن يعقوب، وصبر أيُّوب، وشكر سليمان، وتلاوة داود، وحكمة لقمان، لا يكون تقيًا، ولا صالحاً مَرْضِيًّا. وقد روى اللالكائي في "السنة" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: الاقتصاد في السنة، خيرٌ من الاجتهاد في البدعة (¬3). ¬
وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: لا يصلح قول إلا بعمل، ولا يصلح قول ولا عمل إلا بنية، ولا يصلح قول وعمل ونية إلا بالسنة (¬1). وقد رواه الشيخ نصر المقدسي رحمه الله تعالى في "الحجة" عن عليًّ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَصْلُحُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنيَّةٌ إِلاَّ بِالسُّنَّةِ" (¬2). وأخرجه من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، نحوه أبسط من ذلك (¬3). وقد علمت سابقاً أن الصَّالحين غرباء في الناس، خصوصاً في هذه الأزمنة المتأخرة. وقد روى اللالكائي عن الحسن رحمه الله تعالى: أنه قال: يا أهل السنة! ترفقوا رحمكم الله تعالى؛ فإنكم من أقل الناس (¬4). وعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى: أنه قال: استوصوا بأهل السنة خيرًا؛ فإنهم غرباء (¬5). ¬
وعن أبي بكر بن عياش رحمه الله تعالى قال: السنة في الإسلام، أعز من الإسلام في سائر الأديان (¬1). هذا، ومما يدل على أن التقوى الشاملة لحسن النية، والإخلاص، والصدق، واتباع السنة ومحبتها، وغير ذلك من الأعمال القلبية هي خاصة هذه التجارة التي أشرنا إليها سابقاً: ما رواه الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الحلية" عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا أيُّها النَّاسُ! اتَّخِذُوْا تَقْوَىْ اللهِ تِجارَةً، يَأْتِكُمُ الرِّزْقُ بِلا بِضاعَةٍ وَلا تِجارَةٍ"، ثم قرأ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] (¬2). والرزق المجلوب بتجارة التقوى شامل للرزق الجثماني، والرزق الروحاني، والرزق الدنيوي، والرزق الأخروي، وهو الرزق المشار إليه بقوله تعالى: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه: 131]، وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)} [طه: 132]. قال سفيان الثوري: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ (132)} [طه: 132]: لا نكلفك الطلب. رواه ابن أبي حاتم (¬3). ¬
أي: نغنيك عن الطلب ومشقاته، ونتكفل برزقك من غير تعمُّل منك. وروى ابن أبي الدّنيا في كتاب "التقوى" عن وهب: أن لقمان قال لابنه: يا بني! اتخذ تقوى الله تجارة، يأتك الربح من غير بضاعة. وروى "فيه" هو، وأبو نعيم في "الحلية" عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه: أنه قيل له: ليس أحد له بيت في الأنصار إلا وقد قال شعرًا، فما لك لا تقول؟ قال: وأنا قد قلت، فاسمعوه: [من الوافر] يُرِيْدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَىْ مُنَاهُ ... وَيَأْبَيْ اللهُ إِلاَّ ما أَرَادَا يَقُوْلُ الْمَرْءُ فَائِدَتِيْ وَمَالِيْ ... وَتَقْوَىْ اللهِ أَفْضَلُ ما اسْتَفَادَا (¬1) وقد روي عن الإمام الشافعي منه: أنه جعل هذا الشعر سادًّا مسدَّ الدراهم والدنانير في مُهور العذارى. وروى ابن أبي الدنيا في "التقوى" عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أنه قال: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل؟ يشير إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} [المائدة: 27]؛ أي: لا يتقبل الله الأعمال إلا من المتقين. ¬
فإذاً: التقوى في سائر الأعمال شرط لصلاحيتها؛ إذ لا يكون منها صالحًا إلا ما كان متقبلاً، ومن ثَمَّ لمَّا قيل لسفيان: أرى الناس يقولون: سفيان الثوري وأنت تنام الليل؟ فقال: اسكت! ملاك هذا الأمر التقوى (¬1). أي: فإذا حَصَلت، كفى معها العمل القليل. وقال فَضَالة بن عُبيد رضي الله تعالى عنه: لأن أكون أعلم أن الله تعالى يتقبل مني مثقال حبة من خردل، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} [المائدة: 27]. رواه ابن أبي الدُّنيا (¬2). وروى أبو يعلى بسند جيد، عن الحكيم بن ميناء مرسلاً: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجْمَعْ لِيْ مَنْ هَاهُنا مِنْ قُرَيْشٍ"، فجمعهم، ثم قال: يا رسول الله! أتخرج إليهم، أم يدخلون؟ قال: "بَلْ أَخْرُجُ إِلَيْهِمْ"، فخرج فقال: "يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! هَلْ فِيْكُمْ غَيْرُكُمْ؟ " قالوا: لا إلا بنو أخواتنا، قال: "ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ"، ثم قال: "يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! إِنَّ أَوْلَىْ النَّاسِ بِالنَّبيِّ الْمُتَّقُوْنَ؛ فَانْظُرُوْا! لا يَأْتِيْ النَّاسُ بِالأَعْمالِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَتأتُوْنَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُوْنهَا فَأَصُدَّ عَنْكُمْ بِوَجْهِيْ"، ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ ¬
وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} [آل عمران: 68] (¬1). وروى البخاري في "الأدب المفرد"، والحاكم وصححه، عن رفاعة ابن رافع - رضي الله عنه -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر رضي الله تعالى عنه: "اجْمَعْ لِيْ قَوْمَكَ"، فجمعهم، فلما حضروا باب النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليه عمر، فقال: قد جمعتُ لك قومي، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام بين أظهرهم، فقال: "هَلْ فِيْكُمْ مِنْ غَيْرِكُمْ؟ " قالوا: نعم، فينا حليفنا، وابن أختنا، وموالينا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حَلِيْفُنا مِنَّا، وَابْنُ أُخْتِنا مِنَّا، وَمَوْلانا مِنَّا، أَنتُّمْ تَسْمَعُوْنَ؟ إِنَّ أَوْلِيائِيَ مِنْكُمُ الْمُتَّقُوْنَ، فَإِنْ كُنْتُمْ أُوْلَئِكَ فَذاكَ، وَإلاَّ فَانْظُرُوْا! لا يَأْتِيْ النَّاسُ بِالأَعْمالِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَتَأَتُوْنَ بِالأَثْقالِ فُيُعْرَضَ عَنْكُمْ" (¬2). أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أن شرف التقوى أولى من شرف النسب وكرم الحسب، وفي كتاب الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13)} [الحجرات: 13]. وروى البخاري في " الأدب" أيضًا، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَوْلِيائِيَ يَوْمَ الْقِيامَةِ الْمُتَّقُوْنَ، وَإِنْ كانَ نسَبٌ أَقْرَبَ مِنْ نسَبٍ، فَلا يَأْتِينيْ النَّاسُ بِالأَعْمالِ، وَتأَتُوْني أَنْتُمْ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُوْنَها عَلَى رِقابِكُمْ، فَتَقُوْلُوْنَ: يا مُحَمَّدُ! فَأَقُوْلُ هَكَذا وَهَكَذا: لا - وأعرض في كلا عطفيه -" (¬3). ¬
فالتقوى أخص أوصاف الصالحين، وهي شرط في سائر أعمالهم، ولذلك لما ذكر الله تعالى مجملات أوصاف الصالحين، وأعمالهم بقوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ (113)} [آل عمران: 113]، إلى آخره قال بعد ذلك: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)} [آل عمران: 115] إشارة إلى ذلك. ثم التقوى تنشأ عنها سائر الأعمال الصالحة؛ لأنها ترجع إلى صلاح القلب، وبصلاحه يصلح سائر الجسد، كما علمت من الحديث، فصلاح الجسد إنما يكون بالأعمال الصَّالحة، ومن ثَمَّ وصف الله الذين اتقوا بقوله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 16 - 17]. ووصف المتقين بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 3]، إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 5]. وقال تعالى بعد أن ذكر جملة من أعمال البر في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} [البقرة: 177]. وقال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113]، إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)} [آل عمران: 115]. وهذه الآية الكريمة ما أبقت من أفعال الصالحين وأخلاقهم شيئًا إلا جمعته، ولذلك لمَّا سئل جد جدي شيخ الإسلام؛ أبو نعيم أحمد
ابن عبد الله بن بدر الغزي: مَنِ الصالحون؟ أجاب بهذه الآية: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ (113)} [آل عمران: 113] الآية. ونقل شيخ الإسلام الوالد في دروسه عن جماعة من أهل العلم لما وقفوا على ذلك قالوا: إنه استنباط في غاية الحسن مع البداهة، وسرعة الجواب. قلت: وهو كذلك. وقد أحببت أن أتكلم على هذه الآية هنا بما يناسب المقام: فقوله تعالى: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ (113)} [آل عمران: 113] أي: مستقيمة عادلة، من قولك: قَوَّمْتُ العود، فقام، واستقام، بمعنى. والاستقامة والعدل أول أركان التجارة، وإلا فلا بركة فيها، بل هي ممحوقة، فلا بد أن يكون العبد مستقيماً على طريقة الشريعة، وإلا فإن تجارته بائرة، وصفقته خاسرة. قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)} [هود: 112]، أشار إلى أن الميل عن الاستقامة طغيان. ولذلك قال تعالى: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)} [الرحمن: 7 - 8]؛ أي: لا تميلوا عن العدل فيه والاستقامة. وروى الدارمي عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقلت: أوصني، قال: نعم، عليك بتقوى الله والاستقامة؛ اتبع ولا تبتدع (¬1). ¬
وروى هو، والإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن سفيان الثقفي رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: "قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ"، قلت: فما أتقي؟ فأومأ إلى لسانه (¬1). وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن ثوبان، وابن ماجه، عنه، وعن ابن عمر، والطبراني في "الكبير" عنه، وعن سلمة ابن الأكوع رضي الله تعالى عنهم: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسْتَقِيْمُوْا وَلَنْ تُحْصُوْا، وَاعْلَمُوْا أَنَّ خَيْرَ أَعْمالِكُمُ الصَّلاةُ، وَلا يُحافِظُ عَلَىْ الْوُضُوْءِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ" (¬2). وأخرجه ابن ماجه عن أبي أمامة، والطبراني [عنه]، وعن عبادة ابن الصَّامت رضي الله تعالى عنهما، [يرفع الحديث] (¬3) ولفظهما: "اسْتَقِيْمُوْا، وَنِعِمَّا إِنِ اسْتَقَمْتُمْ، وَخَيْرُ أعمالِكُمُ الصَّلاةُ، وَلَنْ يُحافِظَ ¬
عَلَىْ الْوُضُوْءِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ" (¬1). وقيل لأبي حفص الحداد - رضي الله عنه -: أي العمل أفضل؟ قال: الاستقامة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اسْتَقِيْمُوْا، وَلَنْ تُحْصُوْا". ثم الاستقامة والعدل إما أن يكونا منك مع الله تعالى، أو مع عباده، وكلاهما مطلوبان منك؛ لأنك إنما تعد من الصَّالحين بخروجك من حقوق الله، وحقوق عباده، ولا يكون ذلك إلا بالعدل والاستقامة. وقد قال الزجَّاج - من علماء التفسير -: الصالح هو القائم بما عليه من حقوق الله، وحقوق العباد (¬2). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الرَّبيع في قوله تعالى: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ (113)} [آل عمران: 113]؛ قال: تقوم على كتاب الله، وحدوده، وفرائضه (¬3). وقوله تعالى: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)} [آل عمران: 113]، فيه نص على أن من أعمال الصَّالحين كثرة التلاوة، وقيام الليل، وكثرة السجود. ¬
أما تلاوة القرآن فلأنها أكثر ربحًا وفائدة، ومن شأن التاجر الصالح لرأس ماله، العارف بوجوه تنميته أن يُؤْثِر ما كان أكثر ربحًا، وأعظم كسبًا؛ فإن الحرف الواحد من القرآن يكتب به عشر حسنات. روى الترمذي وصححه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنةُ بِعَشْرِ أَمْثالِها؛ لا أَقُوْلُ: ألم حَرْفٌ، وَلَكِنْ: أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْفٌ، وَمِيْمٌ حَرْفٌ" (¬1). وروى البيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اسْتَمَعَ حَرْفاً مِنْ كِتابِ اللهِ ظاهِراً، كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسناتٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيَّئاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجاتٍ، وَمَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتابِ اللهِ فِيْ صَلاةٍ قاعِداً، كُتِبَتْ لَهُ خَمْسُوْنَ حَسَنَةً، وَمُحِيَتْ عَنْهُ خَمْسُوْنَ سَيِّئَةً، وَرُفِعَتْ لَهُ خَمْسُوْنَ دَرَجَة، وَمَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتابِ اللهِ فِيْ صَلاةٍ قائِماً، كُتِبَتْ لَهُ مِئَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِئَةُ سَيَّئَةٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ مِئَةُ دَرَجَةٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ فَخَتَمَهُ، كُتِبَتْ لَهُ عِنْدَ اللهِ دَعْوَةٌ مُسْتَجابَةٌ، مُعَجَّلَةً، أَوْ مُؤَخَّرَةٌ" (¬2). قال ابن الجوزي في "النشر": وروينا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: من قرأ القرآن لم يردَّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم ¬
تنبيه
شيئًا، وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 5 - 6] قال: إلا الذين قرؤوا القرآن. قلت: أخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب" (¬1). وهذا الأثر نص في أن تلاوة القرآن من أخص أعمال الصَّالحين، لا شبهة في ذلك. * تَنْبِيْهٌ: روى الإمام أحمد عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ كُتِبَ مَعَ الصِّدِّيْقِيْنَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِيْنَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيْقًا" (¬2). في هذا الحديث أن قراءة القرآن كما تُلحق صاحبها بالصالحين تُلحقه بمن فوقهم من الشهداء والصديقين، وذلك على حسب ترقيهم في ترتيل القرآن، وتدبره، والعمل بما فيه؛ فالصديقون والشهداء والصالحون تجمعهم قراءة القرآن في سبيل الله، وإنما يتفاوتون في التدبر والعمل، وهذا لا يختص بقراءة القرآن، بل كل عمل صالح يطلب من الصالحين يطلب من الشهداء والصديقين، ويكون منهم أتم. ¬
تتمة
* تَتِمَّةٌ: في كثرة التلاوة والذكر، شغل اللسان عما لا يعنيه، وهذا أحد أمرين بهما يصلح القلب، وهما: قول الخير، والسكوت عما سواه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً، أَوْ لِيَسْكُتْ". رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي شريح، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). واعلم أن في إصلاح اللسان بعد إصلاح القلب إصلاح سائر الأعضاء؛ لما رواه الترمذي، وابن خزيمة، والبيهقي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا أَصْبَحَ ابنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضاءَ كُلَّها تُكَفَّرُ اللّسانَ، فَتَقُوْلُ: اتَّقِ اللهَ فِيْنا، وَإِنَّما نَحْنُ بِكَ؛ إِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنا، وإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا" (¬2). وقال يونس بن عُبيد رحمه الله تعالى: خصلتان إذا صلحتا من ¬
العبد صلح ما سواهما: أمر صلاته ولسانه (¬1). وقال أيضًا: ما صلح لسان أحد إلا صلح في سائر عمله (¬2). فإصلاح اللسان من أصول أعمال الصالحين. وأما قيام الليل: فروى الترمذي وغيره، وصححه ابن خزيمة، والحاكم - عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُمْ بِقِيامِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِيْنَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إِلَىْ رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيئاتِ، وَمَنْهاة عَنِ الإِثْمِ" (¬3). وروي نحوه من حديث سلمان، وبلال رضي الله تعالى عنهما، وزاد فيه: "وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ" (¬4). وكيف لا يكون قيام الليل من أعمال الصالحين وهو أجمع للفكر، وأشرح للصدر، وأصفى للقلب، وأجلى للسر؟ ¬
وقد روى البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَشْرافُ أُمَّتِيْ حَمَلَةُ الْقُرْآنِ، وَأَصْحابُ اللَّيْلِ" (¬1). وروى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "التهجد" عن محمَّد بن طلحة بن مُصرِّف قال: كان أبي رحمه الله تعالى يأمر نساءه وخدمه وبناته بقيام الليل، ويقول: صلوا ولو ركعتين في جوف الليل؛ فإن الصَّلاة في جوف الليل تَحُتُّ الأوزار، وهي أشرف أعمال الصَّالحين (¬2). فالصالحون، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، ورواه عنه ابن أبي الدنيا في "التهجد": [من الوافر] إِذَا مَا اللَّيْلُ أَظْلَمَ كَابَدُوْهُ ... فَيُسْفِرُ عَنْهُمُ وَهُمُ رُكُوْعُ أَطَارَ الْخَوْفُ نَوْمَهُمُ فَقَامُوا ... وَأَهْلُ الأَمْنِ فِيْ الدُّنْيَا هُجُوْعُ (¬3) ¬
وروى أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن أحمد بن أبي الحواري، عن مروان بن محمَّد، عن الأوزاعي قال: من أطال قيام الليل، هوَّن عليه موقفَه يوم القيامة (¬1). قال أحمد: قال لي مروان: ما أحسب الأوزاعي أخذه إلا من هذه الآية: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ (26)} [الإنسان: 26]، إلى قوله: {يَوْمًا ثَقِيلًا (27)} [الإنسان: 27 (¬2). وأما السجود - والمراد به: الصَّلاة - فهو من أخص أعمال الصالحين، وأصول أعمالهم، كيف! وقد قال النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَقُرَّةُ عَيْنِيَ فِيْ الصَّلاةِ" (¬3). وذلك لأنها محل القربة والرفعة والفائدة، وبصلاحها تصلح الأعمال وتقبل. قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} [العلق: 19]. وروى مسلم، والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْرَبُ ما يَكُوْنُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ ساجِدٌ. فَأَكْثِرُوْا الدُّعاءَ" (¬4). ¬
وروى مسلم، والترمذي، وغيرهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لثوبان - رضي الله عنه -: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السّجُوْدِ لِلَّهِ؛ فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللهُ بِها دَرَجَةً، وَحَطَّ بِها عَنْكَ خَطِيْئَةً" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط"، والضياء في "المختارة" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ ما يُحاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيامَةِ الصَّلاةُ؛ فَإنْ صَلَحَتْ صَلَحَ لَهُ سائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سائِرُ عَمَلِهِ" (¬2). وروى الدارمي عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِفْتاحُ الْجَنَّةِ الصَّلاةُ" (¬3). ¬
ولا شك أنَّ الجنة دار المتقين، والصالحين التي أعد الله لهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والصلاة هي الحالة الجامعة بين المصلي وبين الصَّالحين، ولذلك يسلم عليهم فيها جامعاً بين نفسه وبينهم؛ حيث يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وفي محالِّها، وهي المساجد. كما روى عبد الرزاق، والحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا (61)} [النور: 61]؛ قال: هو المسجد، إذا دخلت فقل: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والبخاري في "الأدب المفرد" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إذا دخل البيت الغير المسكون، أو المسجد فليقل: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين (¬2). وروى البيهقيُّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)} [الأنبياء: 105]؛ قال: أرض الجنة يرثها الذين يصلون الصَّلوات الخمس في الجماعة. ¬
تنبيه
{إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)} [الأنبياء: 106]؛ قال: الذين يصلون الصلوات الخمس في الجماعات (¬1). * تَنْبِيْهٌ: روى الإمام محمَّد بن نصر المرزوي في كتاب "الصَّلاة" عن أحمد ابن منصور الرمادي، عن يزيد بن أبي حكيم العدني قال: سألت سفيان الثوري رحمه الله تعالى عن هذه الآية: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)} [آل عمران: 113]، فحدثني عن منصور قال: بلغني أنهم كانوا يُصَلُّوْن بين المغرب والعشاء (¬2). فقد تبين بذلك أنَّ الصَّلاة بين العشاءين مما يهتم به الصالحون بعد تأدية الفرائض؛ لأن الصالحين - خاصة عباد الله - من أوصافهم أنهم يصلحون حين يفسد الناس، كما تقدم، وهذه الساعة يكون أكثر الناس فيها في غفلة واشتغال عن الله تعالى بعَشائهم ومبيتهم، ومن ثَمَّ سميت الصلاة حينئذٍ صلاة الغفلة. كما روى عبد الرزاق، والطبراني عن الأسود بن يزيد رحمه الله تعالى قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: نعمت السَّاعة ساعة الغفلة؛ يعني: الصلاة فيما بين المغرب والعشاء (¬3). ¬
وروى محمَّد بن نصر بسند صحيح، عن عبد الرحمن بن الأسود رحمه الله تعالى قال: ما بين المغرب والعشاء صلاة (¬1). وتسمى - أيضًا - صلاة الأوابين. والأوابون هم الصالحون لقوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} [الإسراء: 25]. وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزُّهد" عن محمَّد بن المنكدر رحمه الله تعالى مرسلاً، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صَلَّىْ ما بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشاءِ فَإِنَّها مِنْ صلاةِ الأَوَّابِيْنَ" (¬2). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: صلاة الأوابين الخلوة التي بين المغرب والعشاء حتى يثوب الناس (¬3). ومن صلاة الأوابين أيضًا - وهم الصالحون كما علمت - صلاة الضحى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاةُ الأَوَّابِيْنَ حِيْن تَرْمَضُ الْفِصالُ". رواه الإمام أحمد، ومسلم عن زيد بن أرقم منه، وعبد بن حميد عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه (¬4). ¬
ورمض الفصال - جمع فصيل: وهو صغير الإبل -: حين يشتد حر الرمضاء، وذلك عند ارتفاع النهار (¬1). وروى الحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُحافِظُ عَلَى صَلاةِ الضُّحَىْ إِلاَّ أَوَّابٌ" (¬2). وروى البزار، والبيهقي في "الشعب" عن أنس - رضي الله عنه - قال: أوصاني النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمس خصال، قال: "أَسْبغِ الْوُضُوْءَ يَزِدْ فِيْ عُمُرِكَ، وَسَلِّمْ عَلَىْ مَنْ لَقِيْتَ مِنْ أُمَّتِيْ تَكْثُرْ حَسَناتُكَ، وَإِذا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَسَلّمْ عَلَىْ أَهْلِ بَيْتِكَ يَكْثُرْ خَيْرُ بَيْتِكَ، وَصَلِّ صَلاةَ الضُّحَىْ فَإِنَّها صَلاةُ الأَوَّابِيْنَ قَبْلَكَ، يا أَنسُ! ارْحَمِ الصَّغِيْرَ، وَوَقِّرِ الْكَبِيْرَ، تَكُنْ مِنْ رُفَقائِيَ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬3). ولا تعارض بين ذلك وبين حديث ابن المُنكدر المتقدم فيما بين المغرب والعشاء؛ أي: لا بُعْدَ أن يكون للأوابين صلاتان وأكثر. على أن صلاة الضحى وصلاة ما بين المغرب والعشاء متقابلتان في الوقت؛ لأن إحداهما في أول طرفي النهار، والآخر في أول طرفي الليل، فصلاة الضُّحى صلاة الأوابين نهارًا، وصلاة ما بين العشاءين صلاتهم ليلاً. ¬
ولهم صلوات أخرى: فروى البيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُحافِظُ عَلَىْ رَكْعَتِيِ الفجر (¬1) إِلاَّ أَوَّابٌ" (¬2). وعن عبد الله بن بُريدة قال: كان يقال: صلاة الأوابين، وصلاة المنيبين، وصلاة التوابين؛ فصلاة الأوابين ركعتان قبل الصبح، وصلاة المنيبين ركعتا الضحى، وصلاة التوابين ركعتان قبل صلاة المغرب عند النداء. وروى عبد الرزاق عن عروة بن رويم رحمه الله تعالى قال: من صلى ركعتي الفجر، وصلى الصبح في جماعة، كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأوابين، وكتب يومئذ في وفد المتقين (¬3). وروى ابن المبارك عن عثمان بن أبي سودة مرسلاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صَلاةُ الأَوَّابِيْنَ - وقال: صَلاةُ الأَبْرارِ - رَكْعَتانِ إِذا دَخَلْتَ بَيْتَكَ، وَرَكْعَتانِ إِذا خَرَجْتَ" (¬4). وروى أبو نعيم: ثنا أحمد بن إسحاق، ثنا أبو بكر بن أبي داود [-بإسناده- عن عثمان بن أبي سودة] (¬5) قال: يقال: صلاة الأوابين ¬
ركعتان حين تخرج من بيتك، وركعتان حين تدخل (¬1). وروى عبد الرزاق عن أبي سفيان مرسلاً، وأبو نعيم عن ابن أبي أوفى - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا فاءَتِ الأَفْياءُ، وَهَبَّتِ الأَرْواحُ، فَاذْكُرُوْا حَوائِجَكُمْ؛ فَإِنَّها ساعَةُ الأَوَّابِيْنَ" (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه رحمهما الله تعالى قال: صلاة الأوابين بعد زوال الشمس (¬3). وروى الخطيب في "التلخيص" عن جعفر بن محمَّد قال: عليكم بالورع، والاجتهاد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الصُّحبة لمن صحبكم؛ فإن ذلك من سنن الأوابين. وروى أبو نعيم عن عمرو بن دينار رحمه الله تعالى قال: الأواب الحفيظ الذي لا يقوم من مجلسه إلا استغفر الله؛ يقول: اللهم اغفر لنا ما أصبنا في مجلسنا سبحان الله وبحمده (¬4). وروى ابن أبي شيبة عن عمرو بن دينار، عن عُبيد بن عُمير قال: كنا نعد الأواب الحفيظ الذي إذا قام من مجلسه قال: اللهم ¬
اغفر لي ما أصبت في مجلسي (¬1). وروي عن عبيد بن عمير - أيضًا - في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} [الإسراء: 25]، وفي قوله: {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)} [ق: 32]؛ قال: الأواب الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها (¬2). وروى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "التوبة" عن مجاهد قال: الأواب الحفيظ الذي يذنب سراً، ثم يتوب [منه] (¬3) سرًا (¬4). ورواه عنه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" في تفسير قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} [الإسراء: 25]، (¬5). وروي في الأَوْبِ أقوال أخرى مذكورة في مَحَالِّها (¬6). ¬
وقوله تعالى في الآية السابقة في ذكر أوصاف الصالحين: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (114)} [آل عمران: 114]، هذا أصل أحوال الصَّالحين. ولو جاء العبد بكل عمل صالح - وهو لا يؤمن بالله، أو يكذب باليوم الآخر - لا يقبل منه شيء. قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23] وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)} [محمد: 1]. وقوله تعالى في الآية: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (114)} [آل عمران: 114]، لا شك أن من شأن التاجر المصلح النصيحة لإخوانه المؤمنين، ولا يخفى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص النصائح، بل هو من كمال الإيمان المؤسَّس عليه قواعد الصلاح. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ رَأَىْ مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيَّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ؛ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيْمانِ". رواه مسلم، وغيره عن [أبي سعيد] الخدري رضي الله تعالى عنه (¬1). ¬
قال ابن الحاج في "المدخل": ورد أن موسى عليه السلام مر على قرية وقد أهلكها الله تعالى فقال: يا رب! كيف أهلكتهم وكنت أعرف منهم رجلاً صالحاً؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى! إنه لم يغيرْ لي منكرًا (¬1)؛ أي: فلم يكمل صلاحه (¬2). وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: يذهب الصالحون، ويبقى أهل الرِّيَب، قالوا: يا أبا عبد الرَّحمن! ومن أهل الرِّيَب؟ قال: قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر (¬3). وقوله تعالى: {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ (114)} [آل عمران: 114]؛ اعلم أن من تمام صلاحية التاجر بماله أن يبادر إلى اقتناص الأرباح، والفوائد مهما سمع بها، وإلا فإن التهاون ربما فوَّت عليه أرباحاً كثيرة، على أن التأني مطلوب إلا في أعمال الآخرة؛ قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (148)} [البقرة: 148]. وقال تعالى بعد أن ذكر طائفة من الأنبياء عليهم السلام: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ (90)} [الأنبياء: 90]، والآيات في ذلك معروفة. ¬
وقد قيل: [من السريع] سَابِقْ إِلَىْ الْخَيْرِ وَبَادِرْ بِهِ ... فَإِنَّمَا خَلْفَكَ مَا تَعْلَمُ وَقَدِّمِ الْخَيْرَ فَكُلُّ امْرِئٍ ... عَلَىْ الَّذِيْ قَدَّمَهُ يَقْدُمُ (¬1) والخيرات شاملة لسائر أعمال البر من صلاةٍ، وصيامٍ، وحجٍّ، وجهادٍ، وصدقةٍ، وصلةٍ، وإحسانٍ ... إلى غير ذلك، سواء كان فرضاً أو نفلاً. ومنها التجنب عن سائر الأعمال القبيحات، قولاً وفعلاً ونية. وهذا - أيضًا - مفهوم من الآية؛ لأنه من كمال الإيمان، وهو من أَجَلِّ الخيرات، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتَّقِ الْمَحارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ". رواه الإمام أحمد، والترمذي، والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬2). وقد علمت أن التقوى أخص أعمال الصَّالحين، وأي تقوى لمن لا يتقى المحارم، بل الشبهات؛ بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُوْنَ مِنَ الْمُتَّقِيْنَ حَتَّىْ يَدَعَ ما لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِما بِهِ بَأْسٌ". رواه ابن ماجه، والترمذي، والحاكم وصححاه، من حديث ¬
عطية السعدي رضي الله تعالى عنه (¬1). وقال أبو العتاهية: [من الطويل] إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَكْفُفْ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ ... فَلَيْسَ لَهُ مَا عاشَ مِنْهُمْ مُصَالِحُ إِذَا كَفَّ عَبْدُ اللهِ عَمَّا يَضُرُّهُ ... وَأَكْثَرَ ذِكْرَ اللهِ فَالْعَبْدُ صَالِحُ إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَمْدَحْهُ حُسْنُ فِعَالِهِ ... فَلَيْسَ لَهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مادحُ وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "العقل" عن الضَّحَّاك بن مزاحم رحمه الله تعالى قال: ما بلغني عن رجل صلاح فاعتددت بصلاحه حتى أسأل عن خِلالٍ ثلاث، فإن تمت تم له صلاحه، [وإن نقصت منه خصلة كانت وصمة عليه في صلاحه] (¬2)؛ أسأل عن عقله فإن الأحمق يفعل صلاحاً (¬3) عنده ربما هلك وأهلك فِئَاماً من الناس؛ يمر بالمجلس فلا يسلم، فإذا قيل له، قال: من أهل الدنيا، ويترك عيادة ¬
الرجل من جيرانه، فإذا قيل له، قال: من أهل الدنيا، ويدع الجنازة لا يتبعها لمثل ذلك، ويدع طعام أبيه يبرد (¬1)، فإذا هو قد صار عاقًا. قال: وأسأل عن النعمة العظيمة التي لا نعمة أعظم منها ولا أوضح؛ الإسلام، فإن كان أحسن احتمال النعمة، ولم يدخلها بدعة ولا زيغًا، وإلا لم أعتد به فيما سوى ذلك. قال: وأسأل عن وجه معاشه، فإن لم يكن له معاش، لم آمن عليه أن يأكل بدينه، ولا آمن عليه أن تغلب عليه الشهوات فيأكل الحرام والشبهات؛ فأي خير بعد هذا؟ (¬2) وروى الدينوري في "مجالسته"، والبيهقي في "شعبه"، والخطيب في "تاريخه" عن يحيى بن معين رحمه الله تعالى: أنه أنشد لنفسه: [من الكامل] الْمَالُ يَذْهَبُ حِلُّهُ وَحَرَامُه ... يَوْماً وَيَبْقَىْ فِيْ غَدٍ آثامُهُ لَيْسَ التَّقِيُّ بِمُتَّقٍ لإِلَهِهِ ... حَتَّىْ يَطِيْبَ شَرَابُهُ وَطَعَامُهُ وَيَطِيْبَ مَا تَحْوِيْ وَتَكْسِبُ كَفُّهُ ... وَيَكُوْنَ فِيْ حُسْنِ الْحَدِيْثِ كَلامُهُ ¬
نَطَقَ النَّبِيُّ لَنَا بِهِ عَنْ رَبِّهِ ... فَعَلَىْ النَّبِيَّ صَلاتُهُ وَسَلامُهُ (¬1) ومن أجمع الأحاديث لأعمال الصالحين: ما رواه الإمام الفقيه الزاهد الشيخ نصر المقدسي رحمه الله تعالى في كتاب "الحجة على تارك المحجة" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا ابْنَ سلامٍ! عَلَىْ كَمِ افْتَرَقَتْ بَنُوْ إِسْرائِيْلَ؟ " قال: إحدى وسبعين فرقة، واثنتين وسبعين فرقة؛ كلهم يشهد بعضهم على بعض بالضلالة. قالوا: أفلا تخبرنا يا رسول الله لو قد خرجت من الدنيا فتفرقت أمتك، على ما يصير أمرهم؟ فقال نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ بَنِيْ إِسْرائِيْلَ تَفَرَّقُوْا عَلَىْ ما قُلْتَ، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِيْ عَلَىْ ما افْتَرَقَتْ عَلَيْهِ بَنُوْ إِسْرائِيْلَ، وَسَتِزْيُد فِرْقَةٌ واحِدَةٌ لَمْ تَكُنْ فِيْ بَنِيْ إِسْرائِيْلَ". قال ابن سلام: أفلا تدلنا على قوم ترضى لنا نخبرُ أولادنا، وتخبرُ أولادُنا أولادَهم، فنكون فيهم في آخر الزمان؟ قال - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انْظُرُوْا إِلَىْ قَوْمٍ يُصَلُّوْنَ الْخَمْسَ فِيْ جَماعَةٍ، وَيصُوْمُوْنَ رَمَضانَ، وَيَأْتُوْنَ الْجُمُعَةَ، وَيَعُوْدُوْنَ الْمَرِيْضَ، وَيُشَيِّعُوْنَ الْجَنائِزَ، جيْرانُهُمْ آمِنُوْنَ مِنْ أَيْدِيْهِمْ وَألسِنَتِهِمْ وَبَوائِقِهِمْ، فَتكُوْنُوْنَ مِنْ أُوْلَئِكَ؛ فَإِنَّهمْ قَوْمٌ صالِحُوْنَ". ¬
قيل: يا رسول الله! ومن هم؟ قال: "الْمُتَّقُوْنَ" (¬1). وليس المراد أن الصالحين ليس لهم من الأخلاق والأعمال إلا ما ذكر؛ بدليل قوله آخرًا: "هُمُ الْمُتَّقُوْنَ"، وبدليل أنه وصفهم بإقامة الصَّلوات في الجماعة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (45)} [العنكبوت: 45]. وفي الحديث إشارة لطيفة، وهي أن هذه الخصال التي اشتمل الحديث عليها لا تجتمع في عبد إلا كان صالحًا موفقا في سائر أعماله، فعلامة صلاح العبد اجتماع هذه الخصال فيه؛ فافهم. ¬
فصل
فَصْلٌ هذا الذي أشرنا إليه من أعمال الصَّالحين وأوصافهم، إنما هو أصول أعمالهم، ومجامع أخلاقهم، وقد أحببت أن أشير إلى جملة صالحة من خصالهم، وشمائلهم، ومجامع أخلاقهم على وجه الإيجاز والتفصيل، دون الإخلال والتطويل؛ آخذًا لذلك، أو لمعظمه من كتاب الشيخ الإمام شيخ الإسلام؛ أبي زكريَّا يحيى بن شرف بن مري النواوي - رحمه الله تعالى، ورضي عنه - المسمى بِـ: "رياض الصالحين"؛ فإنه ذكر فيه معظم آدابهم وأخلاقهم، وقال فيه: وأرجو إن تم هذا الكتاب أن يكون - إن شاء الله تعالى - سائقًا للمعتني به إلى الخيرات، حاجزاً له عن أنواع القبائح والمهلكات (¬1). وقال في خطبته - أيضًا -: ولقد أحسن القائل: [من الرمل] إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا فُطُنًا ... طَلَّقُوا الدُّنْيِاَ وَخَافُوا الْفِتَنا ¬
نَظَرُوْا فِيْها فَلَمَّا عَلِمُوْا ... أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحًىّ وَطَنا جَعَلُوْها لُجَّةً وَاتَّخَذُوْا ... صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيْها سُفُنا (¬1) ولقد روينا هذا الكتاب، وسائر كتب النووي رحمه الله تعالى عن جماعة، أجَلُّهُم شيخ الإسلام الوالد قال: أنا بها شيخ الإسلام البرهان ابن أبي شريف، عن الشيخ العلامة زين الدين القبابي المصري، عن ابن الخباز، عن النووي بكل كتبه، وكلها عمدة في بابها، لا يستغني طالبُ علمٍ وتقيٌّ عن طِلابِها. وقد جمعتها في قصيدة لا بأس بإثباتها في هذا المقام، وكان نظمي لها قبل تمام الألف بأكثر من عام، فقلت: [من الوافر] سَقَىْ قَبْرًا بِهِ سَكَنَ النَّوَاوِيْ ... حَيَا مُزْنٍ عَنِ الْغُفْرَانِ رَاوِيْ فَقَدْ نَشَرَ الْعُلُوْمَ لِطالِبِيْها ... وَأَصْبَحَ وَهْوَ لِلأَفْضالِ طَاوِيْ ¬
وَكَمْ أَبْدَىْ لَهُمْ تَصْنِيْفَ عِلْمٍ ... بِهِ قَدْ شادَ رَبْعاً غَيْرَ خَاوِيْ فَـ (ـروْضَتُهُ) الَّتِيْ زَهُرَتْ بِزَهْرٍ ... يَفُوْقُ الزَّهْرَ لا لاوٍ وَذَاوِيْ وَفِيْ (الْمِنْهَاجِ) كَمْ أَبْدَىْ عُلُوْماً ... وَلِمْ لا وَهْوَ لِلتَّحْقِيْقِ حَاوِيْ (دَقَائِقُهُ) زَهَتْ وَلَهَا نَظِيْرٌ ... لِرَوْضَتِهِ رَوَاها كُلُّ رَاوِيْ وَفِيْ (شَرْحِ الصَّحِيْحِ لِمُسْلِمٍ) كَمْ ... لِدَاءِ الْجَهْلِ بَيَّنَ مَا يُدَاوِيْ (كِتَابُ الْمُبْهَمَاتِ) وَ (أَرْبَعُوْهُ) الَّـ ... ـتِيْ يَأْوِيْ إِلَيْهَا كُلُّ آوِيْ وَفِي (الأَذْكَارِ) كَمْ مِنْ مُنْجِيَاتٍ ... لِمُتَّبعِ السَّبِيْلِ مِنَ الْمَهَاوِيْ وَ (آدَابُ الْفَتَىْ) الْمُفْتِيْ (رِياضٌ) ... إِلَيْهَا الصَّالِحُوْنَ الْغُرُّ تَاوِيْ وَفِيْ (الإِرْشادِ) كَمْ أَبْدَىْ رَشَاداً ... لِمَنْ لِصِنَاعَةِ التَّحْدِيْثِ هَاوِيْ
وَفِيْ (تَقْرِيْبِهِ) كَمْ دَانَ بُعْدٌ ... وَفِيْ (تَيْسِيْره) لِلْيُسْرِ زَاوِيْ وَفِيْ (الطَّبَقَاتِ) لِلْفُقَهَاءِ وَافِيْ ... بِـ (ـتَهْذِيْبٍ) سَمِيْنٍ غَيْرِ ضَاوِيْ وَ (تَرْجَمَةُ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ) الَّـ ... ـتِيْ فَاقَتْ سُلافتهَا الْقَهَاوِيْ وَ (تِبْيَانٌ) لِقَارِئِ ذِكْرِ رَبِّي ... نَفِيْسٌ جَامعٌ ثُمَّ (الْفَتَاوِيْ) (مَنَاسِكُ) سِتَّةٌ تَهْدِيْ الْبَرَايَا ... كَنَجْمِ فَيْ الدَّيَاجِيْ غَيْرِ هَاوِيْ وَفِيْ (تَحْرِيْرهِ) كَمْ مُشْكِلاتٍ ... عَلَىْ التَّنْبِيْهِ تُكْشَفُ لِلْمُهَاوِيْ (ضَوَابِطُ) ثُمَّ (إِمْلاءٌ) و (جُزْءٌ) ... لِمَنْ هُوَ لاغْتِرَافِ الْمَاءِ نَاوِيْ وَذَا مَا قَدْ تَكَمَّلَ وَانْتهَىْ مِنْ ... تَآلِيْفٍ كَرِيْمَاتِ الْمَثَاوِيْ وَفِيْ (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) حُسْنُ ضَبْطٍ ... بِهِ عَرَفَ الْوَرَىْ قَدْرَ النَّوَاوِيْ
وَ (مُخْتَصَرٌ) نَفِيْسٌ مِنْهُ أَيْضًا ... (كِتَابَ خُلاصَةِ الأَحْكامِ) حَاوِيْ وَألَّفَ بَعْضَ (شَرْح لِلْبُخَارِيْ) ... وَ (لِلتَّنْبِيْهِ شَرْحاً) غَيْرَ نَاوِيْ وَبِـ (الْبُسْتَانِ) خَتْمُ السِّرِّ يَحْلُوْ ... فَخُذْ بِالْعِلْمِ وَاطَّرِحِ الدَّعَاوِيْ وَإنَّ لَهُ سِوَىْ مَا قَدْ ذَكَرْنَا ... كَمَا قَدْ قَالَهُ الشَّمْسُ السَّخَاوِيْ إِلَىْ الْخَمْسِيْنَ قَدْ وَصَلَتْ وَإِنَّا ... لَنُلفِيْهَاَ كَثِيْرَاتِ الْجَدَاوِيْ وَنَجْمُ الدّيْنِ نَاظِمُهَا عُقُوْدًا ... يَفُوْقُ ضِيَاؤُهَا النَّجْمَ السَّمَاوِيْ وَبَدْرُ الدّيْنِ وَالِدُهُ وَعَنْه ... رَوَاها وَهْوَ لَيْسَ لَهُ مُسَاوِيْ عَنِ الْبُرْهَانِ وُهْوَ عَنِ الْقِبَابِيْ ... تَلَقَّاهَا بِثَبْتٍ وَهْوَ رَاوِيْ عَنِ الشَّيْخِ ابْنِ خَبَّازِ الْمُزَكَّىْ ... لَدَىْ الْعُلَمَاءِ عَنْ وَصْمِ الْمَسَاوِيْ
عَنِ الْحَبْرِ الإِمَامِ هُوَ النَّوَاوِيْ ... جَزَاهُ اللهُ جَناتِ الْمَآوِيْ وفي تسمية النووي رحمه الله تعالى كتابه المشار إليه "رياض الصَّالحين" إشارة إلى أن الصالحين ترتاح قلوبهم، وتنشرح صدورهم للأعمال الصالحة المذكورة في هذا الكتاب، كما ترتاح القلوب وتنشرح الصدور في الرياض التي هي جمع روض، أو روضة، وهما البستان، وهذا كما شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - حِلَقَ الذكْرِ بالرياض في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا مَرَرْتُمْ بِرِياضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوْا"، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: "حِلَقُ الذِّكْرِ". رواه الإمام أحمد، والترمذي، والبيهقي في "الشعب" من حديث أنس - رضي الله عنه - (¬1). وينبغي أن نسرح في هذه الرياض، وننتهل من أعذب الحِياض، ونذكر من شمائل الصَّالحين ما تنقاد له النفوس وترتاض، وتحيى به القلوب من الأمراض. وقبل ذلك نذكر مقدمة لطيفة، وهي: إن التشبه بالصالحين في هذه الأزمنة يشق على النفوس كثيرًا، فلا ينبغي للعبد أن يدع نفسه انتظاراً لفيئتها إلى الخيرة فمن النفوس الآن لا تكاد تنقاد إلى خير إلا بأعظم أنواع الزجر والتخويف، وأشد ألوان التوبيخ والتعنيف. ¬
ومنذ زمان قديم قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: إن الصَّالحين فيما مضى كانت نفوسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا إلا على كرهٍ، فينبغي لنا أن نُكْرِهَهَا. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "محاسبة النفس" (¬1). وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] على القول (¬2) بأن المراد في الآية مجاهدة النفس؛ لأنه أفضل الجهاد؛ أي: والذين جاهدوا أنفسهم في مرضاتنا لنهدينهم سبلنا التي تُوصِل عبادنا الصالحين إلينا؛ فعليك بحمل النفس على أخلاق الصَّالحين وأعمالهم (¬3). وقد روى الأستاذ أبو القاسم القيشري رحمه الله في "رسالته" عن إبراهيم بن أدهم - رحمه الله تعالى، ورضي عنه - قال: لن ينال ¬
الرجل درجة الصَّالحين حتى يجوز ست عقبات: أوله: يغلق باب النعمة، ويفتح باب الشِّدة. والثاني: يغلق باب العز، ويفتح باب الذُّل. والثالث: يغلق باب الراحة، ويفتح باب الجهد. والرابع: يغلق باب النوم، ويفتح باب السهر. والخامس: يغلق باب الغنى، ويفتح باب الفقر. والسادس: يغلق باب الأمل، ويفتح باب استعداد الموت (¬1). انتهى. ومع هذا لا بد من طلب التوفيق والمعونة من الله تعالى على سلوك طريق الصَّالحين؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود: 88]؛ أي: وما توفيقي في صلاح نفسي المفهوم من قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، وإلى إصلاح مَنْ سِوَايَ إلا بالله. وقوله: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ} [هود: 88]؛ أي: لنفسي ولكم، لكن لا يتم لي ذلك إلا بالتوفيق من الله تعالى. ¬
1 - فمنها: الإخلاص
وقد روى أبو نعيم في "الحلية" بإسناد ضعيف، عن علي - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! أوصني، فقال: "قُلْ: رَبِّيَ اللهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ "، قلت: ربي الله، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، قال: "لِيَهْنِكَ [العلم] يا أَبا الْحَسَنِ، لَقَدْ شَرِبْتَ الْعِلْمَ شُرْبا، وَنهلْتَهُ نَهْلًا" (¬1). وقال أبو إسحاق الفَزَاري: ما أردت أمراً قط فتلوت عنده هذه الآية إلا عزم علي الرشد؛ {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود: 88]. رواه أبو الشيخ (¬2). ومن هنا نحسن المقال في تفصيل ما للصَّالحين من الخلال: 1 - فمنها: الإخلاص، وإحضار النية في جميع الأعمال، والأقوال، والأفعال. قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [البينة: 5]. وروى الشيخان، وغيرهما عن عمر رضي الله تعالى عنه: أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّما الأَعْمالُ بِالنّيَّاتِ، وإِنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَىْ" (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن سلمان الفارسي رضي الله ¬
تعالى عنه قال: "لكل امرئ جَوَّانِيّ وبَرَّانِىٌّ؛ فمن يصلح جَوَّانِيَّهِ يصلح الله بَرَّانِيَّهِ، ومن يفسد جَوَّانِيَّه يفسد الله بَرَّانِيَّه" (¬1). وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: لا يزال العبد بخير ما دام إذا قال قال لله (¬2). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن مُطَرِّف رحمه الله تعالى قال: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته، قال الله - عز وجل -: هذا عبدي حقًا (¬3). وروى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "الإخلاص والنية" عن محمَّد بن الوليد قال: من عمر بن عبد العزيز برجل في يده حصى يقول: اللهم زوجني من الحور العين، فقام عليه عمر فقال: بئس المخاطب أنت، ألا ألقيت الحصا، وأخلصت إلى الله تعالى الدُّعاء (¬4). وعن الحسن رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)} [العنكبوت: 27]؛ قال: بنيته الصادقة؛ كتب بها الأجر في الآخرة (¬5). ¬
وعن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال: من هم بصلاة أو صيام أو حج أو عمرة أو غزو، فحِيْل بينه وبين ذلك، بلَّغه الله ما نوى (¬1). واعلم أنَّ الصَّالحين لا يتحركون بحركة إلا بنية حسنة، ولا يتم التشبه بهم إلا بحسن النية والإخلاص، وإصلاح القلب. وقد قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لا يشبه الزي الزي حتى تشبه القلوب القلوب. رواه ابن أبي شيبة، وغيره (¬2). وروى ابن أبي الدُّنيا عن أبي يزيد المديني قال: كان من دعاء أبي بكر الصِّديق رضي الله تعالى عنه: اللَّهُمَّ هب لي إيماناً ويقيناً ومعافاة ونية (¬3). وعن أبي عمران الجَوني موقوفاً عليه، ومتصلاً، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: تصعد الملائكة بالأعمال فتصف في سماء الدُّنيا، فينادي الملك: ألق تلك الصحيفة، ألق تلك الصحيفة، وينادي الملك: ألق تلك الصحيفة، ألق تلك الصحيفة، فتقول الملائكة عليهم السَّلام: ربنا! قالوا خيراً، وحفظناه عليهم، قال: فيقول الله تعالى: لم يرد به وجهي، وينادي الملك: اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول: يا رب! ¬
2 - ومنها: التوبة
إنه لم يعمله، فيقول: إنه نواه، إنه نواه (¬1). وروى ابن السمعاني في "أماليه" لبعضهم: [من مجزوء الكامل] أَيُّهَا الْقَارِعُ بِالإِخـ ... ـلاصِ أَبْوَابَ الْخَلاصِ شَجَرُ الإِخْلاصِ مَحْمُوْ ... دُ الْجَنَىْ يَوْمَ الْقِصَاصِ 2 - ومنها: التوبة: قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31]. وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)} [الأنعام: 54]. فالتوبة أول مقامات الصَّالحين، ثم هم عليها دائمون حتَّى يلاقوا الله تعالى صالحين بها للقائه؛ لما في الحديث: "التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ " (¬2). ¬
3 - ومنها: الصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى قضائه
وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "وَاللهِ إِنِّيْ لأَسْتَغْفِرُ اللهَ، وَأتوْبُ إِلَيْهِ فِيْ الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِيْنَ مَرَةً" (¬1). وسنذكر خاتمة في آخر الكتاب في التوبة. 3 - ومنها: الصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى قضائه: قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10] وروى الشيخان عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّه اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبّرْهُ اللهُ، وَما أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطاءً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ" (¬2). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبي الدَّرداء - رضي الله عنه -: أنه كان يقول: إن الدّنيا خوَّانة لا يدوم نعيمها، ولا تؤمن فجعتها، ومن يعش يبتلى، ومن يَتَفَقَّد يَفْقِد، ومن لا يُعِدَّ لفجائع الأمور صبراً يعجز. وروى أبو القاسم الأصبهاني في "ترغيبه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُؤْتَىْ الرَّجُلُ فِيْ قَبْرِه؛ فَإِذا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ دَفَعَهُ تِلاوَةُ الْقُرْاَنِ، وإذا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ يَدَيْهِ دَفَعَهُ الصَّدَقَةُ، وَإِذا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ دَفَعَهُ مَشْيُهُ إِلَىْ الْمَساجِدِ، وَالصَّبْرُ حَجْزَةٌ"، وقال: "أَما لَوْ رَأَيْتُ خَلَلاً لَكُنْتُ صاحِبَهُ" (¬3). ¬
4 - ومنها: الرضا بقضاء الله تعالى
وقوله: "حَجْزَةٌ" - بفتح الحاء المهملة، وإسكان الجيم -؛ أي: ناحية تنتظر إن لم يجد من الأعمال ما يدفع ما يأتيه من المكروه كان كافيًا له في ذلك، سادًا لخلله. وما أحسن قولَ الإمام الفقيه رشيد الدين أبي محمد عبد الوهاب بن ظافر الأزدي المعروف بابن رواج، وأنشده في "أربعينه": [من الطويل] إِذَا أُعْطِيَ الإِنْسَانُ صَبْرًا وَعِفَّةً ... وَنَقْدَ أُمُوْرٍ بِالصَّوابِ وَجَادَا فَذَاكَ الَّذِيْ حازَ الْمَكَارِمَ كُلَّهَا ... وَحَازَ مَقَامَ الصَّالِحِيْنَ وَزَادَا 4 - ومنها: الرضا بقضاء الله تعالى: قال الله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8]. وروى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي عن العبَّاس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه: أن النَبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذاقَ طَعْمَ الإِيْمانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِيْناً، وَبِمُحَمَّدِ رَسُوْلاً" (¬1). وروى ابن عساكر في "تاريخه"، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ رَضِيَ عَنِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ" (¬2). ¬
5 - ومنها: الصدق
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: الراضي لا يتمنى فوق منزلته (¬1). وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: الراضي لا يتمنى خلاف حاله (¬2). رواهما ابن أبي الدُّنيا في كتاب "الرضا". 5 - ومنها: الصدق: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. وروى الإمام أحمد، وابن أبي الدّنيا، والطَّبرانيّ، والبيهقي، بأسانيد حسنة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَرْبَعٌ إِذا كُنَّ فِيْكَ فَلا عَلَيْكَ ما فاتَكَ مِنَ الدّنْيا؛ حِفْظُ أَمانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيْثٍ، وَحُسْنُ خَلِيْقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِيْ طُعْمَةٍ" (¬3). وروى الأصبهاني عن أبي حاتم الرَّازيّ قال: قلت لأحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه: كيف نجوت من سيف الواثق، وعصا المعتصم؟ فقال لي: بالصدق؛ لو وضع الصدق على جرح لبرئ (¬4). ¬
6 - ومنها: المراقبة
وسنشيع الكلام في الصدق في التشبه بالصديقين. 6 - ومنها: المراقبة: قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: 14]. وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإِحْسانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَك تَراهُ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُن تَراهُ فَإِنَّهُ يَراكَ" (¬1). وهذا معنى المراقبة أن تعلم أن الله يراك، وأنه أقرب إليك من حبل الوريد. وأنشدوا: [من الخفيف] إِنَّ مَنْ يَرْكَبِ الْفَوَاحِشَ سِرًّا ... حِيْنَ يَخْلُوْ بِنَفْسِهِ غَيْرُ خالِيْ كَيْفَ يَخْلُوْ وَعِنْدَهُ كاتِبَاهُ ... شَاهِدَاهُ وَرَبهُ ذُوْ الْجَلالِ (¬2) 7 - ومنها: الشكر: قال الله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152]. وقال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. وروى مسلم عن صهيب رضي الله تعالى عنه قال: قال ¬
8 - ومنها: السجود شكرا عند هجوم نعمة، واندفاع نقمة، ورؤية مبتلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ خَيْرٌ؛ إِنْ أَصابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كانَ خَيْراً، وَإِنْ أَصابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كانَ خَيْراً" (¬1). وروى البيهقي عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: أنه قال: عليكم بالشكر؛ فإنه قل قوم كانت عليهم من الله نعمة فزالت عنهم، ثم عادت إليهم (¬2). وروى الأصبهاني في "الترغيب" عنه قال: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى رجلاً فقال: "أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ يَشْغَلْكَ عَمَّا سِواهُ، وَأَكْثِرِ الدُّعاءَ؛ فَإِنَّكَ لا تَدْرِيْ مَتَىْ يُسْتَجابُ لَكَ، وَأَكْثِرِ الشُّكْرَ؛ فَإِنَّهُ زِيادَةٌ" (¬3). وحقيقة الشكر الطاعة، واجتناب المعصية. 8 - ومنها: السجود شكراً عند هجوم نعمة، واندفاع نقمة، ورؤية مبتلى: وروى الدينوري عن المدايني قال: تكلم رجل عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأكثر السقط في كلامه، فالتفت ابن عباس إلى عبد له فأعتقه، فقيل له: لِمَ أعتقت عبدك؟ قال: شكراً لله تعالى إذ لم يجعلني مثل هذا (¬4). ¬
9 - ومنها: التقوى
قال: ثم أنشد المدايني: [من الكامل] عَيُّ الشَّرِيْفِ يَشِيْنُ مَنْصِبَهُ ... وَتَرَىْ الْوَضِيع يَزِيْنُهُ أَدَبُهْ (¬1) 9 - ومنها: التقوى: وقد أشبعنا الكلام في ذلك فيما سبق. قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وروى أبو نعيم عن على رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اتَّقَىْ اللهَ عاشَ قَوِيًّا، وَسارَ فِيْ بِلادِهِ آمِناً" (¬2). وروى ابن أبي الدُّنيا عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: من اتقى الله وقاه (¬3). وأخرجه ابن النجار من حديث ابن عباس مرفوعًا، وقال: "وَقاهُ كُلَّ شَيءٍ". وأنشدوا: [من السريع] مَا يَصْنعُ الْعَبْدُ بِعِزِّ الْغِنَىْ ... وَالْعِزُّ كُلُّ الْعِزِّ لِلْمُتَّقِيْ مَنْ عَرَفَ اللهَ فَلَمْ تُغْنِهِ ... مَعْرِفَةُ اللهِ فَذَاكَ الشَّقِيْ ¬
تنبيه
* تنبِيْهٌ: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ} [آل عمران: 102]. وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. قال النووي: هذه الآية مبينة للمراد من الأولى (¬1). 10 - ومنها: الإحسان: وهو كما في حديث "الصحيحين": "أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَراهُ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإِنَّهُ يَراكَ " (¬2). ويدخل فيه الإحسان إلى الأهل، والولد، والخادم، والقريب، والجار، وسائر الخلق إذا راقبت في ذلك وجه الله؛ لأن ذلك كله عبادة. وثمرة الإحسان راجعة إلى المحسن؛ لقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195]. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} [الذاريات: 15 - 19]؛ فوصفهم بإقامة الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، والصَّدقات، والاستغفار بالأسحار، وقيام الليل، وذلك بعض صفات المحسنين. ¬
تنبيه
وقال ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} [الذاريات: 19]؛ قال: سوى الزكاة؛ يصل به رحماً، أو يقري به ضيفًا، أو يعين به محرومًا. رواه ابن أبي حاتم (¬1). * تَنْبِيْهٌ: قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} [الذاريات: 17] روى ابن أبي شيبة، وابن جرير، وغيرهما عن الضَّحَّاك رحمه الله تعالى: أنه كان يقف على قوله: {قَلِيلاً}؛ يعني: إن المتقين المحسنين هم القليل من الناس، ثم استأنف: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} [الذاريات: 17] (¬2)؛ والهجوع النوم؛ أي: ما ينامون من الليل؛ أي: يحيون الليل بالصَّلاة والعبادة. ولا شك في قلة المحسنين، والصالحين، كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]. 11 - ومنها: اليقين: قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 99]؛ يجوز أن يكون معناه: اجتهد في العبادة حتى تؤدي بك العبادة إلى اليقين. وقال تعالى {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 4، 5]. ¬
12 - ومنها: التوكل
وروى ابن أبي الدُّنيا عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، وابن لال في "مكارم الأخلاق" عن معاوية بن حَيْدَة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَجا أَوَّلُ هَذهِ الأُمَّةِ بِالْيَقِيْنِ وَالزُّهْدِ، وَيَهْلِكُ آخِرُها بِالْبُخْلِ وَالأَمَلِ" (¬1). وروى ابن المبارك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن الفرج والروح في اليقين والرضا، وإن الهم والحزن في الشك والسخط (¬2). ورواه القشيري في "الرسالة" عنه مرفوعاً (¬3)، من حديث [ابن مسعود] (¬4). 12 - ومنها: التوكل: قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]؛ أي: كافيه. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوام أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَه الطَّيْرِ" (¬1)، قيل: معناه أنهم متوكلون، وقيل؛ قلوبهم رقيقة (¬2). وروى الإمام أحمد، والترمذي وصححه، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم في "صحيحهم" عن عمر رضي الله تعالى عنه: أنَّه سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَوْ أَنَّكمْ تتَوَكَلُوْنَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ؛ تَغْدُوْ خِماصًا، وَتَرُوْحُ بِطانًا" (¬3). قيل: إن الطير تغدو ولا تعتمد على شيء معلوم، بل تقصد ما يرزقها الله تعالى، وهو معنى الحديث السابق: "أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ". وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى: أن الأشعريين: أبا موسى، وأبا مالك، وأبا عامر في نفر لما هاجروا قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أرملوا من الزاد، فأرسلوا رجلاً منهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعه يقرأ هذه الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]، فقال ¬
13 - ومنها: التفكر في مصنوعات الله تعالى، وفي نعمه، دون التفكر في ذاته
الرجل: ما الأشعريون بأهون الدواب على الله، فرجع ولم يدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لأصحابه: "أبشروا؛ أتاكم الغوث"، ولا يظنون إلا أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوعده، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينهما مملوءة خبزًا ولحمًا، فأكلوا منها ما شاؤوا، ثم قال بعضهم لبعض: لو أنَّا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي به حاجة، فقالوا للرجلين: اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنا قد قضينا منه حاجتنا، ثم إنهم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! ما رأينا طعامًا أكثر، ولا أطيب من طعام أرسلت به، قال: "ما أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ طَعاماً"، فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره ما صنع، وما قال لهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "ذاكَ شَيْء رَزَقَكُمُوْهُ اللهُ تَعالَىْ" (¬1). 13 - ومنها: التفكر في مصنوعات الله تعالى، وفي نعمه، دون التفكر في ذاته: قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46]. وقال تعالى في وصف أولي الألباب: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191] وروى ابن أبي الدُّنيا، وابن حبان في "صحيحه"، والأصبهاني، ¬
وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويلٌ لِمَنْ قَرَأَها وَلَمْ يَتَفَكَرْ فِيْها" (¬1). وقيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرؤهن وهو يعقلهن. رواه ابن أبي الدنيا (¬2). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. رواه أبو الشيخ في "العظمة" عنه، وابن سعد في "طبقاته"، وغيره عن أبي الدَّرداء موقوفًا، والديلمي عن أنس مرفوعًا (¬3). بل روى أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فِكْرَةُ ساعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبادَةِ سِتِّيْنَ سَنَةٍ" (¬4). والمراد بالعبادة التي التفكر خير منها، العبادة الخالية عن التفكر، وإحضار القلب، وإخلاصه. ¬
14 - ومنها: الاستقامة
وكان سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى ينشد: [من المتقارب] إِذَا الْمَرْءُ كَانَتْ لَهُ فِكْرَةٌ ... فَفِيْ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ عِبْرَةْ (¬1) وقد ذيَّلتُ عليه بقولي: [من المتقارب] فَمَا تُبْصِرُ الْعَيْنُ مِنْ كَائِنٍ ... وَلَوْ كَانَ أَدْوَنَ مِنْ ذَرَّةْ تُلاقِيْهِ إِلاَّ دليْلًا عَلَىْ ... إِلَهٍ عَظِيْم لَهُ قُدْرَةْ 14 - ومنها: الاستقامة: وسبق لنا فيها كلام. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)} [الأحقاف: 13، 14]. وروى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وغيرهم عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: "قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ " (¬2). قال النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: معنى الاستقامة لزوم ¬
15 - ومنها: المبادرة إلى الخيرات
طاعة الله، قالوا: وهي من جوامع الكلم، وهي نظام الأمور (¬1). 15 - ومنها: المبادرة إلى الخيرات: وتقدم لنا كلام في ذلك. وحسن الترمذي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "بادِرُوْا بِالأَعْمالِ سَبْعاً؛ هَلْ تَنْظُرُوْنَ إِلاَّ فَقْراً مُنْسِياً، أَوْ غِنًى مُطْغِياً، أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً، أَوْ هَرَماً مُفنِّداً، أَوْ مَوْتا مُجْهِزاً، أَوِ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ؛ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ" (¬2). 16 - ومنها: المجاهدة للكفار، وللنفس، والشيطان: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وروى الإمام أحمد، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال (¬3): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكارهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَواتِ" (¬4). ¬
17 - ومنها: المصابرة في الحرب، وعدم الفرار
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس (¬1). 17 - ومنها: المصابرة في الحرب، وعدم الفرار: وإذا ثبت أو جالد فلا يعجب بِجَلَدِه، ولا يذكر من الشجاعة فوق ما صدر منه، ولا يدَّعي الثبات قبل المباشرة. فقد روى الطبراني في "الكبير"، والحاكم عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ تَعالَىْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَيضْحَكُ إِلَيْهِمْ، وَيسْتَبْشِرُ بِهِمْ؛ الَّذِيْ إِذا انْكَشَفَتْ فِئةٌ قاتَلَ وَراءَها لِلَّهِ بِنَفْسِهِ؛ فَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ، وَإِمَّا أَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ وَيَكْفِيْهِ، فَيَقُوْلُ: انْظُرُوْا إِلَىْ عَبْدِيَ هَذا كَيْفَ صَبَرَ لِيْ بِنَفْسِهِ، وَالَّذِيْ لَهُ امْرَأةٌ حَسَنة وَفِراشٌ لَيِّنٌ حَسَنٌ، فَيَقُوْمُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَقُوْلُ: يَذَرُ شَهْوَتَهُ لِيَذْكُرَنيْ، وَلَوْ شاءَ رَقَدَ، وَالَّذِيْ إِذا كانَ فِيْ سَفَرٍ وَكانَ مَعَهُ رَكْبٌ، فَسَهِرُوْا، ثُمَّ هَجَعُوْا، قامَ مِنَ السَّحَرِ فِيْ سَرَّاءَ وَضَرَّاءَ" (¬2). وروى أبو بكر بن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث السرية، فإذا رجعوا كانوا يزيدون في الفعل، ويقولون: قاتلنا كذا، وصنعنا كذا، فأنزل الله تعالى: هو {يَا أَيُّهُا ¬
18 - ومنها: الازدياد من الخير - وخصوصا في آخر العمر - وكل نفس من أنفاس العبد يمكن أن يكون آخر عمره
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} [الصف: 2] (¬1). وروى عبد الرزاق، وغيره عن قتادة في الآية قال: بلغني أنها نزلت في الجهاد؛ كان الرجل يقول: قاتلت وفعلت، ولم يكن فعل، فوعظهم الله تعالى في ذلك أشد الموعظة (¬2). 18 - ومنها: الازدياد من الخير - وخصوصًا في آخر العمر - وكل نَفَسٍ من أنفاس العبد يمكن أن يكون آخر عمره: روى مسلم، وابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُبْعَثُ كُل عَبْدٍ عَلَىْ ما ماتَ عَلَيْهِ" (¬3). وروى الطَّبراني في "الأوسط"، وابن عدي في "الكامل"، وأبو نعيم في "الحلية" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا أتىْ عَلَيَّ يَوْمٌ لا أَزْدادُ فِيْهِ عِلْما يُقَرِّبُنِيْ إِلَىْ اللهِ تَعالَىْ، فَلا بُوْرِكَ لِيْ فِيْ طُلُوْعِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ" (¬4). ¬
19 - ومنها: الاقتصاد في العبادة
19 - ومنها: الاقتصاد في العبادة: قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ} [البقرة: 185]. وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَهْ؛ عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ ما تُطِيْقُوْنَ، فَوَاللهِ لا يَمَلُّ اللهُ حَتَّىْ تَمَلُّوْا" (¬1). ولفظ الإمام أحمد، وأبي داود، والنسائي: "اكْلَفُوْا مِنَ الْعَمَلِ ما تُطِيْقُوْنَ؛ فَإِنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حَتَّىْ تَمَلُّوْا، وإنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَىْ اللهِ أَدْوَمُهُ وإنْ قَلَّ" (¬2). وروى الدَّارقطني بإسناد ضعيف، عن الزُّبير رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا إِني بَرِيْءٌ مِنَ التَّكَلُّفِ؛ أَنا وَصالِحُوْ أُمَّتِيْ" (¬3). وروى الشيخان، وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَسِّرُوْا وَلا تُعَسِّرُوْا، وَبَشِّرُوْا وَلا تُنَفّرُوْا" (¬4). 20 - ومنها: المحافظة على الأعمال، والمداومة عليها: لحديث عائشة المذكور سابقًا، وفيه في لفظ الشيخين: "وَكانَ ¬
تنبيه
أَحَبُّ الدِّيْنِ إِلَيْهِ ما داوَمَ صاحِبُهُ عَلَيْهِ وإنْ قَلَّ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام: ما أقبح الفقر بعد الغنى، وأقبح الخطيئة مع المسكنة، وأقبح من ذلك كله رجل كان عابدًا فترك عبادة ربه (¬2). * تنبِيْهٌ: في حديث عائشة المذكور دليل على ذم المَلالة من الخير. وقوله: "فَوَاللهِ لا يَمَلُّ اللهُ حَتَّىْ تَمَلُّوْا" من باب المشاكلة، كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]؛ فإن السآمة والملالة مستحيلة في حقه سبحانه وتعالى. والمعنى: إنَّ من ملَّ من عمل الطاعة تركه الله من ثوابه، وأعرض عنه. قلت: ويحتمل أن يكون معنى الحديث: فوالله لا يمل الله فكيف تملوا؟ أي: إن الله تعالى لو كان يمل من العطاء والثواب، لكان لمللكم وجه، لكنه لا يمل فلا تملوا. ثم الملل خلق مذموم، سواء كان الملل من عمل الآخرة، أو من عمل الدنيا إذا كان فيه خير، أو من معاشرة من يلائمك، أو مما يلائمك من متاع، ونحوه. ¬
21 - ومنها: الأخذ بالرخص في محالها؛ كقصر الصلاة في السفر وجمعها، والفطر بعد مجاوزة ثلاثة مراحل، والتيمم عند فقد الماء، والمسح على الخفين.
وقد روى الأصبهاني في "ترغيبه" عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: لا أمل ثوبي ما وسعني، ولا أمل زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا أمل دابتي ما حملت رحلي؛ إن الملالة من سيئ الأخلاق. وزاد في رواية: ولا أمل جليسي ما فهم عني (¬1). 21 - ومنها: الأخذ بالرخص في محالِّها؛ كقصر الصلاة في السفر وجمعها، والفطر بعد مجاوزة ثلاثة مراحل، والتيمم عند فقد الماء، والمسح على الخفين. روى الإمام أحمد، والبيهقي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس، وابن مسعود، وأبي الدَّرداء، وواثلة، وأنس، وأبي أمامة رضي الله تعالى عنهم، وفي "الأوسط" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَىْ رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَىْ عَزائِمُهُ" (¬2). ¬
وفي بعض طرقه: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُقْبَلَ رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ الْعَبْدُ مَغْفِرَةَ رَبِّهِ" (¬1). وفي رواية عند الإمام أحمد، وابن حبان، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: "إِن اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَىْ رُخَصُهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَىْ مَعْصِيَتُهُ" (¬2). ومن الإتيان بمعصيته تتبع الرخص؛ بأن يأخذ من كل مذهب من مذاهب الأئمة أيسر ما فيه، أو تتبع سَقَطات العلماء فيأخذ بها؛ فقد نص العلماء على تحريم ذلك، ولا يخفى أن تتبع الرخص ليس من أعمال الصَّالحين (¬3). قال سليمان التيمي رحمه الله تعالى: لو أنك أخذت برخصة كل ¬
22 - ومنها: المحافظة على السنة، وآدابها
عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشَّر كله. رواه أبو نعيم (¬1). 22 - ومنها: المحافظة على السنة، وآدابها: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} [الحشر: 7] وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ أُمَّتِيْ يَدْخُلُوْنَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَىْ"، قيل: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: "مَنْ أَطَاعَنِيْ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِيْ فَقَدْ أَبَىْ" (¬2). وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: لا يزال الناس على الطريق ما اتبعوا الأثر (¬3). وقال أبو الدَّرداء - رضي الله عنه -: الدين دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولن تضل ما أخذت بالأثر. رواهما الأصبهاني. وقال الزُّهري رحمه الله تعالى: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة. رواه الدارمي، والبيهقي في "المدخل" (¬4). وقال أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى: الطريق مسدود على خلق الله إلا على المتبعين أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، المقتدين بآثاره، قال ¬
23 - ومنها: الانفياد لحكم الله تعالى
الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] رواه الشيخ نصر المقدسي في "الحجة" (¬1). 23 - ومنها: الانفياد لحكم الله تعالى: قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51]. وروى أبو داود في "مراسيله" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دُعِيَ إِلَى حَكَمٍ مِنَ الْحُكَّامِ (¬2) فَلَمْ يُجِبْ، فَهُوَ ظالِمٌ " (¬3). وأخرجه الطبراني في "الكبير" عنه، عن سَمُرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: "مَنْ دُعِيَ إِلَىْ سُلْطَانٍ فَلَمْ يُجِبْ، فَهُوَ ظَالِمٌ لا حَقَّ لَهُ" (¬4). 24 - ومنها: إحياء السنة، والدلالة على الخير، والتعاون على البر والتقوى: قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24]. ¬
25 - ومنها: حفظ اللسان والصمت إلا عن خير
وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. وروى ابن ماجه عن عمرو بن عوف رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَنِي فَعَمِلَ بِهَا النَّاسُ، كانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُوْرِهِمْ شَيْئًا" (¬1). وفي رواية: "مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَتي قَدْ أُمِيْتَتْ بَعْدِي" (¬2). وروى مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دَلَّ عَلَىْ خَيْر فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ". وأخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي أيضًا (¬3). 25 - ومنها: حفظ اللسان والصمت إلا عن خير: قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ} [النساء: 114]. وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه عن أبي شريح، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ ¬
وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً، أَوْ لِيَسْكُتْ" (¬1). وقال لقمان عليه السلام: الصمت حكمةٌ أَيُّ حِكْمَةٍ! ، وقليلٌ فاعلُه (¬2). ورواه القضاعي في "مسند التهذيب" عن أنس، والديلمي عن ابن عمر. كلاهما - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وروى أبو الشيخ في كتاب "الثواب" عن محرز بن زهير رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصَّمْتُ زَيْنٌ لِلْعَالِمِ، وَسِتْرٌ لِلْجَاهِلِ". وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن يونس بن عبيد رحمه الله ¬
26 - ومنها: النصيحة
تعالى: ما من أحد الناس يكون لسانه منه على بالٍ إلا رأيت ذلك صلاحاً في سائر عمله (¬1). وقال سفيان رحمه الله تعالى: قالوا لعيسى بن مريم عليهما السَّلام: دُلَّنا على عمل ندخل به الجنة، قال: لا تنطقوا أبدًا، قالوا: لا نستطيع ذلك، قال: فلا تنطقوا إلا بخير (¬2). وقال الأوزاعي رحمه الله تعالى: قال سليمان بن داود عليهما السلام: إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. رواهما ابن أبي الدنيا في "الصمت" (¬3). 26 - ومنها: النصيحة: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]؛ وفي ضمن ذلك وصفهم بالتناصح. وروى مسلم عن تميم الدَّاريِّ - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدِّيْنُ النَّصيْحَةُ" - قاله ثلاثًا - قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لِلَّهِ، وَلِرَسُوْلهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِيْنَ، وَعَامَّتِهِمْ" (¬4). وروى هو، والبخاري، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال ¬
27 - ومنها: العدل في الحكم، وفي سائر ما يطلب فيه العدل
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّىْ يُحِبَّ لأَخِيْهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (¬1). 27 - ومنها: العدل في الحكم، وفي سائر ما يطلب فيه العدل: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]. وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152]. وقال: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. وفي "الصحيحين" حديث: "كُلّكُمْ رَاعٍ"، وَمَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتهِ" (¬2). وروى الدينوري عن الحسن رحمه الله تعالى قال: كان يقال: لأجرُ حاكم عدل يومًا، أفضل من رجل يصلي في بيته سبعين سنة (¬3). بل روى الحاكم في "تاريخه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَدْلُ يَوْمٍ وَاحِدٍ، أفضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّيْنَ سَنَة" (¬4). 28 - ومنها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ ¬
29 - ومنها: موافقة القول العمل
عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]؛ وقد تقدم الكلام على ذلك. 29 - ومنها: موافقة القول العمل: قال الله تعالى حكاية عن شعيب عليه السَّلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]. وقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ} [البقرة: 44] الآية. وقال تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 3] وروى الإمام أحمد، والشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَىْ فِيْ النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ بِهِ أَقْتَابُهُ - أي: أمعاؤه - فَيَدُوْرُ بِهَا فِيْ النَّارِ كَمَا يَدُوْرُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيُطِيْفُ بِهِ عَلَىْ أَهْلِ النَّارِ، فَيَقُوْلُوْنَ: يَا فُلانُ! مَا لَكَ؛ مَا أَصَابَكَ؟ ألمْ تَكُنْ تأمُرُنَا بالْمَعْرُوْفِ، وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُوْلُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوْفِ وَلا آتِيْهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الشَرِّ وَآتِيْهِ" (¬1). ولا شك أن العبد لا يتم صلاحه حتى يبدأ بإصلاح نفسه قبل إصلاح غيره. كما روي: أن بعض العارفين سئل عن الزهد، فدخل بيته، وأخرج ¬
دراهم كانت عنده، فتصدق بها، ثم أجابه، وقال: كرهت أن أتكلم في الزهد وعندي هذه الدراهم. وإلا فمن لا يصلح نفسه كيف يصلح غيره! كما قيل: [من الطويل] وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَىْ ... طَبِيْبٌ يُدَاوِيْ النَّاسَ وَهْوَ عَلِيْلُ (¬1) وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزُّهد" عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: إذا كنت ممن يأمر بالمعروف فكن من آخذ الناس به، وإذا كنت ممن ينهى عن المنكر فكن من أترك الناس له؛ وإلا هلكت (¬2). وقال الفقيه منصور الشافعي رحمه الله تعالى ملمحًا بالآية السابقة: [من مجزوء الخفيف] إِنَّ قَوْما يَأمُرُوْنا ... بِالَّذِيْ لا يَفْعَلُوْنا لَمَجَانِيْنُ وَإِنْ هُمْ ... لَمْ يَكُوْنُوا يُصْرَعُوْنا (¬3) وقلت: [من الخفيف] أَيُّهَا الْعَالِمُ الَّذِيْ قَدْ نهى عَنْ ... مُنْكَرِ الْفِعْلِ عَلَّنَا نَخْشَاهُ ¬
30 - ومنها: أداء الأمانة
لا تُخَالِفْ إِلَىْ الَّذِيْ يَنْهَاهُ ... وَاعْبُدِ اللهَ بِالَّذِيْ يَرْضَاهُ إِنَّمَا الصَّالحُ التَّقِيُّ الْمُزَكَّىْ ... مَنْ تَحَرَّىْ خِلافَ مَا يَهْوَاهُ وإذَا مَا نهىْ عَنِ الشَّيْءِ يَوْماً ... لَمْ تَجِدْهُ بِحَالِهِ يَغْشَاهُ وإذَا كانَ آمِراً بِصَلاحٍ ... كانَ وَاللهِ حائِزًا أَعْلاهُ مُخْلِصًا لِلْكَرِيْمِ فِيْ كُلِّ شَيْءٍ ... مُكْثِراً مِنْ مَحَبَّةٍ ذِكْرَاهُ 30 - ومنها: أداء الأمانة: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. وروى أبو داود، والترمذي، والحاكم وصححاه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والدارقطني، والحاكم، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" عن أنس - رضي الله عنه -، والطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، والدارقطني أيضًا عن أُبَي بن كعب - رضي الله عنه - قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَدّ الأَمَانة إِلَىْ مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خانَكَ" (¬1). وروى الأصبهاني عن السَّرِيِّ السَّقَطي رحمه الله تعالى قال: ¬
تنبيه
أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وعفاف الطُّعمةِ، وحسن الخليقة (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عبيد ابن أم كلاب: أنه سمع عمر رضي الله تعالى عنه يخطب الناس، وهو يقول: لا يعجبنكم من الرجل طنطنته؛ ولكن من أدى الأمانة، وكف عن أعراض الناس فهو الرجل (¬2). وروى الأصبهاني عن عبد الله - يعني: ابن مسعود رضي الله تعالى عنه - قال: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وإلى أمانته عند طمعه، وما علمك بحلمه إذا لم يغضب! وما علمك بأمانته إذا لم يطمع! ولا يعجبنكم صاحبكم حتى تنظروا على أي شِقَّيْهِ يقع؛ أي: حتى تنظروا إلى أي شيء تؤول عاقبته؛ إلى الخير، أم إلى الشر؟ (¬3) * تَنْبِيْهٌ: قال الأعمش رحمه الله تعالى: أعظم الخيانة أداء الأمانة إلى الخائنين. رواه أبو نعيم (¬4). ¬
31 - ومنها: تعظيم حرمات المسلمين، والشفقة عليهم، ورحمة من أمر برحمته من خلق الله تعالى
وليس معناه خيانة الخائنين في المال، ونحوه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَدِّ الأَمَانة إِلَىْ مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" (¬1). وليس منه استيفاء المرء حقه من الخائن خفيةً، كما ذهب إليه الشافعي رضي الله تعالى عنه، بل معناه نقل الحديث إلى الخَونة كالسعاية بالعبد إلى ظالم يؤذيه، ودلالة أعداء المسلمين على عوراتهم، ونحو ذلك. وكذلك قول الأعمش أيضًا: نقض العهد وفاءٌ بالعهد لمن ليس له عهد. رواه أبو نعيم أيضًا (¬2). ويدخل في كلام الأعمش ما لو رأيت رجلًا سرق صاع رجل، أو غصبه منه، ثم سقط منه ذلك المتاع، وأنت تعرف مالكه؛ فلا تؤده إلى الخائن، بل إلى مالكه. 31 - ومنها: تعظيم حرمات المسلمين، والشفقة عليهم، ورحمة من أمر برحمته من خلق الله تعالى: قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [الحج: 30]. وروى الشيخان عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" (¬3). ¬
32 - ومنها: ستر عورات المسلمين
ورويا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وعن جرير رضي الله تعالى عنه قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ" (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم وصححاه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الرَّاحِمُوْنَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىْ؛ ارْحَمُوْا مَنْ فِيْ الأَرْضِ، يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِيْ السَّمَاءِ" (¬2). وهذا هو الحديث المسلسل بالأولية. 32 - ومنها: ستر عورات المسلمين: روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَسْتُرُ عَبْد عَبْدًا فِيْ الدُّنْيَا إِلاَّ سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن خالد الرَّبعي: أن عيسى بن مريم عليهما السَّلام قال لبعض أصحابه: أرأيتم لو أن أحدكم أتى على أخيه المسلم وهو نائم، وقد كشف الريحُ بعضَ ثوبه؟ فقالوا: سبحان الله! إذًا كنا نرد عليه؛ يعني: ثوبه، قال: لا، بل تكشفون ¬
33 - ومنها: قضاء حوائج المسلمين
ما بقي، قالوا: سبحان الله! بل نرد عليه، قال: لا، بل تكشفون ما بقي (¬1). مثلٌ ضربه للقوم يسمعون للرجل السيئة، فيذكرون أكثر من ذلك. ولا شك أن التنصل من هذه الخصلة من أشد أعمال الصالحين وأخلاقهم. 33 - ومنها: قضاء حوائج المسلمين: في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَمَنْ كانَ فِيْ حَاجَةِ أَخِيْهِ كانَ اللهُ فِيْ حاجَتِهِ". رواه الشيخان (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" عن أنس - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَضَىْ لأَخِيْهِ حَاجَةً، كانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خَدَمَ اللهَ عُمُرَهُ" (¬3). قلت: لعل الحكمة في ذلك: أن من قضى حاجة لأخيه فقد سد خلة منه، وأزال ضرورة عنه، بخلاف من خدم الله تعالى؛ فإن الله غني عنه وعن خدمته، والله الموفق. ¬
34 - ومنها: الشفاعة إلا في حدود الله تعالى، أو في إضاعة حق
34 - ومنها: الشفاعة إلا في حدود الله تعالى، أو في إضاعة حق: قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85]. وروى الأئمة إلا ابن ماجه، عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اشْفَعُوْا تُؤْجَرُوْا، وَيَقْضِيْ اللهُ عَلَىْ لِسَانِ نبِيِّهِ ما شَاءَ" (¬1). وروى صدرَه ابنُ عساكر من حديث معاوية رضي الله تعالى عنه (¬2). 35 - ومنها: الإصلاح بين النَّاس: قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. وقال تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. وروى البزار، والطبراني وحسنه المنذري (¬3)، عن عبد الله بن ¬
36 - ومنها: إيثار صحبة الفقراء، والتواضع لهم
عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ إِصْلاح ذاتِ الْبَيْنِ" (¬1). 36 - ومنها: إيثار صحبة الفقراء، والتواضع لهم: قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]؛ نزلت في فقراء المهاجرين. قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أتى علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن أناس من ضعفة المسلمين، ورجل يقرأ علينا القرآن، ويدعو لنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِيْ جَعَلَ فِيْ أُمَّتِيْ مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِيَ مَعَهُمْ"، ثم قال: "بَشِّرْ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِيْنَ بِالنُّوْرِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَدْخُلُوْنَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ - خَمْسِ مِئَةِ عَامٍ -، هَؤُلاءِ فِيْ الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُوْنَ، وَهَؤُلاءِ يُحَاسَبُوْنَ". رواه أبو يعلى، والبيهقي في "دلائل النبوة" (¬2). 37 - ومنها: ملاطفة اليتيم، والبنات، وسائر الضعفة، والمساكين، والمنكسرين، والإحسان إليهم: قال الله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} [الضحى: 9، 10]. ¬
وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخلت عليَّ امرأة، ومعها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة، فأعطيتها إيَّاها، فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامت، فخرجت، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا، فأخبرته، فقال: "مَنِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذهِ الْبَنَاتِ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ" (¬1). وروى أبو داود بإسناد جيد، عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اِبْغُوْنِيَ الضُّعَفَاءَ؛ فَإِنَّمَا تُرْزَقُوْنَ، وَتُنْصَرُوْنَ بِضُعَفَائِكُمْ" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وأبو نعيم في "الحلية" عن عمران القصير رحمه الله تعالى قال: قال موسى عليه السلام: يا رب! أين أبغيك؟ قال: ابغني عند المنكسرة قلوبهم؛ فإني أدنو منهم كل يوم باعًا، لولا ذلك لتهدَّموا (¬3). ومن ملاطفة المسكين، والتواضع معه مناولته الشيءَ. وفي "حلية أبي نعيم": أن حارثة بن النعمان رضي الله تعالى عنه كان قد ذهب بصره، فاتخذ خيطًا من مصلاه إلى باب حجرته، ووضع عنده ¬
38 - ومنها: التلطف بالمرأة، وتحسين الخلق معها، واحتمال الأذى منها
مَكْتلاً فيه تمر، فكان إذا جاء المسكين فسلم، فأخذ من ذلك المكتل، ثم أخذ بطرف الخيط حتى يناوله، وكان أهله يقولون له: نحن نكفيك، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مُنَاوَلَةُ الْمِسْكِيْنِ تَقِيْ مِيْتَةَ السُّوْءِ" (¬1). وأخرجه - أيضًا - الطبراني، والبيهقي في "شعب الإيمان"، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (¬2). 38 - ومنها: التلطف بالمرأة، وتحسين الخلق معها، واحتمال الأذى منها: قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتوْصُوْا بِالنِّسَاءِ خَيْراً؛ فَإِنَّ الْمَرْأةُ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وإنَّ أَعْوَجَ مَا فِيْ الضِّلَعِ أَعْلاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتوْصُوْا بِالنِّسَاءِ خَيْراً" (¬3). وفي رواية لمسلم: "وَكَسْرُهَا طَلاقُهَا" (¬4). ¬
قال أبو محمد التيجاني في كتاب "تحفة العروس": نبَّهَ - صلى الله عليه وسلم - على الرفق بهن، ومداراتهنَّ، وأن لا يُتقصى عليهن في أخلاقهن، وانحراف طباعهن؛ فإن ذلك يؤدي إلى مفارقتهن. قال: ونظمَ الشاعر في هذا المعنى، فقال: [من الطويل] هِيَ الضِّلَعُ العَوْجَاءُ لَسْتَ تُقيْمُهَا ... أَلا إنَّ تَقْوِيْمَ الضُّلُوْعِ انْكِسَارُهَا أَيَجْمَعْنَ ضَعْفاً وَاقْتِدَارًا عَلَىْ الْفَتَىْ ... أَليْسَ عَجِيْبًا ضَعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا؟ ! (¬1) وقال الرشيد في قريب من هذا المعنى: [من الكامل] مَلَكَ الثَّلاثُ الْغَانِيَاتُ جَنَانِيْ ... وَحَلَلْنَ مِنْ قَلْبِيْ بِكُلِّ مَكَانِ مَا لِىْ تُطَاوِعُنِىْ الْبَرِيَّةُ كُلُّهَا ... وَأُطِيْعُهُنَّ وَهُنَّ فِيْ عِصْيَانِيْ ¬
39 - ومنها: الرفق بالخادم، والتلطف به، والإحسان إليه
مَا ذَاكَ إِلاَّ أَنَّ سُلْطَانَ الْهَوَىْ ... وَبِهِ سَطَيْنَ أَعَزُّ مِنْ سُلْطَانِي (¬1) 39 - ومنها: الرفق بالخادم، والتلطف به، والإحسان إليه: روى الشيخان عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان آخر وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّلاةَ الصَّلاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " (¬2). ورويا عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِخْوَانكُمْ خَوَلكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ فِتْنَةً تَحْتَ أَيْدِيْكُمْ؛ فَمَنْ كانَ أَخُوْهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِهِ، وَلْيُلْبِسْهُ مِنْ لِبَاسِهِ، وَلا يُكَلِّفْهُ مَا يَغْلِبُهُ، وَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ" (¬3). وأخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه أيضًا (¬4). وفي رواية لأبي داود: "مَنْ لاءَمَكُمْ مِنْ مَمْلُوْكِيْكُمْ فَأَطْعِمُوْهُمْ مِمَّا تأْكُلُوْنَ، وَألْبِسُوْهُمْ مِمَّا تَلْبَسُوْنَ، وَمَنْ لَمْ يُلائِمْكُمْ مِنْهُمْ فَبِيْعُوْهُ، وَلا تُعَذِّبُوْا خَلْقَ اللهِ" (¬5). وسنده صحيح. ¬
40 - ومنها: النفقة على العيال
وروى هو، والترمذي وحسنه، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! كم نعفوا عن الخادم؟ فصمت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "اعْفُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِيْنَ مَرَّةً " (¬1). 40 - ومنها: النفقة على العيال: قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] وروى مسلم، والترمذي عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ دِيْنَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ، دِيْنَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَىْ عِيَالِهِ، وَدِيْنَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَىْ دَابَّتِهِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، وَدِيْنَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَىْ أَصْحابِهِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ " (¬2). قال أبو قلابة رحمه الله تعالى: بدأ بالعيال، ثم قال أبو قلابة: وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال صغار يُعِفُّهُمُ الله به، أو ينفعهم الله به، ويغنيهم؟ (¬3) قلت: إنما عظم أجر المنفق على العيال إذا أحسن النفقة عليهم؛ لأن الله تعالى قد استخلفه عليهم، فأحسن في خلافته، فاستوجب الإحسان، ومكافأته، والله الموفق. ¬
41 - ومنها: الصدقة، وخصوصا مما يحب
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن علي رضي الله تعالى عنه: أنه اشترى تمراً بدرهم، فحمله في ملحفة، فقالوا: نحمل عنك يا أمير المؤمنين؛ قال: أبو العيال أحقُّ أن يحمل (¬1). وروى الدينوري عن إبراهيم التيمي قال: لقي عيسى بن مريم عليهما السلام رجلًا، فقال له: ما تصنع؟ قال: أَتَعَبَّد، قال: من يعولك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبدُ منك (¬2). وعن مسلم بن يسار رحمه الله: أن رُفقة من الأشعريين كانوا في سفر، فلما قدموا قالوا: يا رسول الله! ما رأينا أحداً بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من فلان؛ يصوم النهار، فإذا نزلنا قام يصلي حتى نرتحل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَمُوْنُهُ، أَوْ يَكْفِيْهِ، أَوْ يَسْعَىْ عَلَيْهِ؟ "، قالوا: نحن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْتُمْ أَعْبَدُ مِنْه" (¬3). 41 - ومنها: الصدقة، وخصوصاً مما يحب: قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. وروى الشيخان، والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ¬
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَقْبَلُ اللهُ تَعَالَىْ إِلاَّ الطَّيِّبَ؛ فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِيْنِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيْهَا لِصَاحِبِها كَمَا يُرَبِّيْ أَحَدُكُمْ فَلُوَّهَ حَتَّىْ تَكُوْنَ مِثْلَ الْجَبَلِ " (¬1). وروى القُضاعي عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّدَقَةُ تَدْفَعُ مِيْتَةَ السُّوْءِ" (¬2). بل روى الشيخان، وغيرهما من حديث عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتَّقُوْا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوْا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ" (¬3). وروى صدْره الإمامُ أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها، والبزار، والطبراني في "الأوسط"، والضياء في "المختارة" عن أنس رضي الله تعالى عنه، والبزار عن النعمان بن بشير، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما، والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس، وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنهم (¬4). ¬
تنبيه
* تنبِيْهٌ: لا تكون الصدقة مقبولة، ولا من أخلاق الصالحين حتى تكون من حلال؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلا يَقْبَلُ اللهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ" (¬1)؛ قال العلماء: يعني: الحلال. قال أبو مسلم الخولاني رحمه الله تعالى: أربع لا يقبلن في أربع: السرقة، والخيانة، والغلول، ومال اليتيم؛ في الحج، والعمرة، والصدقة، والنفقة في سبيل الله (¬2). وقال القاسم بن مُخَيمرة رحمه الله تعالى: من أصاب مالًا من مأثم، فوصل به رحماً، أو تصدق به، أو أنفقه في سبيل الله، جمع [به] ذلك كله في نار جهنم. رواهما الدينوري، وغيره (¬3). * تنبِيْهٌ آخَرُ: روى أبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند ¬
42 - ومنها: تعليم الأهل، والأولاد الأدب، وأمرهم بطاعة الله تعالى، ونهيهم عن معصية الله، وتعليمهم ما يحتاجون إليه من ذلك
النبي - صلى الله عليه وسلم - جلوسًا، فجاء سائل، فسأل، فناوله رجل درهماً، فأخذه رجل، فناوله إياه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ فَعَلَ هَذَا كانَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ الْمُعْطِيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئاً" (¬1). وروى الحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ بِلُقْمَةِ الْخُبْزِ، وَقَبْضَةِ التَّمْرِ، وَمِثْلِهِ مِمَّا يَنْفَعُ الْمِسْكِيْنَ ثَلاثَةً الْجَنَّةَ: صَاحِبَ الْبَيْتِ الآمرَ بِهِ، وَالزَّوْجَةَ الْمُصْلِحَةَ، وَالْخَادِمَ الَّذِيْ يُنَاوِلُ الْمِسْكِيْنَ" (¬2). 42 - ومنها: تعليم الأهل، والأولاد الأدب، وأمرهم بطاعة الله تعالى، ونهيهم عن معصية الله، وتعليمهم ما يحتاجون إليه من ذلك: قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ} [طه: 132]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]. وروى الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، والترمذي عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ الإِمَامُ رَاعٍ، وَمَسْؤُؤْلٌ عَنْ رَعِيتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِيْ أَهْلِهِ، وَمَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأة رَاعِيَةٌ فِيْ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُوْلهٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِيْ مَالِ سَيِّدِهِ، وَمَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" (¬3). ¬
43 - ومنها: رعاية حق الجار
43 - ومنها: رعاية حق الجار: قال الله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] وروى الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهؤلاء، والنسائي، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا زَالَ جِبْرِيْلُ يُوْصِيْني بِالْجَارِ حَتَّىْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه عن أبي شريح، وعن أبي هريرة - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَىْ جَارهِ، وَمَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً، أَوْ لِيَسْكُتْ" (¬2). * لَطِيْفَةٌ: روى أبو نعيم عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما: أنه سمع رجلاً يقول: اللَّهُمَّ اغفر لي ولفلان، قال: من فلان؟ قال: جار لي أمرني أن أستغفر له، قال: قد غفر لك ولصاحبك؛ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
44 - ومنها: بر الوالدين، وصلة الأرحام
سمع رجلاً يقول: اللَّهُمَّ اغفر لي ولفلان، قال: "مَنْ فُلانٌ؟ " قال: جاري أمرني؛ قال: استغفر لي، قال: "قَدْ غُفِرَ لَكَ وَلَه" (¬1). في هذا الحديث أن من تمام حق الجار الدُّعاء، والاستغفار، خصوصاً إذا طلب، وأن الدَّعاء للأخ بظهر الغيب مستجاب، وأن الدعاء من الإخوان مشروع محبوب. 44 - ومنها: بر الوالدين، وصلة الأرحام: قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]. وروى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العمل أحب إلى الله؛ قال: "الصَّلاةُ عَلَىْ وَقْتِهَا"، قلت: ثم أيٍّ؟ قال: "برُّ الْوَالِدَيْنِ"، قلت: ثمَّ أَيٍّ؟ قال: "الْجِهَادُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ" (¬2). وفي حديثهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "وَمَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" (¬3). والأحاديث في ذلك كثيرة معروفة. ¬
45 - ومنها: بر أصدقاء الأب، والأم، والأقارب، وسائر من يندب بره، وإكرامه
45 - ومنها: برُّ أصدقاء الأب، والأم، والأقارب، وسائر من يندب بره، وإكرامه: قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. وروى مسلم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أَبِيْهِ" (¬1). وهو، والبخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البَجَلي رضي الله تعالى عنه في سفر، فكان يخدمني، فقلت له: لا تفعل، فقال: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً آليت أن لا أصحب أحداً منهم إلا خدمته (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وابن أبي الدنيا عن خيثمة رحمه الله تعالى قال: كان عيسى عليه السَّلام إذا دعا القراء قام عليهم، ثم قال: هكذا اصنعوا بالقراء (¬3). 46 - ومنها: إكرام آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. وقال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: ارقبوا محمَّداً - صلى الله عليه وسلم - في ¬
أهل بيته. رواه البخاري (¬1). قال النووي: معنى "ارقبوا محمداً": راعوه، واحترموه، وأكرموه (¬2). وروى الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنِّيْ تَارِكٌ فِيْكُمْ خَلِيْفَتَيْنِ؛ كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدودٌ مَا بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتي؛ فَإِنَّهمَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّىْ يَرِدا عَلَيَّ الْحَوْضَ" (¬3). وروينا في "طبقات ابن السُّبكي"، وغيرها عن الربيع بن سليمان رحمه الله تعالى قال: خرجنا مع الشَّافعي رضي الله تعالى عنه من مكة نريد مِنًى، فلم ننزل وادياً، ولا نصعد شِعباً إلا وهو يقول: [من الكامل] يَا رَاكِبًا قِفْ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى ... وَاهْتِفْ بِقَاعِدِ خَيْفِهَا وَالنَّاهِضِ سَحَراً إِذَا فاضَ الْحَجِيْجُ إِلَىْ مِنَىْ ... فَيْضا كَملتَطِمِ الْفُرَاتِ الْفَائِضِ ¬
47 - ومنها: محبة الصحابة رضي الله تعالى عنهم
إِنْ كانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمّدٍ ... فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلانِ أَنِّيَ رَافِضيْ (¬1) 47 - ومنها: محبة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وتقديم من له التقدم منهم، والرضى عنهم، ومعرفة شرف مقدارهم، وذكر مناقبهم، والكف عما شجر بينهم. قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الآية. ومن كان هذا وصفهم وجب حبهم. وقال عبد الرحمن بن زيد العَمِّي، عن أبيه: أدركت أربعين شيخاً كلهم يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَحَبَّ جَمِيْعَ أَصْحَابِي، وَتَوَلاَّهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، جَعَلَهُ اللهُ مَعَهُمْ فِيْ الْجَنَّةِ" (¬2). وقال جابر بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ - عز وجل - اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَىْ جَمِيع الْعَالَمِيْنَ سِوَىْ النَّبِيِّيْنَ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَاخْتَارَ لِي مِنْ أَصْحَابِي أَرْبَعَة: أَبُوْ بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ - رضي الله عنهم -؛ فَهَؤُلاءِ خَيْرُ أَصْحَابِي، وَأَصْحَابِي كُلُّهُمْ خَيْر، وَاخْتَارَ أُمَّتِي عَلَى سائِرِ الأُمَمِ" (¬3). ¬
وقال أيوب السختياني رحمه الله تعالى: من أحب أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فقد أقام الدين، ومن أحب عمر رضي الله تعالى عنه فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان رضي الله تعالى عنه فقد استنار بنور الله، ومن أحب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد برئ من النفاق (¬1). وقال أبو زرعه الرازي رحمه الله تعالى: سمعت قَبيصة بن عقبة رحمه الله تعالى يقول: حب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم سنة (¬2). وقال مسروق رحمه الله تعالى: حب أبي بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما، ومعرفة فضلهما من السنة (¬3). وقال عبد العزيز بن جعفر اللؤلؤي رحمه الله تعالى: قلت للحسن رحمه الله تعالى: حب أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما سنة؟ قال: لا، فريضة (¬4). وقال الشعبي رحمه الله تعالى عنه: إن حساناً - رضي الله عنهم - قال في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي أبي بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما: [من المنسرح] ¬
48 - ومنها: توقير العلماء
ثَلاثَةٌ بَرَزُوْا بِفَضْلِهِمُ ... نَضَّرَهُمْ رَبُّهُمْ إِذَا نُشِرُوا فَلَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ لَهُ بَصَر ... يُنْكِرُ تَفْضِيْلهمْ إِذَا ذُكِرُوا عَاشُوْا بِلا فُرْقَةٍ ثَلاثَتُهُمْ ... وَاجْتَمَعُوْا فِيْ الْمَمَاتِ إِذْ قُبِرُوا (¬1) خرج هذه الأخبار، والآثار اللالكائيُّ في "شرح السنة". والوارد في الباب لا يكاد يحصر إلا أنَّا اقتصرنا على هذه النبذة لعزتها. 48 - ومنها: توقير العلماء، والأكابر، وأهل الفضل، وتقديمهم على غيرهم، ورفع مجالسهم، وإظهار مرتبتهم، والترحم على من مات منهم، والاستغفار لهم. روى أبو داود، وعلَّقه مسلم في مقدمة "صحيحه"، وصححه الحاكم، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أَمَرَنا رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ فِيْ مَنازِلِهِمْ (¬2). وروى الإمام أحمد - بإسناد جيد - عن عبادة بن الصامت رضي الله ¬
تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ مِنْ أمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيْرَنَا، وَيرْحَمْ صَغِيْرَنَا، وَيعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ" (¬1). وروى الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخاً لِسِنِّهِ، إِلَّا قَيَّضَ اللهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ" (¬2). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن ثابت البُنَاني رحمه الله تعالى قال: جاء رجل إلى عِمران بن حُصَين رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا نُجيد! ألا ترى إلى أبي بَرزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه يلبس الصوف؟ قال: يرحم الله أبا برزة، وإننا مثل أبي برزة؟ قال: ثم انطلق إلى أبي برزة، فقال: يا أبا برزة! ألا ترى إلى عمران بن حصين يلبس الخَزَّ؟ قال: يرحم الله أبا نجيد، وإننا مثل أبي نجيد؟ (¬3) قلت: فكذلك ينبغي حمل حال العلماء على الكمال خصوصاً من بعضهم لبعض، إلا أن يتظاهر أحدهم بمعصية، فيجب الإنكار عليه. ¬
49 - ومنها: زيارة أهل الخير، ومجالستهم، وصحبتهم، ومحبتهم، وطلب زيارتهم، وطلب الدعاء منهم، وزيارة المواضع الفاضلة.
49 - ومنها: زيارة أهل الخير، ومجالستهم، وصحبتهم، ومحبتهم، وطلب زيارتهم، وطلب الدعاء منهم، وزيارة المواضع الفاضلة. وسيأتي - إن شاء الله تعالى - في ذلك زيادة على هذا. 50 - ومنها: الحب في الله، والحث عليه: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9]. وروى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والإمام مالك، والترمذي عنه، أو عن أبي سعيد، ومسلم عنهما، قالا رضي الله تعالى عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِيْ ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ، إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نشَأَ فِيْ عِبَادةِ اللهِ، وَرَجُلٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّىْ يَعُوْدَ إِلَيْهِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِيْ اللهِ، فَاجْتَمَعَا عَلَىْ ذَلِكَ وَافْتَرَقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّيْ أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِيْنَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّىْ لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِيْنُهُ" (¬1). ¬
تنبيه
وفي "حلية أبي نعيم" عن الوليد بن عتبة قال: قلت لأبي صفوان بن عوانة: لأي شيء يحب الرجل أخاه؟ قال: لأنه رآه يحسن خدمة مولاه (¬1). قلت: وهذا يدل على أن محبة الأخ في الله راجعة إلى محبة الله، ولذلك كان له بها هذا المقام العظيم، فلو تحاب اثنان في غير ذات الله، ولا إطاعته، لم يكونا من هذا القبيل، بل قد يكون تحابهما وبالاً، كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]؛ وهم أهل التحاب، والتخالل في الله تعالى. وقال مسلم بن يَسَار رحمه الله تعالى: ما شيء من عمل إلا وأنا أخاف أن يكون دخله ما أفسده عليَّ؛ ليس الحبَّ في الله (¬2). وقال: مرضت مَرْضَةً فلم يكن في عملي شيء أوثق في نفسي من قوم كنت أحبهم في الله. رواهما أبو نعيم (¬3). * تنبِيْهٌ: محل الحب في الله أهل طاعته وخدمته، والعمل بشريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته، ومحل البغض في الله أهل معصيته ومخالفته، والإعراض عنه، ومخالفة الشرع والسنة. ¬
وقد يكون البغض في الله على ترك ما هو الأولى، وفعل المكروه زجراً عنه، وحملاً للنفس على شدة البغض للمعاصي ببغض من يفعل المكروه. روى ابن أبي شيبة عن يحيى البَكَّاء قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وهو يطوف بالكعبة، فلقيه رجل من مؤذني الكعبة، فقال: إني لأحبك في الله، فقال ابن عمر: إني لأبغضك في الله؛ إنك تحبس صوتك لأخذ الدَّراهم (¬1). وروى عبد الرزاق عنه قال: رأيت ابن عمر يسعى بين الصَّفا والمروة - ومعه ناس - فجاءه رجل طويل اللحية، فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني لأحبك في الله، فقال: إني لأبغضك في الله، فغضب الرجل، وقال لأصحابه: ألا تعجبون؟ قلت: إني لأحبك في الله، فقال لي: إني لأبغضك في الله؟ فكأن أصحاب ابن عمر لاموه، وكلموه، فقال: إنه يبغي (¬2) في أذانه (¬3)، ويأخذ عليه أجراً (¬4). وعن الضَّحَّاك بن قيس رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا قال له: إني ¬
تنبيه
أحبك لله، قال له: ولكنني أبغضك لله، قال: لِمَ؟ قال: أنك تبغي (¬1) في أذانك، وتأخذ الأجر على كتاب الله (¬2). * تَنْبِيْهٌ: نظم الإمام أبو شامة السبعة الذين في ظل العرش المذكورين في الحديث: أنا شيخ الإسلام الوالد إجازة - إن لم يكن سماعاً -: أنا جماعة من شيوخنا عن العلامة أبي الفضل ابن حجر العسقلاني الحافظ، عن أبي إسحاق التنوخي، عن أبي الهدى بن أبي شامة، عن أبيه، قال: أنشدنا أبي لنفسه: [من الطويل] وَقَالَ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَىْ إِنَّ سَبْعَةً ... يُظِلُّهُمُ اللهُ الْكَرِيْمُ بِظِلِّهِ مُحِبٌّ عَفِيْفٌ ناَشِئٌ مُتَصَدِّقٌ ... وَبَاكٍ مُصَلٍّ وَالإِمَامُ بِعَدْلِهِ (¬3) ولاشك أن هذه الخصال السبعة كلها من خصال الصالحين. وكذلك وردت أحاديث، وآثار أخرى في خصال أخر يظل الله تعالى أصحابها في ظله يوم القيامة، وكلها - أيضاً - من خصال الصالحين. وقد جمعها شيخ الإسلام ابن حجر الحافظ المشار إليه في "جزء"، ¬
وذَيَّلَ على بَيْتَيْ أبي شامة بأبيات أخرى. ثم جاء الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى فزاد أشياء أخرى على ما زاد ابن حجر، وجمع في ذلك مؤلفاً، وذَيَّلَ على أبيات ابن حجر، وأوصلها إلى سبعين خصلة (¬1). ثم استدرك شيخ الإسلام الوالد عليها أربع عشرة خصلة، وذَيَّلَ على أبياتها. وجمعت في ذلك "جزءًا" لخصت فيه جميع الأحاديث، والآثار الواردة في ذلك، وقد أحببت أن أثبت هذه الأبيات مجردة عن الأدلة: قال الحافظ ابن حجر، وأخبرنا به والدي عن مشايخه عنه: [من الطويل] وَزِدْ سَبع أَظْلالٍ غَازٍ وَعَوْنُه ... وإِنْظَارُ ذِيْ عُسْر وَتَخْفِيْفُ حِمْلِهِ وَحَامِيْ غُزَاةٍ حِيْنَ وَلَّوْا وَعَوْنُ ذِيْ ... غَرَامَةِ حَقٍّ مَعْ مُكَاتِبِ أَهْلِهِ (¬2) ¬
ثم قال - أيضا - رحمه الله تعالى: [من الطويل] وَزِدْ مَعَ ضِعْف سبعتين (¬1) إِعَانَةٌ ... لأخرْقَ مَعْ أَخْذٍ بِحَق وَبَذْلِهِ (¬2) وَكُرْهُ وُضُوْءٍ ثُمَّ مَشْي لِمَسْجِدٍ ... وَتَحْسِيْنُ خُلْقٍ ثُمَّ مُطْعِمُ فَضْلِهِ وَكافِلُ ذِيْ يُتْمٍ وأرملةٌ وهت ... وَتاجِرُ صِدْقٍ فِيْ الْمَقَالِ وَفِعْلِهِ (¬3) وَحُزْنٌ وَتَصْبِيْرٌ وَنُصْحٌ وَرَأْفَةٌ ... فَرَبِّعَ بِهَا السَّبْعَاتِ مِنْ فَيْضِ فَضْلِهِ (¬4) وقال الحافظ جلال الدين السيوطي - وأخبرنا به والدي شيخ الإسلام بالإجازة، والإذن عنه -: [من الطويل] ¬
وَزِدْ مَعْ ضِعْف (¬1) مَنْ يُضِيْفُ وَعونه (¬2) ... لأَيْتَامِهَا ثُمَّ الْقَرِيْبَ بِوَصْلِهِ وَعِلْمٌ بِأَنَّ اللهَ مَعْهُ وَحُبُّه ... لإِجْلالِهِ وَالْجُوْعَ مِنْ أَهْلِ حَبْلِهِ وَزُهْدٌ وَتَفْرِيْجٌ وَغَضٌّ وُقُوَّةٌ ... صَلاةٌ عَلَىْ الْهَادِيْ وَإِحْيَاءُ فِعْلِهِ وَتَرْكُ الرّبا (¬3) مَعْ رَشْوَةِ الْحُكْمِ وَالزِّنَا ... وَطِفْلٌ وَرَاعِيْ الشَّمْسِ ذِكْراً وَظِلّهِ وَصَوْمٌ وَتَشْيِيعٌ لِمَيْتٍ عِيَادَةٌ ... فَسَبعٌ بِهَا السَّبْعَاتُ يَا زَيْنَ أَهْلِهِ (¬4) وقال أيضاً: [من الطويل] وَزِدْ سَبْعِتين الْحُبُّ لِلَّهِ بَالِغًا ... وَتَطْهِيْرُ قَلْبِكَ وَالْغَضُوْبُ لأَجْلِهِ ¬
وَحُبُّ عَلِي ثُمَّ ذِكْرُ إِنَابَةٍ ... وَأَمْر وَنهي وَالدُّعَاءُ لِسُبْلِهِ وَمِنْ أَوَّلِ الأَنْعَامِ يَقْرَا ثَلاثَةً (¬1) ... وَمُسْتَغْفِرُ الأَسْحَارِ يَا طِيْبَ فِعْلِهِ وَبِرٌّ وَتَرْكُ النَّمِّ وَالْحَسَدِ الَّذِيْ ... يَشِيْنُ الْفَتَىْ فَاشْكُرْ لِجَامعِ شَمْلِهِ (¬2) وقال أيضا: [من الطويل] وَزِدْ سَبْعَةً قَاضِيْ حَوَائِجِ خَلْقِهِ ... وَعَبْدٌ تَقِيٌّ وَالشَّهِيْدُ بِقَتْلِه وَأَمٌّ وَتَعْلِيْمٌ أَذَانٌ وَهِجْرةٌ ... فتمَّتْ بها السَّبْعُوْنَ مِنْ فَيْضِ فَضْلِهِ (¬3) وقال شيخ الإسلام الوالد رحمه الله تعالى: [من الطويل] وَزِدْ سَبْعَةً لِلنَّاسِ مَنْ هُوَ حَاكِمٌ ... كَحُكْمٍ لِنَفْسٍ وَالصَّدِيْقِ وَأَهْلِهِ ¬
كَذَاكَ اقْتِصَادٌ للِإمامِ وَمَنْ بَكَىْ ... إِذَا ذُكِرَ الرَّحْمَنُ خَوْفاً لأَجْلِه قِرَاءَةُ قُرْآنٍ تِلاوَتُهُ وَمَن ... يُعَلِّمُهُ طِفْلاً وَفَازَ بِحَمْلِهِ عِمَارَةُ بَيْتِ اللهِ إِطْعَامُ جَائِعٍ ... بتنبيهِ إِشْبَاع لَهُ عِنْدَ أَكْلِهِ ثم قال أيضاً: [من الطويل] وَزِدْ سَبْعَةً مَنْ حَبَّ لِلَّهِ خَلْقَهُ ... وَكَفُّ يَدٍ وَالطَّرْفِ عَنْ غَيْرِ حِلِّهِ وَتَنْفِيْسُ كَرْبٍ عَنْ غَرِيْمٍ وَمُخْبِرٌ ... لِشَخْصٍ بِحُبٍّ فِيْ الإِلَهِ بِقَوْلهِ وَمَنْ بَرِئَتْ أَيْدِيْهِمُ ثُمَّ تَاجِرٌ ... أَمِيْنٌ فَهَذَا مَا ظَفِرْتُ بِنَقْلِهِ وقلت: وتمت به الخصال الموجبة للإظلال إحدى وتسعين خصلة، يورف الله بفضله على ذويها ظلَّه: [من الطويل] وَزِدْ سَبْعَةً أَنْ تُؤثرَ الاختفاءَ والـ .... ـحُمُوْلَ لإصْلاحِ الْفُؤَادِ وَعَدْلِهِ
وَأَمْرٌ بِمَعْرُوْفٍ وَنَهْيٌ عَنِ الَّذِيْ ... هُوَ الْمُنْكَرُ الْمَذْمُوْمُ صَاحِبُ فِعْلِهِ وَأَنْ لا تُمَارِيْ ثُمَّ ذِكْرُ اللِّسَانِ وَالـ ... ـــــفُؤَادِ مَعًا فَاظْفَرْ بِفَائِضِ وَبْلِهِ وَمَنْ يُعْطَ حَقًّا يَقْبَلِ الْحَقَّ أَوْ يُرَىْ ... عَنِ الْحقِّ مَسْؤُوْلاً يَفُوْزُ بِبَذْلِهِ عَسَىْ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِيْنَ يُظِلُّه ... إِذَا هَاجَ حَرُّ الْجَمْع يَوْماً بِأَهْلِهِ ثم قلت: وتمت بها ثمانية وتسعين خصلة غير حب ذوي الإظلال: [من الطويل] وَزِدْ سَبْعَةً مِنْهَا ثَلاثٌ تُنَالُ مِنْ ... أَعَزِّ كِتَابٍ مُطْلَقًا وَأَجَلِّه وَفَاءٌ بِنَذْرٍ ثُمَّ خَوْفُ قيامةٍ ... وَبَذْلُ الطَّعَامِ مَعْ مَحَبَّةِ أَكْلِهِ مَرِيْضٌ وَمَنْ لِلْعِلْمِ وَالْحِلْمِ جَامعٌ ... وَحُبُّ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَىْ قَصْدَ فَضْلِهِ وَحُبُّ ذَوِيْ الأَظْلالِ مِنْها لأنَّ مَنْ ... أَحَبَّ مَعَ الْمَحْبُوْبِ فِيْ دَوْحِ ظِلِّهِ
بذا عُدَّ أسماءُ الْمُهَيْمِنِ وافَقَتْ (¬1) ... فَدُوْنَكَ جَمْعا مَا ظَفِرْتَ بِمِثْلِهِ ثم وقفت على حديث أخرجه هنَّاد بن السَّري، وعبد الله بن المبارك؛ كلاهما في "الزهد"، والبيهقي في "البعث"، موقوفاً على أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: الشمس فوق رؤوس الناس يوم القيامة وأعمالهم تظلهم (¬2)؛ يعني: الأعمال الصالحة؛ فإن الأعمال السيئة لا ظل لها، ولا شك أن ظل الأعمال من ظل الله وفضله، وقد سبق قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ" (¬3). قلت مشيراً إلى ذلك: [من الطويل] وَكُلُّ فَتًى فِيْ ظِلِّ أَعْمَالِهِ إِذَا ... دَنَتْ شَمْسُ يَوْمِ الدِّيْنِ مِنْ رُوْسِ أَهْلِهِ أتىْ عَنْ أَبِيْ مُوْسَىْ الْحَدِيْثُ كَمَا رَوَىْ ... أولو الْفَضْل مِثْلُ الْبَيْهَقِيِّ لأَصْلِهِ ¬
51 - ومن خصال الصالحين: أنهم إذا تواخوا في الله تعالى تعارفوا بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، وبلدانهم لأداء الحقوق، لا لاتباع العورات، ونحو ذلك؛ فين الأول من أخلاق الصالحين، والثاني من أخلاق المنافقين.
فَيُرْجَىْ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِيْنَ أَظِلَّةٌ ... وَكُلُّ فَتًى تُلْفِيْهِ فِيْ ظِلِّ فِعْلِهِ 51 - ومن خصال الصَّالحين: أنهم إذا تواخوا في الله تعالى تعارفوا بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، وبلدانهم لأداء الحقوق، لا لاتباع العورات، ونحو ذلك؛ فين الأول من أخلاق الصَّالحين، والثاني من أخلاق المنافقين. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]. وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَلَّمُوْا مِنْ أنسَابِكُمْ مَا تَصلُوْنَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ؛ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِيْ الأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِيْ الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فيْ الأثَرِ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والبخاري في "تاريخه"، والترمذي عن يزيد ابن نعامة (¬2) الضبي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا آخَىْ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَلْيَسْألهُ عَنِ اسْمِهِ، وَاسْمِ أِبيْهِ، وَمِمَّنْ هُوَ؛ فَإِنَّهُ أَوْصَلُ لِلْمَوَدَّةِ" (¬3). ¬
52 - ومنها: إخبار العبد من يحب بأنه يحبه
52 - ومنها: إخبار العبد من يحب بأنه يحبّه: وروى الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم عن المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ أنَّهُ يُحِبّهُ" (¬1). رواه الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه بلفظ: "فَلْيَأتِهِ فِيْ مَنْزلهِ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبّهُ" (¬2). وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ؛ فَإِنَّهُ يَجِدُ مِثْلَ الَّذِيْ يَجِدُ لَه" (¬3). وفي هذا الحديث دليل على ما هو مستقر في نفوس العارفين أن القلب يدل على القلب، فإن كان في قلبك محبة لأخيك، ففي قلبه مثلها لك. ¬
53 - ومنها: البغض في الله، والعداوة في الله؛ أي: لأجله
قال أبو جعفر محمد علي الباقر رحمه الله تعالى: اعرف المودة في قلب من أحبك بما لَهُ في قلبك. رواه أبو نعيم (¬1). 53 - ومنها: البغض في الله، والعداوة في الله؛ أي: لأجله: روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، والخرائطي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْثَقُ عُرَىْ الإِيْمَانِ الْحُبُّ فِيْ اللهِ وَالْبُغْضُ فِيْ اللهِ" (¬2). وأخرجه الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولفظه: "أَوْثَقُ عُرَىْ الإِيْمَانِ الْمُوَالاةُ فِيْ اللهِ، وَالْمُعَاداةُ فِيْ اللهِ، وَالْحُبُّ فِيْ اللهِ، وَالْبُغْضُ فِيْ اللهِ" (¬3). وفي "سنن أبي داود" بإسناد حسن، عن أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَىْ لِلَّهِ، ¬
وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيْمَانَ" (¬1). وروى أبو نعيم، والخطيب عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَوْحَىْ اللهُ إِلَىْ نبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أَنْ قُلْ لِفُلانٍ الْعَابِدِ: أَمَّا زُهْدُكَ فِيْ الدُّنْيَا فَتَعَجَّلْتَ رَاحَةَ نَفْسِكَ، وَأَمَّا انْقِطَاعُكَ إِلَيَّ فَتَعَزَّزْتَ بِيْ، فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيْمَا لِيْ عَلَيْكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ! وَمَاذَا لَكَ عَلَيَّ؟ قَالَ: هَلْ عَادَيْتَ فِيَّ عَدُوًّا؟ أَوْ هَلْ والَيْتَ فِيَّ وَلِيًا؟ " (¬2). وروى الإمامان ابن المبارك، وأحمد؛ كلاهما في "الزهد" عن أبي غالب، قال في وصية عيسى عليه السَّلام: يا معشر الحواريين! تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إليه بالمقت لهم، والتمسوا رضاه بسخطهم، قالوا: يا نبيَّ الله! فمن نجالس؟ قال: جالسوا من يزيد في أعمالكم منطقه، ومن يذكركم بالله رؤيته، ويزهدكم في دنياكم عمله (¬3). وفي "الإحياء": إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السَّلام: يا ابن عمران! كن يقظاناً، وارتد لنفسك إخواناً، وكل خِدْنٍ لا يوافقك ¬
54 - ومنها: إجراء أحكام الناس على الظاهر، وكلة سرائرهم إلى الله تعالى
على مسرتي لا تصحبه؛ فإنه لك عدو (¬1). وقال داود عليه السلام مثله، إلا أنه قال: وارتد لنفسك أخداناً، وكل خِدْنٍ لا يوافقك على مسرتي فلا تصحبه؛ فإنه لك عدو، ويقسى قلبك، ويباعدك مني (¬2). 54 - ومنها: إجراء أحكام الناس على الظاهر، وكِلَةُ سرائرهم إلى الله تعالى: روى البخاري عن عتبة بن عبد الله بن مسعود قال: سمعت عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أَمِنَّاهُ، وقرَّبناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأْمَنْهُ، ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة (¬3). 55 - ومنها: الخوف، والرجاء، واعتدالهما، أو ترجيح الخوف إلا عند الموت، فيرجح الرَّجاء. قال الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ ¬
عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 50 - 49]. وقال تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]. وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَىْ أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ بِمِثْلِ ذَلِكَ" (¬1). وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعُقُوْبَةِ مَا طَمعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ" (¬2). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"، والبيهقي في "الشعب" عن ثابت البناني رحمه الله تعالى، [عن مطرف] (¬3) قال: لو وَزَنَ خوف المؤمن رجاءه، ما رجَحَ أحدُهما على صاحبه (¬4). وعن شعبة قال: لو وُزِنَ خوف المؤمن ورجاؤه، ما زاد خوفه على رجائه، ولا رجاؤه على خوفه (¬5). ¬
لطيفة
وروى البيهقي عن أبي علي الروذاباري رحمه الله تعالى قال: الخوف والرجاء كجناحي الطائر؛ إذا استويا استوى الطائر، وتم طيرانه، وإذا انتقص واحد منهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا جميعاً صار الطائر في حد الموت، لذلك قيل: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: الخوف أفضل من الرجاء ما كان الرجل صحيحاً، فإذا نزل الموت، فالرجاء أفضل من الخوف (¬2). وهذا اختاره الغزالي في "الإحياء" (¬3). على أنهم مجمعون على ترجيح جانب الخوف في حق المتضمخ بالآثام؛ وقد قيل: [من مجزوء الكامل] الْخَوْفُ أَوْلَىْ بِالْمُسِيْ ... ءِ إِذَا تألَّهَ وَالْحَزَنْ وَالأَمْنُ يَصْلُحُ لِلتَّقيْـ ... ـــــــيِ وَلِلنَّقِيِّ مِنَ الدَّرَنْ (¬4) * لَطِيْفَةٌ: روى أبو نعيم عن أبي حمزة الثمالي: أنه أتى علي بن الحسين ¬
56 - ومنها: البكاء من خشية الله تعالى، أو شوقا إلى لقائه، وخصوصا عند تلاوة القرآن
رحمهم الله تعالى فانتهى به إلى حائط له، فقال له: يا أبا حمزة! ترى هذا الحائط؟ قلت: بلى يا بن رسول الله، قال: فإني اتكأت عليه يوماً وأنا حزين، فإذا رجل حسن الوجه، وحسن الثياب ينظر في وجهي، ثم قال لي: يا علي! يا بن الحسين! ما لي أراك كئيبا حزيناً؟ أَعَلَى الدنيا؟ هو رزقٌ حاضرٌ يأكل منه البَرُّ والفاجر، فقلت: ما عليها أحزن، هو كما تقول، فقال: أَعَلَى الآخرة؟ هو وعدٌ صادقٌ تَحَكَّم فيه ملك قاهر، قلت: ما على هذا أحزن لأنه كما تقول، قال: وما حزنك يا علي يا بن الحسين؟ قلت: في الخوف من فتنة ابن الزبير، فقال لي: يا علي! هل رأيت أحداً سأل الله فلم يعطه؟ قلت: لا، قال: فخاف الله فلم يَكْفِهِ؟ قلت: لا، ثم غاب عني، فقيل لي: يا علي! هذا الخضر عليه السلام (¬1). وقوله: (فخاف الله) تقديره: فهل رأيت أحداً خاف الله فلم يَكْفِهِ ما خاف منه؟ ومن خاف من عذاب الله أو من غيره خشيةَ أن يسلطه الله عليه، كفاه الله تعالى ما خاف منه. 56 - ومنها: البكاء من خشية الله تعالى، أو شوقاً إلى لقائه، وخصوصاً عند تلاوة القرآن: قال الله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] ¬
قال النووي في، "الأذكار" في آداب التلاوة: ويستحب البكاء؛ يعني: عند تلاوة القرآن، والتباكي لمن لا يقدر على البكاء؛ فإن البكاء عند القراءة صفة العارفين، وشعار عباد الله الصالحين، ثم تلا الآية (¬1). وروى الترمذي وحسنه، وابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَىْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّىْ يَعُوْدَ اللَّبَنُ إِلَىْ الضِّرْعِ، وَلا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِيْ مِنْخَرَيْ عَبْدٍ أَبَداً" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن صالح المُرِّي رحمه الله تعالى قال: بلغني عن كعب رحمه الله تعالى أنه كان يقول: من بكى خوفاً من الله - عز وجل - من ذنب غفر له، ومن بكى اشتياقاً إلى الله تعالى أباحه النظر إليه - تبارك اسمه - يراه متى يشاء (¬3). وعن يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى: أنه كان يقول: البكاء من سبعة أشياء: البكاء من الحزن، والبكاء من الوجع، [والبكاء من الفزع]، والبكاء من الفرح، والبكاء من الشكر، والبكاء من الرياء، ¬
تنبيه
والبكاء من خشية الله تعالى؛ فذلك الذي تطفئ الدمعة منه أمثال البحور من النار (¬1). * تَنْبِيْهٌ: قال مكحول رحمه الله تعالى: أرق الناس قلوباً، أقلّهم ذنوباً (¬2). وقال أبو معاوية الأسود رحمه الله تعالى: من أكثر لله الصدق، نَدِيَتْ عيناه، وأجابته إذا دعاهما (¬3). وقال كعب رحمه الله تعالى: إن العبد لا يبكي حتى يبعث الله - عز وجل - إليه ملكاً يمسح كَبِدَه بجناحه، فإذا مسح كَبِدَه بكى (¬4). وقال فضيل رحمه الله تعالى: والله ما فاضت عينا عبد قط حتى يضع الله تعالى يده على قلبه، وما بكت عيناه إلا من فضل رحمة الله له (¬5). روى هذه الآثار ابن أبي الدُّنيا في "البكاء"، وغيره. ¬
57 - ومنها: الحزن على ما فات من معصية، أو تقصير، أو فزعا من عذاب الله، وفرقا من أهوال يوم القيامة
57 - ومنها: الحزن على ما فات من معصية، أو تقصير، أو فَزَعاً من عذاب الله، وفَرَقاً من أهوال يوم القيامة: روى الترمذي في "الشمائل"، وابن أبي الدُّنيا في كتاب "الحزن" عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السُّكوت، لا يتكلم في غير حاجة (¬1). وروى ابن أبي الدُّنيا، والطَّبراني في "الكبير"، والحاكم عن أبي الدَّرداء، والدَّيلمي عن معاذ - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الله يُحِبُّ كُلَّ قَلْبِ حَزِيْنِ" (¬2). ¬
وقال سعيد بن جبير (¬1) رحمه الله تعالى: الحزن في الدُّنيا تلقيح العمل الصَّالح (¬2). وقال أبو معاوية الأسود رحمه الله تعالى: إن لكل شيء نتاجاً، ونتاج العمل الصَّالح الحزن (¬3). وقال الحسن: والله إن أصبح مؤمن إلا حزيناً، وكيف لا يحزن المؤمن وقد جاء عن الله - عز وجل - أنه وارد جهنم، ولم يأته أنه صادر عنها (¬4). وقال مكحول رحمه الله تعالى: أوحى الله إلى موسى عليه السَّلام: اغسل قلبك، قال: يا رب! بأي شيء أغسله؟ قال: بالهم والحزن (¬5). وقال صالح أبو شعيب رحمه الله تعالى: أوحى الله تعالى إلى ¬
تنبيه
عيسى بن مريم عليهما السَّلام: اكْحُلْ عينك بمأمول الحزن إذا ضحك البطَّالون (¬1). روى هذه الآثار ابن أبي الدُّنيا. وأما استعاذة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهم والحزن في الأخبار الصحيحة: فالمراد بهما الهم والحزن الشاغلان عن الله تعالى، وعن العمل الصالح (¬2). أي: الهم بالدنيا والحزن على فواتها، كما قال تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23]. أو الحزن على ما لم يجر به القضاء مما يريده العبد، كما قال تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النحل: 127]. * تَنْبِيْهٌ: الحزن تارة يوجب البكاء، وتارة يوجب الكَمَد، فتحسر الدمعة، والأول أروح للقلب، ومن ثَمَّ اختار بعض العارفين تفضيل الثاني. وأفضل الحزن ما كان داعياً إلى العمل الصالح. قيل للحسن: إن عندنا قوماً يبكون ليسوا بذاك، ونرى قوماً أفضل منهم لا يبكون؟ ¬
قال الحسن: أولئك تبكي قلوبهم (¬1). وقيل لعبد الله بن شميط رحمه الله تعالى: كان أبوك يبكي؟ قال: كان عمله يبكي (¬2). وقال معاوية بن قُرَّة رحمه الله تعالى: بكاء العمل أحب إلي من بكاء العين (¬3). رواهما ابن أبي الدنيا. وأياً ما كان الحزن مع بكاء أو كمد، فإنه من الأعمال الصالحة المكفرة للذنوب. قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إن العبد ليذنب الذنب، فإذا رآه الله قد أحزنه ذلك، غفر له من غير أن يحدث صلاة ولا صدقة. رواه ابن أبي الدنيا، وغيره (¬4). وروى هو، والإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوْبُ الْعَبْدِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يُكَفِّرُهَا، ابْتَلاهُ اللهُ بِالْحُزْنِ لِيُكَفِّرَهَا عَنْهُ" (¬5). ¬
58 - ومنها: حسن الظن بالله تعالى لا سيما عند الموت.
وهذا الحزن شامل للحزن على فقد الولد، ونحوه أيضاً. 58 - ومنها: حسن الظن بالله تعالى لا سيما عند الموت. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَال اللهُ تَعَالَىْ: أَناَ عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِيْ بِيْ؛ إِنْ ظَنَّ خَيْراً فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ" (¬1). وأخرجه الطبراني، والحاكم وصححه، من حديث واثلة رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِيْ بِيْ فَلْيَظُنَّ بِيْ ما شاءَ" (¬2). وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بثلاث يقول: "لا يَمُوْتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ - عز وجل -" (¬3). ¬
59 - ومنها: الورع، وترك الشبهات
وروى الدينوري في "المجالسة" عن شعيب بن سليمان رحمه الله تعالى قال: أتى ذو القرنين مغيب الشمس، فرأى ملكاً من الملائكة كأنه يترجح في أرجوحة من خوف الله تعالى، فهاله ذلك، فقال له: علمني علماً لعلي أزداد إيماناً، فقال: إنك لا تطيق ذلك، قال: لعل الله أن يطوقني، فقال له الملك: لا تهتم لغَدٍ، واعمل في اليوم لغد، وإذا آتاك الله من الدنيا سلطاناً فلا تفرح به، وإذا صرفه عنك فلا تأس عليه، وكن حسن الظن بالله، وضع يدك على قلبك، فما أحببت أن تصنع لنفسك فاصنعه بأخيك، ولا تغضب؛ فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب، فرُدَّ الغضبَ بالكظم، وسَكّنْه بالتَّؤُدَة، وإياك والعجلة؛ فإنك إذا عجلت أخطأت، وكن سهلاً ليناً للقريب والبعيد، ولا تكن جباراً عنيداً (¬1). 59 - ومنها: الورع، وترك الشبهات: روى الإمام أحمد عن أنس - رضي الله عنه -، وهو والنسائي عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، والطبراني في "الكبير" عن وابصة رضي الله تعالى عنه، والدارقطني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إِلَىْ مَا لا يَرِيْبُكَ" (¬2). ¬
زاد أبو نعيم، والخطيب في حديث ابن عمر: "فَإِنَّكَ لَنْ تَجِدَ فَقْدَ شَيْءٍ تَرَكْتَهُ لِلَّهِ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُنْ وَرِعاً تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعاً تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحْسِنْ مُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيْتُ الْقَلْبَ" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أَوْحَىْ اللهُ - عز وجل - إِلَىْ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ يَلْقَانِيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ ناَقَشْتُهُ بِالْحِسَابِ، وَفتَّشْتُهُ عَمَّا كانَ فِيْ يَدَيْهِ إِلاَّ الْوَرِعِيْنَ؛ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيْهِمْ، وَأُجِلُّهُمْ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ (¬3). ¬
وروى الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " [ثلاث] مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ فَلا تَعْبَؤُوْا بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ؛ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَعٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَعَاصِيْ اللهِ، أَوْ حِلْمٌ يَكُفُّ بِهِ السَّفِيْهَ، أَوْ خُلُقٌ يَعِيْشُ بِهِ فِيْ النَّاسِ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: لا تنظروا إلى صلاة عبد ولا صيامه، ولكن انظروا إلى صدق حديثه إذا حدث، وإلى ورعه إذا أشفى، وإلى أمانته إذا ائتُمِنَ (¬2). وقال: حدثني محمد بن الحسين، قال: أنشدني إبراهيم بن داود بن شداد رحمه الله تعالى قوله: [من المنسرح] الْمَرْءُ يَزْرِيْ بِلُبِّهِ طَمَعُهْ ... وَالدَّهْرُ قِرْنٌ كَثِيْرَةٌ خُدَعُهْ وَالنَّاسُ إِخْوَانُ كُلِّ ذِيْ نَشَبٍ (¬3) ... قَدْ خابَ عَبْدٌ إِلَيْهِمُ ضَرَعُهْ وَالْعَبْدُ إِنْ كانَ عَاقِلاً وَرِعاً ... أَخْرَسَهُ عَنْ عُيُوْبِهِمْ وَرَعُهْ ¬
60 - ومنها: الزهد في الدنيا، وإيثار التقلل منها
كَمَا الْمَرِيْضُ السَّقِيْمُ يَشْغَلُهُ ... عَنْ وَجَعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَجَعُهْ (¬1) 60 - ومنها: الزهد في الدنيا، وإيثار التقلل منها، وإيثار الفقر على الغنى، وحمل النفس على الرضى بما قسم لها، والنظر إلى من هو دونها في الدنيا، وإلى من هو فوقها في عمل الآخرة: قال الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64]. قال وهب بن مُنبِّه رحمه الله تعالى: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين؛ إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. رواه أبو نعيم في "الحلية" (¬2). وروى ابن ماجه، وحسنه النووي (¬3)، عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: دُلَّني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس، فقال: "ازْهَدْ فِيْ الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيْمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ" (¬4). ¬
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "انْظُرُوْا إِلَىْ مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوْا إِلَىْ مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوْا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ" (¬1). ولفظ البخاري: "إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَىْ مَنْ فَضُلَ عَلَيْهِ فِيْ الْمَالِ وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَىْ مَنْ هُوَ أَسْفَلَ منه" (¬2). وروى أبو نعيم، والخطيب عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَظَرَ فِيْ الدُّنْيَا إِلَىْ مَنْ فَوْقَهُ، وَفِيْ الدِّيْنِ إِلَىْ مَنْ تَحْتَهُ، لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ صابِراً وَلا شَاكِراً، وَمَنْ نَظَرَ فِيْ الدُّنْيَا إِلَىْ مَنْ تَحْتَهُ، وَفِيْ الدّيْنِ إِلَىْ مَنْ فَوْقَهُ، كَتَبَهُ اللهُ صابِراً شاكِراً" (¬3). والمعنى: أنه إذا نظر إلى من تحته - أي: دونه - في الدنيا عظمت نعمة الله عليه، فيشكرها، بخلاف ما لو نظر إلى من فوقه، فقد يستقل ما أنعم الله عليه، فيهلَك بكفران النعمة التي لله عنده، وإذا نظر إلى من فوقه في الدين يتحرى الازدياد من الخير، وذلك يحتاج إلى صبر، كما ¬
قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]؛ فالعمل الصالح يحتاج إلى صبر عليه. بخلاف ما لو نظر إلى من هو دونه في الدين، فيرى لنفسه مزية عليه، فيهلك بالعُجْب والكِبر وغيرهما. وروى الإمام أحمد، والطبراني، والبيهقي في "الشعب" عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، لا أعلمه إلا رفعه، قال: "صَلاحُ هَذهِ الأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِيْنِ، وَيَهْلِكُ آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالأَمَلِ" (¬1). وسبق هذا الحديث برواية أخرى في اليقين، وهذه الرواية أتم؛ ألا ترى أنه عمم فيها أن صلاح الأمة بالزهد واليقين من غير تقييد بأول الأمة؟ (¬2). وروى أبو نعيم عن الربيع قال: قال الشافعي - رضي الله عنه -: عليك بالزهد؛ فإن الزهد على الزاهد أحسن من الحلي على الناهد (¬3). ¬
تنبيه
وقلت: [من السريع] عَنِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ الرَّضِيْ ... قَوْلٌ لأَهْلِ الزُّهْدِ كالشَّاهِدِ ازْهَد فَإِنَّ الزُّهْدَ لِلزَّاهِدِ ... أَبْهَىْ مِنَ الْحَلْي عَلىْ النَّاهِدِ وروى ابن أبي الدنيا في "المداراة" عن أيوب السختياني رحمه الله تعالى قال: لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي النَّاس، والتجاوز عما يكون منهم (¬1). وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: جعل الله الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه حُبَّ الدنيا، وجعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا (¬2). * تَنْبِيْهٌ: نقل القشيري عن الإمام أحمد قال: الزهد على ثلاثة أوجه: - ترك الحرام: وهو زهد العامة. - وترك الفضول من الحلال: وهو زهد الخاصة. - وترك ما يشغل عن الله تعالى: وهو زهد العارفين (¬3)، انتهى. ¬
61 - ومنها: إيثار الجوع، وخشونة العيش، والاقتصار على اليسير من المأكول، والمشروب، والملبوس، وغيرها من حظوظ النفس
ولقد أحسن من قال: [من الطويل] وَمَا الزُّهْدُ إِلاَّ فِيْ انْقِطَاعِ الْخَلائِقِ ... وَمَا الْوَجْدُ إِلَّا فِيْ وُجُوْدِ الْحَقَائِقِ وَمَا الْحُبُّ إِلاَّ حُبُّ مَنْ كانَ قَلْبُهُ ... عَنِ الْخَلْقِ مَشْغُوْلاً بِرَبِّ الْخَلائِقِ (¬1) 61 - ومنها: إيثار الجوع، وخشونة العيش، والاقتصار على اليسير من المأكول، والمشروب، والملبوس، وغيرها من حظوظ النفس: قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. وقال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} [التكاثر: 1] إلى آخر السورة. وقالت عائشة رضي الله عنها: ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض (¬2). رواه الشيخان. ولهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: أخرجت لنا عائشة رضي الله عنها كساء وإزاراً غليظًا (¬3)، قالت: قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذين (¬4). ¬
62 - ومنها: القناعة، والاقتصاد في المعيشة، والنفقة، والتعفف عن السؤال من غير ضرورة
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوْتاً" (¬1). قال النووي: قال أهل الغريب: معنى قوتاً: ما يسد الرَّمَق (¬2). وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: من ضبط بطنه، ضبط الأخلاق الصالحة. وعن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: كان ناس من بني إسرائيل يتعبدون بمكان، حتى إذا كان فِطْرُهم، قام عليهم قائم، فقال: لا تأكلوا كثيراً فإنكم إذا أكلتم كثيراً نمتم كثيراً، وإذا نمتم كثيراً صليتم قليلاً (¬3). وروى أبو نعيم عن شميط بن عجلان رحمه الله تعالى قال: يا ابن آدم! إنما الدنيا غداء وعشاء، فإن أخرت غداءك إلى عشاءك، أمسى ديوانك في ديوان الصالحين (¬4). 62 - ومنها: القناعة، والاقتصاد في المعيشة، والنفقة، والتعفف عن السؤال من غير ضرورة: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67]. ¬
وقال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]. وروى مسلم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ" (¬1). وروى هو، والبخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "لَيْسَ الْغِنَىْ عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَىْ غِنَىْ النَّفْسِ" (¬2)؛ والَعرَض - بفتح المهملتين -: المال. وروى أبو داود عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَتَكَفَّلُ لِيْ أَنْ لا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً وَأَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟ "، قال: فقلت: أنا. فكان ثوبان - رضي الله عنه - لا يسأل أحداً شيئاً (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن محارب بن دِثَار رحمه الله تعالى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنْ أُمَّتِيْ مَنْ لا يَسْتَطِيْعُ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَهُ، أَوْ مُصَلاَّهُ مِنَ الْعُرْيِ، يَحْجُزُهُ إِيْمَانُهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ؛ مِنْهُمْ أُوَيْسٌ الْقُرَنِيُّ، وَفُراتُ بْنُ حَيَّانَ الْعِجْلِيُّ" (¬4). ¬
وروى أبو نعيم عن مِسْعر رحمه الله تعالى: أنه قال: [من البسيط] اقْبَلْ مِنَ الدَّهْرِ يَوْماً مَا أتاكَ بِهِ ... وَاصْبِرْ لِرَيْبِ زَمَانِ السُّوْءِ إنْ عَثَرا ما لامْرِئ فَوْقَ ما يَجْرِيْ الْقَضَاءُ بِهِ ... فَالْهَمُّ فَضْلٌ وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ صَبَرا يَا رُبَّ سَاعِ لَهُ فِيْ سَعْيِهِ أَمَلٌ ... يَفْنَىْ وَلَمْ يَقْضِ مِنْ تَأمِيْلِهِ وَطَرا مَا ذَاقَ طَعْمَ الْغِنَىْ مَنْ لا قُنُوْعَ لَهُ ... وَلَنْ تَرَىْ قَنِعاً ما عِشْتَ مُفْتَقِرا وَالْعُرْفُ مَنْ يَأْتِهِ يَحْمَدْ عَوَاقِبَهُ ... ما ضَاعَ عُرْفٌ وَإِنْ أَوْلَيْتَهُ حَجَرا (¬1) وما أحسن قولَ أبي العتاهية من أبيات: [من البسيط] واِذَا قَنِعْتَ فَأَنْتَ أَيْسَرُ مَنْ مَشَىْ ... إِنَّ الْفَقِيْرَ هُوَ الَّذِيْ لا يَقْنَعُ وَإِذَا طَلَبْتَ فَلا إِلَىْ مُتَضَايِقٍ ... ما ضَاقَ عَنْهُ فَرِزْقُ رَبِّكَ أَوْسَعُ ¬
تنبيه
وقال أيضاً: [مجزوء الرمل] أَنْتَ ما اسْتَغْنَيْتَ عَنْ ... صاحِبِكَ الدَّهْرَ أَخُوْهُ فَإِذَا احْتَجْتَ إِلَيْه ... سَاعَةً مَجَّكَ فُوْهُ (¬1) وروى أبو نعيم عن محمد بن الأوزاعي رحمهما الله تعالى قال: قال لي أبي: لو قبلنا من الناس كل ما يعطونا لَهُنَّا عليهم (¬2). * تَنْبِيْهٌ: سيأتي أن الاقتصاد من أخلاق الأنبياء عليهم السلام. وفي حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الاقْتِصَادُ نِصْفُ الْعَيْشِ". رواه الخطيب (¬3). وأخرجه الديلمي، لكن قال: "التَّدْبِيْرُ نِصْفُ الْعَيْشِ" (¬4). وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: ¬
63 - ومنها: قبول ما يفتح الله به من غير سؤال، ولا تطلع نفس
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ رِفْقُهُ فِيْ مَعِيْشَتِهِ" (¬1). قلت: ومما يدخل في التدبير والرفق: ادخار قوت العيال سنة، كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، بخلاف شراء الطعام عند الحاجة إليه من السوق؛ فإن فيه تنغيصاً للعيش، وربما ارتفع السعر، وربما لا يكون الثمن حاضراً. ومن هنا قال داود لابنه سليمان عليهما السلام: يا بني! أتدري ما جهد البلاء؟ قال: لا، قال: شراء الخبز من السوق، والانتقال من منزل إلى منزل. رواه الخطيب عن يحيى بن [أبي] كثير (¬3). 63 - ومنها: قبول ما يفتح الله به من غير سؤال، ولا تطلُّع نفس: روى الشيخان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر - رضي الله عنه -: "إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَتَمَوَّلْهُ، فَإِنْ شِئْتَ كُلْهُ، وَإِن شِئْتَ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ" (¬4). قال سالم بن عبد الله بن عمر: فكان عبد الله لا يسأل أحداً (¬5). ¬
تتمة
قالت شيوخ الصوفية رحمهم الله تعالى: الفقير لا يسأل، ولا يرد، ولا يدخر (¬1). قلت: لكن يعرف مِمَّن يقبل، وكيف يقبل؛ فإن كان المعطي ظالماً، فالأولى أن لا يقبل من ماله زجراً له، وإذا عرف صاحب المال المدفوع إليه فالأولى أن يقبله، ويرده إلى مالكه وإذا لم يعرف مالكه، وقبله؛ فإن كان له ضرورة سدها، وصرف الباقي في مصرف الأموال الضائعة، وإذا قبل فلا يقبل بذلٍّ، ولا شَرَه نفس، ويدعو للمعطي بما لا حرج فيه، ويكفيه أن يقول له: جزاك الله خيراً، أو: تقبل الله منك، وإذا قدر على المكافأة كافأه، ولا يخفى الورع في ذلك كله على بصير. * تَتِمَّةٌ: روى ابن جهضم عن حذيفة المرعشي رحمه الله تعالى قال: إياكم وهدايا الفجار والسفهاء؛ فإنكم إذا قبلتموها ظنوا أنكم قد رضيتم فعلهم (¬2). 64 - ومنها: الأكل من عمل اليد، والكسب الطيب: قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَىْ ظَهْرِهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَداً فَيُعْطِيَهُ، أَوْ يَمْنَعَهُ" (¬1). وروى البخاري عن المقدام بن معدي كرب رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِه" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: قال داود عليه السلام: إلهي! أي رزق أطيب؟ قال: ثمرة يدك يا داود (¬3). وروى أبو نعيم عن أبي بكر الجوهري رحمه الله تعالى قال: وجد في صخرة منقورة مكتوباً عليها: كل بيمينك من عرق جبينك، فإن ضَعُفَ يقينك فاسأل المولى يعينك (¬4). وما أحسن ما أنشده ابن أبي الدنيا في كتاب "القناعة" لبعضهم: [من الوافر] لَنَقْلُ الصَّخْرِ مِنْ قُلَلِ الْجِبَال ... أَخَفُّ عَلَيَّ مِنْ مِنَنِ الرِّجَالِ ¬
تنبيه
يَقُوْلُ النَّاسُ كَسْبُكَ فِيْهِ عارٌ ... فَقُلْتُ: الْعَارُ فِيْ ذُلِّ السُّؤَالِ (¬1) * تَنْبِيْهٌ: إنما يكون المحترف والمكتسب من الصالحين إذا راعى في كسبه واحترافه ما يجب عليه مراعاته من علم البيع والشراء، وسائر المعاملات التي يحتاج إليها، والحذر من العقود الفاسدة، والمنهي عنها، ومن الغش والخديعة، والأيمان الفاجرة، وكثرة الحلف، وكثرة الكلام فيما لا يعنيه مما لا يزيد في الرزق ولا ينقص، كمدح السلعة، ومع مراعاة النصيحة لمن يعامله، والمحافظة على الآداب الشرعية في ذلك كله. وقد روى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى في قوله: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37] قال: والله لقد كانوا يتبايعون في الأسواق، فإذا حضر حق من حقوق الله - عز وجل - رفعوا ما في أيديهم، وبدؤوا بحق الله تعالى حتى يقضوه، ثم رجعوا إلى تجارتهم. وروى أبو بكر بن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون، فإذا سمعوا النداء ألقوا ما في أيديهم، وقاموا إلى المسجد (¬2). ¬
65 - ومنها: الكرم، والجود، والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى
وروى عبد الرزاق، وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم، ثم دخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (¬1). وروى الطبراني، والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه رأى ناساً من أهل السوق سمعوا الأذان، فتركوا أمتعتهم، وقاموا إلى الصلاة، فقال: هؤلاء الذين قال الله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن قتادة قال: قال سليمان النبي عليه السلام: عجباً للتاجر كيف يخلص؟ يحلف بالنهار، وينام في الليل (¬3). 65 - ومنها: الكرم، والجود، والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى: قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] ¬
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قالَ اللهُ تَعالَىْ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير"، والحاكم وصححه، والبيهقي، وآخرون عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ كَرِيْمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، وُيحِبُّ مَعَالِيَ الأَخْلاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا" (¬2). ولقد أحسن القائل: [من الطويل] وَيُظْهِرُ عَيْبَ الْمَرْءِ فِيْ النَّاسِ بُخْلُهُ ... وَيَسْتُرُهُ عَنْهُمْ جَمِيْعاً سَخَاؤُهُ تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَاءِ فَإنَّنِيْ ... أَرَىْ كُلَّ عَيْبٍ وَالسَّخَاءُ غِطَاؤُهُ (¬3) وروى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه" عن محمد بن بشر المصيصي قال: نا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَجَافَوْا عَنْ زَلَّةِ السَّخِيِّ؛ فَإِنَّهُ إِذَا عَثَرَ أَخَذَ الرَّحْمَنُ بِيَدهِ". ¬
وهنا لطائف
ثم أنشد محمد بن بشر لنفسه: [من الخفيف] كُنْ سَخِيًّا وَلا تُبَالِ ابْنَ مَنْ كُنْـ ... ــــــــــتَ فَمَا النَّاسُ غَيْرُ أَهْلِ السَّخَاءِ لَنْ يَنَالَ الْبَخِيْلُ مَجْدًا وَلَوْ نَا ... لَ بِيَافُوْخِهِ (¬1) نُجُوْمَ السَّمَاءِ (¬2) وَهُنا لَطائِفُ: - إحداها: روى أبو نعيم عن وهب قال: إن أجود الناس في الدنيا من جاد بحقوق الله تعالى، وإن رآه الناس بخيلاً فيما سوى ذلك، وإن أبخل الناس من بخل بحقوق الله، وإن رآه الناس كريماً فيما سوى ذلك (¬3). وهذا لا شبهة فيه، بل إذا بخل بحقوق الله وجاد بغيرها، لم يخرج عنه اسم البخيل، وازداد اسماً آخر، وهو المسرف. - الثانية: روى البيهقي في "الشعب" عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى: أنه دخل على رابعة العدوية رضي الله تعالى عنها فقالت له: يا سفيان! ما تعدون السخاء فيكم؟ قال: أما عند أبناء الدنيا فالذي يجود ¬
- الثالثة
بماله، وأما عند أبناء الآخرة فالذي يجود بنفسه، فقالت: يا سفيان! أخطأتم فيها، فقال سفيان: فما السخاء عندك رحمك الله؟ قالت: أن تعبدوه حباً له، لا لطلب جزاء ولا مكافأة. ثم أنشأت تقول: [من المنسرح] لَوْلاكَ مَا طابَتِ الْجِنَانُ وَلا ... طَابَ نَعِيْمٌ بِجَنَّةِ الْخَلَدِ قَوْمٌ أَرَادُوْكَ لِلْجِنَانِ فَنَا ... لُوْها وَقَلْبِيْ سِوَاكَ لَمْ يُرِدِ (¬1) - الثالثة: روى أبو نعيم عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: من سئل بالله فأعطى، كُتب له سبعون أجراً (¬2). قلت: إنما ضوعف أجره لأنه إنما أعطى إجلالاً لله تعالى، وصيانة لاسمه أن يذكر في طلب حاجة هو قادر على قضائها فلا يقضيها. - الرابعة: روى ابن جهضم عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: أن رجلاً قال له: يا أبا علي! من أسمح الناس؟ فقال: من جاد بماله تبرعاً، وتنزه عن مال غيره تورعاً. ¬
تنبيه
وهذا كلام صحيح، مقتضاه أن من أخذ من أموال الناس ظلماً، وأعطى آخرين منه، وإن أعطى الألوف، فليس من الجود في شيء؛ فإنه لم يَجُدْ بمال نفسه، بل بمال غيره، والتصرف في مال الغير بلا حق حرام؛ وإن غلط أهل الدنيا في إطلاق الكرم، والجود على فعله، وقالوا: فلان نهَّابٌ وَهَّابٌ. * تَنْبِيْهٌ: التبجح بالكرم، وقوله: سأكسوك، سأعطيك، وقوله لمن شكى إليه غرامة، أو نحوها: لا بأس عليك، تعال أعطيك، وأفعل معك، ونحو ذلك، ليس من الكرم في شيء حتى يفعله، بل سبق الفعل أولى من سبق القول، فإن قصر فعله عن قوله، كان ذلك شر أنواع البخل. وأنشد المبرد لمسلم: [من الطويل] لِسَانُكَ أَحْلَىْ مِنْ جَنَىْ النَّخْلِ مَوْعِداً ... وَكَفُّكَ بِالْمَعْرُوْفِ أَضيَقُ مِنْ قُفْلِ تَمَنَّىْ الَّذِيْ يَأتِيْكَ حَتَّىْ إِذَا انْتهَى ... إِلَىْ أَمَدٍ ناَوَلْتَهُ طَرَفَ الْحَبْلِ (¬1) ¬
66 - ومن خصال الصالحين، وأخلاقهم: الإيثار، والمواساة {فإن لم يصبها وابل فطل} [البقرة: 265]
66 - ومن خصال الصالحين، وأخلاقهم: الإيثار، والمواساة {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265]: قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. وروى البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شاء لشبع، ولكنه كان يؤثر على نفسه (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عثمان رضي الله تعالى عنه: أنه كان يخطب فقال: إنا -والله- قد صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر والحضر، فكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن ناساً يعلموني به عسى أن لا يكون أحدهم رآه قط (¬2). ويجمع بين هذا الحديث والذي قبله: بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان تارة يؤثر على نفسه، وتارة يواسي من عنده. ¬
وروى مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِيْ الاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِيْ الأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِيْ الثَّمَانِيَةَ" (¬1). قلت: هذا الحديث يظهر الحكمة في المواساة، والفائدة فيها، وذلك أن العبد إذا واسى (¬2) أخاه في قدر كفايته من الطعام وغيره بحيث شاطره إياه، ويجتزئ بقدر نصف الكفاية، فإن الله تعالى يكافئه؛ بأن يجعل ذلك النصف كافياً له كما لو استوفاه؛ فإنه سبحانه وتعالى كما جعل كفايته في هذا القدر قادر على أن يجعلها في قدر نصفه، ثم يجعل الله ثواب مساواته لأخيه في قدر كفايته نافلة له على وزان قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. فمن واسى أخاه في طعامه لم يفته من كفايته شيء، ويكون ثواب الله تعالى ورضاه عنه فائدة له زائدة، ونافلة عليه عائدة، ولا يعرف ذلك إلا محقق، والله سبحانه وتعالى الموفق. وأما الإيثار فإنه إنما يكون ثقة بخلف الله تعالى، ولا شك أنه أبلغ من المواساة، إلا أن المواساة أيسر، والإيثار إنما يتيسر في أوقات دون أوقات. وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: كان ¬
بالمدينة أهل بيت ذوو حاجة عندهم رأس شاة، فأصابوا شيئاً، فقالوا: لو بعثنا بهذا الرأس إلى أحوج منا، قال: فبعثوا به، فلم يزل يدور بالمدينة حتى رجع إلى أصحابه الذين خرج من عندهم (¬1). وروى أبو نعيم عن مسعر بن كدام رحمه الله تعالى أنه خرج يوماً إلى الجبان، فإذا هو بأعرابي يتشرق في الشمس، وهو يقول: [من الكامل] جَاءَ الشِّتَاءُ وَلَيْسَ عِنْدِيْ دِرْهَمُ ... وَلَقَدْ يُخَصُّ بِمِثْلِ ذاكَ الْمُسْلِمُ وَتَقَاسَمَ النَّاسُ الْجِبابَ وَغَيْرَهَا ... وَكَأَنّنَيْ بِفِنَاءَ مَكَّةَ مُحْرِمُ فنزع مسعر جبته، فأعطاه إياها (¬2). وروى أبو الحسن بن جهضم عن أبي عامر الأسدي قال: سئل سفيان الثوري عن المواساة، فقال: هذا طريق قد نبت عليه العوسج (¬3). يشير إلى قلة المواساة فضلاً عن الإيثار في أهل زمانه، فكيف بالزمان الذي بعده إلى الآن؟ ¬
67 - ومنها: التواضع، وخفض الجناح
67 - ومنها: التواضع، وخفض الجناح: قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]. وروى مسلم، والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مالٍ، وَما زادَ اللهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَما تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ" (¬1). وروى إسحاق الختلي في "ديباجه" عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: إن الله يحب العالم المتواضع، ويبغض العالم الجبار، ومن تواضع لله ورَّثه الله الحكمة (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن هشام بن حسان رحمه الله تعالى قال: ذكروا التواضع عند الحسن وهو ساكت، حتى إذا أكثروا عليه قال لهم: أراكم قد أكثرتم الكلام في التواضع، قالوا: وأي شيء التواضع يا أبا سعيد؟ قال: يخرج من بيته فلا يلقى مسلماً إلا ظن أنه خير منه (¬3). وروى البيهقي عن ابن المبارك: أنه سأل عن التواضع، فقال: التكبر على الأغنياء (¬4). ¬
68 - ومنها: التنافس في أمور الآخرة، والاستكثار مما يتبرك به
وعنه أنه قال: من التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا حتى يعلم أنه ليس لك فضل عليه لدنياك، وأن ترفع نفسك عند من هو فوقك في دنياه حتى يعلم أنه ليس له لدنياه فضل عليك (¬1). 68 - ومنها: التنافس في أمور الآخرة، والاستكثار مما يتبرك به: قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]؛ معناه كما قال الثعلبي: فليرغب الراغبون في المبادرة إلى طاعة الله تعالى. وروى البخاري، وغيره، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَيْنَا أيُّوْبُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَغْتَسِلُ عُرْياناً فَخَرَّ عَلَيْهِ [رِجْل] (¬2) جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أيُّوْبُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَحْثِيْ فِيْ ثَوْبِهِ، فَنَاداهُ ربُّهُ - عز وجل -: يَا أيُّوْبُ! ألَمْ كُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرى؟ قَالَ: بَلَىْ وَعِزَّتكِ، وَلَكِنْ لا غِنَىْ لِيْ عَنْ بَرَكَتِكِ" (¬3). * فائِدَةٌ: ربما غلط قوم فظنوا الحسد منافسة، أو المنافسة حسداً، والفرق بينهما أن الحسد تمني زوال النعمة عن المحسود مع طلب حصولها للحاسد، أو دونه، والمنافسة طلب حصول مثل تلك النعمة للمنافس ¬
69 - ومنها: أخذ المال من وجهه، وصرفه في وجوهه المأمور بها شرعا
من غير تمني زوالها عن المغبوط، ويقال لهذا: غِبْطة، وَحَسَدُ الْغِبْطة أيضاً. قال الماوردي في "أدب الدين والدنيا": المنافسة طلب التشبه بالأفاضل من غير إدخال ضرر عليهم، والحسد مصروف إلى الضرر؛ لأن غايته أن يعدم الفاضل فضله من غير تفسير الفضل له. ثم قال: والمنافسة -إذن- فضيلة؛ لأنها داعية إلى اكتساب الفضائل، والاقتداء بالأخيار الأفاضل (¬1). قال: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الْمُؤْمِنُ يَغْبِط، وَالْمُنَافِقُ يَحْسُدُ" (¬2). وقال الشاعر: [من السريع] نافِسْ عَلَىْ الْخَيْرَاتِ أَهْلَ الْعُلا ... فَإِنَّمَا الدّنْيَا أَحَادِيْثُ كُلّ امْرِئٍ فِيْ شَأْنِهِ كادحٌ ... فَوَارِثٌ مِنْهُمْ وَمَوْرُوْثُ (¬3) 69 - ومنها: أخذ المال من وجهه، وصرفه في وجوهه المأمور بها شرعاً: وهو معنى الشكر من الغنى. ¬
بل من أخلاق الصالحين الشكر على كل نعمة كما سبق، والحمد على كل حال. ومعنى الشكر: صرف جميع ما أنعم الله به على العبد من النعم المشتمل عليها الإنسان؛ كالبصر والسمع واليد وغيرها، فيما خلق له من طاعة ونحوها، وهو المأمور به في قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]. وأقل مراتب الشكر أن لا يعصى الله بنعمه، كما أجاب به الأستاذ أبو القاسم الجنيد من سأله عنه (¬1). وفي معناه أنشدوا: [من الوافر] أَنَالَكَ رِزْقَهُ لِتَقُوْمَ فِيْهِ ... بِطَاعَتِهِ وَتَشْكُرَ بَعْضَ حَقِّهْ فَلَمْ تَشْكُرْ أَيَادِيَهُ وَلَكِنْ ... قَوِيْتَ عَلَىْ مَعَاصِيْهِ بِرِزْقِهْ ولا شك أن صرف المال في وجهه الشرعي بعد أخذه من وجهه - أيضاً - لا يعدو عن واجب، ومستحب، أو مباح؛ إن لوحظت فيه النية صار طاعة أيضاً، وبه يحصل شكر نعمة المال. روى الشيخان، وغيرهما عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَسَدَ إِلاَّ فِيْ اثْنَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرآنَ فَهُوَ يَقُوْمُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَآناءَ ¬
70 - ومنها: الإكثار من ذكر الله تعالى، والرغبة في مجالس الذكر، والتنزه عن مجالس اللهو والظلم وذكر الدنيا
النَّهارِ، وَرَجُلٌ آتاهُ اللهُ مالاً فَهُوَ يُنْفِقُهُ آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ" (¬1). والآناء: الساعات. ولا يقال: (أنفق) إلا في الخير، كما تقدم. 70 - ومنها: الإكثار من ذكر الله تعالى، والرغبة في مجالس الذكر، والتنزه عن مجالس اللهو والظلم وذكر الدُّنيا: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41 - 43]. وروى مسلم، والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما: أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: "لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُوْنَ اللهَ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَغَشِيتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِيْنَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيْمَنْ عِنْدَهم" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى: أنه دخل المسجد، فنظر إلى نفر قد اجتمعوا جلوساً، فرجا أن يكونوا على ذكر على خير، فجلس إليهم، فإذا بعضهم يقول: قدم غلام لي فأصاب كذا وكذا، وقال الآخر: أنا جهزت غلاماً لي، فنظر ¬
إليهم، فقال: سبحان الله! هل تدرون ما مثلي ومثلكم؟ كمثل رجل أصابه مطر غزير وابل، فالتفت فإذا هو بمصراعين عظيمين، فقال: لو دخلت هذا البيت حتى يذهب عني أذى هذا المطر، فدخل، فإذا بيت لا سقف له، جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير، فإذا أنتم أصحاب دنيا، وقام عنهم (¬1). وعن سالم بن أبي الجعد رحمه الله تعالى قال: قيل لأبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: إن أبا سعد بن منبه أعتق مئة محرر، فقال: إن مئة محرر من مال رجل لكثير، وإن شئتم أنبأتكم مما هو أفضل من ذلك؛ إيمان ملزوم بالليل والنهار، ولا يزال لسانك رطبا من ذكر الله - عز وجل - (¬2). وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله، قالوا: يا أبا عبد الرحمن! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا، إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع؛ لأن الله - رضي الله عنه - يقول في كتابه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] (¬3). وفي رواية عبد الله في "زوائده": ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع (¬4). ¬
71 - ومنها: الإكثار من ذكر الموت، وقصر الأمل
وأخرجه والده في "المسند" - مرفوعاً - دون قولهم لمعاذ: ولا الجهاد؟ إلى آخره (¬1). والأحاديث والآثار في فضل الذكر لا تحصى. 71 - ومنها: الإكثار من ذكر الموت، وقصر الأمل: قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35]. وقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]. وروى الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والطَّبراني في "الأوسط"، والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه، وأبو نعيم عنه، وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَكْثِرُوْا ذِكْرَ هاذِمِ اللَّذَّاتِ" (¬2). زاد ابن حبان، والبيهقي في حديث أبي هريرة، والبزار في حديث ¬
أنس: "فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحدٌ فِيْ ضِيْقٍ مِنَ الْعَيْشِ إِلاَّ وَسَّعَهُ، وَلا ذَكَرَهُ فِيْ سَعَةٍ إِلاَّ ضَيَّقَهَا عَلَيْهِ" (¬1). وهاذم - بالذال المعجمة - أي: قاطع. وروى البخاري، وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي، فقال: "كُنْ فِيْ الدُّنْيا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ، أَوْ عابِرُ سَبِيْلٍ". قال: وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الموت"، والطبراني في "الصغير" عنه - أيضاً - قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاشر عشرة، فقام رجل من الأنصار فقال: يا نبي الله! مَنْ أكيسُ الناس، وأحزم الناس؟ قال: "أكثَرُهُمْ ذِكْراً لِلْمَوْتِ، وَأَكْثَرُهُمُ اسْتِعْداداً لِلْمَوْتِ؛ أُوْلَئِكَ الأكيَاسُ، ذَهَبُوْا بِشَرَفِ الدُّنْيَا، وَكَرامَةِ الآخِرَةِ" (¬3). ¬
وروى ابن أبي الدنيا عن السدي في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]؛ قال: أيكم أكثر للموت ذكراً، وله أحسن استعداداً، ومنه أشد خوفاً وحذراً (¬1). قال ابن أبي الدنيا: حدثني أبو العباس الثقفي قال: دخل أبو محمد اليماني على أبي النصر هاشم بن القاسم يعوده، فقال: [من مجزوء الرجز] ألْهَىْ جَهُوْلاً أَمَلُهْ ... يَمُوْتُ مَنْ جا أَجَلُهْ وَمَن دنَا مِنْ حَتْفِهِ ... لَمْ تُغْنِ عَنْهُ حِيَلُهْ وَكَيْفَ يَبْقَىْ آخِرٌ ... قَدْ ماتَ عَنْهُ أَوَّلُهْ (¬2) وقيل: إن هذه الأبيات وجدت في صخرة منقورة عند قبر إبراهيم عليه السلام، وفيها بيت زائد، وهو: [من مجزوء الرجز] وَالْعَبْد لا يَصْحَبُهُ ... فِيْ الْقَبْر إِلا عَمَلُهْ (¬3) ¬
72 - ومنها: زيارة القبور للرجال، والسلام على سكانها
72 - ومنها: زيارة القبور للرجال، والسَّلام على سكانها: روى مسلم عن بريدة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُنْتُ نهيْتُكُمْ عَنْ زِيارَة الْقُبُوْرِ؛ فَزُوْرُوْهَا" (¬1). ورواه ابن ماجه عَن ابن مسعود - رضي الله عنه - بنحوه، وزاد: "فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِيْ الدُّنْيَا، وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ" (¬2). والحاكم عن أنس رضي الله تعالى عنه، وزاد: "فَإِنَّهَا تُرِقُّ الْقَلْبَ، وَتُدْمعُ الْعَيْنَ، وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ، وَلا تَقُوْلُوْا هُجْراً (¬3) " (¬4). وروى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج كلما كان ليلتها من الليل إلى البقيع، فيقول: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ دارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِيْنَ، وَأَتاكُمْ ما تُوْعَدُوْنَ، غَدًا مُؤَجَّلُوْنَ، وَإِنا إِنْ شاءَ اللهُ بِكُمْ لاحِقُوْنَ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيع الْغَرْقَدِ" (¬5). وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا الفضل بن جعفر، ثنا غزوان بن عبد الرحمن بن غزوان، قال: كنت جالساً مع أبي بالبصرة إذ أقبل شيخ على حمار في عنقه حبل ليف، والشيخ حافٍ عليه صوف، حتى وقف علينا، ¬
73 - ومنها: قيام الليل، والتهجد، وهو الصلاة بعد رقدة كما في الحديث
فسلم على أبي، فأحفل أبي بالمسألة به، وقال: من أين أقبلت؟ فقال: فكرت في هذا العسكر ليلاً، فغدوت عليهم، فقلت: [من مجزوء الكامل] وَعَظَتْكَ أَجْداثٌ صُمُتْ ... وَبَكَتْكَ سَاكِتَةٌ خُفُتْ وَتَكَلَّمَتْ عَنْ أَعْظُمٍ ... تَبْلَىْ وَعَنْ صُوَرٍ سُبُتْ وَأَرتَكَ قَبْرَكَ فِيْ الْقُبُوْ ... رِ وَأَنْتَ حَيٌّ لَمْ تَمُتْ ثم ولى غير بعيد، ثم أقبل فقال: وَلَرُبَّمَا انْصَرَفَ الشِّمَا ... تُ فَحَلَّ بِالْقَوْمِ الشُّمُتْ وهذا الشيخ هو أبو العتاهية، والأبيات معروفة له (¬1). 73 - ومنها: قيام الليل، والتهجد، وهو الصلاة بعد رقدة كما في الحديث: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1 - 2]. وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]. وروى الإمام أحمد، ومسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ فِيْ اللَّيْلِ ساعَةً لا يُوَافِقُهَا عَبدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ فِيْهَا خَيْراً إِلاَّ أَعْطاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ" (¬2). ¬
وروى الإمام أحمد عن بلال رضي الله تعالى عنه، والترمذي، والحاكم، والبيهقي عنه، وعن أبي أمامة - رضي الله عنه -، وابن السني عن جابر رضي الله تعالى عنه، والطبراني في "الكبير" عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وابن عساكر عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِيْنَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إِلَىْ اللهِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ، وَتَكْفِيْرٌ لِلسَّيِّاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن إسماعيل بن مسلم قال: قيل للحسن رحمه الله تعالى: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره نوراً (¬2). ¬
وعن أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ، وَأَيْقَظَ امْرَأتهُ، فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيْعاً، كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ اللهَ كَثِيْراً، وَالذَّاكِرَاتِ" (¬1). وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: بحسب الرجل من الخيبة - أو قال: من الشر - أن يبيت ليلة لا يذكر الله حتَّى يصبح، فيصبح وقد بال الشيطان في أذنه (¬2). وروى الإمام أحمد، وابن حبان (¬3)، والبيهقي عن أبي مالك الأشعري رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إِنَّ فِيْ الْجَنَّةِ غُرَفاً، يُرَىْ ظاهِرُها مِنْ باطِنِها، وَباطِنُها مِنْ ظاهِرِها، أَعَدَّها اللهُ تَعالَى لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعامَ، وَأَلانَ الْكلامَ، وَتابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّىْ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيامٌ" (¬4). وأنشد أبو سعيد في "الحدائق" لبعضهم: [من المنسرح] طُوْبَىْ لِعَبْدٍ بِعَيْشِهِ قَنِعَا ... فَالْتَحَفَ الزُّهْدَ وَارْتَدَى الْوَرَعا ¬
تنبيه
وَكانَ لِلصَّالِحِيْنَ مُتَّبِعاً ... وَعَنْ جَمِيع الْفُضُوْلِ مُنْقَطِعا راقَبَ مَوْلاهُ خائِفاً وَجِلاً ... وَفِيْ رِضاهُ وَفَضْلِهِ طَمِعا أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ وَاسْتَعَذَلَهُ ... لمَّا رَأَىْ شَيْبَ رَأْسِهِ سَطَعَا طالَعَ دُنْياهُ ثُمَّ هاجَرَها ... فَلَمْ يَصِرْ بِالْغُرُوْرِ مُنْخَدِعا صامَ لِمَوْلاهُ ثُمَّ قامَ لَهُ ... قَدْ جَمَعَ الصَّوْمَ وَالْقِيامَ مَعًا * تنبِيْهٌ: قيل لعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: ما نستطيع قيام الليل، قال: أقعدتكم ذنوبكم (¬1). وقال الحسن رحمه الله تعالى: إن العبد ليذنب الذَّنب فيحرم به قيام الليل (¬2). رواهما ابن أبي الدنيا. 74 - ومنها: استحباب العزلة عند فساد الزمان، أو الخوف من الفتنة في الدين، والوقوع في حرام، أو شبهة: قال الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50] وروى الشيخان عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: "رَجُلٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ، وَمالِهِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ"، قال: ثم من؟ قال: "رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِيْ شِعْبٍ مِنَ الشِّعابِ ¬
يَعْبُدُ ربهُ"، وفي رواية: "يَتَّقِيْ اللهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن إسماعيل بن أمية قال: قال عمر - رضي الله عنه -: إن في العزلة لراحةً من خُلاَّط السوء (¬2). وعن حفص بن عاصم قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه: خذوا بحظكم من العزلة (¬3). وروى ابن أبي الدُّنيا في "العزلة" عن بكير، أو يعقوب بن الأشج: أن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهما: لزما بيوتهما بالعقيق، فلم يكونا يأتيان المدينة لجمعة، ولا لغيرها حتى ماتا بالعقيق (¬4). وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: أنه قال: والله لوددت أن بيني وبين الناس باباً من حديد؛ لا يكلمني أحد، ولا أكلمه حتَّى ألقى الله - عز وجل - (¬5). ¬
75 - ومنها: التفرغ للعبادة، علما، وعملا، ونية
وعن هشام بن عروة رحمهما الله تعالى قال: لما اتخذ عروة قصره بالعقيق قال له الناس: جفوت مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إني لما رأيت مساجدكم لاهية، وأسواقكم غافلة، والفاحشة في فجاجكم فاشية، كان فيما هنا عفا أنتم فيه عافية (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وولده في "زوائده" عن خليد بن عبد الله العصري رحمه الله تعالى قال: المؤمن لا تلقاه إلا في ثلاث: مسجد يعمره، وبيت يستره، أو حاجة من أمر دنياه لا بأس بها (¬2). 75 - ومنها: التفرغ للعبادة، علماً، وعملاً، ونية: قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8]. وروى الحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: 20] الآية، ثم قال: "يَقُوْلُ اللهُ تَعالَىْ: ابْنَ آدَمَ! تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِيْ أَمْلأْ صدْرَكَ غِنَى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وإِنْ لا تَفْعَلْ مَلأْتُ صَدْرَكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرك" (¬3). ¬
76 - ومنها: الاختلاط. بالناس لحضور جمعهم وجماعاتهم، وحضور مشاهد الخير، ومجالس الذكر معهم، وعيادة مرضاهم،
وروى الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم عن أبي الدَّرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَفَرَّغُوْا مِنْ هُمُوْمِ الدُّنْيا ما اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّ مَنْ كانَتِ الدُّنْيَا كثَرَ هَمِّهِ أَفْشا اللهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَمَنْ كانَتِ الآخِرَةُ أَكْثَرَ هَمِّهِ جَمَعَ اللهُ لَهُ أُمُوْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِيْ قَلْبِهِ، وَمَا أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَىْ اللهِ - عز وجل - إِلاَّ جَعَلَ اللهُ قُلُوْبَ الْمُؤْمِنِيْنَ تَفِدُ إِلَيْهِ بِالْوِدّ، وَالرَّحْمَةِ، وَكانَ اللهُ إِلَيْهِ بِكُلِّ خَيْرٍ أَسْرَعَ" (¬1). وقوله في الحديث: "أكبر همه" بالباء الموحدة. وفي نسخة صحيحة من "الحلية": (أكثر) بالمثلثة، وكلاهما صحيح. وروى أبو نعيم عن أبي موسى الطرسوسي رحمه الله تعالى قال: ما تفرغ عبد لله ساعة، إلا نظر الله إليه بالرحمة (¬2). 76 - ومنها: الاختلاط. بالناس لحضور جمعهم وجماعاتهم، وحضور مشاهد الخير، ومجالس الذِّكر معهم، وعيادة مرضاهم، ¬
وشهود جنائزهم، ومواساة محتاجهم، وإرشاد جاهلهم، وإفشاء السَّلام فيهم، وتشميت عاطسهم، وزيارة صالحيهم، وغير ذلك من مصالحهم لمن قدر على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقمع نفسه عن الإيذاء، وصبر على الأذى. لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وللأحاديث الواردة في فضل ذلك؛ فإن لم يكن بتلك الصفة= وما أعز من يتصف بها في زمانك هذا وأنت بعد تمام عشرة قرون كل قرن مئة عام، وقد عددت عدة أعوام من القرن الحادي عشر من هجرة سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - = فليس له أن يختلط بالناس إلا للضرورة التي أشرت إليها. وعولت في أبيات قلتها قديماً عليها: [من الكامل] هَذَا زَمانُ الصَّبْرِ لَمْ يَعْرِفْ بِهِ ... وَبِحالِهِ إِلَّا اللَّبِيْبُ الْحَاذِقُ خانَ الأَمِيْنُ بِهِ وَخانَ الْواثِقُ ... وَنَأَىْ الصَّدِيْقُ بِهِ وَمانَ الصَّادِقُ فَعَلَيْكَ فِيْهِ بِعُزْلَةٍ مَحْفُوْظَةٍ ... عَنْ كُلِّ ما لا يَرْتَضِيْهِ الْخالِقُ إِلاَّ لِعِلْمٍ أَوْ لِهَمِّ مَعِيْشَةٍ ... فَاخترْ لِصُحْبَتِكَ الَّذِيْ بِكَ لائِقُ
فَلَئِنْ لسَمِعْتَ وَصِيَّتِيْ وَنَصِيْحَتِيْ ... فَلأَنْتَ حَقًا فِيْ الْقِيامَةِ سابِقُ وقولنا: فاختر لصحبتك الذي بك لائق؛ أي: إنك إذا احتجت إلى الاختلاط بالناس فلا تخالط إلا من يليق بك من المؤمنين دون الفاسقين والمنافقين. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُصاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِناً، وَلا يَأْكُلْ طَعامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ". رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى الطبراني - ومن طريقه أبو نعيم - عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: "يَا عَلِيُّ! اسْتَكْثِرْ مِنَ الْمَعارِفِ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ؛ فَكَمْ مِنْ مَعْرِفَةٍ فِيْ الدُّنْيا بَرَكَةٌ فِيْ الآخِرة"، فمضى علي، فأقام حيناً لا يلقى أحداً إلا اتخذه للآخرة، ثم جاء من بعد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما فَعَلْتَ فِيْما أَمَرْتُكَ؟ " قال: قد فعلت يا رسول الله، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اذْهَبْ فَابْلُ أَخْبَارَهُمْ"، فأتى على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو منكس رأسه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
وتبسم: "ما أَحْسِبُ يَا عَلِيُّ ثَبَتَ مَعَكَ إِلَّا أَبْنَاءُ الآخِرَةِ"، فقال له علي: لا والذي بعثك بالحق، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدَوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِيْنَ، يَا عَليُّ! أَقْبِلْ عَلَىْ شَأْنِكَ، وَامْلِكْ لِسانَكَ، وَاعْقِلْ مَنْ تُعَاشِرُ مِنْ أَهْلِ زمَانِكَ، تَكُنْ سالِماً غانِماً" (¬1). وقوله: "واعقل من تعاشر"؛ أي: تعرف من تعاشره قبل معاشرته؛ فإن كان من أبناء الآخرة فعاشره، وإلا فلا تحفل به. أو المعنى: تعرف حال من تعاشره حتى تعاشره بما يليق به من ملاءمة، ومودة، أو مداراة، وحلم، وصبر، واحتمال أذى، وغير ذلك. وفي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمُؤْمِنُ الَّذِيْ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِيْ لا يُخَالِطُ النَّاسَ". رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه (¬2). وروى الأولان، وحسنه الترمذي، والحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، والإمام أحمد، والترمذي، والبيهقي عن معاذ رضي الله تعالى عنه، وابن عساكر عن أنس رضي الله تعالى عنه قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتَّقِ اللهَ ما اسْتَطَعْتَ، وَأتبعِ السَّيِّئةَ ¬
الْحَسَنَةَ تَمْحُها، وَخالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" (¬1). أنشدنا شيخ الإسلام والدي لنفسه عقب إملائه لهذا الحديث: [من الرمل] اتَّقِ اللهَ تَعَالَىْ ما اسْتَطعْـ ... ــــــــــتَ وَأتبعْ سَيِّئَاتٍ حَسَنَةْ خالِقِ النَّاسَ بِخُلْقٍ حَسَنٍ ... ذا الْحَدِيْثُ التِّرْمِذِيْ قَدْ حَسَّنَهْ وله في المعنى ما كتبه لولده الشيخ المحقق العلامة العارف بالله تعالى الفهامة شهاب الدين أحمد رحمه الله تعالى وصية له، وهي من أنفع الوصايا، وأليقها بهذا المقام: [من الكامل] السْمَعْ بُنَيَّ وَصِيَّتِيْ وَاعْمَلْ بِهَا ... تَبْلُغْ مِنَ الْخَيْرِ الْجَزِيْلَ الْمُنْتَهَىْ ¬
لا تَعْتَمِدْ فِيْ حاجَةٍ إِلاَّ عَلَىْ ... مَوْلَىَ تُقَدِّسْ مَجْدَهُ وَتُنَزِّهَا وَارْفَعْ إِلَىْ الرَّحْمَنِ كُلَّ مُلِمَّةٍ ... وَاخْضَعْ إِلَيْهِ تَمَسْكُنًا وَتألُّهَا وَاخْشَ الْمُهَيْمِنَ وَأْتِ ما يَرْضَىْ بِهِ ... وَاحْذَرْ تَكُنْ مِمَّنْ بِدُنْيَاهُ الْتَهَىْ وَاتْبَعْ هُدَىْ خَيْرِ الأَنامِ وَهَدْيَهُ ... وَأَطِعْ أَوَامِرَهُ وَحُدْ عَمَّا نهىْ وَتَجَنَّبِ الْمَحْظُوْرَ جَهْدَكَ وَاجْتَنِبْ ... مَكْرُوْهَ أَفْعالٍ وَإِنْ تَكُ مُكْرَها وَالْخَلْقَ خَالِقْهُمْ عَلَىْ حَذَرٍ وإنْ ... تَصْحَبْ فَأَهْلَ الدِّيْنِ مِنْ أَهْلِ النُّهَىْ وَلَئِنْ جَنَحْتَ إِلَىْ اعْتِزالِكَ عَنْهُمُ ... أُعْطِيْتَ عِزًّا مِنْ إِلَهِكَ مَعْ بَهَا وَاقْنَعْ تَكُنْ حُرًّا بِدَوْلَتِهِ زَهَىْ ... وَاطْمَعْ تَكُنْ عَبْداً بِذِلَّتِهِ وَهَىْ
وإِذا حَصَلْتَ عَلَىْ الْمَرامِ مِنَ اللَّهَىْ ... فَاقْصُرْ فَكافٍ كُلُّ ما سَدَّ اللَّها وَاحْبِسْ زِمامَ النَّفْسِ مِنْ غُلَوائِهَا ... فَالنَّفْسُ تَطْلُبُ كُلَّ شَيْءِ مُشْتَهَى وَبقَدرِ ما نالَتْ تُحَاسَبُ فيْ غَدٍ ... فَاقْنع بِما تُعْطَى فَذَلِكَ حَسْبُها
فصل
فَصْلٌ وإذا احتجت إلى الاختلاط بالصالحين، توظفت عليك وظائف هي من أخلاق الصَّالحين وصفاتهم، وجميعها داخل في المخالقة المأمور بها في الحديث؛ كالتواضع، وخفض الجناح للمؤمنين، وتحسين الخلق معهم، والحلم عليهم، والتأني، والرفق بهم، وعدم الحنق والغضب منهم إلا إذا انتهكت حرمات الشرع، فيتعين الغضب لله تعالى، والانتصار لدينه لا للنفس، والعفو والإعراض عن الجاهلين، واحتمال الأذى، وإذا كنت والياً على أمر من أمور المسلمين تأكَّدَ في حقك الرفق برعاياهم، والنصيحة لهم، والشفقة عليهم، والتباعد عن عتبهم، والذب عن أعراضهم ودمائهم وأموالهم، والاهتمام بمصالحهم، والحذر من الغفلة عنهم، والإهمال لهم، ومراعاة العدل فيهم، وفيما بينهم، والتحرز عن الظُّلم، ولو في شيء قليل، وإذا اتخذت عليهم وزيراً أو عاملاً أو والياً أو قاضياً، تحرَّيتَ أن يكون عادلاً صالحاً، وحذرته من ظلمهم، وإهمال مصالحهم، والتحجب عنهم، وإذا أمكنك أن تكون مأموراً لا أميراً فهو أحب وأولى. وإياك من سؤال الإمارة، وطلبها؛ فإنك توكل إليها، كما ورد في
الحديث (¬1)، وإن قلدتها من غير طلب منك أعنت عليها. وقد روى ابن أبي الدُّنيا في "العقوبات" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَنْ تَهْلَكَ الرَّعِيَّةُ - وإِنْ كانَتْ ظالِمَةً مُسِيْئَة - إِذا كانَتِ الْوُلاةُ هادِيَةً مَهْدِيَّة، وإنَّمَا تَهْلَكُ إِذا كانَتِ الْوُلاةُ ظَلَمَةً مُسِيْئَة" (¬2). وهذا يستدل له بقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] أي: أمرنا زعماءها وأكابرها بالطَّاعة، فعصوا، وفسقوا. قال عبد الرَّحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: إذا لم يل الوالي لله، ولم يؤد المولى ما عليه من حق الله، فاحذروا مكر الله وأخذه، فقد أَحَقَّ الشر عليكم. رواه ابن أبي الدُّنيا أيضاً. وإذا كنت موليًا فعليك بطاعة ولاة الأمور، ولو كان عبداً حبشياً، في غير معصية الله تعالى، وإيّاك أن تطيعهم ولو في قليل منها، إلا أن تخاف على نفس أو عرض أو مال. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَىْ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، فِيْما أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ لما رواه الشيخان عن ابن ¬
عمر رضي الله تعالى عنهما (¬1). وقد استوفى النووي رحمه الله تعالى أدلة هذا الفصل في كتابه (¬2) وغيره، وتقدم الكلام على بعضها، ولعل بقيتها نذكرها - أو أكثرها - في أثناء كتابنا هذا. وروى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "المداراة" قال: حدثني محمَّد بن الحسين قال: حدَّثني الأصمعي قال: لما حضرت جدي علي بن الأصمع الوفاة جمع بنيه فقال: أي بَنِيَّ! عاشروا الناس معاشرةً إن غبتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم (¬3). وروى أبو نعيم عن محمَّد ابن الحنفية رحمه الله تعالى قال: ليس بحكيم من لم يعاشر بمعروف من لا يجد من معاشرته بداً، حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً (¬4). ¬
فصل
فَصْلٌ ومن الوظائف التي تتوظف على من يخالط الناس: استعمال الآداب الشرعية في محالِّها؛ فإنه بذلك يتشبه بالصالحين في مخالطتهم الناس - رضي الله عنهم -، فعليك أن تتشبه فيها إذا أردت اللحاق بهم، وإلا كنت حاكياً عنهم لا متشبهاً بهم. وما أحسن ما أنشده القاضي الماوردي في "أدبه" لمحمد بن كناسة: [من الكامل] مَا مَنْ رَوَىْ أَدَباً وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ ... ويَكُفَّ عَنْ زيْغِ الْهَوَىْ بِأَدِيْبِ حَتَّىْ يَكُوْنَ بِما تَعَلَّمَ عامِلاً ... مِنْ صالح فَيَكُوْنَ غَيْرَ مَعِيْبِ وَلَقَلَّمَا تُغْنِيْ إِصابَةُ قائِل ... أَفْعَالُهُ أَفْعَالُ غَيْرِ مُصِيْبِ (¬1) ¬
والأدب عبارة عن حمل النفس على ما يُطلب ويُستحسن شرعاً، وليس المراد به ما استحسنه الأعاجم والمترفون؛ فإن هذا قد يخالف الشريعة والسنة، كاستعمال الأخونة، ورفع الطعام عن الآكلين، وارتفاع الآكل عن الطعام، وقيام الخدمة على الرؤوس وهم يأكلون، وكإطالة الأذيال، وقيامهم بين يدي كبرائهم، وركوعهم لهم إذا دخلوا عليهم، والقيام لهم عند دخولهم وخروجهم، وعند شربهم وعطاسهم دون التلفظ بالتشميت، وتقبيل الأرض بين أيديهم دون الابتداء بالسَّلام المسنون، إلى غير ذلك من آدابهم؛ فليس ذلك من الأدب في شيء، وقد نهينا عن التشبه بالأعاجم، كما سيأتي الكلام على ذلك في القسم الثاني من الكتاب. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري في "الرسالة": حقيقة الأدب اجتماع خصال الخير، ومقتضاه أنه لو تأدب في حالة، وترك الأدب في حالة لم يكن أديباً حتى يعطي كل حال وكل مقام ما يستحقه من الأدب، كما قيل: [من الطويل] إِذَا نَطَقَتْ جاءَتْ بِكُلِّ فَصاحَةٍ ... وإِنْ سَكَتَتْ جاءَتْ بِكُلِّ مَلِيْحِ (¬1) قلت: وقد وقعت الإشارة إلى طلب الأدب من العبد في كل حال بقوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ ¬
أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]؛ فإنه إذا كان مطلعاً على ما في النفوس، عليماً بما تخفي الصدور، فاطلاعه على الظواهر أظهر. على أنه قال: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى: 7]؛ فأنت في ظاهرك وباطنك بمرأى منه ومسمع، فلا ينبغي لك أن تخل بأدب مطلوب ظهوره على ظاهرك، أو حصوله في باطنك في حال أصلاً، سواء كان الأدب بينك وبينه، أو بينك وبين خلقه، والله الموفق. وقال أبو الحسين النوري رحمه الله تعالى: من لم يتأدب للوقت، فَوَقْتُهُ مَقْتٌ. وعقد الجد شيخ الإسلام الجد رضي الله تعالى عنه في "الجوهر الفريد في أدب الصوفي والمريد" بقوله: [من الرجز] مَنْ لَمْ يَكُنْ ذا أَدَبٍ فِيْ الْوَقْتِ ... عادَ عَلَيْهِ وَقْتُهُ بِالْمَقْتِ فيتعين مطالبة النفس بالأدب في كل حين؛ لأنه قد لا يوافق أخلاقها فيحملها عليه، ولا يسامحها في شيء منه وإن قل؛ فإن الحاجة إلى الأدب شديدة الاهتمام. ومن ثم قال الإمام عبد الله بن المبارك رضي الله تعالى عنه: نحن
إلى قليل من الأدب، أحوج منا إلى كثير من العلم (¬1). وبيانه: أن العلم محبوب للنفس كله، وهي متطلبة إلى التلبس به أبداً، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْهُوْمانِ لا يَشْبَعانِ: طالِبُ عِلْمٍ، وَطالِبُ دنْيا". رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬2). بخلاف الأدب؛ فإنه خلف هوى النفس غالباً، ومن ثم سميت عقوبة العبد على الأدب تأديباً وأدباً. ثم الأدب لا يتيسر من جهة النفس حتى يعاشر أهل الأدب، ويخالطهم، ويذل لهم، ويغتنم صحبتهم قبل فوات أحيانهم، وتغيب أعيانهم. ومنذ زمان طويل قال ابن المبارك رحمه الله تعالى: طلبنا الأدب ¬
حين فات المؤدبون. رواه عنه القشيري في "الرسالة" (¬1). وحكى عنه فيها تلك المقالة، وذكر فيها - أيضاً - القصة المعروفة عن الجنيد رضي الله تعالى عنه: أن السَّرِيَّ السَّقَطِيَّ رحمه الله تعالى استقضاه في حاجة، فقضاها له سريعاً، قال: فلما رجعت إليه ناولني رقعة، وقال: هذا لمكان قضاء حاجتك لي سريعاً، فقرأت الرقعة فإذا فيها: سمعت حادياً يحدو في البادية: [من الرجز] أَبْكَيْ وَما تَدْرينَ ما يُبْكِيْنيْ ... أَبْكِيْ حِذَارَ أَنْ تُفَارِقِيني وَتَقْطَعِيْ حَبْلِيْ وَتَهْجُرِيْنيْ (¬2) وقد أنزل الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من الأدب بالمنزلة العليا، وخصه منه بالآية الكبرى حتى صار أهلاً لمناجاته، ومشافهته في ليلة الإسراء التي خصه بها دون سائر الأنبياء، ثم حفظ عليه الأدب في تلك الحالة، كما وصفه به في قوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، ثم أمره بحفظ الأدب في سائر أحيانه بألطف الإشارة في قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218، 219]؛ عبر بالقيام عن مطلق الحركة؛ أي: حين تتحرك في أي أمر كان، وفي أي وقت كان، فاحفظ الأدب فيه؛ فإني مطلع عليك في سائر حركاتك وفي صلاتك. ¬
فالأدب الذي يكون به العبد متشبهاً بالصَّالحين هو الأدب الذي أدَّب الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأمره أن يؤدب به النَّاس. روى العسكري في "أمثاله" عن علي رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَدَّبَنِيْ رَبِّيْ فَأَحْسَنَ تأْدِيْبِي" (¬1). ورواه ابن السمعاني من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وزاد فيه: "ثُمَّ أَمَرَنِيْ بِمَكارِمِ الأَخْلاقِ، وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] الآية" (¬2). روى الحكيم الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ أَمَرنيْ أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مِمَّا عَلَّمَنِيْ، وَأَنْ أُوَادِبَكُم"، الحديث (¬3). وروى البيهقي في "الشعب" عن سمُرة - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُلُّ مُؤْدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَىْ مآدبه، وأدب اللهِ الْقُرآنُ فَلا تَهْجُرُوْهُ" (¬4). ¬
وروى الترمذي عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يُؤْدِبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ" (¬1). قلت: الصاع في الحديث مبهم، فيحتمل أن يكون المراد صاعاً من طعام، وهو المتبادر، ويحتمل أن يكون صاعاً من ذهب أو دُرٍّ، والأدب في نفس الأمر أنفس من ذلك، فلا عَدَّ فيه، والله الموفق. وروينا في "رسالة الأستاذ أبي القاسم القشيري" رحمه الله تعالى عن أبي نصر الطوسي رحمه الله تعالى قال: الناس في الأدب على ثلاث طبقات: أما أهل الدنيا أكثر آدابهم في الفصاحة، والبلاغة وحفظ العلوم، وأسمار الملوك، وشعر العرب. وأما أهل الدين فأكثر آدابهم في رياضة النفوس، وتأديب الجوارح، وحفظ العهود، وترك الشهوات. وأما أهل الخصوص فأكثر آدابهم في طهارة القلوب، ومراعاة ¬
1 - فمنها: الحياء.
الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلى الخواطر، وحسن الأدب في مواقف الطلب، وأوقات الحضور، ومقامات القرب (¬1). وقد ذكر الإمام النووي في كتاب الآداب من "رياضه" جملة ينبغي أن نشير إليها، ونأتي مع الاختصار عليها مع ما فتح الله به، وضُمَّ إليها: 1 - فمنها: الحياء. روى البخاري عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحَيَاءُ لا يَأتِيْ إِلَّا بِخَيْرٍ" (¬2). وروى مسلم، وأبو داود عنه - أيضاً -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْحَيَاءُ خَيرٌ كُلُّهُ" (¬3). وذكر الماوردي عن الرياشي قال: يقال: إن أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه كان يتمثل بهذا الشعر: [من البسيط] وَحاجَةٍ دُوْنَ أُخْرَىْ قَدْ سَنَحْتُ لَهَا ... جَعَلْتُهَا لِلَّتِيْ أَخْفَيْتُ عُنْوَاناً إِنِّيْ كَأَنِّي أَرَىْ مَنْ لا حَيَاءَ لَهُ ... وَلا أَمَانَةَ وَسْطَ الْقَوْمِ عُرْيَانَا (¬4) ¬
قال النووي: قال العلماء: حقيقة الحياء خُلُقٌ يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق (¬1). انتهى. قلت: وهذا مفهوم من الحديث: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كلامِ النُّبُوَّةِ الأُوْلَىْ: إِذا لَمْ تَسْتَح فَاصْنَعْ ما شِئْت". رواه الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، وابن ماجه من حديث أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -، والإمام أحمد من حديث حذيفة - رضي الله عنه - (¬2). وأنشدوا في المعنى: [من الوافر] وَرُبَّ قَبِيْحَةٍ ما حالَ بَينيْ ... وَبيْنَ رُكُوْبِها إِلاَّ الْحَياءُ وَكانَ هُوَ الدَّواءَ لَهَا وَلَكِنْ ... إِذا ذَهَبَ الْحَياءُ فَلا دَواءُ إِذا لَمْ تَخْشَ عاقِبَةَ اللَّيالِيْ ... وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَافْعَلْ مَا تَشاءُ فَلا وَاللهِ ما فِيْ الْعَيْشِ خَيْرٌ ... وَلا الدُّنْيا إِذا ذَهَبَ الْحَياءُ ¬
يَعِيْشُ الْمَرْءُ ما اسْتَحْيَى بِخَيْرٍ ... وَيبْقَىْ الْعُوْدُ ما بَقِيَ اللِّحَاءُ وروى الإمام أحمد، والترمذي، والأستاذ أبو القاسم القشيري، والحاكم، والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم لأصحابه: "اسْتَحْيُوْا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَياءِ"، قالوا: إنا نستحي يا نبي الله، قال: "لَيْسَ ذاكَ، وَلَكِنَّ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَياءِ فَيَحْفَظُ الرَّأْسَ وَما وَعَىْ، وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَما حَوَىْ، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وْالْبِلَىْ، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِيْنَةَ الدُّنْيَا؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ" (¬1). قلت: لم يقبل منهم - صلى الله عليه وسلم - دعوى الحياء، بل بين لهم أن الحياء ليس بالدعوى، بل ببذل المجهود في طلب مرضاة المعبود بالاشتغال به دون الاشتغال بشيء سواه. ¬
2 - ومنها: إنجاز الوعد، وحفظ العهد، ويدخل فيه صيانة الأسرار
وقال القشيري: سمعت الأستاذ أبا علي الدَّقاق رحمه الله تعالى يقول: الحياء ترك الدعوى بين يدي الله تعالى (¬1). قال: وسئل الجنيد رحمه الله تعالى عن الحياء، فقال: رؤية الآلاء، ورؤية التقصير يتولد منهما، حالة تسمى الحياء (¬2). أي: حالة تبعث على شكر الآلاء، وتنزيه النفس عن التقصير في حق ذي النعماء. 2 - ومنها: إنجاز الوعد، وحفظ العهد، ويدخل فيه صيانة الأسرار: قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. وروى مسلم عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أتى عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني في حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجة، قالت: وما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تخبرْ بسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحداً. قال أنس رضي الله تعالى عنه: والله لو حدثت به أحداً لحدثتك به يا ثابت (¬3). ¬
تنبيه
* تنبِيْهٌ: إذا كان سر الخلق مأموراً بحفظه العبد، ممنوعا من إفشائه؛ فما ظنك بسر الحق سبحانه وتعالى؟ فمهما أَسَرَّ الله تعالى إلى عبد من عباده بشيء من أسراره إلهاماً في اليقظة، أو في المنام، أو أطلعه على غيب من غيوبه، فليس له إفشاؤه إلا إذا أذن له في الإفشاء. وقال أبو بكر الشبلي رحمه الله تعالى: رأيت رب العزة سبحانه وتعالى في المنام، فسألته عن الحسين بن منصور (¬1) رحمه الله تعالى، فقال: إنه عبد من عبيدي استودعته سرًا من أسراري، فأذاعه، ففعلت به ما ترى (¬2). وأنشدوا: [من البسيط] مَنْ سارَرُوْهُ فَأَبْدَىْ السِّرَّ مُشْتَهِرَا ... لَمْ يَأمَنُوْهُ عَلَىْ الأَسْرارِ ما عاشَا ¬
3 - ومنها: المحافظة على ما اعتاده من الأوراد
وَجانبُوْهُ فَلَمْ يَسْعَدْ بِقُرْبِهِمُ ... وَأَبْدَلُوْهُ مَكَانَ الأُنْسِ إِيْحَاشاً لا يَصْطَفُوْنَ مُذِيْعاً بَعْضَ سِرِّهِمُ ... حاشا وِدَادَهُمُ مِنْ ذَلِكُمْ حاشا وتقدم قول السهروردي المعروف بالشاب الظريف رحمه الله تعالى: بِالسِّرِّ إِنْ باحُوْا تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ ... وَكَذا دِماءُ الْبائِحِيْنَ تُباحُ (¬1) وقد أُخِذَ بفتواه، فقتل بحلب في كلام به فَاهَ، وقصة قتله مشهورة، وفي كتب التاريخ مذكورة (¬2). 3 - ومنها: المحافظة على ما اعتاده من الأوراد: قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92]. وروى الإمام أحمد، والشيخان، والنسائي، وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا عَبْدَ اللهِ! لا تَكُنْ ¬
مِثْلَ فُلانٍ؛ كانَ يَقُوْمُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيامَ اللَّيْلِ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى: أن سليمان عليه السَّلام قال لابنه: يا بُنَيَّ! ما أقبح الخطيئةَ مع المسكنة، وأقبح الضلالةَ بعد الهدى، وأقبحُ من ذلك رجل كان عابداً فترك عبادة ربه (¬2). قلت: إنما كان حالُهُ أقبحَ لأن العبد إذا أقبل على الله أقبل الله سبحانه وتعالى عليه، فإذا أعرض أعرض عنه، ولا يليق الإعراض إلا عن من يَمَلُّ ويُمَلُّ، وهو سبحانه وتعالى لا يَمَلُّ ولا يُمَلُّ. وقال الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]. نزلت هذه الآية - كما في "الصحيحين" - في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه؛ كان ينفق على مِسْطَح بن أُثَاثة لقرابته منه، وفقره، ثم حلف أن لا ينفق على مسطح شيئاً بعد الذي قال لعائشة رضي الله تعالى عنها ما قال، فأنزل الله الآية، فلما قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: بلى إني أحبُّ أن يغفر الله لي، فرجع ¬
4 - ومنها: الحلم، وكظم الغيظ، واحتمال الأذى، والعفو عن الناس، والصفح الجميل عنهم، والإحسان إليهم، والإعراض عن الجاهلين
إلى مسطح نفقته، وقال: لا أنزعها عنه أبداً، وكفَّر عن يمينه (¬1). وفي ذلك إشارة إلى أن من أخلاق الصَّالحين وآدابهم، الانقياد لأمر الله تعالى، وإيثار أمره على حق النفس، والتكفير عن اليمين إذا كان غيرها خيراً منها. وقد روى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حَلَفَ عَلَىْ يَمِيْنٍ، فَرَأَىْ غَيْرَها خَيْراً مِنْها، فَلْيَأْتِ الَّذِيْ هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنِهِ" (¬2). 4 - ومنها: الْحِلْم، وكظم الغيظ، واحتمال الأذى، والعفو عن الناس، والصفح الجميل عنهم، والإحسان إليهم، والإعراض عن الجاهلين: قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وقال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. وقال الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]. ¬
وروى مسلم، والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لأشج عبد القيس: "إِنَّ فِيْكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُوْلُهُ: الْحِلْمُ وَالأَناَةُ" (¬1). وروى الخطيب عن أنس رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحَلِيْمُ سَيِّدٌ فِيْ الدُّنْيَا، وَسَيِّدٌ فِيْ الآخِرَةِ". وروى أبو نعيم، وغيره عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه قال: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ اللهَ تَعَالَىْ قالَ: يا عِيْسَىْ! إِنّيْ باعثٌ مِنْ بَعْدِكَ أُمَّةَ إِنْ أَصابَهُمْ ما يُحِبُّوْنَ حَمِدُوْا وَشَكَرُوْا، وإنْ أَصابَهُمْ ما يَكْرَهُوْنَ احْتَسَبُوْا وَصَبَرُوْا، وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ، قالَ: يا رَبِّ! كَيْفَ يَكُوْنُ هَذَا وَلا حِلْمَ وَلا عِلْم؟ قَالَ: أُعْطِيْهِمْ مِنْ حِلْمِيْ وَعِلْمِيْ" (¬2). قوله: "وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ"؛ أي: لا حلم تحلم ودعوى، ولا علم تعلم ودعوى، بل حلماً وعلماً مفاضين عليهم من فيض فضل ليس لهم فيه حول ولا قوة. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى ¬
5 - ومنها -وهو أعم مما قبله -: حسن الخلق
قال: قال الأحنف بن قيس رضي الله تعالى عنه: إني لست بحليم، ولكن أتحالم (¬1). 5 - ومنها -وهو أعم مما قبله -: حسن الخلق: قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وروى الإمام أحمد، والنَّسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن أسامة بن شريك رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سئل: ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: "خُلُق حَسَن" (¬2). وروى البخاري في "الأدب المفرد" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُكُمْ إِسْلامًا أَحاسِنُكُمْ أَخْلاقًا إِذَا فَقُهُوْا" (¬3). وروى ابن ماجه، والحاكم وصححه، عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِيْنَ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" (¬4). ¬
6 - ومنها: الرفق
وروى المستغفري في "مسلسلاته"، وابن عساكر في "تاريخه" عن الحسن بن عليٍّ رضى الله تعالى عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَحْسَنَ الْحُسْنِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى إِبْراهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: يا خَلِيْلِيْ! حَسِّنْ خُلُقَكَ وَلَوْ مَعَ الْكُفَّارِ، تَدْخُلْ مَداخِلَ الأَبْرارِ؛ فَإِنَّ كَلِمَتِيْ سَبَقَتْ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ أَنْ أُظِلَّهُ فِيْ عَرْشِيْ، وَأَنْ أُسْكِنَهُ حَظِيْرَةَ قُدُسِيْ، وَأَنْ أُدْنِيَهُ مِنْ جِوارِيْ". 6 - ومنها: الرفق: روى الإمام أحمد، والترمذي عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّة مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ" (¬2). ورواه ابن أبي الدُّنيا في "ذم الغضب"، والحكيم الترمذي، والخرائطي في "مكارم الأخلاق"، وأبو نعيم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، ولفظه: "يَا عائِشَةُ! إِنَّه مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ خَيْرِ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ"، الحديث (¬3). ¬
وروى مسلم عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "يَا عائِشَةُ! إِنَّ اللهَ رَفِيْق يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِيْ عَلَىْ الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِيْ عَلَىْ الْعُنْفِ، وَمَا لا يُعْطِيْ عَلَىْ ما سِوَاه" (¬1). ورواه البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه، وابن ماجه، وابن حبان عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، والإمام أحمد، والبيهقي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، والبزار عن أنس رضي الله تعالى عنه، والطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه كلهم بلفظ: "إِنَّ اللهَ رَفِيْق يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِيْ عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِيْ عَلَى الْعُنْفِ" (¬2). ¬
7 - ومنها: الأناة، والتؤدة
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا عَائِشَةُ! عَلَيْكِ بِتَقْوَىْ اللهِ وَالرِّفْقِ؛ فَإِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يَكُنْ فِيْ شَيْءٍ قَط إِلَّا زانَهُ، وَلا نُزِعَ قَطُّ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ" (¬1). 7 - ومنها: الأناة، والتُّؤَدَةُ: كما في حديث الأشج السَّابق في الحلم. وروى البخاري في "الأدب المفرد"، والطَّبراني عن هود العصري، عن جده -واسمه: مزيدة العبدي كما في "صحيح البخاري" (¬2) - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث أصحابه إذ قال لهم: "إِنَّهُ سَيَطْلُعُ عَلَيْكُمْ فِيْ هَذَا الْوَجْهِ رَكْبٌ هُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ"، فقام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فتوجه في ذلك الوجه، فلقي ثلاثة عشر راكبًا، فرحب وقرب، وقال: من القوم؟ قالوا: نفر من عبد القيس، قال: فما أقدمكم هذه البلاد؟ لتجارة؟ قالوا: لا، قال: فتبيعون سيوفكم هذه؟ قالوا: لا، قال: فلعلكم إنما قدمتم في طلب هذا الرجل؟ قالوا: أجل، فمشى يحدثهم حتى إذا نظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا صاحبكم الذي تطلبون، فرمى القوم بأنفسهم عن رحالهم، فمنهم من سعى، ومنهم من هرول، ومنهم من مشى حتى أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقعدوا إليه، وبقي ¬
الأشج -وهو أصغر القوم -، فأناخ الإبل، وعقلها، وجمع متاع القوم، ثم أقبل يمشي على تُؤَدَةٍ حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ بيده، فقبلها، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فِيْكَ خَصْلَتَانِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُوْلُهُ"، قال: ما هما يا رسول الله؟ قال: "الأَنَاةُ وَالتُّؤَدَةُ"، فقال: يا نبي الله! أَجَبْلٌ جُبِلْتُ عليه، أو خُلُقٌ مني؟ قال: "بَلْ جَبْلٌ جُبِلْتَ عَلَيْهِ"، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله. وأقبل القوم على تمرات لهم يأكلونها، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدثهم، يسمي لهم هذا كذا، وهذا كذا، قالوا: أجل يا رسول الله! ما نحن أعلم بأسمائها منك، فقال: "أَجَلْ"، فقالوا لرجل منهم: أطعمنا من القوت الذي بقي في نوطك، فأتاهم بالبَرني، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هَذَا الْبَرْنِيُّ أَمَا إِنَّهُ مِنْ خَيْرِ تَمْرِكُمْ، دَواءٌ لا داءَ فِيْهِ" (¬1). قلت: التُّؤَدَةُ -بضم المثناة وفتح الهمزة بعدها- التأني، وهو الأناة؛ كذا فسره في "النهاية"، وغيرها من كتب اللغة (¬2). ولكن هذا الحديث يدل أن بينهما فرقًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلهما خصلتين، ولعل الثاني يرجع إلى صفة القلب، فكأنه يعني الصبر، وترك ¬
8 - ومنها: قرى الضيف، وإكرامه، والبشاشة في وجهه، وطيب الكلام، وطلاقة الوجه عند اللقاء
الضجر في الأمور، والتؤدة ترجع إلى عمل الجوارح، وهي فعل الشيء بالْهُوَيْنا من غير إسراع ولا استعجال. وروى الترمذي عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأَناةُ مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطانِ" (¬1). وأخرجه البيهقي في "الشعب" بلفظ: "التَّأَنِّيْ" من حديث أنس - رضي الله عنه - (¬2). وروى أبو داود، والحاكم، والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التُّؤَدَةُ فِيْ كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلَّا فِيْ عَمَلِ الآخِرَةِ" (¬3). 8 - ومنها: قِرَى الضيف، وإكرامه، والبشاشة في وجهه، وطيب الكلام، وطلاقة الوجه عند اللقاء: قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24]. ¬
وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. وفي حديث أبي شريح، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما المتقدم: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ". رواه الشيخان (¬1). ورواه أبو الشيخ في كتاب "الثواب" عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه. وروى الترمذي عن علي رضي الله تعالى عنه، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ فِيْ الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَيْ ظاهِرُها مِنْ باطِنِها، وَباطِنُها مِنْ ظاهِرِها؛ أَعَدَّها اللهُ تَعالَى لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعامَ، وَأَلانَ الْكلامَ، وَتابَعَ الصّيَامَ، وَصَلَّىْ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيامٌ" (¬2). وروي من حديث أبي مالك وغيره، كما تقدم (¬3). وروى ابن المبارك عن مكحول مرسلًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُؤْمِنُوْنَ هَيِّنُوْنَ لَيِّنُوْنَ"، الحديث (¬4). ¬
9 - ومنها: الوعظ، والاقتصاد فيه، والاستنصات فيه، وتفهمه للسامع
وأوصله البيهقي بابن عمر - رضي الله عنهما - (¬1). وروى مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوْفِ شَيْئا وَلَوْ أَنْ تَلْقَيْ أَخاكَ بِوَجْهٍ طَلِيْقٍ" (¬2). وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: [من الرجز] بَنِيَّ إِنَّ الْبِرَّ شَيْءٌ هَيَّنُ ... وَجْهٌ طَلِيْقٌ وَكلامٌ لَيِّنُ (¬3) رواه الأصبهاني. 9 - ومنها: الوعظ، والاقتصاد فيه، والاستنصات فيه، وتفهمه للسَّامع: قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]. وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]. وروى الشيخان، وغيرهما عن أبي وائل رحمه الله تعالى قال: كان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يذكرنا كل يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرَّحمن! لوددت أنك ذكرتنا كل يوم فقال: أما إنه ¬
تنبيه
يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أَتَخوَّلكمْ بالموعظة كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بها (¬1)؛ أي: يتعهدنا بها مخافة السآمة علينا. * تَنْبِيْهٌ: وينبغي لمن حضر مجلس الوعظ، أو درس العلم أن ينصت، ويلقي عليه سمعه لما يملى ليفهم، ولا يكثر اللغط في المجلس. وكذلك لو كان في مجلس مشورة أو مسامرة فيه من هو أولى بمفاتحة الحديث، فوظيفته الإنصات، وعدم اللغط. وقد أخرج البيهقي، وابن عساكر عن محمَّد بن كعب القرظي مرسلًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا تَجَالَسَ قَوْم مَجْلِسًا فَلَمْ يُنْصِتْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، إِلَّا نُزِعَ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ الْبَرَكَةُ" (¬2). 10 - ومنها: الخشوع، والخضوع بين يدي الله تعالى، والسكينة، والوقار، خصوصًا في إتيان الصَّلاة، وطلب العلم: قال الله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]. وقال تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45، 46]. ¬
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]. وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، والخشوع في الصوت والبصر، والخضوع في البدن. وسئل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عن الخشوع، فقال: الخشوع في القلب أن تلين كنفك للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صَلاتك (¬1). وروى الحكيم الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى رجلًا يعبث بلحيته في صلاته، فقال: "لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا خَشَعَتْ جَوَارِحُهُ" (¬2). وروى هو، والبيهقي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَوَّذُوْا بِاللهِ مِنْ خُشُوْعِ النِّفَاقِ"، قالوا: يا رسول الله! وما خشوع النفاق؟ قال: "خُشُوْعُ الْبَدَنِ، وَنِفَاقُ الْقَلْبِ" (¬3). ¬
وروي نحوه عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه موقوفًا عليه (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد وصححه، عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصَّلاة (¬2). وروى الطَبراني في "الكبير" عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ شَيْءٍ يُرْفَعُ مِنْ هَذهِ الأُمَّةِ الْخُشُوْعُ، حَتَّيْ لا تَرَيْ فِيْها خاشِعًا" (¬3). وله نحوه من حديث شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه (¬4). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ضَمْرة بن حبيب مرسلًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ شَيْءٍ يُرْفَعُ مِنْ هَذهِ الأُمَّةِ الأَمَانَةُ وَالْخُشُوْعُ" (¬1). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذَا أُقِيْمَتِ الصَّلاةُ فَلا تأْتُوْهَا وَأَنتمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوْهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُوْنَ عَلَيْكُمُ السَّكِيْنَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوْا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوْا" (¬2). زاد مسلم في رواية له: "فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كانَ يَعْمَدُ إِلَيْ الصَّلاةِ فَهُوَ فِيْ صَلاةٍ" (¬3). وروى أبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والخطيب في "جامعة" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سُرْعَةُ الْمَشْيِ تُذْهِبُ بَهاءَ الْمُؤْمِنِ" (¬4). ¬
وروى أبو القاسم بن بشران في "أماليه" عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سُرْعَةُ الْمَشْيِ تُذْهِبُ بَهَاءَ الْوَجْهِ" (¬1). والمراد: الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار. وقوله تعالى: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، ؛ أي: برفق واقتصاد. وليس المراد به مشي المتماوتين؛ فرب ماشٍ هونًا رويدًا وهو ذئب أطلس. وقد قيل فيمن هذا حالهم: [من مجزوء الرمل] كُلُّهُمْ يَمْشِيْ رُوَيْدَهْ ... كُلُّهُمْ يَطْلُبُ صَيْدَهْ (¬2) وقال الله تعالى حكاية عن لقمان عليه السَّلام: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]. قوله: {وَاقْصِدْ}؛ أي: اقتصد في مشيك: لا مشي المتماوتين، ولا مشي الجبارين. ¬
وقال الله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37]. وروى الترمذي في "الشمائل": أن عليًا رضي الله تعالى عنه كان إذا وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كان إذا مشى تقلَّع، كأنما ينحط من صَبَب (¬1). وفي رواية أخرى: كان إذا مشى تَكَفَّأ تكفؤًا، كأنما ينحط من صبب (¬2) (¬3). وفي حديث آخر: كان يمشي هونا ذريع المشية (¬4). فالتقلع: رفع الرجل بقوة. والتكفؤ: الميل إلى سنن المشي وقصده. والهون: الرفق والوقار. والذريع: الواسع الخطو؛ أي: إن مشيه كان يرفع فيه رجليه بسرعة، ويمد خطوه خلاف مشية المختال، وكل ذلك برفق، وتثبت دون عَجَلة، كما قال القاضي عياض رحمه الله تعالى (¬5). ¬
وروى ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي مشيًا يعرف فيه أنه ليس بعاجز ولا كسلان (¬1). والذي تلخص من الآيات والأحاديث: أن الأدب في المشي الاقتصاد والتوسط بين الإسراع الحثيث، وبين التماوت والاختيال. وقد يحسن أحد الطرفين كالاختيال في الحرب، وكالإسراع إلى حضور جنائز الصالحين خشية الفوات، كما تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرع إلى سعد بن معاذ - رضي الله عنه - إسراعًا كليًا. ومن هذا القبيل قول الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى: [من المنسرح] حَدَّثَنَا شَيْخُنَا الْكِنَانِيْ ... عَنْ أَبِهِ صاحِبِ الْخَطابَهْ أَسْرِعْ أَخَا الْعِلْمِ فِيْ ثلاثٍ ... الأَكْلِ وَالْمَشْيِ وَالْكِتَابَهْ (¬2) وقوله: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19]؛ أي: اخفض من صوتك عند الملأ، كما رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى. والأدب في رفع الصوت أن يقتصر منه على قدر الحاجة في إسماع المخاطب. ¬
11 - ومنها: إهداء الهدية، وقبولها، ما لم تكن رشوة، والمكافاة عليها، وإتحاف الصديق والقريب بالشيء، وإعطاء ولده الشيء إذا دخل عليك
وقد قال ابن زيد: لو كان رفع الصوت خيرًا ما جعله الله للحمير. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وإذا كان الاقتصاد في قراءة القرآن مقصودًا فكيف بغيره، كما قال الله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]. وكذلك يطلب الأدب من المستمع، وقد سبق أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كانوا بين يديه كأنما على رؤوسهم الطير. وكذلك من الأدب غض الطرف عن فضول النظر. قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. وقد أتينا في كتاب "منبر التوحيد في شرح الجوهر الفريد" على آداب الإغضاء بما ليس عليه مزيد. 11 - ومنها: إهداء الهدية، وقبولها، ما لم تكن رشوة، والمكافاة عليها، وإتحاف الصديق والقريب بالشيء، وإعطاء ولده الشيء إذا دخل عليك: روى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية، ويثيب عليها (¬2). ¬
12 - ومنها: إدخال السرور على قلوب المؤمنين، والتودد إليهم، والتردد إلى إخوانه منهم من غير إذلال لنفسه في طلب دنيا
وروى الإمام أحمد، والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - رضي الله عنه -: "تَهَادُوْا؛ إِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرَ، وَلا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارتِهَا وَلَوْ شِقَّ فِرْسِنِ شَاةٍ" (¬1). وروى ابن عساكر عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَهادُوْا تَحابُّوْا، وَتَصافَحُوْا يَذْهَبِ الْغِلُّ عَنْكُمْ" (¬2). وروى الدينوري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ صَبِيُّ جَارِكَ فَضَعِيْ فِيْ يَدِهِ شَيْئًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحِقُّ لَكِ الْمَوَدَّةَ فِيْ قُلُوْبِهِمْ" (¬3). 12 - ومنها: إدخال السرور على قلوب المؤمنين، والتودد إليهم، والتردد إلى إخوانه منهم من غير إذلال لنفسه في طلب دنيا: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. وروى الطَّبراني في "الكبير" عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَىْ اللهِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ إِدْخالُ ¬
السُّرُوْرِ عَلَىْ الْمُسْلِمِ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج"، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ الأَعْمَالِ -أَيْ: بَعْدَ الْفَرَائِضِ كَمَا فِيْ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَنْ تُدْخِلَ عَلَى أَخِيْكَ الْمُسْلِمِ سُرُوْرًا، أَوْ تَقْضِيَ عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تُطْعِمَهُ خُبْزًا" (¬2). وروى الطبراني في "مكارم الأخلاق" عن أبي هريرة -أيضًا- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ الأَعْمَالِ بَعْدَ الإِيْمَانِ بِاللهِ التَّوَدُّدُ إِلَىْ النَّاسِ" (¬3). قلت: ومن شرط التودد إلى الناس أن لا يكون لدنيا، أو لرياء، أو يخص به الأغنياء دون الفقراء، بل إن خُصَّ، فالفقراء والصالحون. قال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: قرأت في التوراة أربعة أسطر متواليات: من قرأ كتاب الله فظن أن لا يغفر له فهو من المستهزئين بآيات الله عز وجل، ومن شكا مصيبة، فإنما يشكو ربه عز وجل، ومن أسف على ما في يد غيره، سخط قضاء ربه عز وجل، ومن تضعضع لغني ذهب، ¬
13 - ومنها: التهنئة، والتبشير بالخير لإخوانه المؤمنين
ثلثا دينه. رواه أبو نعيم (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" بإسناد ضعيف، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَصْبَحَ مَحْزُوْنًا عَلَى الدُّنْيا أَصْبَحَ سَاخِطًا عَلَى رَبِّهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ يَشْكُوْ مُصِيْبَةً نَزَلَتْ بِهِ، فَإِنَّمَا يَشْكُوْ رَبَّهُ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَىْ غَنِيٍّ فتَضَعْضَعَ لَهُ، ذَهَبَ ثُلُثَا دِيْنِهِ، وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَدَخَلَ النَّارَ، فَهُوَ مِمَّنِ اتَّخَذَ آياتِ اللهِ هُزُؤًا" (¬2). والحكمة في ذهاب الثلثين أن التضعضع يكون ظاهره باللسان وبالجوارح، وأما القلب فإن أمره خفي. قلت: فإذا وجد الإنسان من قلبه للغني ضعضعةً فليمسك، وليحذر من النفاق. 13 - ومنها: التهنئة، والتبشير بالخير لإخوانه المؤمنين: قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]. وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17، 18]. ¬
وقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]. وقد ألف السيوطي رحمه الله تعالى جزءًا أسماه "وصول الأماني بأصول التهاني"، فذكر فيه التهنئة بالفضائل العلمية، والمناقب الدينية، والتهنئة بالتوبة، وبالعافية، وبتمام الحج، وكذلك سائر العبادات، والتهنئة بالقدوم من الحج، ومن الغزو، وبالنكاح، وبالمولود، وبدخول الحمام، وبشهر رمضان، وبسائر الأشهر، وبالعيد، وبالثوب الجديد، وبالصباح، والمساء، وذكر أدلة ذلك من الحديث والآثار. قلت: وفاتَهُ التهنئة بقدوم الغائب، ودليلها قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} [يوسف: 96]. ولا يختص ذلك بما ذكر، بل يلحق به التهنئة بعَوْدِ الآبق، والضالَّةِ، وحصول الفرج، وغير ذلك من النعم المقاربة للمعنى. والمراد بذلك إدخال السرور على قلوب المسلمين، وهو من أخلاق الصالحين، وآدابهم كما سبق. وروى الطبراني في "معجمه الصغير" بإسناد حسن، وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَقِيَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِمَا يُحِبُّ لِيَسُرَّهُ، سَرَّهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬1). ¬
14 - ومنها: تنفيس كروب المسلمين، وقضاء حوائجهم، وستر عوراتهم، وتعزيتهم في مصائبهم
14 - ومنها: تنفيس كروب المسلمين، وقضاء حوائجهم، وستر عوراتهم، وتعزيتهم في مصائبهم: روى البخاري، وأبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمُسْلِمُ أَخُوْ الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ، وَلا يُسْلِمُهُ، مَنْ كانَ فِيْ حاجَةِ أَخِيْهِ كانَ اللهُ فِيْ حاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬1). وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَزَّيْ مُصَابًا، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ صاحِبِهِ" (¬2). 15 - ومنها: تنحية الأذى عن طريق المسلمين: روى مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإِيْمانُ بِضْعٌ وَسَبْعُوْنَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُها قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْناها إِماطَةُ الأَذَىْ عَنِ الطَّرِيْقِ، وَالْحَياءُ شُعْبَة مِنَ الإِيْمانِ" (¬3). ¬
16 - ومنها: كف الأنسان أذاه عن الناس
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أُمَّتِيْ بِأَعْمالِها حَسَنِها وَسَيِّئِها، فَرَأَيْتُ فِيْ مَحاسِنِ أَعْمالِها الأَذَيْ يُنَحَّيْ عَنِ الطَّرِيْقِ، وَرَأَيْتُ فِيْ سَيِّءِ أَعْمالِها النَّخَامَةَ فِيْ الْمَسْجِدِ لا تدْفَنُ" (¬1). 16 - ومنها: كف الأنسان أذاه عن الناس: روى الطبراني في "الكبير" واللفظ له، وسنده حسن، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أبي كثير السُّحَيْمِيِّ، عن أبيه قال: سألت أبا ذر رضي الله تعالى عنه قلت: دلني على عمل إذا عمل العبد به دخل الجنة، قال: سألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ"، قلت: يا رسول الله! إن مع الإيمان عملًا، قال: "يَرْضَخُ مِمَّا رَزَقَهُ اللهُ"، قلت: يا رسول الله! أرأيت إن كان فقيرًا لا يجد ما يرضخ؟ قال: "يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوْفِ، وَينْهَيْ عَنِ الْمُنْكَرِ"، قلت: أرأيت إن كان عَيِيًّا لا يستطيع أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر؟ قال: "يَصْنعُ لأَخْرَقَ"، قلت: أرأيت إن كان أخرق لا يصنع شيئًا؟ قال: "يُعِيْنُ مَغْلُوْبًا"، قلت: أرأيت إن كان ضعيفًا؟ قال: "أَلا يَسْتَطِيع أَنْ يُعِيْنَ مَغْلُوْبًا؟ " قال: "مَا تُرِيْدُ أَنْ يَكُوْنَ فِيْ صاحِبِكَ مِنْ خَيْر؟ يُمْسِكُ عَنْ أَذَى النَّاسِ"، فقلت: يا رسول الله! إذا فعل دخل الجنة؟ قال: "ما مِنْ مُسْلِمٍ يَفْعَلُ خَصْلَةً مِنْ ¬
17 - ومنها: اصطناع المعروف على أنواع؛ كالقرض، وقيادة الأعمى، وإسماع الأصم، ومساعدة المسلم على حمل حاجته، وقضائها، وتحميل دابته، وإمساك الركاب له، ونحو ذلك، وقد تقدم منه كثير
هَؤُلاءِ إِلَّا أَخَذَتْ بِيَدِهِ حَتَّيْ تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ" (¬1). وأخبرني بعض إخواننا الثقات عن أخي الشيخ العارف بالله شهاب الدين أحمد رحمه الله تعالى أنه كان كثيرًا ما ينشد: [من مجزوء الخفيف] يَا خَلِيْلَيَّ عَدِّيَا ... عَنْ حَدِيْثِ الأَكارِمِ مَنْ كَفَىْ النَّاسَ شَرَّهُ ... فَهُوَ فِيْ جُوْدِ حاتِمِ 17 - ومنها: اصطناع المعروف على أنواع؛ كالقرض، وقيادة الأعمى، وإسماع الأصم، ومساعدة المسلم على حمل حاجته، وقضائها، وتحميل دابته، وإمساك الركاب له، ونحو ذلك، وقد تقدم منه كثير: روى البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه، ومسلم، وأبو داود عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، والإمام أحمد عنهما، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ مَعْرُوْفٍ صَدَقَةٌ" (¬2). ¬
وروى الطبراني عن ابن مسعود (¬1) رضي الله تعالى عنه، والخطيب في "الجامع" عن جابر رضي الله تعالى عنه قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ مَعْرُوْفِ صَنَعْتَهُ إِلَيْ غَنِيٍّ أوْ فَقِيْرِ فَهُوَ صَدَقَةٌ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ عَلَى بابِها: الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةِ، وَالْقَرْضُ بِثَمانِيَةَ عَشَرَ، فَقُلْتُ: يا جِبْرِيْلُ! كَيْفَ صارَتِ الصدَقَةُ بِعَشَرَةِ، وَالْقَرْضُ بِثَمانِيَةَ عَشَرَ؟ قالَ: لأَنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِيْ يَدِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيْرِ، وَالْقَرْضُ لا يَقَعُ إِلَّا فِيْ يَدِ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ" (¬3). وروى الإمام أحمد، ومسلم عن أبي اليَسَر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أنظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِيْ ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ" (¬4). وهما من حديث أبي قتادة: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيْمِهِ، أَوْ مَحَا عَنْهُ، كانَ فِيْ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬5). ¬
وروى أبو داود، والحاكم وصححه، عن علي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِنْ رَجُلٍ يَعُوْدُ مَرِيْضًا مُمْسِيًا، إِلَّا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُوْنَ لَهُ حَتَّيْ يُصْبحَ، وَمَنْ أَتاهُ مُصْبِحًا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُوْنَ لَهُ حَتَّيْ يُمْسِيَ" (¬1). وأخرجه الترمذي وحسنه، وابن جرير وصححه بلفظ: "ما مِنْ مُسْلِمٍ يَعُوْدُ مُسْلِمًا غُدْوَةً، إِلَّا صَلَّيْ عَلَيْهِ سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ حَتَّيْ يُمْسِيَ، وإِنْ عادَهُ عَشِيَّةً، إِلَّا صَلَّيْ عَلَيْهِ سَبْعُوْنَ ألفَ مَلَكٍ حَتَّيْ يُصْبحَ، وَكانَ لَهُ خَرِيْفٌ فِيْ الْجَنَّةِ" (¬2). وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، وآخرون عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تَبعَ جَنازَةً حَتَّيْ يُصَلَّىْ عَلَيْهَا، وَيُفْرَغَ مِنْها، فَلَهُ قِيْراطانِ، وَمَنْ تَبِعَها حَتَّيْ يُصَلَّىْ عَلَيْها، فَلَهُ قِيْراطٌ، وَالَّذِيْ نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَثْقَلُ فِيْ مِيْزانِهِ مِنْ أُحُدٍ" (¬3). وعند البخاري من حديث أبي هريرة، ومسلم من حديث ثوبان نحوه (¬4). ¬
وروى الدارقطني، والخطيب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَفَّنَ مَيْتًا، كانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْهُ حَسَنةٌ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَفَرَ قَبْرًا، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتا فِيْ الْجَنَّةِ"، الحديث. وفيه: "وَمَنْ كَفَلَ يَتِيْمًا أَوْ أَرْمَلَةً، أَظَلَّهُ اللهُ فِيْ ظِلِّهِ، وَأَدْخَلَهُ جَنّتهُ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَناَ وَكافِلُ الْيَتِيْمِ فِيْ الْجَنَّةِ هَكَذَا"، وأشار بأصبعيه (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" عن صفوان بن عَسَّال رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ زارَ أَخاهُ الْمُؤْمِنَ خاضَ فِيْ رِياضِ الرَّحْمَةِ حَتَّىْ يَرْجِعَ، وَمَنْ عادَ أَخاهُ الْمُؤْمِنَ خاضَ فِيْ رِياضِ الْجَنَّةِ حَتَّىْ يَرْجِعَ" (¬4). ¬
وروى ابن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَقالَ نادِمًا بَيْعَتَهُ، أَقالَ اللهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬1). وفي رواية: "مَنْ أقالَ مسلمًا عثرته أَقَالَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬2). وهو عند أبي داود، وابن ماجه، والحاكم وصححه بلفظ: "مَنْ أَقالَ مُسْلِمًا، أَقالَهُ اللهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬3). وروى الحاكم، وأبو الشيخ عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا، لَمْ يَزَلْ فِيْ سِتْرِ اللهِ ما دامَ عَلَيْهِ خَيْطٌ أَوْ سِلْكٌ" (¬4). وأخرجه ابن النجار نحوه، وقال: "كانَ فِيْ حِفْظِ اللهِ ما بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ خِرْقَةٌ". وهو عند الترمذي وحسنه، ولفظه: "ما مِنْ مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا، إِلَّا كانَ فِيْ حِفْظِ اللهِ ما دامَ عَلَيْهِ" (¬5). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان" عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْي، كَساهُ اللهُ ¬
تَعَالَىْ مِنْ إِسْتَبْرَقِ الْجَنَّةِ" (¬1). وروى ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَسَا وَلِيًّا لِلَّهِ ثَوْبًا، كَساهُ اللهُ مِنْ أَخْضَرِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَطْعَمَهُ عَلَىْ جُوْعٍ، أَطْعَمَهُ اللهُ مِنْ ثِمارِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ سَقاهُ عَلَىْ ظَمَأٍ، سَقاهُ اللهُ مِنْ الرَّحِيْقِ الْمَخْتُوْمِ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬2). وروى الطَّبراني في "الصغير" عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ مُسْلِمٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَخُوْهُ الْمُسْلِمُ فَيُلْقِيْ لَهُ وِسادَةً إِكْرامًا لَهُ وإِعْظامًا لَهُ، إِلَّا غَفَرَ اللهُ لَه" (¬3). وروى الإمام أحمد عن البراء رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَىْ صاحِبِهِ، وَيَأْخُذُ بِيَدِهِ، لا يَأْخُذُه بيدِه إِلَّا للهِ، فَلا يَفْتَرِقانِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُمَا" (¬4). وروى هو، والترمذي وحسنه، وابن ماجه بلفظ: "ما مِنْ مُسْلِمَيْنِ ¬
يَلْتَقِيَانِ فَيتَصافَحَانِ، إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا" (¬1). وروى الحاكم في "تاريخه" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ذَبَحَ لِضَيْفٍ ذَبِيْحَةً، كانَتْ فِدَاءَهُ مِنَ النَّارِ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي عن أبي هريرة، والحاكم، والإمام أحمد، والطبراني عن أبي موسى، والطبراني في "الكبير" عن سهل بن سعد، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً، أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْها عُضْوًا مِنْ أَعْضائِهِ مِنَ النَّارِ، حَتَّى يُعْتِقَ فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ" (¬3). وروى الإمام عبد الله [بن المبارك] عن عبد الله بن زحر، عن بعض أصحابه مرسلًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَقَرَّ بِعَيْنِ مُؤْمِنٍ ¬
أَقَرَّ اللهُ بِعَيْنِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬1). وروى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَرَجَ مَعَ أخٍ لَهُ فِيْ طَرِيْقٍ مُوْحِشَةٍ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ رَقَبَةً" (¬2). وروى الخطيب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قادَ أَعْمَىْ أَرْبَعِيْنَ خُطْوَةً، غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬3). وفي الباب عن ابن عباس، وعن أنس، وعن جابر، وعن أبي هريرة. قال السُّيوطي: وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (¬4)، ولم يُصِبْ. وروى الطبراني في "الأوسط"، والخطيب في "مكارم الأخلاق"، والخلعي في "فوائده" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ رَبَّىْ صَغِيْرًا حَتَّىْ يَقُوْلَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، لَمْ يُحَاسِبْهُ اللهُ" (¬5). ¬
وروى الخرائطي في "مكارم الأخلاق"، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "السنن" عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيْهِ، كانَ لَهُ حِجابًا مِنَ النَّارِ" (¬1). وأخرجه الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، وابن أبي الدُّنيا في "ذم الغيبة"، ولفظه: "مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيْهِ، رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬2). وروى أبو الغنائم النرسي في كتاب "قضاء الحوائج" عن علي رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ رَدَّ عَادِيَةَ ماءٍ -يعني: السيل، ونحوه - أَوْ عادِيَةَ نارٍ -يعني: الحريق - فَلَهُ أَجْرُ شَهِيْدٍ" (¬3). وروى الإمام مالك في "الموطأ"، وغيره عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يَا أَبا أَيَّوبَ! أَلا أَدُلُّكَ عَلَىْ صَدَقَةٍ يَرْضَىْ اللهُ وَرَسُوْلُهُ مَوْضِعَها؟ " قال: قلت: بلى، قال: "تُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ إِذا تَفاسَدُوْا، وَتُقَرِّبُ بَيْنَهُمْ إِذا تَبَاعَدُوْا" (¬4). ¬
وروى ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِغاثَةَ اللَّهْفانِ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْلِغُوْا حاجَةَ مَنْ لا يَسْتَطِيع إِبْلاغَ حَاجَتِهِ؛ فَمَنْ أَبْلَغَ سُلْطانًا حاجَةَ مَنْ لا يَسْتَطِيْعُ إِبْلاغَهَا، ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ عَلَىْ الصِّرَاطِ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬2). وروى ابن حبان في "صحيحه" عن جابر بن سليم الهجيمي رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتَّقِ اللهَ، وَلا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوْفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِيْ إِناءِ الْمُسْتَسْقِيْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَىْ أَخاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ"، الحديث (¬3). وروى البخاري في "تاريخه"، والبيهقي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَغاثَ مَلْهُوْفًا كتَبَ اللهُ لَهُ ثَلاثا وَسَبْعِيْنَ مَغْفِرَةً؛ ¬
وَاحِدَةٌ فِيْها صَلاحُ أَمْرِهِ كُلِّهِ، وَاثْنتَانِ وَسَبْعُوْنَ لَهُ دَرَجاتٌ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬1). وروى الشيخان، وأبو داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصبيان، فيبرك عليهم، ويحنكهم، ويدعو لهم (¬2). وروى البخاري، وأبو داود عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَرْبَعُوْنَ خَصْلَةً أَعْلاها مِنْيحَةُ الْعَنْزِ (¬3)، لا يَعْمَلُ عَبْدٌ بِخَصْلَةٍ مِنْها رَجاءَ ثَوابِها، وَتَصْدِيْقَ مَوْعُوْدِها، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ تَعَالَى بِها الْجَنَّةَ" (¬4). وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَنَحَ مَنِيْحَةً غَدَتْ بِصَدَقَةٍ، وَراحَتْ بِصَدَقَةٍ، صَبُوْحُها، وَغَبُوْقُها" (¬5). وروى الإمام أحمد، والترمذي عن البراء - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "مَنْ مَنَحَ مَنِيْحَةَ وَرِقٍ، أَوْ مَنِيْحَةَ لَبَنٍ، أَوْ هَدَىْ زُقاقًا، فَهُوَ كَعِتْقِ نسمَةٍ" (¬1). وروى الترمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ نَشَرَ اللهُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، وَأَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ؛ رِفْقٌ بِالضَّعِيْفِ، وَشَفَقَةٌ عَلَىْ الْوالِدَيْنِ، وَالإِحْسانُ إِلَىْ الْمَمْلُوْكِ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" عن خالد بن زيد بن جارية (¬3) رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاث مَنْ كُنَّ فِيْهِ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ: مَنْ أَدَّيْ الزَّكاةَ، وَقَرَىْ الضَّيْفَ، وَأَعْطَىْ فِيْ النَّائِبَةِ" (¬4). وفي "الأوسط" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دِرْهَمٌ أُعْطِيْهِ فِي عَقْلٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِئَةٍ فِي غَيْرِه" (¬5). وروى مالك في "الموطأ" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: ¬
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما وَقَىْ بِهِ الْمُؤْمِنُ عِرْضَهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَة" (¬1). وروى ابن ماجه عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَيِّدُ الْقَوْمِ خادِمُهُمْ" (¬2). وأخرجه الحاكم (¬3). وروي عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيِّدُ الْقَوْمِ فِيْ السَّفَرِ خادِمُهُمْ؛ فَمَنْ سَبَقَهُمْ لِخِدْمَةٍ لَمْ يَسْبِقُوْهُ بِعَمَلٍ إِلَّا شَهَادَةً" (¬4). وروى ابن زَنْجويه في "فضائل الأعمال" عن الحسن مرسلًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَوْنُ الْعَبْدِ أَخاهُ يَوْمًا خَيْر مِنِ اعْتِكافِهِ شَهْرًا". وروى مسلم، وابن ماجه عن أبي الدَّرداء - رضي الله عنه -، والإمام أحمد عنه، وعن أم الدرداء رضي الله تعالى عنها، وأخرج حديثها الطَّبراني في "الكبير"، وابن حبان في "صحيحه" قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دُعاءُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ مُسْتَجابٌ لأَخِيْهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ؛ عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ كُلَّمَا دَعَا ¬
لأَخِيْهِ بِخَيْر قالَ الْمَلَكُ: آمِيْنَ، وَلَكَ مِثْلُ ذَلِكَ" (¬1). فهذه جملة صالحة من أنواع المعروف، أوردتها هنا ترغيبًا فيها؟ فإنها أخلاق ربانية، وآداب رحمانية، ذووها في الدنيا محمودون، وفي الآخرة مثابون مكرمون. روى ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْمَعْرُوْفِ وُجُوْهًا مِنْ خَلْقِهِ، حَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْمَعْرُوْفَ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ فِعالَهُ، وَوَجَّهَ طُلَّابَ الْمَعْرُوْفِ إِلَيْهِمْ، وَيسَّرَ عَلَيْهِمْ إِعْطاءَهُ كَمَا يَسَّرَ الْغَيْثَ إِلَيْ الأَرْضِ الْجَدْبَةِ لِيُحْيِيَهَا، وَيُحْيِيَ بِها أَهْلَها، وإِنَّ اللهَ جَعَلَ لِلْمَعْرُوْفِ أَعْداءَ مِنْ خَلْقِهِ، بَغَضَ إِلَيْهِمُ الْمَعْرُوْفَ، وَبَغَّضَ إِلَيْهِمْ فِعالَهُ، وَحَظَرَ عَلَيْهِمْ إِعْطاءَهُ، كَمَا يَحْظُرُ الْغَيْثَ عَنِ الأَرْضِ الْجَدْبَةِ فَيُهْلِكَهَا، وُيهْلِكَ بِهِ أَهْلَها، وَمَا يَعْفُوْ أَكثَرُ" (¬2). وروى الحاكم في "المستدرك" عن عليٍّ - رضي الله عنه -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬
"اطْلُبُوْا الْمَعْرُوْفَ مِنْ رُحَماءِ أُمَّتِيْ تَعِيْشُوْا فِيْ أَكْنافِهِمْ، وَلا تَطْلُبُوْهُ مِنَ الْقَاسِيَةِ قُلُوْبُهُمْ فَإِنَّ اللَّعْنَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، يَا عَلِيُّ! إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَعْرُوْفَ، وَخَلَقَ لَهُ أَهْلًا، فَحَبَّبَهُ إِلَيْهِمْ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ فِعالَهُ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ طُلاَّبَهُ كَمَا وَجَّهَ الْمَاءَ فِيْ الأَرْضِ الْجَدْبَةِ لِتَحْيَا بِهِ، وَيَحْيَا بِهِ أَهْلُهَا؟ إِنَّ أَهْلَ الْمَعْرُوْفِ فِيْ الدُّنْيَا، هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوْفِ فِيْ الآخِرَةِ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَهْلَ الْمَعْرُوْفِ فِيْ الدُّنْيَا، هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوْفِ فِيْ الآخِرَةِ، وإِنَّ أَوَّلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُوْلًا الْجَنَّةَ أَهْلُ الْمَعْرُوْفِ" (¬2). وعن سلمان، وعن قبيصة بن برمة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَهْلَ الْمَعْرُوْفِ فِيْ الدُّنْيَا، هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوْفِ فِيْ الآخِرَةِ وإِنَّ أَهْلَ الْمُنْكَرِ فِيْ الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمُنْكَرِ فِيْ الآخِرَةِ" (¬3). وأخرجه أبو نعيم عن أبي هريرة، والخطيب عن علي، وأبي ¬
الدَّرداء رضي الله تعالى عنهم (¬1). وروى الحاكم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَنَائِعُ الْمَعْرُوْفِ تَقِيْ مَصاعَ السُّوْءِ وَالآفَاتِ وَالْهَلَكاتِ؛ وَأَهْلُ الْمَعْرُوْفِ فِيْ الدُّنْيا هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوْفِ فِيْ الآخِرَةِ" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا، والقضاعي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فِعْلُ الْمَعْرُوْفِ يَقِي مَصارِعَ السُّوْءِ" (¬3). وروى أبو الشيخ في "الثواب" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمَعْرُوْفِ بابٌ مِنْ أَبْوابِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ يَدْفَعُ مَصارعَ السُّوْءِ" (¬4). وروى الطبراني في "الأوسط" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسْتِتْمامُ الْمَعْرُوْفِ أَفْضَلُ مِنِ ابْتِدائِهِ" (¬5). ¬
18 - ومنها: وداع الصاحب عند فراقه لسفر، أو غيره، والدعاء له، وطلب الدعاء منه
وأخرجه القضاعي بلفظ: "خَيْرٌ" (¬1). وروى أبو نعيم عن يحيى بن الفرات قال: قال جعفر بن محمَّد -يعني: الصادق - لسفيان، يعني: الثوري رحمهم الله تعالى: لا يتم المعروف إلا بثلاثة أشياء: تعجيله، وتصغيره، وستره (¬2). وهذا الذي ذكرناه في المعروف ليس إطالة لأنه أنواع كلها من آداب الصَّالحين، وقد أتينا هنا على غالبها. 18 - ومنها: وداع الصاحب عند فراقه لسفر، أو غيره، والدعاء له، وطلب الدعاء منه: روى الترمذي وصححه عن سالم بن عبد الله بن عمر: أن أباه رضي الله تعالى عنه كان يقول للرجل إذا أراد سفرًا: اُدْنُ مني أودعك كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يودعنا، فيقول: أستودعُ اللهَ دينَك، وأمانتك، وخواتيم عملك (¬3). وروى ابن عساكر في "تاريخه" عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
19 - ومنها: الاستخارة، والمشاورة
قال: "إِذَا خَرَجَ أَحَدُكُمْ إِلَيْ سَفَرٍ فَلْيُوَدِّعْ إِخْوانَهُ، فَإِنَّ اللهَ جاعِلٌ لَهُ فِيْ دُعَائِهِمُ الْبَرَكَةَ" (¬1). وروى الإمام أحمد، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا خَرَجْتَ إِلَيْ سَفَرٍ فَقُلْ لِمَنْ تُخَلِّفُهُ: أَسْتَوْدِعُكُمُ اللهَ الَّذِيْ لا تَضِيع وَدائِعُهُ" (¬2). وروى أبو داود، والترمذي وصححه، عن عمر - رضي الله عنه - قال: استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعمرة، فأذن، وقال: "لا تَنْسَانَا يَا أُخَيَّ مِنْ دُعَائِكِ"، فقال: كلمة ما سرني أن لي بها الدنيا (¬3). وفي رواية: "أَشْرِكْنا يَا أُخَيَّ فِيْ دُعَائِكَ" (¬4). 19 - ومنها: الاستخارة، والمشاورة: قال الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]؛ أي: يتشاورون فيه. وحديث الاستخارة مشهور (¬5). ¬
تنبيه
وروى الطبراني في "الكبير" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما خابَ مَنِ اسْتَخارَ، وَلا نَدِمَ مَنِ اسْتَشارَ، وَلا عالَ مَنِ اقْتَصَدَ" (¬1). * تَنْبِيْهٌ: إذا استشار فينبغي أن يستشير الحكماء، وذوي الرأي الرصين من أهل العلم والدين، فإذا أشير عليه بشيء فليقبل. وإذا استشار من لا حزم له، ولا رأي كالنِّساء (¬2)، فلا ينبغي له الموافقة، ولذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه: شاوروهنَّ، وخالفوهنَّ (¬3). ¬
20 - ومنها: الذهاب إلى العيد والحج والجنازة ونحوها من طريق، والرجوع من طريق آخر؛ لتكثر مواضع العبادة، وتشهد بها ملائكة الطريقين، وتتبرك بالطائع بقاعهما، أو لغير ذلك.
وإذا استخار فانشرح صدره لشيء فذلك علامة الخيرة، فليقبل، ولا يتهم مولاه سبحانه وتعالى، فقد روي: أن موسى عليه السلام قال: يا رب! من أبغض خلقك إليك؟ قال: من يتهمني، قال: ومن يتهمك يا رب؟ قال: امرؤٌ استخارني في أمر، فإذا أعطيته ما فيه خير دينه ودنياه اتهمني، فظن أني منعته ما سألني بخلًا (¬1). وأنشدوا: [من البسيط] الْحَمْدُ لِلَّهِ نِعْمَ الْقَادِرُ اللهُ ... الْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيْما اخْتارَهُ اللهُ لِلَّهِ فِيْ الْخَلْقِ ما اخْتارَتْ مَشِيْئَتُهُ ... ما الْخَيْرُ إِلَّا الَّذِيْ قَدْ خارَهُ اللهُ 20 - ومنها: الذهاب إلى العيد والحج والجنازة ونحوها من طريق، والرجوع من طريق آخر؛ لتكثر مواضع العبادة، وتشهد بها ملائكة الطريقين، وتتبرك بالطائع بقاعهما، أو لغير ذلك. روى البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريقين (¬2)؛ أي: ذهب في طريق، ورجع في أخرى. ¬
21 - ومنها: تقدم اليمين فيما هو من باب التكريم، واليسار في ضد ذلك
21 - ومنها: تقدم اليمين فيما هو من باب التكريم، واليسار في ضد ذلك: فالأول: كالطهارة، واللبس، والأكل، والشرب، والسواك، ودخول المسجد، والمسكن، وكل مكان مبارك ومعظم، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، والركن اليماني، والأخذ والإعطاء، والخروج من الخلاء، وكل مكان مستخبث كالحمام، وبيت القهوة، والأسواق، وبيوت الظلمة. والثاني: كالامتخاط، والبصق، ودخول الخلاء، وكل مكان مستخبث كما مثلناه، وخلع الثوب والخفين والنعلين، والاستنجاء، وكل مستقذر. روى الشيخان، وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في شأنه كله؛ في طهوره، وترجله، وتنعله (¬1). وروى أبو داود بسند صحيح عنها قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى (¬2). وقال عثمان رضي الله تعالى عنه: ما تغنيت، ولا تمنيت (¬3)، ¬
22 - ومنها: المحافظة على آداب الوضوء، والطهارة،
ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 22 - ومنها: المحافظة على آداب الوضوء، والطهارة، ودخول الخلاء؛ فإنه من تمام الطهارة التي هي من سِيما الصالحين، وكذلك المحافظة على آداب دخول المسجد، وآداب الصلاة، وهي مذكورة في كتب الفقه، وغيرها؛ فإن هذا كله من تمام الصلاة التي هي عماد الدين. وروى الشيخان عن عثمان رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ مُسْلِمٍ يَتَطَهَّرُ، فَيُتِمُّ الطَّهارَةَ الَّتِيْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ، فَيُصَلِّيْ هَذه الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، إِلَّا كانَتْ كَفَّاراتٍ لِما بَيْنَها" (¬2). وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَوَّلَ ما افْتَرَضَ اللهُ عَلَىْ النَّاسِ مِنْ دِيْنِهِمُ الصَّلاةُ، وَآخِرَ ما يَبْقَيْ الصَّلاةُ، وَأَوَّلَ ما يُحاسَبُ بِهِ الصَّلاةُ؛ يَقُوْلُ اللهُ تَعالَىْ: انْظُرُوْا إِلَيْ صلاةِ عَبْدِيْ فَإِنْ كانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ تامَّةً، وإِنْ كانَتْ ناقِصَةً يَقُوْلُ: انْظُرُوْا هَلْ لِعَبْدِيْ مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ وُجِدَ لَهُ تَطَوُّعٌ تَمَّتِ الْفَرِيْضَةُ مِنَ التَّطَوُّعِ"، الحديث (¬3). ¬
23 - ومنها: المحافظة على آداب الطعام والشراب، كالتسمية
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود، والتلاوة، والخشوع، والإقبال عليها فيها. رواه ابن جرير (¬1). قال أنس رضي الله تعالى عنه: الأدب في العمل علامة قبول العمل. 23 - ومنها: المحافظة على آداب الطعام والشراب، كالتسمية في أولهما، والحمد بعدهما، ومدح الطعام، وعدم تعييبه، بل إما يأكل منه، أو يتركه، والأكل مما يليه إلا في الفاكهة، ونحوها، وترك القِران بين تمرتين، ونحوهما إن كل مع جماعة إلا بإذنهم، وترك الأكل من جوانب القَصعة، ووسطها، وترك الاتكاء عند الأكل، والأكل بثلاث أصابع، ولعق الأصابع قبل مسحها، أو إلعاقها، ولعق القَصعة، وأكل اللقمة التي تسقط منه، وتكثير الأيدي على الطعام، والاجتماع عليه، والتنفس في الشرب خارج الإناء ثلاثًا، وتركه في الإناء، وإدارة الإناء على اليمين، والتنزه عن الشرب من فم القِربة، ونحوها، وعن الشرب قائمًا، وعن النفخ في الشراب، إلى غير ذلك من الآداب المقررة في محلها في هذا الباب (¬2). وكذلك المحافظة على آداب اللباس كإيثار البياض، وترك الترفع في اللباس، وإيثار التوسط فيه دون أن يقتصر على ما يزري به من غير حاجة، ولا مقصود شرعي، أو يتوسع فيه إلى حد الإسراف والخيلاء، ¬
24 - ومن الآداب: إفشاء السلام، والبداءة به، وتسليم الراكب على الماشي،
وكالتجنب عن لباس الحرير وافتراشه إلا لضرورة شرعية، وكالبداءة باليمين لبسًا، وباليسار نزعًا، والتصدق بالْخَلِقِ، وغير ذلك حسبما هو مقرر في محله (¬1). وكذلك المحافظة على آداب النوم، والتسمية، ونفض الفراش، وملازمة الذكر الوارد ثَمَّةَ، والاضطجاع على الشق الأيمن، وإلى القبلة، والتنزه عن النوم على الوجه، إلى غير ذلك (¬2). وكذلك آداب السفر كإعداد الزاد، والرفيق، وتقدم النية الصالحة، ورد المظالم، والودائع، والرفق بالدابة، وبالرفيق، إلى غير ذلك (¬3). وقد استوفينا الكلام على هذه الآداب في كتابنا المسمى "منبر التوحيد"، فينبغي مراجعة ذلك منه لمن أراد الاستيفاء والتحرير. 24 - ومن الآداب: إفشاء السلام، والبداءة به، وتسليم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، وتسليمه إذا دخل بيته على زوجته، ومحارمه، وأجنبية لا يخاف الفتنة بسلامه عليها، وإلا قال: السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، وترك السلام على الكافر، واستحباب الاستئذان، وما يقوم مقامه من قرع الباب بقدر الحاجة، وقول: "فلان" لمن استأذن فقيل له: "من أنت؟ " ولا يقول: ¬
"أنا"، وتشميت العاطس إذا حمد الله تعالى، وقول العاطس لمن شمته: "يهديكم الله، ويصلح بالكم"، وإبرار القسم بغير معصية، والمصافحة عند اللقاء، وبشاشة الوجه، وتقبيل يد الصالح إكرامًا، والولد الصغير شفقة، ومعانقة القادم من سفره، وترك الانحناء ونحوه من آداب الأعاجم؛ كالقيام إلا لأهل العلم، ونحوهم، أو عند خوف الحقد، وتكدر القلوب، فلا بأس بذلك (¬1). وعيادة المريض، والدعاء له، ووضع اليد عليه، وتشهيته، وطلب الدعاء منه، والسؤال عن حالة من أهله، وأصحابه، ووصيتهم به، وبالصبر على ما يشق من حالة، وعدم إطالة الجلوس عنده إلا لمن يستأنس به، أو يقوم بشأنه، وترك الأكل عنده إلا إذا شق عليه الترك (¬2). وتلقين المحتضر كلمة الشهادة، وعدم الإلحاح عليه في ذلك، وقراءة سورة (يس) عنده، أو ما تيسر من القرآن، والدعاء للميت عند تغميضه بالمغفرة، ورفع الدرجة، والفسح في القبر، وتنويره عليه، وترك الندب، والنياحة، واللطم، ونحوها مما هو منهي عنه، ولا بأس بالبكاء الخالي عن ذلك، والكف عما يرى من الميت من مكروه، والصلاة عليه، وتشييعه، وحضور دفنه، ومنع النساء من اتباع الجنازة، وتكثير سواد المصلين عليها، وتكميل صفوفهم ثلاثة، والإسراع بالجنازة، وترك اتباعها بنار، وتعجيل قضاء الدين عن الميت، والمبادرة إلى ¬
تجهيزه، والموعظة عند القبر، والدعاء للميت بعد دفنه، والقعود عند قبره ساعة للدعاء له، والاستغفار، والقراءة، وسؤال التثبيت له، والصدقة عن الميت، والترحم عليه، والثناء عليه إن كان ممن يثنى عليه، والكف عن مساوئه إن كانت. وزيارة المقابر، والسلام على أهلها، والبكاء، والخوف عند المرور بقبور الظالمين، ومصارعهم، والافتقار إلى الله تعالى، والحذر من الغفلة عن ذلك (¬1). وما ورد في هذه الآداب من الترغيب والفضل مبين في "رياض الصالحين"، وغيره من الكتب الموضوعة لذلك، والله الموفق. * * * ¬
فصل
فَصَلٌ ومن أعمال الصالحين المواظبة على الفضائل، والتنزه عن الرذائل. والفضيلة -كما قال الراغب في كتاب "الذريعة إلى محاسن الشريعة" -: اسم لما يحصل به للإنسان مزية على غيره، وهو اسم لما يتوصل به إلى السعادة، وضدها الرذيلة (¬1). ثم الفضيلة -وإن كانت بمحض التوفيق، والتفضل- فإن الله تعالى أمرنا بتطلبها، والسعي في تحصيلها، والتعرض لنفحاته سبحانه وتعالى. وقد قال الله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]. قال مجاهد، وسعيد بن جبير رحمهما الله تعالى: ليس بعرض الدنيا. رواهما ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬2). ¬
أي: ليس المأمور بسؤاله، وطلبه من فضل الله تعالى بعرض من أعراض الدنيا، بل هو ما كان من كمال النفوس وفضائلها. وروى ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: التمسوا الخير دهركم كله. الحديث موقوف على أبي الدرداء (¬1). وأخرجه ابن أبي الدنيا في "الفرج"، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، وأبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اطْلُبُوْا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوْا لِنَفَحاتِ رَحْمَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ للعز وجل نَفَحاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيْبُ بِها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَاسْأَلوْا اللهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْراتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعاتِكُمْ" (¬2). ورواه البيهقي -أيضًا- من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" عن محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِيْ أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحات، فَتَعَرَّضُوْا ¬
لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيْبَكُمْ نَفْحَة مِنْها" (¬1). وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْعِلْمَ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمَ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوْقَهُ" (¬2). والتحري القصد والاجتهاد في تحصيل الشيء. وقد أثنى وفد الجن الذين وفدوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأثنى الله عليهم، وحكى عنهم ما تكلموا به من الحكمة، ورأوه من الصواب على المسلمين منهم بقولهم: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14]، فيجب على الإنسان أن يتحرى تزكية نفسه، وتطهيرها عن القبائح والرذائل، ويجتهد في تحليتها بأنواع المكارم والفضائل ليحصل لها الفلاح، ويستكمل لها الصلاح. قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10]. وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 14 - 17]. ¬
وفي هذه الآية إشارة إلى أن السبب المانع للناس من تزكية النفوس، وتكميلها بالفضائل إنما هو إيثار الحياة الدنيا، ومحبتها، وهم واهمون في ذلك؛ فإن الآخرة خير وأبقى، فأخذوا الفاني، وتركوا الباقي. قال عرفجة الثقفي رحمه الله تعالى: استقرأت ابن مسعود رضي الله تعالى عنه {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، فلما بلغ: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16] ترك القراءة، وأقبل على أصحابه، فقال: آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها، ونساءها، وطعامها، وشرابها، وزويت عنا الآخرة فاخترنا هذا العاجل، وتركنا الآجل. رواه الطبراني، والبيهقي في "الشعب" (¬1). وقال قتادة في الآية: اختار الناس العاجلة إلا من عصم الله. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬2). وعصمة الله تعالى للعبد توفيقه إلى الطاعة، وتكريه المعصية إليه، وتهيئة أسباب الطاعة له، والحيلولة بينه وبين المعصية. ومن هيأ الله تعالى له الأسباب الموصلة إلى اكتساب الفضيلة من صحة وقوة وفراغ وطول عمر وأمن ونحوها، ولم يستعمل تلك الأسباب في اكتساب تلك الأكساب، فقد بدل نعمة الله كفرًا، واستوجب ¬
في ذات الله ومن أجله ذمًا وهجرًا؛ لأن الانضمام إليه قد يكون سببًا للاتصاف بما هو عليه، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28]. وقد قيل: [من الوافر] وَلَمْ أَرَ فِيْ عُيُوْبِ النَّاسِ عَيْبًا ... كَنَقْصِ الْقادِرينَ عَلَىْ الْكَمالِ قد ذكر النووي رحمه الله تعالى في "رياضه" جملًا من الفضائل، وذكر براهينها من الكتاب، والسنة، والدلائل، ولم نوسع العبارة هنا فيها؛ لأن كل مؤمن يعلمها -أو كثرها - من الدين بالضرورة، ويستحسن من نفسه التجنب عن منافيها، ولعل كتابنا لا يخلو من أكثر أدلتها في مواضعها، فينبغي الإشارة إليها باختصار لتنبيه مُراجعها. فمنها: تلاوة القرآن العظيم، وتعهده، والحذر من تعرضه للنسيان، وتجويده، وتحسين الصوت به، وتدبره، والاستماع إلى تلاوته، والمحافظة على أوراده، والاجتماع على قراءته، واغتنام مجالسه، والمحافظة على الوضوء، والطهارة، وإسباغ الوضوء، وتجديده، والحرص على الأغسال المسنونة، والمشي إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والأذان حسبة، والاستماع إليه، والقول مثلما يقول المؤذن، والحرص على حضور الجماعات، وتحصيل تكبيرة
الإحرام مع الإمام، والصف الأول، وإتمام الصف، وتسوية الصفوف، والتراص فيها، والصلاة في أوائل الأوقات، والمدوامة عليها، وعلى رواتبها، ونوافلها، والإكثار من النوافل، وعدم إخلاء البيت منها، والتبكير إلى حضور الجمعة، والاغتسال لها، وللعيدين، والتطيب، والتزين بالبياض في الجمعة، وفي كل وقت إلا العيدين فبأحسن الثياب، وصلاة الكسوف والخسوف، والاستسقاء إن احتيج إليه، والاستصحاء كذلك، وسجود الشكر لهجوم نعمة، أو اندفاع نقمة، أو رؤية مبتلى مع الإظهار لمن بَلِيَّتُه في دينه، والإخفاء عمَّن بَلِيَّتُه في بدنه ونحوه، وعدم إخلاء الليل من القيام، ولو ركعتين، وتأخير الوتر إن لم يخف فواته، والسواك عرضًا بكل خشن طاهر إلا الأصبع وما يضر -وخصوصًا بالأراك، وخصوصًا عند القيام من النوم، وإلى الصلاة، وعند تغير الفم -، وسائر خصال الفطرة كالختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، وإخراج الزكاة، وإظهارها، وإخفاء صدقة التطوع، وترك المن بالصدقة، والهبة، وتقديم الأقارب والجيران والأتقياء بالصدقة، وصيام رمضان، والأيام الفاضلة كالأشهر الحرم -خصوصًا عشر ذي الحجة، والمحرم الأولين، وشعبان، وست من شوال، والأيام البيض، والخميس، والاثنين- والتنزه عن الصوم في الأيام المنهي عن الصوم فيها كالعيدين، وأيام التشريق، وعن إفراد الجمعة بصيام، وليلتها بقيام، وعن تقديم رمضان بصوم يوم، أو أكثر بعد نصف شعبان إلا لمن وصَلَه بما قبله، أو وافق عادة له، والسحور، واستحباب الفطر، والسحور على تمر، أو لبن، أو
ماء على هذا الترتيب، والدعاء عند الفطر، وتفطير الصائم، وتعجيل الفطر، وتأخير السحور، وحفظ الصائم للسان، وجوارحه عن الفحش، وعن سائر المخالفات، والاعتكاف، والحج، والعمرة، والتطوع بهما، والجهاد، وإعانة المجاهدين، وخلفهم في أهليهم بخير، والعتق، والإحسان إلى المملوك، وقيامه بحق الله تعالى، وحق مواليه، والسماحة في البيع، والشراء، والأخذ، والعطاء، وحسن القضاء، والاقتضاء، وإرجاح الكيل، والوزن، والذرع، وإنظار الموسر والمعسر، والوضع عنه، والإكباب على طلب العلم، وتحسين النية فيه، والبداءة بالأهم منه، وكثرة الحمد، والشكر، والذكر على أنواعه، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وخصوصًا عند ذكره - وعلى آله وصحبه بالتبعية له، وعلى سائر الأنبياء والملائكة عليهم السلام، والترضي عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وسائر العلماء، والترحم عليهم -وخصوصًا عند ذكرهم - والجلوس في حِلَقِ العلم والذكر، وملازمة الأذكار الواردة في الصباح والمساء، وعند النوم واليقظة، والطعام والشراب، والسفر، والمرض، وأعقاب الصلوات، وعند الأمور العارضة كالرياح، والرعد، ونزول الغيث، وغير ذلك، والدعاء لأخيه بظهر الغيب، ولسائر المؤمنين والمسلمين، والإكثار من الدعاء في سائر مهماته، وإكرام العلماء والصالحين، وحفظ حقوقهم، والإيمان بكرامات الأولياء، وترك الإنكار عليهم، والتجنب عن أذيتهم وعداوتهم، وعن سائر الأمور المنهي عنها كالغيبة والنميمة، وإفساد ذات البين، والسعاية، والكذب، وشهادة الزور، ولعن إنسان بعينه، ولعن الدابة، وسب المؤمن،
والأموات، والقذف، والفحش، والبذاء، وتقرير البدع، وسائر فضول الكلام، والإيذاء، والتباغض، والتقاطع، والتشاتم، والحسد، والحقد، والتجسس، وسوء الظن بمن ظاهره الخير، واحتقار المسلم، وإظهار الشماتة به، والطعن في الأنساب الثابتة بظاهر الشرع، والانتساب لغير الموالي، والغش، والخديعة، والغدر، والمن بالصنيعة، والبغي، والهجر فوق ثلاث إلا لموجب، وتناجي اثنين دون الثالث، وتعذيب العبد، والمرأة، والولد، وغيرهم، والدابة، والتعذيب بالنار، ومطل الغني، والعود في الهبة، والدعوى بغير حق، وجحد الحق، وأكل مال اليتيم، والربا، والبيوع المنهي عنها، وتعاطي العقود الفاسدة، وأكل أموال الناس بالباطل من غصب، أو سرقة، أو رشوة، أو نحوها، وحُلوان الكاهن، ومهر البغي، وكسب المغني، وثمن الكلب، وثمن الخمر، وعصرها، واعتصارها، وشربها، وإدارتها، وأكل كل شيء محرم كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، والبرش، وكل مسكن، أو مخدر، والنظر إلى المرأة الأجنبية، والأمرد الحسن، والخلوة بالأجنبية، والنظر إلى عورة غيره بغير ضرورة التداوي، ونحوه، وتشبه الرجال بالنساء، وعكسه، والتشبه بالشيطان وبالكفار -وسيأتي الكلام عن ذلك- والاستنجاء باليمين، والاستجمار بشيء محترم، والبول، والتغوط في طريق الناس، ومتحدثهم، وفي الأسراب، والمياه، وتحت المثمرة، واستقبال القبلة، والشمس والقمر ببول أو غائط، والتضمخ بالنجاسة، والمشي في نعل واحدة، والتكلف، والنياحة، ولطم الخدود، ونحوه، وإتيان الكاهن، والمُنجِّم، والعرَّاف، وتصديقهم، والتطير، وتصوير
الحيوان، واللعب بالنرد، وسائر الألعاب، وضرب الملاهي، واستماعها، وصناعة آلاتها، والقمار، والمكس، والغلول، واتخاذ الكلب إلا لصيد أو زرع أو حراسة، وتعلق الحروز، والتمائم، أو نحو ذلك، وركوب الجلالة، والبصق في المسجد، والخصومة فيه، ودخول من أكل ثومًا أو نحوه إليه، ودخول حائض ونحوها إليه إن خافت تلويثه، ومكثها، ومكث الجنب فيه، ومس المصحف، وحمله لهما، أو لمحدث غير متوضئ، أو متيمم، والحلف بغير الله، واليمين الفاجرة، والحلف على البيع -وإن كان صادقًا - وسؤال غير الجنة بوجه الله تعالى، وقول: "شَاهٍ شَاهْ"، ونحوه للسلطان، ومخاطبة الفاسق بِـ: "يا سيدي"، ونحوه إلا إن خاف على نفس، أو مال، أو عرض، وسب الحمير والريح والديك، وقول: "مُطِرنا بِنَوء كذا"، والتقعر في الكلام، وقوله لمسلم: "يا كافر"، وقول: "خبثت نفسي"، و: "هلك الناس"، وتسمية العنب كرمًا، ووصف محاسن امرأة إلى رجل بغير ضرورة، والاعتداء في الدعاء، وقول: "اللهم اغفر لي إن شئت"، وقول: "ما شاء الله وشاء فلان"، والحديث بعد عشاء الآخرة، والنوم قبلها، وامتناع المرأة من فراش زوجها، وصومها تطوعًا بغير إذنه، وخروجها من بيتها بلا إذنه، وإلى سفر بغير محرم، أو نسوة ثقات، والبخل بالنفقة على الزوجة، وعلى العيال، ومضارة الزوجة بغير حق، ورفع المأموم رأسه قبل الإمام، والاختصار في الصلاة، والصلاة بحضرة الطعام إلا أن يتضيق الوقت، وصلاة الحاقن، أو الحازق، أو الحافز، ورفع البصر إلى السماء وهو في الصلاة، والالتفات فيها، والصلاة إلى
القبور، وفي المقبرة، والمجزرة، ومعاطن الإبل، والحمام، والتخطي والمرور بين يدي المصلى، والوصال في الصوم، ومنع الزكاة -ولو درهمًا- وترك الحج مع الاستطاعة، وسائر محرمات الإحرام، والجلوس على القبر، وتجصيصه، والبكاء عليه، وإباق العبد، وتخبيبه على سيده، وكذلك المرأة على زوجها، والولد على وليه، والشفاعة في الحدود، وتفضيل بعض الأولاد على بعض، وإحدى الزوجتين على الأخرى في القسم، أو في النفقة، لا في الوطء، ولا في الحب، والإحداد فوق ثلاث إلا لامرأة على زوجها فأربعة أشهر وعشرًا، وإضاعة المال، والبيع على بيع غيره، وشراؤه على شرائه، وسومه على سومه، وخطبته على خطبته، والنَّجش؛ وهو الزيادة في الثمن لا بقصد الشراء، والاحتكار، والتسعير، وبيع الحاضر للباد، وتلقي الركبان، وبيع العنب لمن يعصره خمرًا، والأمرد لمن غلب على ظنه أنه يلوط به، والقيادة، والدياثة، وترويع المسلم، والإشارة إليه بسلاح، وضربه بلا حق، والاستهزاء به، ومحاكاته، وتعييره بذنب قد تاب منه، أو بعيب في بدنه، أو بفقره، وإفلاسه، أو بأسلافه، والخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر، ورد الريحان إلا لعذر، ورد كل شيء كره الشرع رده، والمدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة، والخروج من بلد وقع فيها الوباء، أو الدخول إليها، والسحر، والكَهانة، والتنجيم، والمسافرة بالمصحف إلى بلاد العدو، واتخاذ آنية الذهب، والفضة، واستعمالها، ولبس الرجل ثوبًا مزعفرًا، أو معصفرًا، أو ما كُلُّهُ أو أكثره حرير، وصمت يوم إلى الليل، ومعاصي القلب كالرياء، والعُجْب، والكبر، والفخر،
تنبيه
والخيلاء، والتعزز بغير الله، والأمن من مكر الله، واليأس من رحمه الله، وتقنيط غيره من رحمة الله، وتزكية النفس، وسائر ما نهى الله تعالى عنه. فهذه الأمور كلها منهي عنها جميعًا إلا أن منها ما هو محرم، ومنها ما هو مكروه، ومن محرمها ما هو كبيرة، ومنه ما هو صغيرة، ولكن لما كان شأن الصالحين التنزه عن كل منهي عنه مطلقًا -ولو كان خلاف الأولى فضلًا عن أن يكون مكروهًا أو محرمًا - أوردناها هكذا مسرودة، وهي مفصلة في محالِّها من كتب العلم. على أن الكلام على معظمها، أو كلها سيأتي في القسم الثاني من كتابنا هذا -إن شاء الله تعالى- مبينًا؛ لأن النهي عنها يندرج في النهي عن التشبه بالشيطان، أو بالكفار، أو بالفساق، أو بالبهائم، والله سبحانه وتعالى أعلم. * تَنْبِيْهٌ: متى عمل العبد أعمال الصالحين فمن شرط إلحاقه بهم أن لا يرى لنفسه في عمله حولًا ولا قوة، وأن لا يثبت لنفسه بذلك وصفًا ولا حالًا، بل من شرطه اتهام نفسه وإن كان ظاهر حالة حسنًا، ألا ترى أن يوسف عليه الصلاة والسلام مع ما كان عليه من العفة والصبر والاحتمال، واتباع ملة آبائه الكرام يقول: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53].
وقد روى أبو نعيم عن عوف قال: قيل لأبي السوار العدوي رحمه الله تعالى: أَكُلُّ حالك صالح؟ قال: ليت عشره يصلح (¬1). وعن أبي يزيد البسطامي رحمه الله تعالى قال: لو صفت لي تهليلة ما باليت بعدها بشيء (¬2). وعنه قال: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر (¬3). فالإزراء بالنفس آخر أخلاق الصالحين، فافهم! * * * ¬
فصل
فَصْلٌ إذا تشبه العبد بالصالحين، وتحلى بحليتهم، وكان منهم، استفاد بصلاحه فوائد: * الفائدة الأولى: ولاية الله تعالى: قال الله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]. وهذه الولاية ولاية خاصة أخص من ولاية المؤمنين المشار إليها بقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]، وبقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]. قال أبو عبد الرحمن السلمي في "حقائقه": سئل جعفر هو الصادق رحمه الله تعالى عن الحكمة في قوله تعالى: {يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} مع أنه يتولى العالمين؟ فقال: التولي على قسمين: تولي إقامة وإبداء، وتولي عناية ورعاية لإقامة الحق. وقال الواسطي: يتولى الصالحين بالوقاية، ويتولى الفاسقين بالغواية (¬1). ¬
الفائدة الثانية: ولاية النبي - صلى الله عليه وسلم -
قلت: أو بالهداية إلى التوبة إذا كانوا ممن سبقت لهم الحسنى. وإطلاق التولي للفاسقين الهالكين على ضرب من المجاز، والتهكم بهم كما في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]؛ من حيث إنه تولى غوايتهم وهلاكهم. وعندي: إنه لا ينبغي أن يقال في هذا: تولي. وما أحسن قول الشيخ رضي الدين؛ جدي رحمه الله تعالى: [من الوافر] تَوَلاَّنِيْ بِمَا يُرْضِيْكَ عَنِّي ... وَصَيِّرْنِيْ وَلِيًّا يا وَلِيُّ وَقَدْ فَوَّضْتُ فَارْضَ عَلَيَّ رَبِّيْ ... فَإِنِّيْ بِالَّذِيْ تَرْضَيْ رَضِيُّ وقوله: "تولاني" أصله: "تتولاني"، أو: "أنت تتولاني" خبر فيه معنى الطلب. * الفائدة الثانية: ولاية النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]. روى الطبراني في "الكبير"، وابن مردويه في "التفسير" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صالِحُ الْمُؤْمِنِيْنَ
الفائدة الثالثة: فوز العبد بهذه المرتبة العظيمة التي محلها في القرآن العظيم بين جبريل وبقية الملائكة عليهم السلام
أَبُوْ بَكْرٍ وَعُمَرُ - رضي الله عنهما -" (¬1). أي: وأمثالهما؛ فإن أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن المراد: صالحو الأمة كلهم (¬2). وقال جماعة منهم: و (صالح المؤمنين) أصله: (صالحو المؤمنين)، وإنما حذفت الواو في الخط تخفيفًا، كما حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين، ونظير ذلك قوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18] حذفت الواو من (ندعو) خطًّا، كما حذفت منه لفظًا، وهذا القياس ظاهر لا شبهة فيه (¬3). * الفائدة الثالثة: فوز العبد بهذه المرتبة العظيمة التي محلها في القرآن العظيم بين جبريل وبقية الملائكة عليهم السلام بعد الاقتران باسم الله تعالى في هذه الآية بعينها في قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، فبالصلاح يلحق العبد بالملائكة الكرام، ويصلح أن يقرن ذكره بالملك العلام. ولقد جاء تقريب الحياء من الله تعالى، ومن ملائكته بالحياء من الصالحين، وفي ذلك من التنويه بقدر الصالحين ما لا يخفى. فروى ابن عدي في كتاب "الكامل" عن أبي أمامة رضي الله تعالى ¬
الفائدة الرابعة: الدخول في رحمة الله تعالى
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَحْيِ مِنَ اللهِ اسْتِحْياءَكَ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ صالِحِيْ عَشِيْرَتَك" (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِيَسْتَحْيِ أَحَدُكُمْ مِنْ مَلَكَيْهِ اللَّذَيْنِ مَعَهُ، كَمَا يَسْتَحْيِيْ أَحَدُكُمْ مِنْ رَجُلَيْنِ صالِحَيْنِ مِنْ جِيْرانِهِ وَهُما مَعَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ" (¬2). * الفائدة الرابعة: الدخول في رحمة الله تعالى: قال الله تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 75]. {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 86]. وهي رحمة خاصة -أيضًا- كما قلنا في الولاية، وهي الرحمة المشار إليها في قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 156، 157] الآية. ¬
الفائدة الخامسة: حفظ العبد في نفسه، وأولاده، وأهله، وعشيرته، وجيرانه
* الفائدة الخامسة: حفظ العبد في نفسه، وأولاده، وأهله، وعشيرته، وجيرانه: تقدم في صدر الكتاب في الحديث الوارد في الدعاء عند النوم: "إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِيَ فَارْحَمْهَا، وإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْها بِما تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِيْنَ" (¬1). وقال الله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حفظًا بصلاح أبيهما، ولم يذكر عنهما صلاحا. رواه الإمام عبد الله بن المبارك، والإمام أحمد؛ كلاهما في "الزهد"، وغيرهما، وصححه الحاكم (¬2). وقيل: كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء (¬3). وقال محمد بن المنكدر رحمه الله تعالى: إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده، وولد ولده، وعترته، وعشيرته، وأهل دويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم. رواه ابن المبارك، وابن أبي شيبة (¬4). ¬
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن الله يصلح بصلاح الرجل ولده، وولد ولده، ويحفظه في دويرته والدويرات حوله، فما يزالون في ستر من الله وعافية. رواه ابن أبي حاتم. وقال كعب: إن الله يخلف العبد المؤمن في ولده ثمانين عامًا. رواه الإمام أحمد في "الزهد". بل روى الطبراني في "معجمه الكبير" عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِئَةِ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيْرانِهِ الْبَلاءَ" (¬1). وروى ابن المبارك عن خيثمة رحمه الله تعالى قال: إن الله تعالى ليطرد بالرجل الشيطان من الآدر (¬2). أي: لصلاحه، وكثرة ذكره لله عز وجل، وتلاوته القرآن. وأنشد أبو القاسم إسحاق الختلي في كتاب "الديباج" عن محمد ابن يزيد لمحمود الوراق رحمه الله تعالى: [من الطويل] رَأَيْتُ صَلاحَ الْمَرْءِ يُصْلحُ أَهْلَهُ ... وَيُعْدِيْهِمُ داءُ الْفَسَادِ إِذَا فَسَدْ ¬
تنبيهان
وَيشْرُفُ فِيْ الدُّنْيَا بِفَضْلِ صلاحِهِ ... وُيحْفَظُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِيْ الأَهْلِ وَالْوَلَدْ وفي قوله: (ويعديهم) إشارة إلى أنه كما يحفظ بصلاحه في ولده، ويصلح الولد بصلاحه، كذلك يفسد الولد، ويضيع بفساده. قال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: يقول الله تعالى: اتقوا غضبي؛ فإن غضبي يدرك إلى ثلاثة آباء، وأحبوا رضائي؛ فإن رضائي يدرك في الأَمَةِ. وقال أيضًا: إن الرب -تبارك وتعالى- قال في بعض ما يقول لبني إسرائيل: إني إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي ناهب، وإذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد (¬1). رواهما الإمام أحمد في "الزهد". * تَنْبِيْهانِ: الأَوَّلُ: تبين بذلك أن العبد إذا تشبه بالصالحين، وتحرى أن يكون منهم، كان بذلك محسنًا إلى ولده وأهله وعشيرته وجيرانه، فله بذلك خير متعدٍّ إليهم، وثواب واصل إليه بسبب ما أحسن، وتفضل عليهم. قال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: إني أصلي فأذكر ولدي، فأزيد في صلاتي (¬2). ¬
الثاني
التَّنْبِيْهُ الثَّانِيْ: ما ذكرناه من حفظ العبد الصالح في الأهل والولد معناه أنها كرامة يكرم بها الصالح بمشيئة الله تعالى، وقد لا يكرم بعض الصالحين بهذه الكرامة إشارة إلى أنه لا يجب على الله تعالى شيء، وأنه سبحانه وتعالى له الاختيار فيما يتفضل به على عبادة، وأنه سبحانه وتعالى هو الفاعل الحقيقي المتفضل بحفظ الولد وإصلاحه، وليس لصلاح أبيه تأثير في الحقيقة، وإنما جعل الله تعالى صلاحه سببًا لتوفيق ولده في الغالب، وقد لا يجعله سببًا لذلك ليسلم الصالحون من الشرك الحاصل باعتقاد تأثير صلاحهم في توفيق أولادهم وأهليهم، ولئلا يتكلوا في إصلاح أولادهم على صلاح أنفسهم، فيتركوهم من التأديب والتعليم، أو يتكل الأولاد على صلاح آبائهم، ويتوانوا عن الجِد والاجتهاد في التعلم والتأدب، وليعلم الصالحون وأولادهم وأهلوهم أن الخير الواصل إلى الأولاد والأهلين إنما موصلة إليهم على الحقيقة هو الله تعالى، والآباء والأهلون وسائط. كما قال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: الأدب أدب الله، لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله، لا خير الآباء والأمهات (¬1). قصة نوح عليه السلام وابنه وامرأته، وقصه لوط عليه السلام وامرأته اعتبارًا لهذه الحقيقة، حيث قال في قصة نوح وابنه: {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]؛ أي: إنه ذو عمل ¬
غير صالح بدليل قراءة يعقوب والكسائي: {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] {إنه عَمِلَ غَيرَ صالح} بكسر الميم، وفتح اللام من (عمل)، والراء من (غير)، [ويحتمل] (¬1) أن يكون معناه: أنه ينتجه عمل غير صالح كأن انتقل من صلب أبيه وهو ناسٍ لذكر الله تعالى لأن النسيان يجوز في حق الأنبياء عليهم السلام كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، وأطلق على مثل ذلك أنه عمل غير صالح بالنسبة إلى مقام الأنبياء عليهم السلام، وعلوِّ مرتبتهم. وما أحسن قولَ الشيخ العارف بالله تعالى العلامة قطب الدين القسطلاني رحمه الله تعالى: [من الطويل] إِذَا طابَ أَصْلُ الْمَرْءِ طابَتْ فُرُوْعُهُ ... وَمِنْ عَجَبٍ جاءَتْ يَدُ الشَّوْكِ بِالْوَرْدِ وَقَدْ يَخْبُثُ الْفَرْعُ الَّذِيْ طابَ أَصْلُهُ ... لِيَظْهَرَ صُنع اللهِ فِيْ الْعَكْسِ وَالطَّرْدِ (¬2) [وقال الله تعالى] (¬3) في قصة نوح ولوط عليهما السلام، وامرأتيهما (¬4)، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ ¬
لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10]. وخيانتهما لم تكن في الفراش، ولكن في الدين. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما بغت امرأة نبي قط. رواه ابن المنذر (¬1). وقال الضحاك: إنما كانت خيانتهما النميمة (¬2). رواه البيهقي في "شعب الإيمان". وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أما خيانة امرأة نوح فكانت تقول للناس: إنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف، فتلك خيانتهما. رواه عبد الرزاق، وابن أبي الدنيا في "الصمت"، و"المفسرون"، وصححه الحاكم (¬3). فتأمل في هاتين المرأتين الخائنتين، كيف لم ينتفعا بصلاح بَعْلَيهما، كما لم ينتفع كنعان بن نوح بصلاح أبيه، بل هلكوا مع الهالكين! قال قتادة في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} [التحريم: 10] الآية: ¬
لم يغن صلاح هذين عن هاتين شيئًا، وامرأة فرعون لم يضرها كفر فرعون. رواه عبد الرزاق وغيره (¬1). قلت: ولو كان ظلمهما لأنفسهما لكان ربما سومحتا بصلاح زوجيهما، بل كان ظلمهما للزوجين بسبب الإيذاء، فكفَرتا نعمةَ الله عليهما في زوجيهما، وضيعتا حق الزوجية، وحق النبوة، كذلك يخشى على الولد إذا ضيع حق الأبوة، وعق والديه، والأزواج إذا كفرن العشير، فافهم! [وكذلك] (¬2): إن الاعتبار في عكس ما تقدم كما أشار إليه القطب في قوله: وَمِنْ عَجَبٍ جاءَتْ يَدُ الشَّوْكِ بِالْوَرْدِ كما ولد آزر إبراهيم عليه السلام، وولد أبو جهل، والوليد، وعبد الله بن أبي، عكرمة بن أبي جهل، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن عبد الله بن أُبَيٍّ، فلم يضر إبراهيم، وعكرمة، وخالدًا، وعبد الله كفر آبائهم لما أراد الله تعالى سعادتهم. وقد يشير إلى ما ذكرناه قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19] يعني: المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. ¬
المؤمن عبدٌ حيُّ الفؤاد، والكافر عبدٌ ميتُ الفؤاد، كما أخرجه ابن جرير، عن الحسن رحمه الله تعالى (¬1). وقد روي هذا التفسير عن سلمان الفارسي، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما (¬2). وروى عبد الرزاق، وابن سعد في "طبقاته"، وآخرون عن الزهري في قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم: 19] قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بعض نسائه فإذا هو بامرأة حسنة الهيئة فقال: "مَنْ هَذهِ؟ " قالت: إحدى خالاتك، فقال: "إِنَّ خالاتِيَ بِهَذ الأَرْضِ لَغَرَائِبُ؛ وَأَيُّ خالاتِيْ هَذهِ؟ " قالوا: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال: "سُبْحانَ اللهِ الَّذِيْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ"، وكانت امرأة صالحة رضي الله تعالى عنها، وكان أبوها كافرًا (¬3). وكذلك النظر في آسية بنت مزاحم امرأة فرعون؛ لم يضرها عشرة فرعون مع مباينتها له بصلاحها وكفره حتى أنقذها الله تعالى من فرعون بنفارها عنه، وطلبها من ربها النجاة منه. قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ¬
الفائدة السادسة: إن العبد الصالح إذا استرعي على رعية أعانه الله تعالى على رعايتها، ووفقها لطاعته.
إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11]. وقد أكرمها الله تعالى بأن جعلها زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، كما روى الطبراني ذلك في حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * الفائدة السادسة: إن العبد الصالح إذا استرعي على رعية أعانه الله تعالى على رعايتها، ووفقها لطاعته. قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]. والاستخلاف أعم أن يكون بالخلافة العظمى، أو بغيرها كاستخلاف العالم في التعليم، ومن هنا حسنت أيام الخلفاء الراشدين لصلاحهم، وكان سفيان الثوري يعد منهم عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه. وقد روى الدينوري في "المجالسة" عن حماد بن زيد، عن موسى ابن أعين الراعي، قال: كانت الغنم والأُسد والوحش ترعى في خلافة ¬
عمر بن العزيز رضي الله تعالى عنه في موضع واحد، قال: فعرض ذات يوم لشاة منها ذئب، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أظن الرجل [الصالح] (¬1) إلا هلك، قال: فحسبنا، فوجدناه قد مات في تلك الليلة (¬2). وروى أبو نعيم عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: قال عبد الواحد بن زيد رحمه الله تعالى: سألت ربي ثلاث ليال أن يريني رفيقي في الجنة، فرأيت كأن قائلًا يقول: يا عبد الواحد! رفيقك في الجنة ميمونة السوداء، فقلت: وأين هي؟ فقال: في آل فلان بالكوفة، قال: فخرجت إلى الكوفة، فسألت عنها، فقيل: هي مجنونة بين ظهرانينا، ترعى غنيمات لنا، فقلت: أريد أن أراها، فقالوا: اخرج إلى الجَبَّانة، فخرجت وإذا بها قائمة تصلي، وإذا بين يديها عكازة لها، فإذا عليها جبة من صوف عليها مكتوب: لا تباع، ولا تشترى، وإذا الغنم مع الذئاب؛ لا الذئاب تأكل الغنم، ولا الغنم تفزع من الذئاب، فلما رأتني أوجزت في صلاتها، ثم قالت: ارجع يا ابن زيد ليس الموعد هاهنا، وإنما الموعد ثَمَّ، فقلت لها: رحمك الله! وما يعلمك أني ابن زيد؟ فقالت: أما علمت أن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف؟ فقلت لها: عظيني، فقالت: يا عجبًا من واعظ يوعظ! ثم قالت: يا ابن زيد! إنك لو وضعت معايير القسط على ¬
الفائدة السابعة: إدخال السرور على قلوب الأبوين والأقارب في قبورهم بصلاح الولد والقريب؛
جوارحك لخبرتك بمكتوم ما فيها، يا ابن زيد! إنه بلغني: ما من عبد أعطي من الدنيا شيئًا فابتغى إليه ثانيًا إلا سلبه الله حب الخلوة معه، وبدله بعد القرب البعد، وبعد الأنس الوحشة، ثم أنشأَتْ تقول: يَا وَاعِظًا قامَ لاحْتِسابٍ ... يَزْجُرُ قَوْمًا عَنِ الذُّنُوْبِ تَنْهَىْ وَأَنْتَ السَّقِيْمُ حَقًّا ... هَذا مِنَ الْمُنْكَرِ الْعَجِيْبِ لَوْ كُنْتَ أَصْلَحْتَ قَبْلَ هَذَا ... غَيَّكَ أَوْ تُبْتَ مِنْ قَرِيْبِ كانَ لِمَا قُلْتَ يا حَبِيْبِيْ ... مَوْقعُ صِدْقٍ مِنَ الْقُلُوْبِ تَنْهَىْ عَنِ الْغَيِّ وَالتَّمَادِيْ ... وَأَنْتَ فِيْ النَّهْيِ كَالْمُرِيْبِ قال: فقلت لها: إني أرى هذه الذئاب مع الغنم؛ لا الغنم تفزع من الذئاب، ولا الذئاب تأكل الغنم، فأيش هذا؟ فقالت: إليك عني؛ فإني أصلحت ما بيني وبين سيدي، فأصلحَ ما بين الذئاب والغنم (¬1). * الفائدة السابعة: إدخال السرور على قلوب الأبوين والأقارب في قبورهم بصلاح الولد والقريب؛ لأن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الأموات في البرزخ. روى ابن أبي الدنيا في كتاب "المنامات"، وغيره عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: إن الرجل ليبشر بصلاح ولده في قبره لتقر بذلك عينه (¬2). وروى الإمام أحمد عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ ¬
أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَىْ أقارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الأَمْواتِ؛ فَإِنْ كانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوْا بِهِ، وَإِنْ كانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوْا: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُمْ حَتَّىْ تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا" (¬1). وقلت في المعنى: [من السريع] أَصْلحْ أَخِيْ الأَعْمَالَ لا تَتْرُكَنْ ... خَيْرَاتِ أَعْمالِكَ مَرْفُوْضَة فَإِنَّ أَعْمَالَكَ يَا سَيَّدِيْ ... فِيْ البَرْزَخِ الْعُلْوِيّ مَعْرُوْضَة عَلَىْ أَهَالِيْكَ الَّذِيْنَ اغْتَدَتْ ... أَرْواحُهُمْ بِالْمَوْتِ مَقْبُوْضَةْ إِنْ كانَ خَيْرًا سُرَّتِ الرُّوْحُ أَوْ ... شَرًّا تَكُنْ بِالْهَمّ مَقْبُوْضَةْ لَكِنَّهَا تَدْعُوْ بِحُسْنِ الْهُدَىْ ... وَدَعْوَةُ الصَّلِحِ مَمْحُوْضَةْ جَاءَتْ رِوايَاتٌ بِهَذا وَلَمْ ... تَكُنْ بِشَيْءٍ قَطُّ مَنْقُوْضَةْ ¬
الفائدة الثامنة: أن الصالحين لا تقوم عليهم الساعة، ولا يقاسون أهوال قيامها، ويثبتهم الله في القبور، وينجيهم على الصراط.
وروى ابن أبي الدنيا عن صدقة بن سليمان الجعفري قال: كانت فيَّ شرَّة سمجة، فمات أبي، فأُبْتُ، وندمت على ما فرطت، قال: ثم زللت -أيضًا- زلة، فرأيت أبي في المنام، فقال: أي بُنَيَّ! ما كان أشد فرحي بك وأعمالك تعرض علي، فنشبهها بأعمال الصالحين، فلما كانت هذه المرة استحييت حياء شديدًا، فلا تخزني فيمن حولي من الأموات. قال خالد بن عمرو القرشي -الراوي عنه -: فكان بعد ذلك قد خشع، ونسك، فكنت أسمعه يقول في دعائه في السحر -وكان لي جارًا بالكوفة-: أسألك إنابة لا رجعة فيها، ولا حَوَرَ يا مصلح الصالحين، وهادي الضالين، وراحم المذنبين (¬1). * الفائدة الثامنة: أن الصالحين لا تقوم عليهم الساعة، ولا يقاسون أهوال قيامها، ويثبتهم الله في القبور، وينجيهم على الصراط. روى الإمام أحمد، ومسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقُوْمُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَىْ شِرَارِ النَّاسِ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والبخاري عن مِرداس الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَذْهَبُ الصَّالِحُوْنَ الأَوَّلُ فَالأَوّلُ، وَتَبْقَيْ حُفالَةٌ كَحُفَالَةِ (¬3) الشَّعِيْرِ وَالتَّمْرِ، لا يُبَالِيْ اللهُ بِهِمْ بَالَةً" (¬4). ¬
وروى أبو بكر بن مردويه عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]؛ قال: ذلك في القبر؛ إن كان صالحًا وفق، وإن كان لا خير فيه وُجِد أبله (¬1). وأصله في الكتب الستة مرفوعًا، ولفظه: لا الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِيْ الْقَبْرِ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ اللهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27] الآية" (¬2). وروى الحاكم وصححه، عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه قال: إذا كان يوم القيامة بعث الله الخليقة أمةً أمةً، ونبيًا نبيًا، حتى يكون أحمد، وأمته آخر الأمم مركزًا، ثم يوضع جسر على جهنم، ثم ينادي منادٍ: أين أحمد وأمته؟ فيقوم، فتتبعه أمته؛ برُّها وفاجرها، فيأخذون الجسر، فيطمس الله أبصار أعدائه، فيتهافتون فيها من شمال ويمين، وينجو النبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحون معه، فتتلقاهم الملائكة عليهم السلام تبوئهم منازلهم في الجنة على يمينك، على يسارك، على يسارك، على يمينك، حتى ينتهيَ إلى ربه، فيلقى له كرسي عن يمين الله، ثم ينادي منادٍ: أين عيسى وأمته؟ فيقوم، فتتبعه أمته؛ برُّها وفاجرها، فيأخذون الجسر، فيطمس الله أبصار أعدائه، فيتهافتون فيها من شمال ¬
تنبيه
ويمين، وينجو النبي عليه السلام والصالحون، ثم تتبعهم الأنبياء حتى يكون آخرهم نوح عليه السلام (¬1). * تَنْبِيْهٌ: ذهاب الصالحين قبل قيام الساعة فيه راحة لهم، وجنة لهم عما بين يدي الساعة من الأهوال، لكن فيه فوات خيرهم لمن يبقى بعدهم، ومن ثَمَّ كان يقول عبد الله بن غالب الحاني رحمه الله تعالى: اللهم إني أشكو إليك سفه أحلامنا، ونقص علمنا، واقتراب آجالنا، وذهاب الصالحين منا. أخرجه الإمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار، عنه (¬2). * تنبِيْهٌ آخَرُ: لا يعارض ما سبق ما رواه الشيخان عن زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها قالت: استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نومه وهو محمرٌّ وجهه، وهو يقول: "لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ ويلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوْجَ وَمَأْجُوْجَ مِثْلُ هَذهِ" -وحلَّق بأصبعيه الإبهام، والتي تليها - قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ" (¬3). فإن هذا فيما يعرض للناس بسبب ذنوبهم، وسكوت الصالحين ¬
عن الإنكار عليهم من نحو طاعون، أو غلاء، ومجاعة، أو غرق، أو فتنة، وملحمة، فيكون البلاء رحمة للصالحين، وطهرة لهم، وليس ذلك في أهوال يوم القيامة؛ فإنها لا تقوم على من يقول: "الله، الله"، وإنما تقوم على شرار الخلق، كما ثبت في الأخبار الصحيحة الصريحة (¬1). ومن ثَمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن الله إذا أنزل سطوته بأهل الأرض وفيهم الصالحون فيهلكون بهلاكهم، فقال: "يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللهَ إِذا أَنْزَلَ سَطْوَتَهُ بِأَهْلِ نِقْمَتِهِ وَفِيْهِمُ الصَّالِحُوْنَ فَيُصَابُوْنَ مَعَهُمْ، ثُمَّ يُبْعَثُوْنَ عَلَىْ نِيَّاتِهِمْ". رواه ابن حبان في "صحيحه" (¬2). وروى الطبراني، وأبو نعيم عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذَا ظَهَرَ السُّوْءُ فِي الأَرْضِ أَنْزَلَ اللهُ عز وجل بَأْسَهُ بِأَهْلِ الأَرْضِ"، قالت: قلت: يا رسول الله! وإن كان فيهم صالحون؟ قال: "نَعَمْ، وَإِنْ كانَ فِيْهِمْ صالِحُوْنَ؛ يُصِيْبُهُمْ ما أَصَابَ النَّاسَ، ثُمَّ يَرْجِعُوْنَ إِلَىْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَىْ" (¬3). ورواه الدينوري في "المجالسة"، ولفظه: "إِذَا ظَهَرَتِ الْمَعَاصِيْ فِيْ ¬
الفائدة التاسعة: النعيم في القبر، والسلامة من فتنته، وذب الأعمال الصالحة عن العبد الصالح فيه
أُمَّتِيْ، أَصَابَهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ أَجْمَعِيْنَ"، قالت أم سلمة: قلت: وفي الناس إذ ذاك قوم صالحون؟ قال: "نعَمْ، يُصِيْبُهُمْ ما أَصابَ النَّاسَ، ثُمَّ يَصِيْرُوْنَ إِلَيْ مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ" (¬1). وأخرجه الإمام أحمد بسندين، أحدهما صحيح (¬2). * الفائدة التاسعة: النعيم في القبر، والسلامة من فتنته، وذب الأعمال الصالحة عن العبد الصالح فيه: روى ابن أبي الدنيا عن ثابت البُنَاني رحمه الله تعالى قال: إذا مات العبد الصالح فوضع في قبره، أتي بفراش من الجنة، وقيل له: نم هنيئًا لك قرة العين، فرضي الله عنه، قال: ويفسح له في قبره مد بصره، ويفتح له باب إلى الجنة، فينظر إلى حسنها، ويجد ريحها، وتحتوشه أعماله الصالحة -الصيام والصلاة- فيقول له: نحن أنصبناك، وأظمأناك، وأسهرناك؛ فنحن اليوم لك بحيث تحب، نحن أُنّاَسُكَ حتى تصير إلى منزلك من الجنة. وفي هذا الباب آثار أخرى، ولها شواهد من الحديث الصحيح. وقال إبراهيم بن بشار: كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى ينشد: [من السريع] مَا أَحَدٌ أَكْرَمُ مِنْ مُفْرَدٍ ... فِيْ قَبْرهِ أَعْمَالُه تُؤْنِسُهْ ¬
الفائدة العاشرة: تنعم الصالح في الدنيا بمعرفة الله تعالى،
مُنَعَّمُ الْجُثْمَانِ فِيْ رَوْضَةٍ ... زينَها اللهُ فَهِيَ مَجْلِسُهْ (¬1) * الفائدة العاشرة: تنعم الصالح في الدنيا بمعرفة الله تعالى، وفي الآخرة برؤيته سبحانه، وما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. روى أبو نعيم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ للهِ آنِيَةً فِيْ الأَرْضِ، وَأَحَبّ آنِيَةِ اللهِ إِلَيْهِ ما رَقَّ وَصَفَا، وَآنِيَةُ اللهِ فِيْ الأَرْضِ قُلُوْبُ عِبَادِهِ الصَّالِحِيْنَ" (¬2). والمراد أن قلوب الصالحين آنية وأوعية لمعرفة الله تعالى. قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. الذين أحسنوا: هم الصالحون. والحسنى المعدة لهم: الجنة. والزيادة: النظر إلى وجه الله تعالى. وتفسير الزيادة بالنظر إليه سبحانه ثابت في "صحيح مسلم"، وغيره (¬3). وروى الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه عن أبي ¬
هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِيْنَ مَا لا عَيْن رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَىْ قَلْبِ بَشَرٍ" (¬1). زاد في رواية: "ذُخْرًا بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمُ اللهُ عَلَيْهِ" (¬2)؛ أي: غير ما أطلعكم عليه. قال أبو هريرة: مصداق ذلك في كتاب الله. وفي رواية: ثم قرأ أبو هريرة: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] (¬3). وروى مسلم، وجماعة نحوه من حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه (¬4). قيل لمحمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى في ذلك، فقال: إنهم أخفوا عملًا، وأخفى الله لهم ثوابًا، فقدموا على الله فقرَّت تلك الأعين. رواه ابن أبي شيبة، وأحمد، وغيرهما (¬5). وقال جابر بن زيد رحمه الله تعالى: قلت لابن عباس رضي الله ¬
تعالى عنهما: أفرأيت قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]؟ قال: هو العبد يعمل سرًا أسره إلى الله تعالى لم يعمل به للناس، فأسر الله له قرة أعين. رواه الطبراني، والحاكم، والبيهقي (¬1). ولا شك أن الصالحين يصلحون السرائر قبل إصلاح الظواهر، ولولا حسن سرائرهم لم تحسن ظواهرهم، فعمل السر له الثواب السر الذي لم يطلع عليه نبي مرسل، ولا ملك مقرب. وروى الإمام أحمد، والبزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فِيْ رَمَضانَ (¬2) يُزَيِّنُ اللهُ تَعَالَىْ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ ثُمَّ يَقُوْلُ: يُوْشِكُ عِبَادِيَ الصَّالِحُوْنَ أَنْ يُلْقُوْا عَنْهُمُ الْمُؤْنَةَ، وَيَصِيْرُوْا إِلَيْكِ" (¬3). وروى الأصبهاني عن عوسجة قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى! لو رأت عينك ما أعددت لعبادي الصالحين، ¬
الفائدة الحادية عشرة: أن الصلاح يكسب العبد الشرف في الدنيا والآخرة
لذاب قلبك، وزهقت نفسك اشتياقًا إليه (¬1). * الفائدة الحادية عشرة: أن الصلاح يكسب العبد الشرف في الدنيا والآخرة: قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَنْسابَكُمْ هَذهِ لَيْسَتْ بِسُبَّهٍ (¬2) عَلَىْ أَحَدٍ مِنْكُمْ، كُلُّكُمْ بَنُوْ آدَمَ طَفُّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلَؤُوْهُ، لَيْسَ لأَحَدٍ عَلَىْ أَحَدٍ فَضْل إِلَّا بِدِيْنٍ وَتَقْوَى، إِنَّ اللهَ لا يَسْألكُمْ عَنْ أَحْسابِكُمْ وَعَنْ أَنْسابِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ أتقَاكُمْ" (¬3). وقال ابن أبي الدنيا في كتاب "الموت": ثنا خالد بن خداش، قال: قال لي فضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ممن أنت؟ ، قلت: مهلبي، قال: إن كنت رجلًا صالحًا فأنت الشريف كل الشريف، وإن كنت رجل ¬
الفائدة الثانية عشرة: مقارنة الصالحين في الجنة، ومرافقتهم
سوء فأنت الوضيع كل الوضيع (¬1). * الفائدة الثانية عشرة: مقارنة الصالحين في الجنة، ومرافقتهم (¬2)؛ كما يؤخذ من الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] الآية. وقال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]. وقال تعالى: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]. وروى ابن أبي شيبة عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: سئل عمر رضي الله تعالى عنه: [عن قول الله] (¬3): {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]؛ قال: يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار (¬4). وروى مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: "وَما أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟ " فقال: حب الله ورسوله، قال: "فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحًا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِنَّكَ ¬
الفائدة الثالثة عشرة: أن الله تعالى يلحق بالعبد الصالح في رتبته من هو دونه في الرتبة من ولد،
مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". قال أنس: فأنا أحب الله، ورسوله، وأبا بكر، وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم (¬1). وهذا الحديث عند البخاري، وغيره، وهو ثابت من حديث ابن مسعود، وأبي موسى، وأبي ذر، كما تقدم في صدر الكتاب. وروى الترمذي عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، وَلَهُ ما اكْتَسَبَ" (¬2). وفي هذا اللفظ إشارة إلى أن العبد الصالح يستوفي في ثواب كسبه، ثم يلحق بإخوانه ممن هو فوقه في الرتبة. * الفائدة الثالثة عشرة: أن الله تعالى يلحق بالعبد الصالح في رتبته من هو دونه في الرتبة من ولد، أو والد، أو زوج، ويلحق العبد الصالح ممن هو فوقه به بمن ذكر ليتم بذلك سرورهم. قال الله تعالى حكاية عن حملة العرش ومن حوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [غافر: 7، 8]. ¬
وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 19 - 22]. قال القاضي البيضاوي - رضي الله عنه - في هذه الآية: والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم -وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم- تبعًا لهم، وتعظيمًا لشانهم. قال: وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة، وأن الموصوفين بتلك الصفات مقترن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة زيادة في أنفسهم. قال: والتقييد بالصلاح دلالة على أن مجرد الانتساب لا ينفع (¬1). قلت: ومن هنا أثنى الله تعالى على الداعي بصلاح النفس والذرية؛ فإن صلاح الولد زيادة في صلاح الوالد لأنه كسبه، فقال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]. ¬
تنبيه
قال مجاهد رحمه الله تعالى: اجعلهم صالحين، كما رواه ابن المنذر عنه (¬1). قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16]. وقد روى ابن مردويه، وابن عساكر عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فاستجاب الله تعالى دعاءه، فأسلم والداه جميعًا، وأخواته، وولده كلهم (¬2). * تَنْبِيْهٌ: روى أبو داود، والنحاس؛ كلاهما في "الناسخ والمنسوخ"، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]؛ قال: فأنزل الله تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ} [الطور: 21]، فأدخل الله تعالى الأبناء الجنة بصلاح الآباء (¬3). وروى البزار عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ لَيَرْفَعُ ذُرّيَّةَ ¬
تتمة
الْمُؤْمِنِ إِلَيْهِ فِيْ دَرَجَتِهِ، وَإِنْ كانُوْا دُوْنَهُ فِيْ الْعَمَلِ؛ لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ"، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]؛ قال: "وَما نَقَصْنَا الآبَاءَ مِمَّا أَعْطَيْنَا الْبَنِيْنَ" (¬1). وروى سعيد بن منصور، والحاكم، والبيهقي نحوه موقوفًا (¬2). * تَتِمَّةٌ: روى أبو نعيم عن جعفر قال: سألت سعيد بن جبير رحمه الله تعالى عن أولاد المؤمنين، قال: هم تبع خير آبائهم؛ فإن كان الأب خيرًا من الأم فهو مع الأب، وإن كانت الأم خيرًا من الأب فهو مع الأم (¬3). قلت: ويؤيده أن الولد يلحق أشرف أبويه في الدنيا في الدِّين. * فائِدَةٌ: مقتضى ما ذكرناه أن فاطمة -رضي الله عنها، وكذلك إخوتها - مع أبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فمقامها أرفع من مقام بعلها. ¬
الفائدة الرابعة عشرة: أن الصالحين تفتخر بهم البقاع، وإذا ماتوا بكت عليهم مجالسهم من الأرض،
وقد سئل والدي رحمه الله تعالى: إن عليًا رضي الله تعالى عنه إذا أراد الاجتماع بها في الجنة كيف يكون اجتماعه بها وهي في رتبة أبيها؟ فقال: يرفع عليٌّ إلى مقامها رضي الله تعالى عنهما، ولا تنخفض إلى مقامه. قلت: ومقام الحسن والحسين مع جدهما، وأمهما، وعليّ - رضي الله عنه - يلحق بهم، وهذا هو الكرم، والفضل الذي ليس بعده فضل. * الفائدة الرابعة عشرة: أن الصالحين تفتخر بهم البقاع، وإذا ماتوا بكت عليهم مجالسهم من الأرض، ومهابط أرزاقهم من السماء، ومصاعد أعمالهم منها، وتهتف الهواتف بموتهم، ويندبهم الصالحون حزنًا عليهم. روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد"، والطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ صَبَاحٍ وَلا رَواحٍ إِلَّا وَبِقَاعُ الأَرْضِ يُنَادِيْ بَعْضُها بَعْضًا: يا جَارَةُ! هَلْ مَرَّ بِكِ الْيَوْمَ عَبْدٌ صالِحٌ صَلَّيْ عَلَيْكِ، أَوْ ذَكَرَ اللهَ؟ فَإِنْ قالَتْ: (نَعَمْ) رَأَتْ أَنَّ لَهَا فَضْلًا، وَقالَ اللهُ تَعَالَى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29] " (¬1). روى ابن المبارك عن علي رضي الله تعالى عنه قال: إذا مات ¬
العبد الصالح بكى عليه مصلاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء، ثم قرأ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29] (¬1). وروى الترمذي، وابن أبي الدنيا في كتاب "الموت"، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم، والخطيب، والثعلبي في "تفسيره"، عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ عَبْدٍ إِلَّا لَهُ فِيْ الشَماءِ بابانِ؛ بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِزْقُهُ، وَبابٌ يَدْخُلُ فِيْهِ عَمَلُهُ وَكَلامُهُ، فَإِذا ماتَ فَقَداهُ، وَبَكَيا عَلَيْهِ"، وتلا هذه الآية: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] (¬2). وذلك أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملًا يبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح، فتفقدهم، وتبكي عليهم. وروى الإمام عبد بن حميد عن وهب رحمه الله تعالى قال: إن الأرض لتحزن على العبد الصالح أربعين صباحًا (¬3). ¬
وعن مجاهد: إن العالم إذا مات بكت الأرض عليه أربعين صباحًا (¬1). وروى ابن المبارك، وابن أبي الدنيا عن عطاء الخراساني رحمه الله تعالى قال: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة، وبكت عليه يوم يموت (¬2). وروى الدينوري عن المدائني قال: لما قتل أهل الحرة، هتف هاتف بمكة على أبي قبيس مساء تلك الليلة، وابن الزبير رضي الله تعالى عنه يسمع: [من مجزوء الكامل المرفل] قُتِلَ الْخِيَارُ بَنُوْ الْخِيَا ... رِ ذَوُوْ الْمَهَابَةِ وَالسَّمَاحِ وَالصَّائِمُوْنَ الْقَائِمُوْ ... نَ الْقَانِتُوْنَ أُوْلُو الصَّلاحِ اَلْمُهْتَدُوْنَ الْمُتَّقُوْ ... نَ السَّابِقُوْنَ إِلَىْ الْفَلاحِ مَاذا بِوَاقِمَ وَالْبَقِيْـ ... ـعِ مِنَ الْجَحاجِحِ وَالصِّبَاحِ وَبِقَاعِ يَثْرِبَ ويحَهُنَّ ... مِنَ النَّوَادبِ وَالصّيَاحِ فقال ابن الزبير رضي الله تعالى عنه لأصحابه: يا هؤلاء! قد قتل أصحابكم؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون (¬3). ¬
الفائدة الخامسة عشرة: الحياة الطيبة
وقال ابن أبي الدنيا في "الهواتف": ثنا أبو زيد النميري، حدثني أبو غسان محمد بن يحيى الكناني، حدثني بعض آل الزبير قال: "لما قتل أهل الحرة ... "، فذكره (¬1). * الفائدة الخامسة عشرة: الحياة الطيبة: قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الحياة الطيبة الرزق الحلال في هذه الحياة الدنيا، وإذا صار إلى ربه جازاه بأحسن ما كان يعمل. رواه عبد الرزاق، والمفسرون (¬2). وفي لفظ: حياة طيبة: الكسب الطيب، والعمل الصالح. رواه ابن أبي حاتم. وفي لفظ عنه -أيضًا-: الحياة الطيبة: القنوع. رواه الحاكم، وصححه البيهقي، وآخرون (¬3). ¬
الفائدة السادسة عشرة: ما تضمنه قوله تعالى
وقيل: الحياة الطيبة: الرضا. وقيل: التسليم. وقيل: معرفة الله تعالى. وقيل: حلاوة الطاعة. وقيل: الافتقار إلى الله تعالى، والاستغناء به (¬1). فعلى هذه الأقوال فالحياة الطيبة في الدنيا. وقال السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ رحمه الله تعالى: في القبر (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن الحسن أنه قال في الآية: ما تطيب الحياة إلا في الجنة (¬3). * الفائدة السادسة عشرة: ما تضمنه قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]. فإنَّ الخطاب في هذه الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأمته، أوله ولمن معه. ¬
والأول أرجح (¬1). ولا يخفى ما في هذه الآية الجليلة من الفوائد العظيمة المختصة بالصالحين من الاستخلاف في الأرض مع التمكين في الدين المرضي عند الله، ومن تبديلهم الأمن بعد الخوف، وهو شامل للأمن من الأعداء في الدنيا، ومن النار في الآخرة. وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. ثم الصالحون في هذا بخلاف غيرهم؛ فإن الفسقة والفجرة قد يستخلفون في الأرض، ويكون ذلك استدراجًا لهم واستزلالًا، ثم هم إن أمنوا من أعدائهم في الدنيا بسبب القوة والمنعة والتمكين على الوجه المذكور، أو على وجه تأييد الدين -وإن كانوا فجرة- كما روى الطبراني في "الكبير" عن عمرو بن مقرن رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّيْنَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ" (¬2). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ الإِسْلامَ بِرِجالٍ ما هُمْ مِنْ أَهْلِهِ" (¬3). وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن ¬
الفائدة السابعة عشرة: أن الله تعالى يلقي محبة الصالحين في قلوب الخلق إلا من شذ منهم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قُمْ يا فُلانُ فَأَذِّنْ: أَنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ الدِّيْنَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ" (¬1). وروى الإمام أحمد ورجاله ثقات، والطبراني عن أبي بكرة - رضي الله عنه -، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه" عن أنس رضي الله تعالى عنه قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّيْنَ بِأَقْوامٍ لا خَلاقَ لَهُمْ" (¬2). فهؤلاء لا يأمنون يوم القيامة من الأهوال والأنكال بسبب الظلم والجور والفساد في الأرض، والمعصية، وارتكاب الخطايا، واتباع الشهوات، بخلاف الصالحين. وقد علم من ذلك أن الصالحين يصلح الله لهم دنياهم وآخرتهم، بخلاف غيرهم، وكفى بهذه فائدة! * الفائدة السابعة عشرة: أن الله تعالى يلقي محبة الصالحين في قلوب الخلق إلا من شذ منهم: قال الله تعالى لموسى عليه السلام: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]. قال سَلَمة بن كُهَيل رحمه الله تعالى: حببتك إلى عبادي. رواه ¬
ابن أبي حاتم. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. وفي "صحيح مسلم" عن سهيل بن أبي صالح قال: كنا بعرفة، فمر عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وهو على الموسم، فقام الناس ينظرون إليه، فقلت لأبي: يا أبه! إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز، قال: وما ذاك؟ قلت: لما له من الحب في قلوب الناس. قال: بأبيك أنت! لسمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعا جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: إِنّيْ أُحِبُّ فُلانا فَأَحِبَّهُ، قالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيْلُ، ثُمَّ يُنادِيْ فِيْ السَّماءِ، فَيَقُوْلُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوْهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّماءِ، ثُمَّ يُوْضَعُ لَهُ الْقَبُوْلُ فِيْ الأَرْضِ. وإِذَا أَبْغَضَ اللهُ عَبْدًا دَعا جِبْريلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَيَقُوْلُ: إِنِّيْ أُبْغِضُ فُلانًا فَأَبْغِضْهُ، قالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيْلُ، ثُمَّ يُنادِيْ فِيْ أَهْلِ السَّماءِ: إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلانًا فَأَبْغِضُوْهُ، قالَ: فَيُبْغِضُوْنَهُ، ثُمَّ يُوْضَعُ لَهُ الْبَغْضاءُ فِيْ الأَرْضِ". والحديث عند البخاري، والترمذي، وغيرهما (¬1). وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: إن العبد إذا عمل بطاعة ¬
الفائدة الثامنة عشرة: هداية الصالحين في الدنيا إلى عمل الخير،
الله أحبه الله، فإذا أحبه الله حببه إلى عبادة، وإن العبد إذا عمل بمعصية الله أبغضه الله، فإذا أبغضه الله بغضه الله إلى عبادة. رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" (¬1). * الفائدة الثامنة عشرة: هداية الصالحين في الدنيا إلى عمل الخير، وفي الآخرة إلى مستقراتهم من الجنة بحيث إنهم أعرف بمنازلهم ثَمَّ منهم بمجالسهم في الدنيا، وإعطاؤهم الأنوار ليهتدوا بها. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9]؛ أي: في الدنيا إلى طرق الخير، وفي الجنة إلى مساكنهم في الجنة، وما فيه نجاتهم، كما قال الله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6]. * الفائدة التاسعة عشرة: أن الصالحين يرفعون إلى جنة الفردوس، والدرجات العلي، وشجرة طوبى. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 107، 108] ¬
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلوْهُ الْفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلا الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهارُ الْجَنَّةِ" (¬1). وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 75، 76]. وروى الترمذي، والحاكم، والبيهقي عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ فِيْ الْجَنَّةِ مِئَةُ دَرَجَةً بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؛ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلاها دَرَجَةً" (¬2). وقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ}؛ العدن: الإقامة، وليست مغايرة للفردوس، بل جنات عدن صفة صالحة للفردوس، وغيرها. وروى ابن المبارك، وأبو نعيم عن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: إن الله ليدخل خلقًا الجنة فيعطيهم حتى يملوا، وفوقهم ناس في الدرجات العلي، فإذا نظروا إليهم عرفوهم، فيقولون: يا ربنا! إخواننا كنا معهم فبم فضلتهم علينا؟ فيقال: هيهات هيهات! إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويظمؤون حين تروون، ويقومون حين تنامون، ويسبحون حين تختصمون (¬3). ¬
الفائدة التي بها تمام عشرون فائدة: الفلاح؛
وقال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما خلق الله الجنة، وفرغ منها، قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}، وذلك حين أعجبته. رواه ابن جرير (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن رجلاً قال: يا رسول الله! طوبى لمن رآك، وآمن بك، قال: "طُوْبَىْ لِمَنْ رآنِيْ، وَآمَنَ بِيْ، ثُمَّ طُوْبَىْ، ثُمَّ طُوْبَىْ، ثُمَّ طُوْبَىْ لِمَنْ آمَنَ بِيْ، وَلَمْ يَرَنِيْ"، قال رجل: وما طوبى؟ قال: "شَجَرَةٌ فِيْ الْجَنَّةِ مَسِيْرَةَ مِئَةِ عامٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمامِها" (¬2). * الفائدة التي بها تمام عشرون فائدة: الفلاح؛ وهو الفوز بالخير في الدنيا؛ ومنه استجابة الدعاء، كما قال تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى: 26]؛ أي: يعطيهم ما سألوا، ويزيدهم من فضله زيادة لم يسألوها. وفي الآخرة؛ وهو شامل لكل خير اخْتُصَّ به الصالحون. ¬
تنبيه لطيف
وفسر الأكثرون الفلاح بالمكث في الخير، والإقامة في الخير والخلود، فيكون مخصوصا بالآخرة. قال الله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]. وقال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]. وذكر في الآيتين أوصاف الصالحين. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67]. وقد سبق الكلام في الفلاح. * تَنْبِيْهٌ لَطِيْفٌ: روى الدينوري عن العتابي قال: مررت بدير، فإذا راهب ينادي، فرفعت رأسي إليه، فقال لي: ويحك! هب أن المسيء قد عفي عنه، أليس قد فاته ثواب الصالحين؟ (¬1) قلت: وفي كتاب الله {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر: 58]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ ¬
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]. وفي هذه الآية اعتبار عظيم، وتفرقة ظاهرة بين الفريقين، ومن عمل عمل المجترحين، وأراد ثواب الصالحين، فهو في حمق مبين. وقال مسروق: قرأ تميم الدَّاري سورة الجاثية، فلما أتى على هذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21]، الآية، لم يزل يكررها، ويبكي حتى أصبح. رواه ابن المبارك، وابن أبي شيبة، والطبراني، وآخرون (¬1). ¬
فصل
فَصلٌ كما ينبغي للإنسان أن يتشبه بالصالحين، ينبغي له أن يسأل الله تعالى أن يلحقه بهم، كما قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83]. وقال يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. وقال سليمان عليه السلام: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]. وروى ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن [أبي] خالد رحمه الله تعالى قال: ذكر عن بعض الأنبياء عليهم السلام: اللهم لا تكلفني طلب ما لم تقدره لي، وما قدرت لي من رزق فأتني به في ستر منك وعافية، وأصلحني بما أصلحت به الصالحين؛ فإنما أَصْلَحَ الصالحين أنت (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "التوبة" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى: أنه كان يقول: اللهم إن الصالحين أصلحتهم، فأصلحنا ¬
حتى نكون صالحين (¬1). وروى أبو نعيم: أن معاوية بن قُرَّة رحمه الله تعالى كان يقول: اللهم إن الصالحين أنت أصلحتهم، ورزقتهم، يعملون بطاعتك، فرضيت عنهم، اللهم كما أصلحتهم ورزقتهم فرضيت عنهم، فارزقنا أن نعمل بطاعتك، وارض عنا (¬2). وقال رجل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: زودني دعوة؛ فإني أريد الخروج إلى طرسوس، فقال: قل: يا دليل الحيارى! دلني على طريق الصالحين، واجعلني من الصالحين (¬3). ¬
فَصلٌ وكذلك يستحب له زيارة الصالحين، وعيادتهم، والتردد إليهم ليكون معهم بالمحبة، كما سبق، ويجب عليه احترامهم صاجلالهم. روى الإمام أحمد، وغيره، وصححه الحاكم، عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ - عز وجل - يَقُوْلُ: حَقَّتْ مَحَبَتَّيْ لِلَّذِيْنَ يَتَزَاوَرُوْنَ مِنْ أَجْلِيْ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِيْ لِلَّذِيْنَ يَتَحابُّوْنَ مِنْ أَجْلِيْ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِيْ لِلَّذِيْنَ يَتَبَاذَلُوْنَ مِنْ أَجْلِيْ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِيْ لِلَّذِيْنَ يَتَناصَرُوْنَ مِنْ أَجْلِيْ" (¬1). وروى الترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عادَ مَرِيْضاً، أَوْ زارَ أَخاً لَهُ فِيْ اللهِ، ناداهُ مَلَكٌ مِنْ خَلْفِهِ: طِبْتَ، وَطابَ مَمْشاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلاً" (¬2). وروى مسلم عن أنس قال: قال أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - بعد وفاة ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها، فلما انتهوا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: إني لا أبكي لأني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكني أبكي أن الوحي قد إنقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها (¬1). قال حجة الإسلام في "الإحياء": ودخل رجل على داود الطائي رحمه الله تعالى فقال له: ما حاجتك؟ قال: زيارتك، قال: أما أنت فقد عملت خيراً حين زرت، ولكن انظر ماذا ينزل بي إذا قيل لي: من أنت فتُزار؟ من الزهاد أنت؟ لا والله، من الصالحين أنت؟ لا والله، من العبَّاد أنت؟ لا والله، ثم أقبل ينوح على نفسه، ويقول: كنت في الشبيبة فاسقاً، فلما شخت صرت مرائياً، والله لَلمرائي شر من الفاسق (¬2). واعلم أن الصالحين - وإن أزروا بأنفسهم، ووضعوا من مقامهم - فإنما يزيدهم ذلك مهابة في قلوب المؤمنين، ووقاراً في صدور المحبين. وفي الحديث: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيْرَنا، وَيَرْحَمْ صَغِيْرَنَا". رواه الإمام أحمد، والحاكم عن عبادة بن الصامت (¬3). وفي لفظ: "مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيْرَنا، وَيعْرِفْ حَقَّ كَبِيْرِنا فَلَيْسَ مِنَّا". ¬
رواه أبو داود، والحاكم وصححه، من حديث ابن عمرو (¬1). وفي لفظ عنه أيضاً أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيْرَنا، وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيْرِنا" (¬2). وفي لفظ عن أنس - صححه الترمذي -: "لَيْسَ مِنَا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيْرَنا، وَيُوَقَّرْ كَبِيْرَنا" (¬3). وليس المراد بالكبير من كان من المترفين، أو من الظلمة المتمردين، بل من كان من العلماء العاملين، أو الحكام العادلين، أو العباد الصالحين، أو ذوي الأسنان من المسلمين. وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" عن أبي بكر بن عثمان قال: كتب أبو عثمان إلى محمد بن الفضل رحمة الله عليهما: سألتَ ما علامة الشقاوة؛ فهي ثلاثة أشياء: يرزق العلم ويحرم العمل، ويرزق العمل ويحرم الإخلاص، ويرزق محبة الصالحين ولا يحترمهم (¬4). ¬
فَصلٌ وكذلك ينبغي له أن يخالط الصالحين، ويعاشرهم، ويخدمهم، ويقضي حوائجهم، ويعاونهم؛ لأن ذلك يدعو إلى محبتهم، والتشبه بهم، وطلب اللحاق بهم، والحشر معهم، وسريان طباعهم إليه بمخالطتهم، كما تقدم التنبيه على ذلك، وإلى حلول نظرهم عليه، ودعائهم له، ولأن من جالسهم فقد جالس الله - عزوجل - لأنهم جلساؤه. وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّ رَجُلاً قَتَلَ تِسْعَةً ؤَتِسْعِيْنَ نَفْساً، فَجَعَلَ يَسْأَلُ؟ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَأَتَىْ راهِباً فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: لَيْسَ لَكَ تَوْبَةٌ؟ فَقَتَلَ الرَّاهِبَ، ثمَّ جَعَلَ يَسْأَلُ، فَخَرَجَ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَىْ قَرْيةٍ فِيْها قَوْمٌ صالِحُونَ، فَلَمَّا كانَ فِيْ بَعْضِ الطَّرِيْقِ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَناءَ بِصَدْرِهِ، فَأَحَفَّتْ بِهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَمَلائِكَةُ الْعَذابِ، وَكانَ إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ، فَجُعِلَ مِنْ أَهْلِهَا" (¬1). وقوله: "فَناءَ بِصَدْرِهِ"؛ أي: مال بصدره إلى جهة القرية الصالحة، فأدركه الموت على هذه الحالة. ¬
فانظر كيف جعل من أهل القرية الصالحة بعزمه على مخالطتهم، والكينونة معهم، فما ظنك بمن يخالطهم؟ وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي جحيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: "جَالِسُوْا الْكُبَراءَ، وَسائِلُوْا الْعُلَماءَ، وَخالِطُوْا الْحُكَمَاءَ" (¬1). ومن فهم أن الكبراء في الحديث غير أهل الدين والتقوى فقد أخطأ الفهم. وفي "الأوسط" عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مُوْسَىْ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: يا رَبِّ! أَخْبِرْنيْ بِأَكْرَمِ خَلْقِكَ عَلَيْكَ، قالَ: الَّذِيْ يُسَارعُ إِلَىْ هَوَايَ إِسْراعَ النَسْرِ إِلَىْ هَواهُ، وَالَّذِيْ يَأْلَفُ عِبادِيَ الصَّالِحِيْنَ كَمَا يَأْلَفُ الظَّبْيُ النَاسَ، وَالَّذِيْ يَغْضَبُ إِذا انْتُهِكَتْ مَحارِمِيْ كَغَضَبِ النَّمِرِ لِنَفْسِهِ، لا يُبالِيْ قَلَّ النَاسُ إِذا غَضِبَ أَمْ كَثُرُوْا" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن معاوية بن قرة قال: قال لقمان لابنه عليهما السلام: يا بني! جالس الصالحين من عباد الله؛ فإنك ¬
تصيب بمجالستهم خيراً، ولعله أن يكون في آخر ذلك أن تنزل عليهم الرحمة فتصيبك معهم. يا بني! لا تجالس الأشرار؛ فإنك لا يصيبك من مجالستهم خير، ولعله أن يكون في آخر ذلك أن تنزل عليهم عقوبة فتصيبك معهم (¬1). وذكر الحافظ ابن سيد الناس في "منح المدح" عن بعض أهل الأخبار: أن لبيد بن ربيعة العامري رضي الله تعالى عنه لم يقل الشعر في الإسلام إلا قوله: [من الكامل] مَا عَاتَبَ الْمَرْءَ الْكَرِيْمَ كَنَفْسِهِ ... وَالْمَرْءُ يُصْلِحُهُ الْقَرِيْنُ الصَّالِحُ وروى أبو نعيم عن عبد الواحد بن زيد رحمه الله تعالى: أنه قال: جالسوا أهل الدين، فإن لم تجدوهم فجالسوا أهل المروءات؛ فإنهم لا يرفثون في مجالسهم (¬2). وروى هو، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن ذي النون المصري رحمه الله تعالى: أنه قال: بصحبة الصالحين تطيب الحياة، والخير مجموع في الرفيق الصالح؛ إن نسيت ذكَّرك، كان ذكرت أعانك (¬3). ¬
وروى ابن باكويه الشيرازي في "الألقاب" عن يوسف بن الحسين قال: قلت لذي النون رحمه الله تعالى وقت مفارقتأنه: مَنْ أُجَالِسُ؟ قال: عليك بصحبة من يذكِّرك بالله رؤيته، وتقع هيبته على باطنك، ويزيد في علمك منطقه، ويزهِّدك في الدنيا عمله، ولا تعصي الله ما دمت في قربه، يعظك بلسان فعله، ولا يعظك بلسان قوله. وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وغيره عن أبي غالب قال: في وصية عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين! تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إليه بالمقت لهم، والتمسوا رضاه بسخطهم، قالوا: يا نبي الله! من نجالس؛ قال: جالسوا من يزيد في أعمالكم منطقه، ومن يذكِّركم بالله رؤيته، ويزهِّدكم في ديناكم عمله (¬1). وعن قيس بن عباد: أن داود عليه السلام كان يدعوه: يا ماراه؛ أي: يا رباه! أسالك جليساً إذا ذكرتك أعانني، وإذا نسيتك يذكرني، يا ماراه! أعوذ بك من جليس [إذا ذكرتك لم يعني وإذا نسيتك لم يذكرني] (¬2)، يا ماراه! إذا مررت بقوم يذكرونك فأردت أن أجاوزهم فاكسر رجلي التي تليهم حتى أجلس فأذكرك معهم (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن الحسن: أن داود عليه السلام قال: ¬
اللهم إني أسألك من الإخوان والأصحاب والجيران والجلساء من إن نسيت ذكروني، كان ذكرت أعانوني، وأعوذ بك من الأصحاب والإخوان والجيران والجلساء من إن نسيت لم يذكروني، كان ذكرت لم يعينوني (¬1). وروى ابن لال عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جُلَساءُ اللهِ غَداً أَهْلُ الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ فِيْ الدُّنْيا" (¬2). ومجالستهم له تعالى يوم القيامة على مجالستهم له في الدُّنيا؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل؛ لأنَّ الصَّالحين لا تخلو مجالستهم عن ذكر الله تعالى. وقد ورد أن الله تعالى قال: "أَنا جَلِيْسُ مَنْ ذَكَرَنِيْ" (¬3). وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَقُوْلُ اللهُ - عزوجل- أَنا مَعَ عَبْدِيْ إِذا هُوَ ذَكَرَنِيْ، وَتَحَرَّكَتْ بِيْ شَفَتَاهُ". رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه (¬4). فمن جالس الصالحين فهو من جلساء الله تعالى، وأي خير أعظم من ذلك؟ ! ¬
وقال شيخ الإسلام الجدُّ رحمه الله تعالى: [من الوافر] جُلُوْسُكَ مَعْ رِجالِ اللهِ يُلْهِيْ ... عَنِ الدُّنْيا وَعَنْ أَهْلٍ وَشُغْلِ فَجَالِسْهُمْ تَنَلْ خَيْراً كَثِيْراً ... وتُعْطَىْ كُلَّ أَفْضالٍ وَفَضْلِ وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "المنامات" عن بعض أصحاب مالك بن دينار: أنه رأى مالكاً رضي الله تعالى عنه في النوم، فقال له: ما صنع الله بك؟ قال: خيراً، لم نر مثل العمل الصالح، لم نر مثل الصحابة الصالحين، لم نر مثل السلف الصالح، لم نر مثل مجالس الصالحين (¬1). وروى أبو نعيم، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: كان رجل يجالس قوماً، فترك مجالستهم، فأتي في منامه، فقيل له: تركت مجالستهم؛ لقد غفر لهم بعدك سبعين مرة (¬2). وذكر الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" عن أبي الخير الأقطع رحمه الله تعالى قال: ما بلغ أحد إلى حالة شريفة إلا بملازمة ¬
الموافقة، ومعانقة الأدب، وأداء الفرائض، وصحبة الصالحين (¬1). وروى أبو نعيم عن أبي السائب: أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم عليه السلام: إني قد اتخذت من أهل الأرض خليلاً قال: فقال: يا رب! أعلمني من هو حتى أكون له عبداً حتى نموت (¬2). وعن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت مضاء - يعني: ابن عيسى -، وأبا صفوان بن عواء رحمهما الله تعالى يقولان: من أحب رجلاً لله، وقصر في حقه، فهو كاذب في حبه، وإذا أراد الله بالشاب خيراً وفق له رجلاً صالحاً (¬3). وعن قتادة قال: يا ابن آدم! لا تعتبر الناس بأموالهم ولا أولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح، وإذا رأيت عبداً صالحاً يعمل فيما بينه وبين الله خيراً، ففي ذلك فسارع، وفي ذلك فنافس ما استطعت إليه، ولا قوة إلا بالله (¬4). وروى أبو الحسن بن جهضم عن بشر بن الحارث رحمه الله تعالى قال: تَنَقَوا الإخوان؛ فإذا وجدتم من يعينكم على الآخرة فتمسكوا به (¬5). ¬
وعن أبي سليمان الدارني رحمه الله تعالى قال: كنت أنظر إلى الأخ من إخواني بالعراق فأعمل على رؤيته شهراً، وكنت أرى الأخ من إخواني فأصافحه، فما يفارق كفي كفه حتى أجد طعم ذلك في قلبي (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن جعفر بن محمد - وهو الصادق رحمه الله تعالى - قال: المروءة مروءتان: مروءة في السفر، ومروءة في الحضر، فأما مروءة الحضر فقراءة القرآن، والنظر في الكتب، وحضور المساجد، ومجالسة أهل الخير، وأما مروءة السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على من يصحبك، والمزاح في غير ما يسخط الله، وإذا فارقتهم أن تنشر عنهم الجميل (¬2). [وروى الحاكم في "المستدرك" عن عبيد الله بن الحارث الأنصاري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سَعادَةِ المرءِ في الدُّنيا: الجارُ الصَّالحُ، والمنزِلُ الواسِعُ، والمركَبُ الهَنِيءُ" (¬3). وروى الدِّينوري في "المجالسة" من طريق ال البيت عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أربعُ خصالٍ من سعادةِ ¬
المرءِ؛ أن تكونَ زوجتُه صالحةً، وأولادُه أبراراً، وخلطاؤه صَالحين، ومعيشتُه في بَلدِه" (¬1). ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان" عن عبد الله بن الحكم، عن أبيه، عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -. * تنبيه: ولا ينبغي لمن صحب الصالحين أن يأمَنَ مكر الله تعالى بسبب صحبتهم ولا يغترَّ بها، كما قال حاتم الأصم رحمه الله تعالى: لا تغتر بموضع صالح، فلا مكان أصلح من الجنة ولقي آدم فيها ما لقي، ولا تغتر بكثرة العبادة فإن إبليس بعد طول تعبُّده لقي ما لقي، ولا تغتر بكثرة العلم فإن بلعام كان يحسن الاسم الأعظم فانظر ماذا لقي، ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر [منزلة] من المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، لم ينتفع بلقائه أقاربه ولا أعداؤه (¬2). ¬
فَصلٌ إنما نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي رضي الله تعالى عنه على المرأة الصالحة في الخلطاء الصالحين، فإن الاختلاط بها من سريان طباع كل منهما إلى الآخر، وأشد في جلب المودة والمحبة. ولذلك كان داود عليه السلام يقول: اللهم لا تجعل لي أهلَ سُوءٍ فأكون رجلَ سوء. رواه الإمامان عبد الله بن المبارك، والإمام أحمد بن حنبل كلاهما في "الزهد" عن عُبيد بن عمير (¬1). ومن ثَمَّ قيل: المرء على دين زوجته. وعلله أقضى القضاة الماوردي في "أدب الدين والدنياهـ لما يستلزمه الميل إليها من المتابعة، ويجتذبه الحب لها من الموافقة، فلا يجد إلى المخالفة سبيلاً، ولا إلى المباينة والمشاقة طريقاً، وأنشد قول خالد بن يزيد بن معاوية لزوجته: ¬
فإنْ تُسلمي نسلِمْ وإن تتنصَّري ... يَخُطُّ رجالٌ بين أعينهم صُلْبا (¬1) وقد وقعت الموافقة بين الزوجين في قوله تعالى: {وَمِنْءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. وكان الاعتناء بصلاح الزوجة لذلك أهم من الاعتناء بصلاح غيرها من الخُلطاء، ومن ثمة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما استفاد المؤمنُ بعدَ تقوى اللهِ خيراً من زوجةٍ صَالحةٍ، إنْ أمرَها أطاعتْهُ، كان نظر إليها سَرَّته، وإنْ أقسمَ عليها أبرَّته، وإنْ غابَ عنها نصحته في نفسِها ومالِه"، رواه ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه (¬2). وأثنى الله على زكريا عليه السلام بصلاح الزوجة قال: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان في لسان امرأة زكريَّا عليه السلام طولٌ فأصلحه اللهُ تعالى. صححه الحاكم (¬3). وقال عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى: كان في خلقها سوء، وفي لسانها طول، وهو البذاء، فأصلح الله ذلك منها (¬4). ¬
وقال محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى: كان في خلقها شيء (¬1)] (¬2). رواهما ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عساكر. ولا شك أن حسن الخلق، وطيب اللسان من تمام الصلاح، بل هما معظمه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما استفاد رجل بعد إيمان بالله خيراً من امرأة حسنة الخلق، وَدُودٍ وَلُودٍ، وما استفاد رجل بعد الكفر بالله شراً من امرأة سيئة الخلق، حديدة اللسان. رواه ابن أبي شيبة (¬3). وروى ابن السمعاني في "أماليه" عن أبي معبد الخزاعي: أنه قيل له: يا أبا معبد! أي النساء أحب إليك؛ قال: أحب النساء إلي من ولدت في نعمة، ثم أصابتها حاجة، فمعها ذل الحاجة، ومعها أخلاق النعمة، لا قارنة فتحن، ولا [ .... ] (¬4) فتمجن، بهية من بعيد، مليحة من بعيد. ¬
ومما ورد في الترغيب في تزوج المرأة الصالحة: ما ذكره في "الإحياء" عن محمد بن كعب القرظي في معنى قوله تعالى: {رَبَّنَا اتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة: 201]؛ قال: المرأة الصالحة (¬1). وأخرجه ابن أبي حاتم في الآية إلا أنه قال: المرأة الصالحة من الحسنات (¬2). وفي بعض التفاسير في قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]؛ الزوجة الصالحة (¬3). وروى مسلم، والنسائي، وابن ماجه واللفظ له، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَلَيْسَ مِنْ مَتَاعِ الدّنْيَا شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنَ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ" (¬4). وروى الإمام أحمد عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ سَعادَةِ ابْنِ ادَمَ ثَلاثٌ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ ادَمَ ثَلاثٌ، مِنْ سَعادَةِ ابْنِ ادَمَ الْمَرْأ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ، وَمِنْ شَقْوَةِ ¬
ابْنِ ادَمَ الْمَرْأَةُ السُّوْءُ، وَالْمَسْكَنُ السُّوْءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوْءُ" (¬1). ورواه ابن حبان في "صحيحه" إلا أنه قال: "أَرْبَعٌ مِنَ السَّعادَةِ: الْمَرْأةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْواسِعُ، وَالْجارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيْءُ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْمَرْأَةُ السُّوْءُ، وَالْجَارُ السُّوْءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوْءُ، وَالْمَسْكَنُ الضَّيّقُ" (¬2). وروى الحاكم - وأشار المنذري إلى صحة إسناده، عن محمد بن سعد؛ يعني: ابن أبي وقاص، عن أبيه - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاثَةٌ مِنَ السَّعادَةِ: الْمَرْأة الصَّالِحَةُ تَراهَا تُعْجِبُكَ، وَتَغِيْبُ فَتَأْمَنُهَا عَلَىْ نَفْسِها وَمالِكَ، وَالدَّابَّةُ تَكُوْنُ فَطِنَةً، فَتُلْحِقُكَ بِأَصْحابِكَ، وَالدَّارُ تَكُوْنُ واسِعَة كَثَيْرَةَ الْمَرافِقِ. وَثَلاثَةٌ مِنَ الشَّقاءِ: الْمَرْأةُ تَراهَا فَتَسُوْءُكَ، وَتَحْمِلُ لِسانهَا عَلَيْكَ، وَإِنْ غِبْتَ لَمْ تَأْمَنْها عَلَىْ نفسِها وَمالِكَ، وَالدَّابَّهُ تَكُوْنُ قَطُوْفاً؛ إِنْ ضَرَبْتَها أتعَبَتْكَ، وَإِنْ تَرَكْتَها لَمْ تُلْحِقْكَ بِأَصْحابِكَ، وَالدَّارُ تَكُوْنُ ضَيِّقَةً قَلِيْلَةَ الْمَرافِقِ" (¬3). ¬
وروى الطبراني في "الأوسط"، والحاكم وصححه، عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ رَزَقَهُ اللهُ امْرَأَةً صالِحَةً فَقَدْ أَعانَهُ عَلَىْ شَطْرِ دِيْنِهِ، فَلْيَتَّقِ اللهَ فِيْ الشَّطْرِ الثَّانِيْ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبزى رحمه الله تعالى قال: مثل المرأة الصالحة عند الرجلالصالح مثل التاج الْمُخَوَّصِ بالذهب على رأس الملك، ومثل المرأة السوء عند الرجلالصالح مثل الحمل الثقيل على الرجلالكبير (¬2). والمراد بالمرأة الصالحة: أن تكون صالحة للدين والدنيا؛ وإن كانت صلاحية الدين أهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمالِها، وَلِحَسَبِها، وَلِجَمالِها، وَلِدِيْنِها؛ فَاظْفَرْ بِذاتِ الدِّيْنِ تَرِبَتْ يَداكَ". رواه الستة إلا الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬3). وروى الإمام أحمد بسند صحيح، وأبو يعلى، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُنْكَحُ الْمَرْأةُ علَىْ إِحْدَىْ خِصالٍ: لِجَمالِها، وَمالِها، ¬
وَخُلُقِها، وَدِيْنِها؛ فَعَلَيْكَ بِذاتِ الدِّيْنِ تَرِبَتْ يَمِيْنُكَ" (¬1). أي: إن لم تظفر بذات الدين، أو: إن ظفرت بها فأعرضت عنها لذات مال، أو حسب، أو جمال. فإن من تزوج امرأة لمالها فقد لا يكون معها مال يستفيده، أو معها ولكن لم تعطه، فتنقلب المودة نفرة، والألفة فرقة، والرحمة عذاباً، أو يستفيد منها مالًا إلا أنها تمتن عليه، فيثقل عليه ذلك، وقد تتيه بالمال عليه، وتزدريه. ومن تزوج امرأة لحسبها فقد تتيه به عليه، وتزدريه، فلا ينال من حسبها إلا خلاف ما أراد. ومن تزوج امرأة لجمالها فقد تجده غير لائق بها، فتمقته، أو تلتفت إلى غيره، فينقلب المقصود من النكاح إلى ضده. وقد أوضح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: "مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِعِزّهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ ذُلاُّ، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأة لِمالِها لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ فَقْراَ، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِحَسَبِها لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ دَناءَةً، وَمَنْ تَزَوَّجَها لَمْ يِتَزَوَّجْها إِلاَّ لِيَغُضَّ بَصَرَهُ، ويُحَصِّنَ فَرْجَهُ، وَيَصِلَ رَحِمَهُ، كانَ ذَلِكَ سُنَّةَ، وَبارَكَ اللهُ لَهُ فِيْها، وَبارَكَ لَها فِيْهِ". رواه ابن النجار في "تاريخه" عن أنس - رضي الله عنه - (¬2). ¬
وفي "سنن ابن ماجه" عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَزَوَّجُوْا النِّساءَ لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَىْ حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلا تَزَوَّجُوْهُنَّ لأَمْوالِهِنَّ فَعَسَىْ أَمْوالُهُنَّ أَنْ يُطْغِيهِنَّ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوْهُنَّ عَلَىْ الدِّيْنِ، وَلأَمَةٌ خَرْساءُ سَوْداءُ ذَاتُ دِيْنٍ أَفْضَلُ" (¬1). وفي كتاب الله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]. قال قتادة: قانتات؛ أي: مطيعات لله، ولأزواجهن حافظات، قال: لما استودعهن الله من حقه، ولغيب أزواجهن. رواه ابن جرير، وغيره (¬2). وروى هو، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ النِّساءِ الَّتِيْ إِذا نَظَرْتَ إِلَيْها سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطاعَتْكَ، وَإِذا غِبْتَ عَنْها حَفِظَتْكَ فِيْ مالِكَ وَنَفْسِهاهـ، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ} إلى قوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء: 34] (¬3). ¬
وروى أبو داود، وغيره، وصححه الحاكم، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]، كَبُرَ ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا أن يكنز لولده مالاً يبقى بعده، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أنا أفرج عنكم، فانطلق عمر، وأتبعه ثوبان، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا نبي الله! إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية، فقال: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكاةَ إِلاَّ لِيَطِيْبَ بِها ما بَقِيَ مِنْ أَمْوالِكُمْ، وَإِنَّما فَرَضَ الْمَواريثَ مِنْ أَمْوالٍ تَبْقَىْ بَعْدَكُمْ"، فكَبَّرَ عمر رضي الله تعالى عنه، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أَلا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ ما يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الَّتِيْ إِذا نظًرَ إِلَيْها سَرَّتْهُ، وَإِذا أَمَرَها أَطاعَتْهُ، وَإِذا غابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ" (¬1). وروى الدارقطني، وغيره عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت هذه الآية، قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نزل اليوم في الكنز ما نزل، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! ما نكنز اليوم؟ قال: "لِساناً ذَاكِراً، وَقَلْباً شاكِراً، وَزَوْجَةً صالِحَةً تُعِيْنُ أَحَدَكُمْ عَلَىْ إِيْمانِهِ" (¬2). ¬
وفي هذا الحديث إشارة إلى أن الرجل أحق ما يعتني به وبتحصيله صلاح نفسه، ثم صلاح أهله، كما قال تعالى: {أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]. وروى البيهقي عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "النِّسَاءُ عَلَىْ ثَلاثَةِ أَصْنافٍ، صنْفٌ كَالْوِعاءِ تَحْمَلُ، وَتَضَعُ، وَصنْفٌ [كالعر- وهو الجرب-] (¬1)، وَصنْفٌ وَدُوْدٌ وَلُوْدٌ، تُعِيْنُ زَوْجَها عَلَىْ إِيْمانِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْكَنْزِ" (¬2). وروى الطبراني بسند صحيح، عن عبد الرحمن بن أبزى رحمه الله تعالى قال: قال داود النبي عليه السلام: كن لليتيم كالأب الرحيم، واعلم أنك كما تزرع تحصد، ومثل المرأة الصالحة لبعلها كالملك المتوج بالْمُخَوَّصِ بالذهب؛ كما راها قرت بها عيناه، ومثل المرأة السوء لبعلها كالحمل الثقيل على الشيخ الكبير (¬3). وسبق عن عبد الرحمن من قوله قريبٌ من معناه. ثم صلاحية المرأة للدنيا أعم من أن تكون [إلى] دنياه أو دنياها. - فمن صلاحيتها لدنياه: أن تكون حافظة لماله، ولنفسها، محافظة ¬
على زينتها، وحسن تبعلها له؛ فان ذلك يتم به تحصينه بها، وإعفافه عن الحرام. وقد روى البيهقي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله تعالى عنها: أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بين أصحابه، فقالت: بأبي أنت وأمي، إني وافدة النساء إليك، واعلمْ - نفسي لك الفداء - أنه ما من امرأة كانت في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا، أو لم تسمع إلا وهي على مثل رأي؛ إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء، فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا - معشرَ النساء - محصورات، مقصورات، قواعد بيوتكم، ومفضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم - معشرَ الرجال - فضلتم علينا بالجمعة، والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً، أو معتمراً، أو مرابطاً، حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، ورمينا لكم أولادكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه بوجهه كله، ثم قال: "هَلْ سَمِعْتُمْ مَقالَةَ امْرَأَةٍ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْ مُساءَلَتِها فِيْ أَمْرِ دِيْنِها مِنْ هَذِهِ؟ " فقالوا: يا رسول الله! ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، ثم قال: "انْصَرِفِيْ أَيَّتُها الْمَرْأَةُ، وَأَعْلِمِيْ مَنْ خَلْفَكِ مِنَ النِّساءِ أَنَ حُسْنَ تَبَعُّلِ إِحْداكُنَّ لِزَوْجِها، وَطَلَبَها لِمَرْضاتِهِ، وَاتِّباعَهَا مُوافَقَتَهُ، يَعْدِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ"، فأدبرت المرأة وهي تهلل، وتكبر استبشاراً (¬1). ¬
- ومن صلاحيتها لدنياهما: أن لا تكون مبذرة ولا مسرفة فيما تملك؛ فإنها إذا فرطت بما عندها لا تأمن غائلة الشَّرَه التي جبلت عليه النساء، فيدعوها ذلك إلى الحزن والكابة، فتكدر عيش بعلها، وتكلفه ما لايطيق، أو ما لا تسمح نفسه به، فيقع بينهما الشقاق، ويؤول بها الحال إلى كفرانه، وهو يخالف الصلاح، ولذلك قال علي - رضي الله عنه -: شر خصال الرجال خير خصال النساء: البخل، والزهو، والجبن (¬1). وإنما مدح ذلك منها لأن البخل يدعوها إلى حفظ مالها، ومال البعل، وتأمن بذلك من غائلة الشر، والكفران، والزهو يدعوها إلى الاستنكاف عن معاشرة من لا يليق بها، وأن تكلم كل أحد بكلام مريب، والجبن يدعوها إلى الخوف من الزوج والأهل، فلا تخرج من بيتها، كان خرجت فلا تخرج إلا بعد الاستئذان، والتحفظ، وعدم التبرج، والتبهرج، وتتقي مواطن التهم، وتهاب كل شيء (¬2). - ومن صلاحيتها لدين زوجها: أن تحرص على قضاء وطره، وأن تبادر إليه مهما طلبها، ولا تمنعه، ولا تُسَوِّفُهُ؛ فإن ذلك يضطره إلى مواقعة الحرام، أو يكدر عليه عيشه، ويشغله بمعاناة الشهوة، ومدافعة الغُلْمة (¬3) عن كثير من أشغال دنياه واخرته، وربما حقد عليها بسبب ذلك، ووقع بينهما الشقاق. ¬
وقد روى الترمذي وحسنه، والنسائي عن طَلْق بن علي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذا دَعا الرَّجُلُ امْرَأتهُ لِحاجَتِهِ فَلْتَجِئْهُ وَإِنْ كانَتْ عَلَى التَنُّوْرِ" (¬1). وروى ابن سعد في "طبقاته" عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَمْنَعِ امْرَأةٌ زَوْجَها وَلَوْ كانَتْ عَلَىْ ظَهْرِ قَتَبٍ" (¬2). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا دَعا الرَّجُلُ امْرَأتَهُ إِلَىْ فِراشِهِ، فَأَبَتْ، فَبَاتَ غَضْبانَ، لَعَنتهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّىْ تُصْبحَ" (¬3). - ومن صلاحيتها لدينه - أيضاً -: أن لا تكلفه التوسع في النفقة فوق وسعته، فتلجئه بذلك إلى ركوب كل صعب وذَلول. وقد حكي: أن بعض السلف كان إذا خرج بكرة النهار لمعاشه، تعلقت بأذياله بنت له صغيرة تقول: الله الله يا أبتي! اتق الله فينا، أطعمنا خبز الشعير، وجريش الملح، ولا تدخل علينا حراماً، ولا شبهة (¬4). وروى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صالِحُ نِساءِ قُرَيْشٍ؛ أَحْناهُ عَلَىْ وَلَدٍ فِيْ ¬
صِغَرِه، وَأَرْعاهُ عَلَىْ زَوْجٍ فِيْ ذاتِ يَدِهِ" (¬1). تضمن الحديث وصف الصالحات بالحنو على الأولاد، والقناعة باليسير من الأزواج. - ومن صلاحيتها للزوج - أيضاً -: أن لا تعيِّره بزوج لها قبله، ولا بأبيها، ولا بأخيها، ولا بأحد من أقاريها، ولا بجاره، ولا بغير ذلك، ولو بالتعريض؛ فإن ذلك مكدر عليها وعليه. وكذلك لا تقول له: ما رأيت منك خيراً، أو: أي خير رأيت منك؟ أو: ما الذي صنعته معي؟ فإن ذلك من كفران العشير. وكذلك شكايته، وذمه إلى أهلها، وغيرهم من غير ضرورة. روى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: مر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في نسوة، فسلم علينا، فقال: "إِيَّاكُنَّ وَكُفْرانَ الْمُنْعِمِيْنَ"، قلنا: يا رسول الله! وما كفران المنعمين؟ قال: "لَعَل إِحْداكُنُّ تَطُوْلُ أَيْمَتُها بَيْنَ أَبَوَيْها، وَتَعْنُسُ، فَيَرْزُقُها اللهُ زَوْجاً، وَيَرْزُقُها مِنْهُ مالاً وَوَلَداً، فَتَغْضَبُ الْغَضْبَةَ، فتَقُوْلُ: ما رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطّ" (¬2). ¬
وروى هو، وابن ماجه، والبيهقي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابن لها [تحمله، وبيدها آخر، قال: ولا أعلمه إلا قال وهي حامل] (¬1) - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حامِلاتٌ والِداتٌ رَحِيْماتٌ، لَوْلا ما يَأتِيْنَ إِلَىْ أَزْواجِهِن لَدَخَلَ مُصَلّياتُهُنَّ الْجَنَّةَ" (¬2). وروى البزار، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَىْ امْرَأَةٍ لا تَشْكُرُ لِزَوْجِها وَهِيَ لا تَسْتَغْنِيْ عَنْهُ" (¬3). وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث: "وَنِساؤُكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْوَدُوْدُ، الْعَؤُوْدُ عَلَىْ زَوْجِها، الَّتِيْ إِذَا غَضِبَ جاءَتْ حَتَّىْ تَضَعَ يَدَها فِيْ يَدِهِ، ثُمَّ تَقُوْلُ: لا أَذُوْقُ غَمْضاً حَتَّىْ تَرْضَىْ" (¬4). ¬
وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابنته: "إِنِّيْ أُبْغِضُ أَنْ تَكُوْنَ الْمَرْأةُ تشْكُوْ زَوْجَها" (¬1). - ومن صلاحيتها لدينها هي: أن لا تخالط النسوة اللاتي يتبجحن بثروة أزواجهن، أو بأحسابهم، أو بكثرة نكاحهم لتكون بذلك قاصرة الطرف على بعلها، غير متشوفة إلى غيره، ولا تنظر إلى أجنبي أصلاً، بل تغض طرفها، وتحفظ نفسها بقدر الإمكان. قال الله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] الآية. وروى أبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة رضي الله عنها، قالت: فبينا نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احْتَجِبا عَنْهُ"، فقلت: يا رسول الله! أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ قال: " أَفَعَمْياوانِ أَنْتُما؟ أَلُسْتُما تُبْصِرانِهِ؟ " (¬2). - ومن صلاحيتها لدينها: أن لا تخرج من بيتها إلا بإذن بعلها، وإذا خرجت تنزهت عن التبرج بالزينة والطيب تحصناً عن استشراف الفسَّاق إليها وتعففاً وحياءً. ¬
روى الإمام أحمد، والنسائي، وغيرهما عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّما امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ، فَخَرَجَتْ، فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ، فَيَجِدُوْا رِيْحَها، فَهِيَ زانِيَةٌ" (¬1). وروى النسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ إِلَىْ الْمَسْجِدِ فَلْتَغْتَسِلْ مِنَ الطِّيْبِ كَما تَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنابَةِ" (¬2). وروى الترمذي عن ميمونة بنت سعد رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرَّافِلَةُ فِيْ الزِّيْنَةِ فِيْ غَيْرِ أَهْلِها، كَمَثَلِ ظُلْمَةِ يَوْمِ الْقِيامَةِ لا نُوْرَ لَها" (¬3). وروى الحاكم، والبيهقي عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تَأْذَنَ فِيْ بَيْتِ زَوْجِها وَهُوَ كارِهٌ، وَلا تَخْرُجَ، وَلا تُطِيع فِيْهِ أَحَداً، وَلا تُخَشِّنَ بِصَدْرِهِ، وَلا تَعْتَزِلَ فِراشَهُ، وَلا تَضُرَّ بِهِ، فَإِنْ هُوَ ظَلَمَ فَلْتَأْتِهِ ¬
حَتَّىْ تُرْضِيَهُ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْها فَبِها وَنِعْمَتْ، وَقَبِلَ اللهُ عُذْرَها، وَإِنْ هُوَ لَمْ يَرْضَ أَبْلَغَتْ عِنْدَ اللهِ عُذْرَها" (¬1). وروى الحكيم الترمذي عن أنس - رضي الله عنه -: أن رجلاً انطلق غازياً، وأوصى امرأته لا تنزل من فوق البيت، فكان والدها في أسفل البيت، فاشتكى أبوها، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخبره، وتستأمره، فأرسل إليها: "اتَّقِيْ اللهَ، وَأَطِيْعِيْ زَوْجَكَ" ثم إن والدها توفي، فأرسلت إليه تستأمره، فأرسل إليها مثل ذلك، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلى عليه، فأرسل إليها: "إِنَّ اللهَ غَفَرَ لأَبِيْكِ بِطَواعِيَتِكِ لِزَوْجِكِ" (¬2). وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمَرْأص عَوْرَة، فَإِذا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَها الشَّيْطانُ" (¬3). - ومن صلاحيتها لدينها: أن تخرج من عهدة الصلوات الخمس، وصيام رمضان إلا في زمان الحيض والنفاس. روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، والبزار عن أنس رضي الله تعالى عنه، والطبراني في "الكبير" عن ¬
عبد الرحمن بن حسنة رضي الله تعالى عنه قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَها، وَصامَتْ شَهْرَها، [وحفظت فرجها] (¬1)، وَأَطاعَتْ زَوْجَها، دَخَلَتِ الْجَنَّةَ" (¬2). وكذلك تخرج من عهدة أحكام الحيض، والنفاس، والطهر، والاغتسال، والوضوء، ونحو ذلك، ولا تحتج في التخلف عن العبادة أو التأخر عن الغسل لكثرة طلب زوجها لها، صارادتها على نفسها؛ فإن في الدين سعة، ويمكنها في كل وقت أن تغتسل ولو بالماء المسخن، وعليه أن يبذل لها ثمن الماء، وما تسخنه به. وحكي عن الأصمعي قال: رأيت بالبادية امرأة عليها قميص أحمر، وهي مختضبة، وبيدها سبحة، فقلت: ما أبعد هذا من هذا! فقالت: [من الطويل] وَلِلَّهِ مِنَّيْ جانِبٌ لا أُضِيعُهُ ... وَلِلَّهْوِ مِنَّيْ وَالْبَطالَةِ جَانِبُ (¬3) ¬
- ومن صلاحيتها لدينها: تربية ولدها، وإرضاعه، وعدم تكليف أبيه أجرة المرضع بغير ضرورة. قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} الآية ... إلى قوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]. قال زيد بن أسلم: يقول: ليس لها أن تلقي ولدها عليه، ولا تجد من يرضعه، وليس له أن يضارها فينزع منها ولدها، وتحب أن ترضعه. رواه أبو داود في "ناسخ" (¬1). وروى الحاكم وصححه، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "انْطَلَقَ بِيْ؛ فَإِذا بِنِساءٍ تنْهَشْنَ ثُدِيَّهُنَّ الْحَيَّاتُ، فَقُلْتُ: ما بالُ هَؤُلاءِ؟ قالَ: هَؤُلاءِ اللَّواتِيْ يَمْنَعْنَ أَوْلادَهُنَّ" (¬2)؛ يعني: الرضاع. وروى الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها تسألني، فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فأخذتها، فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئاً، ثم قامت، فخرجت وابنتاها، فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحدثته حديثها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَناتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ ¬
إِلَيْهِنَّ، كُنَّ سِتْراً مِنَ النَّارِ" (¬1). وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ صالِحُ نِساءِ قُرَيْشٍ؛ أَحْناهُ عَلَىْ وَلَدٍ فِيْ صِغَرِهِ" (¬2). ولا يتم صلاح المرأة إلا بكف أذاها عن الزوج، وعن أهله، وعن سائر الناس نوبةً. روى الترمذي وحسنه، وابن ماجه عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُؤْذِيْ امْرَأةٌ زَوْجَها فِيْ الدُّنْيا إِلاَّ قالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُوْرِ الْعِيْنِ: لا تُؤْذِيْهِ قاتَلَكِ الله! إِنَّما هُوَ [دخيل] (¬3) عِنْدَكِ، يُوْشِكُ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا" (¬4). ولا ينبغي أن تصخب من ولدها، ولا تضجر، ولا تكثر الدعاء على الولد والخادم، ولا تكثر الشتم واللعن؛ فإن كل ذلك يناقض الفلاح. وروى الشيخان عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا مَعْشَرَ النّساءِ! تَصَدَّقْنَ؛ فَإِنِّيْ رَأَيْتُكُنَ أَكْثَرَ أَهْلِ النَارِ"، فقالت امرأة منهن: ¬
يا رسول الله! وما لنا أَكثر أهل النار؟ قال: "تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيْرَ" (¬1)؛ يعني: الزوج. ولا ينبغي لها أن تسيء الظن بزوجها ولا بإخوانه إذا كان ظاهره حسناً، ولا تكره له قريباً ولا صديقاً ولا ضيفاً ولا تطعن فيهم، ولا تبهَت ضرتها، ولا تؤذي أولاده من غيرها؛ فإن كل ذلك مناقض للصلاح المطلوب منها، المعدود من سعادة بعلها. وقد روى الدينوري في "المجالسة" عن سلم (¬2) بن قتيبة قال: قال بعض حكماء العرب: ما أعان على نظم مروءات الرجال كالنساء الصوالح (¬3). وروى ابن أبي شيبة، والبيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: النساء ثلاث: امرأة عفيفة مسلمة هينة لينة ودود ولود، تعين أهلها على الدهر، ولا تعين الدهر على أهلها، وقليلٌ ما تجدها. وامرأة: وعاء لم تزد أن تلد الولد. وثالثة: غُلٌّ قَمِلٌ يجعلها الله في عنق من يشاء، وإذا أراد الله أن ينزعه نزعه (¬4). ¬
وقوله: "غُلٌ قَمِلٌ" قال ابن الأنباري في كتاب "الزاهر": قال أبو العباس - يعني: المبرد -: أصله مثلٌ لكل ما ابتلي به الإنسان، ولقي منه شدة. قال: والأصل في هذا أنهم كانوا يَغُلُّوْن الأسير بالغُلِّ، فَيُقَمِّلُ عليه، فيلقى منه شدة، ثم أكثر ذلك، وجرى به المثل حتى نعتوا به كل مؤذٍ (¬1). * تنبِيْهٌ لَطِيْفٌ: روى الطبراني في "معجمه"الكبير" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ فِيْ النِّساءِ كَمَثَلِ الْغُرابِ الأَعْصَمِ"، قيل: يا رسول الله! وما الغراب الأعصم؟ قال: "الَّذِيْ إِحْدَىْ يَدَيْهِ بَيْضاءُ" (¬2). وفي رواية: "كَمَثَلِ الْغُرابِ الأَعْصَمِ بَيْنَ مِئَةِ غُرابٍ". قال في "الإحياء": الأعصم: الأبيض البطن (¬3). والمراد بذلك تقليل الصالحات منهن. وروى الإمام أحمد، والنسائي بسند صحيح، عن عمرو بن العاص ¬
رضي الله تعالى عنهما قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمَرِّ الظَّهران، فإذا بغربان كثيرة فيها غراب أعصم، أحمر المنقار، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مِثْلُ هَذا فِيْ هَذِهِ الْغِرْبانِ" (¬1). ولفظ أحمد قال: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شِعْبٍ، فقال: "انْظُرُوْا هَلْ تَرَوْنَ شَيْئاً؟ " فقلنا: "نرى غرباناً فيهم غراب أعصم، أحمر المنقار والرجلين"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ النّساءِ إِلاَّ مَنْ كانَ مِنْهُنَّ مِثْلُ هَذا الْغُرابِ فِيْ الْغِرْبانِ" (¬2). وروى الطَّبراني بسند جيد، عن عبادة بن الصَّامت رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثَلُ الْمَرْأَةِ الْمُؤْمِنَةِ كَمَثَلِ الْغُرابِ الأَبْلَقِ فِيْ غِرْبانٍ سُوْدٍ، لا ثانِيَةَ لَها، وَلا شَبِيْهَ لَها. وَمَثَلُ الْمَرْأَةُ السُّوْءِ كَمَثَلِ بَيْتٍ مُزَوَّقٍ، ظَهْرُهُ خَرِبٌ، جَوْفُهُ كَظُلْمَةٍ لا نُوْرَ لَها يَوْمَ الْقِيامَةِ. وَاللهِ إِنِّيْ لأَخْشَىْ أَنْ لا تَقُوْمَ امْرَأَةٌ عَنْ فِراشِ زَوْجِها مُجانِبَةٌ لَهُ، إِلاَّ هِيَ عاصِيَةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُوْلهِ" (¬3). وأراد بالمؤمنة: الكاملة الإيمان، وهي الصالحة. ¬
وقد أجاد البرهان القيراطي رحمه الله تعالى من قصيدة: [من الطويل] وَعَيْشُكَ لايُرْضِيْ النساءَ مَعِيْشُهُ ... وَلَوْ أَنَّها مِنْ جَنَّةِ الْخُلْدِ تُجْلَبُ وَما زِلْنَ يَكْفُرْنَ الْعَشِيْرَ سَجِيَّةً ... وُينْكِرْنَ خَيْراً فِيْهِ يَسْعَىْ وَيَدْأَبُ وَإِنْ أَحَسَنَ الدَّهْرَ امْرُؤٌ لِحَلِيْلَةٍ ... تَقُلْ لَمْ أُشاهِدْ مِنْكَ خَيْراً وَتَصْخَبُ وَإِنْ قِيْلَ مِنْهُنَّ التَّقِيَّاتُ فَاتَّئِدْ ... فَما كُل مَصْقُوْلِ الذَّوائِبِ زيْنَبُ وَقَبْلَكَ قَدْ جَرَّبْتُهُنَّ فَلَمْ أَجدْ ... وَحَقَكَ فِيْهِنَّ الَّذِيْ أتطَلَّبُ تُشاهِدُها فِيْ حالَةِ الْغَيْظِ مَهْلَكاً ... وَحالَ الرِّضَا لَمْ يَكْفِها مِنْكَ مَطْلَبُ وَإِنِّيْ امْرُؤٌ عَنْهُنَّ صَدَّتْ عَزائِمِيْ ... لإِفْراطِ خَوْفِيْ رَهْبَةً أترَهَّبُ وَما ذاكَ إِلاَّ أَنهنَّ فَوارِكٌ ... يُدِيْرُ هَواهُمْ عَنْ وِدادِكَ لَوْلَبُ
لَقَدْ عَزَفَتْ عَنْهُنَّ نَفْسِيْ مَلالَةً ... وَطابَ عَلَىْ كُرْهٍ لَدَيْها التَّعَزُّبُ فَيا لَيْتَ شِعْرِيْ هَلْ أُلاقِيْ حَلِيْلَةً ... فَلا أَشْتَكِيْ مِنْها وَلا أتعَتَّبُ عَلَىْ أَنَّ مِنْهُنَّ الْجَلِيْلاتِ رُتْبَةً ... وَمَنْ وَجْهُها فِيْ مَطْلَع الْحُسْنِ كَوْكَبُ وَمِنْهُنَّ ذاتُ الدِّيْنِ وَالْعِفَّةِ الَّتِيْ ... لَها شَرَفٌ فِيْ الْعالَمِيْنَ وَمَنْصِبُ وَلَكِنَّهُ يُرْوَىْ وَإِنَّكَ عالِمٌ ... حَدِيْثٌ لَهُ مَعْنًى يَرُوْقُ وَيَعْذُبُ إِذا مِئَتا عامٍ تَقَضَّتْ فَخَيْرُنا ... تَقِيٌّ خَفِيْفُ الْحاذِ فِيْ الدِّيْنِ يَرْغَبُ
فَصلٌ صلاح المرأة - وإن كان مطلوباً - فإنه لا يكاد أن تجتمع خصال الخير في امرأة لغلبة الهوى عليهن، والميل إلى الدنيا أكثر من الرجال، ولأن المرأة خلقت من ضلع - كما تقدم - فلا تكاد تستقيم، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَرْأةَ كَالضِّلَعِ إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمُها كَسَرْتَها، وَإِنْ تَرَكْتَها اسْتَمْتَعْتَ بِها وَفِيْها عِوَجٌ". رواه مسلم، وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). وفي رواية لمسلم، والترمذي: "إِنَ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، لَنْ تَسْتَقِيْمَ لَكَ عَلَىْ طَرِيْقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِها اسْتَمْتَعْتَ بِها وَبِها عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمُها كَسَرْتَها، وَكَسْرُها طَلاقُها" (¬2). وروى الإمام أحمد، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن سمرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، ¬
وَإِنَّكَ إِنْ تُرِدْ إِقامَةَ الضِّلَعِ تَكْسِرُها؛ فَدارِها تَعِشْ بِها" (¬1). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ" إشارة إلى خلق حواء من ضلع آدم حين نام، فانكسرت قصرى أضلاعه اليسرى، فخلق الله منها حواء، ولذلك سميت حواء لأنها خلقت من حي، فكان القصور فيها، وفي بناتها عن بلوغ رتبة الكمال في الصلاح، ألا ترى كيف كانت سبباً لأكل آدم وأكلها من الشجرة (¬2)؟ ومن ثَمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْلا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَىْ زَوْجَها الدَّهْرَ (¬3) ". رواه الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬4). وفي "كامل ابن عدي" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْلا النِّساءُ لَعُبِدَ اللهُ حَقَّاً حَقَّاً" (¬1). وقوله- صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَمْتَعْتَ بِها وَبها عِوَجٌ"؛ أي: استمعت بها في دار الدنيا، مأخوذ من قوله تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} الآية ... إلى قوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدَّنْيا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتاعِ الدُّنْيا [المرأة] الصَّالِحَةُ". رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (¬2). فإذا تيسر للمرء امرأة صالحة من جهات، ولها عوج من جهة، فليهب سيئاتها لحسناتها تخلقاً بأخلاق الله - عزوجل -؛ فإنه يذهب السيئات بالحسنات. وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَفْرَكْ (¬3) مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَة؛ إِنْ كَرِهَ مِنْها خُلُقاً رَضِيَ مِنْها آخَرَ", أو قال: "غَيْرَهُ" (¬4). ولا يتطلب منها الكمال من كل وجه، وقد قيل: أي الرجال ¬
المهذب؟ فما ظنك بالنساء وهن نواقصات عقل ودين، كما في الحديث؟ (¬1). وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَمُلَ مِنَ الرِّجالِ كَثِيْرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ آسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عائِشَةَ عَلَىْ النّساءِ كَفَضْلِ الثَّرِيْدِ عَلَىْ سائِرِ الطَّعامِ". رواه الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه (¬2). والمراد بالنساء نساء الأمم السابقين؛ لئلا يلزم فضل آسية ومريم على خديجة وفاطمة رضي الله عنهن؛ بدليل حديث الشيخين، والترمذي، والنسائي عن علي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خَيْرُ نِسائِها مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ، وَخَيْرُ نِسائِها خَدِيْجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ" (¬3). وحديث الإمام أحمد، والترمذي وصححه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله هو: ¬
"حَسْبُكَ مِنْ نِساءِ الْعالَمِيْنَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ، وَخَدِيْجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ" (¬1). وصحح الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ نِساءِ الْعالَمِيْنَ خَدِيْجَةُ، وَفاطِمَةُ، وَمَرْيَمُ، وَآسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ" (¬2). وأما ما رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِساءِ الْعالَمِينَ بَعْدَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرانَ، وَآسِيةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيْجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنهن" (¬3)؛ فالبعدية في الزمان لا في الرتبة والفضل. وفي "تاريخ ابن عساكر" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "أَرْبَعُ نِسْوَةِ سادَاتُ عَالَمِهنَ (¬4): مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزاحِمٍ، وَخَدِيْجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ، وَفاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدِ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَفْضَلُهُنَّ عَالَماً فاطِمَةُ" (¬5). وفيه نص على فضل فاطمة عليهن كلهن، وعائشة من عالم فاطمة ¬
رضي الله تعالى عنهما، ففاطمة أفضل منها (¬1) لكونها بضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما نص على ذلك الإمام مالك (¬2)، وغيره. وروى الشيخان عن عائشة، عن فاطمة رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا فاطِمَةُ أَلا تَرْضين (¬3) أَنْ تَكُوْييْ سَيِّدَةَ نِساءِ الْمُؤْمِنِيْنَ؟ " (¬4). ¬
وروى الحاكم في "المستدرك" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَيِّداتُ نِساءِ الْجَنَّةِ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ، وَفاطِمَةُ، وَخَدِيْجَةُ، وَآسِيَةُ" (¬1). واختلف في التفضيل بين عائشة، وخديجة رضي الله تعالى عنهما (¬2): الأكثرون على تفضيل عائشة. وذهبت طائفةٌ محققون إلى تفضيل خديجة، واختاره السبكي (¬3). ولو قيل بتساويهما لم يبعد؛ لأن الأدلة بتفضيل كل منهما قوية. ثم المراد بكمال هؤلاء الأربع أنهن بلغن الغاية في الكمال إلى مرتبة الصِّدِّيقيَّة، كما وصف الله تعالى بالصِّديقيَّة مريم بقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75]، ثم شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأفضلية لها، وللثلاث الأُخر، فالمراد بكمالهن كمال الصِّدِّيقيَّة، وإلا فقد كمل غيرهن كمالاً ما، فهن صالحات. ¬
وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ صالِحُ نِساءِ قُرَيْشٍ؛ أَحْناهُ عَلَىْ وَلَدٍ فِيْ صِغَرِه، وَأَرْعاهُ عَلَىْ زَوْجٍ فِيْ ذاتِ يَدهِ". رواه عبد الرزاق، والشيخان، وابن جرير (¬1). قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: ولم تركب مريم بنت عمران بعيراً قط (¬2). وأراد بذلك الجواب عما يفهمه ظاهر الحديث من تفضيل صالح نساء قريش على عموم النِّساء. وفي الحديث: "نِعْمَ النِّساءُ نِساءُ الأَنْصارِ؛ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَياءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِيْ الدِّيْنِ" (¬3). وناهيك بسائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - اللاتي خيرن بين الدنيا وبين الله ورسوله والدار الآخرة، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة. وكفى بالصَّالحات من نساء المهاجرين والأنصار، ومن بعدهن التابعات، وغيرهن كرابعة العدوية، ورابعة الشامية، وغيرهما مما اشتملت عليه كتب الحديث والتاريخ وفيهن كثرة. ولا يبعد أن يكون قوله -صلى الله عليه وسلم -: "كَمُلَ مِنَ الرِّجالِ كَثِيْر، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ ¬
النِّساءِ إِلاَّ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنُ" (¬1) محمولاً على رجال ونساء الأمم المتقدمة، أما هذه الأمة فقد كمل من نسائها كثير خصوصية للنبي -صلى الله عليه وسلم -، وإن كن لم يبلغن رتبة مريم وآسية وخديجة وفاطمة رضي الله تعالى عنهن. وفي "معجم الطبراني الكبير" عن سعد بن جنادة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللهَ زَوَّجَنِيْ فِيْ الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرانَ، وَامْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، وَأُخْتَ مُوْسَىْ" (¬2). روى أبو بكر بن السُّنِّي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللهَ زَوَّجَنِيْ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرانَ، وَآسِيَةَ بِنْتَ مُزَاحِمٍ فِيْ الْجَنَّةِ" (¬3). * * * ¬
فصل
فَصْلٌ وإذا كانت المرأة الصَّالحة يرغب فيها للرَّجل، فالرغبة بالرجل الصالح للمرأة أولى؛ لما ذكرنا من سريان طباع الخليط إلى الآخر، ولا شك أن المرأة أقرب انقياداً للرجل منه لها؛ لأن الرجل خلق قوَّاماً على المرأة، والياً عليها، وخلقت تحت ولايته، وسلطنته؛ لضعفها ولين جانبها. قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يعني: أمراء عليهن. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). فإذا كان الزوج صالحاً أمرها بطاعة الله تعالى، ونهاها عن معصيته، فأما لو كان غير صالح فربما حملها على المعصية، وأمرها بالمنكر، أو أقرها عليه؛ فصلاحيته ضرورية لها. قال الضحاك في الآية: الرجل قائم على المرأة يأمرها بطاعة الله، ¬
فإن أبت يضربها ضرباً غير مبرح، وله عليها الفضل بنفقته وسعيه (¬1). وقال السُّدِّي: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] يأخذون على أيهدين، ويؤدبوهن. رواهما ابن جرير (¬2). وقال مجاهد في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}: بالتأديب، والتعليم. رواه عبد بن حميد، وابن المنذر (¬3). وقال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]. ولا شك أن النساء لا يوفيهن حقوقهن بالمعروف من الأزواج إلا الصَّالحون، بل الصالح لا يتجاوز الحق، ولا يقصر عنه، فينجو هو، وينجو به أهله. وقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]؛ قال زيد بن أسلم: الإمارة. رواه ابن أبي حاتم، وغيره (¬4). فإذا كان الرجل يستولي على المرأة بالتزوج استيلاء الأمراء، فلأن يكون أميراً صالحاً أولى من أن يكون غير صالح. ¬
وقال الله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221]. وفي قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} إشارة إلى أنه لا عبرة بالبزة الظاهرة، ولا الثروة الوافرة، بل بالإيمان القلبي، ويخشى على من زوج بنته برجل لبزته، أو ثروته، أو جاهه أن تكون عاقبته إلى خلاف مراده، كما تقدم نظيره في اختيار المرأة لمالها، أو جمالها، أو حسبها، ومن ثَمَّ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِيْنَهُ، وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوْهُ؛ إِلاَّ تَفْعَلُوْا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِيْ الأَرْضِ، وَفَسادٌ عَرِيْضٌ". رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). وفي "صحيح البخاري" عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: مر رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فقال: "ما تَقُوْلُوْنَ فِيْ هَذَا؟ " قالوا: حَرِيٌّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: "ما تَقُوْلُوْنَ فِيْ هَذَا؟ " قالوا: حَرِيٌّ إن خطب لا ينكح، وإن شفع لا يشفع، وإن قال لا يسمع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "هَذا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلِ هَذَا" (¬2). أي: فهذا هو الذي ينبغي أن يرغب فيه، ويعتنى بشأنه، وكذلك أمثاله من المؤمنين وإن كانوا فقراء، بخلاف المترفين والفاسقين، وإن ¬
زينهم الله تعالى في الظاهر بزينة الغنى، والجاه والعشيرة. فتزويج المرأة من الفاسق وسيلة إلى التخلق بالفسق والجبروت؛ لأن المرأة على هوى بعلها وطريقته. وقد روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ النِّساءَ شَقائِقُ الرِّجالِ" (¬1). قال علماء الغريب: أي: نظائرهم وأمثالهم في الأخلاق والطباع كأنهن شققن منهم، ولأن حواء من آدم عليهما السَّلام (¬2). ومن أمثال العرب القديمة: المرأة من المرء، وكل أدماء من آدم. نقله الميداني في "أمثاله" (¬3)، وغيره. وفي معنى ذلك: ما أخرجه أبو نعيم عن الزُّبير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "يَعْمَدُ أَحَدُكُمْ إِلَىْ ابْنَتِهِ فَيُزَوجُهَا الشيخ الدمِيْمَ (¬4)! ! إِنَّهُنَّ يُرِدْنَ ما تُرِيْدُوْنَ" (¬5). وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- إرشاد إلى إعفاف النساء وتحصينهن، فلا ينبغي تزويج المرأة الشابة شيخاً ولا عِنَّيْناً؛ لعدم حصول الغرض من ¬
التحصين والإعفاف، ألا ترى أن الله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين المرأة لي؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. قال: وما أحب أن أستوفي جميع حقي عليها لأن الله تعالى يقول: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. رواه وكيع في "الغرر"، وسفيان بن عيينة في "مسنده"، وابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وفي اختيار العبد الصالح للمرأة تمام الإعفاف والتحصين لأنه يقتصر على الحلال، بخلاف الفاسق فقد يتجاوز إلى السفاح، بل كثير من الفساق يعرضون عن نسائهم، ويقبلون على الزنا واللواط، خصوصاً في هذه الأزمنة، وقد اكتفى كثير من الرجال بالرجال. وقد روى أبو نعيم عن الشعبي قال: من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها (¬2). ¬
وسمعت شيخنا -نفع الله به- يحكي عن والده الشيخ يونس العيثاوي، وكان من خيار العلماء رحمه الله تعالى: أنه كان يقول: من زوج موليته من شارب الخمر فقد عرَّضها للزنا. ومعناه: أنه إذا شرب الخمر فربما طلق في سكره، فيقع طلاقه ولا يدري، ثم يقع عليها. وفي "مسند الفردوس" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ، أَوْ واحِدَةً مِنْ أَهْلِهِ مِمَّنْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَكَأَنَّما قادَهَا إِلَىْ النَّارِ". ومن هنا منعت المرأة أن تزوج نفسَها إلا بولي عدل؛ لأن نظرها قاصر، والحاجة إلى الكفاءة، واختيار اللائق بها من الأزواج ضرورية. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "لا نِكاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ". أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه، وابن ماجه، والبيهقي عن عائشة، وعن ابن عباس -رضي الله عنهم- (¬1). زاد البيهقي في رواية في حديث عائشة: "وَشاهِدَيْ عَدْلٍ" (¬2). وقال في حديث ابن عباس في رواية: "لا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ، ¬
وَشاهِدَيْ عَدْلٍ" (¬1). وبهذا اللفظ أخرجه الشافعي رضي الله تعالى عنه (¬2). فتأمل في قوله -صلى الله عليه وسلم- "مرشد"! ليرشد موليته إلى أصلح الأزواج بها، وأتقاهم لله تعالى، وأكرمهم ديناً، وحسباً. وروى الإمام مالك، والبيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: لا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلاَّ بِإِذْنِ وَلِيِّها، أَوْ ذَوِيْ الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِها، أَوِ السُّلْطانِ (¬3). على أن الولي -وإن كان فاسقاً- قد تحمله الحَمِيَّةُ والأَنَفة من إنكاح موليته غير الكفء، وإن كان العدل مقدماً عليه، واشتراط الولي احتياطاً لها. وأيضاً يرغب في الرَّجل الصالح للمرأة لفائدة أخرى: وهي أن المرأة إذا كانت تحت رجل صالح حُشرت معه ما لم تتصل بعده بغيره. روى إبن سعد في "طبقاته" عن عكرمة: أن أسماء بنت أبي بكر الصِّديق -رضي الله تعالى عنهما- كانت تحت الزُّبير بن العوام -رضي الله عنه- وكان شديداً عليها، فأتت أباها، فشكت ذلك إليه، فقال: يا بنية! ¬
اصبري؛ فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح، ثم مات عنها، فلم تتزوج، جمع بينهما في الجنَّة (¬1). وروى ابن المنذر عن عروة بن رُويم اللخمي رحمه الله تعالى قال: قالت امرأة موسى لموسى عليه السلام: إني أَيِّمٌ منك منذ أربعين سنة، فأمتعني بنظرة، فرفع البرقع عن وجهه، فَغَشَّىْ وجهَه نورٌ التمع بصرها، فقالت: ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة، قال: على أن لا تتزوجي بعدي، وأن لا تأكلي إلا من عمل يدك، قال: فكانت تتبع الحصادين فإذا رأوا ذلك تخاطوا لها، فإذا أحست بذلك تجاوزته (¬2). ونظير ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة رضي الله تعالى عنها: "يَا عَائِشَةُ! إِنْ أَرَدْتِ اللُّحُوْقَ بِيْ فَلْيَكْفِكِ مِنَ الدُّنْيا كَزادِ الرَّاكِبِ، وَإِيَّاكِ وَمُجالَسَةَ الأَغْنِياءِ، وَلا تَسْتَخْلِفِيْ ثَوْبًا حَتَّىْ تَرْقَعِيْهِ". رواه الحاكم عنها (¬3). فالعبد الصالح ينفع أهله حتى بعد موته بما يبقيه فيهم من وصيته وآثاره. وفي "طبقات ابن سعد" عن عكرمة مرسلاً: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة ¬
رضي الله تعالى عنها: "يَا فَاطِمَةُ! أَمَا إِنَّيْ ما آلَيْتُ أَنْ أَنْكَحْتُكِ خَيْرَ أَهْلِيْ" (¬1). وقال الإمام الحافظ أبو عبد الله البخاري في "صحيحه": باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح (¬2). ثم روى عن ثابت البناني قال: كنت عند أنس رضي الله تعالى عنه وعنده ابنة له، فقال أنس: جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعرض عليه نفسها، قالت: يا رسول الله! ألك فيَّ حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقلَّ حياءَها، واسَوْأَتاهُ! فقال: هي خير منك؛ رغبت في النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعرضت عليه نفسها (¬3). ثم قال: باب عرض الإنسان ابنته (¬4)، أو أخته على أهل الخير (¬5). وروى فيه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- من خُنَيْسِ بن حُذافة السَّهْمِيِّ -وكان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتوفي بالمدينة- فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: ¬
فلقيت أبا بكر الصديق -رضي الله عنهما- فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر، فلم يرجع إليَّ شيئاً، وكنت أَوَجَد عليه مني على عثمان، فلبث ليالي، ثم خطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنكحتها إياه، فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة، فلم أرجع إليك شيئاً؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع عليك فيما عرضت عليَّ إلا أني كنت قد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو تركها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقبلتها (¬1). وروى الحاكم، والبيهقي عن عثمان، وابن عساكر عنه، وعن عليٍّ رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر حين عرض حفصة على عثمان: "أَلا أَدُلُّكَ عَلْى خَتْنٍ خَيْرٍ لَكَ مِنْ عُثْمانَ، وَأَدُلُّ عُثْمانَ عَلَىْ خَتْنٍ خَيْرٍ لَهُ مِنْكَ؟ " قال: بلى، قال: "زَوِّجْنِيْ ابْنَتَكَ، وَأُزَوِّجُ عُثْمَانَ ابْنَتِيْ" (¬2). وروى أبو نعيم عن عبد الرحمن بن حرملة، [عن ابن أبي وداعة] (¬3) رحمه الله تعالى قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب، ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: تُوُفِّيَتْ أهلي، فاشتغلت بها، فقال: ألا ¬
أخبرتنا فشهدناها؟ قال: ثم أردت أن أقوم، فقال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله! ومن يزوجني وأملك درهمين، أو ثلاثة؟ فقال: أنا، فقلت: وتفعل؟ قال: نعم. ثم تَحَمَّد، وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وزوجني على درهمين، أو قال: ثلاثة. قال: فقمت، وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر ممن آخذ، وممن أستدين، فصليت المغرب، وانصرفت إلى منزلي، واسترحت، وكنت وحدي صائماً، فقدمت عشائي أفطر -وكان خبزاً وزيتاً- فإذا بآت يقرع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، قال: فأفكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب؛ فإنه لم يُرَ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فقمت، فخرجت، فإذا سعيد بن المسيب، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد! ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فقال: لا، أنت أحق أن تؤتى، قلت: فما تأمر؟ قال: إنك كنت رجلاً عزباً، فتزوجت، فكرهت أن أبيتك الليلة وحدك، فهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها، فدفعها في الباب، وردَّ الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم تقدمتها إلى القصعة التي فيها الزيت والخبز، فوضعتها في ظل السراج لكي لا تراه، ثم صعدت إلى السطح، فرميت الجيران، فجاؤوني، فقالوا: ما شأنك؟ قلت: وَيْحَكُمْ! زَوَّجَني سعيد بن المسيب ابنته اليوم، وقد جاءني بها على غفلة، قالوا: سعيد بن المسيب زَوَّجَك؟ قلت: وهي ذا هي في
الدار، قال: ونزلوا هم إليها، وبَلَغَ أمي، فجاءت، وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام. قال: فأقمت ثلاثاً، ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وإذا هي أحفظ الناس لكتاب الله عز وجل، وأعلمهم بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعرفهم بحق زوج. قال: فمكثت شهراً لا يأتيني سعيد، ولا آتيه، فلما كان قرب الشهر أتيت سعيداً وهو في حلقته، فسلمت عليه، فردَّ عليَّ السلام، ولم يكلمني حتى تقوض أهل المجلس -أي: تفرقوا- فلمَّا لم يبق غيره قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خير يا أبا محمد! على ما يحب الصديق، ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي، فوجه إلي بعشرين ألف درهم. قال أبو نعيم: قال عبد الله بن سليمان - يعني: الأشعث أحد رواته -: وكانت بنت سعيد بن المسيب خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد بن عبد الملك حين ولاه العهد، فأبى سعيد أن يزوجه، فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مئة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء، وألبسه جبة صوف (¬1). انتهى. ¬
تتمة
ونظير قصة سعيد بن المسيب في رد الخليفة وقد خطب إليه ابنته، وإيثار عبد الرحمن بن حرملة (¬1) بها لدينه وعلمه: ما رواه الإمام أحمد في "الزهد"، ومن طريقه أبو نعيم، وغيرهما عن ثابت البناني قال: خطب يزيد بن معاوية إلى أبي الدرداء ابنته الدرداء، فرده، فقال رجل من جلساء يزيد: أصلحك الله! تأذن لي أن أتزوجها؟ قال: اعْزُبْ ويلك! قال: فائذن لي أصلحك الله! قال: نعم، قال: فخطبها، فأنكحها أبو الدرداء الرجل، فسار ذلك في الناس أن يزيد خطب إلى أبي الدرداء فرده، وخطب إليه رجل من ضعفاء المسلمين فأنكحه، قال: فقال أبو الدرداء: إني نظرت للدرداء ما ظنكم بالدرداء؛ إذا قامت على رأسها الخصيان، ونظرت في بيوت يلتمع فيها بصرها، أين دينها منها حينئذ؟ (¬2). هكذا كان نظرهم لبناتهم ومولياتهم في اختيار الأكفاء، واعتبار الكفاءة في الدين بخلاف أهل زماننا. وقد رغب علماؤهم إلا من شذ في مصاهرة أرباب الدولة أو التجار على ما هم عليه من الغرور، فكيف بغير العلماء؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون! * تَتِمَّةٌ: قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ¬
{إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]؛ الخطاب في الآية للأولياء والسادة. قال صاحب "الكشاف": فإن قلت: لم خص الصالحين؟ قلت: ليحصن دينهم، ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأن الصالحين من الأرقاء هم الذين مواليهم يشفقون عليهم، وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة، والمودة، فكانوا مظنة التوصية بشأنهم، والاهتمام بهم، وتقبل الوصية فيهم، وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك. قال: أو أريد بالصَّلاح القيام بحقوق النكاح (¬1). انتهى. قلتُ: وعلى هذا الوجه فالصلاح في الآية عام؛ يعني: إرادة النكاح للتحصن، وإقامة الحقوق، أما من يدعى إلى التزوج وهو يرغب عنه لما شربه قلبه من محبة السفاح، والميل إليه، والنكاح في الغالب لا يعفه، وهو حال أكثر الناس في هذا الزمان، فكم من إنسان زوج ابنه، أو غلامه ليعف، فلم يعف! فإن قلتَ: لم خص الصالحين من الأرقاء، وعمم في أيامى الأحرار -جمع أيِّم؛ وهو من لا زوج له من ذكر أو أنثى-؟ قلتُ: لأن التحصين في حق المولى الحر ضروري أضر منه في حق المولى العبد، وصلاح الحر يعينه عليه النكاح، فقد يتزوج الفاسق فيعف، والحر يرجع إلى صيانة نسبه، وحفظ حسبه، والحياء من عشيرته، ¬
وأهل بلده، وأهل محلته ما لا يرجع إليه العبد. ولقد قيل: [من مجزوء الكامل المرفل] الْعَبْدُ يُردع بِالْعَصَا. . . وَالْحُرُّ تَكْفِيْهِ الْمَلامَةْ (¬1) واعلم أن ما سبق من باب إرشاد الراغب من رجل أو امرأة في -تزوج الآخر إلى صلاح مطلوبه، وهذا إرشاد للأولياء إلى تزويج من في ولا يتهم إعفافاً لهم، وتحصيناً، وتحصيلاً للصَّلاح، وإن كان المزوج منحرفاً عنه. وروى الطبراني في "معجمه الكبير" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَجَّ (¬2) شَيْطانُهُ يَقُوْلُ: يا وَيْلَهُ! عَصَمَ ابْنُ آدَمَ مِنِّيْ ثُلَثَيْ دِيْنِهِ" (¬3). وفي "الأوسط" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدِ اسْتكمَلَ نِصْفَ الإيْمانِ، فَلْيَتَّقِ اللهَ فِيْ النِّصْفِ الثَّانِيْ" (¬4). ¬
وروى الأئمة الستة عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا مَعْشَرَ الشَّبابِ! مَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمُ الْباءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجاءٌ" (¬2). * * * ¬
فصل
فَصْلٌ وينبغي للعبد أن يكثر من ذكر الصالحين؛ لما رواه الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في مقدمة كتابه "صفه الصفوة" عن سفيان بن عيينة أنه قال: عند ذكر الصَّالحين تنزل الرحمة (¬1). وقال عبد الله بن خبيق -وهو أحد رجال "الرسالة القشيرية"-: سمعت محمد بن يونس يقول: ما رأيت للقلب أنفع من ذكر الصالحين (¬2). بل روى الديلمي في "مسند الفردوس"عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ذِكْرُ الأَنْبِياءِ مِنَ الْعِبادَةِ، وَذِكْرُ الصَّالِحِيْنَ كَفَّارَةٌ، وَذِكْرُ الْمَوْتِ صَدَقَة، وَذِكْرُ الْقَبْرِ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ". وإنما كان ذكر الأنبياء من العبادة؛ لأن المراد ذكرهم على وجه التعظيم، وهو يستدعي الإقرار بنبوتهم، والإيمان بها، وذلك من أشرف العبادات. ¬
وإنما كان ذكر الصَّالحين كفارة؛ لأن الذنب جفاء، وذكر الصالحين صفاء، والصفاء يكفر الجفاء. وأيضاً فإن العبد إذا ذكر الصالحين يذكرهم بأوصافهم الجميلة، وأحوالهم الشريفة، فيستصغر نفسه، ويحتقر عمله عندهم، وذلك من جملة المكفرات لذنوب النفس، ورؤية الأعمال. وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" عن بشر بن الحارث الحافي رحمه الله تعالى قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقال: يا بِشْرُ! تَدْرِيْ لِمَ رَفَعَكَ اللهُ مِنْ بَيْنِ أَقْرانِكَ؟ قلت: لا يا رسول الله، قال: بِاتِّباعِكَ لِسُنَّتِيْ، وَخدمتك (¬1) لِلصَّالِحِيْنَ، وَنَصِيْحَتِكَ لإِخْوانِكَ، وَمَحَبَّتِكَ لأَصْحابِي، وَأَهْلِ بَيْتِي؛ هُوَ الَّذِيْ بَلَّغَكَ مَنازِلَ الأَبْرارِ (¬2). وروى أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن أبي بكر الدَّقاق رحمه الله تعالى قال: أهل الحقائق والصالحون والكبار أدنى أحوالهم إذا ذكرت يزداد الإنسان معرفة بتقصير نفسه. وعن إبراهيم الحربي قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: بحسبك أن أقواماً موتى يحيا القلب بذكرهم -يعني: الصالحين-، وأن أقواماً أحياء تعمى الأبصار بالنظر إليهم؛ يعني: الكفار والظلمة والفسقة (¬3). ¬
ومن فوائد ذكر الصالحين
والمراد بعمى الأبصار ما يقع لذويها من سخنة العين برؤيتهم، كما قال ابن الفارض رحمه الله تعالى: [من الطويل] وَقَدْ صَدِئَتْ عَيْنِيْ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهَا * ومن لطائف الأدب مع الصالحين: ما ذكره ابن عقيل في "الفنون"، ونقله ابن مفلح عنه في "الآداب": أن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى كان مستنداً، وذكر عنده ابن طهمان، فأزال ظهره عن الاستناد، وقال: لا ينبغي أن يجري ذكر الصالحين ونحن مستندون. قال ابن مفلح: وقد ذكر هذا الحافظ ابن الأخضر فيمن روى عن أحمد في ترجمة أبي زرعة الرازي، قال: سمعت أحمد بن حنبل ذكر عنده إبراهيم بن طهمان وكان متكئاً من علة، فاستوى جالساً، وقال: لا ينبغي أن يذكر الصَّالحون فنتكئ (¬1). انتهى. * ومن فوائد ذكر الصَّالحين: أن العبد إذا ذكرهم رقَّ قلبه عند ذكرهم، وأحبهم، وودَّ أن يتأسى بهم، ونشط في العبادة والطاعة، ورغب في اللحاق بهم، وترحم عليهم، ودعا لهم، ودعاء العبد لأخيه في ظهر الغيب يستدعي دعاء الملائكة لهم كذلك، ودعاء الملائكة عليهم السَّلام أقرب إلى الإجابة والقبول. روى مسلم عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "ما مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُوْ لأَخِيْهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلاَّ قالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ" (¬1). واشتهر عن الإمام أحمد أنه قال: ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي (¬2). وقال له ابنه: أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء؟ وقال أحمد: يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف! (¬3). وذكر ابن السبكي في "طبقاته" في ترجمة الحارث بن سريج قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: أنا أدعو الله للشافعي، قال: وكذلك ذكر يحيى بن معين أنه سمع يحيى بن سعيد يقول: أنا أدعو للشافعي في صلاتي منذ أربعين سنة (¬4). وكان يحيى بن سعيد من أقران شيوخ الشافعي، والإمام أحمد من أصحابه، فدعاء يحيى له من باب دعاء الكبير للناشىئ الصالح، ودعاء أحمد له من دعاء الصاحب لصاحبه الصالح، أو التلميذ لشيخه الصَّالح. وقد أشار في جوابه لابنه حين سأله عن سبب كثرة دعائه للشافعي ¬
إلى أن دعاءه له من باب تأدية الحق، ومكافأته للشافعي عن أهل عصره بما نفعهم به من العلم، وفيه إشارة إلى أن الدعاء للصالحين، والعلماء العاملين فيه أداء لحقوقهم مهما كان لهم نفع في عباد الله تعالى، بل كل مسلم يطلب منه الدعاء للمسلمين طلباً لصلاحهم، وكمالهم، وإذا دعا لهم كان له مثل ما يدعو به لهم؛ لحديث أبي الدرداء المتقدم. وفي "معجم الطبراني الكبير" عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِناتِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعاً وَعِشْرِيْنَ مَرَّةً، أَوْ خَمْساً وَعِشْرِيْنَ مَرَّةً كانَ مِنَ الَّذِيْ يُسْتَجابُ لَهُمْ، وُيرْزَقُ بِهِ أَهْلُ الأَرْضِ" (¬1). وعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِناتِ كتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ حَسَنَةً" (¬2). فدعاء المسلم للمؤمنين من تمام صلاحه، ومن أنفع أسباب فلاحه، فكيف بالصالحين! وقد أوجب الله تعالى ذكر الصالحين على كل مسلم مصلٍّ مقروناً بالسلام عليهم، المتضمن للدُّعاء لهم بالسلامة بحيث إن صلاته لا تصح بدون ذلك، كما هو مذهب أكثر أهل العلم. ¬
ومن لطائف الآثار
وروى الشيخان، وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِيْ الصَلاةِ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّباتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنا وَعَلَىْ عِبادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ؛ فَإِنَّهُ إِذا قالَ ذَلِكَ أَصابَ كُلَّ عَبْدٍ صالِحٍ فِيْ السَّماءِ وَالأَرْضِ"، الحديث (¬1). قال بعض العلماء: تارك الصلاة ظالم لكل صالح في السموات والأرض حقاً فرضه الله له عليه، وحقوق العباد محل الْمُشَاحَّةِ والْمُحَاقَّةِ، فلأجل ذلك كان ذنبه عظيماً، ولا يقبل منه إلا أن يأتي بها، وإلا قتل بترك صلاة واحدة. * ومن لطائف الآثار: ما رواه أبو نعيم في "الحلية" في ترجمة عروة ابن رويم عنه، عن خالد بن يزيد القرشي قال: كانت لي حاجة بالجزيرة، فاتخذتها طريقا مستخفياً، قال: فبينما أنا أسير بين أظهرهم إذا أنا بشمامسة ورهبان، وكان رجلاً كيساً ذا رأي، قال: فقلت لهم: ما جمعكم هاهنا؟ قالوا: إن لنا شيخاً سياحاً نلقاه في كل عام في مكاننا هذا مرة، فنعرض عليه ديننا، وننتهي فيه إلى رأيه، قال: وكنت رجلاً معنياً بالحديث، فقلت: لو دنوت من هذا فلعلي أسمع منه شيئاً أنتفع به، قال: فدنوت منه، فلما نظر إلي قال: ما أنت؟ مِنْ هؤلاء؟ قلت: أجل، قال: من أمة أحمد -صلى الله عليه وسلم-؟ قلت: ¬
نعم، قال: من علمائهم أنت، أو من جهالهم؟ قلت: لست من علمائهم، ولا جهالهم. قال: ألستم تزعمون في كتابكم أن أهل الجنة يأكلون، ويشربون، ولا يبولون، ولا يتغوطون؟ قال: قلت: نعم، قال: نقول ذلك، وهو كذلك، قال: فإن لهذا مثلاً في الدنيا؛ فما هو؟ قلت: مثل الصبي في بطن أمه؛ يأتيه رزق الرحمن بكرة وعشياً، ولا يبول، ولا يتغوط، قال: فتَرَبَّدَ وجهه، وقال لي: ألست تزعم أنك لست من علمائهم؟ قلت: بلى، ما أنا من علمائهم، قال: ولا من جهالهم. ثم قال لي: ألستم تزعمون أنكم تأكلون، وتشربون، ولا ينتقص مما في الجنة شيء؟ قلت: نعم، قال: نقول ذلك، وهو كذلك، قال: فإن لهذا مثلاً في الدنيا، فما هو؟ قلت: مثل هذا رجل أعطاه الله تعالى علماً وحكمة، وعلمه كتابه، فلو اجتمع جميع من خلقه الله فتعلموا منه، ما نقص من علمه شيئاً، قال: فتَرَبَّدَ وجهه، وقال: ألم تزعم أنك لست من علمائهم؟ قلت: أجل، ما أنا من علمائهم، ولا من جهالهم. فقال لي: ألستم تقولون في صلاتكم: السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين؟ قال: قلت: بلى، قال: فلها عني، ثم أقبل على أصحابه، فقال: ما بسط لأحد من الأمم ما بسط لهؤلاء من الخير؛ إن أحد هؤلاء إذا قال في صلاته: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لم يبق عبد صالح في السَّموات والأرض إلا كتب الله له به عشر حسنات.
ثم قال: ألستم تستغفرون للمؤمنين والمؤمنات؟ قال: قلت: بلى، فقال لأصحابه: إن أحد هؤلاء إذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات لم يبق عبد مؤمن في السَّموات من الملائكة، ولا في الأرض من المؤمنين، ولا من كان على عهد آدم عليه السَّلام، أو من هو كائن إلى يوم القيامة إلا كتب له به عشر حسنات. قال: ثم أقبل عليَّ، فقال: إن لهذا مثلاً في الدنيا، فما هو؟ قلت: كمثل رجل مر بملأ، كثيراً كانوا، أو قليلاً، فسلم عليهم، فردوا عليه، أو دعا لهم، فدعوا له، قال: فتَرَبَّدَ وجهه، فقال: ألست تزعم أنك لست من علمائهم؟ قلت: أجل، ما أنا من علمائهم، ولا من جهالهم. فقال: ما رأيت من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من هو أعلم منك، سلني عما بدا لك. قال: قلت: كيف أسأل من يزعم أن لله ولداً؟ قال: فشق عن مدرعته حتى بدا بطنه، ثم رفع يديه فقال: لا غفر الله لمن قالها، منها فررنا، واتخذنا الصوامع. قال: إني أسألك عن شيء فهل أنت مخبري؟ قال: قلت: نعم، قال لي: أخبرني هل بلغ ابن القرن فيكم أن يقوم إليه الناشئ، أو الطفل فيشتمه، ويتعرض لضربه، ولا يغير ذلك عليه؟ قال: قلت: نعم، قال: ذلك حين رق دينكم، واستحببتم دنياكم، وآثرها من آثرها منكم، فقال
رجل من القوم: ابن كم القرن؟ قال: أما أنا قلت: ابن ستين، وأما هو فقال: ابن سبعين، فقال رجل من جلسائه: يا أبا هاشم! ما كان يسرنا أن يكون أحد من هذه الأمة لقيه غيرك (¬1). وروى البيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ}: [النور: 61]؛ قال: هو المسجد؛ إذا دخلته فقل: السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين (¬2). وعن مجاهد قال: إذا دخلت بيتاً فقل: بسم الله، والحمد لله، والسلام علينا من ربنا، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين (¬3). وعنه، وعن قتادة رحمهما الله تعالى أنهما قالا: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين؛ فإن الملائكة عليهم السلام ترد. وقد سبق عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما نحوه (¬4). ¬
تنبيه
* تَنْبِيْهٌ: إذا ذكر المرء الصالحين وجب عليه ألا يذكرهم إلا بخير، وليحذر مِنْ ذِكْرِهِمْ بما يُكره؛ فإن غيبتهم أشد حرمة من غيبة من سواهم. وفي "رسالة القشيري" رحمه الله تعالى: وقيل: أوحى الله إلى سليمان بن داود عليهما السلام: أوصيك بتسعة أشياء: لا تغتابنَّ صالح عبادي، ولا تحسدنَّ أحداً من عبادي، فقال سليمان: يا رب! حسبي (¬1). * * * ¬
فصل
فَصْلٌ ويستحب طلب الدعاء من الصالحين لنفسه، ولولده، وأهله. روى الإمام أحمد، وابن ماجه عن ابن عمر، عن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له لما استأذنه في العمرة، فأذن له: "يَا أُخَيَّ أَشْرِكْنا فِيْ صالِحِ دُعائِكَ وَلا تَنْسَنا" (¬1). وأخرجه أبو داود [والترمذي] (¬2) وصححه، ولفظه: قال: استأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العمرة، فأذن، وقال: "لا تَنْسانا يَا أُخَيَّ مِنْ دُعائِكَ"، فقال عمر -رضي الله عنه-: كلمة ما يسرني أنَّ لي بها الدُّنيا (¬3). وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قالت أمي: يا رسول الله! خادمك أنس؛ ادع الله له، فقال: "اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مالَهُ وَوَلَدَهُ وَبارِكْ لَهُ فِيْما أَعْطَيْتَهُ" (¬4). ¬
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤتى بالصِّبيان فيدعو لهم (¬1). وقال النووي في "أذكار الاستسقاء": ويستحب إذا كان فيهم - يعني: المحتاجين إلى السقيا - رجل مشهور بالصلاح أن يستسقوا به، فيقولوا: اللهم إنا نستسقي، ونتشفع إليك بعبدك فلان. روينا في "صحيح البخاري": أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه فقال: اللَّهم إنا كنا نستسقيك بنبيك -صلى الله عليه وسلم- فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فاسقنا، فيسقون (¬2). قال: وجاء الاستسقاء بأهل الصَّلاح عن معاوية رضي الله تعالى عنه، وغيره (¬3). انتهى. وكذلك ينبغي استيصاء الصَّالحين وأهل العلم منهم أخص بذلك، وطلب نصيحتهم، والموعظة منهم، وطلب التعليم منهم. روى البخاري، وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ رجلاً قال للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أوصني، قال: "لا تَغْضَبْ، لا تَغْضَبْ" (¬4). ¬
ومن لطائفها
وروى الشيخان عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: علمني دعاء أدعو به في صلاتي - وفي رواية لمسلم: وفي بيتي - قال: "قل: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِيَ ظُلْماً كَبِيْراً - وفي رواية: كَثِيْراً -بالمثلثة- وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوْبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِيْ مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِيْ؛ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ" (¬1). والأخبار في طلب الوصية والتعليم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرة، وكذلك الاستيصاء من الصَّحابة والتابعين والحكماء والصَّالحين كثيرة في الآثار. * ومن لطائفها: ما أخرجه أبو عبد الرُّحمن السُّلمي، وغيره عن أحمد ابن عاصم رحمه الله تعالى قال: قال هَرِم بن حيان لأويس القرني -رضي الله عنهما-: أوصني، فقال: توسَّدِ الموت إذا نمت، واجعله نصب عينك إذا قمت، وادع الله أن يصلح لك قلبك ونيتك، فلن تعالج شيئاً أشد عليك منهما؛ بينا قلبك مقبل إذا هو مدبر، ولا تنظر في صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، وحسبك قصة موسى عليه السلام في طلب الخضر عليه السلام لأجل طلب العلم والفائدة، وقد كان ذلك بأمر من الله تعالى لموسى حتى لقيه بمجمع البحرين، فقال له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] (¬2) ¬
وروى ابن أبي الدُّنيا، والبيهقي، وابن عساكر عن أبي عبد الله - أظنه الملطي - قال: أراد موسى أن يفارق الخضر عليهما السلام قال له موسى: أوصني، قال: كن نَفَّاعاً، ولا تكن ضَرَّراً، كن بَشَّاشاً ولا تكن غَضْبانًا، ارجع عن اللجاجة، ولا تمشِ من غير حاجة، ولا تعير امرأ بخطيئته، وابك على خطيئتك يا ابن عمران (¬1). وروى ابن أبي حاتم، وابن عساكر عن يوسف بن أسباط قال: بلغني أن الخضر قال لموسى عليهما السَّلام لما أراد أن يفارقه: يا موسى! تعلم العلم لتعمل به، ولا تعلمه لتحدث به. قال: وبلغني أن موسى قال للخضر: ادع لي، فقال الخضر: يسر الله عليك طاعته (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن بقية قال: حدَّثني أبو سعيد قال: سمعت أن آخر حكمة أوصى بها الخضر موسى عليهما السلام حين فارقه: إياك أن تُعَيِّرَ إنساناً بإساءته فتبتلى. * * * ¬
فصل
فَصْلٌ ويستحب حمل المولود عند ولادته إلى واحد من أهل الصَّلاح يحنكه بتمرة ليكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين، فيتبرك به. كما ذكره النووي (¬1) رحمه الله تعالى في "شرح مسلم" في حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: لما ولدت أم سليم رضي الله تعالى عنها قالت لي: يا أنس! انظر هذا الغلام فلا تصيبن شيئاً حتى تغدو به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - يحنكه، قال: فغدوت فإذا هو في الحائط ... الحديث (¬2). وروى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: حملت بعبد الله بن الزُّبير رضي الله تعالى عنهما بمكة، فأتيت المدينة، فنزلت قباء، فولدت بقباء، ثم أتيت به النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة، فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم حنكه بالتمر، وبارك عليه (¬3). ¬
قال النووي في "شرح المهذب": ويستحب أن يكون المحنك من أهل الخير، فإذا لم يكن رجلاً فامرأة صالحة (¬1). وكذلك ينبغي للعبد أن يحمل أولاده، أو يصحبهم إلى الصالحين، ويزورهم بهم، فعساهم إن لم يحصل لهم تحنيك الصالحين في البداية أن يحصل عليهم نظر الصالحين، وخصوصا إذا كانوا شيوخاً طالت أعمارهم، وحسنت أعمالهم، ولم تزل العلماء، والأكابر يحملون أولادهم إلى العلماء، والصالحين، ويستجيزونهم. وقد حمل جدي والدي رضي الله تعالى عنهما وهو دون السنتين إلى الشيخ الصالح، العالم، العارف بالله تعالى سيدي الشيخ أبي الفتح الإسكندري البزي، واستجازه له، فأجازه، وألبسه الخرقة، ولقَّنه الذكر، وظفر بصحبته، ونال من بركته، وكان يأمر الوالد وهما بمصر أيام الطلب أن يذهب إلى القطب الكبير سيدي عبد القادر الدشطوطي، وإلى الشيخ العارف بالله تعالى سيدي إسماعيل الزائر، وغيرهما من الأولياء للزيارة، والتماس البركة، وليحل عليه نظر هؤلاء المفلحين. وقد قال سيدي الشيخ العارف بالله تعالى أحمد بن الرفاعي، وغيره رحمهم الله تعالى: عجبت لمن يحل عليه نظر المفلح، ولا يفلح (¬2). ¬
ومنذ كنت طفلاً ما حلا لي إلا صحبة الصالحين، ولا طمحت نفسي إلا إلى اللحاق بالعلماء العاملين، وكان ذلك بدعوة من والدي شيخ الإسلام؛ دعا لي بها عند ما بشر بولادتي، ودعا لي بمثلها قبل وفاته بنحو يوم، فأسأل الله تعالى أن يديم هذه النعمة، ويزيدني صحبة للصالحين حتى أكون معهم في حزب المتقين، وأن يفعل ذلك بأحبائي، وسائر المسلمين. * * *
فصل
فَصْلٌ وكذلك ينبغي التبرك بآثار الصالحين، والحرص على ما عسى أن يحصل منهم من كسوة، أو طعام، أو دراهم، أو غيرها تبركا بآثارهم. روى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل (¬1). وعنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها، فربما جاؤوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها (¬2). وعن أفلح مولى أبي أيوب: أن أبا أيوب -رضي الله عنه- كان يصنع للنبي -صلى الله عليه وسلم - طعاماً وهو نازل عنده، فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه - أي: أصابع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيتتبع موضع أصابعه (¬3). ¬
وروى هو، والبخاري عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وهو جالس وأصحابه في سقيفة بني ساعدة: "اسْقِنِيْ يا سَهْلُ! " قال: فخرجت إليهم بهذا القدح، فسقيتهم فيه. قال أبو حازم: فأخرج لنا سهل ذلك القدح، فشربنا منه. قال: ثم استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك، فوهبه له (¬1) (¬2). و(¬3) قال البخاري: قال أبو بردة: قال لي عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه: ألا أسقيك في قدح شرب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه؟ (¬4). وأخرج عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي -صلى الله عليه وسلم- عند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه وكان قد انصدع، فسلسله بفضة (¬5). وروى البيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن سائلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم -، فأعطاه تمرة، فقال الرجل: سبحان الله! نبي من الأنبياء يتصدق بتمرة؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَما عَلِمْتَ أَنَّ فِيْها مَثاقِيْلَ ذَرٍّ كَثِيْرٍ؟ "فأتاه آخر، فسأله، فأعطاه تمرة، فقال: تمرة من نبي؟ لا تفارقني هذه التمرة ما بقيت، ¬
ولا أزال أرجو بركتها أبداً، فأمر له النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعروف، وما لبث الرجل أن استغنى (¬1). وروي أن معاوية -رضي الله عنه- قال في وصيته لابنه يزيد: إذا وفى أجلي فَوَلِّ غسلي رجلاً لبيباً؛ فإن اللبيب من الله بمكان، فلينعم الغسل، وليجهر بالتكبير، ثم اعمد إلى منديل [في الخزانة] (¬2) فيه ثوب من أثواب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقراضة من شعره، وأظفاره، فاستودع القراضة أنفي وفمي وأذني وعيني، واجعل الثوب على جلدي دون أكفاني (¬3). وروى أبو نعيم عن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهاجرة، فأتي بماء، فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه، فيتمسحون به، الحديث (¬4). ولم يزل العلماء، والأخيار يتبركون بآثار الصالحين. وأخبرني غير واحد أن الشيخ الوالد رضي الله تعالى عنه وهبه شيئاً من النقد، فحرص عليه، وحفظه في كيسه -أو خزانته- فكان سبباً لنمو ماله، وحلول البركة فيه. ¬
وحكى بعض أهلنا أن خالة لي مرضت، وطال مرضها، وأعيا الأطباء أمرها، فقيل لها في المنام: أين أنت عن ماء وضوء صهرك الشيخ بدر الدين؟ فاغسلي به وجهك، ويديك، ففعلت، فبرأت بإذن الله تعالى. وأخبرنا أبي رحمه الله تعالى عن القاضي زكريا الأنصاري، عن العز عبد الرحيم بن الفرات الحنفي، عن قاضي القضاة التاج ابن السبكي، عن أبيه شيخ الإسلام تقي الدين السبكي أنه لما ولي تدريس دار الحديث الأشرفية بدمشق، وكان وليها سابقاً الشيخ محي الدين النووي رضي الله تعالى عنه كان إذا دخل دار الحديث المذكورة يصلي ركعتين على البساط الذي كان يجلس عليه النووي، وينشد: [من الوافر] وَفِيْ دارِ الْحَدِيْثِ لَطِيْفُ مَعْنًى. . . عَلَىْ بُسْطٍ لَهَا أَصْبُوْ وَآوِيْ لَعَلِّيْ أَنْ أَنالَ بِحُرِّ وَجْهِي. . . مَكاناً مَسَّهُ قَدَمُ النَّواوِيْ (¬1) * * * ¬
فصل
فَصْلٌ وليحذر كل الحذر من بغض أحد من الصالحين، وإيذاء أحد منهم -ولو بأقل شيء- فقد علمت أن الصالحين إنما أصلحهم الله تعالى، فقصد واحد منهم بالأذى مناقضة لما فعله الله تعالى بهم؛ فإنه أصلح بالهم، وأنت تريد أن تفسد بالأذى بالهم. ويخشى من إيذاء الصالحين، والتعرض لأذاهم أن يغضب الله لهم، فيهلك المؤذي، أو يبلغهم أذاه فتبدر منهم دعوة تنفذ فيه، كما في "الصحيح": أن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وكان دعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن تستجاب دعوته، لما شكاه أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فبعث عمر رجالاً يسألون عنه في مساجد الكوفة، فكانوا لا يأتون مسجداً من مساجد الكوفة إلا أثنوا عليه خيراً، وقالوا معروفاً، حتى أتوا مسجداً من مساجد بني عبس، فقال رجل -يقال له أبو مسعدة-: اللهم إنه كان لا يسير بالسرية، ولا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، فقال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان كاذباً فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، فكان بعد ذلك يقول إذا سئل: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد.
قال عبد الملك (¬1) رضي الله تعالى عنه: أنا رأيته بعد ذلك قد سقط حاجباه على عينه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن (¬2). وفي "صحيح مسلم": أن أروى خاصمت سعيد بن زيد في بعض داره، فقال: دعوها وإياها؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ أَخَذَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَق طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِيْنَ يَوْمَ الْقِيامَةِ"، اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واجعل قبرها في دارها. قال محمد بن زيد: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر، وتقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، إذ مرت على بئر في الدَّار، فوقعت فيها، فكانت قبرها (¬3). وفي "المجالسة" للدينوري: عن حميد بن هلال قال: كان بين مطرف وبين رجل من قومه في مسجدهم كلام [و] كذب عليه، فقال له مطرف: فإن كنت كاذباً فأماتك الله، فَخَرَّ ميتاً، فاستعدى عليه بنو عمه إلى زياد، فقال: هل مس صاحبكم بشيء، أو ضربه؟ قالوا: لا، قال: كلمة عبد صالح وافقت قدراً (¬4). ¬
فصل
فَصْلٌ كما ينبغي للعبد أن يجاور الصالحين، ويخالطهم في حال حياته، ينبغي لأهله أن يدفنوه بين قوم صالحين بعد وفاته، فلعله إن لم يتيسر له التبرك بالصَّالحين في حال الحياة، أن تشمله بركاتهم بعد الوفاة. وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن ندفن موتانا وسط قوم صالحين؛ فإن الموتى يتأذون بالجار السُّوء، كما يتأذى به الأحياء (¬1). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إِذَا ماتَ لأَحَدِكُمُ الْمَيِّتُ فَأَحْسِنُوْا كَفَنَهُ، وَعَجِّلُوْا إِنْجازَ وَصِيَّتِهِ، وَأَعْمِقُوْا لَهُ فِيْ قَبْرِهِ، وَجَنِّبُوْهُ جارَ السُّوْءِ"، قيل: يا رسول الله! وهل ينفع الجار الصالح في الآخرة؟ قال: "هَلْ يَنْفَعُ فِيْ الدُّنْيَا؟ " قالوا: نعم قال: "كَذَلِكَ يَنْفَعُ فِيْ الآخِرَةِ". رواهما ابن عساكر. وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ادْفِنُوْا مَوْتاكُمْ وَسْطَ قَوْمٍ صالِحِيْنَ؛ فَإِنَّ الْمَيِّتَ يَتَأَذَّىْ بِجارِ السُّوْءِ، كَمَا ¬
يَتَأَذَّىْ الْحَيُّ بِجارِ السُّوْءِ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "القبور" عن عبد الله بن نافع المزني قال: مات رجل من أهل المدينة، فرآه رجل كأنه من أهل النار، فاغتم لذلك، فأريه بعد سابعة أو ثامنة كأنه من أهل الجنة، فسأله، فقال: دفن معنا رجل من الصالحين، فشفع في أربعين من جيرانه، وكنت منهم (¬2). وذكر ابن الجوزي أن بعضهم رأى معروفاً الكرخي رحمه الله تعالى في نومه لما دفن في قبره شفع في أربعين ألفاً من كل جانب من جوانبه، فأعتقوا من النار. وذكر ابن رجب في كتاب "أهوال (¬3) القبور" أنه لما مات كرز الحارثي رحمه الله تعالى رأى رجل فيما يرى النائم كان أهل القبور جلوس على قبورهم عليهم ثياب جُدد، لقدوم كرز عليهم (¬4). والآثار في ذلك كثيرة. والحاصل أن الميت من المسلمين إذا دفن بين الصَّالحين فإن كان مسيئاً نزلت الرَّحمة عليهم، فأصابه منها نصيب ما، أو شفعهم الله تعالى فيه، ووهبهم إياه. ¬
وأيضاً فإن الصالحين يكثر قصدهم بالزيارة والدعاء، فربما شملت مجاورتهم أدعية زائريهم، وإن كان محسناً صالحاً ترقى مقامه بهم، أو ترقت مقاماتهم به. وما أحسن قول شيخ الإسلام الوالد رحمه الله تعالى: [من الطويل] إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّيْ إِلَىْ جَنْبِ ظُلَّتِيْ. . . تَكُوْنُ أَمَامِيْ أَوْ أَكُوْنُ أَمامَهَا وَلا تَدْفِنَنِّيْ نازِحاً عَنْ ضَرِيْحِها. . . فَإِنِّي لِيَوْمِ الْحَشْرِ أَبْغِيْ الْتِزامَها وَأَرْجُوْ إِذا كُنَّا عِظاماً رَمِيْمَةً. . . يُخَالِطُ عَظْمِيْ فِيْ التُّرابِ عِظَامَهَا لَعَلَّ إِلَهَ الْعَرْشِ يَرْفَعُ رُتْبَتِيْ. . . بِها أَوْ يُعُلِّيْ بِيْ إِلَهِيْ مَقَامَها وروى أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن بشر -يعني: الحافي- قال: قال خيثمة رحمه الله تعالى: ادفنوني مع الفقراء والمساكين. فقيل لبشر: ما أراد بذلك؟ قال: التواضع، ويحشر معهم. * * *
فصل
فَصْلٌ زيارة القبور مستحبة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كُنْتُ نهَيْتُكُمْ عَنْ زِيارَةِ الْقُبُوْرِ فَزُوْرُوْا الْقُبُوْرَ؛ فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِيْ الدُّنْيَا وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ". رواه ابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬1). وقبور الصالحين أولى بالقصد بالزيارة للتبرك، والدُّعاء لهم وللداعي، ولمن شاء من إخوانه؛ فإن الدعاء عند قبورهم ترجى إجابته (¬2)، ¬
وقبور الأنبياء عليهم السَّلام أخص قبور الصالحين، ولا سيما قبر سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-. وقد روى البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ زارَ قَبْرِيْ وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِيْ" (¬1). وقد تواتر قديماً وحديثاً عند أهل بغداد أن الدعاء عند قبر معروف الكرخي مستجاب، وأنه درياق مجرب (¬2). وذكر النووي أن الدعاء عند قبر الشيخ نصر المقدسي مستجاب، وهو بالقرب من قبر سيدنا معاوية رضي الله تعالى عنه بباب الصغير خارج دمشق (¬3). وكذلك اشتهر أن الدعاء مستجاب عند قبر الشيخ أرسلان بدمشق. ¬
وكذلك عند قبر الإمام الشافعي، وقبر سيدي عمر بن الفارض بمصر، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. واعتقادي أن الدعاء مرجو الإجابة عند قبر كل عبد صالح. ومما جربته أنا، وغيري: أن الدعاء مستجاب عند قبر والدي شيخ الإسلام رضي الله تعالى عنه (¬1). وقد أفاد هو ذلك قبل موته، وكان ذلك من باب الكشف، وخرق العادة، وذلك أنه مات له ولد في طاعون سنة ثمانين وتسع مئة، كان اسمه محمداً أبا الطيب، مات وهو ابن سبع سنين، ومات وهو يقرأ ¬
القرآن، وكان آخر ما سمعوه منه: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] بعد أن قرأ من أول سورة الفتح إلى آخر القرآن، ثم ابتدأ فقرأ الفاتحة، وأول البقرة إلى قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، وقضى، فرثاه الشيخ رضي الله تعالى عنه بقصيدتين لطيفتين؛ بائية، وجيمية، أفاد فيهما أن الدعاء عند قبره مستجاب. ثم اتفق أن الشيخ لما توفي في شوال سنة أربع وثمانين وتسع مئة دفن عند قبر ولده المذكور، بحيث إن الزائر إذا وقف عند قبرهما مستقبل القبلة عند رأس الشيخ يقف على قبر ولده المذكور، والقبر بين يديه، فظهر بذلك أن الشيخ إنما أفاد أن الدعاء عند قبر نفسه مستجاب، وهذه كرامة عظيمة لأن الشيخ لم يعين لنفسه موضعاً يدفن فيه، وإنما اتفق بعد موته أنه حفر له موضع قبره الآن، ولم يكن إذ ذاك فيمن قام بأمر الشيخ من بنيه لذلك أصلاً، ولا من كان ذاكراً لكلامه المذكور. وعبارة الشيخ في القصيدة "البائية"، بعد أن ذكر ولده المذكور، ومحاسنه: [من المتقارب] فَإِنْ جُزْتَ يَوْماً عَلَىْ قَبْرِهِ. . . تَوَقَّفْ قَلِيْلاً وَلا تَذْهَبِ تَرَىْ النُّوْرَ مِنْ قَبْرِهِ ساطِعاً. . . بِقَلْبِكَ وَالْعَيْنُ كَالْكَوْكَبِ
هُناكَ الدُّعاءُ لَهُ قُرْبَةٌ. . . وُيرْجَىْ بِهِ الْعَفْوُ عَنْ مُذْنِبِ سَعِدْتُ وَحَقِّ إِلَهِيْ بِه. . . وَبِالْعَوْنِ فَضْلاً صَفا مَشْرَبِيْ وقال رحمه الله تعالى في "الجيمية": [من البسيط] فَإِنْ أَتَيْتَ إِلَىْ قَبْرٍ حَواهُ فَقِفْ. . . وَاسْأَلْ إِلَهَكَ كَيْ يَقْضِيْ لَكَ الْحِوَجَا إِنَّ الدُّعَا عِنْدَهُ تُرْجَىْ إِجابَتُهُ. . . فَلا تَكُنْ عَنْ حِمَاهُ قَطُّ مُنْعَرِجَا إِنَّ التَّوَسُّلَ بِالصُّلاَّحِ عُمْدَتُنَا. . . ما خَابَ مَنْ لِحِماهُمْ فِيْ الْخُطُوْبِ لَجَا وَالصَّالِحُوْنَ هُمُ الأَوْتادُ سادَتُنَا. . . وَالْعالِمُوْنَ غَدَوْا فِيْ دِيْنِنا سُرُجا وَكَمْ هَدَوْا لِطَرِيْقِ الْحَقِّ مِنْ بَشَرٍ. . . وَمَنْ عَدَا الْفِئَتَيْنِ اعْدُدْهُمُ هَمَجَا وَمَنْ أَحَبَّهُمُ حَقًّا يُرَىْ مَعَهُمْ. . . أَوْ صارَ فِيْ حِزْبِهِمْ بِالْحُبِّ مُنْدَرِجَا
يا رَبِّ إِنْ لَمْ أَكُنْ مِنْهُمْ فَحُبُّهُمُ. . . قَدْ صارَ وَسْطَ الْحَشا بِالْقَلْبِ مُمْتَزِجَا * * *
فصل
فَصْلٌ وإذا زار قبور الصالحين فلا يمسح القبر، ولا يستلمه بيده، ولا يقبله، وما يفعله العوام من ذلك من المبتدعات المنكرة شرعاً ينبغي تجنب فعله، ونهي فاعله؛ نقله النووي عن أبي الحسن الزعفراني (¬1). بل إذا قصد السلام على الميت وقف قبالة وجهه، فإذا أراد الدُّعاء تحول إلى القبلة. قال النووي رحمه الله تعالى: واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهوراً بالصَّلاح، أو غيره؛ لعموم الأحاديث. قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى: ويكره الصلاة إلى القبور، سواء كان الميت صالحاً، أو غيره. قال الحافظ أبو موسى الأصفهاني: قال الإمام أبو الحسن الزَّعفراني: ولا يصلى إلى قبر، ولا عنده تبركاً وإعظاماً؛ لعموم الأحاديث (¬2). ¬
وفي "صحيح مسلم" عن أبي مرثد الغَنَوي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تَجْلِسُوْا عَلَىْ الْقُبُوْرِ، وَلا تُصَلُّوْا إِلَيْهَا" (¬1). وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قاتَلَ اللهُ الْيَهُوْدَ؛ اتَّخَذُوْا قُبُوْرَ أَنْبِيائِهِمْ مَساجِدَ" (¬2). وفيهما عن عائشة، وابن عباس -رضي الله عنهم -: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَعْنَةُ اللهِ عَلَىْ الْيَهُوْدِ وَالنَّصارَىْ؛ اتَّخَذُوْا قُبُوْرَ أَنْبِيائِهِمْ مَساجِد" (¬3). لا يجوز إيقاد المصابيح والشموع على قبور الصالحين ليلاً، إلا أن يبيت هناك من ينتفع بالنور من الأحياء، وأما إيقادها نهاراً فأشد تحريماً، وليس من الكرامات اتقادها من غير صنيع ظاهر، بل هو من خديعة المزورين بوضع نفط أو نحوه، وإن لم يكن ذلك فليس من الكرامة أيضاً، ويحتمل أن يكون من فعل الشيطان. ويكره أو يحرم أن يقطع الزائر من ثوبه قطعة يعلقها على قبر الصالح، أو على شجرة يتعارفها الناس بالتبرك بها، فيعلقون من أُثُوْرِهِمْ خرقاً يزخرف لهم الشيطان أنها تشهد له، أو نحو ذلك. وقد روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والنسائي، وغيرهم عن ¬
فائدة
أبي واقد الليثي رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل حنين، فمررنا بسدرة، فقلت: يا رسول الله! اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، قال: وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهُ أَكْبَرُ! هَذَا كَمَا قالَ بَنُوْ إِسْرائِيْلَ لِمُوْسَىْ {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، " قال: "إَنَّكُمْ تَرْكَبُوْنَ سَنَنَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ" (¬1). قلت: لو علمت العامة أن ما يفعلونه من ذلك في شجرة أم عياش في طريق الحج وغيرها هذا أصله، وكانوا ممن ينتفع بعقله، لتركوا ذلك توبةً، لكنهم قوم يجهلون، ولا يحصل لهم من العلماء من ينهاهم عما يصنعون؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون (¬2). وبقي هنا فوائد، ولطائف، ومسائل، ومعارف هي متممة لهذا الباب. * فائِدَةٌ: ينبغي لمن طلب شيئاً من الله تعالى من ولد، أو زوجة، أو مال، ¬
أو عطية، أو دار أن يسأل الله أن يكون صالحاً مباركاً لا فتنة فيه، ويسأل الله تعالى العافية فيه؛ ألا ترى أن إبراهيم الخليل عليه السلام لما طلب الولد طلبه صالحا، فقال الله تعالى حكاية عنه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]؛ أي: ولداً من الصالحين. وقال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5 - 6]. وقال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 38 - 39]. قال السُّدي في قوله {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38]: يقول: مباركة. رواه ابن أبي حاتم (¬1). وأخرج عن محمد بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال داود عليه السلام: يا رب! هب لي ابناً، فولد له ابنٌ خرج عليه، فبعث إليه داود جيشاً، فقال: إن أخذتموه سليماً فابعثوا إليَّ رجلاً أعرف السرور [أو قال: البِشْر] في وجهه، وإن قتلتموه فابعثوا إليَّ رجلاً أعرف الشر في وجهه. فقتلوه، فبعثوا رجلاً أسودَ، فلما رآه علم أنه قتل، فقال: رب! سألتك أن تهب لي ابناً، فوهبت لي ابناً فخرج عليَّ! ¬
قال: إنك لم تَستثْنِ. قال محمد بن كعب: لم يقل بهما قال زكريا: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6] (¬1). وقال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]. طلب المغفرة قبل الملك، ومن لوازم المغفرة حصول العافية في الملك. وقال البخاري: باب: الدعاء بكثرة المال (¬2) مع البركة (¬3). ثم قال: باب: الدعاء بكثرة الولد مع البركة (¬4). ثم روى في البابين حديث أنس -رضي الله عنه- عن أم سُليم رضي الله تعالى عنها - وهي أم أنس - أنها قالت: يا رسول الله! أَنَسُ خادمك؛ ادع الله له، فقال: "اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبارِكْ لَهُ فِيما أَعْطَيْتَهُ " (¬5). أين هذا من دعاء أهل الغفلة وسؤالهم شيئاً مما ذكر من غير تعرض لسؤال الله تعالى العافية فيه والبركة. ¬
فائدة ثانية
وأشد من ذلك من يدَّعي أنه إذا أوتي شيئاً من ذلك أصلح فيه من غير أن يقول: إن شاء الله، أو: لا حول ولا قوة إلا بالله، وربما عاهد الله على ذلك، وجزم به من نفسه! ويفرق بين النية والدعوى في ذلك؛ فإن من نوى إذا أعطاه الله شيئاً من ذلك أن يتقي الله فيه، يعتمد في ذلك على معونة الله، ويرضى فيه بمشيئة الله، ومن ادعى الإصلاح والإحسان فيما يُعطى يعتمد فيه على حوله وقوته، والنية شأن المؤمنين، والدعوى خُلُق المنافقين. قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة: 75 - 78]. * فائِدَةٌ ثانِيَةٌ: ينبغي التسمية بأسماء الصالحين تفاؤلاً، وتحسين التسمية بتغيير الاسم القبيح؛ فالاسم الحسن سنة معروفة. روى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، ومسلم، والترمذي عن المغيرة ابن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى نجران، فقالوا: إنكم تقرؤون: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] وبين موسى وعيسى ما شاء الله من السنين، فلم أَدرِ ما أجيبهم به حتى رجعت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-،
فقال: "إِنَّهُمْ كانُوا يُسَمَّونَ بِأَنْبِيائِهِمْ، وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ" (¬1). وروى ابن عساكر عن علي رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما مِنْ قَوْمٍ يَكُونُ فِيهِمْ رَجُلٌ صالِحٌ فَيَموتُ فَيَخلفُ فِيهِمْ مَولودٌ فَيُسَمُّونَهُ بِاسْمِهِ إِلاَّ خَلَفَهُمُ اللهُ تَعالَى بِالْحُسْنَى" (¬2). وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اطْلُبُوا الْخَيْرَ عِنْدَ حِسانِ الوُجُوهِ، وَتَسَمَّوْا بِخِيارِكُمْ، وَإِذا أَتاكُمْ كَريْمُ قَومٍ فَأَكْرِمُوهُ" (¬3). وذكر الحاكم في "تاريخ" عن محمد بن نصر المروزي رحمه الله تعالى: أنه كان يتمنى على كبر سنه أن يولد له. قال الحاكم: فبينا أنا عنده يوماً وإذا برجل من أصحابه، وقد جاء وسارَّه في أذنه، فرفع رأسه وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ} [إبراهيم: 39]، ثم مسح وجهه بباطن كفه، ورجع إلى ما كان فيه. قال الحاكم: فرأينا أنه استعمل في هذه الكلمة ثلاث سنن: تسمية ¬
فائدة ثالثة
الولد، وحمد الله على الموهبة، وتسميته إسماعيل لأنه ولد على كبر سنه. وقال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، انتهى (¬1). قلت: ومما اتفق لشيخ الإسلام الوالد من اللطائف - وقد بُشِّر بولد على كبر سنه - قوله: [من مجزوء الرجز] قَدْ بَشَّرُونِي بِغُلامٍ ... قُلْتُ إِذْ صَحَّ الْخَبَرْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ... وَهَبَ لِي عَلى الكِبَرْ * فائِدَةٌ ثالِثَةٌ: من الأمور الميسِّرة للعبد بسلوك طريق الصالحين والتشبه بهم: ما رواه البخاري في "تاريخه"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَغاثَ مَلْهُوفاً كَتَبَ اللهُ لَهُ ثلاثاً وَسَبْعِينَ مَغْفِرَةً؛ واحِدَةٌ فِيها صَلاحُ أَمْرِهِ كُلِّهِ، وَثِنْتانِ وَسَبْعونَ لَهُ دَرجاتٌ فِي الْجَنَّةِ" (¬2). وروى أبو نعيم عن عبد الواحد بن زيد رحمه الله تعالى قال: من ¬
قدر على بطنه قدر على دينه، ومن قوي على بطنه قوي على الأخلاق الصالحة، ومن لم يعرف مضرته في دينه من قِبَلِ بطنه فذاك رجل من العابدين أعمى (¬1). وعن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: قال داود عليه السلام: معاشر الأنبياء (¬2)! تعالوا أعلمْكم خشية الله؛ أيما عبد منكم أحب أن يحيا ويرى الأعمال الصالحة فليحفظ عينه أن تنظر إلى السوء، ولسانه أن ينطق بالإفك، عين الله إلى الصديقين، وهو يسمع لهم (¬3). وفي كتاب الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. قال الحسن: سديداً: صدقاً. رواه الفريابي، وعبد بن حُميد (¬4). وقال [قتادة]: عدلاً. رواه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم (¬5). ¬
وروى هؤلاء، وابن أبي شيبة عن عكرمة في الآية قال: قولوا: لا الله إلا الله (¬1). ورواه البيهقي في "الأسماء والصفات" عنه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). فالتقوى، والعدل، والصدق، وذكر الله تعالى أعظم مُعين على تحصيل مقام الصالحين. وروى ابن أيي الدنيا في "التقوى" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر إلا سمعته يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] " (¬3). وروى سمُّويه في "فوائده" عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب الناس، أو علَّمهم لا يَدَعُ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} إلى قوله: {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] (¬4). ¬
فائدة رابعة
* فائِدَةٌ رابِعَةٌ: قال الدينوري في "المجالسة": حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال: بلغني أن الصالحين كانوا يستنجحون (¬1) حوائجهم بركعتين يقولون بعدهما: اللهم إني بك أستفتح، وبك أستنجح، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- إليك أتوجه، اللهم ذلِّل لي صعوبته، وسهل لي حزونته، وارزقني من الخير أكثر مما أرجو، واصرف عني من الشر أكثر مما أخاف (¬2). قلت: دل هذا الأثر على أن التوجه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، والتوسل به إلى الله تعالى سنة قديمة من سنن الصالحين، فلا عبرة بمن أنكر ذلك من المحجوبين. وقد ألف ابن النعمان في هذه المسألة كتاباً هاماً سماه "مصباح الظلام في التوسل بالنبي عليه [الصلاة و] السلام". وما أحسن قول شيخ الإسلام والدي رحمه الله تعالى في قصيدة استغاث فيها بالله -عز وجل -، وتوسل إليه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في حادثة: [من الطويل] فَغَوْثِيَ مِنْها اللهُ ثُمَّ وَسِيلَتِي ... مُحَمَّدٌ الْهادِي إلَى رَبِّنا العَلِي ¬
تنبيه
فَلَيْسَ على غَيْرِ الإِلَهِ تَوَكُّلِي ... وَلَيسَ بِغَيرِ الْهاشِمِيِّ تَوَسُّلِي * تَنْبِيهٌ: قد سبق أن الآثار من الدعاء من الفضائل التي يتجمل بها الصالحون، فلا يقتصرون من الدعاء في حوائجهم على ما ذكر، بل هم إلى الدعاء في مهماتهم يفزعون، وإلى الله تعالى في كل أمورهم يَضْرعون، وبابه دون باب غيره يقرعون، وربما أُلهموا من الدعاء ما لم يجر على ألسنة غيرهم من البشر. فلذلك كان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يدعو بهذه الدعوات بعد التشهد: اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمتُ منه وما لم أعلم، إني أسألك خير ما سألكَ عبادُك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما عاذ بك منه عبادك الصالحون. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]. {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 193 - 194]. رواه ابن أبي شيبة (¬1). ¬
فإذا علمت أن الله تعالى قد يجري على لسان بعض عباده الصالحين ما لم يجر على لسان غيره من الدعاء والاستعاذة؛ فإذا سألت الله من خير ما سأله منه عباده الصالحون، واستعذت من شر ما استعاذ منه عباده الصالحون؛ فقد توصلت بذلك إلى طلب خير كثير، والتعوذ من شر كثير. ومن هذا القبيل في التوصل إلى طلب جوامع الخير، والعياذ من جوامع الشر: ما رواه ابن أبي شيبة، وابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علمها هذا الدعاء: "اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عاجِلِهِ وَآجلِهِ، ما عَلِمْتُ مِنْهُ وَما لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عاجِلِهِ وَآجِلِهِ، ما عَلِمْتُ مِنْهُ وَما لَمْ أَعْلَمْ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ ما سَأَلَكَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما عاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنبِيُّكَ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَما قَرَّبَ إِلَيْها مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَما قَرَّبَ إِلَيْها مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيراً" (¬1). وقوله "ما سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنبِيُّكَ" فيه وجهان: الأول: أن المراد به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو المتبادر. والثاني: أن المراد به جنس العباد والأنبياء؛ لأن الجنس إذا أضيف إلى معرفةٍ شَمَلَ كل فرد منه، والمراد خواص العباد والمضافين إلى الله ¬
فائدة خامسة
تعالى إضافة الخصوصية، كما في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. وقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49]. وقوله: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16]. وعلى هذا الوجه فالمعنى: أسأل الله تعالى من كل خير سأله إياه عبد صالح أو نبي، والعياذ من كل شر عاذ منه نبي أو عبد صالح؛ فافهم! * فائِدَةٌ خامِسَةٌ: روى الإمام أحمد في "الزهد" عن عطاء بن يسار رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قالَ نُوحٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لابنه: يا بُني! إِنِّي مُوْصِيكَ بِوَصِيَّهٍ، وَقاصِرُها عَلَيْكَ حَتَّى لا تَنْساها؛ أُوْصِيكَ بِاثْنتَيْنِ، وَأَنْهاكَ عَنِ اثْنتَيْنِ. فَأَمَّا اللَّتانِ أُوْصِيكَ بِهِما فَإِنِّي رَأَيْتُهُما يُكْثِرانِ الوُلُوجَ عَلى اللهِ -عز وجل-، وَرَأَيْتُ اللهَ - عز وجل- يَسْتَبْشِرُ بِهِما وَصالِحُ خَلْقِهِ؛ قَوْلُ: سُبْحانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ؛ فَإِنهَّا صَلاةُ الْخَلْقِ، وَبِها يُرْزَقُ الْخَلْقُ، وَقَوْلُ: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ؛ فَإِنَّ السَّمواتِ وَالأَرَضِينَ لَوْ كُنَّ حَلقةً لَقَصَمَتْها، وَلَوْ كُنَّ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَتْ بِهِنَّ. وَأَمَّا اللَّتانِ أَنْهاكَ عَنْهُما فَالشِّرْكُ وَالْكِبْرُ؛ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ شَيْءٌ مِنَ شِرْكٍ أَوْ كِبْرٍ فَافْعَلْ" (¬1). ¬
قوله "وَرَأَيْتُ اللهَ يَسْتَبْشِرُ بِهِما"؛ أي: يرضى بهما هو وصالح خَلقِه. ومعنى استبشار صالح الخلق بهما، أنهم إذا أُلهموها سُرُّوا بها، واستبشروا بثوابها لثقلها في الميزان كما في حديث "الصحيحين" (¬1)، أو لاشتمالها على التنزه والشكر؛ فالتنزيه ثوابه طهارة نفس المنزه وتقديسها، والشكر ثوابه مزيد النعمة، فاستبشارهم بذلك. وروى الإمام أحمد، وابن ماجه - وحسنه ابن حجر في "أماليه" - عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ إِذا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَروا، وإِذا أَساؤُوا اسْتَغْفَروا" (¬2). * * * ¬
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ «وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ» تَألِيف العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة 977 هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة 1061 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى تَحقِيقَ وَدِرَاسَة لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ بِإِشْرَافِ نُورِ الدِّين طَالِب المُجَلَّد الثَّالِثُ دَارُ النَّوادِرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ (3)
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 7 - 84 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
تَابِع (3) بَابُ التَّشَبُّه بِالَملاَئكَةِ عَلَيْهِم السَّلَام
فائدة سادسة
تَابِع (3) بَابُ التَّشَبُّه بِالصَّالَحِيْنَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالى عَنْهُم وأجْمَعِيْنَ * فائِدَةٌ سادِسَةٌ: روى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه قال: في كتب الحواريين: إذا سلك بك سبيل أهل البلاء، فاعلم أنه سلك بك سبيل الأنبياء والصالحين، وإذا سلك بك سبيل أهل الرخاء، فاعلم أنه سلك بك سبيلاً غير سبيلهم، وخلف بك عن طريقهم (¬1). وروى الدينوري عن عبد الواحد بن زيد - رحمه الله تعالى - قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى! إذا رأيت الغنى مقبلاً فقل: ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحباً بشعار الصالحين (¬2). وكان الشيخ أحمد بن الرفاعي رحمه الله تعالى يقول: الفقراء أشرف الناس لأن الفقر لباس المرسلين، وجلباب الصالحين، وتاج المتقين، ¬
وغنيمة العارفين، ومُنية المريدين، ورضى رب العالمين، وكرامة لأهل ولايته. وروى الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب "الزهد والرقائق" عن وهب بن منبه قال: إني وجدت في كتاب الله المنزل - أو: قرأت في كتاب الله المنزل - في ذكر الصالحين أنهم إذا طالت بهم العافية حزنوا لذلك، ووجدوا في أنفسهم، وإذا أصابهم الشيء من البلاء فرحوا به واستبشروا، وقالوا: الآن عاتبكم ربكم فأَعتِبوه (¬1)؛ أي: أزيلوا عتابه. ولهذا شواهد من الأحاديث الصحيحة المرفوعة: -منها: ما رواه الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم -وصححه- والبيهقي في "شعبه" عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الصَّالِحِينَ لَيُشَدَّدُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّهُ لا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ نَكْبَةٌ مِنْ شَوْكَةٍ فَما فَوْقَ ذَلِكَ إِلاَّ حُطَّتْ عَنْهُ بِها خَطِيئَةٌ، وَرُفِعَتْ لَهُ بِها دَرَجَةٌ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي، وابن ماجه عن سعد ابن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِياءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلى حَسبِ دِينهِ؛ فَإِنْ ¬
كانَ فِي دِينِهِ صُلْباً اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وإِنْ كانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ على قَدْرِ دِينِهِ، فَما يَبْرَحُ البَلاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي على الأَرْضِ وَما عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" - بإسناد حسن - عن أخت حذيفة رضي الله تعالى عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِياءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ" (¬2). وروى ابن ماجه، وأبو يعلى، والحاكم -وصححه- عن أبي سعيد -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِياءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ، لَقَدْ كانَ أَحَدُهُمْ يُبْتَلَى بِالفَقْرِ حَتَّى ما يَجِدَ إِلاَّ العَباءَةَ (¬3) يُحوِّيها فَيَلْبَسُها، وُيبْتَلى بِالقملِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، وَلأَحَدُهُمْ كانَ أَشَدَّ فَرحاً بِالبَلاءِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِالعَطاءِ" (¬4). وروى ابن أبي حاتم الرازي عن يزيد بن أبي ميسرة رحمه الله تعالى قال: أجد فيما أنزل الله تعالى على موسى عليه السلام: أيفرح عبدي ¬
المؤمن أن أبسط له الدنيا وهو أبعد له مني؟ أو يجزع عبدي المؤمن أن أقبض عنه الدنيا وهو أقرب إليه مني؟ ثم تلا: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56] (¬1). وروى هو وغيره عن قتادة: أنه قرأ هذه الآية فقال: مكر والله بالقوم في أموالهم وأولادهم؛ فلا تعتبروا الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبروهم بالإيمان والعمل الصالح (¬2). وروى الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ إِذا أَحَبَّ قَوماً ابْتَلاهُمْ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ" (¬3). وروى البيهقي في "البعث" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذا أَحَبَّ اللهُ عَبداً ابْتلاهُ لِيَسْمَعَ تَضُرُّعَهُ" (¬4). وفي "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح البخاري" من حديثه عن ¬
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيراً يُصِبْ مِنْهُ" (¬1). وروى الترمذي، والحاكم -وصححه- عن قتادة بن النعمان رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذا أَحَبَّ اللهُ عَبداً حَماهُ الدُّنْيا، كَما يَحْمِي أَحَدُكُمْ سَقِيمَهُ الْماءَ" (¬2). وروى الإمام أحمد عن محمود بن لَبيد -رضي الله عنه-، والحاكم وصححه، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ تَعالَى يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الدُّنْيا وَهُوَ يُحِبُّهُ، كَما تَحْمُونَ مَرِيضَكُمُ الطَّعامَ وَالشَّرابَ تَخافُونَ عَلَيْهِ" (¬3). وروى البيهقي في "الشعب"، وابن عساكر في "تاريخه" عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللهَ تَعالَى لَيَتَعاهَدُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِالبَلاءِ كَما يَتَعاهَدُ الوالِدُ وَلَدَهُ بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ اللهَ لَيَحْمِى عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الدُّنْيا كَما يَحْمِي الْمَرِيضَ أَهْلُهُ الطَعامَ" (¬4). ¬
وروى الحاكم في "الكنى" عن أبي فاطمة الضمري -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِن اللهَ لَيَبْتَلِي الْمُؤْمِنَ وَما يَبْتَلِيهِ إِلاَّ لِكَرامَتِهِ عَلَيْهِ" (¬1). وفي كتاب الله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 17]. قال الحسن: أكذبتهما جميعاً. ثم قال: ما بِالغِنَى أكرمك، ولا بالفقر أهانك. رواه ابن أبي حاتم (¬2). وقلت: [من السريع] كَرامَةُ الصَّالِحِ أَنْ يُبْتَلَى ... فِي أَكْثَرِ الأَحْوالِ كَيْ يَضْرَعا وَيُمْنَعَ الدُّنْيا وَلَذَّاتِها ... خَشْيَةَ أَنْ يَمْرَحَ أَوْ يَرْتَعا تَعاهَدَ اللهُ تَعالَى لِمَنْ ... يُحِبُّهُ يُوْجِبُ أَنْ يُرْفَعا فَإِنْ تَجِدْ [أَنَّ بلاءً نزلْ] (¬3) ... فِيكَ فَلا تَسْخَطْ وَلا تَجْزَعا وَاخْشَعْ لِمَوْلاكَ إِذْ مَسَّكَ الضُّـ ... ـــــرُّ فَإِنَّ القَصْدَ أَنْ تَخْشَعا ¬
وروى البيهقي في "الشعب" عن عكرمة بن خالد قال: كان رجل يتعبد، فجاءه شيطان يفتنه، فازداد عبادة، فتمثل له برجل، فقال له: أصحبك؟ فقال: نعم. فصحبه، فكان العابد يتخلف عنه ويطيف، فأنزل الله تعالى ملكاً، فلما رآه الشيطان عرفه ولم يعرفه الإنسان، فكان إذا مشى تخلف الشيطان، فمدَّ الملك يده نحو الشيطان فقتله، فقال الرجل: ما رأيت كاليوم! قتلته وهو من حاله ومن حاله؟ ثم انطلقا حتى نزلا قرية، فأنزلوهما وضيفوهما، فأخذ الملك منهم إناء من فضة، ثم انطلقا فنزلا في قرية أخرى، فزجروهما ولم يضيفوهما، فأعطاهم الملك الإناء. فقال له: أما من أضافنا فأخذت إناءهم، ومن لم يضفنا أعطيته الإناء؟ فلن تصحبني! قال: أما الذي قتلت فإنه شيطان أراد أن يفتنك، وأما الذي أخذت منهم الإناء فإنهم قوم صالحون فلم يكن ينبغي لهم، وكان هؤلاء قوماً فاسقين فكانوا أحق به. ثم عرج إلى السماء والرجل ينظر إليه (¬1). ¬
فائدة سابعة
* فائِدَة سابِعَةٌ: قال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: مكتوب في التوراة: علامة الرجل الصالح أن يخاصمه قومه؛ الأقربُ فالأقرب (¬1). قلت: وذلك لأن الرجل الصالح من شأنه إذا تكمل أن يفيض من كماله على غيره، ثم من شأنه الابتداء بالدعوة إلى الله تعالى وإلى سبيله بأهله وقومه، كما قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]. وكما يقال: الأقربون أولى بالمعروف. وأفضل الصدقةِ الصدقةُ على الأقارب، والعلم والهداية والإصلاح من أفضل الصدقات. ثم إن الحق ثقيل، فإذا ألقاه الصالح على أقربائه وهم لا يرون له فضلاً عليهم، بل يرون أنفسهم أمثاله، ويعتبرون تسوية النسب بينهم، فإذا ألقاه إليهم عاداه الأقرب فالأقرب منهم، وكذَّبوه على ترتيب دعوته لهم إلا من وفقه الله تعالى منهم، كما قال الله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]. وفي "صحيح البخاري"، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، ورهطك منهم المخلصين؛ خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى صعِد على الصفا، فهتف: "يا صَباحاه! ". ¬
فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد -صلى الله عليه وسلم-، فاجتمعوا إليه، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: "أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالوادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ ". قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً. قال: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَينَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ". فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم؛ ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] (¬1). وروى أبو بكر بن مردويه، وأبو القاسم بن عساكر عن عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه يحدث الناس ويفتيهم، وولده وأهل بيته جلوسٌ في جانب يتحدثون، فقيل له: يا أبا الدرداء! ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم، وأهل بيتك جلوس لاهين؟ قال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي الأَنْبِياءِ وَأَشَدَّهُمْ عَلَيهِمُ الأَقْرَبُونَ". وذلك فيما أنزل الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] إلى آخر الآية. ¬
ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي العالِمِ أَهْلُهُ حَتَّى يُفارِقَهُمْ، وإِنَّهُ يَشْفعُ فِي أَهْلِ دارِهِ وَجِيرانِهِ" (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن أبي الدرداء، وابن عدي في "الكامل" عن جابر رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي العالِمِ أَهْلُهُ وَجِيرانُهُ" (¬2). وروى البيهقي في "الدلائل" عن كعب: أنه قال لأبي مسلم؛ يعني: الخولاني: كيف تجد قومك لك؟ قال: مكرمين مطيعين. قال: ما صدقتني التوراة إذن؛ ما كان حكيم في قوم إلا بَغَوا عليه وحسدوه (¬3). وروى ابن عساكر عن محمد بن جُحادة: أن كعباً لقي أبا مسلم الخولاني، فقال: كيف كرامتك على قومك؟ قال: إني عليهم كريم. قال: إني أجد في التوراة غير ما تقول. ¬
فائدة ثامنة
قال: وما هو؟ قال: وجدت في التوراة: أنه لم يكن حكيم في قوم إلا كان أزهدهم فيه قومه، ثم الأقرب فالأقرب، وإن كان في حَسَبِه شيء عيروه به، وإن كان عمل برهة من دهره ذنباً عيروه به (¬1). وروى أبو نعيم عن شر حبيل بن مسلم، عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى: أن كعب الأحبار قال له: كيف تجد قومك فيك يا أبا مسلم؟ فقال: أجدهم يا أبا إسحاق يُجِلُّوني ويكرموني. فقال له كعب: ما هكذا تقول التوراة يا أبا مسلم. قال أبو مسلم: فكيف تقول التوراة يا أبا إسحاق؟ فقال كعب: تقول: إن أعدى الناس للرجل الصالح قومُه، يخاصمه الأقرب فالأقرب. قال أبو مسلم: وصدقت التوراة (¬2). * فائِدَةٌ ثامِنَةٌ: نقل حجة الإسلام في "الإحياء"عن بعضهم قال: إذا أبغض الله عبداً أعطاه الله ثلاثاً، ومنعه ثلاثاً: ¬
فائدة تاسعة
أعطاه صحبة الصالحين، ومنعه القبول منهم. وأعطاه الأعمال الصالحة، ومنعه الإخلاص فيها. وأعطاه الحكمة، ومنعه الصدق فيها (¬1). ونقل السلمي في "الحقائق" عن أبي عثمان رحمه الله تعالى أنه قال: علامة قسوة القلب أن لا تعمل فيه الموعظة، ولا تؤثر فيه النصيحة، ولا تظهر فيه بركة مجالسة الصالحين (¬2). وروي عن معروف الكرخي رحمه الله تعالى ورضي عنه قال: إذا أراد الله بعبد خيراً زوى عنه الخذلان، وأسكنه بين الفقراء الصادقين، وإذا أراد بعبد شراً عطله عن الأعمال الصالحة حتى تكون على قلبه أثقل من الجبال، وأسكنه بين الأغنياء (¬3). * فائِدَةٌ تاسِعَةٌ: ينبغي للعبد إذا قصرت همته عن مراتب الصالحين أن يحزن لذلك، ويؤفف على نفسه، ويعاتبها على التقصير عنهم، كما روى ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: إذا ذكر الصالحون فأُفِّ لي وتف (¬4). ¬
وروى هو وأبو نعيم عن أيوب السختياني قال: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل (¬1). وروى ابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: جلست ذات يوم أحدث ومعنا سعيد بن السائب الطائفي رحمه الله تعالى، فجعل سعيد يبكي حتى رحمته، فقلت: يا سعيد! ما يبكيك وأنت تسمعني أذكر أهل الخير وفعالهم؟ فقال: يا سفيان! وما يمنعني من البكاء؛ وإذا ذكرت مناقب أهل الخير كنت منهم بمعزل (¬2)؟ وروى ابن الجوزي عن أسود بن سالم: أن داود الطائي رحمه الله تعالى كان يقول: سبقني العابدون، وقُطِع بي دونهم؛ فيا لهفاه (¬3)! وروى الدينوري عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى قال: سمعت محمد بن نصر الحارثي رحمه الله تعالى يقول: ثلاث كلمات نفعني الله بهن: سمعته يقول: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. ¬
وسمعته يقول: لا يستقيم طلب الآخرة إلا بالمبادرة إليها. وسمعته يقول: إنما تنتظرون ثلاثة، فما يحبسكم عن العمل؟ إما نعمة تزول، وإما مصيبة تنزل، وإما مَنِية تقضى (¬1). وروى أبو نعيم عن محمد بن بشير الدعاء قال: ذكر عند مخلد بن الحسين رحمه الله تعالى من أخلاق الصالحين، فقال: [من الكامل] لا تعرِضَنَّ بِذِكرِنا فِي ذِكْرِهِم ... لَيسَ الصَّحِيحُ إِذا مَشى كَالْمُقْعَدِ (¬2) ويحتمل أن يكون قول مالك بن دينار: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف، وقول أيوب وغيره: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل، وأمثال ذلك؛ أن يكون من باب الإزراء على النفس، كقول بعض المجتهدين في العبادة عند فراغه منها لنفسه: يا حاويَ كل سوء! ما رضيتك له طرفة عين. وهذا خلق عظيم من أخلاق الصالحين. ومن هذا القبيل قول إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]. وقول يوسف عليه السلام: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ¬
إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]. وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث الصحيحين: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرافِي فِي أَمْرِي، وَما أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي؛ وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي" (¬1). وأمثال ذلك كثيرة. وقال الفضيل بن عياض: أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي - يعني: وادي مكة - وكان أمثل أهله يومئذ، فقلت له: إن كنت تظن أنه على وجه الأرض شر مني ومنك فبئسما تظن. رواه ابن الجوزي (¬2). وفي "حلية أبي نعيم" عن محمد بن واسع رحمه الله تعالى: أنه نظر إلى ابن له يخطر بيده، فقال له: تعال! ويحك! تدري ابن من أنت؟ أمك اشتريتها بمئتي درهم، وأبوك فلا أكثر الله في المسلمين ضَرْبه، أو نحوه (¬3). وعن محمد بن أسلم الطوسي رحمه الله تعالى: أنه كان يقول: والله الذي لا الله إلا هو ما رأيت نفساً تصلي إلى القبلة شراً عندي من نفسي (¬4). ¬
وإنما آثر الصالحون والعارفون الإزراء بالنفس، ودعوا إليه؛ خشيةً من الانخداع بصفة الصلاح والركون إليها، فيرائي الرجل ويطلب تعظيم نفسه من الناس، ونظرهم إليه؛ فيهلك. كما روى ابن الجوزي عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: لو قيل لك: يا مرائي لغضبت، ولشق عليك، وتشكو فتقول: قال لي: يا مرائي، وعساه قال حقا؛ من حبك للدنيا تزينت وتصنعت للدنيا. ثم قال: اتق الله أن تكون مرائيا وأنت لا تشعر، تصنعت وتهيأت حتى عرفك الناس فقالوا: هو رجل صالح، فأكرموك وقضوا لك الحوائج، ووسَّعوا لك المجالس؛ وإنما عرفوك بالله، ولولا ذلك لهُنت عليهم (¬1). وروى ابن باكويه الشيرازي عن أبي عثمان النيسابوري قال: خرجنا جماعةً مع أستاذنا أبي حفص النيسابوري إلى خارج نيسابور، فجلسنا، فتكلم الشيخ علينا، وطابت أنفسنا، ثم بصرنا بِأَيلِ قد نزل من الجبل حتى بَرَك بين يدي الشيخ، فأبكاه ذلك بكاءً شديدًا، فلما هدأ الشيخ سألناه فقلنا له: يا أستاذ! تكلمت علينا وطابت قلوبنا، فلما جاء هذا الوحش وبرك بين يديك أزعجك وأبكاك، فأحببنا أن نعرف فقه ذلك! فقال: نعم؛ رأيت اجتماعكم حولي وقد طابت قلوبكم، فوقع في ¬
قلبي: لو أن شاة ذبحتها ودعوتهم عليها، فما تحكم هذا الخاطر حتى جاء هذا الوحش فبرك بين يدي، فخيل لي أني مثل فرعون الذي سأل ربه أن يجري له النيل فأجراه له. قلت: فما يؤمنني أن يكون الله يعطيني كل حظ في الدنيا، وأبقى في الآخرة فقيراً لا شيء لي؛ فهذا الذي أزعجني (¬1). وعن أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى قال: لو اجتمع الخلق جميعاً على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا على ذلك (¬2). وقد ضمَّنت كلامه في قولي: [من مجزوء الرمل] قُلْ لِنَفْسِي: إِنْ تُراعِي ... حَقَّ رَبِّي لَنْ تُراعِي إِنَّما فَقْرٌ وَضَعْفٌ ... وَانْتِقاصٌ مِنْ طِباعِي مَنْ يَضَعْ مِنِّي وَيجْهَدْ ... لَمْ يَضَعْنِي كَاتِّضاعِي إِنَّ عِرْفانِي بِنَفْسِي ... قَدْ كَفانِي وَعْظَ واعِ إِنَّما الدُّنْيا مَتاعٌ ... لَمْ يَدُمْ فِيها انْتِفاعِي إِنَّما يُسْعَى لِدارٍ ... لَمْ تَضعْ فِيها الْمَساعِي دارُ تَكْرِيْمٍ إِلَيْها ... قَدْ دَعانا كُلُّ داعِي ¬
فائدة عاشرة
* فائِدَةٌ عاشِرَةٌ: ينبغي لك إذا لم تكن صالحاً ألا تقع في الصالحين؛ فإن ذلك هو السم القاتل. وقد سبق أن غِيبتهم أشد من غيبة غيرهم، وليست أذيتهم كأذية غيرهم، ولا عداوتهم كعداوة غيرهم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "يَقُولُ اللهُ تَعالَى: مَنْ عادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ" (¬1). وفي رواية: "مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ" (¬2). والصالحون هم الأولياء كما سيأتي. وروى البيهقي عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: كفى بالمرء شراً أن لا يكون صالحاً، ويقعَ في الصالحين (¬3). قلت: فإنه جمع شرين: فسادَه، والوقيعةَ في أهل الصلاح. ومن لطائف أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى: ما رواه أبو نعيم عن أبي أحمد بن الحواري قال: قلت لأبي سليمان: إن فلاناً وفلاناً لا يقعان على قلبي. قال: ولا على قلبي، ولكن لعلنا أُتِينا من قلبي وقلبك، فليس فينا ¬
خير، وليس نحب الصالحين (¬1). فانظر كيف رد أبو سليمان السبب في ذلك إلى نفسه وإلى صاحبه تهذيباً وتأديباً، واتهاماً للنفس، ولم يحكم على ذَينِكَ بأن السبب من قِبَلِهما؛ أين هذا ممن يقع في الصالحين، وكيف ممن يؤذيهم؟ وقد سبق التحذير من أذيتهم. وذكر ابن خلكان في "تاريخه": أن مرض الحَجَّاج الذي مات فيه كان بالآكلة؛ وقعت في بطنه، ودعا بالطبيب لينظر إليها، فأخذ لحماً وعلقه في خيط، وسرَّحه في حلقه، وتركه ساعة، ثم أخرجه وقد لصق به دُودٌ كثير. قال: وسلط الله عليه الزمهرير، فكانت الكوانين تجعل حوله مملوءةً ناراً، وتدنى منه حتى تحرِق جلدَه وهو لا يحس بها. قال: وشكا ما يجده إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى، فقال له: قد نهيتك أن تتعرض للصالحين فلججت. فقال له: يا حسن! لا أسألك أن تسأل الله أن يفرج عني، ولكني أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي، ولا يطيل عذابي. فبكى الحسن بكاءً شديداً، وأقام الحَجَّاج على هذه الحالة [بهذه العلة] خمسة عشر يوماً، ومات (¬2). ¬
فائدة حادية عشرة
ويرحم الله جدي الشيخ رضي الدين القائل: [من الرجز] مَنْ بارَزَ الرِّجالَ بِالأَذَى وَلَمْ ... يَخْشَ وَلَمْ يَخَفْ عِقابَ رَبّه وَيْلٌ لَهُ دُنْياً وَأُخْرى كَيفَ لا ... وَاللهُ قَدْ آذَنَهُ بِحَرْبِه * فائِدَةٌ حادِيَةَ عَشْرَةَ: روى أبو الشيخ بن حيان في "العظمة" عن معاذ بن جبل، والعِرباض ابن سارية رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَكاً نِصْفُهُ مِنَ النَّارِ (¬1) وَنصْفُهُ مِنَ الثَّلْجِ يَقولُ: [اللَّهُمَّ] كَما أَلَّفْتَ بَينَ الثَّلْجِ وَالنَّار، كَذَلِكَ أَلِّفْ بَينَ قُلوبِ عِبادِكَ الصَّالِحينَ" (¬2). وهذا الحديث دليل واضح على أن ائتلاف العبد بالصالحين دليل على أنه منهم، وقد تقدم في صدر الكتاب ما يؤيد ذلك. ومن ثم ينبغي للعبد إذا لم ير نفسه تألَفُ الصالحين، ولا يألفونه أن يحزن لذلك، ويبكي على نفسه؛ إلا أن يكون ممن شغله الأنس بالله عن الأنس بعباده، كما روى ابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن أبي بكر ¬
الهلالي قال: كنت أتمنى على الله تعالى أن يريني أبا العباس الخضر عليه السلام، فلما كان بعد مدة إذا أنا بالباب يدق علي، فقلت: من هذا؟ فقال: أنا الذي تتمنى على الله، أنا الخضر. فقلت له: الذي طلبناك له قد وجدناه، ارجع إلى حال سبيلك (¬1). وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته" عن عمر بن سنان المنبجي قال: اجتاز بنا إبراهيم الخواص رحمه الله تعالى، فقلت له: حدثني بأعجب ما رأيت في أسفارك. فقال: لقيني الخضر عليه السلام فسألني الصحبة، فخشيت أن يفسد علي سر توكلي بسكوني إليه، ففارقته (¬2). وكذلك إذا لم يألف قلبه مَنْ شِيمتُهُ الصلاحُ ينبغي له أن يرجع باللائمة على نفسه، ويتهمها، ولا يقع في ذلك الذي لم يألفه قلبه كما تقدم قريباً عن أبي سليمان؛ لأن ذلك أسلم لدينه خشية أن يكون ممن أبغض الصالحين، أو غض منهم؛ والعياذ بالله! وما أحسن قولَ جدي رضي الله تعالى عنه: [من مجزوء الكامل] ما نَقَصَ الكُمَّلَ إِلاَّ ... ناقِصٌ أَوْ ذُو حَسَد وَلا رَمى الصَّالِحَ بِالـ ... ــفسادِ إِلاَّ مَنْ فَسَد ¬
فائدة ثانية عشرة
* فائِدَةٌ ثانِيَةَ عَشْرَةَ: قرأت بخط شيخ الإسلام قاضي القضاة تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى ما نصه: قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: أربعة أشياء تزيد في الجماع: أكل العصافير، وكل الإطريفل (¬1) الأكبر، وأكل الفستق، وأكل الجزر (¬2). وأربعة أشياء تزيد في العقل: ترك الفضول من الكلام، والسواك، ومجالسة الصالحين، والعمل بالعلم. وأربعة أشياء تقوي البدن: أكل اللحم، وشم الطيب، وكثرة الغسل من غير جماع، ولبس الكتان. وأربعة أشياء توهن البدن: كثرة الجماع، وكثرة الهم، وكثرة شرب الماء على الريق، وكثرة أكل الحموضة. وهذا منقول في "الإحياء" عن الشافعي رضي الله تعالى عنه، وفيه تقديم وتأخير. وزاد: وأربعة تقوي البصر: الجلوس حيال الكعبة، والكحل عند النوم، والنظر إلى الخضرة، وتنظيف الملبس. وأربعة توهن البصر: النظر إلى القذر، والنظر إلى المصلوب، ¬
والنظر إلى فرج المرأة، والقعود في استدبار القبلة (¬1). وروى ابن باكويه الشيرازي عن أبي الخير الأقطع رضي الله تعالى عنه قال: ما بلغ أحد إلى حالة شريفة إلا بملازمة الموافقة، ومعانقة الأدب، وأداء الفرائض، وصحبة الصالحين، وخدمة الفقراء الصادقين (¬2). وروى السلمي، وأبو نعيم، والقشيري رحمهم الله تعالى عن إبراهيم الخواص رحمه الله قال: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين (¬3). ورواه ابن الجوزي من طريق ابن باكويه من قول يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى (¬4). وروى أبو نعيم عن ذي النون المصري رحمه الله تعالى قال: بصحبة الصالحين تطيب الحياة، والخير مجموع في القرين الصالح؛ إن نسيت ذكَّرك، وإن ذكرتَ أعانك (¬5). ¬
فائدة ثالثة عشرة
وقلت: [من الرجز] القَلْبُ وَالعَقْلُ جَمِيعاً صَلُحا ... مِنكَ إِذا صَحِبْتَ أَنتَ الصُّلَحا وَطابَتِ الْحَياةُ فِي صُحْبَتِهِم ... وَحالُ مَنْ إِلَى حِماهُم جَنَحا * فائِدَةٌ ثَالِثَةَ عَشْرَةَ: قال مجاهد رحمه الله تعالى: لو لم يكن في الأخ الصالح إلا أن حياءك منه يمنعك عن معصية الله تعالى كفاك. قلت: ولقد كان هذا مستقراً في نفوس العقلاء أن العاقل إذا أراد أن يعصي استحيى من صالحي قومه وأهله استحياءً يمنعه من المعصية. ومن ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَحْيِ مِنَ اللهِ اسْتِحْياءَكَ مِنْ رَجُلَينِ صالِحَينِ مِنْ عَشِيرَتكَ"، كما تقدم (¬1). وأما الآن فقد قل الحياء، وقل من يُستحى منه. وفي "معجم الطبراني الكبير" - وإسناده حسن كما قال المنذري - عن عبد الله بن بُسر رضي الله تعالى عنه قال: لقد سمعت حديثاً منذ زمان: "إِذا كُنتَ فِي قَوْمٍ - عِشرِينَ رَجلاً أَوْ أقلَّ أَوْ أَكْثَرَ - فَتَصَفَّحْتَ وُجُوهَهُمْ، ¬
فائدة رابعة عشرة
فَلَمْ تَرَ فِيهِمْ رَجُلاً يُهابُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الأَمْرَ قَدْ رَقَّ" (¬1). ولقد قلت: [من الرمل] رَقَّ أَمْرُ الدِّينِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ... فِي عَشِيرٍ واحِدٌ مِنْهُمْ يُهابْ أَيْنَ مَنْ يَسْتَحِي أَوْ [مَنْ] يُسْتَحَى ... مِنْهُ فَلا يَحْصُلُ ما كانَ يُعاب مُنْكَرُ الأُمَّةِ مَعْروفٌ كَما ... عُدَّ ماكانَ خِطاءً فِي الصَّواب * فائِدَةٌ رابِعَةَ عَشْرَةَ: قال ابن عطية في "تفسيره": حدثني أبي: أنه سمع أبا الفضل الجوهري في سنة سبع (¬2) وستين وأربع مئة يقول: إن مَنْ أَحَبَّ أهلَ الخير نال من بركتهم؛ كلبٌ أحب أهل فضل وصحبهم ذكرَه الله تعالى معهم في القرآن (¬3)؛ يعني: كلب أصحاب الكهف. ¬
قلت: ويدخل معهم الجنة كما قال خالد بن معدان: ليس في الجنة من الدواب إلا كلب أهل الكهف، وناقة صالح، وحمار العزير. نقله الدميري في "حياة الحيوان"، والسيوطي في "ديوان الحيوان" (¬1). قلت: والثلاثة أيضاً مذكورات في القرآن، والحكمة في ذلك أن كل واحد منها كان آية عظيمة. وروى ابن المنذر عن ابن جريج رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18]؛ قال: يمسك عليهم باب الكهف (¬2)؛ أي: ليحرسهم مما يؤذيهم، أو تنتهك حرمتهم. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حميد المكي رحمه الله: أنه قال في كلب أصحاب الكهف: جعل رزقه في لحس ذراعيه (¬3). فهاتان خارقتان لهذا الكلب. قال: وكان اسمه: قطميراً؛ قاله الحسن. أو: قطموراً؛ قاله مجاهد. ورواهما ابن أبي حاتم، والأول أشهر (¬4). ¬
واعتاد التجار أن يكتبوه على أحمالهم في الأسفار لتحفظ، يتبركون باسمه، ولم أجد لهذا أصلاً، لكنهم لم يفعلوه إلا بإلهام الله تعالى (¬1)، فهي فضيلة أخرى لهذا الكلب، وكل ذلك بسبب نسبته إلى قوم صالحين. وفي "معجم الطبراني الأوسط" - بسند صحيح - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف: 22]؛ يعني: أصحاب الكهف. قال: أنا من أولئك القليل: مكسلمينا، ويملخاء؛ وهو المبعوث بالورِق إلى المدينة، ومَرطولس (¬2)، وبتْيونِس، ودرْدُونِس، وكفاشْطَيطوس، ومَنطُواسَبْيُوس؛ وهو الراعي، والكلب اسمه قطمير، دون الكردي وفوق القبطي (¬3). ¬
فائدة خامسة عشرة
قال أبو شبيل (¬1): بلغني أنه من كتب هذه الأسماء في شيء - يعني: أسماء أهل أصحاب الكهف واسم كلبهم - وطرحه في حريق، سكن الحريق (¬2). قلت: وهذه فضيلة أخرى لهذا الكلب بسبب عشرة الصالحين، وهي أنه ضم اسمه إلى أسمائهم في هذه الخصوصية العظيمة. * فائِدَةٌ خامِسَةَ عَشْرَةَ: روى الإمام أحمد، والبخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بَيْنَما أَيُّوبُ عَلَيهِ السَّلامُ يَغْتَسِلُ عُرْياناً خَرَّ عَلَيهِ رِجْلُ (¬3) جَرادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحثِي فِي ثَوبِهِ، فَناداهُ اللهُ تَعالَى: أَلَمْ أَكُ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرى؟ قالَ: بَلى يا رَبِّ! وَلَكِنْ لا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ" (¬4). وصحح الحاكم من حديثه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَمَّا عافَى اللهُ أَيُّوبَ أَمْطَرَ عَلَيهِ جَراداً مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيَجْعَلُهُ فِي ثَوبِهِ، فَقِيلَ لَهُ: يا أَيُّوبُ أَما تَشْبَعُ؟ قالَ: وَمَنْ يَشْبَعُ مِنْ فَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ؟ " (¬5). ¬
وذكر الدميري: أن الشافعي رضي الله تعالى عنه قال في هذا الحديث: نِعمَ المالُ الصالح مع العبد الصالح (¬1). قلت: هو حديث أخرجه الإمام أحمد، والحاكم - وصححه - عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نِعْمَ الْمالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ" (¬2). وفيه دليل على أنه لا منافاة بين الصلاح والمال إذا كان مأخوذاً من حقه، موضوعاً في محله، وقد طلب سليمان بن داود عليهما السلام من الله تعالى ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فلما أوتيه طلب من الله تعالى أن يُوزِعه للشكر، ويدخله في الصالحين، فقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] ولولا أن سليمان عليه السلام علم أن الملك وكثرة الأموال وعروض الدنيا لا يمنع من أن يكون الرجل صالحاً لم يسأل الله تعالى أن يدخله في الصالحين؛ بل الصالح الغني من أقوى الصلحاء لاستقامة قلبه مع الغنى على تقوى الله تعالى. ولقد قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: ابتلينا بفتنة الضراء ¬
فصبرنا، وابتلينا بفتنة السراء فلم نصبر (¬1). وروى أبو نعيم عن أحمد بن أبي الحواري رحمه الله تعالى قال: قلت لأبي سليمان رحمه الله تعالى: كان عثمان بن عفان، وعبد الرحمن ابن عوف موسرين. قال: اسكت؛ إنما كان عثمان وعبد الرحمن خازنين من خزان الله في أرضه، ينفقان في وجوه الخير (¬2). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن يحيى بن أبي كثير قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- من سعد بن عبادة كل يوم جفنة تدور معه حيثما دار من نسائه. قال: وكان يقول في دعائه: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي مالاً؛ فَإِنَّهُ لا يُصْلحُ الفِعالَ إِلاَّ الْمالُ (¬3). قلت: وينبغي للغني إذا أراد أن يكون من الصالحين أن يقتدي بالأغنياء الصالحين كسليمان، ويوسف عليهما السلام، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما؛ فإن سليمان عليه السلام كان يطبخ في مطبخه جِفان الطعام الطيِّب، فإذا أفطر أفطر على خبز ¬
الشعير وجريش الملح (¬1). وكان يوسف عليه السلام يجوع وبيده خزائن الأرض، فيقال له في ذلك، فيقول: أخاف أن أشبع فأنسى الجائعين (¬2). وكان عثمان -رضي الله عنه- يطعم الناس طعام الإمارة، ويفطر على خبز الشعير والخل والزيت، واشترى بئر رومة بعشرين ألفاً، وحمل جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرساً، وتصدق بالألوف (¬3). قال عبد الرحمن بن سمرة رضي الله تعالى عنه: كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جيش العسرة، فجاء عثمان رضي الله تعالى عنه بألف دينار، فنثرها بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم ولى، فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وهو يقلب الدنانير، وهو يقول: "ما يَضُرُّ عُثمانَ ما فَعَلَ بَعدَ هَذا اليَومِ". رواه أبو نعيم، وغيره (¬4). وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه كثيرَ الصدقات؛ شاطرَ الفقراء على ماله مرات. ¬
قال المِسور بن مَخرمة رضي الله تعالى عنه: باع عبد الرحمن بن عوف أرضاً له من عثمان بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك المال بين بني زهرة وفقراء المسلمين وأمهات المؤمنين، وبعث إلى عائشة رضي الله تعالى عنها بمال من ذلك المال، فقالت عائشة: أما إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يَحْنُو عَلَيْكُنَّ بَعْدِي إِلاَّ الصَّالِحُونَ"؛ سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة (¬1). وقال أبو هريرة (¬2) رضي الله تعالى عنه: تصدق عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه على عهد رسول الله بشطر ماله أربع مرات (¬3)، ثم تصدق بأربعين ألفاً (¬4)، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمس مئة فرس في سبيل الله، ثم حمل على ألف وخمس مئة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة (¬5). وقال الحسن رحمه الله تعالى: باع طلحة أرضاً بسبع مئة ألف، ¬
فبات ذلك المال عنده ليلة، فبات أرِقاً من مخافة ذلك المال، حتى أصبح ففَرَّقه (¬1). وقالت سعدى بنت عوف امرأة طلحة رضي الله تعالى عنه وعنها: لقد تصدق طلحة يوماً بمئة ألف (¬2)، ثم حبسه عن الرواح إلى المسجد أن جمعت له بين طرفي ثوبه (¬3). وقالت أيضاً: كانت غلة طلحة كل يوم ألفاً وافياً، وكان يسمى طلحة الفياض (¬4). وقال سعيد بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: كان للزبير بن العوام -رضي الله عنه- ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، وكان يقسمه كل ليلة، ثم يقوم إلى منزله وليس معه شيء منه (¬5). روى ذلك كله أبو نعيم. وفي نفس الأمر ما كان غنى هؤلاء إلا حجة على جميع الأغنياء الذين لم ينفقوا أموالهم. ¬
وروى أبو نعيم عن مجاهد قال: يؤتى بثلاثة نفر يوم القيامة؛ بالغني، والمريض، والعبد المملوك، فيقول سبحانه وتعالى للغني: ما منعك من عبادتي؟ فيقول: أكثرت لي من المال فطغيت. فيؤتى بسليمان بن داود في ملكه، فيقال له: أنت كنت أشد شغلاً أم هذا؟ قال: بل هذا. قال: فإن هذا لم يمنعه شغله عن عبادتي. قال: ثم يؤتى بالمريض، فيقول: ما منعك من عبادتي؟ قال: رب أشغلت علي جسدي. قال: فيؤتى بأيوب عليه السلام في ضره؛ قال له: أنت كنت أشد ضراً أم هذا؟ قال: [فيقول: لا، بل هذا. قال: ] فإن هذا لم يمنعه ذلك أن عبدني. قال: ثم يؤتى بالمملوك، فيقول: ما منعك من عبادتي؟ فيقول: رب! فضلت علي أرباباً يملكوني. فيؤتى بيوسف الصديق عليه السلام في عبوديته، فيقال: أنت أشد عبودية أم هذا؟ قال: بل هذا.
قال: فإن هذا لم يشغله شيء عن عبادتي (¬1). قلت: وفي قوله في يوسف: لم يشغله شيء عن عبادتي، ولم يقل: لم تشغله العبودية إشارةٌ لطيفة؛ فإن يوسف ابتلي بالضراء، فألقي في الجُبِّ، واستُرِقَّ، وبيع بثمن بخس، وامتحن بامرأة العزيز، وبالنسوة، وبالتهمة، وبالسجن سنين، ثم ابتلي بالسراء، فاحتاج إليه الملك في تأويل الرؤيا، وطُلب إليها فتعزز حتى استنصف، ثم ملك خزائن الأرض، ثم تزوج امرأة العزيز، ثم جمع بينه وبين أبيه وإخوته، فلم يمنعه شيء من ذلك من عبادة ربه. ثم إن للأثر (¬2) عن مجاهد حكم المرفوع؛ لأن مثل ذلك لا يقال رأياً. وقد رواه الإمام أحمد في "الزهد" مفرقاً، ولفظه: "يُجاءُ يَومَ القِيامَةِ بِثَلاثَةٍ: الغَنِيِّ وَالْمَمْلُوكِ وَالْمَرِيضِ، فَيُؤْتَى بِالغَنِيِّ فَيَقولُ: ما مَنَعَكَ أَنْ تَكونَ عَبداً تَقِيًّا؟ فَيَقولُ: رَبِّ! كَثَّرْتَ لِي مِنَ الْمالِ، فَيَذْكُرُ ما ابْتُلِيَ بِهِ. قالَ: فَيُجاءُ بِسُلَيمانَ بْنِ داوُدَ عَلَيْهِما السَّلامُ فِي مُلْكِهِ، فَيُقالُ: كُنتَ (¬3) أَغْنَى أَمْ هَذا؟ ¬
فَيَقولُ: بَلْ هَذا. قالَ: فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ عَبَدَنِي" (¬1). فالمال إذا مالَ بصاحبه عن التقوى كان وبالاً عليه في الآخرة، وأقيمت عليه الحجة يوم القيامة بصالحي الأغنياء، وإن استقام صاحبه ولم يمل معه كان زيادة في مقام صاحبه. على أن الاستقامة مع الغنى (¬2) أمر عزيز، ومن ثم قال عيسى بن مريم عليهما السلام: بحق أقول لكم: إن أكناف السماء لخالية من الأغنياء؛ أي: من ذكرهم، ومن ذكر أعمالهم. قال: ولَدخول جَملٍ في سَمِّ الخياط أيسر من دخول غني الجنة. رواه الإمام أحمد في "الزهد" (¬3). وروى ابنه في "زوائده" عن وهب أيضاً قال: مر رجل عابد على رجل عابد، فقال: مالك؟ قال: أعجب من فلان؛ إنه كان قد بلغ من عبادته ومالت به الدنيا! فقال: لا تعجب ممن تميل به، ولكن اعجب ممن استقام (¬4). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ذِئْبانِ جائِعانِ أُرْسِلا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَها مِنْ ¬
فائدة سادسة عشرة
حِرصِ الْمَرْءِ عَلى الْمالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ". رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه (¬1). وأخرجه الخطيب في "تالي التلخيص" من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "ما ذِئْبانِ ضارِيانِ فِي زَرِيبةٍ بِأَسْرَعَ فِيها فَساداً مِنْ حُبِّ الشَّرَفِ وَالْمالِ فِي دِينِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ" (¬2). فكما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مدح المال الصالح للرجل الصالح؛ بين ما يخشى على الرجل الصالح من المال والشرف، ومن ثم لا يجوز إطلاق مدح المال ولا إطلاق ذمه، بل يعود ذلك إلى ما يؤول أمره إليه من النفع والضرر، أو باعتبار التصرف فيه إحساناً وإساءةً في الكسب والصرف. * فائِدَةٌ سادِسَةَ عَشْرَةَ: العبد الصالح أيُّ حاليه كان عليه من فقر أو غناء، أو شدة أو رخاء، أو مرض أو صحة، إلى غير ذلك؛ فإن حاله ذلك هو الذي يتم به صلاحه لأنه في كل حال يتأسى فيه بما أرشد إليه فيه من شكر أو صبر، ومن ثم لا يكون الصالح على حال إلا والأكمل في حقه أن لا يتمنى غيره؛ فإن الخيرة ليست له، بل لله تعالى فيه، فالاختيار أن يختار ¬
ما قضاه الواحد القهار، الكريم الغفار. وقد روى ابن أبي الدنيا في "كتاب الأولياء"، والحكيم الترمذي، وأبو نعيم، والبيهقي في "الأسماء والصفات"، وابن عساكر عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، عن جبريل عليه السلام، عن الله عَزَّ وَجَلْ قال: "يَقُولُ اللهُ تَعالَى: مَنْ أَهانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بارَزَنِي بِالْمُحارَبَةِ، وَإِنِّي لأَغَضْبُ لأَوْلِيائِي كَما يَغْضَبُ اللَّيْثُ الْحَرِبُ. وَما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنُ بِمِثْلِ أَداءِ ما افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَما يَزالُ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعاً وَبَصَراً، وَيَداً وَمُؤيِّداً؛ إِنْ دَعانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ. وَما تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِيَ فِي قَبْضِ رُوحِ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنَ؛ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَساءَتَهُ، وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. وَإِنَّ مِنْ عِبادِيَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ يَسْأَلُنِي البابَ مِنَ العِبادَةِ فَأَكُفَّهُ عَنهُ أَنْ لا يَدْخُلَ عَلَيْهِ عُجْبٌ فَيُفْسِدَهُ ذَلِكَ. وَإِنَ مِنْ عِبادِيَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لا يُصْلِحُ إيْمانَهُ إِلاَّ الغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ. [وَإِنَ مِنْ عِبادِيَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لا يُصلِحُ إِيْمانَهُ إِلَّا الفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ]. [وَإِنَّ مِنْ عِبادِيَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لا يُصْلِحُ إِيْمانَهُ إِلَّا الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ].
فائدة سابعة عشرة
وَإِنَّ مِنْ عِبادِيَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لا يُصْلِحُ إِيْمانَهُ (¬1) إِلاَّ السَّقَمُ، وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ أَنِّي أُدَبِّرُ عِبادِيَ بِعِلْمِي بِقُلُوبِهِم؛ إِنيِّ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (¬2). وفي "حلية أبي نعيم" عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى: أنه قرأ في بعض الكتب: إن الله سبحانه يقول: يا ابن آدم! أطعني فيما أمرتك، ولا تعلمني بما يصلحك؛ إني عالم بخلقي (¬3). واشتهر بلفظ: أطعني فيما أمرتك؛ فما أعلمني بما يصلحك. * فائِدَةٌ سابِعَةَ عَشْرَةَ: قد علم من قول الله تعالى في حديث أنس رضي الله تعالى عنه المذكور آنفاً: "إِنِّي أُدَبِّرُ عِبادِيَ بِعِلْمِي بِقُلُوبِهم" أن العبرة بصلاح القلب، ومن ثم قال: "وَإِنَّ مِنْ عِبادِي مَنْ لا يُصْلِحُ إِيْمانَهُ إِلاَّ كَذا". والإيمان محله القلب؛ فصلاحه وفساده في القلب. ¬
ولقد تقدم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَة، مَتَى صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَمَتَى فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُهُ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ". وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كانَ لَهُ قَلبٌ صالِحٌ تَحَنَّنَ اللهُ عَلَيْهِ". رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (¬1). وروى فيه عن يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى قال: قال عيسى عليه السلام: بالقلوب الصالحة يعمر الله الأرض، وبها يخرب الأرض إذا كانت غير ذلك؛ أي: غير صالحة (¬2). والمراد بالقلوب الصالحة أن تصلح لله تعالى، ولذكره وحبه، وإرادة وجهه بكل عمل صالح، وإذا كان القلب كذلك صلحت الجوارح، وظهرت الخدمة عليها والطاعة، واستكمل العبد الصلاح. ولسمنون المحب - وأجاد فيما شاد رحمه الله تعالى -: [من الطويل] وَكانَ فُؤادِي خالِياً قَبْلَ حُبِّكُمْ ... وَكانَ بِذِكْرِ الْخَلْقِ يَلْهُو وَيمْرَحُ فَلَمَّا دَعا قَلْبِي هَواكَ أَجابَهُ ... فَلَسْتُ أُراهُ عَنْ فِنائِكَ يَبْرَحُ ¬
تنبيه
رُمِيتُ بِبَيْنٍ مِنْكَ إِنْ كُنتُ كاذِباً ... وإنْ كُنتُ فِي الدُّنْيا بِغَيْرِكَ أَفْرَحُ وإنْ كانَ شَيْءٌ فِي البِلادِ بِأَسْرِها ... إِذا غِبْتَ عَنْ عَيْنِي لِعَيْنِيَ يَمْلُحُ فَإِنْ شِئْتَ واصِلْنِي وَإِنْ شِئْتَ لا تَصِلْ ... فَلَسْتُ أَرى قَلْبِي لِغَيْرِكَ يَصْلُحُ (¬1) * تَنبِيهٌ: قال ولي الله تعالى الشيخ أرسلان الدمشقي في "رسالته": ما صلحْتَ لنا ما دام فيك بقية لسوانا، فإذا حَوَّلْتَ السوى عنك أفنيناك عنك، فصلحْتَ لنا، فأودعناك سرَّنا. أشار بذلك إلى مقام الإخلاص بقوله: ما صلحت لنا؛ أي: ما صلح قلبك لنا. ما دام فيك بقية لسوانا؛ أي: ما دام لك في عمل من أعمالك بقية لسوانا؛ من إرادة مَحمدة عليه، أو نظر إليه، أو غير ذلك من أنواع الرياء؛ فإن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، وفي الحديث: "يَقُولُ اللهُ تَعالَى: أَنا أَغْنَى الأَغْنِياءِ عَنِ الشِّرْكِ" (¬2). ¬
فائدة ثامنة عشرة
وليس المراد بكلام الشيخ أرسلان أن لا يكون في العبد حركة في شيء من المباحات؛ فإن الأنبياء فمن دونهم ليس لهم غنى عن ذلك. وقد نَظَمْتُ "الرسالة الأرسلانية" في أرجوزة، وقلت في معنى هذا الكلام: [من الرجز] ما أَنْتَ صالِحٌ لَنا ما دامَ فِيكْ ... بَقِيَّةٌ لِمَنْ سِوانا تَقْتَضِيكْ فَخَلَّ عَنِ السِّوى وَحَوِّلْ عَنْكا ... نُفْنِكَ عَنْكَ ننْتَقِذْكَ مِنْكا فَعُدْتَ صالِحاً لَنا فَنُوْدِعَكْ ... مِنْ سِرِّنا شَيئاً بِهِ نُمَتِّعَكْ * فائِدَةٌ ثامِنَةَ عَشْرَةَ: روى أبو نعيم عن وهب بن منبه قال: الويل لكم إذا سماكم الناس صالحين (¬1)! قلت: وفي معناه وجوه: أحدها: أن العبد إذا أثنى الناس عليه بالصلاح فقد يسكن لهذه التسمية، ويعتقد الكمال في نفسه والصلاح، وقد سبق أن من تمام الصلاح الإزراء على النفس، واعتقاد العيب فيها والنقص. ¬
والثاني: أن يكتفي بهذه الشهرة، ويترك الاجتهاد في الطاعة، و (¬1) يسترسل في المعاصي؛ فيهلك. والثالث: أن تحمله هذه التسمية والشهرة على تكليف الناس إكرامه وتعظيمه، والقيام بخدمته حتى كأنه يرى ذلك حقاً عليهم لازماً، فإن قصروا فيه مقتهم، وسبَّهم وطعن عليهم؛ وهذا هلاك أيضاً. والرابع: أن يعجب بصلاحه، ويحتج على دعواه وعجبه به لهذه الشهرة، ويحتقر من هو دونه. والخامس: أن يفتن بهذه الشهرة، فيقف عند حاله، ولا يفتش عن عيوب نفسه، ويغفل عن تهذيبها حتى يخرج عن سمت الصالحين. ومن ثم كان بعض السلف إذا أثنى عليه الناس يقول: اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، ولا تفتني بما يقولون، ولا تؤاخذني بما لا يعلمون (¬2). وأجاد أبو العتاهية في قوله: [من الوافر] يَظُنُّ النَّاسُ بِي خَيْراً وإنِّي ... لَشَرُّ النَّاسِ إِنْ لَمْ تَعْفُ عَنِّي (¬3) ¬
فائدة تاسعة عشرة
* فائِدَةٌ تاسِعَةَ عَشْرَةَ: روى أبو نعيم عن سهل بن عبد الله التُّستَري رحمه الله تعالى قال: يظهر في الناس - يعني: آخر الزمان - أشياء؛ ينزع منهم الخشوع بتركهم الورع، ويذهب منهم العلم بإظهارهم الكلام، ويضيعون الفرائض باجتهادهم في النوافل، ويصير نقض العهود وتضييع الأمانة وارتفاعها من بينهم علماً، ويرفع من بين المنسوبين إلى الصلاح في آخر الزمان علم الخشية وعلم الورع وعلم المراقبة، فيكون بدل علم الخشية وساوس الدنيا، وبدل علم الورع وساوس العدو، وبدل علم المراقبة حديث النفس ووسواسها. قيل: ولم ذلك يا أبا محمد؟ قال: يظهر في القراء دعوى التوكل والحب والمقامات؛ ترى أحدهم يصوم ويصلي عشرين سنة وهو يأكل الربا، ولا يحفظ لسانه من الغيبة، ولا عينه وجوارحه مما نهى الله عنه (¬1). وكان السَّري السَّقَطي رحمه الله تعالى يبكي ويقول: قد توعَّرت طريق الصالحين، وقل فيها السالكون، وهجرت فيها الأعمال، وقل فيها الراغبون، ورفض الحق، ودرس هذا الأمر، فلا أراه إلا في لسان كل بطال، ينطق بالحكمة ويفارق الأعمال، قد افترش الرُّخَص، وتمهد ¬
فائدة هي تمام عشرين فائدة
التأويلات، واعتل بذلك العاصون (¬1). ثم يقول: واغماه من فتنة العلماء! واكرباه من حيرة الأدلاء (¬2)! وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار: أنه سمع عبد الله بن غالب الحذاء يقول في دعائه: اللهم إني نشكو إليك سفه أحلامنا، ونقص علمنا، واقتراب آجالنا، وذهاب الصالحين منا (¬3). وروى أبو نعيم عن عبد الرحمن بن الوليد قال: سمعت ابن حَلْبَس - يعني: يونس بن ميسرة بن حَلْبَس - ينشد هذا البيت عند الموت: [من الكامل] ذَهَبَ الرِّجالُ الصَّالِحُونَ وَأُخِّرَتْ ... نَتَنُ الرِّجالِ لِذا الزَّمانِ الْمُنْتِنِ (¬4) * فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ عِشرينَ فائِدَةً: روى الإمام أحمد في "الزهد" عن يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى قال: قال الحواريون: يا مسيح الله! انظر إلى بيت الله ما أحسنه! ¬
قال: آمين آمين، بحق أقول لكم: لا يترك الله من هذا المسجد حجراً قائماً على حجر إلا أهلكه بذنوب أهله، إن الله لا يصنع بالذهب ولا بالفضة ولا بهذه الحجارة شيئاً، إنما أحب إلى الله منها القلوب الصالحة؛ بها يعمر الله الأرض، ويها يخرب الأرض إذا كانت على غير ذلك (¬1). وروى الطبراني، والبيهقي في "سننه" عن مَسافع الديلي (¬2) رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَوْلا عِبادٌ رُكَّعٌ، وَصِبْيَةٌ رُضَّعٌ، وَبَهائِمُ رُتَّعٌ لَصُبَّ عَلَيْكُمُ العَذابُ صَبًّا، ثُمَّ رُصَّ رَصًّا" (¬3). وروى ابن عدي في "كامله"، وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذا أَرادَ اللهُ بِقَومٍ عاهَةً نظَرَ إِلَى أَهْلِ الْمَساجِدِ فَصَرَفَهُ عَنْهُمْ" (¬4). ¬
وروى هو وابن جرير - بإسناد ضعيف - عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ لَيَدْفَعُ بْالْمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِئَةِ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرانِهِ البَلاءَ". ثم قرأ ابن عمر: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] (¬1). وروى ابن جرير عن مجاهد: أنه قال في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]؛ يقول: لولا دفاع الله بالبر عن الفاجر لفسدت الأرض بهلاك أهلها (¬2). وعن أبي مسلم قال: سمعت علياً رضي الله تعالى عنه [يقول]: لولا بقية من المسلمين فيكم لهلكتم؛ أي: لولا بقية صالحة كاملة الإسلام باقية فيكم لهلكتم (¬3). وفي قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] إشارة إلى أن الفضل له سبحانه حيث وفق للناس من يصلح ليدفع بهم البلاء عنهم جميعاً؛ فهو الذي أصلح الصالحين وأصلح بهم. وقال الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} ¬
{وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]. روى ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40]؛ قال: صلوات أهل الإسلام؛ تنقطع إذا دخل عليهم العدو، وتنقطع العبادة من المساجد (¬1). قلت: وفي قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] إشارة إلى أن الله تعالى إنما يدفع العدو عن المسلمين بمن ينصره، وهم الصالحون كما يدل عليه إبداله (¬2) من قوله: {مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] قولَه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ. . .} [الحج: 41] إلى آخره، وهذه صفة الصالحين، وبهم ينصر الله ويدفع. وقد روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله! الرجل يكون حامية القوم، أيكون سهمه وسهم غيره سواء؟ قال: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ابْنَ أُمِّ سَعْدٍ! وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ ¬
إِلاَّ بِضُعَفائِكُمْ؟ " (¬1). وأخرجه البخاري عن مصعب بن سعد قال: رأى سعدٌ أن له فضلاً على من دونه من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفائِكُمْ؟ " (¬2). وأخرجه النسائي، وغيره، ولفظه: "إِنَّما تُنْصَرُ هَذهِ الأُمَّةُ بِضَعَفَتِها؛ بِدُعائِهِمْ، وَصَلاتِهِمْ، وَإِخْلاصِهِمْ" (¬3). وروى أبو نعيم عن مخلد قال: كان محمد بن واسع رحمه الله تعالى مع قتيبة بن مسلم في جيش، وكان صاحب خراسان، وكانت الترك خرجت إليهم، فبعث إلى المسجد ينظر من فيه، فقيل له: ليس فيه إلا محمد بن واسع رافعاً أصبعه. قال قتيبة: أصبعه تلك أحب إليَّ من ثلاثين ألف عِنان (¬4). ولم تزل عقلاء السلاطين يستمدون النصر بدعاء الصالحين. واشتهر أن السلطان نور الدين الشهيد كان يكرم العلماء والصلحاء والفقراء ويقدمهم، فقيل له: تكرم هؤلاء، وإذا قاتلك العدو كانوا في فرشهم؟ ¬
تنبيه
فقال: إنهم يقاتلون معنا بسهام نافذة وهم في فرشهم؛ يعني: الدعاء. وما أحسن ما قيل: [من الوافر] أتهْزَأُ بِالدُّعاءِ وَتَزْدَرِيهِ ... وَما يُدْرِيكَ ما صَنَعَ الدُّعاءُ سِهامُ اللَّيْلِ لا تُخْطِي وَلَكِنْ ... لَها أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ انْقِضاءُ (¬1) * تَنْبِيهٌ: كما أن الله تعالى يحفظ الأرض من الفساد، ويغيث العباد ويرزقهم وينصرهم بالصالحين؛ كذلك تفسد الأرض وتخذل الخلق وتقحط بفساد المفسدين وإصرار المصرين. قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. قال ابن عباس في تفسير الفساد في الآية: نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا (¬2). وقال السدي في قوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]: بما عملوا من المعاصي (¬3). رواه (¬4) ابن أبي حاتم. ¬
قلت: لعل المراد في الآية: [إن شاء الله] (¬1): أن ظهور الفساد في البر والبحر بسبب ما كسبت أيدي الناس، فأذقناهم وبالَ بعض ما عملوه من المعاصي في جملة الناس لعلهم يرجعون عن العصيان، فلا يتعدى ضررهم من بعد ذلك إلى غيرهم. وروى ابن أبي شيبة، وابن جرير عن الحسن في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]: يرجع من بعدهم (¬2). وإنما عبر بهم عن من بعدهم؛ لأن الناس من جنس واحد، وفي عقوبة بعض العاصين تأديب لهم وتهذيب لمن يرى عقوبتهم، أو يسمع بها مِن أهل زمانهم، أو من بعدهم. وقال مجاهد في قوله: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]: إن البهائم إذا اشتدت عليهم السنة قالت: هذا من أجل عصاة بني آدم؛ لعن الله عصاة بني آدم (¬3). وقال عكرمة: يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقارب؛ يقولون: مُنِعنا القطر بذنوب بني آدم. رواه ابن جرير (¬4). ¬
فائدة حادية وعشرون
فتأمل فيما بين الصالحين والمفسدين من البون؛ هؤلاء يُنصر الناس بهم ويرزقون ويمطرون، وهؤلاء يُخذلون بهم ويقحطون ويهلكون، ولو لم يكن للصالحين إلا هذه الفضيلة، وللمفسدين إلا هذه الرذيلة، لكفى! * فائِدَةٌ حادِيَةٌ وِعِشرونَ: روى مسلم، وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَنْقَطِعُ عَمَلُ ابْنِ آدَمَ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِه، وَوَلَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ " (¬1). ووردت أحاديث أخر في أشياء غير هذه الثلاث لا تنقطع أيضاً بعد الموت؛ نبهنا عليها في غير هذا الكتاب. وقلت عاقداً لهذا الحديث: [من مجزوء الرجز] قالَ النَّبِيُّ العَرَبِي ... الْمُصْطَفى الْمُشَفَّعُ عَلَيْهِ مَعْ صَلاتِنا ... سَلامُنا الْمُضَوَّعُ أَعْمالُنا بَعْدَ الْمَما ... تِ كُلُّها تَنْقَطِعُ إِلاَّ إِذا كانَ لَنا ... عِلْمٌ بِهِ يُنْتفَعُ أَوْ صالِحٌ مِنَ الذَّرا ... رِي بِالدُّعاءِ يَضْرَعُ أَوْ صَدَقاتٌ بَعْدَنا ... تَبْقَى لِمَنْ يَصْطَنِعُ ¬
فائدة ثانية وعشرون
وروى الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها؛ زِيادَةُ الْعُمْرِ ذِرِّيَّةٌ صالِحَةٌ يُرْزَقُها العَبْدُ، يَدْعُونَ لَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتهِ يَلْحَقُهُ دُعاؤُهُمْ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: يرفع المؤمن بعد موته درجة، فيقول: يا رب! أي شيء هذا؟ فيقول: ولدك استغفر لك (¬2). ورواه ابن أبي شيبة مرفوعاً - بإسناد حسن - ولفظه: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيُرْفَعُ لَهُ الدَرَجَةَ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يا رَبِّ! أَنِّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفارِ وَلَدِكَ" (¬3). * فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وَعِشرونَ: روى مسلم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -[قال] وهو على المنبر: "إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمارَتِهِ - يريد أسامة بن زيد؛ أي: ¬
فائدة ثالثة وعشرون
وكان أمره على بعث فطعن الناس في إمرته كما في رواية أخرى - فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ؛ وَايْمُ اللهِ! إِنْ كانَ لَخَلِيقاً لَها. وَايْمُ اللهِ! إِنْ كانَ لأَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ. وَايْمُ اللهِ! إِنَّ هَذا لَخَلِيقٌ لَها؛ يريد أسامة. وَايْمُ اللهِ! إِنْ كانَ لأَحَبَّهَمُ إِلَيَّ مِنْ بَعْدهِ، فَأُوْصِيكُمْ بِهِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ صالِحِيكُمْ" (¬1). علل وصيته لهم فيه لكونه من صالحيهم، فدل ذلك على أنه يستوصى في الصالحين ما لا يستوصى في غيرهم؛ سواء في ذلك الأحرار منهم والأرقاء، وسواء في الأحرار ذوي الأنساب والموالي. وفي الحديث دليل أيضاً على أنه يستحب للإمام ونحوه إذا أمَّر أحداً على قوم أن يكون من أصلحهم للإمارة، و (¬2) أتقاهم لله تعالى، وأحبهم لله تعالى ورسوله. * فائِدَةٌ ثالِثَةٌ وَعِشرونَ: روى سعيد بن منصور في "سننه"، والخطيب البغدادي في "تاريخه"، والديلمي في "مسند الفردوس" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِنْ أَحَدٍ أَعْظَمُ أَجْراً مِنْ وَزِيرٍ صالِحٍ مَعَ إِمامٍ؛ يَأْمُرُهُ ¬
بِذاتِ اللهِ فَيُطِيعُهُ" (¬1). وروى أبو داود - بإسناد حسن - والبيهقي عنها رضي الله تعالى عنها قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذا أَرادَ اللهُ بِالأَمِيرِ خَيْراً جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ؛ إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وإنْ ذَكَرَ أَعانَهُ. وَإذا أَرادَ غَيرَ ذَلِكَ جَعَلَ وَزِيرَ سوءٍ؛ إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ, إنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ" (¬2). قلت: المراد بوزير الصدق: الوزير الصالح؛ لأن الصدق يهدي إلى سائر أعمال البر والصلاح. وقوله: "إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَه"؛ أي: ذكره بالله تعالى، وبأمره، وثوابه وعقابه، وجنته وناره. وإن ذكر الله تعالى أعانه على طاعته سبحانه. ومما يدل على استحباب طلب الوزير الصالح للذكر والتذكير قول موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 29 - 34]. قال عروة: سمعَتْ عائشة رضي الله تعالى عنها رجلاً يقول: إني ¬
فائدة رابعة وعشرون
لا أدري أي أخ في الدنيا كان أنفعَ لأخيه من موسى حين سأل لأخيه النبوة؟ فقالت: صدق والله. رواه ابن أبي حاتم (¬1). وفيه: أن الأخ الصالح مِن تَمام النِّعمة على أخيه كالوالد الصالح والولد الصالح. أين موسى ونفعُه لأخيه عليه السلام من قابيلَ وإضراره بأخيه هابيلَ عليه السلام؟ فقابيل سلفُ كل أخ شقيٍّ فاسق، وموسى عليه السلام سلفُ كل أخ سعيد صالح. وكذلك آزرُ سلفُ كل والد فاسق فاجر لولد صالح، ونوح عليه السلام سلفٌ لكل والد صالح لولد فاجر. * فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَعِشرونَ: روى الحافظ أبو عمر بن عبد البر، وأبو نعيم؛ كلاهما في "فضل العلم" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صِنْفانِ مِنْ أُمَّتِي إِذا صَلُحُوا صَلُحَ النَّاسُ؛ الأُمَراءُ وَالفُقَهاءُ" (¬2). ¬
ورواه أبو نعيم في "الحلية"، ولفظه: "إِذا صَلُحا صَلُحَ النَّاسُ وإِذا فَسَدا فَسَدَ النَّاسُ؛ العُلَماءُ وَالأُمَراءُ" (¬1). وروى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَسُبُّوا الأَئِمَّةَ وَادْعُوا لَهُمْ بِالصَّلاحِ؛ فَإِنَّ صَلاحَهُمْ لَكُمْ صَلاحٌ" (¬2). وروى أبو الشيخ في "العظمة"، وابن عدي في "الكامل"، وأبو نعيم في "الطب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العَينانِ دَلِيلانِ، وَالأُذُنانِ قمعانِ، وَاللِّسانُ ترجُمانٌ، وَاليَدانِ جَناحانِ، وَالكَبِدُ رَحْمَةٌ، وَالطِّحالُ ضَحِكٌ، وَالرِّئَةُ نَفَسٌ، وَالكِلْيَتَانِ مَكْرٌ، وَالقَلْبُ مَلِكٌ؛ فَإِذا صَلُحَ الْمَلِكُ صَلُحَتْ رَعِيَّتُهُ، وإِذا فَسَدَ الْمَلِكُ فَسَدَتْ رَعِيَّتُهُ" (¬3). ¬
فائدة خامسة وعشرون
وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى قال: الرعية تصلح بصلاح الوالي، وتفسد بفساده (¬1). * فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَعِشرُونَ: لما لعن الله تعالى علماء السوء استثنى منهم مَنْ راجع الصلاح والإصلاح فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159 - 160]. قال عطاء في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة: 160]؛ قال: ذلك كفارة له. رواه عبد بن حميد (¬2). قلت: وإذا راجع العالم دينه، وصلح وأصلح، وبَيَّن ما كتم؛ فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، يساوي العلماء الصالحين فيما لهم؛ فإن الملائكة وسائر الخلق تستغفر لهم كما سيأتي. فكان تسخيرُ اللهِ تعالى الخلق في الاستغفار للعلماء الصالحين كالمقابل لبعثهم على لعن العلماء بالسوء. * فائِدَةٌ سادِسَةٌ وَعِشرُونَ: العلماء الصالحون أدلة الخلق وهداتهم؛ فإذا تاه الدليل وحار الهادي فكيف حال المستدل والمهتدي؟ ¬
فائدة سابعة وعشرون
وهذا يوضح معنى حديث ابن عباس المتقدم آنفاً. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن سفيان قال: قال عيسى عليه السلام: إنما أعلمكم لتعلموا، ليس لتعجبوا؛ يا ملحَ الأرض! لا تفسدوا؛ فإن الشيء إذا فسد إنما يصلح بالملح، وإن الملح إذا فسد لم يصلحه شيء (¬1). وأنشد بعض المتقدمين: [من الرجز] يا عُلَماءَ النَّاسِ (¬2) يا مِلْحَ البَلَد ... ما يُصْلِحُ الْمِلْحَ إِذا الْمِلْحُ فَسَد (¬3) * فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَعِشرُونَ: قد سبق أن الصالحين إنما أصلحهم الله تعالى، وأنه إنما يطلب الصلاح بتوفيق الله إليه. ومن الأدعية النافعة لهذا المطلوب: ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِيَ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيايَ الَّتِي فِيها مَعاشِي، وَأَصْلحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيها مَعادِي، وَاجْعَلِ الْحَياةَ زِيادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ راحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ" (¬4). ¬
ولا شك أن من أصلح الله له دينه ودنياه وآخرته فقد استكمل الصلاح، وظفر بالفلاح، وتمت سعادته. وقد جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة رضي الله تعالى عنها مبسوط هذا الدعاء في كلمة واحدة؛ فروى النسائي في "عمل اليوم والليلة"، والحاكم -وصححه على شرطهما- والبيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "يا فاطِمَةُ! ما يَمْنَعُكِ أَنْ تَقُولي: يا حَيُّ يا قَيُّومُ! بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، لا تَكِلْنِي إِلَى نفسِيَ طَرْفَةَ عَينٍ، وَأَصْلحْ لِي شَأْنِيَ كُلَّهُ" (¬1). ورواه أبو بكر بن السُّني عنه، ولفظه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة رضي الله تعالى عنها: "ما يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي ما أُوْصِيكِ، تَقُولي إِذا أَصْبَحْتِ وَإِذا أَمْسَيْتِ: يا حَىُّ يا قَيُّومُ! بِكَ أَسْتَغِيثُ؛ فَأَصْلِحْ لِي شَأْنِيَ كُلَّهُ (¬2)، وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِيَ طَرْفَةَ عَينٍ (¬3). وروى الخطيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها رضي الله تعالى عنها: "يا فاطِمَةُ! ما لِيَ لا أَسْمَعُكِ بِالغَداةِ وَالعَشِيِّ تَقُولينَ: يا حَيُّ يا قَيُّومُ! بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ؛ أَصْلِحْ لِي شَأْنِيَ كُلَّهُ، ¬
فائدة ثامنة وعشرون
وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي" (¬1). * فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَعِشرُونَ: روى الإمام أحمد في "الزهد" عن بشير الدمشقي قال: قيل لناحية من الأرض: إن عيسى بن مريم عليهما السلام مارٌّ بكم. قال: فنزلوا من الغيران (¬2)، والجزائر، وأظلة الأشجار، ورؤوس الجبال. قال: فمر بهم، فقال: اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا؛ ثلاثاً. قالوا: يا روح الله! إنا رجونا أن نسمع منك اليوم موعظة، ونسمع منك شيئاً لم نسمعه فيما مضى! فأوحى الله عَزَّ وَجَلْ إلى عيسى عليه السلام: قل لهم: إني من أغفر له مغفرة واحدة أصلح له بها دنياه وآخرته (¬3). قلت: وجه ذلك أن كل مولود يولد على الفطرة، فأصل كل مؤمن أن يكون على الفطرة، ومن كان على الفطرة فهو صالح بلا شك، فإذا خلط المؤمن وغفر الله تعالى تخليطه؛ والمغفرة الستر؛ بأن يستره في الدنيا، ولا يفضحه في الآخرة؛ لأنه إذا غفر في الدنيا فكرمه يقتضي أن لا يفضحه في الآخرة، لأن الكريم إذا جاد بشيء لم يرجع فيه، فبقي العبد ¬
فائدة تاسعة وعشرون
بالمغفرة على أصل الفطرة. وأيضاً فإن المغفرة تشمل الذنوب كما في الحديث: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لا ألمَّا" رواه الترمذي، وغيره (¬1). وإذا غفرت ذنوب العبد كان صالحاً للقربة في الدنيا والآخرة. * فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَعِشْرونَ: روى أبو يعلى، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْخَصْلَةَ الصَّالِحَةَ تَكُونُ فِي الرَّجُلِ فَيُصْلِحُ اللهُ بِها عَمَلَهُ كُلَّهُ، وَطُهُورُ الرَّجُلِ لِصَلاتِهِ يُكَفِّرُ اللهُ بِهِ ذُنوبَهُ وَتَبْقَى صَلاتُهُ لَهُ نافِلَةً" (¬2). ووجه ذلك: أن الخصلة الصالحة إذا كانت من صفة الرجل، ولا تصلح إلا إذا كانت طاعة خالصة لله تعالى، والطاعة على حقيقة الشكر، والشكر يقتضي المزيد، فيزيده الله تعالى من طاعته، ثم يزيده توفيقاً إليها حتى تصلح أعماله كلها. ¬
وفي الحديث إشارة إلى أن الرجل متى وجد من العبد خصلة صالحة ينبغي أن يتوسم فيه الصلاح، ولا يسيء الظن به؛ فإن لخصلته أخوات. وفيه وجه آخر، وهو أن الخصلة الصالحة تكفر خصالاً من السيئات، فيرجى له أن تكون تلك الخصلة سبباً لسعادته. وقد قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102]. قال أبو عثمان النهدي رحمه الله تعالى: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوية: 102] الآية. رواه ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في "التوبة" (¬1)، والبيهقي في "الشعب"، وغيرهم (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى قال: عرضت نفسي على القرآن، فلم أجدني بآية أشبه مني بهذه الآية: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] (¬3). وروى البيهقي عن مطرف رحمه الله تعالى قال: إني لأستلقي من ¬
الليل على فراشي، وأتدبر القرآن، فأعرض نفسي على أعمال أهل الجنة، فإذا أعمالهم شديدة: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]، {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9]، فلا أراني منهم. فأعرض نفسي على هذه الآية: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [القمر: 42 - 46] فأرى القوم مكذبين، فلا أراني فيهم. فأمرُّ بهذه الآية: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102]، وأرجو أن كون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم (¬1). قلت: لقد مر في بعض مجالسي من نحو عشرين سنة أني دعوت الله تعالى، فقلت: اللهم اجعلنا من الصالحين، فإن لم تجعلنا من الصالحين فاجعلنا من المخلطين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، أو ما هذا معناه، فبعد انقضاء المجلس اعترض علي بعض السامعين، فقال: يا سيدي! كيف تدعو الله أن يجعلنا من المخلطين والمعصية مقررة فيهم؟ قلت: سبحان الله تعالى! والعمل الصالح مقرر فيهم أيضاً، وهو أولى أن يكون من المصرين، فإن لم يكن وابل فَطَلٌّ. ثم وقفت على كلام مطرف هذا، فحمدت الله على موافقته. ¬
فائدة تتم بها ثلاثون فائدة
على أن المخلطين المذكورين في الآية كانوا من أعيان الأنصار والصحابة الأخيار رضي الله تعالى عنهم، وأنى لنا باللحاق بأقلهم. وقوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102]؛ (عسى) و (لعل) في القرآن تدل على تحقيق ما بعدهما بإجماع المحققين من المفسرين؛ فالتوبة مقبولة منهم بفضل الله تعالى. * فائِدَةٌ تَتِمُّ بِها ثَلاثونَ فائِدَةً: تقدم أن صلاح الرعية بصلاح سلطانها، وجاء ما يدل على أن صلاح السلطان بصلاح الرعية، فصلاح كلٍّ متسبب عن صلاح الآخر، ومن ثم جاء عن بعض السلف أنه كان يدعو: اللهم مصلحَ الراعي والرعية. قال كعب الأحبار رحمه الله تعالى: إن لكل زمان ملكاً يبعثه الله على قلوب أهله، فإذا أراد الله عَزَّ وَجَلْ بقوم صلاحاً بعث فيهم مصلحاً، وإذا أراد الله بقوم هلكة بعث فيهم مترفاً. ثم قرأ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]. رواه أبو عمرو الداني في "الفتن"، والبيهقي (¬1). وقال القاسم بن مخيمرة: إنما زمانكم سلطانكم؛ فإذا صلح ¬
فائدة حادية وثلاثون
سلطانكم صلح زمانكم، وإذا فسد سلطانكم فسد زمانكم. رواه الداني، وغيره (¬1). وروى ابن جميع في "مسنده"، والقضاعي عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كَما تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ". وسنده ضعيف (¬2). * فائِدَةٌ حادِيَةٌ وَثَلاثونَ: روى أبو عمرو الداني عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: ليأتين على الناس زمان يكون صالحو الحي فيهم في أنفسهم؛ إن غضبوا غضبوا لأنفسهم، وإن رضوا رضوا لأنفسهم، لا يغضبون لله -عز وجل -، ولا يرضون لله -عز وجل -؛ فإذا كان ذلك الزمان فاحترسوا من الناس بسوء الظن (¬3). قلت: إنما أطلق عمر رضي الله تعالى عنه على هؤلاء اسم الصلاح باعتبار ما يظهر منهم لحيهم من النسك وإظهار زي الصالحين، أو باعتبار ما يزعمون، وإلا فإن الصالح لا ينبغي له أن يغضب لنفسه ويرضى لنفسه. ¬
فائدة ثانية وثلاثون
أو أراد أن الفتنة تدخل على الناس حتى على صالحيهم، فتكون فتنتهم في الغضب والرضا لأنفسهم لا لله تعالى، ومن ثم قال: فإذا كان ذلك الزمان فاحترسوا من الناس بسوء الظن. وقد سبق عن سهل التُّستَري أنه ينزع من المنسوبين إلى الصلاح في آخر الزمان الخشية والورع والمراقبة، ومن نزع منه ذلك كيف يغضب لله أو يرضى لله. وقد علم بذلك أن الغضب لله والرضا لله في هذا الزمان من أخص أعمال الصالحين، وهذا أعز من الكبريت الأحمر الآن. * فائِدَة ثانِيَةٌ وَثَلاثونَ: روى ابن المبارك رحمه الله تعالى عن الحسن رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَزالُ هَذِهِ الأُمَّةُ تَحتَ يَدِ اللهِ وَفِي كَنَفِهِ ما لَمْ يُمالِ قُرَّاؤُها أُمَراءَها، وَلَمْ يُزَكِّ صُلَحاؤُها فُجَّارَها، وَما لَمْ ينمِ خِيارُها أَشْرارَها؛ فَإِذا فَعَلُوا ذَلِكَ رَفَعَ اللهُ الكَرِيْمُ عَنْهُمْ يَدَهُ، ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ جَبابِرَتَهُمْ فَسامُوهُمْ سُوءَ العَذابِ، وَضَرَبَهُمْ بِالفَقْرِ وَالفاقَةِ وَمَلأَ قُلُوبَهُمْ رُعباً" (¬1). ومعنى ممالأة القراء الأمراء: مساعدتهم على ما هم فيه، أو على ما يريدون بأي شيء كان. ¬
فائدة ثالثة وثلاثون
وتزكية الصلحاء الفجار: أن يثنوا عليهم ويمدحونهم، وهم يعلمون أنهم على خلاف ذلك. وكذلك التنمية بمعنى التزكية، أو معنى تنمية الأخيار الأشرار: زيادتهم في دنياهم، وتقويتهم بمال أو سلاح أو غيره. وكل ذلك واقع في زماننا، وظهرت العقوبة التي وعد أهله بها من فقر كثير من ذوي الأموال، وكسرهم، وتسليط جبابرة الحكام وأتباعهم عليهم حتى كأنهم أهل ذمة، وامتلاء قلوبهم رعبا وخوفاً؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولقد كان الناس يُرحمون بصالحيهم، فإذا فسد الصالحون فكيف يرحمون! * فائِدَةٌ ثالِثَةٌ وَثلاثونَ: قال الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116 - 117]. أراد سبحانه أن يبين في الآية ما كان سبباً في استئصال الأمم السالفة، وهو فُشُوُّ الظلم والفساد في الأرض، والإتراف؛ وهو الإنعام في الشهوات والإمعان فيها، والاهتمام بتحصيل أسبابها، وترك النهي عن المنكر من بقايا الناس ممن بقي من ذوي العقول والأحلام منهم إلا قليلاً من أهل النجاة.
فلما سكتت بقيتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116]، فلذلك حق عليهم العذاب. ثم قال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]. فإن قلتَ: كيف يجتمع الإصلاح مع الظلم؟ قلتُ: يكون الظلم من عامتهم والإصلاح من خاصتهم، وإنما قال: {وَأَهْلُهَا} [هود: 117]؛ أي: معظمهم، أو خاصتهم. كان الاعتبار بأهل الصلاح والإصلاح -وإن كانوا بعضاً منهم- فإنهم يقومون مقام الكل، ولذلك أطلق عليهم قوله: {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]؛ كأنهم هم أهلها دون من سواهم، فإذا ترك خاصتهم الإصلاح عَمَّ الفساد، فكان الهلاك. وروى ابن أبي حاتم، والخرائطي عن جرير رضي الله تعالى عنه - موقوفاً عليه - والطبراني عنه - مرفوعاً - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُسأل عن تفسير هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَهْلُها يُنْصِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضَا" (¬1). ¬
فائدة رابعة وثلاثون
والإنصاف من أخص أخلاق الصالحين، ومن شأن الصالح أن ينصف ولا ينتصف، بل يكون أبداً على نفسه. وقد روى البزار - ورجح وقفه - والطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم عن عمار بن ياسر -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلاثٌ مِنَ الإِيْمانِ - ولفظ أبي نعيم: ثَلاثُ خِلالٍ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ خِلالَ الإِيْمانِ -: الإِنْفاقُ مِنَ الإِقْتارِ، وَالإِنْصافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلامِ لِلعالَمِ" (¬1). * فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَثلاثونَ: روى الشيخان، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرانِ" (¬2). قلت: المراد بالعبد الصالح الذي ينصح سيده، ويحسن عبادة ربه، لا يشغله حق السيد عن حق الله، ولا حق الله عن حق السيد. كما في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ العَبْدَ إِذا نَصَحَ لِسَيَّدِهِ، وَأَحْسَنَ عِبادِةَ رَبِّهِ كانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ". ¬
فائدة خامسة وثلاثون
رواه الإمام مالك، والشيخان، وأبو داود (¬1). واعلم أنه يحتج بسيدنا يوسف عليه السلام، وبكل مملوك صالح على من لم يكن كذلك كما تقدم نظير ذلك في صلحاء الأغنياء. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن مجاهد قال: ويجاء بالعبد يوم القيامة فيقول له: ما منعك أن تكون عبدتني؟ فيقول: ابتليتني، فجعلت علي أرباباً فشغلوني. فيجاء بيوسف عليه السلام، فيقال: أنت كنت أشد عبودية أم هذا؟ فيقول: بل هذا. فيقول الله تعالى: لم يمنعه ذلك أن عبدني (¬2). * فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَثلاثونَ: روى الطبراني في "الأوسط" - بإسناد حسن - عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ فِي الدُّنْيا جَعَلَ اللهُ لَهُ نُوراً يَومَ القِيامَةِ إِنْ كانَ صالِحاً" (¬3). ففي هذا الحديث إشارة إلى أن استكمال الأعمى للكرامة يوم ¬
القيامة مشروط بالصلاح؛ فإن لم يكن صالحاً - بأن كان كافراً أو فاسقاً - فلا كرامة له إلا أن يؤمن أو يتوب؛ فإنه بالكفر والفسق يكون أعمى القلب؛ {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72]. والمراد بذلك أعمى القلب؛ كما روي: أن ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه - وكان أعمى - لما نزلت هذه الآية حزن، فأنزل الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 146] (¬1). ولا يختص ذلك بالعمى، بل سائر الأمراض والبلايا إذا نزلت بالعبد؛ فإن كان صالحاً فهي كرامة في حقه، وما ورد من أن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون؛ فهو مع الصبر والرضا بخلاف غيرهم، فقد يشدد في البلاء عليهم ويجزعون ويسخطون. وقد روى الإمام أحمد - ورواته ثقات - عن محمود بن لبيد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذا أَحَبَّ اللهُ قَوماً ابْتلاهُمْ؛ فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزعَ فَلَهُ الْجَزَعُ" (¬2). وروى الترمذي - وحسنه - وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاءِ، وإِنَّ اللهَ إِذا أحَبَّ قَوماً ¬
ابْتلاهُمْ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ" (¬1). وروى مسلم عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْخامَةِ مِنَ الزَّرْعِ؛ تُفيَّئُها الرِّياحُ مَرَّةً، وَتَعْدِلُها حَتَّى يَأْتِيَهُ أَجَلُهُ، وَمَثَلُ الْمُنافِقِ كَمَثَلِ الأَرزةِ الْمُجْدِبَةِ الَّتِي لا يُصِيبُها شَيءٌ حَتَّى يَكُونَ انْجِعافُها مَرَّة واحِدَةً" (¬2). خامة الزرع - بالمعجمة، وتخفيف الميم -: الطاقة الغضة منه. ومعنى: تفيئها - بالفاء -: تقلبها يميناً وشمالاً، أو تميلها مرة. وتعدلها؛ أي: ترفعها. والأرزة - بفتح الهمزة، وإسكان الراء، وحكي فتحها، وبعدها زاي مفتوحة -: شجرة تشبه شجرة الصنوبر تكون بالشام وبلاد الأرمن. وقيل: هي شجرة الصنوبر. والمجدبة - بالجيم، والدال المهملة -: الثابتة المنتصبة. والانجعاف - بالجيم، والعين المهملة -: الانقلاع. ومعنى الحديث: إن المؤمن كثير الأسقام والبلاء في نفسه وأهله وماله، إلا أن ذلك يكفر ذنوبه، ويرفع درجاته، ويصلح شأنه، كما أن لعب الريح بالخامة يصلحها ولا يضرها، والمنافق ليس كذلك، بل إذا أخذه الله لم يفلته، فيأخذه أخذة رابية. ¬
واعلم أن للمنافق باعتبار البلاء طريقين: أحدهما: أن الله تعالى يعفيه من البلاء بالكلية في حياته الدنيا، ثم يقلعه قلعة واحدة، وإلى ذلك الإشارة لحديث مسلم. والثاني: أن الله تعالى يبتليه، ولكن لا يلهمه الصبر في البلاء، فيفجر ويسخط، وإذا انتهى بلاؤه عاد إلى ما كان عليه، فهو في مرور البلاء عليه وانحساره عنه كالبهيمة لا يعرف الحكمة في البلاء ولا في العافية. كما روى أبو داود عن عامر الرامي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذا أَصابَهُ السَّقَمُ ثُمَّ أَعْفاهُ اللهُ عَنْهُ كانَ كَفَّارَةً لِما مَضى مِنْ ذُنوبِهِ، وَمَوْعِظَةً فِيما يُسْتَقْبَلُ، وَإِنَّ الْمُنافِقَ إِذا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِيَ كانَ كَالبَعِيرِ عَقلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ، فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرِ لِمَ أَرْسَلوهُ" (¬1). واعلم أن الله تعالى يحتج بسيدنا أيوب عليه السلام وسائر الصالحين من أهل البلاء بصبرهم ورضاهم وطاعتهم على من لم يصبر ولم يَرضَ. قال مجاهد في أثره المتقدم: ويجاء بالمريض فيقول: ما منعك أن تعبدني؟ قال: فيقول: يا رب! ابتليتني. ¬
فائدة سادسة وثلاثون
فيجاء بأيوب عليه السلام، فيقول: أنت كنت أشد ضراً أم هذا؟ فيقول: بل هذا. فيقول: لم يمنعه ذلك أن عبدني (¬1). * فائِدَة سادِسَة وَثَلاثونَ: إنما ابتلى الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بأنواع البلاء ليكونوا سلفاً للصالحين، وتسلية لهم إذا نزل بهم البلاء كابتلاء آدم عليه السلام بأكل الشجرة، ثم بفقد الولد هابيل عليه السلام. وابتلاء نوح عليه السلام بأذية قومه، وطول مدته فيهم، ثم بعمل السفينة، ثم بانعزال ولده عنه، ثم تبرئته منه بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]. وابتلاء هود عليه السلام بقوة قومه، وجرأتهم عليه، واشتطاطهم. وصالح عليه السلام بالناقة وعقر قومه لها. وإبراهيم عليه السلام بأبيه وقومه، وإلقائه في النار، وذبح ولده. وإسحاق وإسماعيل عليهما السلام بالذبح (¬2). ويعقوب عليه السلام بفقد ولديه. ¬
ويوسف عليه السلام بعداوة إخوته وقسوتهم، وإلقائه في الجب، وبالرِّق، والتهمة، والسجن. وأخيه بنيامين عليه السلام (¬1) بالتهمة وفراق الأب. وموسى عليه السلام بفرعون وأذى بني إسرائيل. ولوط عليه السلام بفجور قومه، وقصدهم ضيوفه بالسوء. وأيوب عليه السلام بالبلاء بالمرض، وفقد الأهل والأولاد. وداود عليه السلام بالخطيئة، وبالخصمين. وسليمان عليه السلام بالجسد. وزكريا، ويحيى، وحزقيل (¬2)، وغيرهم بالقتل عليهم الصلاة والسلام. وعيسى عليه السلام ببني إسرائيل، وطعنهم عليه، وقصدهم قتله. ومحمد -صلى الله عليه وسلم- بما هو مشهور في سيرته من أنواع البلاء. فإذا نزل بالعبد الصالح نوع من البلاء نظر في أسوته ممن ابتلي ببلائه منهم، وعلم أن بلاء ذلك النبي أشد من بلائه، فكان هذا كافياً في تسليته وصبره، وتأدبه بآداب ذلك النبي في ذلك البلاء. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" -بإسناد صحيح- عن الأحنف بن قيس ¬
رحمه الله تعالى: أن داود عليه السلام قال: يا رب! إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ فاجعلني يا رب لهم رابعاً. قال: فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! إن إبراهيم ألقي في النار في شيء فصبر، وتلك بلية لم تَنَلْكَ، وإن إسحاق بذل مُهجة دمه في شيء فصبر، وتلك بلية لم تَنَلْكَ، وإن يعقوب أخذت حبيبيه حتى ابيضت عيناه فصبر، وتلك بلية لم تَنَلْكَ (¬1). وعن عبد الله بن عبيد، عن أبيه قال: قال موسى عليه السلام: أي رب! ذكرت إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ بم أعطيتهم ذاك؟ قال: إن إبراهيم لم يعدل بي شيئاً إلا اختارني، وإن إسحاق جاد لي بنفسه، وهو بما سواها أجود، وإن يعقوب لم أَبْتَلِهِ ببلاء إلا ازداد بي حسنَ ظن (¬2). وروى حميد بن زنجويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه دخل المسجد حين قتل ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما وهو مصلوب، أو مطروح، فقيل له: إن أسماء في ناحية المسجد، فمال إليها فقال: إن هذه الجثة ليست بشيء، وإنما الأرواح عند الله تعالى، فاتقي الله وعليك بالصبر. ¬
فائدة سابعة وثلاثون
فقالت: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام إلى بَغِيٍّ من بغايا بني إسرائيل (¬1)! * فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَثلاثونَ: الصالح إذا زل زلة ينبغي أن يُتجافى عنها ولا تعدَّ عليه، بل ينبغي الاعتراف بفضله، والتنبيه على زلته لتحذر. ويدل على ذلك: ما رواه الشيخان، وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الإفك: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام على المنبر، فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال وهو على المنبر: "يا مَعْشَرَ الْمُسْلِمينَ! مَنْ يَعْذرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي؛ فَوَ اللهِ ما عَلِمْتُ عَلى أَهْلِي إِلاَّ خَيراً، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً ما عَلِمْتُ عَلَيهِ إِلاَّ خَيراً، وَما كانَ يَدْخُلُ على أَهْلِي إِلاَّ مَعِي". فقام سعد بن معاذ الأنصاري -رضي الله عنه- فقال: أعذرك منه يا رسول الله؛ إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة - وهو سيد الخزرج -رضي الله عنه-، وكان رجلاً صالحاً، ولكن اجتهلته الحمية - فقال لسعد بن معاذ: لَعمرو الله لا تقتلنه، ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن ¬
عبادة: كذبت؛ لعمرو الله لنقتلنه؛ فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الْحَيَّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا وسكت (¬1). فقول عائشة رضي الله تعالى عنها في سعد بن عبادة: رجلاً صالحاً؛ اعترافٌ بصلاحه، ولم يمنعها الغضب لنفسها من الاعتراف بالحق. قالت: ولكن اجتهلته الحمية؛ أي: حملته على الجهل. وفي رواية البخاري: احتملته؛ وهي راجعة إلى معنى تلك الرواية. فهذه الزلة من سعد بن عبادة لا تخرجه عن صفة الصلاح، على أن له فيها عذراً من حيث إنه إنما حصلت منه هذه الحمية حين لم يتبين للناس الحق، ولا تحققوا براءة عائشة رضي الله تعالى عنها، فلما نزل القرآن ببراءتها سلموا وآمنوا حتى أصحاب الإفك، إلا ما كان من عبد الله بن أبي؛ فإنه مات منافقاً. وأيضاً لم يكن يومئذ حد القاذف القتل، فاستجازة سعد بن معاذ لقتل المتولي ذلك الأمر اجتهاد، واعتراض سعد بن عبادة له اجتهاد، ومثل ذلك لا يخرج العبد عن كونه صالحاً، ولذلك لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد منهما. ¬
فائدة ثامنة وثلاثون
وأما قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين؛ فالمعنى: إنك قاربت النفاق لمجادلتك عن المنافقين، أو: فعلت أفعال المنافقين. ومن هنا يعلم أن ما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وما صدر من بعضهم من زلة لا يخرجهم عن العدالة والصلاح لأن ذلك يكون عن اجتهاد وإن أخطأ بعضهم، وكان لهم من الإحسان ما يكفر الزلة من الإساءة، ثم هم أقرب إلى التوبة والرجوع إلى الله تعالى من غيرهم. ومذهب أهل السنة أن من أساء عشراً وأحسن واحدة، كفرت هذه الواحدة عن تلك العشرة؛ فكيف بمن يحسن عشراً ويسيء واحدة؟ بل كيف بمن معظم أعماله حسن وزلته واحدة؟ فافهم! * فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَثلاثونَ: اعلم أن العبد الصالح ليس من شرطه أن يكون معصوماً، بل من شرطه أن يكون كارهاً للذنب قبل وقوعه منه، محزوناً منه بعد وقوعه، خائفاً من عقوبته، واجداً على نفسه، تائباً منه. ولقد أحسن القائل: [من الطويل] وَما كُنْتُ أَرْجُو أَنْ تَرى لِيَ زَلَّةً ... وَلَكِنْ قَضاءُ اللهِ ما مِنْهُ مَهْرَبُ (¬1) ¬
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ساءَتْهُ سَيِّئَتُهُ وَسَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ فَهِيَ أَمارَةُ الْمُؤْمِنِ". رواه البخاري في "تاريخه" عن عمر رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى الطبراني في " الكبير " عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ ساءَتْهُ سَيِّئاتُهُ، وَسَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ " (¬2). وفي "الأوسط" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ساءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ " (¬3). وحديث أبي أمامة عند الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم - وصححه - والضياء المقدسي في " الأحاديث المختارة "، ولفظهم: " إِذا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ وَساءَتْكَ سَيِّئَتُكَ فَإِنَّكَ مُؤْمِنٌ " (¬4). ورواه الطبراني في " الكبير " من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه، ولفظه: " مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، وَساءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ " (¬5). ¬
وروى الديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ ساءَتْهُ خَطِيئَتُهُ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ" (¬1). قلت: ووجه ذلك أن العبد إذا كره الخطيئة وسيء بها، كانت كراهته لها حسنة، والحسنة تكفر الخطيئة من الصغائر. وأيضاً فإن ما يدخل عليه من السوء بسبب الخطيئة مصيبة، والمصيبة مكفرة أيضاً. فإن استغفر فالاستغفار مكفر ثالث. وهذا حال الصالحين؛ إذا أذنب أحدهم قامت قيامته، وعظمت مصيبته، وضاقت نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت كما وصف الله تعالى بذلك الثلاثة الذين خلفهم عن المتخلفين عن تبوك؛ فإنه لما رجع جاء إليه من تخلف عنه، وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً، فاعتذروا فقبل عذرهم؛ إلا ما كان من كعب بن مالك، ومرارة بن ربيعة، وهلال بن أمية الواقفي رضي الله تعالى عنهم؛ فإنهم أقروا بأنهم تخلفوا عنه بغير عذر، وأقروا بذنوبهم، وصدقوا في ترك الاعتذار، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهجرهم، فمكثوا خمسين يوما حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وحزنوا لذنوبهم (¬2)، فأنزل الله تعالى فيهم، فقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى ¬
النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} إلى قوله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 117 - 119] (¬1). قال السدي في الآية: كونوا مع كعب بن مالك، ومرارة بن ربيعة، وهلال بن أمية. رواه ابن أبي حاتم، وغيره (¬2). فهؤلاء الثلاثة لما ساءتهم سيئتهم، وأحزنتهم، وضيقت صدورهم، تاب الله عليهم، وأمر المؤمنين أن يتأَسَّوا بهم. وفي "الصحيحين" في حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه عن توبته بعد أن وصف صدقه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتجوز في الاعتذار، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "أَمَّا هَذا فَقَدْ صَدَقَ؛ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ". وصف تأنيب قومه له على ذلك؛ قال: فو الله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكذِّب نفسي. قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم؛ رجلان قالا (¬3) مثل ما قلت، وقيل لهما [مثل ما قيل لك]. ¬
فائدة تاسعة وثلاثون
قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً فيهما أسوة. قال: فمضيت حين ذكروهما لي (¬1). فأشار كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه إلى أنه لما عرف أن له شريكين في مثل ذنبه صالحين سَلا بهما، وخفف من همه حين ساواهما؛ وفي أمثلة الناس: إذا كنت ثالث ثلاثة فلا تبالِ، ومن شأن الحكيم أن يتسلى فيما يصيبه بنظائره ونظائر مصائبه. * فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَثلاثونَ: روى البيهقي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لا يُصلِح الناسَ إلا أميرٌ؛ بَرٌّ، أو فاجرٌ. قالوا: هذا البَرُّ، فكيف بالفاجر؟ قال: إن الفاجر يؤَمِّن اللهُ به السبيلَ، ويجاهَد به العدوُّ، ويَجيء به الفيءُ، وتقام به الحدودُ، وُيحَجُّ به البيتُ، وَيعبُد اللهَ به المسلمُ آمناً حتى يأتيه أجلُه (¬2). قلت: هذا كالبيان لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفاجِرِ (¬3). ¬
فائدة هي تمام أربعين فائدة
وهذه الأمور تتم بالبَرِّ، بل هي به أتم، وإنما يفرق بينهما بالنية؛ فالفاجر ينوي بذلك صيانة إمرته، وقيام حرمته، ورغبة الناس في ولايته، فيُصلِح اللهُ به الناسَ وإن لم يُرِد صلاحَهم، والبَرُّ ينوي بذلك سكونَ خواطر المسلمين، ونُصحَهم، وحمايتَهم، وإقامةَ الدِّين، وإعلاءَ كلمة الله تعالى. وقد يكون سببَ أمْنِ الطُّرُق شِدَّةُ ظلم الأمير وحَيْفِه، فيحصُل الأمنُ اتِّقاءَ ظُلمه، ويكون في ذلك نفعٌ للمسلمين، وعلى الأمراء وزرُهم. وأما ما سبق أن الأمراء والعلماء إذا صلحوا صلح بصلاحهم سائر الناس، فذلك صلاح يعود ثوابه على الأمراء والعلماء، وصلاح الناس بالأمراء الفجرة لا يعود منه على الأمراء ثواب. وكان سهل بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول: يعود عليهم بسبب أمن الناس على أنفسهم وعيالهم وأموالهم، وفي طرقهم ومنازلهم ثوابٌ وخير. والذي يظهر أنه لا ثواب لهم في شيء من ذلك إلا إذا حصل عن نية منهم صالحة، وقصد صحيح - وان كانوا فجاراً في غير ذلك - لأن العمل بالنية؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. * فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ أَرْبَعينَ فائِدَةً: روى الإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن السني، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم - وصححه - والبيهقي في "الشعب "، وغيرهم عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا رسول الله! كيف الصلاح
بعد هذه الآية: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، وكل سوء جزينا به؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " غَفَرَ الله لَكَ يا أَبا بَكْرٍ! أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ يُصِيبُكَ اللأْواءُ؟ " قال: بلى. قال: " فَهُوَ ما تُجْزَوْنَ بِهِ" (¬1). قوله: كيف الصلاح؛ أي: كيف صلاح الحال واستقرار النفس بعد نزول هذه الآية: فإن ظاهرها أن الله تعالى يجازي يوم القيامة على كل عمل سوء، فأخبره - صلى الله عليه وسلم - أن المؤمن يجازى بما يعمله في الدنيا بما يصيبه من مرض أو تعب، أو حزن، أو غير ذلك. وقد روى الإمام أحمد، والبزار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت أبا بكر يقول (¬2)، والحاكم (¬3) عنه: أنه سمع الزبير رضي الله تعالى عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيا ". ¬
فائدة حادية وأربعون
* فائِدَةٌ حادِيَةٌ وَأَرْبعونَ: روى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي في " الشعب "، والمفسرون عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لا يَصلُح الكذبُ في جِدٍّ ولا هزل، ولا أن يَعِدَ أحدُكم صبيَّه شيئاً ثم لا ينجزُه؛ اقرؤوا إن شئتم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. قال: وهي قراءة عبد الله هكذا بكسر المهملة. قال: فهل تجدون (¬1) لأحد رخصة في الكذب (¬2)؟ وهل يباح الكذب للمصلحة، أو لا؟ كلام ابن مسعود هذا يدل على الثاني، وهو قول جماعة؛ منهم: أبو القاسم الطبراني، وأقضى القضاة الماوردي؛ قالوا: وما جاء في هذا من الإباحة فإنما المراد به التورية واستعمال المعاريض، لا صريح الكذب كأن يَعِدَ زوجته أن يحسن إليها ويكسوها، وينوي إن سمحت نفسه (¬3). وفي الحديث: " إِنَّ فِي الْمَعارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنِ الكَذِب". رواه ابن ¬
السني عن عمران بن حصين، وأبو نعيم عن علي رضي الله تعالى عنهما (¬1). قال النووي رحمه الله تعالى في "الأذكار": ومعنى التورية أن يقصد بعبارته مقصوداً صحيحا ليس هو كاذباً بالنسبة إليه، وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ (¬2). وهذا معنى التعريض أيضاً. ولعل التورية إطلاق لفظ يحتمل معنيين، يوهم بأحدهما السامع، ويقصد بقلبه الآخر. والصحيح القول الأول، وهو قول الأكثرين: جواز الكذب للمصلحة كخدعة الحرب. نعم إن أمكنه التورية فلا يعدل إلى الصريح، وإلا جاز له العدول إليه. ¬
وفي " الصحيحين " عن أم كلثوم رضي الله تعالى عنها: أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَينَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيراً، أَوْ يَقُولُ خَيراً ". زاد مسلم في رواية له: قالت أم كلثوم: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها (¬1). قال النووي: وأحسن ما ضبط به الكذب المباح: ما ذكره حجة الإسلام من أن الكلام وسيلة للمقاصد، وكل مقصود محمود أمكن التوصل إليه بالصدق فالكذب فيه حرام، فهو مباح إن كان المقصود مباحاً، وواجب إن كان واجباً (¬2). وقال جدي شيخ الإسلام رضي الدين الغزي في ألفيته المسماة بِـ: "الجوهر الفريد": [من الرجز] وَاعْلَمْ بِأَنَّ الكِذْبَ فِي الْمَصالِحِ ... مَعَ التَّوَرِّي شَأْنُ كُلِّ صالِحِ لِقَصْدِ صِدْقٍ وَهْوَ واجِبٌ لَدى ... دَفْعٍ لِمَنْ [قد] صالَ يَبْغِي وَاعْتَدَى ¬
فائدة ثانية وأربعون
لأَخْذِ مالِ أوْ إتْلافِ نَفْسِ ... أَوِ الأَذَى كَالضَّرْبِ أَوْ كَالْحَبْسِ ولو استحلفت في مسألة دفع الصائل الواجب دفعه بالكذب لزمك أن تحلف وتوري؛ فإن لم تور حنثت في الأصح، كما ذكره النووي في " الأذكار "، ولا يحرم (¬1). * فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وَأَرْبَعونَ: قد سبق أن أصل الصلاح بصلاح القلب، وأن العبرة بصلاحه، ومن هنا قيل لمن كان همه إصلاح قلبه: صاحب قلب، و: هو من أرباب القلوب. فصاحب القلب لا يترك عملاً ولا قولاً ولا حالاً يصلح به قلبه، ويجتنب كل عمل وقول وحال لا يصلح عليه قلبه، وإن كان فيه تخريب ظاهره؛ كما قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: لو علمت أن قلبي يصلح على كناسة لذهبت حتة أجلس عليها. رواه الخطيب البغدادي (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن حذيفة المرعشي صاحب يوسف بن أسباط: أنه رأى على رأس حناذ القلاء رحمه الله تعالى قَلَنْسوَةً سوداء مخرقة، وفرواً مخرقاً. ¬
فقال له: ما هذه القَلَنْسُوَة على رأسك؟ قال: وجدت قلبي يصلح عليها. قال حذيفة: فلم أر أحداً إن شاء الله كان أصدق منه. قيل له: أين كان من يوسف بن أسباط؟ قال (¬1): ما كان يوسف [بن أسباط] (¬2) يصلح إلا شاكراً لذلك (¬3). فتأمل كيف لا يعتبر أرباب القلوب ما ازدراه منهم الناس إذا صلحت قلوبهم لطاعة الله تعالى وحبه! وكفاك دليلاً على ذلك قول الله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام لقومه حين ازدروا أتباعه: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31]. قال السدي في قوله: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [هود: 31]: يعني: إيماناً. رواه أبو الشيخ (¬4). وبالإيمان صلاح القلب كما سبق، وإذا صح إيمان القلب صلح القلب برثاثة الحال، فهي أولى كما لو صح بحسن البزة وسعة الحال كانت هي أولى، إلا أن الخطر في ذلك أعظم وأشد. ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الصَّفا الزُّلالُ الَّذِي لا تَثْبُتُ عَلَيْهِ أَقْدامُ ¬
فائدة ثالثة وأربعون
العُلَماءِ الطُّمَّعِ ". رواه ابن المبارك عن سهيل (¬1) بن حسان مرسلاً (¬2). وبزة الدنيا وزهرتها أعظم شيء يحرك الطمع في قلب العبد، فلا يكاد يصلح عليه إلا قلوب الصديقين، وأما من سواهم فقد تأخذه بعزة وابتهاج عند حسن الملبس وطيب العيش، ويكون سببه استيفاء النفس لمقصودها وشهوتها، فيحسب أن ذلك صلاح قلب، وقد وقع في الفساد والهلاك. قال الخطيب في " تاريخه ": حدثنا أبو بكر البرقاني قال: قلت لأبي الحسين بن سمعون: أيها الشيخ! أنت تدعو الناس إلى الزهد في الدنيا والترك لها، وتلبس أحسن الثياب، وتأكل أطيب الطعام؛ فكيف هذا؟ فقال: كل ما يصلحك [لله] فافعله؛ إذا صلح حالك [مع الله] بلبس لين الثياب، وأكل طيب الطعام فلا يضرك (¬3). * فائِدَةٌ ثالِثَةٌ وَأَربعونَ: قال أبو العتاهية: [من البسيط] لَنْ يصلحَ النَّفسَ ما كانَتْ مُصَرَّفَةً ... إِلاَّ التَّنَقُّلُ مِنْ حالٍ إِلى حالِ (¬4) ¬
وفي معناه وجهان
وفي معناه وجهان: الأول: أن النفس إذا لزمت حالاً واحدة ملَّت، فإذا انتقلت بها الأحوال من حركة إلى سكون، ومن عشير إلى عشير، ومن طعام إلى طعام، ومن لباس إلى لباس، صلحت وصفا لها وقتها. وعليه: فصلاحها المراد به صيانتها عن الملل، فالمراد به صلاح عيشها في الدنيا. وكان المأمون يفهم ذلك من البيت كما ذكر الماوردي في "أدب الدين والدنيا": أن المأمون كان يتنقل كثيراً في داره من مكان إلى مكان، وينشد البيت (¬1). وقد يكون بصلاح عيشها في الدنيا صلاح آخرتها، ومن ثم قيل: روحوا النفس ساعة وساعة. والثاني: أن النفس لا يصلحها بقاؤها على أصل فطرتها، والحال التي طبعت عليها حتى تنتقل من حال إلى حال أكمل منها من محاسن الأخلاق والآداب كما في الحديث المتقدم: "إِنَّما العِلْمُ بِالتَّعَلُمِ، وإِنَّما الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ" فلا يكره خلقاً ولا يستقبح حالاً إلا انتقل إلى خلق أحسن منه وحال أصلح منه، ولا يرجو في شيء نفعاً إلا طلبه، ولا يظن من شيء ضرراً إلا تنزه عنه، كما قال أبو العتاهية أيضاً: [من الطويل] ¬
فائدة رابعة وأربعون
إِذا كَفَّ عَبْدُ اللهِ عَمَّا يَضُرُّهُ ... وَأَكْثَرَ ذِكْرَ اللهِ فَالعَبْدُ صالِحُ * فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَأَرْبَعونَ: روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن أبي العلاء بن الشِّخِّير رحمه الله تعالى قال: ما أعطي رجل ما أعطي عبد في الإسلام أفضل من عقل صالح يرزقه (¬1). وكلامه يدل على أن العقل منه صالح ومنه غير صالح، وهو كذلك. والعقل الصالح ما يعقل صاحبه على خير وعن الشر، وهو العقل الذي يعترف الفاجر يوم القيامة بأنه لم يكن له منه نصيب كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10 - 11]. وأما العقل الذي ليس بصالح فهو العقل الذي يصرفه صاحبه في تحصيل دنياه وموافقة هواه، فهو يوم القيامة حجة على صاحبه، ومنه عقول أهل الدهاء والمكر، بل عقول كثر الخلق غير مصروفة إلى ما ينفعهم في الآخرة لتوجهها إلى إصلاح الدنيا ومتابعة الهوى كما قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6 - 7]. ¬
قال ابن عباس: يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال. رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). ورووا عن قتادة في قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7]؛ قال يعلمون تجارتها، وحِرَفها، وبيعها (¬2). وفي رواية عن ابن عباس: {ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7]؛ يعني: معايشهم؛ متى يغرسون، ومتى يزرعون، ومتى يحصدون (¬3). وقال الحسن رحمه الله تعالى في الآية: ليبلغ من حذق أحدهم بأمر دنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه، وما يحسن يصلي. رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬4). قلت: قد بلغ من حذقهم ما دققوه من الفكر في عمل الآنية والأمتعة، والنقوش والزخارف والتصاوير، واصطناع الشخوص المتحركة، والإصطرلابات، والساعات المرتبة على لوالب وحركات تنتقل حتى تنتهي حركتها إلى رأس كل ساعة فتضرب، وبيوت الإبر التي لا تتوجه في المرآة إلا إلى جهة الجنوب (¬5)، وأعمال الناريجيات والسيمياء، والتغطية على أبصار الناس، وأنواع السحر والكهانة. ¬
فائدة خامسة وأربعون
ومنهم أن يكون ذكاؤه وحذقه في تحريف الكلام وتصحيفه، أو يكون فكره في استخراج عيوب الناس وهجائهم، أو المبالغة في المديح والتشبيب والهجاء، ثم ترى الواحد منهم لا يعرف حكم وضوئه ولا صلاته، ولا بيعه ولا شرائه، ولا تصرفاته التي فيها خلاصه في الدار الآخرة. نعم؛ يعرف طريق المكاسب والمكر والخديعة في البيع والشراء والحيلة في الحساب، وبذل بعض أنواع النقود دون بعض لما فيه من التفاوت وانتقاص الغريم من حقه. ومن كان عقله كذلك فهو فاسد العقل، مطموس القلب، متعرض للهلاك والندامة والحسرة في الدار الآخرة. وإنما العاقل: الأريب، الصالح العقل من فطانته وحذقه في أمور دنيه (¬1). ولقد أحسن القائل: [من الطويل] أَلا إِنَّ خَيرَ العَقْلِ ما دلَّ أَهْلَهُ ... عَلى البِرِّ وَالتَّقْوى وَنيْلِ الْمَكارِمِ * فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَأَربعونَ: روى أبو داود، والترمذي - وصححه - عن عبد الله بن عمرو رضي الله ¬
تعالى عنهما قال: مر علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نعالج خُصًّا (¬1) لنا، فقال: "ما هَذا؟ ". فقلنا: قد وَهى فنحن نصلحه. فقال: "ما أَرى الأَمْرَ إِلاَّ أَعْجَلَ مِنْ هَذا" (¬2). فيه إشارة إلى أن إصلاح الدنيا ليس من المهمات التي ينبغي الاعتناء بها للصالحين؛ فإنهم إنما هم في صلاح آخرتهم لا دنياهم، وإلى أن الذي يهون على العبد خراب الدنيا، وترك الاهتمام بإصلاحها قصر الأمل، واعتقاد زوال الدنيا ومفارقتها عن قرب. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ثابت البناني رحمه الله تعالى: أن صفوان بن محرز رحمه الله تعالى كان له خُصٌّ فيه جذع، فانكسر الجذع، فقيل له: ألا تصلحه؟ فقال: دعوه؛ إنما أموت غداً (¬3). نعم؛ لا بد مما لا بد منه من إصلاح الضروري من الدنيا كإصلاح الهيئة اللائقة بالعبد حفظاً لمروءته، وصيانة لعرضه عن وقوع الناس فيه كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ فَلا يَمْشِ فِي الأُخْرى ¬
حَتَّى يُصْلِحَها". رواه مسلم، وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). وكذلك حفظ ما أعطاه الله تعالى من متاع الدنيا للانتفاع به في طاعة الله تعالى ولو في المستقبل من طعام وشراب، ولباس وفراش، ومال كما قال رسول الله: "أَطْفِئُوا الْمَصابِيحَ إِذا رَقَدْتُمْ، وَأَغْلِقُوا الأَبْوابَ، وَأَوْكِئُوا الأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعامَ وَالشَّرابَ وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرِضُهُ عَلَيهِ". رواه البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه (¬2). وكذلك إصلاح شأنك وهيئتك وبزتك إرغاماً للحاسد، وإظهاراً للنعمة كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أَحْسِنوا لِباسَكُمْ، وَأَصْلِحوا رِحالَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شامَةٌ فِي النَّاسِ". رواه الحاكم - وصححه - عن سهل بن الحنظلية رضي الله تعالى عنه (¬3). وهو في "مسند الإمام أحمد"، ولفظه: قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِنَّكُمْ قادِمُونَ عَلى إِخْوانِكُمْ؛ فَأَصْلِحُوا رِحالَكُمْ، وَأَصْلِحوا لِباسَكُمْ حَتَّى تَكُونوا فِي النَّاسِ كَأَنَّكُمْ شامَةٌ؛ فَإِنَّ الله لا يُحِبُّ الفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ" (¬4). وروى أبو داود عن أبي الأحوص، عن أبيه رحمه الله قال: أتيت ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثوب دون، فقال: "أَلَكَ مالٌ؟ ". قال: قلت: نعم. قال: "مِنْ أَيِّ الْمالِ؟ ". قال: من الإبل، والغنم، والخيل، والرقيق. قال: "فَإِذا آتاكَ الله فَلْيُرَ أثَرُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيكَ وَكَرامَتُهُ" (¬1). وروى الترمذي - وحسنه - والحاكم - وصححه - عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما، والإمام أحمد عن أبي هريرة، وعمران بن الحصين رضي الله تعالى عنهم، وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، والطبراني في " الكبير " عن ابن علقمة رضي الله تعالى عنه قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ يَرى أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلى عَبْدِهِ" (¬2). وروى الإمام أحمد، ومسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيْمانٍ، وَلا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّهٍ مِنْ كِبْرٍ ". ¬
قال رجل: يا رسول الله! إنه يعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً - وذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه - فمن الكبر ذاك يا رسول الله؟ قال: "لا؛ ذاكَ الْجَمالُ، إِنَّ اللهَ عز وجل [جَمِيلٌ] يُحِبُّ الْجَمالَ، وَلَكِنَّ الكِبْرَ مَنْ سَفِهَ الحَقَّ وَازْدَرى النَّاسَ" (¬1). فإصلاح البزة إذا خلا من هذا المرض الباطني - وهو سفه الحق، وازدراء الناس والخيلاء - لا يناقض الصلاح، فإذا وجد العبد من نفسه شيئاً من ذلك كان إصلاح قلبه بإيثار الخلق والدون، أو ما مر بإصلاح ظاهره كما سبق عن مالك بن دينار، وحناذ القلاء رحمهما الله تعالى. ولقد قال عيسى بن مريم عليهما السلام: جَودة الثياب من خيلاء القلب. رواه أبو نعيم عن ابن شوذب (¬2). وروى الأصبهاني في " الترغيب " عن علي بن يزيد بن جدعان قال: رأى علَيَّ سعيد بن المسيب جبة خز، فقال لي: إنك لجيد الجبة! قلت: وما تغني وقد أفسدها عليَّ أبو عبد الله سالم بن عبد الله؟ قال: أصلح قلبك، والبس ما شئت (¬3). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن أبي إدريس الخولاني رحمه الله تعالى أنه قال: قلب نقي في ثياب دَنِسةٍ، خيرٌ من قلب دَنِسٍ في ثياب نقية (¬1). وروى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَصْلِحُوا دُنْياكُمْ، وَاعْمَلُوا لآخِرَتكُمْ كَأَنَّكُمْ تَمُوتونَ غَداً" (¬2). وهذا الحديث على وزان قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]. في قوله: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] قولان: الأول: أن المراد بالنصيب ما يحتاج إليه في الدنيا لمعاشه. قال قتادة: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]؛ أي: تأخذ من الدنيا ما أحل الله لك؛ فإن لك فيه غنى وكفاية. رواه عبد بن حميد (¬3). وقال الحسن في الآية: قدم الفضل، وأمسك ما يبلغك (¬4). ¬
فائدة سادسة وأربعون
وفي رواية: أمسك قوت سنة، وتصدق بما بقي (¬1). رواه ابن أبي شيبة، والبيهقي في "الشعب"، وابن أبي حاتم، وغيرهم. والقول الثاني: أن المراد بالنصيب ما صرفه العبد من الدنيا في طلب الآخرة. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]: أن تعمل فيها لآخرتك. وفي رواية: ولا تترك أن تعمل لله في الدنيا. رواه ابن أبي حاتم (¬2). وقال مجاهد: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]: الذي تثاب عليه في الآخرة. رواه عبد الله بن أحمد، وابن أبي حاتم، وآخرون (¬3). * فائِدَةٌ سادِسَةٌ وَأَرْبعونَ: قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} [المائدة: 93]. ¬
وهذه الآية - وإن نزلت فيمن شرب الخمر، ومات قبل تحريمه كما صححه الترمذي عن البراء بن عازب، والحاكم عن ابن عباس (¬1) - فإنها عامة في حق كل صالح اتقى الله تعالى في طعامه وشرابه، فلا حرج عليه فيه ولا في سائر مباحات الدنيا؛ وإن كان مسؤولاً عنه لعموم قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]؛ فإن الصحيح أن العبد الصالح - وإن سئل عما نعَّمه الله به في الدنيا - فإنما يسأل سؤال تمحيص وامتنان، لا سؤال توبيخ وتثريب. واعلم أن في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8] أقوالاً: أحدها: أن العبد يسأل عن كل نعيم مطلقاً. والثاني: أنه يسأل عن ما سوى ما يشبع بطنه ويرويه، ويستر عورته، ويكنه من الحر والبرد أقل ما يكفيه من ذلك. والثالث: أنه إذا تنعم وحمد الله تعالى عليه لا يسأل عنه، ويسأل عما ترك الحمد عليه. والرابع: أنه إنما يسأل عن الحرام. والخامس: أنه إنما (¬2) يسأل عما تناوله بغفلة عن الله تعالى. ¬
فائدة سابعة وأربعون
والسادس: أن كل عبد يسأل إلا أن السؤال يختلف؛ فتارة يكون سؤال تثريب وعقوبة، وتارة يكون سؤال تمحيص لما بقي عليه من خطيئة ونحوها، وتارة يكون سؤال امتنان ليعترف العبد (¬1). قلت: هذا القول هو الصحيح. ثم أعتقد أن من عباد الله تعالى من لا يسأل عن شيء بالكلية فضلاً من الله تعالى وعفواً؛ إذ لا يلزم من قوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] أن يسأل كل الناس، ولا أن يسأل العبد عن كل شيء؛ بل يكفي في صدق هذه العبارة أن يسأل المعظم عن المعظم؛ والله سبحانه وتعالى أعلم! * فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَأَرْبعونَ: روى الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " عن محمود بن خالد قال: قلت لأبي حفص عمر [و] بن أبي سلمة: تحب أن تحدث؟ قال: ومن يحب أن يسقط اسمه من الصالحين (¬2)؟ وعن أبي بكر بن أبي مريم قال: كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه إلى والي حمص: مُرْ لأهل الصلاح من بيت المال ما يغنيهم لئلا يشغلهم شيء عن تلاوة القرآن وما حملوا من الأحاديث (¬3). ¬
وفي كلامه إشارة إلى أن أهل الصلاح هم القراء والمحدثون. وقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - للمحدثين بالعدالة، وهي داخلة في صفة الصلاح؛ إذ لا يتحقق الصلاح إلا بها. وروى الخطيب عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يقول]: "يَرِثُ هَذا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدولُهُ " (¬1). وأخرجه الحاكم في "المستدرك"، وفي "التاريخ" عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري رضي الله تعالى عنه - واختلف في صحبته - وزاد: "يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الغالِينَ، وَانْتِحالَ الْمُبْطِلينَ، وَتَأْوِيلَ الْجاهِلِينَ" (¬2). وأخرجه ابن عدي في "الكامل"، ومن طريقه الخطيب بهذه الزيادة عن أبي هريرة إلا أنه قال: "يَحْمِلُ هَذا العِلْمَ" (¬3). وبه أخرجه الخطيب أيضاً من رواية إبراهيم بن عبد الرحمن العذري أيضاً. ثم روى من طريق أبي بكر الخلاَّل قال: قرأت على زهير بن صالح: ثنا مهنا - وهو ابن يحيى - قال: سألت أحمد - يعني: ابن حنبل - عن حديث معاذ بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري رضي الله ¬
تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَحْمِلُ هَذا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدولُهُ؛ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْجاهِلِينَ، وَانْتِحالَ الْمُبْطِلينَ، وَتَأْوِيلَ الغالِينَ". فقلت لأحمد: كأنه كلام موضوع؟ قال: لا، هو صحيح. فقلت له: ممن سمعته أنت؟ قال: من غير واحد. قال أحمد: معاذ بن رفاعة لا بأس به. فهذا نص من الإمام أحمد بتصحيح الحديث، وكفى به (¬1). ومن عدله رسول الله كيف لا يكون صالحاً؟ نعم؛ قد يطلب الحديث والعلم من ليس بعدل، فلا يكون من حملة العلم والحديث، ولا من ورثته حتى يحمل أعباءه ويقوم بشرطه وأدبه، وحينئذ يكون من صالحي الأمة وخيارها. قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه: ليس قوم عندي خيراً من أهل الحديث ليس يعرفون إلا الحديث (¬2). ورأى أصحابَ الحديث وقد خرجوا من عند محدث والمحابر ¬
بأيديهم، فقال أحمد: إن لم يكونوا هؤلاء الناس فلا أدري من الناس (¬1)! وقال أبو بكر بن عياش رحمه الله تعالى: ما أحد خيراً من أصحاب الحديث (¬2). وقال عمر بن حفص بن غياث: سمعت أبي وقالوا له: أما ترى أصحاب الحديث وكيف تغيروا؟ كيف قد فسدوا؟ قال: هم على ما هم خيار القبائل (¬3). وقال عثمان بن أبي شيبة رضي الله تعالى عنه، وكان رأى بعض أصحاب الحديث يضطربون فقال: أما إن فساقهم خير من عُبَّاد (¬4) غيرهم (¬5). وقال الإمام أحمد أيضاً: أهل الحديث أفضل من تكلم في العلم (¬6). وقال: إن لم يكن أصحاب الحديث الأبدال فمن يكون! وقال سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه: إن لم يكن أصحاب الحديث هم الأبدال فلا أدري من الأبدال! وقال الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى: إن لم يكن أهل القرآن ¬
فائدة ثامنة وأربعون
والحديث أولياءَ الله، فليس لله في الأرض ولي (¬1). روى هذه الآثار كلها الخطيب. وروى أبو الفتوح الطائي في " أربعينه " عن ابن الأنباري: [من الكامل] أَهلاً وَسَهلاً بِالَّذِينَ أوَدُّهُمْ ... وَأُحِبُّهُمْ فِي اللهِ ذِي الآلاءِ أَهلاً بِقَومٍ صالِحينَ ذَوِي تُقًى ... خَيْرِ الرِّجالِ وَزَيْنِ كُلِّ مَلاءِ يَسْعَوْنَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ بِعِفَّةٍ ... وَتَوَقُّر وَسَكِينَةٍ وَحَياءِ لَهُمُ الْمَهابَةُ وَالْجَلالَةُ وَالتُّقَى ... وَفَضائِلٌ جَلَّتْ عَنِ الإِحْصاءِ (¬2) * فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَأَرْبعونَ: روى مسلم عن يحيى بن سعيد القطان: لم نرَ الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث. ¬
وفي رواية: لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث. قال مسلم: يقول: يجري الكذب على ألسنتهم، ولا يتعمدون الكذب (¬1). قال النووي: وذلك لكونهم لا يعانون صناعة الحديث، فيقع الخطأ في رواياتهم ولا يعرفونه، ويروون الكذب ولا يعلمون أنه كذب. ومذهب أهل الحق أن الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو؛ عمداً كان، أو سهواً، أو غلطاً، انتهى (¬2). قلت: ليس كلام يحيى بن سعيد شاملاً لكل صالح وكل من كان من أهل الخير؛ بل أراد من غلب عليه الصلاح وعمل الخير حتى لم يشتغل بإتقان صناعة الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه منهم، ولم يطعن ذلك في صلاحه. وثَمَّ طائفة أخرى بارعون في الحديث، ثقات فيه، مبرزون في العمل الصالح والانقطاع إلى الله تعالى، فهم أكمل منهم صلاحاً كالحسن، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومالك ابن دينار، والفضيل، وسفيان الثوري، ومِسْعر، وأحمد بن حنبل؛ في خلائق لا يحصون طبقة بعد طبقة. وفي معنى كلام ابن سعيد ما رواه مسلم أيضاً عن أبي الزناد قال: ¬
فائدة تاسعة وأربعون
أدركت بالمدينة مئة كلهم مأمونون ما يؤخذ عنهم الحديث؛ يقال: ليس من أهله (¬1). * فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَأَربعونَ: مما شرط فيه الصلاح: التصوف؛ فلا يكون الصوفي صوفياً حتى يكون صالحاً، بل الصوفية خيار الصالحين، وإلا كانوا متشبعين. قال أبو سعيد الحسن بن علي الواعظ في كتاب "الحقائق": حكي أن سلطاناً هجم على جماعة جلسوا على غير صلاح، وعلى واحد منهم مرقعة، فقال صاحب المرقعة: أمهلوني حتى أنزع مرقعتي وأعطيكم مئة درهم. ففعلوا، ثم قالوا له في ذلك. قال: خشيت أن يقال: هذا رجل صوفي جلس على غير صلاح، فيقبح اسم الصوفية عند الناس. وسئل حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى عن مال أوصي به للصوفية؛ فمن الذي يصرف إليه؟ فأجاب بأن التصوف أمر باطني لا يطلع عليه، فلا يمكن ربط الحكم بحقيقته، بل بأمور ظاهرة يعول عليها أهل العرف في إطلاق اسم الصوفي، ثم بين أنها خمس صفات: الصلاح، والفقر، وزي الصوفية، وألا يكون مشتغلاً بحرفة لا تليق بهم كالتجارة والدَّهْقنة، لا كالورَّاقة ¬
فائدة هي تمام خمسين فائدة
والخيَّاطة، وأن يكون مخالطاً لهم بطريق المساكنة في الخانقاه ونحوها؛ ثم بسط القول على ذلك (¬1). وقد استوفيت مقاصد جوابه في شرح ألفية التصوف للجد المسمى بِـ: "منبر التوحيد". * فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ خَمسينَ فائِدَةً: روى النسائي، وغيره - بإسناد جيد - عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي، ولسنا هنالك، ثم إن الله عز وجل قضى علينا أن بلغنا ما ترون، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله عز وجل، [فإن جاء أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، ولا قضى به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فليقض بما قضى به الصالحون] (¬2)، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، ولا قضى به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه ولا يقول: إني أخاف، وإني أخاف؛ فإن الحلال بَيِّن، والحرام بَيَّن، وبَيْن ذلك أمور مشتبهات؛ فدع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك (¬3). وروى النسائي أيضاً: أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى شريح: أن اقض بما في كتاب الله تعالى، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة ¬
فائدة حادية وخمسون
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بما قضى به الصالحون، فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخير إلا خيراً لك؛ والسلام (¬1). والمراد بالصالحين في هذين الأثرين: العلماء العاملون، الراسخون في العلم المجتهدون؛ كعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبي الدرداء رضي الله تعالى عنهم. ولا يتناول ذلك عوام الصالحين من المتعبدين والمتزهدين. وقد استقر الأمر الآن على تقليد الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم، والأخذ من قواعد مذاهبهم، ونصوص المعتبرين من أصحابهم رضي الله تعالى عنهم. * فائِدَةٌ حادِيَةٌ وَخَمسونَ: روى ابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن الربيع بن يونس قال: رأيت أمير المؤمنين المنصور ينازل أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه في أمر القضاء، وهو يقول: اتق الله ولا تدع في أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا مأمون الرضا؛ فكيف أكون مأمون الغضب؟ ولو اتجه الحكم عليك ثم تهددني أن تغرقني في الفرات، أو أن أَلي الحكم، لاخترت أن أغرق، ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك فلا أصلح لذلك. ¬
فقال له: كذبت، أنت تصلح. فقال: قد حكمت لي على نفسك؛ كيف يحل لك أن تولي قاضياً على أمانتك وهو كذاب (¬1). قول أبي حنيفة - رضي الله عنه -: لا أصلح لذلك؛ يعني: القضاء؛ أي: لا أرى نفسي صالحاً له، ولا آمن على نفسي أن تستقيم في الرضا والغضب، وفيما لو توجه الحكم على الخليفة فمن دونه أو على حاشيته. وهذه من آفات القضاء، ولذلك امتنع منه كثير من السلف الصالحين لاستضعاف أنفسهم عنه، وخوفهم من الفتنة فيه. وقد روى الترمذي: أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال لابن عمر: اذهب فاقض بين الناس. قال: أوتعافيني يا أمير المؤمنين؟ قال: وما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضي؟ قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ كانَ قاضِياً يَقْضِي بِالْحَقِّ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْقَلِبَ مِنْهُ كفافاً"؛ فما أرجو بعد ذلك (¬2)؟ وفي رواية: فقال: لا أقضي بين رجلين. قال: فإن أباك كان يقضي؟ قال: فإن أبي كان يقضي، فإن أشكل عليه شيء سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬
فإن أشكل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل عليه السلام، وإني لا أجد من أسأله. وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ عاذَ بِاللهِ تَعالَى فَقَدْ عاذَ"، وإني أعوذ بالله منك أن تجعلني قاضياً. فأعفاه، وقال: لا تخبرن أحداً (¬1). وروى البيهقي عن أيوب قال: وجدت أعلم الناس بالقضاء أشدَّ الناس منه فراراً، وأشدهم منه فَرَقاً. ثم قال: وما كنت أدركت أحداً كان أعلم بالقضاء من أبي قلابة، وكان يراد على القضاء فنفر إلى الشام مرة، ونفر إلى اليمامة مرة، وكان إذا قدم البصرة كان كالمستخفي حتى يخرج (¬2). وعن الشافعي - صلى الله عليه وسلم - قال: دخل سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه على أمير المؤمنين المنصور، فجعل يتجانن عليه (¬3) ويمسح البساط، ويقول: ما أحسنه! بكم أخذتم هذا؟ ثم قال: البول! البول! حتى أُخرج؛ يعني: إنه احتال ليتباعد عنهم ويسلم من أمرهم (¬4). ¬
وذكر الحافظ المزي في "تهذيب الكمال" عن مسعر رحمه الله تعالى قال: دعاني أبو جعفر ليوليني، فقلت: إن أهلي يقولون: لا نرضى اشتراءك لنا في شيء بدرهمين؛ وأنت توليني! أصلحك الله! إن لنا قرابةً وحقاً؛ فأعفاه (¬1). أراد بالقرابة: أم الفضل الهلالية والدة عبد الله بن عباس، وكان مسعر هلالياً. وذكر عن أبي بكر بن أبي داود قال: كان المستعين بالله بعث إلى نصر بن علي - يعني: الجهضمي، أحد الحفاظ والأئمة بالبصرة - يشخصه للقضاء، فدعاه عبد الملك أمير البصرة، فأمره بذلك، فقال: أرجع فأستخير الله. فرجع إلى بيته نصف النهار، فصلى ركعتين، وقال: اللهم إن كان لي عندك خير (¬2) فاقبضني إليك. فنام، فأنبهوه فإذا هو ميت (¬3). وعن الحسن بن علي الزنجاني قال: كان يحيى بن يحيى النيسابوري الحافظ، أحد الأئمة يحضر مجلس مالك، وكان يحضره ¬
فائدة ثانية وخمسون
المأمون، قال: فانكسر قلم يحيى، فناوله المأمون قلماً من ذهب، فامتنع من أخذه، فكتب المأمون على ظهر جزء: ناولت يحيى بن يحيى قلماً فلم يأخذه. فلما ولي الخلافة كتب إلى عامله أن يولي يحيى بن يحيى قضاء نيسابور، فقال يحيى للأمير: قل لأمير المؤمنين: ناولتني قلماً وأنا شابٌّ فلم أقبله، أفتجبرني على القضاء وأنا شيخ؟ فرفع ذلك إلى المأمون فقال: يولي رجلاً يختاره. فأشار برجل، فلم يلبث أن دخل الرجل على يحيى وعليه السواد، فضم يحيى فراشه كراهية أن يجمعه وإياه فراش، فقال: ألم تخترني؟ قال: إنما قلت: اختاروه (¬1)، ولم أقل لك تتقلد القضاء (¬2). * فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وَخَمسونَ: روى النسائي عن ابن الفراسي: أن الفراسي رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أسأل يا رسول الله (¬3)؟ قال: "لا، وَإِنْ كُنْتَ سائِلاً لا بُدَّ فَاسْأَلِ الصَّالِحينَ" (¬4). قال الحافظ زين الدين العراقي رحمه الله تعالى في "شرح الترمذي": ¬
هل المراد بالصالحين الذين عليهم حقوق أموالهم، ولا يمنعون إعطاء ما عليهم من الحق، وقد لا يعلمون استحقاق المستحق من غيره، فإذا عرفوا بسؤال المحتاج أعطوه مما عليهم؟ أو المراد: الصالحون الساعون في مصالح الخلق بسؤالهم لمن علموا استحقاقه ممن عليه حق، فيعطيهم أرباب الأموال لوثوقهم بصلاحهم؟ قال: وقد رأينا جماعة يكون قصدهم قضاء حوائج المحتاجين، وليس لهم أموال؛ يسألون أرباب الأموال لأهل الحاجات، انتهى. قلت: لا شك أن الوجه الأول أقرب. وعليه: فلا منافاة بين الصلاح والغنى كما تقدم. ولكن أقرب منه أن يراد بالصالحين: الذين لا يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262]. بل من هؤلاء من يرون المنة للسائل عليهم، ويسابقون السائل بالعطاء، ولا يقولون له: لا، وكان بعضهم يقول للسائل: اكتب ما تحتاج إليه في مرة أخرى؛ فإني أكره أن أرى في وجهك ذُلَّ السؤال. ومن شأن هؤلاء البشاشة والصباحة، وإجزال النوال، والسماحة، ولا يعبسون في وجهه، ولا يتبرمون من سؤاله، وهم حِسان الوجوه
الذين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حقهم: "الْتَمِسُوا الْخَيْرَ عِنْدَ حِسانِ الوُجُوهِ". رواه تمام في "فوائده" من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬1)، وله طرق أخرى، وهذه أحسن الطرق (¬2). وفي بعض ألفاظه: "اطْلُبُوا الْحَوائِجَ وَالْخَيْرَ عِنْدَ حِسانِ الوُجُوهِ". وفي لفظ آخر: "عِنْدَ صِباحِ الوُجُوهِ". وقال حسان بن ثابت، أو عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنهما كما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "قضاء الحوائج"، والعسكري في " الأمثال ": [من الخفيف] لَقَدْ سَمِعْنا نبَيَّنا قالَ قَولاً ... هُوَ لِمَنْ يَطْلُبُ الْحَوائِجَ راحة اطْلُبُوا الْخَيْرَ وَالْحَوائِجَ مِمَّنْ ... زَيَّنَ اللهُ وَجْهَهُ بِصَباحَة (¬3) وما أحسنَ ما قيل: [من مجزوء الكامل المرفل] لِلْخَيْرِ أَهْلٌ لا تَزا ... لُ وُجُوهُهُمْ تَدْعُو إِلَيْهِ ¬
فائدة ثالثة وخمسون
طُوبَى لِمَنْ جَرَتِ الأُمُو ... رُ الصَّالِحاتُ عَلى يَدَيْهِ (¬1) * فائِدَةٌ ثالِثَةٌ وَخَمْسونَ: إذا كان سؤال الدنيا إذا احتيج إليه لا ينبغي أن يكون إلا من الصالحين، فالسؤال عن العلم واستفادته أولى بأن لا يكون إلا من الصالحين. روى مسلم في مقدمة " الصحيح " عن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم (¬2). قال النووي في "شرح المهذب": قالوا: ولا نأخذ العلم إلا ممن كملت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت معرفته، واشتهرت صيانته وسيادته، فقد قال ابن سيرين، ومالك، وخلائق من السلف: هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم (¬3). ثم قال في "آداب المستفتي": يجب عليه قطعاً البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفاً بأهليته؛ فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والإقراء وغير ذلك ¬
من مناصب العلماء بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك، ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلاً للفتوى، انتهى (¬1). وأهل الفتوى من استوفى شروط المفتي التي ذكرها النووي أيضاً، فقال: شرط المفتي كونه مكلفاً، مسلماً، ثقةً، مأموناً، منزهاً عن أسباب الفسق وخوارم المروءة، فقيهَ النفس، سليمَ الذهن، رزينَ الفكر، صحيحَ التصرف والاستنباط، متيقظاً (¬2). قلت: ومن كان بهذه الصفة فهو من خيار الصالحين وصفوة المفلحين. قال النووي: واتفقوا على أن الفاسق لا تصح فتواه، ونقل الخطيب فيه إجماع المسلمين (¬3). فظهر بذلك أن قصد الصالحين من العلماء، فالاستفتاء عند الحاجة إليه واجب. وهل يجب البحث عن الأعلم والأورع إذا كان هناك اثنان فأكثر ممن يستفتى، أو يجوز له استفتاء من شاء منهم؟ وجهان؛ الصحيح: الثاني لأن الجميع أهل. قال أبو عمرو بن الصلاح: لكن متى اطلع على الأوثق فالأظهر ¬
فائدة رابعة وخمسون
أنه يلزمه تقليده كما يجب تقديم أرجح الدليلين وأوثق الروايتين. قال النووي: فعلى هذا يلزمه تقليد الأورع من العالمين، والأعلم من الورعين؛ فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع، قلد الأعلم على الأصح (¬1). * فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَخَمسونَ: قال أبو طالب المكي في كتاب "القوت ": ويقال: إذا أثنى على الرجل جيرانُه في الحضر، وأصحابه في السفر، ومعامِلوه في الأسواق، فلا تشكُّوا في صلاحه، انتهى (¬2). وفيه أن الصلاح لا يغاير التجارة والاكتساب والاحتراف، وهو كذلك؛ بل التاجر والمحترف إذا اتقيا الله تعالى في الكسب والاحتراف، وأقاما الصلاة، وآتيا الزكاة، فإنهما من الصالحين. ولقد قال الله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 37]. لم يقل: لم يتجروا، ولم يبيعوا، بل قال: {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ} [النور: 37]، فهم كانوا يكتسبون ويحترفون إلا أنهم لم يتركوا لذلك طاعة توجهت عليهم، وبالنية يصير الكسب والحرفة عبادةً وطاعةً. وسئل بعض السادة عن التصوف، فقال: الحرفة والعفة. ¬
والحرفة - وإن كانت دنيئة - لا تناقض الصلاح أيضا كالجزارة، والدباغة إذا تحرز عن النجاسات. إلا أن من الحرف ما اختاره السلف لمعنى فيه. قال أبو طالب: وكانت هذه الأعمال العشرة صنائع الأخيار والأبرار: الخرز، والتجارة، والحمل، والحياطة، والقصارة، والخفاف، وعمل الحديد، وعمل المغازل، وصيد البر والبحر، والوراقة (¬1). ومنها ما كرهوه لمعنى فيه أيضاً. أوصى بعض التابعين رجلاً فقال: لا تسلم ولدك في بيعتين ولا في صنعتين: بيع الطعام، وبيع الأكفان؛ فيتمنى الغلاء وموت الناس. والصنعتان: صنعة الجزارة؛ فإنها تقسي القلب، وصنعة الصائغ؛ فإنه يزخرف الدنيا بالذهب والفضة. وكره ابن سيرين الدلالة. وكره قتادة أجرة الدلال. وكَرِه الحسن، وابن سيرين، وغيرهما الصرف (¬2). وذلك كله مع تجنب المعصية في ذلك كله من الرِّبا، وصياغة الآنية من النقدين والحلي المحرم، وكذلك التصوير وعمل آلات اللهو. فأما العاصي في حرفته فحاشا أن يكون من الصالحين، فإن كان ¬
مصراً على صغيرة أو مرتكباً لكبيرة في كسبه أو حرفته فهو من الفاسقين، وإذا خرج من عهدة ما يجب عليه وكان بنية كفاية نفسه، والقيام على عياله، ومساعدة المسلمين بحرفته، وأتقن صنعته، وأحسن، وسمح في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، والقضاء والاقتضاء خصوصاً في هذه الأعصار التي كثر فيها الفساد، ومرجت فيها العهود، واستنكر المعروف واستعرف المنكر، فهو في رتبة الصديقية فضلاً عن عموم الصلاح. ووجود واحد بهذه الصفة الآن في غاية العزة والشذوذ. وذكر أبو طالب عن بعض السلف قال: أتى على الناس زمان كان الرجل يأتي إلى مشيخة الأسواق فيقول: من ترون لي أعامل من الناس من أهل الصدق والوفاء؟ فيقال له: عامل من شئت. ثم أتى عليهم وقت آخر وكان الرجل يقول: من ترون أعامل من الناس؟ فيقال له: عامل من شئت إلا فلاناً وفلاناً. ونحن في زمان إذا قيل لنا: من نعامل من الناس؟ قلنا: ليس إلا فلاناً أو فلاناً. وأخشى أن يأتي على الناس زمان يذهب هذا أيضاً (¬1). ¬
فائدة خامسة وخمسون
* فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَخَمسونَ: ألهمني الله تعالى في قوله تعالى حكاية عن الجن في سورة الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] مع قوله تعالى في الحديث القدسي: "أَعْدَدْتُ لِعِبادِيَ الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ" كما رواه الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1)، دليلاً سمعياً للقول الراجح في الجن أنهم يثابون على الإحسان كما يعاقبون على الإساءة خلافاً لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وآخرين أنهم يعاقبون على المعصية، وليس لهم ثواب إلا النجاة من النار فقط احتجاجاً بأنه لا دليل من السمع على أن لهم ثواباً غير ذلك (¬2). ولا يخفى أن في هذه الآية مع الحديث المذكور دليلاً واضحاً على أن لهم ثوابًا غير ذلك لأن الله تعالى يقول: "أَعْدَدْتُ لِعبادِيَ الصَّالِحِينَ"، وهم أعم أن يكونوا بشراً أو ملكاً أو جِنًّا، فتأمله: فإنه لطيف وهو من استنباطي؛ والله الموفق! * فائِدَةٌ سادِسَةٌ وَخَمسونَ: حكى الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي رضي الله تعالى عنه في "روض ¬
الرياحين" في الحكاية الثالثة والعشرين بعد الأربعمئة عن بعض المشايخ قال: قال لي أبو بكر بن الشفق بطرسوس: إني سمعت من أبي الخير شيئاً لم يقبله قلبي منه. قلت: وما هو؟ قال: ذكر أنه لقي عيسى بن مريم عليهما السلام. قال: فقلت: أنا أحكي لك حكاية تصديقاً لأبي الخير: سمعت محمد بن حامد وقد ذكر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَيفَ أَخافُ عَلى أُمَّةٍ أَنا أَوَّلُهُمْ وَعِيسى آخِرُهُمْ" (¬1)؟ فقال ابن حامد: إن عيسى ينزل ثلاث مرات؛ يظهر في أول مرة للأولياء، وفي الثانية للصلحاء، والثالثة ينزل ببيت المقدس فيراه الخاص والعام. فقام ابن الشفق فدخل داره، فركب دابة وخرج علينا، فقلت له: أين تريد؟ فقال: إلى أبي الخير أستحله. فقلت له: اجلس إلى الغد. فقال: إني أخاف والله الموت. فلما كان بعد أيام رجع إلى طرسوس، فدخلت إليه فقال: رجعت بأعجب مما مضيت فيه عما مضيت فيه، وذلك أني وصلت وقد صلى ¬
فائدة سابعة وخمسون
أبو الخير العصر وهو في محرابه، فلما صرت بباب المسجد قال لي: يا أبا بكر! ارجع فقد جعلناك في حل (¬1). وقوله في هذه الحكاية يظهر في أول مرة للأولياء، وفي الثانية للصلحاء؛ أراد بالأولياء خواص الصلحاء، لا مطلق الصلحاء، فلا تنافي بينه وبين ما سنذكره إن شاء الله تعالى من أن الأولياء هم الصالحون. وقوله: وفي الثالثة ينزل ببيت المقدس؛ أراد أن يتخذ بيت المقدس نزلاً وسكناً، ولا يريد نزوله من السماء؛ فإن نزوله من السماء يكون بدمشق لحديث أوس بن أوس رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَنْزِلُ عِيسى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ الْمَنارَةِ البَيْضاءِ شَرْقِي دِمَشْقَ". رواه الطبراني في "الكبير" بإسناد حسن (¬2). وهو في "الصحيح" من حديث النواس بن سمعان (¬3). * فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَخَمسونَ: روى الإمام أحمد، وابن ماجه عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله: "الْمَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ، يُصْلِحُهُ اللهُ فِي لَيلَةٍ " (¬4). ¬
وهذا الحديث يحتمل معنيين: الأول: أن المهدي قد يكون قبل استخلافه مقارفاً لبعض ما عليه الناس، ثم يصلحه الله تعالى في ليلة فيكون من الصالحين كما أصلح الله تعالى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه حين استخلف، وكان قبل ذلك متنعماً بما عليه أبناء الخلافة والنعمة. والثاني: أن المراد: يصلحه الله تعالى للخلافة، ويعرفه بما يحتاج إليه من سياسة الرعية ونحوها في ليلة واحدة. والحاصل: أن الله تعالى يصلحه ويصلح به كما روى أبو نعيم الأصبهاني في "الأربعين" التي جمعها في المهدي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "وَيْحَ هَذهِ الأُمَّةَ مِنْ مُلوكٍ جَبابِرَةٍ كَيفَ يَقْتُلُونَ وَيَحيفونَ الْمُطِيعينَ إِلاَّ مَنْ أَظْهَرَ طاعَتَهُمْ، فَالْمُؤْمِنُ التَّقِيُّ يُصانِعُهُمْ بِلِسانِهِ وَيَفِرُّ مِنْهُمْ بِقَلْبِهِ، وإِذا أَرادَ اللهُ تَعالَى أَنْ يُعِيدَ الإِسْلامَ عَزِيزاً قَصَمَ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَهُوَ القادِرُ على ما يَشاءُ أَنْ يُصْلِحَ الأُمَّةَ بَعدَ فَسادِها. يا حُذَيفَةُ! لَوْ لَمْ يَبقَ مِنَ الدُّنيا إِلاَّ يَومٌ واحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ ذَلِكَ اليَومَ حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِيَ، تَجْري الْمَلاحِمُ على يَدَيْهِ، وَيُظْهِرُ الإِسْلامَ؛ لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ" (¬1). ¬
فائدة ثامنة وخمسون
* فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَخَمسونَ: من لطائف الشعر الرائق اللائق إيراده في هذا الباب وإنشاده قولُ الشيخ العارف بالله تعالى عبد العزيز بن أحمد الدميري رحمه الله تعالى كما نقله ابن السبكي في " الطبقات " رحمه الله تعالى: [من الوافر] إِذا ما ماتَ ذُو عِلْمٍ وَتَقْوى ... فَقَدْ ثُلِمَتْ مِنَ الإِسْلامِ ثُلْمَة وَمَوْتُ العادِلِ الْمَلِكِ الْمُوَلَّى ... بِحُكْمِ الْحَقِّ مَنْقَصَةٌ وَوَصْمَة وَمَوْتُ الصَّالِحِ الْمَرْضِيِّ نَقْصٌ ... فَفِي مَحْيَاهُ لِلإِسْلامِ نَسْمة وَمَوْتُ الفارِسِ الصرِّغامِ ضَعْفٌ ... فَكَمْ شَهِدْتَ لَهُ فِي النَّصْرِ عَزْمَه وَمَوْتُ فَتًى كَثِيرِ الْجُودِ مَحْلٌ ... فَإِنَّ بَقاءَهُ خِصْبٌ وَنِعْمَة فَدُونَكَ خَمْسَةً تَبْكِي عَلَيْهِم ... وَمَوْتُ الغَيْرِ تَخْفِيفٌ وَرَحْمَة (¬1) ¬
قلت: قد سبق أن الأرض تبكي على الصالح أربعين يوماً والملك العادل، والمؤمن الشجاع، والجواد من أخيار الصالحين، وأما العالم التقي فهو شهيد أو صديق، وهما من أخص الصالحين. وفي حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ غَدا يُرِيدُ العِلْمَ لا يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِلَّهِ فَتَحَ اللهُ لَهُ باباً إِلَى الْجَنَّةِ، وَفَرَشَتْ لَهُ الْمَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أَكْنافَها، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ مَلائِكَةُ السَّماواتِ وَحِيتانُ البَحْرِ، وَلِلْعالِمِ مِنَ الفَضْلِ على العابِدِ كَالقَمَرِ لَيلَةَ البَدْرِ على أَصْغَرِ كَوْكَبٍ فِي السَّماءِ، وَالعُلَماءُ وَرَثَةُ الأَنْبِياءِ؛ إِنَّ الأَنْبِياءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِيناراً وَلا دِرْهَماً، وَلَكِنَّهُمْ وَرَّثوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظِّهِ، وَمَوْتُ العالِمِ مُصِيبَةٌ لا تُجْبَرُ، وَثُلْمَةٌ لا تُسَدُّ، وَهُوَ نَجْمٌ طُمِسَ، مَوْتُ قَبِيلَةٍ أَيْسَرُ مِنْ مَوتِ عالِمٍ"، رواه البيهقي (¬1). وهو عند أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه " دون قول: " وَمَوت العالِمِ ... " إلى آخره (¬2). وروى البزار عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وابن لال في "مكارم الأخلاق " عن ابن عمر، وجابر رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَوْتُ العالِمِ ثُلْمَةٌ فِي الإِسْلامِ لا تُسَدُّ ما اخْتَلَفَ ¬
اللَّيْلُ وَالنَّهارُ" (¬1). وقوله: وموت الغير تخفيف رحمة؛ يشير إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتراحٌ مِنْهُ - يعني: الميت - العَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيا وَأَذاها إِلَى رَحْمَةِ اللهِ تَعالَى، وَالعَبْدُ الفاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبادُ وَالبِلادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوابُّ". رواه الإمام مالك، والإمام أحمد، والشيخان، والنسائي عن أبي قتادة - رضي الله عنه - (¬2). وروى الخطيب، والديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا ماتَ صاحِبُ بِدْعَةٍ فَقَدْ فُتِحَ فِي الإِسْلامِ فَتْحٌ" (¬3). وصاحب البدعة شامل لمن يبتدع في الاعتقاد، ومن يبتدع الظلم والضرر والأذى. ولأبي العتاهية: [من مجزوء الكامل] ¬
فائدة تاسعة وخمسون
مَوْتُ بَعْضِ النَّاسِ فِي الـ ... أَرْضِ عَلى بَعْضٍ فُتوحُ (¬1) * فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَخَمسونَ: روى الإمام أحمد - بإسناد جيد - عن أبي منيب الأحدب قال: خطب معاذ رضي الله تعالى عنه بالشام، فذكر الطاعون، فقال: إنها رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وقبض الصالحين قبلكم (¬2). قوله: وقبض الصالحين قبلكم؛ ليس معناه أن الطاعون لا ينزل إلا بالصالحين، بل معناه أنه إذا نزل بهم فهو رحمة، وإذا نزل بالفاجرين فهو عذاب كما في "صحيح البخاري" رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون، فقال: "كانَ عَذاباً يَبْعَثُهُ اللهُ عَلى مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ، فَجَعَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ؛ ما مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍ فَيَكُونُ فِيهِ، لا يَخْرُجُ صابِراً مُحْتَسِباً، يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يُصِيبُهُ إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَهُ، إِلاَّ كانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ" (¬3). فالطاعون يزيد الصالح في ثوابه، ويرفع من مقامه حتى يلحقه بالشهداء كما سيأتي. وفي " الصحيحين " عن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬
فائدة هي تمام ستين فائدة
"الطَّاعُونُ شَهادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ" (¬1). * فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ سِتِّينَ فائِدَةً: من لطائف الشعر اللائق إيراده أيضاً في هذا الباب، وإنشاده قول شيخ الطائفة، وإمام الفرقة العاطفة على حب اللُّه، والعاكفة؛ أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري كما نقله عنه ابن السبكي في " الطبقات ": [من الخفيف] جَنِّبانِي الْمُجونَ يا صاحِبَيَّا ... وَاتْلُوا سُورَةَ الصَّلاحِ عَلَيَّا قَدْ أَجَبْنا لِزاجِرِ العَقْلِ طَوْعاً ... وَتَرَكْنا حَدِيثَ سَلْمَى وَمَيَّا وَمَنَحْنا لِمُوجِبِ الشِّعْرِ نَشْراً ... وَشَرَعْنا لِمُوجِبِ اللَّهْوِ طَيَّا وَوَجَدْنا إِلَى القَناعَةِ باباً ... فَوَضَعْنا عَلى الْمَطامِعِ كَيَّا كُنْتُ فِي حَرِّ وَحْشَتِي لاخْتِيارِي ... فَتَعَوَّضْتُ بِالرِّضا مِنْهُ فَيَّا ¬
إِنَّ مَنْ يَهْتَدِي لِقَطْعِ هَواهُ ... فَهْوَ فِي العِزِّ حازَ أَوْجَ الثُّرَيَّا وَالَّذِينَ ارْتَوَوْا بِكَأْسِ هَواهُمْ ... فَعَلى الصَّدِّ سَوفَ يَلْقَونَ غَيَّا (¬1) قوله رضي الله تعالى عنه: جنباني المجون يا صاحبيا ... إلى آخره؛ إشارة إلى أن الصلاح يناقض المجون، وهو الخلاعة إذا كانت الخلاعة هي مقصود الخليع، أما إذا كان متستراً بالمجون، متترساً بالخلاعة إيثاراً للخمول، وطلباً لصفاء وقته مع الله تعالى، وخلوص قلبه له، فلا يناقض الصلاح، وهذا طريق الملامتية؛ فإنهم لا يظهرون خيراً ولا يضمرون شراً. ولا في صحة طريق الملامتي أن لا يرتكب معصية هو بها عاص في نفس الأمر، وإنما غاية أمره أن يظهر ما صورته المعصية، وهو في نفسه مطيع؛ كمن يخيل إلى الناس أنه يشرب الخمر ويأكل الحشيش، وهو إنما يشرب سويقاً ويأكل حلوى. ومأخذ الملامتية عن الخضر عليه السلام في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار بغير أجرة لقوم لم يضيفوه وصاحبَه. وهي طريقة خطرة خصوصاً في هذه الأزمان. وفي نفس الأمر فاتباع السنة ظاهراً وباطناً أتم من هذه ¬
فائدة حادية وستون
الطريقة وأصلح (¬1). وقد أوضحت طريقة الملامتية في "منبر التوحيد"، وهو شرح ألفية الجد في التصوف. * فائِدَةٌ حادِيَةٌ وَسِتُّونَ: روى البيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي السكن الهجري رحمه الله تعالى قال: مات خليل الله عليه السلام فجأة، ومات داود عليه السلام فجأة، ومات سليمان بن داود عليهما السلام فجأة، والصالحون؛ وهو تخفيف على المؤمن، وتشديد على الكافر (¬2). وروى الإمام أحمد، والبيهقي في "السنن" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَوتُ الفَجْأَةِ راحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَأَخْذَةُ أَسَفٍ لِلفاجِرِ" (¬3). ¬
روى الإمام أحمد، وأبو داود عن عبيد بن خالد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَوْتُ الفَجْأَةِ أَخْذَةُ أَسَفٍ" (¬1)؛ أي: للفاجر خاصة بدليل حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. ولقد سبق أن الطاعون رحمة للصالحين، وعذاب على الفاجرين، وفي ذلك دليل على أن العبد الصالح كيفما كان فهو من الله تعالى في خير، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ اللهَ لَمْ يَقْضِ لَهُ قَضاءً إِلاَّ كانَ خَيراً لَهُ". رواه الإمام أحمد، وابن حبان في " صحيحه " عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬2). وفي "صحيح مسلم" عن صهيب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيْراً لَهُ، وإِنْ أَصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ " (¬3). ولا شك أن المؤمن كلما ترقى في الصلاح كان (¬4) الخير له في قضاء الله تعالى أكمل وأتم. ¬
فائدة ثانية وستون
* فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وَسِتُّونَ: روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ضاف النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعرابيٌّ، فطلب له شيئاً، فلم يجد له شيئاً حتى أصاب لقمة من سلت، فأخذها وجعل يجزئها، ووضعها بين يديه، فأكل الأعرابي حتى شبع، وفضلت فضلة، فجعل الأعرابي ينظر إليه ويقول: إنك لرجل صالح (¬1)! قلت: في هذا الحديث إشارة إلى أن الأمر الخارق دليل مستقر في النفوس على صلاح العبد وولايته، وقد شاهدنا كثيراً من إخواننا الصالحين الصادقين يضيفون الطعام القليل القوم الكثيرين، وكلُّهم من رسول الله مُلْتَمِسٌ. * فائِدَةٌ ثالِثَةٌ وَسِتُّونَ: الرغبة في الصلاح محمودة من كل أحد، إلا أن العبد إذا شاب كانت به أليق، كما أن الفسق منه أفحش. قال الحافظ عبد الكريم بن السمعاني في "تاريخه ": أنشدنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي قال: أنشدنا أبو سعيد بن صاعد القاضي ¬
فائدة رابعة وستون
قال: أنشدنا أبو يوسف يعقوب بن محمد بن أحمد الأديب: [من الوافر] إِلَهِي إِنَّ قَلْبِي غَيْرُ صاحِي ... عَلى الْحالاتِ مِنْ سُكْرِ الْجُناحِ ظَنَنْتُ الشَّيْبَ يُصْلِحُنِي فَهَذا ... مَشِيْبِي أَيْنَ آثارُ الصَّلاحِ * فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَسِتُّونَ: ذكر الديلمي في "الفردوس" من حديث أبي الغصن رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَّهُمَّ أَرِنِي الدُّنْيا كَما تُرِيها صالِحَ عِبادِكَ" (¬1). وهو في " الإحياء " بلفظ: "اللَّهُمَّ أَرِنِي الدُّنيا كَما أَرَيْتَها الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكَ". وذلك أن الصالحين يرون الدنيا حقيرة بالنسبة إلى الآخرة كما ذكره في " الإحياء " (¬2). * فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَسِتُّونَ: روى أبو القاسم الأصبهاني في " الترغيب " عن صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اعْلَمْ أَنَّ عَونَ اللهِ مَعَ صالِحِي التُّجَّارِ" (¬3). ¬
فائدة سادسة وستون
وعن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ أَطْيَبَ الكَسْبِ كَسْبُ التُّجَّارِ الَّذِينَ إِذا حَدَّثوا لَمْ يَكْذِبُوا، وَإِذا وَعَدُوا لَمْ يُخْلِفُوا، وَإِذا ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونوا، وَإِذا اشْتَرَوْا لَمْ يَذُمُّوا، وَإِذا باعُوا لَمْ يَمْدَحُوا، وَإِذا كانَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَمْطُلُوا، وَإِذا كانَ لَهُمْ لَمْ يُعَسِّرُوا" (¬1). قلت: وهؤلاء هم صالحو التجار، ومن أوصافهم أنهم لا يكثرون الأيمان على البيع والشراء وإن كان صدقاً، ولا يغشون، ولا يكتمون عيباً، ولا يتركون صلاة في وقتها لبيع ولا شراء، ويؤتون [95] الزكاة، ولا يبيعون على بيعِ مسلم ولا ذمي، ولا يشترون على شرائه، ولا يسومون على سَومه، ويحذرون من كل إثم، ويرغبون في كل خير. * فائِدَةٌ سادِسَةٌ وَسِتُّونَ: روى أبو نعيم، وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرَّجُلُ الصَّالِحُ يَأْتِي بِالْخَبَرِ الصَّالِحِ، وَالرَّجُلُ السُّوءُ يَأْتِي بِالْخَبَرِ السُّوءِ" (¬2). وفي لفظ: "يُحِبُّ الْخَبَرَ الصَّالِحَ". ¬
وروى أحمد بن منيع عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الْخَبَرُ الصَّالِحُ يَجِيْءُ بِهِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، وَالْخَبَرُ السُّوءُ يَجِيْءُ بِهِ الرَّجُلُ السُّوءُ" (¬1). والمعنى أن من أخلاق الصالحين التبشير دون التنفير، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا" (¬2). وكذلك لا يحبون نقل الأراجيف، ولا إشاعة السوء والفواحش في المسلمين لأن ذلك من خلق الأشرار المنافقين كما قال الله تعالى في أهل الإفك: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]. روى ابن أبي حاتم عن خالد بن معدان قال: من حدث بما أبصرت عيناه وسمعت أذناه - يعني: من السوء - فهو من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا (¬3). وقال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] الآية. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسيرها: الخبيثات من ¬
الكلام للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلام، والطيبات من الكلام للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلام (¬1). أوقال مجاهد في قوله تعالى، : {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26]: من كان طيباً فهو مبرأ من كل قول خبيث يقوله، يغفر الله له، ومن كان خبيثاً فهو مبرأ من كل قول صالح يقوله، يرده الله عليه، لا يقبله [منه]. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني (¬2). وقال عطاء بعد أن فسر الآية بنحو قول ابن عباس في قوله تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ} [النور: 26]: ألا ترى أنك تسمع بالكلمة الخبيثة من الرجل الصالح فتقول: غفر الله لفلان، ما هذا من خلقه، ولا من شيمه، ولا مما يقول، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26] أن يكون ذلك من شيمهم ولا من أخلاقهم، ولكن الزلل قد يكون. رواه عبد بن حميد (¬3). وفيه إشارة إلى أن الرجل الصالح لا تضره الكلمة السوء إذا بدرت منه واستغفر منها. ¬
ولقد سبق قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ إِذا أَساؤُوا اسْتَغْفَرُوا، وَإِذا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا" (¬1). نعم؛ من شرط الصالح إذا استغفر من الكلمة السوء والفعلة السوء أن يضيق لها صدره، ويخفق لها قلبه، ويلوم عليها نفسه. ولا يظهر الاستغفار وفي قلبه ميل لتلك الكلمة، ولا تعلق بتلك الفعلة، ونفسه حينئذ لوامة. وقد قال الله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1 - 2]. و(لا) زائدة لتأكيد الكلام، وإقسام الله تعالى بها تعظيم لها وتعريف بمقامها. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]؛ قال: تندم على ما فات، وتلوم عليه. رواه ابن المنذر (¬2). وقال الحسن رحمه الله تعالى في الآية: إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه؛ ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي، ما أردت بحديثي نفسي، ولا أراه إلا معاتبها، وإن الفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه. رواه ابن ¬
فائدة سابعة وستون
أبي الدنيا في "محاسبة النفس "، وغيرُه (¬1). ولقد قلت في النفس اللوامة: [من الطويل] إِذا عَمِلَ العَبْدُ التَّقِيُّ خَطِيئَةً ... تَكادُ تَذُوبُ النَّفْسُ مِنْ أَجْلِها حُزْنا تَلُومُ عَلى ما فاتَ مِنْها كَأَنَّها ... تَزِلُّ مِنْ الوَسْواسِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَتَخْشَى عَذابَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِها ... وَلَكِنَّها تَرْجُو مِنَ الْمُؤْمِنِ الأَمْنا فَلا سِرُّها يَهْدِي لِما امْتُحِنَتْ بِهِ ... وَلا فِكْرُها يَصْحُو وَلا عَيْشُها يَهْنا وَلَيْسَ لَها مِنْ راحَةِ دُونَ أَنْ تَرى ... مِنَ اللهِ بِالْمَوْتِ الْمَسَرَّةَ وَالْحُسْنَى * فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَسِتُّونَ: روى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي عون الأنصاري رحمه الله تعالى قال: من أراد الله به خيراً يلقيه رجلاً صالحاً يعرف بينه وبينه ما لم يكن عرفه قبل. ¬
فائدة ثامنة وستون
وفيه إشارة إلى أن معرفة الصالحين دليل على صلاح العبد لما سبق من أن الجنس إلى الجنس أميل، وعليه أقبل، وما من عبد صالح يعرفه إلا رجع منه بخير يتعرفه. * فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَسِتُّونَ: روى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقات الصوفية" عن أبي بكر بن طاهر رحمه الله تعالى قال: احتياج الأشرار إلى الأخيار صلاح الطائفتين، واحتياج الأخيار إلى الأشرار فتنة للطائفتين (¬1). قلت: وبيانه أن الحاجة إذا اضطرت الأشرار إلى الأخيار أوقعت في قلوبهم توقير الأخيار والصالحين ومحبتهم، وبذلك صلاحهم، ثم إن اضطرارهم إلى الأخيار يورث الرحمة في قلوب الأخيار والشفقة عليهم، ويبذلون الجهد في نصيحتهم وإرشادهم، فتصلح الطائفتان جميعاً. فأما إذا اضطرت الحاجة الأخيار إلى الأشرار ألجأت الأخيار إلى مداراتهم ومودتهم، والتقرب لقلوبهم وترك الإنكار عليهم، وأوهمت الأشرار خيرية أنفسهم وتزكيتها، والتكبر والافتخار، فتفسد الطائفتان، ويفتنون. * فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَسِتُّونَ: روى السلمي عن أبي بكر الوراق قال: الناس ثلاثة: العلماء، ¬
فائدة هي تمام سبعين فائدة
والأمراء، والقراء؛ فإذا فسدت الأمراء فسد المعاش، وإذا فسدت العلماء فسدت الطاعات، وإذا فسدت القراء فسدت الأخلاق (¬1). ومفهومه: أن المعاش إنما يصلح بصلاح الأمراء، والطاعات بصلاح العلماء، والأخلاق بصلاح القراء. بيانه: أن المراد إذا فسدت الأمراء فظلمت أهل الزرع ضعفوا عنه، أو أهل الماشية قلَّتْ ماشيتهم، أو أبعدوا ماشيتهم عن ولاية الأمير الظالم، أو أهل التجارة قلَّتِ البضائع وانقطع الجلب عن البلد، فيفسد المعاش. وإذا فسدت العلماء تساهلوا في الطاعات، أو تجوزوا في المكروهات والمحرمات، فالعوام يركبون ما يهون، ويحتجون بأحوال العلماء، فتفسد الطاعات. وإذا فسد القراء فلم يتخلقوا بأخلاق القرآن من الحلم والكرم، والاحتمال والإعراض عن الجاهلين، وظهرت عليهم مساوئ الأخلاق، فالعامة يقع بعضهم في بعض بكل سوء، فتفسد الأخلاق من الخاصة والعامة. * فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ سَبْعِينَ فائِدَةً: روى السلمي أيضا عن أبي بكر الوراق أيضاً قال: إذا فسدت العامة ¬
فائدة حادية وسبعون
غلبت الفساق على أهل الصلاح، وولاة الجَور على ولاة العدل، والكفار على المسلمين. وقال: وإذا فسقت الخاصة غلبت الكَذَبة على الصادقين، والكهنة على الموقنين، والموسوسون على المخلصين (¬1). قلت: ووجهه أن الخاصة إذا فسقت لم يقووا على إنكار المنكر، وتكذيب الكاذب والكاهن، ونصح الموسوس، وإذا فسق أكثرهم قاس الناس بهم من لم يفسق منهم، واختلط الأمر واشتبه الحق. وأما فساد العامة فإنهم يصير ميلهم مع كل مارق يمكِّنهم من أخذ أموال الناس، وظلم العباد، فهم أنصاره على من يأخذ على أيديهم، وينكر عليهم ويمنعهم من الظلم. * فائِدَةٌ حادِيَةٌ وَسَبْعونَ: روى السلمي أيضاً عن أبي عبد الله محمد بن علي الترمذي رحمه الله تعالى قال: صلاح خمسة أصناف في خمسة مواطن: صلاح الصبيان في الكتاب، وصلاح القطاع في السجن، وصلاح النساء في البيوت، وصلاح الفتيان في العلم، وصلاح الكهول في المساجد (¬2). وبيانه: أن الصبيان ينكَفُّون بالكتاب عن اللعب ومخالطة الصبيان العارمين، وعن الفساد، وبذلك صلاحهم وصيانتهم. ¬
فائدة ثانية وسبعون
ولعل هذا باعتبار زمان تقدم، وأما الآن فقد يكون في بعض المكاتب فساد بعض الصبيان لتقصير المعلمين وتساهلهم. وقُطَّاعُ الطريق إذا حُبِسوا حِيْلَ بينهم وبين القتل والسلب وإخافة الطريق، وبذلك صلاحهم وصلاح المارين بالطريق. والنساء إذا كن في البيوت سترت عوراتهن، وغضت أبصارهن، وأُمِنَ تبرجهن، وبذلك صلاحهن. والفتيان إذا تمرنت نفوسهم في الشباب على طلب العلم أشربت محبة العلم والطاعة، وبذلك يصلحون. والكهول إذا كانوا في المساجد كانوا مشتغلين بالعبادة منكَفِّين عن مخالفة الناس ومقاساتهم ومداراتهم، وذلك أصلح لهم. * فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وَسَبْعونَ: روى السلمي عن معروف الكرخي رحمه الله تعالى قال: ما أكثرَ الصالحين وأقل الصادقين في الصالحين (¬1)! وأراد بالصالحين في قوله: ما أكثر الصالحين؛ من يظهر عليه آثار الصالحين وأعمالهم. ونظيره ما ذكره أبو طالب المكي عن مجاهد قال: قلت لابن عمر رضي الله تعالى عنهما وقد دخلت القوافل: ما أكثرَ الحاجَّ! ¬
فائدة ثالثة وسبعون
فقال: ما أقلَّهم، ولكن قل: ما أكثرَ الرَّكْب (¬1)! أراد أن الحاج حقيقة هو الذي يصح قصده في حجه، ويتم بر حجه من طيب النفقة وحسن الاتباع. قال مجاهد: وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا نظر إلى ما أحدث الناس من الزي والمحامل يقول: الحاج قليل والركب كثير. قال: ثم نظر إلى رجل ضعيف رث الهيئة تحته جوالق، فقال: هذا نعم من الحاج (¬2). * فائِدَةٌ ثالِثة وَسبعونَ: روى أبو يعلى، والبزار، وابن حبان، والحاكم - وصححاه - عن عامر بن سعد، عن أبيه رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا جاء إلى الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فقال حين انتهى إلى الصف: اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال: "مَنِ الْمُتكلِّمُ آنِفًا؟ ". قال الرجل: أنا يا رسول الله. قال: "إِذَنْ يُعْقَرُ جَوادُكَ، وَتُسْتَشْهَدُ" (¬3). ¬
فائدة رابعة وسبعون
في هذا الحديث إشارة إلى أن العبد لا يستقيم مقام الصالحين إلا بالعبور إلى مقام الشهادة، والآية المتقدمة تدل على ذلك، ومن ثم جعلتُ التشبهَ بالشهيد بعد التشبه بالصالحين. * فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَسَبعونَ: روى أبو بكر بن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]؛ قال: "يا رَبِّ! مَسْأَلَةَ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنها"، فهبط جبريل عليه السلام فقال: إن الله يقرئك السلام، هذا عبدي الصالح بالنية الصادقة، وقلبه تقي يقول: يا رب! فأقول: لبيك، فأقضي حاجته (¬1). ومن هنا يستحب طلب الدعاء من الصالحين كما تقدم. وفي "صحيح مسلم" عن أسير بن جابر رحمه الله تعالى قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس ابن عامر؟ قال: نعم. قال: من مراد، ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: كان بك برصٌ فبرأت منه إلا موضع درهم؟ ¬
قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يَأْتِي عَلَيْكَ أُوَيْسُ بْنُ عامِرٍ مَعَ أَمْدادِ أَهْلِ اليَمَنِ، مِنْ مُرادٍ ثُمْ مِنْ قَرَنٍ، كانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضعَ دِرْهَمٍ، لَهُ والِدةٌ هُوَ بِها بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلى اللهِ لأَبَرَّهُ؛ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ "؟ فاستغفر لي. قال: فاستغفر له، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي. فلما كان من العام المقبل حج رجلٌ من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس؟ قال: تركته رث البيت، قليل المتاع. قال: سمعت رسول الله يقول: "يَأْتِي عَلَيْكَ أُويسُ بْنُ عامِرٍ مَعَ أَمْدادِ أَهْلِ اليَمَنِ، مِنْ مُرادٍ ثُمْ مِنْ قرنٍ، كانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضعَ دِرْهَمٍ، لَهُ والِدةٌ هُوَ بِها بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلى اللهِ لأَبَرَّهُ؛ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ ". فأتى أويس، فقال: استغفر لي، فقال: أنت أحدث عهداً بسفر
صالحٍ، فاستغفر لي. قال: لقيت عمر؟ قال: نعم. فاستغفر له، ففطن له الناس، فانطلق على وجهه. قال أسير: وكَسَوتُه بردةً، فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة (¬1)؟ في هذا الحديث وصية عمر وغيره ممن يستطيع أن يستغفر له أويس القرني لكونه صالحاً خيِّراً بارًّا بأمه، كما في حديث مسلم أيضاً عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقالُ لَهُ: أُويْسُ، وَلَهُ والِدَةٌ، وَكانَ بِهِ بَياضٌ فَبَرِئَ؛ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكَ (¬2) " (¬3). وروى الحاكم - وصححه - عن علي رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ التَّابِعِينَ " (¬4). وجمع النووي بين هذا وبين قول أحمد بن حنبل وغيره: أفضل ¬
فائدة خامسة وسبعون
التابعين سعيد بن المسيب؛ فإن مرادهم أن سعيد أفضل في العلوم الشرعية كالحديث، والتفسير، والفقه، ونحوها، لا في الخير عند الله تعالى (¬1). * فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَسَبْعونَ: روي عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: أهل الصلاح والحسبة من المؤذنين أول من يكسى يوم القيامة. نقله ابن سيد الناس في "شرح الترمذي " (¬2). والمراد أنهم أول من يكسى بعد الأنبياء والصديقين والشهداء، وأول من يكسى مطلقاً إبراهيم، ثم نبينا - صلى الله عليه وسلم -. روى الشيخان، والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَيُّها النَّاسُ! إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللهِ حُفاةً مُشاةً عُراةً غُرْلاً - ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] الآية - وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى مِنَ الْخَلائِقِ إِبْراهِيمُ عَلَيهِ السَّلامُ" (¬3). وروى الإمام عبد الله بن المبارك، والإمام أحمد؛ كلاهما في "الزهد"، وأبو يعلى عن علي رضي الله تعالى عنه قال: أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام قبطيتين، ثم يكسى النبي - صلى الله عليه وسلم - حَبِرة ¬
فائدة سادسة وسبعون
وهو على يمين العرش (¬1). وروى حميد بن زنجويه في "فضائل الأعمال" عن كثير بن مرة الحضرمي رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث: "وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ بِلالُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ" (¬2). وروى الدينوري في "مجالسته" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: يحشر الناس كلهم عراة ما خلا أهلَ الزهد (¬3). وهذه خصوصية للزاهدين من الصالحين أنهم يخرجون من قبورهم وعليهم كسوتهم. * فائِدَةٌ سادِسَةٌ وَسَبْعونَ: روى أبو نعيم عن سالم رحمه الله تعالى: أن رجلاً سأله وهو يطوف بالبيت: هل يؤم الأعرابي المهاجر؟ قال: ما يضره إذا كان رجلاً صالحاً (¬4)؟ فيه أن صلاح الإمام معتد به، وهو كذلك لأنه شفيع، وإن صحت إمامة الفاسق فإمامة العدل الصالح أولى وإن قل جمعه. ¬
فائدة سابعة وسبعون
* فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَسَبْعونَ: روى ابن أبي شيبة عن عبيد بن عبد الملك قال: كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يقول: اللهم أصلح من كان صلاحه صلاحاً لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، اللهم أهلك من كان هلاكه صلاحاً لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ويلائم ذلك: ما أخرجه الإمام أحمد في "الزهد" عنه أنه قال لابنه عبد الملك رحمه الله تعالى قال: ما أحد من الناس أحب إلي صلاحاً منك إلا إمام جماعة، يكون صلاحه صلاح من تحت يده. * فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَسَبعونَ: نقل أبو طالب المكي عن الإمام أحمد أنه كان يقول: إذا كان السلطان صالحاً فهو خير من صالحي الأمة، وإذا كان فاسقاً فصالحو الأمة خير منه. قال أبو طالب: وهذا قول عدل (¬2). قلت: في قوله وإذا (¬3) كان فاسقاً فصالحو الأمة خير منه؛ إشارة إلى أنه - وإن فسق - لا يخلو من خير كما في الحديث: "سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَراءُ يَفْسُدُونَ، وَما يُصْلِحُ اللهُ بِهِمْ أَكثَرُ". رواه البيهقي عن ابن مسعود ¬
فائدة تاسعة وسبعون
رضي الله تعالى عنه (¬1). ومن هنا لما سئل سهل بن عبد الله التُّسْتَري رحمه الله تعالى: أي الناس خير؟ قال: السلطان. قيل: كنا نرى أن شر الناس السلطان! فقال مهلاً؛ إن لله عز وجل في كل يوم نظرتين؛ نظرة إلى سلامة أموال المسلمين، ونظرة إلى سلامة أبكارهم، فيغفر له جميع ذنوبه (¬2). وروى المعافى في "الجليس والأنيس" عن مردويه قال: سمعت الفضيل - يعني: ابن عياض - رحمه الله تعالى يقول: لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام؛ لأن صلاحه صلاح العباد والبلاد. قال: فقام إليه ابن المبارك فقبل وجهه، وقال: يا معلم الخير! من يحسن هذا غيرك (¬3)؟ * فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَسَبْعونَ: روى ابن أبي شيبة عن مقاتل بن سليمان رحمه الله تعالى في قوله ¬
فائدة هي تمام ثمانين فائدة
تعالى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87]؛ قال: العهد الصلاح (¬1). وروى ابن المنذر عن ابن جريج رضي الله تعالى عنه في الآية قال: المؤمنون يومئذ بعضهم لبعض شفعاء (¬2). وفي الحديث: " إِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ شَفاعَةً" (¬3). ولكن لا يخفى أن شفاعة الصالحين من المؤمنين أعظم من شفاعة عامتهم، وأتم وأنفع. * فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ ثَمانِينَ فائِدَةً: قال إخوة يوسف كما حكى الثه تعالى عنهم: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9]. ظنوا أن الصلاح والخير يأتي بالفساد والشر، وهذا مما لا يكون، ولو قتلوه هلكوا. قال السدي رحمه الله تعالى في قوله: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9]: تتوبون مما صنعتم به. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬4). ¬
فائدة حادية وثمانون
ومثل هذا لا ينبغي أن يعزم العبد على المعصية اعتماداً على التوبة، لأنه قد يحال بينه وبين التوبة كما قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54]. ويحتمل أن يكون معنى قولهم: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9] أي: صالحاً حالكم وبالكم من حيث إن قلوبكم لم تتشتت بسبب محبة أبيكم ليوسف وإقباله عليه، ويكون وداد أبيكم ونظره إليكم مقصوراً عليكم، ومن حيث إن يوسف إذا ذهب عن شقيقه لم يبق لشقيقه قوة في معارضتنا. ولقد تكدر عليهم مرادهم، وتنغصت معيشتهم لحزن أبيهم لفراق ولده، وتوجه قلبه إلى طلبه. كذلك من طلب صلاح شأنه بنفسه وتدبير نفسه لم يتم مراده، ولم يحصل على مرامه. * فائِدَةٌ حادِيَةٌ وَثَمانونَ: قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)} [التوبة: 75 - 78]. في هذه الآية الكريمة أنه لا ينبغي للعبد أن يثق بنفسه في وعدها
بالصلاح وهي تطلب الدنيا، وأن الصلاح لا يتم لعبد وقلبه ملتاظ بالدنيا، وأن معاهدة العبد الله تعالى على العمل الصالح إن آتاه من الدنيا مالاً أو جاهاً أو منصباً مستنداً إلى حوله وقوته، غير مستعين بالله تعالى من أحوال المنافقين. روى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في "دلائل النبوة" عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً. قال: "ويحَكَ يا ثَعْلَبَةُ! قَلِيلٌ تُطِيقُ شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيقُهُ". فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً. قال: "ويْحَكَ يا ثَعْلَبَةُ! قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيقُ شُكْرَهُ". قال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً. قال: "ويحَكَ يا ثَعْلَبَةُ! أَما تُحِبُّ أَنْ تَكونَ مِثْلِي؟ فَلَوْ شِئْتُ أَنْ يُسَيِّرَ رَبِّي هَذِهِ الْجِبالَ مَعِيَ ذَهباً لسارَتْ". قال: يا رسول الله! ادع الله [أن] يرزقني مالاً؛ فوالذي بعثك بالحق إن آتاني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه. قال: "ويْحَكَ يا ثَعْلَبَةُ! قَلِيلٌ تُطِيقُ شُكْرَهُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيقُهُ". قال: يا رسول الله! ادع الله تعالى. فقال رسول الله: " اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مالاً ".
فاتخذ أو اشترى غنماً، وبورك له فيها، ونمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة، فتنحى بها، وكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يشهدها بالليل، ثم نمت كما ينمو الدود، فتنحى بها، وكان لا يشهد الصلاة بالليل ولا بالنهار إلا من جمعة إلى جمعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم نمت كما ينمو الدود، [فضاق به مكانه]، فتنحى بها، [فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]، فجعل يتلقى الركبان، ويسألهم عن الأخبار، وفقده رسول الله، فسأل عنه، فأخبروه أنه اشترى غنماً، وأن المدينة ضاقت به، وأخبروه خبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويْحَ ثَعْلَبَةَ بْنَ حاطِبٍ! ويْحَ ثَعْلَبَةَ بْنَ حاطِبٍ! ". ثم إن الله تعالى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ الصدقات، وأنزل الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين؛ رجلاً من جهينة، ورجلاً من بني سلمة يأخذان الصدقة، فكتب لهما أسنان الإبل والغنم، وكيف يأخذانها على وجهها، وأمرهما أن يمرَّا على ثعلبة بن حاطب ورجل من بني سليم، فخرجا، فمَرَّا بثعلبة، فسألاه الصدقة، فقال: أرياني كتابكما، فنظر فيه فقال: ما هذا إلا جزية، انطلقا حتى تفرغا، ثم مُرَّا بي، قال: فانطلقا. وسمع بهما السلمي فاستقبلهما بخيار إبله، فقالا: إنما عليك دون هذا، فقال ما كنت أتقرب إلى الله إلا بخير مالي، فقبلا، فلما فرغا مَرَّا
بثعلبة، فقال: أرياني كتابكما، فنظر فيه فقال: ما هذا إلا جزية، انطلقا حتى أرى رأي، فانطلقا حتى قدما المدينة، فلما رآهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال قبل أن يكلمهما: "وَيْحَ ثَعْلَبَةَ بْنَ حاطِب! " ودعا للسلمي بالبركة، وأنزل الله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] الثلاث آيات. قال: فسمع بعض أقارب ثعلبة، فأتى ثعلبة فقال: ويحك! ويحك يا ثعلبة! أنزل الله فيك كذا وكذا. قال: فقدم ثعلبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! هذه صدقة مالى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ اللهَ قَدْ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ". قال: فجعل يبكي، ويحثي التراب على رأسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذا عَمَلُكَ بِنَفْسِكَ". فلم يقبل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مضى، ثم أتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: يا أبا بكر! اقبل مني صدقتي فقد عرفت منزلتي من الأنصار. فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبلها؟ فلم يقبلها أبو بكر. ثم ولي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فأتاه فقال: يا أبا حفص! يا أمير المؤمنين! اقبل مني صدقتي. قال: وثقل عليه بالمهاجرين والأنصار وأزواج رسول الله!
فائدة ثانية وثمانون
فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أبو بكر رضي الله تعالى عنه؟ أقبلها أنا؟ فأبى أن يقبلها. ثم ولي عثمان، فهلك في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه (¬1). * فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وَثَمانونَ: قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 189 - 190]. قال أكثر المفسرين: إن المراد بالآية آدم وحواء عليهما السلام (¬2). ومعنى قولى: {صَالِحًا} [الأعراف: 190]: بشراً سوياً، وذلك لأن الشيطان كان قال لها: تلدين ناقة، أو بقرة، أو ماعزة، أو ضانية - وفي رواية: بهيمة - ويخرج من أنفك، أو من عينيك، أو من أذنك. ¬
قال: وأطيعيني، وسميه عبد الحارث تلدي مثلك. ويحتمل أن يكون معنى: {صَالِحًا} [الأعراف: 190] أن يعيش وينتفع به لأنه كان لا يعيش لهما ولد. وقد روى الإمام أحمد، والترمذي - وحسنه - والحاكم - وصححه - وغيرهم عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَمَّا وَلَدَتْ حَوَّاءُ طافَ بِها إِبْلِيسُ وَكانَ لا يَعِيشُ لَها وَلَدٌ، فَقالَ: سَمِّيهِ عَبْدَ الْحارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحارِثِ، وَكانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيطانِ وَأَمْرِهِ" (¬1). وقال الحسن رحمه الله تعالى في الآية: كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم. رواه ابن جرير (¬2). ¬
وقال القاضي البيضاوي بعد أن قرر القول الأول: ويحتمل أن يكون الخطاب لآل قصي من قريش؛ فإنهم خلقوا من نفس قصي، وكان له زوج من جنسه (¬1) عربية قرشية، وطلبا من الله الولد فأعطاهما أربعة بنين، فسمياهم: عبد مناف، وعبد شمس، وعبد قصي، وعبد الدار، انتهى (¬2). وعلى الأول فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190]: كان شركاً في طاعة، ولم يكن شركاً في عبادة. رواه عبد بن حميد (¬3). وقال السدي في قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 190 - 191]: إنه مفصول عن آية آدم وحواء، وهو خاص بآلهة العرب. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬4). وروي نحوه عن ابن عباس، وغيره (¬5). وفي ذلك دليل على أن من سأل الولد الصالح فرزقه، فينبغي أن يشكر الله تعالى، ويحسن التسمية. ¬
فائدة ثالثة وثمانون
وأحب الأسماء إلى الله تعالى: عبد الله، وعبد الرحمن كما في الحديث (¬1). ولا يسميه عبد النبي ونحوه؛ فإن العبودية لله تعالى. وكذلك لا ينبغي لمن لا يولد له أو من لا يعيش له ولد أن يذهب إلى المنجمين والكهنة، ويستكتبهم حروزاً، ولا يعلق تميمة ونحوها لحصول الولد، ولا لبقائه بعد الحمل وبعد الولادة كما يفعله كثير من الجاهلات؛ فإن اعتقاد أن تعليق التمائم والحروز تحفظ الجنين من الإسقاط والولد من الموت كله شرك، ويؤول إلى الشرك؛ والعياذ بالله! وكذلك من يعتقد في نشرة من عبد صالح أو تبييت أثر عنده نفعاً أو ضرراً فإنه جهل من المعتقدين والمعتقدات لذلك، فإن اعتقد المنسوب إلى الصلاح في نفسه شيئاً من ذلك كان أشد جهلاً ممن يعتقد فيه ذلك وإن جرى على ذلك كثير من الناس؛ {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190]. * فائِدَة ثالِثَةٌ وَثَمانونَ: روى أبو الحسن بن جهضم عن سهل بن عبد الله التُّسْتَري رحمه الله تعالى قال: إذا كان التزوج على غير السنة كان الولد عقوبة، فكيف تريد من ولد العقوبة الصلاح؟ ومعنى كون التزوج على خلاف السنة أن لا يراعى فيه شروط العقد، أو لا تراعى فيه الكفاءة، أو تُزوج المرأة للمال، أو للجمال، أو ¬
فائدة رابعة وثمانون
للجاه، أو للمباهاة والمباراة، أو غير ذلك مما جاءت السنة بخلافه. ولعل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن: 14] إشارة إلى ما ذكر. والتزوج إذا كان على غير السنة كان لأن يكون سبب العداوة والقسوة من الزوج والولد أقرب من أن يكون سبب المودة والرحمة، ولذلك كان الولد في الغالب في هذه الأزمنة غيظاً كما في حديث حذيفة وغيره: "إِنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ غيظاً" (¬1)، فكان كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - لارتكاب البدع في الأنكحة، وقلة الاعتناء بأمور السنة في التزوج. * فائِدَةٌ رابِعَةٌ وَثَمانونَ: روى النسائي - واللفظ له - وابن حبان، والحاكم - وصححاه - من حديث أبي سلمى راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعبد الرزاق، والبغوي، والبزار - وحسن إسناده - من حديث ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والطبراني في "الأوسط" - ورجاله رجال الصحيح - من حديث سفينة، والإمام أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنهم؛ كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بَخٍ بَخٍ لِخَمْسٍ ¬
ما أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيزانِ! سُبْحانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَالوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فَيَحْتَسِبُهُ (¬1) " (¬2). وقد تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: "يَنْقَطِعُ عَمَلُ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَوَلَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ" (¬3). فالولد الصالح تقر به عين والده - سواء تقدم والده بالوفاة (¬4)، أو تأخر عنه - ومن ثم أثنى الله تعالى على عباد الرحمن القائلين: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]. قال عكرمة رحمه الله تعالى: لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالاً، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين. رواه عبد بن حميد (¬5). ¬
وفي قرن الولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده بالباقيات الصالحات إيماء قوله عندما يصاب به: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] لأن المؤمن إذا احتسب ولده أو حبيبه أو مفقوده يقولها وهي من الباقيات الصالحات أو من جنسهن؛ بل الصبر والاحتساب بالقلب من الباقيات الصالحات؛ فإن الأولى في تفسيرهن التعميم. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46] قال: هن ذكر الله: لا الله إلا الله، والله كبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله، والصلاة، والصيام، والحج، والصدقة، والعتق، والجهاد، والصلة، وجميع أعمال الحسنات، وهي الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها في الجنة. رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم (¬1). ورويا، وابنُ أبي شيبة عن قتادة رحمه الله تعالى أنه قال في الآية: كل شيء من طاعة الله فهو من الباقيات الصالحات. وروى ابن أبي حاتم عنه أنه سئل عن الباقيات الصالحات؛ قال: كل ما أريد به وجه الله (¬2). ¬
فائدة خامسة وثمانون
* فائِدَةٌ خامِسَةٌ وَثَمانونَ: قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]. وذكرنا أن الولد الصالح إذا مات واحتسبه والده، كان من الباقيات الصالحات. وقد روى ابن أبي حاتم عن عياض بن عقبة رضي الله تعالى عنه: أنه مات له ابن يقال له: يحيى، فلما نزل في قبره قال رجل: والله إنه لسيد الجيش؛ فاحتسبه. فقال: وما يمنعني أن أحتسبه وكان أمس من زينة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات (¬1)؟ وكذلك المال إذا أخذه من حله وأنفقه في محله يريد بذلك وجه الله تعالى؛ كان من الباقيات الصالحات. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَقُولُ العَبْدُ: مالِي، مالِي، وَإِنَّما لَهُ مِنْ مالِهِ ثَلاثَةٌ: ما أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ تَصَدَّقَ فَأَبْقَى، وَما سِوى ذَلِكَ فَهُوَ ذاهِبٌ وَتارِكُهُ لِلنَّاسِ" (¬2). ¬
فائدة سادسة وثمانون
وروى هو والترمذي، والنسائي عن عبد الله بن الشخير رضي الله تعالى عنه قال: انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]؛ وفي لفظ: وقد أنزلت عليه: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}، وهو يقول: " [يَقُولُ] ابنُ آدَمَ: مالِي، مالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مالِكَ إِلاَّ ما أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَبْقَيْتَ؟ " (¬1). فإذا أعطى الله العبد المال الطيب، ووفقه لإنفاقه في هذه الوجوه الثلاثة، وألهمه حسن النية فيها، فقد جمع له بين خير الدنيا والآخرة. وقد قال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: المال والبنون حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام. رواه ابن أبي حاتم (¬2). ولقد أحسن القائل: [من البسيط] ما أَحْسَنَ [الدِّينَ] وَالدُّنْيا إِذا اجْتَمَعا ... وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالإِفْلاسَ بِالرَّجُلِ (¬3) * فائدَةٌ سادِسَةٌ وَثَمانونَ: روى أبو عبد الله الحسين المروزي في "زوائد الزهد" لابن المبارك ¬
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبح قال: "أَصْبَحْنا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ، وَالْكِبْرِياءُ وَالعَظَمَةُ، وَالْخَلْقُ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهارُ، وَما سَكَنَ فِيهِما لِلَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوَّلَ هَذا النَّهارِ صَلاحاً، وَأَوْسَطَهُ فَلاحاً، وَآخِرَهُ نَجاحاً، وَأَسْأَلُكَ خَيْرَ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ" (¬1). وأخرجه الطبراني في "الصغير"، ولفظه: "أَصْبَحْتُ وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ، وَالْكِبْرِياءُ وَالعَظَمَةُ ... " إلى آخره (¬2). وفيه دليل على استحباب طلب الصلاح في كل صباح. وفي قوله: "اجْعَلْ أَوَّلَ هَذا النَّهارِ صلاحاً، وَأَوْسَطَهُ فَلاحاً، وَآخِرَهُ نَجاحاً" ترتيب لطيف موافق للحكمة؛ فإن الصلاح نقيض الفساد؛ فالمراد طلب التوفيق إلى إصلاح الأعمال في صدر النهار. والفلاح كما في "القاموس": هو الفوز والنجاة، والبقاء في الخير (¬3). فالمراد طلب الاستقامة على الخير في أوسط النهار، والفوز والنجاة، ولا يحصلان إلا بدوام الصلاح والاستقامة على الأعمال الصالحة. ¬
فائدة سابعة وثمانون
والنجاح هو الظفر بالشيء؛ فالمراد طلب الظفر بثواب الأعمال الصالحة، وثواب الاستيفاء عليها، فالصلاح ابتداء الخير، والفلاح دوامه، والفوز بثوابه، والنجاح به تمام الفلاح وكمال الخير، فلذلك قدم طلب الصلاح على طلب الفلاح لأنه متسبب عنه، وطلب الفلاح على طلب النجاح لأنه تمامه؛ فافهم! * فائِدَةٌ سابِعَةٌ وَثَمانونَ: روى أبو نعيم عن أبي جعفر الخصاف قال: قال لي جابر الرحبي رحمه الله تعالى يوما وأنا أماشيه: مر بنا نتسابق، فمر أنت هكذا حتى أَمُرَّ أنا هكذا. قال: فمررت أنا على الجسر، فلما أبعدت على الجسر التفت فإذا هو يمشي على الماء ينتضح من تحت قدميه مثلما يخرج الغبار من تحت قدم الماشي، فلما التقينا قلت: من لا يحسن مثل هذا؛ أمشى على الجسر وتمشي أنت على الماء؟ قال: فقال لي: وقد رأيتني؟ قلت: نعم. قال: أنت رجل صالح (¬1). قلت: في ذلك إشارة إلى أن الصالح لا يطلع على كرامته إلا من كان صالحاً، أو من يراد به الصلاح، وإن كان منكراً فإنه يرجع عن الإنكار. ¬
قال لي رجل من أهل الحرفة يوماً: يا سيدي! أفي هذا الزمان وليٌّ؟ قلت: لا يخلو وقت من الأولياء حتى تقوم الساعة. فما لي لا أرى أحداً منهم؟ قلت: يا هذا! كيف تراهم وأنت لست منهم؟ قال لي: وكيف لي أن أكون منهم؟ قلت له: تصلي الصلوات الخمس، وتؤدي الفرائض التي عليك، وتلازم حرفتك، وتتقي الله فيها وفي سائر أعمالك، وتخلص لله تعالى، فحينئذ تكون من أولياء الله تعالى وتراهم. ونظير ما تقدم ما ذكره الشيخ محي الدين بن العربي في "مسامراته" عن رياح بن عبيد قال: خرج عمر بن عبد العزيز قبل خلافته وشيخ متكئ على يده، قال: فقلت في نفسي: إن هذا الشيخ جافٍ، فلما صلى ودخل لحقته، فقلت: أصلح الله الأمير! من الشيخ الذي كان متوكئاً على يدك؟ فقال: يا رياح! رأيته؟ قلت: نعم. قال: ما أحسبك يا رياح إلا رجلاً صالحاً؛ ذاك أخي الخضر عليه السلام، أتاني فأعلمني أني سَأَلي أمرَ هذه الأمة، وأني سأعدل فيها (¬1). ¬
فائدة ثامنة وثمانون
* فائِدَةٌ ثامِنَةٌ وَثَمانونَ: روى الدينوري عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى قال: لا يؤخذ العلم من أربعة: سفيه معلن بالسفه، وصاحب هوى، ورجل كذاب في أحاديثه وإن كان لا يتهم في الحديث، ورجل له فضل وعبادة وصلاح لا يعرف ما يحدث (¬1)؛ أي: لا يعرف ما يحدث به أهو صحيح أو ضعيف. وتقدم نظير ذلك عن يحيى بن سعيد القطان. * فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وَثَمانونَ: روى أبو نعيم عن السري السقطي رحمه الله تعالى قال: المغبون من فنيت أيامه بالتسويف، والمغبوط من تمنى الصالحون مقامه (¬2). ووجهه: أن الصالحين عقلاء الناس فلا يتمنون لأنفسهم إلا ما كان خيراً لها وأصلح، فإذا غبطوا عبداً بمقامه دلت غبطتهم على علو ذلك المقام، وعثور صاحبه على المرام. ¬
بخلاف غير الصالحين؛ فإنهم لا يعرفون ما يتمنون، ولا يحسنون النظر إلى أنفسهم. وقد روى الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، وابن أبي الدنيا في كتاب "المتمنين" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا تَمَنَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَنْظُرْ ما تتَمَنَّى؛ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي ما يُكْتَبُ لَهُ مِنْ أُمْنِيَّتِهِ" (¬1). واعلم أن تمني أهل الدنيا قد لا يكون محمود العاقبة، بل هذا هو الغالب فيه. قال الله تعالى حكاية عن قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ ¬
فائدة هي تمام تسعين فائدة
عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص: 79 - 84]. والمتمني لا ينظر في عاقبته؛ إما أن يخذله الله في أمنيته ويلقيه في وبالها، وإما أن يمن الله عليه فيمنعه الأمنية، ويطلعه على حكمة منعه منها كما قال هؤلاء: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص: 82]؛ أي: لولا أن مَنَّ الله علينا فلم يعطنا ما تمنيناه من مكان قارون وماله، لخسف بنا بسبب الأشر والبطر الذي خسف بسببه قارون. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الثلاثة الذين تكلموا في المهد: "وَكانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضعُ ابْناً لَها مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ، فَمَرَّ بِها رَجُلٌ راكِبٌ ذُو شارَةٍ يَخْتالُ [فَقالَتْ]: اللَّهُمَّ اجْعَل ابْنِيَ مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَها، وَأَقْبَلَ عَلى الرَّاكِبِ، وَقالَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلى ثَدْيِها يَمُصُّهُ، ثُمَّ مَرَّا بِأَمَةٍ تُعاقَبُ، فَقالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِيَ مِثْلَ هَذِهِ، فَتَرَكَ ثَدْيَها، وَقالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَها، فَقالَتْ لَهُ: لِمَ ذاكَ؟ فَقالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبابِرَةِ، وَهَذهِ الأَمَةُ يَقُولونَ: سَرَقْتِ، زَنَيْتِ، وَلَمْ تَفْعَلْ" (¬1). رواه الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. * فائِدَةٌ هِيَ تَمامُ تِسْعِينَ فائِدَةً: روى أبو نعيم عن مسعر بن كدام رحمه الله تعالى قال: لا أعلم ¬
حلالاً لا أشك فيه إلا أن يرد رجل الفرات فيشرب [بكفه]، أو أخ صالح يهدي إليك هدية (¬1). وإنما قيد الهدية بصلاح المهدي لأنه يتحرى الحلال ويحذر الحرام؛ لأن الهدية إلى الأخ إنما هي في الحقيقة إلى الله تعالى لأنه إنما فعلها لإرادة وجه الله (¬2) تعالى، ولا يقبل الله إلا الطيب، ولأن الصالح إذا أهدى هدية من حلال أحسن نيته وأخلص، وبذلك يصفو حلها للمهدى إليه، وإنما نهى - صلى الله عليه وسلم - عن طعام المتباريين (¬3) لأنهما يبذلانه لغير وجه الله تعالى، فلا يخلص حله. وفي الهدية معنى آخر، وهو أن الباعث عليها أحد أمرين؛ إما المحبة، وإما لغرض يتوصل إليه من المهدى إليه. دليل الأول قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تَهادُوا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُضعِّفُ الْحُبَّ" (¬4)؛ فإن إضعاف الحب يدل على وجوده بين المتهاديين. ودليل الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ الشَّيْءُ الْهَدِيَّةُ أَمامَ الْحاجَةِ". رواه ¬
الطبراني في "الكبير" عن الحسن بن علي رضي الله عنهما (¬1). ثم تلك الحاجة وذلك الغرض المطلوب من المهدى إليه؛ إما أن يكون ممدوحاً شرعاً، أو مذموماً. فالأول كالهدية إلى الصالح ليدعو لك، وإلى العالم ليعلمك، وإلى الولي ليزوجك وأنت كفؤ، فالإهداء في ذلك مستحب، والمهدى إليه إن اطلع على مراد المهدي في ذلك فينبغي أن لا يقبل الهدية في مقابلة العمل الصالح ليخلص له أجره، ومتى علم أو ظن أن الباعث للمهدي على الهدية مجرد المحبة والتودد، فقبول الهدية سنة، وكذلك المكافأة عليها. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها. رواه الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي (¬2). وإلى ذلك الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تَهادُوا تَحابُّوا" (¬3)؛ فإن التفاعل يقتضي المشاركة في الفعل. ¬
وإن أهدى أحد الأخوين وكافأه الآخر بهدية فقد تم التحاب، فإن لم يكافئه وهو قادر على المكافاة بأن لم يهد إليه بالكلية، أو أهدى إليه دون هديته، لم يتم التحاب لأنه أحب لنفسه أكثر مما يحب لأخيه. ومن ثم قال وهب بن منبه: ترك المكافأة من التطفيف. رواه عبد الرزاق، ومن طريقه الإمام أحمد في "الزهد"، ومن طريقه أبو نعيم (¬1). فإن لم يقدر على المكافأة بالهدية والإحسان فليكافئه بالدعاء والثناء. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْروفٌ فَقالَ لِفاعِلِهِ: جَزاكَ اللهُ خَيْراً فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّناءِ". رواه الترمذي - وحسنه - والنسائي، وابن حبان، وغيرهم عن أسامة بن زيد (¬2). وقد يكون الغرض في الهدية تصفية ما بينه وبين المهدى إليه، وإذهاب ما في صدره من العداوة، وهو غرض محبوب أيضا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تَهادُوا؛ فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُضَعِّفُ الْحُبَّ وَتَذْهبُ بِغوائِلِ الصُّدورِ". رواه الطبراني في "الكبير" عن أم حكيم بنت وداع رضي الله تعالى عنها (¬3). ¬
وروى الإمام أحمد، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَهادُوا؛ فَإِنَّ الْهَدِيَّةُ تُذْهِبُ وَحَرَ (¬1) الصَّدْرِ، وَلا تَحْقِرَنَّ جارَةٌ لِجارَيِها وَلَوْ كانَ شِقَّ فِرْسِنِ شاةٍ" (¬2). وقد يكون الغرض في الهدية اتقاء شر المهدى إليه، فمهديها مأجور وآخذها يأخذها رشوة. وفي الحديث: "ما وَقَى بِهِ الْمُؤْمِنُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ ". رواه الإمام مالك عن جابر رضي الله تعالى عنه (¬3). وأما الثاني: فكالهدية إلى الظالم ليحكم له بغير الحق، أو ليضر بمسلم، والهدية إلى من يولي المهدي ولاية، أو إلى امرأة أو غلام ليتوصل منهما إلى الفاحشة، أو إلى من يوصله إلى معصية، أو إلى من يقتل معصوماً، أو إلى من يحتمي به من حق شرعي، أو من عقوبة شرعية، أو ليفجر تحت جاهه وظله؛ فهذه الهدايا كلها رشوة، وهي من ¬
أشد الحرام، وقبولها أفحش. فإن أهدى إلى حاكم ليتوصل إلى حق، فالإهداء جائز، وقبول الهدية حرام. واعلم أن العبد الصالح لا يقبل الهدية من ذي غرض فاسد، ولا يقبل هدية قط على علم ولا هدى، ولا حكم ولا فتوى، ولا على شيء من أعمال الآخرة أصلًا خيفة من الاسترسال في ذلك، والوقوع آخراً في الشبهة، بل وفي الحرام، واحتجاب نور الحق بظلمة الهدية. وقد قال وهب: إذا دخلت الهدية من الباب خرج الحق من الكُوَّة. رواه أبو نعيم (¬1). وروى الديلمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْهَدِيَّةُ تُعْوِرُ عَيْنَ الْحَكِيمِ" (¬2). وقال حذيفة المرعشي: إياكم وهدايا الفتيان والسفهاء؛ فإنكم إذا قبلتموها ظنوا أنكم قد رضيتم فعلهم. رواه ابن جهضم (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" عن عصمة بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْهَدِيَّةُ تَذْهَبُ بِالسَّمْعِ وَالقَلْبِ" (¬4). ¬
وروى عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ شَفَعَ شَفاعَةً لأَحَدٍ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْها، [فَقَبِلَها]، فَقَدْ أَتى بابا عَظِيمًا مِنْ أَبوابِ الكَبائِرِ" (¬1). ومن المحققين من العلماء الصالحين من حسم عنه مادة قبول الهدية التي تبعث مهديها على إهدائها إليه اعتقاده الخير والصلاح فيه خيفة أن يكون ذلك تطلعًا على عوض دنيوي على عمل أخروي. كما روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الورع" عن خالد بن أبي الصلت قال: قلت لمحمد بن سيرين: ما منعك أن تقبل من ابن هبيرة؟ قال: فقال لي: يا أبا عبد الله! أو: يا هذا! إنما أعطاني على خير كان يظنه بي، فلئن كنت كما ظن فما ينبغي لي أن أقبل، وإن لم أكن كما ظن فبالحري أنه لا يجوز لي أن أقبل (¬2). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن رجاء بن أبي سلمة قال: بلغني أن ابن محيريز دخل على رجل من البزازين يشتري منه شيئًا، فقال له رجل: أتعرف هذا؟ هذا ابن محيريز. فقام، فقال: إنما جئنا نشتري بدراهمنا، ليس بديننا (¬3). ¬
وروى ابنه في "زوائده" عن أبي زرعة: أنه بلغه أن ابن محيريز دخل على تاجر يشتري ثوبًا، فقال رجل كان معه للتاجر: هذا ابن محيريز. فقال: أف! إنما دخلنا نشتري بنفقتنا, ولم نشتر بديننا. فخرج ولم يشتر شيئًا (¬1). فانظر كيف لم يرض ابن محيريز بأن سامحه التاجر بشيء ما بسبب دينه وصلاحه، كما لم يرض ابن سيرين أن يقبل ما يعطاه بسبب ما يظن فيه من الخير حسماً لمادة النفوس عن الأطماع، وصيانةً للنفوس عن التعوض عن شيء من الدين بشيء من الدنيا، فكذلك ينبغي للصالح أن لا يترخص في شيء من ذلك وإن احتاج إليه من استطاع؛ فإن في الله عوضًا من كل فائت. وروى أبو الحسن بن جهضم عن محمَّد بن أبي الورد قال: كتب حذيفة المرعشي إلى يوسف بن أسباط: بلغني أنك بعت دينك بحبتين؛ وقفت على صاحب لبن، فقلتَ: بكم هذا؟ فقال: بسدس. فقلتَ: بثُمن؟ فقال: هو لك، وكان يعرفك (¬2)! ¬
وقد روى الإِمام أحمد عن قتادة، وأبي الدهماء قالا: أتينا على رجل من أهل البادية، فقلنا: هل سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا؟ قال: نعم، سمعته يقول: "إنَّكَ لَمْ تَدَعْ شَيئًا لله إلا أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ ما هُوَ خَيْرٌ [لَكَ] مِنْهُ" (¬1). وفي لفظ: "إِنكَ لَنْ تَدَعَ شَيئًا اتِّقاءَ اللهِ إلا أَعْطاكَ اللهُ خَيرًا مِنْهُ" (¬2). قال السخاوي: ورجاله رجال الصحيح (¬3). وروى البخاري في "تاريخه"، وأبو داود، والبغوي، وغيرهم عن ذي الزوائد الجهني رضي الله تعالى عنه -قال البغوي: لا أعلم له غيره - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذوا العَطاءَ ما دامَ عطاء، فَإِذا تَجَاجَفَتْ قُرَيْشٌ بَينها الْمُلكَ، وَصارَ العَطاءُ رِشًا عَنْ في دينكُمْ، فَدَعُوه" (¬4). والمراد بالعطاء ما يعطيه الإِمام الرجلَ مما يستحقه من بيت المال. فإذا كان - صلى الله عليه وسلم - أمر بترك الحق من بيت المال إذا لم يعطه الإِمام إلا رشوة على الدين كأن يطلب منك المساعدة على غرض مذموم؛ فما ظنك بالهدية والرشوة؟ ¬
وفي حديث آخر: "خُذوا العَطاءَ ما كانَ عَطاءً، فَإِذا كانَ إِنَّما هُوَ رِشًى فَاتْرُكوهُ، وَلا أَراكُمْ تَفْعَلُونَ؛ يَحْمِلُكُمْ عَلى ذَلِكَ الفَقْرُ وَالْحاجَةُ" (¬1). وليس في هذا الحديث بيان الرخصة للفقر والحاجة، وإنما تؤخذ الرخصة من دليل آخر. ولقد عَدَّ الرخصةَ في ذلك نزولاً عن الرتبة وانحطاطاً في الدرجة غيرُ واحد. وقال أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار": سمعت أبا عبد الله محمَّد بن خفيف يقول: لما دخلت بغداد قصدت رُويمًا وكان قد تولى القضاء، فلما دخلت عليه رحَّب بِي وأدناني، وقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من فارس. فقال: لمن صحبت؟ قلت: جعفر الحذاء. فقال: ماذا يقول الصوفية فيَّ؟ ¬
فائدة حادية وتسعون
قلت: لا شيء. قال: بل يقولون: إنه رجع إلى الدنيا. فبينا هو يحدثني إذ جاء طفل صغير فقعد في حِجْره، فقال رويم: لو كنت أرى فيهم من يكفيني مؤنة هذا الطفل ما تعلقت بهذا الأمر ولا بشيء من أسباب الدنيا, ولكن شُغلَ قلبي بهذا أوقعني فيما أنا فيه (¬1). * فائِدَةٌ حادِيَةٌ وتسعونَ: روى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته" عن رويم بن أحمد رحمه الله تعالى قال: لا تزال الصوفية بخير ما تنافروا، فإذا اصطلحوا هلكوا (¬2). ومعناه أن الصوفية المجتمعين في رباط واحد ونحوه، أو عند شيخ واحد وهم إخوان لا يزالون بخير ما تنافروا بإنكار بعضهم، لا يرى بعضهم على أخيه شيئًا يقصر به، أو يقعد به عن بلوغ المراتب العلية إلا أنكره عليه، ونقر عليه فيه، والآخر كذلك يفعل معه، فإذا اصطلحوا فتقرب بعضهم إلى بعض بترك الإنكار عليه هلكوا. وهذا كما كانوا يقولون: اصطلحا فافتضحا. ونظيره ما رواه أبو نعيم عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إذا ¬
فائدة ثانية وتسعون
أثنى على الرجل جيرانه أجمعون فهو رجل سوء. قالوا لسفيان: كيف ذاك؟ قال: يراهم يعملون بالمعاصي فلا يغير عليهم، ويلقاهم بوجه طليق (¬1). وعنه أيضًا أنه قال: إذا كان الناسكُ جيرانُه عنه راضونَ فهو مداهن (¬2). * فائِدَةٌ ثانِيَةٌ وتسعونَ: ذكر أبو بكر محمَّد بن إبراهيم بن المقرئ الأصبهاني في "معجمه" عن منصور - هو الفقيه - قال: رأيت في المنام -وكنت جنديا- كأن قائلًا يقول: [من الكامل] فَدَعِ الْمِراءَ لِمُفْسِدٍ أَوْ مُصْلِحِ ... مَنْ ذاقَ طَعْمَ طَعامِهِمْ لَمْ يُفْلِحِ قال: فتركت الديوان (¬3). وقال أبو الحسن بن جهضم: سمعت محمَّد بن بسام المؤذن يقول: سمعت منصور الفقيه؛ وذكر قصته وحضوره عند ابن طولون. ¬
فائد ثالثة وتسعون
قال: فجلسنا ننتظر حضور الطعام وحضور الأمير، فلحقتني نعسة لطول الجلوس، فرأيت في المنام كان قائلًا يقول: [من الكامل] فَدَعِ الْمِراءَ لِمُفْسِدٍ أَوْ مُصْلِحِ ... مَنْ ذاقَ طَعْمَ طَعامِهِمْ لَمْ يُفْلِحِ والمعنى: دع المماراة مع من يريد لك الإصلاح، ومن يريد الإفساد إذا نادياك في أن طعام الأمراء لا يضرك فإنه يضرك، ومن ذاق طعامهم لم يفلح، فكيف بمن يلازم على أكله ويتردد إليه؟ وروى أبو نعيم عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسلمان: "إِن طَعامَ أُمَرائِي بَعْدِي مِثْلُ طَعامِ الدَّجَّالِ؛ إِذا أكلَهُ الرَّجُلُ انْقَلَبَ قَلْبُهُ" (¬1). وعنه قال: إن الرجل ليستعير من السلاطين الدابة أو السرج أو اللجام؛ فيتغير قلبه لهم (¬2). * فائِدٌ ثالِثةٌ وتسعونَ: قال ابن جهضم: حدثني محمَّد بن الحسين قال: بلغني أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما: [من البسيط] ¬
يا مَنْ تَشَرَّفَ بِالدُّنْيا وَزِينَتِها ... لَيْسَ التَّشَرُّفُ رَفْعَ اللَّبْنِ بِالطِّينِ إِذا رَأَيْتَ شَريفَ النَّاسِ كُلِّهِمُ ... فَانْظُرْ إِلَى مَلِكٍ في زِيِّ مِسْكِينِ ذاكَ الَّذِي عَظُمَتْ في النَّاسِ رَأْفتهُ ... وَذاكَ يَصْلُحُ لِلدُّنْيا وَلِلدِّينِ ما أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيا إِذا اجْتَمعا ... وَأَكْرَمَ العِزَّ وَالإِسْلامَ في لِينِ (¬1) في قوله: وذاك يصلح للدنيا وللدين؛ أي: يصلح لدنيا رعيته ولدينهم، وإلا فإنه صلح في نفسه لأنه ملك الأمة باستخلافه، فلم يستفزه الملك عن زي المساكين واستكانتهم، فقد اصطفاه الله تعالى في الدنيا وفي الآخرة لأن مشرب قلبه من مشرب قلب إبراهيم عليه السلام، وقد أثنى الله تعالى عليه بقوله: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130]. فأبو بكر رضي الله تعالى عنه لما رغب في ملة إبراهيم فكان أول ¬
فائدة رابعة وتسعون
المسلمين اصطفاه الله في الدنيا واختاره للخلافة عليهم؛ {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130]. * فائِدَةٌ رابِعَةٌ وتسعونَ: روى ابن جهضم عن أبي علي الروذباري قال: إذا وجدت العارف متراخيًا عن الأوراد التي كانت له في البدايات فليس يصلح للقدوة؛ يعني: من حيث إن من يراه ممن يحتاج إلى الاقتداء به يقلده في التراخي والتجوز، وما أسرع النفس إلى تقليد من يوافق حاله هواها. وإن كان مقام العارف لا ينقص بالتقاعد عن الأوراد، والأعمال الظاهرة إذا أدى الفرائض منها والمؤكدات من التطوعات لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَق إِذا اخْتَلَفَ النَّاسُ؛ وإنْ كانَ مُقَصرًا في عَمَلِهِ، وإنْ كانَ يَزْحَفُ عَلى اسْتِهِ زَحفًا". رواه الطبراني، وغيره (¬1). وقلت في معنى الحديث: [من الخفيف] أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُ النَّاسِ بِالْحَقِّ ... إِذا ما رَأَيْتَ في النَّاسِ خُلْفا ¬
ذاكَ ما ضَرَّهُ وَلا نالَ مِنْه ... نَقْصُ أَعْمالِهِ وَلَوْ سارَ زَحْفا وقال ابن عطاء الله الإسكندري في "حِكَمه": إذا فتح لك وجهة من التعرف فلا تبال معها أن قل عملك؛ فإنه ما فتحها [لك] إلا وهو يريد بأن يتعرف إليك؛ [ألم تعلم] أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك (¬1)؟ وقال الجد رضي الله تعالى عنه في "نظم الدرر اللوامع": [من الرجز] وَصاحِبُ العِرْفانِ لا يُبالِي ... إِذا ابْتُلِيْ بِقِلَّةِ الأَعْمالِ وما أحسنَ قولَه: إذا ابتلي، فعد قلة الأعمال بلاءً من العارف، والبلاء ليس له إلا الصبر، وصبر العارف على هذا البلاء هو أن يحمل نفسه على فضائل الأعمال وما كان يعتاده من الأوراد، ويصبر على ذلك، وحينئذ يصلح للقدوة كما في كلام الروذباري رحمه الله تعالى. والدليل عليه من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. ¬
قال قتادة في قوله: {أَئِمَّةً} [السجدة: 24]: رؤساء يقتدي بهم سوى الأنبياء (¬1). {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24]؛ قال: على ترك الدنيا. رواه ابن أبي حاتم (¬2). والأحسن التعميم في الصبر؛ أي: لما صبروا على البلاء - ومنه ترك الدنيا - وعلى الطاعات وعن المعاصي، عوضناهم بأن جعلناهم أئمة. وروى الحاكم عن مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه أنه تلا: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24] فقال: حدثني الزهريّ: أن عطاء بن يزيد حدثه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما رُزِقَ عَبْدٌ خَيراً لَهُ وَلا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ" (¬3). وروى أبو نعيم عن سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: أيما عبد قام بشيء مما أمره الله به من أمر دينه، فعمل به وتمسك به، واجتنب ما نهى الله عنه عند فساد الأمور، وعند تشويش الزمان واختلاف الناس في الرأي والتفريق، إلا جعله الله تعالى إماما يقتدى به، هادياً مهدياً قد أقام الدين في زمانه، وأقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ¬
فائدة خامسة وتسعون
الغريب في زمانه الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا (¬1) " (¬2). * فائِدَةٌ خامِسَةٌ وتسعونَ: روى أبو نعيم عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه تلا: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27]، وقال: النفس المؤمنة اطمأنت إلى الله تعالى واطمأن إليها، وأحبت لقاء الله وأحب الله لقاءها، ورضيت عن الله ورضي الله عنها، فأمر بقبض روحها، فغفر لها، وأدخلها الجنة، وجعلها من عباده الصالحين (¬3). قلت: فيه إشارة إلى أن العبد قد لا يكون من الصالحين فيما يظهر من حاله، فإذا اطمأن إلى الله عند الموت، ورضي عنه، وأحب لقاءه، كتب بهذه الأخلاق من الصالحين. وكذلك كل عمل صالح أتى به قبل غرغرته بالروح خصوصاً كلمة الشهادة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ" (¬4). والحكمة في ذلك أن هذه حسنة لا سيئة بعدها أصلًا، فكفرت ما سبق. ¬
وقد قال قاسم الجوعي رحمه الله تعالى: من أصلح فيما بقي من عمره غفر له ما مضى وما بقي، ومن أفسد فيما بقي من عمره أخذ بما مضى وما بقي. رواه ابن جهضم (¬1). بل في معناه ما رواه ابن عساكر عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَحْسَنَ فِيما بَقِيَ غُفِرَ لَهُ ما مَضَى، وَمَنْ أَساءَ فِيما بَقِيَ أُخِذَ بِما مَضَى وَما بَقِيَ" (¬2). ولعل المراد بقوله: "وَمَنْ أسَاء الإساءة المحبطة للأعمال كالكفر، والنفاق، والرياء، والقتل، ثم يُصِرُّ على ذلك إلى الموت. وروى أبو داود عن أبي الدرداء، وعبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَزالُ الْمُؤْمِنُ مُعْنِقاً صالِحاً ما لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرامًا، فَإِذا أَصابَ دماً حَرامًا بَلَّحَ" (¬3). وقوله "معنقا"؛ أي: مسرعًا في الخير. وقوله: "صالحًا"؛ أي: يرجى له الخير وفيه قابلية. وقوله: "بَلَّح"؛ أي: أعيا؛ والمعنى: انقطع به. ¬
ومعنى الحديث: أن العبد يرجى له الخير والنجاة ما لم يقتل النفس التي حرم الله قتلها (¬1) إلا بالحق، فيكون إلى فساد حاله أقرب منه إلى صلاح شأنه. وفي معناه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَزالُ العَبْدُ في فُسْحَةٍ مِنْ دِينهِ ما لَمْ يُصِبْ دماً حَرامًا". رواه الإِمام أحمد، والبخاري من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬2). وروى الديلمي عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَزالُ قَلبُ العَبْدِ يَقْبَلُ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ حَتَّى يَسْفِكَ الدَّمَ الْحَرامَ، فَإِذا سَفَكَهُ نُكِسَ قَلْبُهُ، فَعادَ كَأَنَّهُ كِيرٌ مُجْخٍ أَسْوَدُ مِنَ الرَّيْبِ، لا يَعْرِفُ مَعْروفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكرًا" (¬3). وروى سعيد بن منصور، والبيهقي في "الشعب" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما نقيت كفه من الدم، فإذا غمست يده في الدم الحرام نزع حياؤه (¬4). وروى البيهقي عن محمَّد بن عجلان قال: كنت بالإسكندرية، فحضرت رجلًا الوفاةُ، لم نر من خلق الله أحدًا كان أخشى لله منه، فكنا ¬
نلقنه، فيقبل كل ما لقَّناه من سبحان الله، والحمد لله، فإذا جاءت: لا الله إلا الله أبى، فقلنا له: ما رأينا من خلق الله أحدًا كان أخشى لله منك، فنلقنك فتلقن، حتى إذا جاءت: لا الله إلا الله أبيت؟ قال: إنه حيل بيني وبينها؟ قتلت نفسًا في شبيبتي (¬1). وروى عبد الرزاق، والبيهقي عن جندب البجلي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمْ أَنْ لا يَحُولَ بَينَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُهْرِقَهُ؛ كُلَّما تَعَرَّضَ لِبابٍ مِنْ أَبوابِ الْجَنَّةِ حالَ بَينَهُ وَبَينَهُ" (¬2). وروى الإِمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس لَيسَ لَهُنَّ كَفارةٌ: الشِّرْكُ باللهِ، وَقَتْلُ النفسِ بِغَيْرٍ حَقٍّ، وَبهتُ مُؤْمِنٍ، وَالفِرارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَيمِينٌ صابِرَة يَقْتَطِعُ بِها مالًا بِغَيرِ حَق" (¬3). والإساءة المحبطة للأعمال ارتكاب كبيرة والإصرار عليها إلى الممات، وبذلك يخرج العبد من عداد الصالحين في الدنيا والآخرة. ومن اللطائف: ما رواه أبو نعيم عن أبي أحمد يحيى بن الحسين ¬
فائدة سادسة وتسعون
القلانسي قال: رأيت ربي عز وجل في النوم، قلت: يا رب! اغفر لي ما مضى. قال: إن أردت أن أغفر لك ما مضى فأصلح لي ما بقي. قال: فقلت: يا رب! فأعني عليه (¬1). * فائِدَةٌ سادِسَةٌ وتسعونَ: قال الله تبارك وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59]. قال مجاهد: عند قيام الساعة وذهاب صالح أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ينزو بعضهم على بعض في الأزقة زناةً (¬2). وقال أيضًا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم: 59]؛ قال: من هذه الأمة؛ يتراكبون في الطرق كما تتراكب الأنعام، لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله. رواه عبد بن حميد (¬3). والمراد أن الغالب في آخر الزمان على أهله هذا، وأن الصالحين يذهبون الأول فالأول كما تقدم، فيقلون، ثم ينفَدُون بالكلية. قال وهب بن منبه: قال دانيال عليه السلام: يا لهف نفسي على زمن يُلتمَس فيه الصالحون ولا تجد منهم أحدًا إلا كالسنبلة في أثر ¬
الحاصد وكالخصلة في أثر القاطف، يوشك نوائح أولئك وبواكيهم أن تبكيهم. رواه أبو نعيم (¬1). ثم إن الله تعالى لم يسدَّ على أولئك الخلف أبواب التوبة والصلاح، بل جعله لهم مفتوحا، فقال: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59، 60]. ففي الآية دليل على أن أولئك الخلف لا يخلون من صالح، فإذا رجع أحدهم إلى الصلاح صلح وأفلح. وقد روى الطبراني في "الكبير" عن عمار - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ؛ يَجْعَلُ اللهُ في أَوَّلِهِ خَيرًا وَفِي آخِره خَيراً" (¬2). ورواه الإِمام أحمد، ولفظه: "مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ؛ لا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ خير (¬3) " (¬4). وبهذا اللفظ أخرجه الإِمام أحمد، والترمذي -وحسنه- عن أنس، وأبو يعلى عن علي، والطبراني في "الكبير" عن ابن عمرو، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم (¬5). ¬
فائدة سابعة وتسعون
وروى أبو نعيم عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ أُمَّتِي كَحَدِيقَةٍ قامَ عَلَيْها صاحِبُها، فَاحْتَدَرَ رِواكِيها، وَهَيَّأَ مَساكِنَها، وَحَلَق سَعَفَها، فَأَطْعَمَ عامًا فَوْجًا وَعاماً فَوْجاً، فَلَعَلَّ آخِرَهُما طُعْمًا أَجْوَدهُما قِنوانًا، وَأَطْوَلُهما شِمراخًا، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَيَجِدَنَّ عِيسى بْنَ مْرَيَمَ عَلَيْهِما السَّلامُ [فِي أُمَّتِي] خَلَفًا مِنْ حَوارِيهِ" (¬1). وفي المعنى قلت: [من الرمل] لَمْ يَسُدَّ اللهُ بابَ الْخَيْرِ عَنْ ... طالِبِيهِ الصَّالِحِينَ في زَمَنْ كُلُّ وَقْتٍ صَالحٌ لِلْخَيْر مَنْ ... يَبْتَغِي فِيهِ صَلاحًا فَحَسَنْ * فائِدَةٌ سابِعَةٌ وتسعونَ: روى أبو نعيم عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: العاقل الكامل من صلح مع الفاجر الجاهل (¬2). هذا يحتمل وجهين: ¬
فائدة ثامنة وتسعون
الأول: أن العاقل الكامل العقل هو الذي يصلح ويستقيم مع الفاجر الجاهل في حال السلم بالمداراة من غير إثم، وفي حال الحرب إما بالإعراض عنه، وإما يحسن الخديعة ولطف الحيلة، والانتصار منه من غير عدوان ولا تهور. الوجه الثاني: أن العاقل الكامل العقل هو الذي يصلح في زمان كثرة الفجار والجاهلين، ولا يتابعهم، ولا يكون معهم فيما هم فيه. * فائِدَةٌ ثامِنةٌ وتسعونَ: روى أبو نعيم عن سالم بن نوح قال: مر عوف يوم جمعة، فسأله يونس فقال: كيف أنت؟ كيف حالك؟ فقال عوف: قيل لأبي السوار العدوي رحمه الله تعالى: أكل حالك صالح؟ فقال: ليت عُشْره يصلح (¬1). وهذا إشارة من أبي السوار إلى أن العُشر إذا صلح كفَّر ما بقي من الأعشار التسعة؛ لأن الحسنة بعشر حسنات، وكل حسنة تكفر سيئة. وقد سبق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْخَصْلَةَ الصَّالِحَةَ تَكونُ في الرَّجُلِ فَيُصْلحُ اللهُ لَهُ بِها عَمَلَهُ" (¬2). وقد عد بعض العارفين حب الصالحين حسنة مصلحة للعبد. ¬
وفي المعنى قيل: [من الوافر] أُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْتُ مِنْهُمْ ... لَعَلِّي أَنْ أَنالَ بِهِمْ شَفاعَة وروى أبو الحسن بن جهضم عن محمَّد بن [حسان] (¬1) قال: سمعت الفضيل بن عياض وجلس إليه سفيان بن عيينة، فتكلم الفضيل بكلام، فقال فيما تكلم: كنتم معشرَ العلماء سُرُجَ البلاد يستضاء بكم، فصرتم ظلمة، وكنتم نجومًا يهتدى بكم، فصرتم حيرة، لم لا يستحي أحدكم يأخذ من مال هؤلاء وقد علم من أين هو، حتى بسند ظهره ويقول: حدثني فلان عن فلان، وحدثنا فلان عن فلان. فرفع سفيان رأسه وكان مطأطئه، فقال: هاه! هاه! والله لئِن كنا لسنا صالحين فإنا نحب الصالحين. قال: فأسكت الفضيل، وطلب إليه سفيان فحدثنا بثلاثين حديثا (¬2). وروى ابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن عبد الله بن أبي زكريا الدمشقي أنه كان يقول: لو خيرت أن أعمر مئة سنة في طاعة الله، أو أن أقبض في يومي هذا أو في ساعتي هذه، لاخترت أن أقبض في يومي هذا أو ساعتي هذه شوقًا إلى الله، وإلى رسوله، وإلى ¬
فائدة تاسعة وتسعون
الصالحين من عباد الله (¬1). وهذا منتزع من قول يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. وكأن ابن أبي زكريا وثق من حبه لله تعالى ولرسوله وللصالحين ما لم يشق من طاعة مئة سنة؛ لأن الطاعة يدخلها الرياء والفساد بخلاف حب من ذكر؛ فإنه من أفضل الحسنات، ولا يدخله ما يفسده. ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأل عن الساعة فقال له: "ما أَعْدَدْتَ لَها؟ ". قال: ما أعددت لها كبير صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. فقال له: "إِنكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". رواه الشيخان، وغيرهما، وتقدم (¬2). * فائِدَةٌ تاسِعَةٌ وتسعونَ: قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 62 - 64]. روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الموت"، وأبو الشيخ، وابن منده ¬
في كتاب "سؤال القبر" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: أتى رجل من أهل البادية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! أخبرني عن قول الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 63، 64]. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا قَوْلُهُ: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64] فَهِيَ الرُّؤْيا الْحَسَنَةُ تُرَى لِلْمُؤْمِنِ فُيَبَشَّرَ بِها. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] فَإِنَّها بِشارَةُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الْمَوْتِ أَنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ وَلِمَنْ حَمَلَكَ إِلَى قَبْرِكَ" (¬1). وأراد بالمؤمن الكامل في الإيمان, وهو العبد الصالح؛ لأن قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63] صفة الصالحين. وقد روى الإِمام أحمد، والبخاري، والنسائي، وابن ماجه عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرُّؤْيا الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةِ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" (¬2). وروى ابن جرير، وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64]؛ قال: "هوَ في الدُّنْيا الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ يَراها العَبْدُ ¬
الصَّالحُ أَوْ تُرى لَهُ، وَفِي الآخِرَةِ الْجَنَةُ" (¬1). أي: البشرى بالجنة كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]. وقال زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى في الآية: يبشر بها عند موته، وفي قبره، ويوم يبعث؛ فإنه لقي الجنة وما ذهبت فرحة البشارة من قلبه. رواه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم (¬2). وقال أيضًا: يؤتى المؤمن عند الموت فيقال: لا تخف مما أنت قادم عليه، فيذهب خوفه، ولا تحزن على الدنيا ولا على أهلها، وأبشر بالجنة، فيموت قد أقرَّ الله عينه. رواه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬3). وقال مجاهد: إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده لتقر عينه. رواه أبو نعيم (¬4). وفي "صحيح مسلم"، وغيره عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس ¬
فائدة بها تتم مئة فائدة
عليه؟ وفي رواية: ويحبه الناس عليه؟ قال: "تِلْكَ عاجِلُ بُشْرى الْمُؤْمِنِ" (¬1). فثناء الناس عليه دليل على صلاحه، وقبوله عند الله تعالى حتى جعل إطلاق ألسنتهم بالثناء عليه بشارة له بذلك، وكذلك حب الناس له كما تقدم. * فائِدَةٌ بِها تَتِمُّ مِئةُ فائِدَةٍ: وهي آخر الفوائد: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أرض الجنة يرثها الذين يصلون الصلوات الخمس في الجماعات. {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 106]؛ أي: بشارة لقوم عابدين. قال: الذين يصلون الصلوات في الجماعات. رواه البيهقي في "الشعب" (¬2). وروى عنه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم أنه قال في الآية: أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون ¬
السموات والأرض أنه يورث أمة محمَّد الأرض، ويدخلهم الجنة، وهم الصالحون (¬1). وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: قال الله تعالى: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]؛ فنحن الصالحون. رواه البخاري في "تاريخه"، وابن أبي حاتم (¬2). وفي ذلك فضيلة لأمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لا تخفى من حيث إن الله تعالى سماهم في الذكر الأول الصالحين، ومن حيث إنهم -وإن كان فيهم الظالم لنفسه- فإنهم صالحون لدخول الجنة، وميراث أرضها كما يقول أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74]. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إلا مَنْ أَبَى". قالوا: ومن يأبى؟ قال: "مَنْ أَطاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصانِي فَقَدْ أَبي". رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬3). ولعله أراد بقوله: "وَمَنْ عَصانِي": من عصاه في التوحيد، ولا يخلد في النار عاص موحد. ¬
وروى الحاكم -وصححه- عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُلُّكُمْ يدخلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ شَرَدَ عَنِ الله شِرادَ البَعِيرِ عَلى أَهْلِهِ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير"، والحاكم -وصححه - عن عبد الله بن يزيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَذابُ أُمَّتِي في دنياها" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]؛ قال: رضاه أن تدخل أمته كلهم الجنة (¬3). وروى الخطيب البغدادي في "تلخيص المتشابه" عنه قال: لا يرضى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأحد من أمته (¬4) في النار (¬5). ¬
وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36]، وقول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] الآية، فرفع يديه وقال: "اللَّهُمَّ! أُمَّتِي أُمَّتِي"، وبكى. فقال الله تعالى: يا جبريل! اذهب إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك (¬1). وروى أبو نعيم، وغيره عن علي رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: "أَشْفَعُ لأُمَّتِي حَتَّى يُنادِينِي رَبِّي: أَرَضِيتَ يا مُحَمَّدُ؟ فَأقولُ: نعَمْ يا رَب رَضِيتُ" (¬2). *** ¬
فصل
فَصْلٌ علم مما تقدم أن الصالحين هم أولياء الله تعالى الولاية الخاصة، وهم المحفوفون بالعنايات، المتحفون بأنواع الكرامات الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كما قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]؛ أي: لفقد الدنيا، أو لفقد ما سوى الله تعالى، أو: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] يوم القيامة كما قال الله تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30]. وهذا الأخير أرجح. ثم بين الله تعالى أولياءه من هم بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63]. فالإيمان والتقوى يجمعان جميع أوصاف الأولياء، وجميع أقسام الولاية بهذه الآية. ولقوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19]. * وقد أحببت أن أذكر هنا جملًا من أوصاف الأولياء -وإن كانت هي أوصاف الصالحين المندرجة تحت الإيمان والتقوى- تحريكاً للعبد ليتحلى بحليتهم، ويتشبه بهم في طريقتهم: روى الطبراني -ورجاله ثقات- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]؛ قال: "الَّذِينَ يُذْكَرُ اللهُ بِذِكْرِهِمْ" (¬1). وفي لفظ: "الَّذِينَ إِذا رُؤُوا يُذْكَرُ اللهُ لِرُؤْيتِهِمْ". وأخرجه الضياء في "المختارة" (¬2). وفي لفظ آخر عنه قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أولياء الله؟ قال: "الَّذِينَ إِذا رُؤُوا ذُكِرَ الله". أخرجه ابن المبارك، والبزار، وآخرون (¬3). ¬
وروى الإِمام أحمد، وابن ماجه، وابن أبي الدنيا في "الأولياء" عن أسماء بنت يزيد رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخِيارِكُمْ؟ ". قالوا: بلى. قال: "الَّذِينَ إِذا رُؤُوا ذُكِرَ الله" (¬1). وروى أبو نعيم عن سعد - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أولياء الله؟ قال: "الَّذِينَ إِذا رُؤُوا ذُكِرَ الله" (¬2). وروى سعيد بن منصور عن الحسن -مرسلاً- والطبراني في "الأوسط" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: "إِنَّ أَوْلِياءَ الله الْمُصَلُّونَ، وَمَنْ يُقِيمُ الصَّلَواتِ الْخَمْسَ الَّتِي كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَيْهِ، وَيصُومُ رَمَضانَ وَيحْتَسِبُ صَوْمَهُ، وُيؤْتي الزَّكاةَ مُحْتَسِباً طَيِّبَةً بِها نَفْسُهُ، وَيَجْتَنِبُ الكَبائِرَ الَّتِي نَهى اللهُ عَنْها". فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله! وكم الكبائر؟ قال: "تِسْعٌ؛ أَعْظَمُهُنَّ الإِشْراك باللهِ، وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ، ¬
وَالفِرارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَناتِ، وَالسِّحْرُ، وَأكلُ مالِ اليتيمِ، وَأَكْلُ الرِّبا، وَعُقوقُ الوالِدَيْنِ". وأخرجه الطبراني -بسند جيد- بنحوه من حديث عبيد بن عمير الليثي عن أبيه (¬1). وروى أبو داود، وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ مِنْ عِبادِ اللهِ لأُناسًا ما هُمْ بِأنْبِياءَ وَلا شُهَداءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِياءُ وَالشُّهَداءُ يَومَ القِيامَةِ بِمَكانِهِمْ مِنَ اللهِ عز وجل". قيل: يا رسول الله! خبرنا من هم؟ وما أعمالهم؟ لعلنا نحبهم. قال: "هُمْ قَوم تَحابُّوا في الله عَلى غَيْرِ أَرْحامٍ بَيْنَهُمْ وَلا أَمْوالٍ يَتَعاطَوْنَ بِها، فَوَاللهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لتنَوِّرُ، وَإِنَّهُمْ عَلى مَنابِرَ مِنْ نُورٍ، لا يَخافُونَ إِذا خافَ النَّاسُ، وَلا يَحْزَنونَ إِذا حَزِنَ النَّاسُ". ثم قرأ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] (¬2). وروى الإمام أحمد، وابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان"، وأبو يعلى -بإسناد حسن- والحاكم -وقال: صحيح الإسناد- عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أيها النَّاسُ! اسْمَعُوا واعْقِلُوا ¬
وَاعْلَمُوا: إنَّ لِلَّهِ عِباداً لَيسُوا بِأَنْبِياءَ وَلا شُهَداءَ، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَداءُ عَلى مَنازِلِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ تَعالَى". فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، فألوى بيده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون على منازلهم وقربهم من الله تعالى؟ انعتهم لنا، حلهم لنا، شكلهم لنا. فَسُرَّ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بسؤال الأعرابي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هُمْ مِنْ أفناءِ النَّاسِ وَنَوازعِ القَبائِلِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرحامٌ مُتَقارِبَةٌ، تَحابُّوا في اللهِ وَتَصادَقُوا، يَضَعُ اللهُ لَهُمْ يَومَ القيامَةِ مَنابِرَ مِنْ نُورٍ فَيَجْلِسُونَ عَلَيها، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نوراً، وثيابَهُمْ نوراً، يَفْزَعُ النَّاسُ يَومَ القِيامَةِ وَلا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِياءُ اللهِ الَّذِينَ لا خَوفٌ عَلَيهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنونَ" (¬1). وروى الإِمام أحمد، والحاكم عن أبي إدريس الخولاني: أنه قال لمعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: إني أحبك في الله، فقال له: أبشر، ثم أبشر؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُنْصَبُ لِطائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ كَراسِيُّ حَولَ العَرْشِ يَومَ القِيامَةِ، وَمَنابِرُ مِنْ نُورٍ عَلَيها قَومٌ وُجُوهُهُمْ كَالقَمَرِ لَيلَةَ البَدْرِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَهُمْ لا يَفْزَعُونَ، وَيَخافُ النَّاسُ ¬
وَلا يَخافونَ، وَهُمْ أَوْلِياءُ الله الّذِينَ لا خَوف عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنونَ". فقيل: من هؤلاء؟ قال: "الْمُتَحابونَ في اللهِ" (¬1). وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قالَ اللهُ تَعالَى: حَقَّتْ مَحَبتي لِلْمُتَحابينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتي لِلْمُتَزاوِرِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَتي لِلْمُتَجالِسِينَ فِيَّ، الَّذِينَ يَعْمُرونَ مَساجِدِي بِذِكْرِي، يُعَلِّمونَ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَيدْعُونهمْ إِلَى طاعَتِي؛ أُوْلَئِكَ أَوْلِيائِيَ الَّذِينَ أُظِلُّهُمْ في ظِل عَرْشِي، وَأُسْكِنُهْم في جِوارِي، وَأُؤَمنُهُمْ مِنْ عَذابِي، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ قَبلَ الناسِ بِخَمْسِ مِئَةِ عامٍ يَتَنَعَّمُونَ فِيها، وَهُمْ فِيها خالِدُونَ". ثم قرأ نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] (¬2). وروى الإِمام أحمد، والطبراني عن عمرو بن الجموح رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يَجِدُ العَبْدُ صَرِيحَ الإِيْمانِ حَتى يُحبَّ لله ويبْغِضَ للهِ، فَإِذا أَحَبَّ لله وَأَبْغَضَ لله فَقَدِ اسْتَحَقَّ ¬
الولايَةَ لِلَّهِ" (¬1). وأخرجه ابن أبي الدنيا بنحوه، وزاد: "قالَ اللهُ تَعالَى: إِنَّ أَوْلِيائِي مِنْ عِبادِي وَأَحِبَّائِي مِنْ خَلْقِي الَّذِينَ يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي وَأُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ" (¬2). وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: عادِ في الله ووالِ في الله؛ فإنه لا ينال ولاية الله إلا بذلك، ولا يجد رجل طعم الإيمان -وإن كثرت صلاته وصيامه- حتى يكون كذلك (¬3). وروى ابن أبي الدنيا عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ اسْتَحَقَّ ولايَةَ اللهِ وَطاعَتَهُ: حِلْمٌ أَصِيلٌ يَدْفَعُ بِهِ سَفَه السَّفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَوَرَعٌ صادِقٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَعاصِي اللهِ، وَخُلُقٌ حَسَنٌ يُدارِي بِهِ النَّاسَ" (¬4). وروى أبو نعيم عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله تَعالَى أَوْحَى إِلَيَّ: يا أَخا الْمُرْسَلِينَ! وَيا أَخا الْمُنْذِرِينَ! أَنْذِرْ قَوْمَكَ أَنْ لا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ بُيوتي وَلأَحِدٍ عِنْدَهُمْ مَظْلَمَةٌ؛ فَإِنِّي ألعَنُهُ ما دامَ قائِمًا بَيْنَ ¬
يَدَيَّ يُصَلِّي حَتَّى يَرُدَّ تِلْكَ الْمَظْلَمَةَ إِلَى أَهْلِها، فَأكُونَ سَمْعَهُ الّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَأكُونَ بَصَرُهَ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَكُونَ مِنْ أَوْلِيائِي وَأَخِصَّائِي، وَيَكُونَ جارِيَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ في الْجَنَّةِ" (¬1). وروى ابن المبارك في "الزهد والرقائق" عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ثلاث من كن فيه دخل الجنة: من إذا عرف حقًّا لله عز وجل لم يؤخره إلى أيام لا يدركها، وكان عمله صالحا في العلانية على قوام من السريرة، وكان يجمع مع ما قد عمل صلاح ما يأمل؛ فهكذا ولي الله (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط" عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مِنْ مُوجِباتِ ولايَةِ الله تَعالَى ثلاثًا: إِذا رَأى حَقًّا مِنْ حُقوقِ اللهِ تَعالَى لَمْ يُؤَخِّرْهُ إِلَى أَّيامٍ لا يُدْرِكُها، وَأَنْ يَعْمَلَ العَمَلَ الصَّالح في العَلانِيَةِ على قِوامٍ مِنْ عَمَلِهِ في السَّرِيرَةِ، وَهُوَ يَجْمَعُ مَعَ ما يَعْمَلُ صَلاحَ ما يَأْمَلُ". قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَهَكَذا وَلِيُّ اللهِ"؛ وعقد ثلاثًا (¬3). ¬
وروى هو وأبو نعيم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيائِي عِنْدِي مُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحاذِّ (¬1)، ذُو حَظٍّ مِنْ صَلاةٍ وَصِيامٍ، أَحْسَنَ عِبادةَ رَبِّهِ عز وجل وَأَطاعَهُ في السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ، وَكانَ غامِضاً في النَّاسِ لا يُشارُ إِلَيْهِ بِالأَصابعِ، وَكانَ عَيْشُهُ كفافاً، وَصَبَرَ على ذَلِكَ، فَعُجِّلَتْ مَنِيتُهُ، وَقَلَّتْ بَواكِيهِ، وَقَلَّ تراثُهُ" (¬2). ورواه الإمام أحمد، والبيهقي، ولفظه: "إِنَّ أَحْسَنَ أَوْلِيائِي عِنْدِي مَنْزِلَةً رَجُلٌ ذُو حَظٍّ مِنْ صَلاةٍ، أَحْسَنَ عِبادةَ رَبهِ في السِّرِّ، وَكانَ غامِضاً في النَّاسِ لا يُشارُ إِلَيْهِ بِالأَصابعِ، عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، وَقَلَّ تُراثُهُ، وَقَلَّتْ بَواكِيهِ" (¬3). قلت: ولا شك أن من كان من أولياء النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو من أولياء الله تعالى. وقلت في معناه: [من الوافر] ¬
وَلِيُّ الله مَنْ والَى النَبِيَّا ... وَكانَ بِالاقْتِداءِ بِهِ حَرِيَّا غَمِيضٌ في الوَرى لَمْ يُوْمَ يَومًا ... إِلَيْهِ وَلَمْ يَنَلْ صِيتًا عَلِيَّا يُصَلِّي مُحْسِنًا في السِّرِّ ناجَى ... بِإخلاصٍ وَإِشْفاقٍ خَفِيَّا كَفافًا عَيْشُهُ قَدْ نالَ صَبراً ... يَمُوتُ فَلَمْ تَجِدْ قَوما بُكِيَّا وَلَمْ يَتْرُكْ مِنَ الدّنْيا تراثًا ... وَلَكِنْ كانَ بِالتَّقْوى مَلِيَّا وحديث أبي أمامة عند الإِمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم في "المستدرك"، ولكن لفظه: "إِنَّ أَغْبَطَ النَّاسِ عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحاذِّ، ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلاةِ، أَحْسَنَ عِبادةَ ربهِ، وَأَطاعَهُ في السِّرِّ، وَكانَ غامِضًا في النَّاسِ لا يُشارُ إِلَيْهِ بِالأَصابعِ، وَكانَ رِزْقُهُ كفافًا فَصَبَرَ عَلى ذَلِكَ، عُجلَتْ مَنِيتُهُ، وَقَلَّتْ بَواكِيهِ، وَقَلَّ تراثُهُ (¬1) " (¬2). وروى الثعلبي وغيره عن علي - رضي الله عنه -: أنه قال في أولياء الله تعالى: [من مجزوء الكامل] صُفْرُ الوُجُوه مِنَ السَّهَر ... عُمْشُ العُيونِ مِنَ العِبَر ¬
خُمْصُ البُطُونِ مِنَ الطَّوَى ... يُبْسُ الشِّفاهِ مِنَ الذَّوَى (¬1) (¬2) وروى الدينوري في "المجالسة" عن المدائني قال: نظر علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إلى قوم ببابه، فقال لقنبر: يا قنبر! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء شيعتك يا أمير المؤمنين. قال وما لي لا أرى فيهم سيماء الشيعة؟ قال: وما سيماء الشيعة؟ فقال: خُمْصُ البُطُونِ مِنَ الطوَى يُبْسُ الشِّفاهِ مِنَ الظَّما عُمْشُ العُيونِ مِنَ البُكا (¬3) فوصف شيعته في هذا الخبر بما وصف به الأولياء في الخبر الآخر، فشيعة علي رضي الله تعالى عنه هم أولياء الله تعالى. وكيف يكون من أوليائه من يبغض أولياءه؟ وأفضل أولياء الله الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. ¬
وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن يوسف بن يعقوب الحنفي قال: بلغنا أن الله عز وجل يقول: يا أوليائي! طال ما نظرت إليكم في الدنيا وقد قَلَصَتْ شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم، وَخَمصَت بطونكم؛ فكونوا اليوم في نعيمكم، وكلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية (¬1). وروى الإِمام أحمد في "الزهد"، وابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن وهب بن منبه قال: قال الحواريون لعيسى بن مريم عليهما السلام: مَنْ أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى عليه السلام: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، وأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتاً، وفرحهم بما أصابوا منها حزنا، فما عارضهم من نائلها رفضوه، وما عارضهم من رفعتها بغير حق وضعوه، خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها، وماتت في صدورهم فليسوا يحبونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها فكانوا برفضها فرحين، وباعوها فكانوا ببيعها رابحين، ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت فيهم المَثُلات، فأحبوا ذكر الموت، وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله ¬
ويحبون ذكره، يستضيئون بنوره، لهم الخبر العجيب، وعندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب وبه علموا، ليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا، ولا أمانًا دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يحذرون (¬1). وروى أبو نعيم عن وهب: أن الله عز وجل أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود! إنما يكفي أوليائي اليسير من العمل، كما يكفي الطعام [القليل] من الملح. يا داود! هل تدري متى أتولاهم؟ إذا طهَّروا قلوبهم من الشرك، ونزعوا قلوبهم من الشك، وعلموا أن لي جنة وناراً، وأني أحي وأميت، وأبعث من في القبور، وأني لم أتخذ صاحبة ولا ولدًا؛ فإن توفيتهم بيسير من العمل وهم موقنون بذلك جعلته عظيمًا عندي (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن عثمان بن عمارة عن بعضهم قال: إن أولياء الله أرضى عن الله - صلى الله عليه وسلم - من أن يسألوه ينقلهم من حالة إلى حالة حتى يكون هو الذي ينقلهم (¬3). وعن أحمد بن أبي الحواري قال: أخبرني محمَّد بن جعفر من ¬
الأبناء قال: ذكروا عند رابعة عابداً من بني إسرائيل ينزل من متعبده في كل سنة، فيأتي مزبلة على باب الملك، فيلتقم من فضول مائدته، فقال رجل عندها: وما على هذا إذ كان له هذه المنزلة أن يسأل الله أن يجعل رزقه من غير هذا؟ فقالت رابعة: يا هذا! إن أولياء الله إذا قضي لهم قضاء لم يسخطوه (¬1). وروى الإِمام أحمد في "الزهد"، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى: أن الله تعالى قال لموسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون: ولا تغرنكما بزَّته، ولا ما متع به، ولا تمدان إلى ذلك أعينكما؛ فإنها زهرة الدنيا وزينة المترفين، وإني لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته [تعجز] عن مثل ما أوتيتما فعلت، ولكن أرغب بكما عن ذلك، وأزويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، وقديمًا ما خرت لهم في أمور الدنيا؛ فإني لأذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مواقع الهَلَكة، وإني لأجنبهم سكونها (¬2) وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة، وما ذلك لهوانهم علي، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً لم تكلمه ¬
الدنيا, ولم يُطْغِه الهوى. واعلم أنه لم يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا؛ فإنه زينة المتقين، عليهم منه لباس يعرفون به من السكينة والخشوع، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك هم أوليائي حقًا، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل لهم قلبك ولسانك. واعلم أن من أهان لي ولياً، أو أخافه فقد بارزني (¬1) بالمحاربة، وبادأني وعرض لي نفسه، ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم بي، أَوَيظن الذي يحاددني أو يعاديني أن يعجزني، أَوَيظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني؛ كيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة، لا أكِلُ نصرتهم إلى غيري (¬2). وذكر حجة الإِسلام أبو حامد الغزالي في "الإحياء" أن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبت! أي الخصال من الإنسان خير؟ قال: الدين. قال: فإذا كانتا اثنتين؟ قال: الدين، والمال. قال: فإذا كانت ثلاثًا؟ ¬
قال: الدين، والمال، والحياء. قال: فإذا كانت أربعاً؟ قال: الدين، والمال، والحياء، وحسن الخلق. قال: فإذا كانت خمساً؟ قال: الدين، والمال، والحياء، وحسن الخلق، والسخاء. قال: فإذا كانت ستاً؟ قال: يا ولدي! إذا اجتمعت فيه الخمس فهو تقي نقي، لله ولي، ومن الشيطان بري (¬1). وقلت في المعنى: [من الرجز] الدّينُ ثُمَّ الْمالُ فَالْحَياءُ ... فَالْخُلُقُ الْحَسَنُ فَالسَّخاءُ خَيْرُ خِصالٍ هِيَ في الإِنْسانِ ... كَما أَتَى في النَّقْلِ عَنْ لُقْمانِ فَإِنْ تَكُنْ مَجْمُوعَةً في رَجُلِ ... فَهْوَ التَّقِيُّ وَالنَّقِيُّ وَالوَليْ وروى أبو الشيخ بن حيان في كتاب "الثواب" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما جُبِلَ وَلِيٌّ لِلَّهِ إِلاَّ عَلى السَّخاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ" (¬2). ¬
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن عبد الواحد بن زيد رحمه الله تعالى قال: أولياء الله تعالى هم الألباء العقلاء، الحذِرون المسارعون في رضوان الله المراقبون لله (¬1). وروى أبو نعيم عن أبي عمرو الرازي (¬2) قال: من صفات الأولياء ثلاث: الرجوع إلى الله في كل شيء، والفقر إلى الله في كل شيء، والثقة بالله في كل شيء (¬3). وعن محمَّد بن أبي الورد رحمه الله تعالى قال: ولي الله إذا زاده (¬4) ثلاثة أشياء زاد منه ثلاثة أشياء: إذا زاد جاهه زاد تواضعه، وإذا زاد ماله زاد سخاؤه، وإذا زاد عمره زاد اجتهاده (¬5). وعن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى قال: تضاحكت الأشياء إلى أولياء الله العارفين بأفواه القدرة عن مليكهم لما يرون من آثار صنعه فيها، ويعاينون من بدائع خلقه معهم، فلهم في كل شيء معتبر، وعند كل شيء مذكر (¬6). ¬
وعن الربيع بن أنس قال: كنت عند صفوان بن محرز خاليًا، فدخل علينا شابٌّ من أصحاب الأهواء، فذكر أشياء، فقال: أيها الفتى! ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أولياءه؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] الآية (¬1). وروى أبو الحسن بن جهضم عن عمرو بن عثمان المكي: قال: ثلاثة أشياء من صفات أولياء الله: الرجوع إلى الله في كل شيء ... إلى آخر ما ذكره أبو نعيم عن ابن عمرو الرازي (¬2). وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته" عن معروف الكرخي رحمه الله تعالى أنه سئل ما علامة الأولياء؟ قال: ثلاثة: همومهم الله، وشغلهم فيه، وفرارهم إليه (¬3). وعن أحمد بن خضرويه قال: ولي الله لا يَسِم (¬4) نفسه بسيماء، ولا يكون له اسم يتسمى به (¬5). وعن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى قال: ثلاث خصال من خصال الأولياء: الثقة بالله في كل شيء، والغنى به عن كل شيء، ¬
والرجوع إليه في كل شيء (¬1). وعن أبي القاسم الجنيد رحمه الله تعالى قال: الحياء من الله أزال عن قلوب أوليائه سرور المنة (¬2). وعن شاه الكرماني رحمه الله تعالى قال: لأهل الفضل فضلٌ ما لم يَرَوْهُ، فإذا رأوه فلا فضل لهم، ولأهل الولاية ولايةٌ ما لم يروها، فإذا رأوها فلا ولاية لهم (¬3). وعن محمَّد بن حامد الترمذي رحمه الله تعالى قال: الولي في ستر حاله أبدًا، والكون كله ناطق عن ولايته، والدَّعِي ناطق به؛ أي: بنفسه، والكون كله ينكر عليه (¬4). وعن أبي عبد الله محمَّد بن أحمد بن سالم صاحب سهل التُّسْتَري رحمهما الله تعالى أنه سئل: بم تعرف الأولياء في الخلق؟ قال: بلطف لسانهم، وحسن أخلاقهم، وبشاشة وجوههم، وسخاوة أنفسهم، وقلة اعتراضهم، وقبول عذر من اعتذر إليهم، وتمام الشفقة على جميع الخلائق؛ بَرِّهِم وفاجرهم (¬5). ¬
وعن عبد الله الرازي قال: الخلق كلهم يدعون المعرفة، لكنهم عن صدق المعرفة بمعزل. قال: وصدق المعرفة خص بها الأنبياء عليهم السلام، والسادة من الأولياء - رضي الله عنهم - (¬1). وعن أبي الحسن البوشنجي رحمه الله تعالى قال: الناس على ثلاث منازل: الأولياء: وهم الذين باطنهم أفضل من ظاهرهم. والعلماء: وهم الذين سرهم وعلانيتهم سواء. والجهال: وهم الذين علانيتهم تخالف أسرارهم، وهم لا ينصفون من أنفسهم ويطلبون الإنصاف من غيرهم (¬2). ونقل الثعلبي عن ابن كيسان في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} [يونس: 62] الآية؛ قال: هم الذين تولى الله هداهم بالبرهان، وتولوا القيام بحقه والدعاء إليه (¬3). وهذا مبني على جعل الولي بمعنى المفعول وبمعنى الفاعل جميعًا. وقال أبو القاسم القشيري في باب الولاية من "رسالته": الولي له معنيان: ¬
أحدهما: فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله سبحانه أمره. قال تعالى: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، فلا يكله إلى نفسه لحظة، بل يتولى الحق رعايته. والثاني: فعيل مبالغة من الفاعل، وهو الذي يتولى عبادة الله بطاعته، فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان. قال: وكذا الوصفين واجب حتى يكون الولي ولياً يجب قيامه بحقوق الله على الاستقصاء والاستيفاء، ودوام حفظ الله إياه في السراء والضراء. قال: ومن شرط الولي أن يكون محفوظا كما أن من شرط النبي أن يكون معصوماً، وكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخدوع. قال: وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى يقول: قصد أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى بعض من وُصف بالولاية، فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه، فخرج الرجل وتنخم في المسجد، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه، وقال: هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة؛ فكيف يكون أمينا على أسرار الحق؟ انتهى (¬1). وذكر نحو ذلك في "عيون الأجوبة"، وزاد فيه: إن الولي من حيث الاستحقاق -يعني: للولاية- من يكون لربه ولا يكون لنفسه. قال: ومعناه سقوط حظوظه، وقيام حقوق الحق بعد زوال نفسه ¬
كما قيل: [من الوافر] فَسِرْتُ إِلَيْكَ في طَلَبِ الْمَعالِي ... وَسارَ سِوايَ في طَلَبِ الْمَعاشِ (¬1) وقد علمت من كلامنا السابق أن الولاية لا تتم إلا بولاية الله تعالى للعبد، فإذا تولى الله العبد تولى العبد طاعة الله تعالى فصار ولياً. وهذا معنى قوله: وكذا الوصفين واجب حتى يكون الولي وليا. وذكر في "التحبير": من علامات من يكون الحق وليّه أن يصونه ويمونه، ويعينه على قلبه في كل نفس بتحقيق آماله عند إشارته، وتعجيل مآربه عن خطراته، وأن يديم توفيقه حتى لو أراد سوءًا أو قصد محذوراً عصمه عن ارتكابه، ولو مال إلى تقصير في طاعته لم يتسهل له، بل ينقلب ذلك توفيقا وتأييدًا، وأن يرزقه مودة في قلوب أوليائه تجلب له زيادة الإفضال والإنعام من الله عز وجل. قلت: وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يستنصر بتولي الله تعالى له، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 195، 196]؛ أي: الذي يتولى نصرتي وحفظي الله، فالولي بمعنى الناصر والحفيظ، فإذا تولى الله العبد وفقه لولايته فيكون ناصرًا لله تعالى ولأمره، حفيظا لحقوقه وحقوق ¬
خلقه، فإذا كان كذلك زاده الله تعالى نصرة وحفظًا وتوفيقاً. قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]. وقال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظِ الله تَجِدْهُ تُجاهَكَ" (¬1). فالغالب على الولي في حال صحوه كما قال القشيري في باب كرامات الأولياء من "رسالته" صدقُه في أداء حقوق ربه سبحانه، ثم رفقه والشفقة على الخلق في جميع أحواله، ثم انبساط رحمته لكافة الخلق، ثم دوام تحمله عنهم بجميل الخلق، وانتدابه لطلب الإحسان من الله إليهم من غير التماس منهم، وتعليق الهمة تجاه الخلق، وترك الانتقام منهم، والتوقي عن استشعار حقه عليهم مع قصر اليد عن أموالهم، وترك الطمع بكل وجه فيهم، وقبض اللسان عن بسطه بالسوء فيهم، والتصاون عن شهود مساوئهم، وترك الانتقام منهم، ولا يكون خصماً لأحد في الدنيا والآخرة (¬2). هذا ما ذكره القشيري، ويستثنى من قوله: وترك الانتقام منهم والتوقي عن استشعار حقه عليهم: ما لو انتهكت محارم الله؛ فيجب الغضب عند ذلك على المنتهك من حيث جرأتُه على الله تعالى، لا من ¬
حيث إن الله تعالى قلبه في ذلك، فيرحمه من هذه الحيثية ويود أن لو عوفي من ذلك. وكذلك انبساط رحمته لكافة الخلق من حيث ضعفهم، لا من حيث إن الله تعالى أراد ما أراد فيهم، فليس له أن يريد خلاف ما أراده الله تعالى. قال القشيري: وقيل: إن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال لرجل: أتحب أن تكون لله وليًا؟ قال: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة، وفَرغ نفسك لله عز وجل، وأقبل بوجهك عليه ليقبل عليك ويواليك (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن مسمع بن عاصم قال: اختلف العابدون عندنا في الولاية، فقال بعضهم إذا استحقها عبد لم يهم بشيء إلا ناله في دين كان أو دنيا. وقال الآخر: الولي لا يعصى غير أنه لا يدرك الشيء الذي يريده من الدنيا بهمه، ولا يدركه إلا بطلبه كأنهم يقولون: يدعو فيجاب. وقال آخرون: المستحق للولاية لا يعرض لانتقاص حظه من الآخرة. فتكلموا في ذلك بكلام كثير، فأجمعوا على أن يأتوا امرأة من بني عدي يقال لها: أمة الجليل بنت عمرو العدوية، وكانت منقطعة جداً من طول الاجتهاد، فاستأذنوا عليها، فأذنت لهم، فعرضوا عليها اختلافهم، ¬
فقالت: ساعات الولي ساعات شغل عن الدنيا، ليس للولي المستحق في الدنيا من حاجة. ثم أقبلت على بعضهم فقالت: من حدثك، أو أخبرك أن وليّه له هم غيره فلا تصدقه (¬1). وفي معناه أنشدوا: [من البسيط] كانَتْ لِقَلْبِيَ أَهْواء مُشَتَّتَةٌ ... فَاسْتَجْمَعَتْ مُذْ رَأتكَ النَّفْسُ أهْوائِي وَصارَ يَحْسُدُنِي مَنْ كُنْتُ أَحْسُدُهُ ... وَصِرْتُ مَولَى الوَرى مُذْ صِرْتَ مَوْلائِي (¬2) وأنشدوا أيضًا: [من الخفيف] لِي شُغُلٌ وَلِلْعَوالِمُ شُغْلُ ... شُغْلُها فَضْلَةٌ وَشُغْلِيَ فَضْلُ أَنْتَ يا واهِبَ الْمَحامِدِ شُغْلِي ... حَبَّذا الشُّغْلُ شُغْلُ مَنْ لا يَمَلُّ ¬
كُلّ ما هامَتِ الْعَوالِمُ فيه ... فَهْوَ فَرْعٌ وَأَنْتَ لِلْكُلِّ أَصْلُ وذكرت بذلك ما رواه الدارقطني في "الأفراد" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أهلُ شُغْلِ الله في الدُّنْيا هُمْ أَهْلُ شُغْلِ الله في الآخِرَةِ، وَأَهْلُ شُغْلِ أَنْفُسِهِمْ في الدنْيا هُمْ أَهْلُ شُغْلِ أَنْفُسِهِمْ في الآخِرَةِ" (¬1). وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "الزهد" عن شميط بن عجلان قال: إن أولياء الله آثروا رضي ربهم عز وجل على هوى أنفسهم، فأرغموا أنفسهم كثيرًا لرضى ربهم تبارك وتعالى، فأفلحوا وأنجحوا (¬2). وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته"، وأبو نعيم عن أبي يزيد البسطامي رحمه الله تعالى: اطلع الله على قلوب أوليائه فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة صرفًا فشغلهم بالعبادة (¬3). وذكر السلمي في "الحقائق" عنه قال: ولي الله الذي يأخذ كتاب الله بيمينه، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بشماله، ويتزر بالدنيا، ويرتدي بالآخرة، ويلي ¬
من بينهما للهولى؛ أي: يجيبه إلى أوامره. ونقل القشيري عنه قال: حظوظ الأولياء مع تباينها من أربعة أسماء، وقيام كل طائفة منهم من اسم منها؛ وهي الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، فمن فني عنها بعد ملابستها فهو الكامل التام. فمن كان حظه من اسمه الظاهر لاحظ عجائب قدرته. ومن كان حظه من اسمه الباطن لاحظ ما جرى في السرائر من أنواره. ومن كان حظه من اسمه الأول كان شغله بما سبق. ومن كان حظه من اسمه الآخر كان مرتبطاً بما يستقبله. وكلٌّ كوشف على قدر طاقته إلا من تولاه الله ببره وقام عنه بنفسه (¬1). قال القشيري رحمه الله تعالى: هذا الذي قاله أبو يزيد يشير إلى أن الخواص من عباده سبحانه ارتفعوا عن هذه الأقسام، فلا العواقب هم في ذكرها, ولا السوابق هم في فكرها, ولا الطوارق هم في أسراها. قال: وكذا أصحاب الحقائق يكونون محواً عن نعوت الخلائق. قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18] , انتهى (¬2). ¬
ونقل أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التُّستري رحمه الله تعالى أنه قال: مخالطة الولي للناس ذل، وتفرده عز، وقَلَّما رأيت ولياً لله إلا منفردًا (¬1). ونقل القشيري عنه قال: الولي الذي توالت أفعاله على الموافقة (¬2). ونقل عنه غيره أنه قال: الولاية ملك (¬3) النفس وسعة الصدر (¬4). وروى أبو نعيم عن أبي يزيد رحمه الله تعالى قال: أولياء الله مخدرون معه في جمال (¬5) الأنس به، لا يراهم أحد في الدنيا والآخرة إلا من كان محرمًا لهم، وأما غيرهم فلا إلا منتقبين من وراء حجبهم (¬6). وروى القشيري عنه قال: أولياء الله عرائس الله، ولا يرى العرائس إلا المحرمون، وهم مخدرون عنده في جمال الإنس، لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة (¬7)؛ فلا يراهم أحد على ما هم عليه وإن رأوا أجسادهم وخالطوهم وهم غير عارفين بهم. ¬
أما في الدنيا فالولي يكون بين ظهرانيهم وهم يحسبونه كواحد منهم، وهو مشاهد لمولاه ملاحظ لرضاه. وأما في الآخرة فالولي يراه من يراه فيما يكون فيه بظاهره، ولا يعلمون ما بينه وبين الله من القرب والمسارة. بل من أولياء الله تعالى من يستره الله تعالى في الدنيا بما يخيِّله إلى حُسَّاده من الركون إليها والعكوف عليها، والعصيان فيها، وهو فيما بينه وبين الله تعالى في طاعة (¬1). وفي المعنى قلت: [من الهزج] يَلُومُوني على فِعْلِي ... بِفَرْطِ اللَّوْمِ وَالعَتَبِ وَلا يَدْرُونَ ما بَيْني ... وَبَيْنَ اللهِ في قَلْبِي تَرانِي مُبْعِداً عَنْهُ ... وَإِنِّي مِنْهُ في قُرْبِ وروى [القشيري عن] النصرآبادي قال: ليس للأولياء سؤال، إنما هو الذبول والخمود. قال: نهايات الأولياء بدايات الأنبياء عليهم السلام (¬2). ¬
قال القشيري: وقال أبو عثمان المغربي: الولي قد يكون مشهوراً، ولكن لا يكون مفتونًا. قال: وقال يحيى بن معاذ: الولي لا يرائي ولا ينافق، وما أقل صديق من كان هذا خلقه. قال: وقال أبو علي الجوزجاني: الولي هو الفاني في حاله، الباقي في مشاهدة الحق، تولى الله سياسته (¬1) فتوالت عليه أنوار التولي، لم يكن له عن نفسه أخبار ولا مع غيره قرار (¬2). قال: وقال يحيى بن معاذ. الولي ريحان الله في الأرض يشمه الصديقون، فتصل رائحته إلى قلوبهم، فيشتاقون به إلى مولاهم، ويزدادون عبادة على تفاوت أخلاقهم (¬3). قلت: وهذا من معاني قوله - صلى الله عليه وسلم - في الأولياء: "الَّذِينَ يُذْكَرُ اللهُ لِرُؤْيتهِمْ أَوْ بِذِكْرِهِمْ" كما تقدم. قال القشيري: وقال يحيى في صفة الأولياء: هم عباد تسربلوا بالأنس بعد المكابدة، واعتنقوا الرَّوح بعد المجاهدة بوصولهم إلى مقام الولاية (¬4). ¬
قال: وسئل الواسطي رحمه الله تعالى: كيف يغذى الولي في ولايته؟ قال: في بدايته بعبادته، وفي كهولته بستره بلطافته، ثم يجذبه إلى ما سبق له من نعوته وصفاته، ثم يذيقه طعم قيامه به في أوقاته. قال: وقال الخرّاز رحمه الله تعالى: إذا أراد الله أن يوالي عبدًا من عبيده فتح عليه باب ذكره، فإذا استلذ الذكر فتح عليه باب القرب، ثم رفعه إلى مجالس الأنس، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب، وأدخله دار الفردانية، وكشف عنه الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقي بلا هو، فحينئذ صار العبد زمِناً فانيًا، فوقع في حفظه سبحانه، وبرئ من دعاوى نفسه (¬1). وقال في باب الذكر: سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى يقول: الذكر منشور الولاية؛ فمن وفق للذكر فقد أعطي المنشور، ومن سلب الذكر فقد عزل (¬2). وقال جدي رضي الدين رضي الله تعالى عنه في "ألفيته" في معناه: [من الرجز] وَالذِّكْرُ مِنْهُ مَدَدُ الكَرامَة ... وَهْوَ عَلى وِلايَةٍ عَلامَة ويؤيده ما رواه الشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن ¬
أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَقُولُ اللهُ تَعالَى: أَنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنا مَعَهُ إِذا ذَكَرَني" (¬1). وروى ابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي من حديثه، والحاكم -وصححه - من حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله عز وجل يقول: "أَنا مَعَ عَبْدِي إِذا هُوَ ذَكَرَني وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتاه" (¬2). وصحح الحاكم أيضًا عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قالَ اللهُ تَعالَى: عَبْدِي! أَنا عِنْدَ ظَنكَ بِي وَأَنا مَعَكَ إِذا ذَكَرْتَنِي" (¬3). وهذه المعية معية النظرة والحفظ والمعونة، وهو معنى ولاية الله تعالى لعبده؛ فمن ذكر الله تعالى ذِكْرَ طاعة وتعظيم وإجلال، فتوفيقه للذكر دليل ولاية الله تعالى. وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته" عن أبي حفص الحداد ¬
رحمه الله تعالى قال: الولي من أيد بالكرامات وغيب عنها (¬1). وروى أبو الحسن بن جهضم عن أبي محمَّد الجريري رحمه الله تعالى قال: من لم تكن فيه خصلتان فلا يطمع في الولاية: نزاهة طبع، وخلقه ظرف. قلت: نزاهة الطبع طهارته ونظافته من الأخلاق السيئة والخلال القبيحة، فإما أن يكون ذلك في أصل الطبع والجبلة كحال ابني الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام. وإما أن يكون ذلك مخالفًا لطبعه، وهو أعظم أجرًا من الأول لأنه في جهاد، ولا يعذر في موافقة طبعه المخالف لما أمر به كما قال أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى: الإنسان لا يعاب بما في طبعه، إنما يعاب إذا فعل ما في طبعه. رواه أبو نعيم (¬2). والمراد بالظرف ما رواه ابن جهضم عن الجنيد رحمه الله تعالى: أن رجلًا وقف عليه في حلقته فقال له: جئتك من أقصى خراسان في مسألة. فقال له: سل. فقال له: ما الظرف؟ فأطرق أبو القاسم رأسه، ثم قال: الاجتناب لكل خلق دنِيٍّ، ¬
واستعمال كل خلق سنِيٍّ، وأن يعمل لله ثم لا ترى أنك عملت. وسئل الحسن عن الظريف، فقال: هو الحسن الدين، المتنزه عن القبيح. رواه ابن جهضم أيضًا. وأنشدوا: [من الكامل] لَيْسَ الظَّرِيفُ بِكامِلٍ فِيْ ظُرْيفهِ ... حَتَّى يَكُونَ عَنِ الْحَرامِ عَفِيفا (¬1) فالظرف (¬2): في اللسان البلاغة، وفي الوجه الحسن، وفي القلب الذكاء؛ كما في "النهاية" (¬3). وذكر السلمي في "حقائقه" عن أبي عبد الله السِّجزي رحمه الله تعالى قال: علامة الأولياء ثلاث: تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وإنصاف عن قوة. وكل واعظ يقوم الغني من مجلسه فقيرًا والفقير غنيًّا فليس بواعظ (¬4). وعن أبي بكر الواسطي رحمه الله تعالى قال: علامة الولي أربعة: أولها: أن يحفظ سرائره التي بينه وبين ربه مما يرد عليه من ¬
المصائب فلا يشكو. والثاني: أن يصون كرامته له، فلا يتخذها رياء ولا سمعة، ولا يغفل عنها هواناً. والثالث: أن يحتمل أنس خلقه فلا يكافئهم. والرابع: أن يداري عباده على تفاوت أخلاقهم لأنه رأى الخلق لله، وفي أسر القدرة، فعاشرهم على رؤية ما منهم إليه (¬1). وعن جعفر الصادق رحمه الله تعالى قال: لا بد للعبد المؤمن من ثلاث سنن: سنة الله، وسنة الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وسنة الأولياء. فسنة الله كتمان السر. قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26]. وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مداراة الخلق. وسنة الأولياء الوفاء بالعهد، والصبر في البأساء والضراء (¬2). وقال الأستاذ أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى: الإيمان بطريقنا هذا ولاية. وروى أبو القاسم الأصبهاني عن عبد الصمد بن معقل قال: سمعت ¬
رجلًا يسأل وهبًا (¬1) -يعني: ابن منبه- في المسجد الحرام، فقال: حدثني عن زبور داود عليه السلام. فقال: وجدت في آخره ثلاثين سطراً: يا داود! اسمع مني والحق أقول؛ من لقيني وهو يحبني أدخلته جنتي. يا داود! اسمع مني والحق أقول؛ من لقيني وهو مستحي من معاصيَّ أنسيت حفظَتَه ذنوبه. يا داود! اسمع مني والحق أقول؛ لو أن عبدًا من عبادي عمل حشو الدنيا ذنوبًا، ثم ندم حلب شاة، واستغفرني مرة واحدة، فعلمت من قلبه أنه لا يريد أن يعود إليها، ألقيتها عنه أسرع من هبوط (¬2) المطر من السماء على الأرض. يا داود! اسمع مني والحق أقول؛ لو أن عبدًا من عبادي أتاني بحسنة واحدة حكمته في جنتي. قال داود عليه السلام: إلهي! من أجل ذلك لا يحل لمن عرفك أن يقطع رجاءه منك. قال: يا داود! إنما يكفي أوليائي اليسير من العمل كما يكفي الطعام القليل من الملح. هل تدري يا داود متى أتولاهم؟ إذا طهروا قلوبهم من الشرك، ¬
ونزعوا من قلوبهم الشك، وعلموا أن لي جنةً وناراً، وأني أحي وأميت، وأبعث من في القبور، ولم أتخذ صاحبة ولا ولدًا؛ فإن توفيتهم بيسير من العمل وهم يوقنون بذلك جعلته عظيمًا. هل تدري يا داود من أسرع الناس مَرًّا على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي وألسنتهم رطبة من ذكري. هل تدري يا داود أي المؤمنين أحب إلي؟ الذي إذا قال: لا الله إلا الله اقشعر جلده، إني أكره له الموت كما يكرهه (¬1) الوالد لولده، ولا بد له منه، إني أريد أن أُسره في دار سوى هذه [الدار]؛ فإن نعيمها فيها بلاءً، ورخاءها فيها شدة، فيها عدو لا يألوهم فيها خَبالاً، من أجل ذلك عجلت أوليائي إلى الجنة، لولا ذلك ما مات آدم وولده حتى ينفخ في الصور. يا داود! [إني أدري] ما تقول في نفسك؛ تقول: قطعت عنهم عبادتهم؛ أما تعلم ما أثيب المؤمن على عشرة يعثرها؟ فكيف إذا ذاق الموت، وهو أعظم المصيبات، وهو بين أطباق التراب؟ إنما أحبسه طول ما أحبسه لأعظم له الأجر، وأجري عليه أحسن ما كان يعمل إلى يوم القيامة. يا داود! من أجل ذلك سميت نفسي أرحم الراحمين (¬2). ¬
قلت: جميع ما في هذا الأثر موافق لما جاء مرفوعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يناقض قوله فيه: وأجري عليه أحسن ما كان يعمل إلى يوم القيامة؛ حديثَ مسلم: "يَنْقَطِعُ عَمَلُ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ مِنْ ثلاثٍ" (¬1)، ونحوه لأن قوله: وأجري عليه أحسن ما كان يعمل؛ أن الله تعالى يجري على المؤمن بعد موته ثواب ما نوى أن يعمله وأدركه الأجل قبل العمل. ومن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْر مِنْ عَمَلِه". رواه الطبراني في "الكبير" من حديث سهل بن سعد، والبيهقي في "الشعب" من حديث أنس رضي الله تعالى عنه (¬2). وقال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: مَن همَّ بصلاة أو صيام، أو حج أو عمرة، أو غزو، فحيل بينه وبين ذلك، بلَّغه الله ما نوى (¬3). وقال ثابت البناني رحمه الله تعالى: نية المؤمن أبلغ من عمله؛ إن المؤمن ينوي أن يقوم الليل، ويصوم النهار، ويخرج من ماله، فلا تتابعه ¬
نفسه على ذلك، فنيته أبلغ من عمله (¬1). وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: إن للمؤمن نية في الخير هي أبدًا أمامه لا يبلغها عمله، وإن للفاجر نية في الشر هي أبدًا أمامه لا يبلغها عمله، والله مبلغ بكل ما نوى (¬2). وقال الحسن رحمه الله تعالى: المؤمن تبلغ نيته وتضعف قوته، والمنافق تضعف نيته وتبلغ قوته (¬3). روى هذه الآثار ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخلاص والنية". قلت: وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: "إِنَّما الأَعْمالُ بِالنيَّاتِ، وَإِنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى" (¬4) إشارة إلى مسألتين عظيمتين: الأولى: أن النية تارة تكون مع العمل، وتارة تكون دون عمل، فأشار إلى الأول بقوله: "إِنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيَّاتِ"، وإلى الثاني بقوله: "وَإِنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى"؛ أي: سواء عمل أو لم يعمل. والمسألة الثانية: أن العمل لا ينفع مستقلًّا دون نية، وأن النية تنفع مستقلة دون العمل، ومن ثم كانت نية المؤمن خيراً من عمله ¬
وأبلغ من عمله. وروى الإِمام أحمد، والترمذي -وصححه، واللفظ له - عن أبي كبشة الأنماري رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ثَلاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوه" قال: "ما نَقَصَ مالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْها إِلاَّ زادهُ اللهُ عِزًّا، وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بابَ فَقْرٍ"؛ أو كلمة نحوها. قال: "وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ؛ إِنَّما الدُّنْيا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ؛ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فَهَذا بِأفْضَلِ الْمَنازِلِ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مالًا، فَهُوَ صادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ؛ فَأَجْرُهُما سَواءٌ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ في مالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلا يتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فهُوَ بِأَخْبَثِ الْمَنازِلِ. وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مالًا وَلا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بِنِّيَّتِهِ؛ فَوِزْرُهُما سَواءٌ" (¬1). قلت: وفي هذا الحديث دليل على أن العلم هو الذي ينفع العبد ¬
-سواء كان له مال، أو لا مال له- وأن الجهل مع المال ودونه ضار، وإذا كان كذلك فكيف بعالم عَمِل عمَل هذين الجاهلَين، فهو أخبث منهما. وسيأتي في (¬1) القسم الثاني من الكتاب الكلام على قباحة تشبه العالم بالجاهل. ثم يعلم من الحديث أن الولاية لا تكون مع الجهل؛ لأنَّ من آمن ونوى خيرًا، وعمل صالحًا هو الولي بعينه، فإذا جهل في نيته وجهل في عمله فليس له من الولاية نصيب. ومن ثم قال الإِمام أبو حنيفة، والإمام الشافعي رضي الله تعالى عنهما: إن لم يكن العلماء العاملون أولياءَ الله فليس لله ولي (¬2). وقال بعض السلف: ما اتخذ الله من ولي جاهل، ولو اتخذه لعلَّمه. وليس هذا بحديث، ولكنه مشهور على الألسنة. قال السخاوي في "المقاصد الحسنة": قال شيخنا؛ يعني: قاضي القضاة ابن حجر العسقلاني: ليس بثابت في المرفوع، ولكن معناه صحيح (¬3). والمراد بقوله: ولو اتخذه لعلَّمه؛ يعني: لو أراد اتخاذه وليًا لعلمه ثم اتخذه وليًا. ¬
قلت: وحكى السخاوي في ترجمة ابن حجر: أنه مر بالشيخ محمَّد ابن أحمد الصعيدي المعروف بالفرغل، وكان يومئذ بمصر دخلها في شفاعة، فقال ابن حجر في سره: ما اتخذ الله من ولي جاهل، ولو اتخذه لعلَّمه؛ على طريق الإنكار. فقال له الشيخ محمَّد: قف يا قاضي، فوقف، فأمسكه وأخذ يقول: بل اتخذني وعلمني! بل اتخذني وعلمني (¬1)! قلت: ويكفي الولي من العلم قدر ما يحتاج إليه في إصلاح طريقه من علوم الشريعة، ثم إن لجماعة من أولياء الله تعالى علومًا خصهم الله بها من علوم المعاملات، أو علوم المكاشفات، وهو حقيقة العلم، ومطلوب كل متعلم أخلص في طلبه. روى ابن باكويه الشيرازي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: جرى ذكر معروف الكرخي في مجلس والدي، فقال واحد من الجماعة: هو قصير العلم. فقال له والدي: أمسك عافاك الله؛ وهل يراد العلم إلا لما وصل إليه معروف؟ ورواه الخطيب من طريق آخر وقال: وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف (¬2)؟ ¬
وقال المعافى بن زكريا: حدثت عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: قلت لأبي: هل كان مع معروف شيء من العلم؟ فقال: يا بني! كان معه رأس العلم، خشية الله تعالى. رواه ابن الجوزي في ترجمة معروف رضي الله تعالى عنه (¬1). وقال أبو سعيد الخرّاز رحمه الله تعالى عن الأولياء في الدنيا: يطيرون بقلوبهم في الملكوت، يرتادون (¬2) ألوان الفوائد والحكمة، ويشربون من عين المعرفة، فهم يفرون من فضول الدنيا، ويأنسون بالمولى، ويستوحشون من نفوسهم إلى وقت موافاة الرحيل (¬3). وأقول: [من المجتث] لله أَهْلُ الرِّعايَة ... نالُوا الرِّضا بِالرِّعايَة بِالعِلْمِ حازُوا الوِلايَة ... رِوايَةً أَوْ دِرايَة عُوفُوا مِنَ الْجَهْلِ حَتَّى ... نالُوا التُّقَى وَالْهِدايَة أَوْلاهُمُ اللهُ مِنْهُ ... حِمايَةً وَكِفايَة بِدايَةُ القَوْمِ مِنْهُ ... كَما إِلَيهِ النِّهايَة *** ¬
فصل
فَصْلٌ ينبغي للعبد طلب الولاية من الله تعالى مع التحري لما ورد في الحديث: "وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ" (¬1). وقيل: لكل طالب نصيب. وقد شرع لنا طلب الهداية والعافية، والولاية، والبركة، والوقاية في كل يوم مرة في صلاة الفجر في دعاء القنوت: "اللهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعافِنِي فِيْمَنْ عافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبارِكْ لِي فِيما أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ ما قَضَيْتَ" إلى آخره (¬2). وقوله: "تَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ"؛ أي: اجعلني من أهل ولايتك الذين حففتهم بعنايتك، وحفظتهم بحسن رعايتك، وأقبلت بقلوبهم عليك، ورددتها إذ شَرَدت إليك، فبذلك تتم الولاية وتكمل الرعاية. ¬
وفي الحديث: "وإذا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً لَمْ يَضُرَّهُ ذَنبٌ". رواه القشيري في "الرسالة"، وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). ومعناه: أن الله تعالى إذا أحب العبد فزل العبد زلة، أخذ بيده، فوفقه للتوبة، ورجع به إليه، فإن ذلك من تمام التولي. وفي كتاب الله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]. قال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: فينا نزلت في بني حارثة وبني سلمة: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122]، وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122]. رواه الشيخان، وغيرهما (¬2). قال قتادة: وذلك يوم أحد، هموا بأمر فعصمهم الله تعالى من ذلك. قال: وقد ذكر لنا أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا، وقد أخبر الله أنه ولينا. رواه ابن جرير (¬3). يعني: إن الطائفتين هموا بالفرار فشلاً - والفشل الجبن؛ كما رواه ¬
ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - (¬1)، فعصمهم الله تعالى لولايته لهم، وكذلك عادة الله تعالى يأخذ بيد وليّه عند الزلات، ويقيله العثرات لأن أولياءه يتوكلون عليه ويتخذونه وكيلًا، فكفاهم؛ {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 3]. ولذلك قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]؛ أي: ليتولاهم ويكفيهم ما أهمهم، وما هموا به من عصيانه، وما عصوه فيرجع بهم إلى التوبة. ولله تعالى في عصمة أوليائه أنواع من الإحسان؛ فتارة يحول بينهم وبين العصيان بالكلية، وتارة يهمون بالعصيان فيحول بينهم وبين الاسترسال بالهم وبلوغ الفعل، وتارة تقع منهم الزلات فيوفقهم للتوبة كما قال الله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]. ومن النوع الأول ما رواه القشيري، وغيره عن الجنيد عن الحارث ابن أسد أنه قال: بيني وبين الله علامة أن لا يسوغني طعاما فيه شبهة (¬2). وعن إسماعيل بن نجيد قال: كان أبو تراب يقول: بيني وبين الله تعالى عهد أن لا أمد يدي إلى حرام إلا قصرت يدي عنه (¬3). وحكى ابن عطاء الله الإسكندري في "لطائف المنن" عن أستاذه ¬
أبي العباس المرسي رحمه الله تعالى قال: عزم علينا بعض صلحاء الإسكندرية في بستان له بالرمل، فخرجت أنا وجماعة من صلحاء الثغر، ولم يخرج معنا صاحب البستان ذلك الوقت، بل وصف لنا المكان، فتجارينا ونحن خارجون في الكلام في الورع، وكلٌّ قال شيئًا، فقلت لهم: إن الورع من ورعه الله. فلما أتينا إلى البستان -وكان زمن ثمرة التوت- كلهم أسرع إلى الأكل وأكل، وكنت كما جئت لآكل أجد وجعاً في بطني فأرجع، فينقطع الوجع عني، فعلت ذلك مراراً فجلست ولم آكل شيئًا، وهم يأكلون، وإذا بإنسان يصيح: كيف يحل لكم أن تأكلوا من ثمرة بستاني بغير إذني؟ فإذا هم قد غلطوا بالبستان، فقلت لهم: ألم أقل لكم: إن الورع من ورعه الله سبحانه؟ وقوله: "وَعافِنِي فِيمَنْ عافَيتَ"؛ قال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: أجمع العلماء أن تفسير العافية أن لا يكل الله العبد إلى نفسه، وأنه يتولاه، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَكِلْنِي إِلَى نفسِي". رواه أبو الحسن بن جهضم. وفي كلامه أن العافية تمام الولاية، وأول الولاية الهداية، فلذلك بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلب الهداية، ثم العافية، ثم الولاية في دعاء القنوت. وسئل الجنيد عن العافية فقال: العافية واسطة بين الهداية والولاية. قيل له: هل له في السنة أثر؟
قال: نعم؛ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعافِنِي فِيمَنْ عافَيْتَ، وَتَوَلنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ". وقال أبو عبد الرحمن السلمي: سئل أبو حفص عن العافية، فقال: الناس طلبوا العافية فأخطؤوا الطريق، وأخطؤوا السؤال، سألوا الله العافية ولم يعرفوا أن البلاء يتولد من العافية، ومحلها أن آدم عليه السلام كان في الجنة معافى منعمًا، فتولد من العافية البلاء. فالواجب على الإنسان أن يطلب من الله تعالى أن يتولاه في العافية وإمساك العافية. قلت: فالإنسان في العافية محتاج إلى العافية في العافية، وإنما يعافيه في عافيته إذا تولاه وكان له ولياً، فلا يكله إلى نفسه طرفة عين، والعافية في العافية ثمرة الشكر في العافية لأن الله تعالى يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: ارحم عبادي المبتلى والمعافى. قال: فما بال المعافى؟ قال: لقلة شكره على معافاتي (¬1). ومعنى الهداية التوفيق إلى طاعة الله وخدمته، فإذا استجاب الله تعالى لقوله: "اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن ¬
توليت"؛ وفقه للطاعة، وإذا شرد عنها شردة وفقه إلى التوبة، وعافاه في الطاعة من الإعجاب والرياء ونحوهما، وفي المعصية من الإصرار، وتولى نصره على عدوه، وحفظه منه ومن شؤم نفسه وتزكيتها، وتولاه فلم يكله إلى نفسه طرفة عين ورجع بقلبه إليه. قال أبو تراب النخشبي رحمه الله تعالى: رأيت رجلًا بالبادية، فقلت له: من أنت؟ قال: أنا الخضر الموكل بالأولياء؛ أردُّ قلوبهم إذا شردت عن الله تعالى. يا أبا تراب! التلف في أول قدم، والنجاة في آخر قدم (¬1). وما أحسنَ قولَ سمنون المحب رحمه الله تعالى كما رواه عن السلمي في "طبقاته"، والرفاعي في "أماليه": [من المنسرح] كانَ لِي قَلْبٌ أَعِيشُ بِهِ ... ضاعَ مِنِّي في تَقَلُّبِه رَبِّ فَارْدُدْهُ عَلَيَّ فَقَدْ ... ضاقَ صدْرِي في تَطَلُّبِه وَأَغِثْ ما دامَ بي رَمَق ... يا غِياثَ الْمُسْتَغِيثِ بِهِ (¬2) وكان أحمد بن الطيب رحمه الله تعالى يقول في وجوده: [من المجتث] سَلَبْتَ مِنِّي فُؤادِي ... فَارْدُدْ فُؤادِي إِليَّهْ ¬
شَوَّشْتَ عَقْلِيَّ عَلَيَّ ... فَجُدْ بِعَقْلِي عَلَيَّهْ رواه ابن جهضم في "بهجة الأسرار". وروى فيه عن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى قال: لن يصل إلى قلبك روح التوحيد ولله في قلبك حق لم تؤده، ومن لم يصلح لخدمته كيف يصلح لولايته؟ ومن مل خدمته لم يصل إلى رؤيته. وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن الوضين بن عطاء - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أحس من الناس بغفلة عن الموت [168] جاء فأخذ بعضادتي الباب، فهتف ثلاثًا، ثم نادى: "يا أيُّهَا النَّاسُ! يا أَهْلَ الإِسْلامِ! قَدْ أتَتْكُمُ الْمَوْتَةَ لازِمَةً راكِبَةً، جَاءَ الْمَوْتُ بِما جاءَ بِهِ جاءَ بِالرَّوْحِ وَالرَّاحَةِ، وَالكَرَّةِ الْمُبارَكَةِ لأَوْلِياءِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَهْلِ دارِ الْخُلُودِ الَّذِينَ كانَ سَعْيُهُمْ وَرَغْبَتُهُمْ فِيها لَهُ. جاءَ الْمَوْتُ بِما جاءَ بِالْحَسْرَةِ وَالنَّدامَةِ، وَالكَرَّةِ الْخاسِرَةِ لأَوْلِياءِ الشَّيْطانِ مِنْ أَهْلِ دارِ الغُرُورِ الَّذِينَ كانَ سَعْيُهُمْ وَرَغْبَتُهُمْ فِيها لأَهْلِها. أَلا إِنَّ لِكُلِّ ساعٍ غايَةً، وَغايَةُ كُلِّ ساعٍ الْمَوْتُ، فَسابِقٌ وَمَسْبُوقٌ" (¬1). *** ¬
فصل
فَصْلٌ قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]. النور الإيمان, والظلمات الكفر. رواه ابن جرير عن الضحاك، وأبو الشيخ عن السدي (¬1). وقال قتادة: النور الهدى، والظلمات الضلالة. رواه عبد بن حميد، وابن جرير (¬2). والآية قاضية بأن الله تعالى ولي كل مؤمن، وهو كذلك. لكن الولاية على قسمين: عامة لسائر المؤمنين. وخاصة للمتقين. ¬
نعم؛ يتولى الله تعالى أمر كل مؤمن حتى يوصله إلى مقامه الذي كتبه له في الأزل بأن يوفقه إلى طاعته، ثم يزيده إيمانا، ثم يوفقه، وهكذا. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7، 8]. ثم قال الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] أي لا ناصر لهم ولا متولي لأمرهم، وهو لا يخالف قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62]. فإن المولى فيه بمعنى المالك، ثم إن ولاية الله للمؤمن إنما هي للمؤمن في الأزل، بخلاف من سبقت له سابقة السوء، فما يكون له في الدنيا من نصرة ورزق فهو استدراج أو توفية عن عمل حسن الظاهر أو خلق جميل فيه، ولكن يجوز أن يطلق كل مؤمن على نفسه أن الله تعالى وليّه، ويتعلق بنصرته وكلأته من باب التفاؤل وحسن الظن بالله لأنه عند حسن ظن عبده به، وكلٌّ ميسر لما خلق له، ولذلك لما قال أبو سفيان في أحد: إن لنا عزى ولا عزى لكم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَجِيبُوه". قالوا: كيف نجيبه؟ قال: "قُولُوا لَهُ: اللهُ مَولانا وَلا مَوْلَى لَكُمْ" (¬1). ¬
وليس له أن يدعي الولاية لنفسه وإن جاز علمه بها -كما سيأتي- هضماً للنفس، وخوفا من المكر، واتضاعًا لله تعالى. ثم ليعتبر نفسه؛ فإذا وجدها تقبل الخير وتترقى فيه فليحمد الله تعالى، وليستبشر بتوليه له، وإذا وجد نفسه بخلاف ذلك فليحزن، وليخف أن لا يكون الله تعالى وليّه. ومن ثم ورد: كل يوم لا أزداد فيه خيرًا فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم (¬1). ومما يدل على ما سبق ما جاء في أدعية النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا عُدَّتِي عِنْدَ كُرْبَتِي! وَلا صاحِبِي عِنْدَ شِدَّتِي! وَيا وَليَّ نِعْمَتِي! يا إِلَهِي وإلَهَ آبائِي! لا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِيَ فَأَقْتَرِبَ مِنَ الشَّرِّ وَأتباعَدَ مِنَ الْخَيْرِ، وَآنِسْنِي في قَبْرِي مِنْ وَحْشَتِي، وَاجْعَلْ لِي عَهْداً يَومَ القِيامَةِ مَسْؤُولاً". رواه الحاكم في "تاريخ نيسابور" (¬2). وأما حال المؤمن مع أخيه المؤمن فالواجب عليه أن يعتقد فيه الخير لأن الله تعالى يقول: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]، فإذا ¬
ظهر من حاله الإيمان لا ينبغي له أن يخرجه من ولاية الله تعالى إلا ببرهان ظاهر بأن تحقق منه غلبة الفسق والشر، فله أن يتحرز منه بسوء الظن وإلا فلا. وقد قال بعض المحققين: إن الله تعالى أخفى وليّه في عباده المؤمنين لئلا يساء الظن بهم. وفي كتاب الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن سوءاً. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "الشعب" (¬1). وروى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالكعبة ويقول: "ما أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيْحَكِ! وَما أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالذِي نَفْسُ مُحمدٍ بِيَدهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ حُرْمَةً مِنْكِ؛ مالُهُ وَدَمُهُ، وَأَنْ يُظَن بِهِ إلا خَيراً" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن سعيد بن المسيب قال: كتب إلي ¬
بعض إخواني من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك. ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًا وأنت تجد له في الخير محملاً. ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه. ومن كتم سره كانت الخيرة في يده. وما كافأت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وعليك بإخوان الصدق فعش بأكنافهم؛ فإنهم زينة في الرخاء، وعدة عند عظيم البلاء. ولا تتهاون في الحلف فيهينك الله. ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون. ولا تضع حديثك إلا عند من يشتهيه. وعليك بالصدق وإن قتلك الصدق. واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله. وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب (¬1). ورواه الزبير بن بكار، وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى ¬
عنه، وقال فيه: من تَعرَّض للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن (¬1). وينبغي للمؤمن إذا اشتبه عليه حال أخيه المؤمن أن يعود على نفسه باللائمة، ويقول: إنما الخطأ في نظرك، وإنما رأيت عيوبك في أخيك لأن المؤمن مرآة أخيه. وإذا تحقق من عبد فسقًا أو فجوراً ثم غاب عنه فلا ينبغي أن يستصحب فيه ما يعلمه منه؛ بل يقول: لعله تاب ورجع، حتى يتحقق من خلاف ذلك. وليعلم أن الله تعالى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] فلعل من شأنه أن هداه وأصلحه، واتخذه وليا. قال أبو طالب المكي: حدثني بعض الأشياخ عن الخضر عليه السلام قال: ما حدثت نفسي يومًا قط أنه لم يبقَ ولي لله إلا عرفته إلا رأيت ذلك اليوم وليًّا لم أكن أعرفه. قال: وإني كنت يوما جالسا في حلقة عبد الرزاق بصنعاء، فنظرت إلى شاب قاعد ناحية، فجئت إليه، فقلت له: لم لا تسمع من عبد الرزاق؟ فقال: ما أسمع منه؟ قلت: حديث معمر عن الزهد. فقال: قد سمعت من الله تعالى فأغناني عن عبد الرزاق. فقلت: وأنت ممن يحسن أن يسمع من الله عز وجل؟ ¬
قال: نعم. قلت: فمن أنا؟ قال: الخضر. ثم غاب عني فلم أقدر على النظر إليه (¬1). وروى أبو الحسن بن جهضم، عن ابن مسروق، عن أبي عمران الخياط قال: قال لي الخضر عليه السلام: ما كنت أظن أن لله وليًّا إلا وقد عرفته، وكنت بصنعاء اليمن في المسجد، والناس حول عبد الرزاق يسمعون منه الحديث، وشاب جالس في ناحية المجلس، فقال لي: ما شأن هؤلاء؟ فقلت: يسمعون من عبد الرزاق. فقال عمن؟ قلت: فلان عن فلان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: هلا سمعوا عن الله تعالى؟ قلت: فأنت ممن يسمع عن الله تعالى؟ قال: نعم. قلت: فمن أنا؟ قال: أنت الخضر. ¬
فعلمت أن لله أولياء ما عرفتهم (¬1). وروى الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلَّهِ ضَنائِنَ مِنْ خَلْقِهِ، يَغْذُوهُمْ في رَحْمَتِهِ، يُحْيِيهِمْ في عافِيَةٍ، وُيمِيتُهُمْ في عافِيَةٍ، وَإِذا تَوَفَّاهُمْ تَوَفَّاهُمْ إِلَى جَنَتِهِ؛ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ تَمُرُّ عَلَيهِمُ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَهُمْ مِنْها في عافِيَةٍ" (¬2). الضنائن: جمع ضنينة بمعنى: مضنون بها. والمراد: أن من أولياء الله تعالى من يضن الله تعالى بهم، ويغار عليهم أن يطلع عليهم غيره. ويحتمل أن يكون المراد: أنه يضن بهم عن الإهانة والقتل كما في حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعًا: "إِنَّ لِلَّهِ عِباداً يَضِنُّ بِهِمْ عَنِ القَتْلِ، وَيُطِيلُ أَعْمارَهُمْ في حُسْنِ العَمَلِ، ويحَسَّنُ أَرْزاقَهُمْ، وَيُحْيِيهِمْ في عافِيَةٍ، وَيَقْبِضُ أَرْواحَهُمْ في عافِيَةٍ عَلى الفُرُشِ فَيُعْطِيهِمْ مَنازِلَ الشُّهَداء". رواه الطبراني في "الكبير" أيضًا (¬3). ¬
تتمة
وفي حديث ابن عمر دليل على أن الله تعالى يكرم أولياءه، يحفظهم في أيام الفتنة منها كما سيأتي نحو ذلك في الأبرار، بل قد يطفئ الله تعالى ببعض أوليائه الفتنة، ويهين البدعة، كما روى أبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلَّهِ تَعالَى عِنْدَ كُلِّ بِدْعَةٍ كِيدَ بِها الإِسْلامُ وَأَهْلُهُ وَلِيًّا صالِحًا يَذُبُّ عَنْهُ، وَيَتَكَلَّمُ بِعَلاماتِهِ؛ فَاغْتَنِمُوا حُضُورَ تِلْكَ الْمَجالِسِ بِالذَّبِّ عَنِ الضُّعَفاءِ، وَتَوَكَّلُوا عَلى اللهِ؛ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً" (¬1). * تَتِمَّةٌ: روى الإِمام أحمد عن الحسن رحمه الله تعالى -مرسلاً- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه -ورجال إسناده رجال الصحيح - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلَّهِ عز وجل مِئَةَ رَحْمَةٍ، وَإنَّهُ قَسَمَ رَحْمَةً واحِدَة بَينَ أَهْلِ الأَرْضِ فَوَسِعَتْهُمْ إِلَى آجالِهِمْ، وَادَّخَرَ عِنْدَهُ تِسعاً وتسعِينَ لأَوْلِيائِهِ يَومَ القِيامَةِ" (¬2). *** ¬
فصل
فَصْلٌ تقدم أن الصالحين ينبغي للعبد محبتهم وصحبتهم، وزيارتهم والتبرك بهم وبآثارهم، وطلب الدعاء منهم، فكذلك الأولياء لأنهم هم (¬1). وقد قال شاه الكرماني رحمه الله تعالى: ما تعبد متعبد بأكثر من التحبب إلى أولياء الله تعالى بما (¬2) يحبونه. وقال: أيضًا: محبة أولياء الله تعالى دليل على محبة الله. رواه أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته" (¬3). وروى ابن باكويه الشيرازي عن أبي موسى الدئيلي قال: سمعت رجلًا سأل أبا زيد فقال: دلني على عمل أتقرب به إلى ربي. فقال: أَحِبَّ أولياء الله؛ فإن الله ينظر إلى قلوب أوليائه، فلعله أن ¬
ينظر إلى اسمك في قلب وليّه فيغفر لك (¬1). وروى أبو نعيم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْحَى اللهُ إِلَى نبِيٍّ مِنَ الأَنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أَنْ قُلْ لِفُلانٍ العابِدِ: أَمَّا زُهْدُكَ في الدُّنْيا فتَعَجَّلْتَ راحَةَ نفسِكَ، وَأَمَّا انْقِطاعُكَ إِلَيَّ فتَعَزَّزْتَ بِي؛ فَماذا عَمِلْتَ في ما لِيَ عَلَيْكَ؟ فَقالَ: يا رَبِّ! وَماذا لَكَ عَلَيَّ؟ قالَ: هَلْ والَيْتَ لِي وَلِيًّا؟ أَوْ عاديتَ لِي عَدُوًّا؟ " (¬2). وروى الحكيم الترمذي في "نوادره" عن واثلة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَبْعَثُ اللهُ تَعالَى يَومَ القِيامَةِ عَبْدًا لا ذَنْبَ لَهُ، فَيَقُولُ لَهُ: بِأَيِّ الأَمْرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ أَجْزِيَكَ؟ بِعَمَلِكَ أَمْ بِنِعْمَتِي عَلَيْكَ؟ قالَ: يا رَبِّ! أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَعْصِكَ. قالَ: خُذوا عَبْدِي بنعَمَةٍ مِنْ نِعَمِي، فَما تَبْقَى لَهُ حَسَنة إِلاَّ اسْتَغْرَقَتْها تِلْكَ النِّعْمَةُ، فَيَقُولُ: يا رَبِّ! بِنِعْمَتِكَ وَرَحْمَتِكَ. فَيَقُولُ: بِنِعْمَتِي وَرَحْمَتِي. وُيؤْتَى بِعَبْدٍ مُحْسِنٍ في نَفْسِهِ لا يَرَى أَنَّ لَهُ سَيئةً، فَيُقالُ لَهُ: هَلْ كُنْتَ تُوالِي أَوْلِيائِي؟ ¬
فَيَقُولُ: يا رَبِّ! كُنْتُ مِنَ النَّاسِ سِلْمًا. قالَ: هَلْ كُنتَ تُعادِي أَعْدائِي؟ قالَ: يا رَبِّ! لَمْ أكُنْ أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ بَيْني وَبَينَ أَحَدٍ شَيْءٌ. فَيقُولُ اللهُ عزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتي، لا يَنالُ رَحْمَتِي مَنْ لَمْ يُوالِ أَوْلِيائِيَ وَيُعادِ أَعْدائِيَ" (¬1). وروى أبو الحسن بن جهضم عن يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى قال: ولي الله ريحانه في أرضه؛ فإذا شمه المريدون وصارت رائحته إلى قلوبهم، فيشتاقون به إلى ربهم، ومجالستك إياه تلهيك عن الأهل والمال، وتشغلك عن جميع الأشغال (¬2). وقال: من هجر الأقرباء في الله عوضه الله تعالى صحبة الأولياء. وفي معنى كلامه الأول ما قدمناه عن الجد رحمه الله تعالى: [من الوافر] جُلُوسُكَ مَعْ رِجالِ اللهِ يُلْهِي ... عَنِ الدُّنْيا وَعَنْ أَهْل وَشُغْلِ ¬
وروى أبو نعيم عن أبي إسحاق إبراهيم بن داود القصار أنه كان يقول: حسبك من الدنيا شيئان: حرمة وَلي، وصحبة فقير (¬1). وروى أبو عبد الرحمن السلمي عن أبي القاسم الجنيد رحمه الله تعالى قال: من نظر إلى ولي من أولياء الله تعالى، فقبله وكرمه، أكرمه الله على رؤوس الأشهاد (¬2). وعن أبي عثمان النيسابوري رحمه الله تعالى قال: من صحب نفسه صحبه العجب، ومن صحب أولياء الله وفق للوصول إلى الطريق لله (¬3). وعن علي بن سهل الأصبهاني قال: الإنس بالله أن تستوحش من الخلق إلا من أهل ولاية الله تعالى؛ فإن الإنس بأهل ولاية الله هو الإنس بالله (¬4). وذكر سيدي محمَّد بن عراق رحمه الله تعالى في كتابه المسمى بِ: "السفينة العراقية المشحونة بنفائس الآي القرآنية الجارية بالأنفاس النبوية" عن الفقيه الأجل محمَّد بن الحسين البجلي: أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام قال: فقلت: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: وُقُوفُكَ بَيْنَ يَدَيْ وَلِي مِنْ أَوْلِياءِ اللهِ تَعالَى كَحَلْبِ شاةٍ، أَوْ ¬
شَيِّ بَيْضَةٍ خَيْر لَكَ مِنْ أَنْ تَعْبُدَ الله إرْبا إرْبًا (¬1). قال: فقلت: يا سيدي! حيا كان أو ميتًا؟ قال: "حَيًّا كانَ أَوْ مَيْتاً". والمراد بالوقوف بين يديه أن يتواضع له، ويطلب مرضاته، ويرجو بركاته، [وإذا كان ميتاً أن يترحم عليه ويرجو بركاته]، ولا بأس أن تدل غيرك من المسلمين على مقام من تعرفه بالولاية لينتفع المدلول به وباعتقاده. وقد روى ابن أبي الدنيا، ومن طريقه الدينوري عن حماد بن زيد قال: سمعت أيوب رحمه الله يقول: ما أحب الله عبدًا إلا أحب أن [لا] يشعر به (¬2). وأما بغض أولياء الله تعالى والوقيعة فيهم فإنها من الكبائر الفواحش الموجبة للمقت والسخط. روى أبو نعيم عن أبي تراب النخشبي قال: إذا ألفت القلوب الإعراض عن الله صحبتها الوقيعة في الأولياء (¬3). ¬
فائدة لطيفة
وفي الحديث القدسي: "مَنْ عادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بارَزَني بِالْمُحارَبَةِ" (¬1). وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته" عن محمَّد بن حامد الترمذي رحمه الله تعالى قال: الاستهانة بالأولياء من قلة المعرفة بالله (¬2). * فائِدَةٌ لَطِيفَةٌ: روى الإِمام أحمد في "الزهد" عن بلال بن كعب قال: مر أبو حازم رحمه الله تعالى بأبي جعفر المديني وهو مكتئب حزين، فقال له: ما لي أراك مكتئباً حزيناً؟ وإن شئت أخبرتك! [قال: أخبرني ما وراءك! قال: ذكرت ولدك من بعدك] (¬3). قال: نعم. قال: فلا تفعل؛ فإن كانوا لله أولياء فلا تخف عليهم الضيعة، وإن كانوا لله أعداء فلا تبال ما لقوا بعدك (¬4). * لَطِيفَةٌ أخرَى: روى أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن ذي النون ¬
فائدة ثالثة
المصري رحمه الله تعالى قال: إن الله عز وجل لم يمنع الجنة أعداءه بخلًا، ولكنه صان أولياءه الذين أطاعوه أن يجمع بينهم وبين أعدائه الذين عصوه (¬1). * فائِدَةٌ ثالِثةٌ: روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار يسأل علي بن زيد وهو يبكي، فقال: يا أبا الحسن! كم بلغك أن ولي الله يحبس على الصراط؟ قال: كقدر رجل دخل في صلاة مكتوبة أتم ركوعها وسجودها. قال: فهل بلغك أن الصراط يتسع لأولياء الله؟ قال: نعم (¬2). قلت: يحتاج العبد يوم القيامة حين يمر على الصراط إلى النجاة والرفق في النجاة، والرفق يكون بتقريب مسافة المرور عليه، وبتوسعته، وذلك إنما يتم لأولياء الله تعالى المتقين الصالحين. قال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72]. وروى الحاكم -وصححه-[عن] عبد الله بن سلام رضي الله تعالى ¬
عنه قال: إذا كان يوم القيامة يبعث الله الخليقة أمة أمة، ونبيًّا نبيًّا حتى يكون أحمد وأمته آخر الأمم مركزاً، ثم يوضع جسر على جهنم، ثم ينادي مناد: أين أحمد وأمته؟ فيقوم - صلى الله عليه وسلم -، فتتبعه أمته؛ بَرُّها وفاجرُها، فيأخذون الجسر، فيطمس الله أبصار أعدائه، فيتهافتون فيها من شمال ويمين، وينجو النبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحون معه، فتتلقاهم الملائكة تبوئهم منازلهم في الجنة؛ على يمينك، على يسارك، على يمينك، على يسارك، حتى ينتهي إلى ربه، فيلقى له كرسي عن يمين الله، ثم ينادي مناد: أين عيسى وأمته؟ فيقوم - صلى الله عليه وسلم -، فتتبعه أمته؛ برُّها وفاجرها، فيأخذون الجسر، فيطمس الله أبصار أعدائه، فيتهافتون فيها من شمال ويمين، وينجو النبي والصالحون، ثم يتبعهم الناس حتى يكون آخرهم نوح عليه الصلاة والسلام (¬1). وروى الإِمام عبد الله بن المبارك في "الزهد"، وابن أبي الدنيا عن سعيد بن أبي هلال قال: بلغنا أن الصراط يوم القيامة يكون على بعض الناس أدق من الشعر، وعلى بعض مثل الوادي الواسع (¬2). وروى أبو نعيم عن سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: من دق الصراط عليه في الدنيا عرض عليه في الآخرة، ومن عرض عليه الصراط ¬
فائدة رابعة
في الدنيا دق له في الآخرة (¬1). وهذه فائدة عظيمة للتقوى والولاية والصلاح ينبغي أن تضم إلى ما أسلفناه من الفوائد التي تحصل للمتشبه بالصالحين. * فائِدةٌ رابِعَةٌ: روى الإِمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: لله عز وجل مئة رحمة؛ كل رحمة ما بين السماء والأرض، فقسم رحمة منها يتراحم بها الخلائق، وأخر تسعًا وتسعين رحمة إلى يوم القيامة، والله تعالى قابض تلك الرحمة فيكملها لأوليائه مئة رحمة (¬2). وقلت: [من السريع] وِلايَةُ الله لأَهْلِ التُّقَى ... تَسْتَوْعِبُ الرَّحْمَةَ يَومَ الْمآبْ صِراطُهُمْ مُتَّسِع سالِكٌ ... عَلَيْهِ مِثْلَ البَرْقِ كانَ الذَّهابْ وُفُوا مِنَ اللهِ مَواعِيدَهُمْ ... وَقَدْ كُفُوا بِالفَضْلِ سُوءَ الْحِسابْ ¬
مَنازِلَ الرِّضْوانِ قَدْ بُوِّئُوا ... وَتَدْخُلُ الأملاكُ مِنْ كُلِّ بابْ تُقْرِي وَلِيَّ اللهِ تَسْلِيمَهُ ... صَفا لَهُ العَيْشُ وَطابَ الشَّرابْ ***
فصل في أحكام تتعلق بالأولياء - رضي الله عنهم -
فَصْلٌ في أحكام تتعلق بالأولياء - رضي الله عنهم - الإجماع على أن الأولياء لا يبلغون درجات الأنبياء من حيث النبوة (¬1). وقال النصرآبادي، وغيره: نهايات الأولياء بدايات الأنبياء عليهم السلام (¬2). ثم النبي أفضل من الولي باتفاق أهل الحق، وغلط من قال: إن الولاية أفضل من النبوة بعد تسليمه أن النبي أفضل من الولي، والمختار أن الأنبياء عليهم السلام هم خواص الأولياء والصالحين بنص القرآن. ¬
قال الله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]. وقال تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 86]. وقال تعالى: {نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112]. ثم إن الأنبياء عليهم السلام معصومون؛ أي: لا تقع منهم معصية أصلًا، ولا صغيرة في حال النبوة، وما سمي مما وقع منهم خطيئة أو معصية بالنسبة إلى علو مقامهم، وإنما الواقع منهم كان خلاف الأولى بهم، فأطلق عليه المعصية لأن مقامه منزه وحاله شريف، والأولياء رضي الله تعالى عنهم محفوظون؛ أي: لا يصرون على الذنب كما قال الله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]. ولكن المختار أن الولي لا يقع منه الذنب على وجه المخالفة والعناد، ولكن على وجه الزلة والخطأ من غير اقتصاد، ولو شاء الله لعصم أولياءه كما عصم أنبياءه، ولكن أراد أن يظهر مزية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليعرف الأولياء وغيرهم حقوقهم فلا يتعدى أحد طَوره، وأن يكون أولياؤه تحت قهره تجري عليهم أقضيته، وهم مُطرقون بين يدي قدرته، ولتنكسر قلوبهم بالزلة فينخفض جناحهم، ويلين جانبهم بين يديه، فيرفعهم حينئذ ويقربهم، ويخلع عليهم خلع التوبة والقبول، فلا يشمخون ولا يعجبون، ويستكينون إليه، ويذلون بين يديه.
وقد قيل لأبي القاسم الجنيد رحمه الله تعالى: أيزني العارف؟ فأطرق مليًا، ثم قال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]. نقله القشيري في "الرسالة" (¬1). وأنشد في "عيون الأجوبة": [من الطويل] وَما كُنْتُ أَخْشَى أَنْ تَرى لِيَ زَلَّةً ... وَلَكِنْ قَضاءُ اللهِ ما مِنْهُ مَهْرَبُ (¬2) وسئل محمَّد بن موسى -وكان من قدماء العارفين-: ما معنى إجراء الخطيئة على أولياء الله تعالى؟ فقال: أراد أن يحفظ عليهم مواضع فضله بما أجرى عليهم من عدله. وقال الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى في كتاب "جلاء الخاطر": وليس من شرط البدلية والولاية العصمة، ليس بعد الأنبياء معصوم، العصمة من جملة خصائصهم. قال: ويحكى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِذا عَصى وَلِيٌّ مِنْ أَوْلِياءِ اللهِ تَعالَى ضَحِكَتِ الْمَلائِكَةُ، وَقالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا إِلَى وَلِيِّ اللهِ كَيفَ يَعْصِي"، انتهى. ¬
وروى ابن جهضم عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال: طفت ذات ليلة بالبيت الحرام، وكانت ليلة مطيرة شديدة الظلمة، وقد خلا الطواف، فوقفت عند الملتزم أدعو، وقلت: اللهم اعصمني حتى لا أعصيك. فهتف بي هاتف: يا إبراهيم! أنت تسألني أن أعصمك وكل عبادي يسألوني العصمة، فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل، ولمن أغفر؟ (¬1) قال إبراهيم: فبقيت ليلتي إلى الصباح مستغفراً الله، مستحىً منه تبارك وتعالى. وروى الديلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْلا أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُعْجَبُ بِعَمَلِهِ لَعُصِمَ مِنَ الذَّنْبِ حَتَّى لا يَهِمَّ بِهِ، وَلَكِنَّ الذَّنْبَ خَيْر لَهُ مِنَ العُجْبِ" (¬2). ومن فوائد جواز الزلة على الولي أن لا يَأْمَنَ مكر الله، فيكون ملازماً للخوف. وقد قال السَّري السَّقَطي رحمه الله تعالى: لو أن رجلًا دخل بستاناً فيه أشجار كثيرة، على كل شجرة طير يقول بلسان فصيح: السلام عليك يا ولي الله، فلو لم يخف أنه مكر لكان ممكوراً به، كذا نقله القشيري (¬3). ¬
وروى أبو الحسن بن جهضم، وأبو نعيم عنه أنه قال: لو أن رجلًا دخل إلى بستان فيه من جميع ما خلق الله تعالى من الأشجار، عليها من جميع ما خلق الله تعالى من الأطيار، فخاطبه كل طائر منها بلغته، وقال: السلام عليك يا ولي الله، فسكنت نفسه إلى ذلك، كان في يديها أسيرًا (¬1). أي: فلا ينبغي له أن يكون وليا لأن الولي لا يسكن إلى الكرامة خوفًا من أن يكون بها محجوبًا أو مستدرجًا. واختلف المشايخ هل يجوز لولي أن يعلم بولايته؟ فقال الإِمام أبو بكر بن فُورك: لا يجوز؛ لأنه يسلبه الخوف، ويوجب له الأمن. وقال الأستاذ أبو علي الدقاق، والأستاذ أبو القاسم القشيري، وعامة المشايخ: يجوز، وليس ذلك بواجب في جميع الأولياء، فيجوز في حق بعضهم أن يعلم أنه ولي، ويجوز في حق بعضهم أنه لا يعلم ذلك من نفسه، ولا يعلمه منه غيره أيضًا. وإذا علم بعضهم أنه ولي، كانت معرفته تلك كرامة له انفرد بها، وليس كل كرامة لولي يجب أن تكون تلك بعينها لجميع الأولياء، ولو لم يكن للولي كرامة ظاهرة عليه في الدنيا لم يقدح عدمها في كونه ¬
وليًّا بخلاف الأنبياء (¬1). وما قيل: إن علم الولي بولايته أو كرامته يسلبه الخوف، ويوجب له الأمن؛ هذا ليس بمطرد، ولو كان هذا كذلك للزم مثله في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولفاتهم مقام الخوف. وقد قال الله تعالى فيهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أخشى الناس لله وأخوفهم منه, وهذا أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهم؛ صح خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم في الجنة، وما يحكى عنهم في الخوف والرهبة لا يكاد يحصى كثرة. فلا يلزم من علم الولي لولايته أن يسلب الخوف أصلاً وإن أمن الأولياء من تغير العواقب لما يجدون في قلوبهم من الهيبة والتعظيم والإجلال ما يزيد على غيرهم (¬2). وهل يجوز أن يكون الولي وليًّا في الحال ثم يتغير أو لا؟ اختلفوا في ذلك؛ فمن جعل من شرط الولاية حسن الخاتمة يقول: إن ذلك غير جائز، واختاره القشيري، والصدر ينشرح إليه، وإلا ¬
لصدق على من كان مؤمنا ثم ارتد أنه كان وليا ثم صار عدوًا، وإنما العبرة بالخواتيم. ولكن نقول: إن من كان على الخير ثم عاد إلى الكفر أو الفسق أنه كان في صورة الأولياء، وهو في علم الله بخلاف ذلك، ومثاله: بلعام بن باعورا كان قد آتاه الله من آياته وعلمه الاسم الأعظم، وكان مجاب الدعوة، فانسلخ من آيات الله تعالى؛ قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176]؛ أي: بمشيئة الله تعالى، فبلعام لم يكن من أولياء الله تعالى قط، وإنما كان في صورة ولي وهو عند الله شقي. ويجوز أن يقال: كان صالحا ثم تغير لأن الصلاح أمر مشهور، وهو صفة العبد بخلاف الولي؛ فإنه لا يكون وليا إلا إذا تولاه الله، ثم تولى هو طاعته كما سبق، فمن شرط الولي حسن العاقبة بخلاف الصالح، وبذلك يلوح الفرق بين الولي والصالح؛ فإن العبد يمكنه أن يظهر أعمالًا كأعمال الصالحين وقلبه على خلاف قلوبهم، وأمر القلب خفي عنَّا. قال محمَّد بن واسع رحمه الله تعالى: كان لقمان يقول لابنه: يا بني! اتق الله ولا تُرِ الناس أنك تخشى الله ليكرموك [بذلك] وقلبك فاجر. رواه ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد" (¬1). ومن هنا يعلم أنه يجوز للعبد أن يشهد للعبد بالصلاح والعدالة، ¬
وليس له أن يشهد له بالولاية كما ليس له أن يشهد عليه بالنفاق، ويجوز له أن يشهد عليه بالفسق لظهوره وخفاء النفاق. نعم؛ يجوز لمن أعطي مقام الكشف أن يشهد بالولاية لمن كوشف بها فيه، وليس له أن يشهد عليه بالنفاق لأن حسن الظن أوسع من سوء الظن، وإنما كان حذيفة رضي الله تعالى عنه يشهد على المنافقين بما أعلمه به النبي فيه - صلى الله عليه وسلم -. نعم؛ يجوز أن يقال عمن كوشف بالنفاق فيه: هذا يحتمل أنه منافق، أو يخطر لي أنه منافق، وأنا أستغفر الله تعالى، وليخش أن يشهد عليه بشيء من ذلك رأيًا وهوى، وهو يشهد أنه كشف؛ فإن الغلط في ذلك كثير. ومما يتعرف به الرأي والهوى من الكشف أن يلتمس حال قلبه؛ هل يكره المشهود عليه لغرض نفساني، أو لا كأن يشاركه في فضيلة، أو يزيد عليه فيها، ويرى للناس إقبالًا على المشهود عليه بسبب تلك الفضيلة أعظم من إقبالهم عليه، أو يشاركه في فضيلة ثم يراها أنتجت للمشهود عليه مالًا أو حالًا أو جاهًا لم ينتجه لنفسه، أو يشتغل هو بظاهر العبادات ويتعلق بها، ثم لا يرى الولاية والطريق إلا ما هو عليه، فينكر أحوال العارفين بالله؟ قال أبو العباس الطوسي: حدثني بعض مشايخي من الثقاة النبَّل قال: قال لي الخضر عليه السلام: مررت بعابد مجتهد شديد الاجتهاد، فذكرت له شيئًا من كرامات الله تعالى فجحدها، فقلت له: أنا الخضر.
فقال: اتق الله؛ فإني أخاف أن تكون شيطاناً. قال: فشققت الهواء لأريه آية، فجعل يقول: باطل، {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139]، أو كما {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]. فقلت: إن الله لا يريده لذلك. وقلت: لو أعطى الله أحدًا بالجد والاجتهاد -يعني: من غير معونة وتوفيق- لأعطى هذا (¬1). رواه أبو الحسن بن جهضم. فتأمل كيف حجب هذا المسكين رأيه وحسن ظنه برأيه عن التماس بركة الخضر عليه السلام، بل حمله على سوء الظن فيه وجره إلى الحرمان! وكثير من المتعبدين يحجبون عن أسرار أولياء الله تعالى ومكاشفات العارفين لاشتغالهم بالعبادة وتعلقهم بها. قال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: إن الله تعالى يطلع على أهل ¬
قرية أو أهل بلد فيريد أن يقسم لهم من نفسه قسماً فلا يجد في قلوب العلماء ولا في قلوب الزهاد موضعًا لتلك القسمة من نفسه، فيمن عليهم أن يشغلهم بالتعبد عن نفسه. رواه ابن جهضم، ومن طريقه أبو نعيم (¬1). وقوله: فيريد أن يقسم لهم من نفسه؛ أي: من معرفة نفسه، أو من عند نفسه قسمًا من أقسام عطائه كما قال الله تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]. وكما قال الله تعالى: {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 195]. وكذلك تقول: قسمت لك نفسي قسمًا من عطائي؛ أي: على وجه التفضل والابتداء بالعطاء من غير تحمل منك. وقول سهل: فيمن عليهم أن يشغلهم بالتعبد عن نفسه؛ أي: عن طلب معرفته، ومناجاته ومواصلته كما قال أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى: إن الله أطلع على قلوب أوليائه؛ فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة صرفا فشغلهم بالعبادة. رواه أبو نعيم (¬2). ومن كان فاسقا في الحال وهو في علم الله تعالى ولي فهل يجوز لمن أطلعه الله تعالى على عاقبته بطريق الكشف أن يقول: إنه ولي؟ فيه احتمال، والظاهر الجواز، ولكن الأولى أن يقيد ذلك بما ¬
سيحصل حذراً من إيهام من يخبره بذلك، وإيقاعه في الحيرة والتكذيب (¬1). واعلم أن الإيمان بكرامات الأولياء واجب، وأنها حق، والإيمان بها إيمان بقدرة الله تعالى، وهي الخوارق التي تظهر عليهم، ويفرق بينها وبين معجزات الأنبياء عليهم السلام: بأن المعجزة تكون مع التحدي ودعوى النبوة بخلاف الكرامة، وبأن المعجزة يتعين أن يظهرها النبي، والكرامة يخفيها الولي إلا إذا كان في إظهارها فائدة وأمنت الفتنة الإظهار كما روى القشيري، وغيره عن جابر الرحبي رحمه الله تعالى قال: أكثر أهل الرحبة على الإنكار في باب كرامات الأولياء، فركبت السبع يومًا ودخلت الرحبة، وقلت: أين الذين يكذبون أولياء الله؟ قال: فكفوا بعد ذلك عني (¬2). وروى أبو نعيم عن أبي العباس بن مسروق، وأبي محمَّد الحريري، وأبي أحمد المغازلي، وغيرهم قالوا: جاء إبراهيم الآجري يهودي يقتضيه شيئًا من ثمن قصب، فكلمه فقال له: أرني شيئًا أعرف به شرف الإِسلام وفضله على ديني حتى أسلم. قال: فقال له: وتفعل؟ ¬
قال: نعم. فقال له: هات رداءك. قالوا: فأخذه، فجعله في رداء نفسه، ولف رداءه عليه، ورمى به في النار نار أتون الآجر، ودخل في أثره، وأخذ الرداء وخرج به من الباب الآخر، ففتح رداء نفسه وهو صحيح، وأخرج رداء اليهودي حراقاً أسود من جوف رداء نفسه، فأسلم اليهودي (¬1). وبالغ بعضهم في كتم الكرامة حتى أوجبه. قال أبو عمرو الدمشقي -وهو من أجل مشايخ الشام-: فرض الله تعالى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إظهار الآيات والمعجزات، كذلك فرض على الأولياء كتمانها حتى لا يعتني الخلق بها. رواه السلمي (¬2). ويؤخذ من كلامه أن اعتناء الخلق بالكرامة لا ينبغي؛ أما صاحب الكرامة فلئلا يقف عندها فيحجب عن مواهب الله تعالى وعن الوصول إلى رضاه، وأما غيره فلئلا يعتقدوا من ظهرت عليه الكرامة وينتقدوا من لم تظهر عليه، فربما نفوا عن الأولياء كثيرًا بسبب ذلك. وليس معنى وجوب كتمان الكرامة ألا تظهر أصلًا؛ إذ يلزم من ¬
ذلك إبطال الكرامات ونفيها، بل معناه ألا يتعمد الولي إظهارها، وإن ظهرت فلا يسكن إليها. قال القشيري: واعلم أنه ليس للولي مساكنة إلى الكرامة التي تظهر عليه، ولا له ملاحظة، وربما يكون لهم في ظهور جنسها قوة يقين وزيادة بصيرة لتحققهم لأن ذلك فعل الله، فيستدلون بها على صحة ما هم عليه من العقائد في الجملة، فالقول بجواز إظهارها على الأولياء واجب، وعليه جمهور أهل المعرفة (¬1). وذكر عن ابن عطاء قال: سمعت أبا الحسن النوري يقول: كان في نفسي شيء من هذه الكرامات، فأخذت قصبة من الصبيان وقمت بين زورقين، وقلت: وعزتك لئن لم تخرج لي (¬2) سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي. قال: فأخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال، فبلغ ذلك الجنيد، فقال: حكمه أن يخرج له أفعى تلدغه (¬3). وإنما أنكر الجنيد عليه مساكنته إلى الكرامة وتوقفه عندها. وأبو الحسن لم يسأل الله تعالى هذا الأمر الخارق إلا ليزول عنه ما كان في نفسه من التوقف في أمر الكرامة. ¬
ومنع أكثر المعتزلة خوارق الأولياء، وأنكروها، والكتاب والسنة والحس والعقل ترد عليهم. قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله الإسكندري في "لطائف المنن": ويخشى على من هذا مذهبه سوء الخاتمة. وروى أبو عبد الرحمن السلمي عن محمَّد بن حامد الترمذي رحمه الله تعالى قال: إنكار ولايات الأولياء في قلوب الجهال من ضيق صدورهم عند المصادر، وبُعد علومهم عن موارد القدرة (¬1). وذهبت جماعة منهم القشيري، وابن السبكي: أن الخارق -وإن جاز على يد الولي- لا ينتهي إلى [ولد دون] والد وقَلْبِ جمادٍ بهيمةً، ونحو ذلك (¬2). وهذا القول أنكره الجمهور على قائله. وقال النووي في "شرح مسلم": إنه غلط منهم، وإنكار للحس (¬3). ¬
وكان أبو عبد الله الأصبهاني شارح "المحصول" ممن يعتقد كرامات الأولياء، فقال له بعض طلبته: يا سيدي! أيصح أن في هذه الأمة من يمشي على الماء ويطير في الهواء؟ فقال: يا بني! هذه الأمة كرمها الله بنبيها - صلى الله عليه وسلم - فانفِ عن أوليائها مقام النبوة والرسالة، وأثبت ما شئت من الخوارق. نقله ابن السبكي (¬1). وقد بسطنا القول في هذه المسألة في كتاب "منبر التوحيد". واعلم أن الكرامة على قسمين: الأول: كرامة بمعنى خرق العادة كالمشي على الماء، وفي الهواء، وطي الزمان والمكان، والتصرف في الكون بنفوذ الأمر والنهي. وعن الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى أنه قال: بسم الله من العارف بمنزلة: كن من الله. وقال الأعمش: قال أبو وائل رحمه الله تعالى: يا سليمان! نعم الرب ربنا؛ لو أطعناه ما عصانا (¬2). ¬
وقال أبو الربيع السائح: أطع الله يطعك (¬1). رواهما أبو نعيم. وفي ذلك إشارة إلى أن من شرط هذا القسم من الكرامة طاعة الله تعالى، فلو ظهر الخارق على يد فاسق لم تكن كرامة، بل هو استدراج أو سحر أو شعوذة، وبهذا يفرق بين هذه الثلاثة وبين الكرامة. قال أبو يزيد البسطامي رضي الله تعالى عنه: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود وأداء الشريعة. رواه القشيري، وأبو نعيم (¬2). ثم هذه الكرامات قد يجدها أهل البداية في بداياتهم، ويفقدها أهل النهاية في نهاياتهم؛ فإن أصل ظهور الخارق على يد الولي إنما هو لتقوية يقينه وزيادة بصيرته، فيعلم الولي أن ما هو عليه من العقائد والوظائف صحيح مرضي، فيلازم عليه؛ فإن كان الولي في النهايات رسخ يقينه فلا يحتاج إلى مثبت لأن المركب العظيم لا يحتاج إلى مرساة. وروى القشيري عن ابن سالم قال: كان رجل يقال له: عبد الرحمن ابن أحمد يصحبه سهل بن عبيد الله، فقال له يومًا: ربما أتوضأ للصلاة فيسيل الماء من يدي قضبان ذهب وفضة. ¬
فقال سهل: أما علمت أن الصبيان إذا بكوا يعطون خشخاشة ليشغلوا بها (¬1)؟ وإنما جاز ظهور الخارق على الأولياء -وإن كان بعضه زائدًا في المعنى على معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- لكون كرامة الولي معجزة لنبيه؛ لأن الكرامة إذا ظهرت على التابع كانت دليلاً على صدق المتبوع وصحة طريقه. وقد صرح القشيري، وغيره أن ذلك من جملة المعجزات لنبي ذلك الولي مع أن النبي لا يتحدى بها فيصدق بأنها معجزة بلا تحد، فيرد ذلك على اشتراطهم اقتران المعجزة بالتحدي. وقد يقال: إن مما جاء به الأنبياء عليهم السلام الإيمان بكرامات الأولياء، وأن الأولياء من كل أمة هم أخيار أتباع نبيها، فيعرف بذلك أن كل نبي فهو متحد بظهور الكرامة على أولياء أمته. ومما تتبعته من قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسير السلف الصالحين من العلماء والأولياء من أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أننا لم نر معجزة لنبي تقدم قبل زمان نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلا نرى مثلها أو قريبًا منها اتفق في كرامات أولياء هذه الأمة المحمدية. وأرجو من كرم الله تعالى أن يوفقني لتأليف كتاب لطيف في تفاصيل ذلك. ¬
واعلم أن من الأمور الخارقة ما يجري علي يدي من لم يكن تبلغ رتبته الولاية؛ إما لبلوغ أجله، وإما رحمة لضعفه، وإما لتوسله بذي كرامة كرامةً لذلك المتوسل به، وإما لاضطراره كخلاص حيوان منا جوع أو عطش، أو خطو هلاك أو منقطع في سفر يرزقه الله طعامًا، أو يسقيه عند خطر زهوق روحه ماء، أو يخلصه من عدو أو يشفيه من مرض. فهذا وأمثاله لا يكون من باب الكرامة, والفرق بين الكرامة وبينه دقيق. وفرق بينهما القشيري بأن الكرامة ما كان تخصيصًا من الله لعبد بنوع من أفضاله، وإفراداً له من بين أضرابه وإشكاله مما يدل على علو قدره وشرف حاله. وعندي أن الفرق بينهما أن الكرامة خارق يظهر على من تمرن على أعمال البر واستقام على الخير كما قال الله تعالى في الحديت القدسي: "مَنْ عادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتهُ بِالحَربِ، وَما تَقَربَ إِلَيَّ عَبدِي بِشيء أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتهُ عَلَيْهِ، وَما يَزال عَبدي يتقرب إِليَّ بِالنوفل حَتَّى أحِبَهُ، فَإِذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسمَعُ بِهِ، وَبصَرهُ الذي يبصر بهِ، وَيَدَه الَتِي يَبْطِشُ بِها، وَرِجْلَهُ التِي يَمشِي بِها, وإن سَأَلنِي لأعطِيَنهُ, وإن استعاذَ بِي لأُعِيذَنَّهُ، وَما تَرَددْتُ في (¬1) شيَءٍ أَنا فاعِلُهُ ترددي عن قَبْض نفسِ ¬
الْمُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنا أكرَهُ مَساءَتَهُ". رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). وأخرجه الإِمام أحمد، والحكيم الترمذي، وأبو يعلى، والطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الطب"، والبيهقي في "الزهد"، وابن عساكر من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قالَ اللهُ عز وجل: مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدِ اسْتَحَل مُحارَبَتِي، وَما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَداءِ الفَرائِضِ، وَما يَزالُ العَبْدُ يتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ عَيْنَهُ الَّتِي يُبْصِرُ بِها، وَأُذنهُ الَّتِي يَسْمَعُ بِها، وَيدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِها، وَرِجْلَهُ التِي يَمْشِي بِها، وَفُؤادهُ الذِي يَعْقِلُ بِهِ، وَلِسانَهُ الَّذِي يتكلَّمُ بِهِ، إِنْ دَعانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَما تَرَددتُ عَنْ شَيْءٍ أَنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِيَ عَنْ وَفاتِهِ" (¬2). فهذا الحديث أعظم دليل على أن الله يكرم أولياءه بخوارق العادات، فهو أثبت دليل على إثبات الكرامة، ويدل على أن الكرامة لمن تمرن على أعمال الخير، بل فيه بيان معنى الكرامة، وأن حقيقتها أن يتعرف الولي بربه عز وجل. ¬
ولقد قلت: [من الكامل] إِنَّ الوَليَّ بِرَبِّهِ يَتَعَرَّفُ ... وَالكَوْنُ طَوعُ يَدَيهِ لا يَتَخَلَّفُ لَكِنَّهُ فانٍ وَيبْقَى رَبُّه ... يُجْرِي عَلَيهِ مَواهِباً لا تُوْصَفُ وإذا درَى الرَّحْمَنَ مالِكَ أَمْرِهِ ... لَمْ يَبْقَ مِنْهُ تَعَمُّلٌ وَتَكَلُّفُ فَاللهُ أَوْلَى مِنْهُ في أَحْوالِه ... بِأُمُورر وَبِهِ تَعالَى يَلْطُف عِرْفانُهُ مِنْ عَرْفهِ يَبْدُ وَمَنْ ... عَرَفَ الْمَعارِفَ بِالْمَكارِمِ يُعْرَفُ لِوِلايَةِ الله الكَرِيْمِ سُمُوُّهُ ... وَبِهِ عَلى كُلِّ الفَضائِلِ يَشْرُفُ وَيصُونُ مَولاهُ اهْتَدى لِتَقَرُّبٍ ... لا يَنْثَنِي عَنْهُ وَلا يَسْتَنْكِفُ فَأَحَبَّهُ الْمَوْلَى وَكانَ فُؤادهُ ... وَلِسانهُ فِيهِ يَقُولُ وُيعْرَفُ
وَبِهِ مَشى وَبِهِ تَصَرَّفَ باطِشًا ... أَوْ سامِعًا أَوْ ناظراً يَسْتَشْرِفُ مَنْ لِي بِمَنْ قامَ الإِلَهُ مَقامَهُ ... ما مِنْ مَكانتِهِ أَعَزُّ وَأَشْرَفُ والقسم الثاني: كرامة بمعنى حصول الاستقامة ودوام التوفيق إلى الطاعة. قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. روى الترمذي، وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم فتح مكة، فقال: "يا أيها الناسُ! إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبيَّةَ الْجاهِلِيةِ وَتَعاظُمَها بِآبائِها، فَالناسُ رَجُلانِ؛ بَرّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلى اللهِ، وَفاجِرٌ شَقِي هَيِّنٌ على الله، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ تُرابٍ" (¬1). قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم -وصححاه- عن سمرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْحَسَبُ الْمالُ، ¬
وَالكَرَمُ التَّقْوى" (¬1). فحقيقة الكرامة أن يكرم الله العبد بالتوفيق إلى تقواه، ثم إلى الاستقامة على طاعته. قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 112، 113]. قال القاضي ناصر الدين: والاستقامة شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل بحيث يبقى العقل مصونًا عن الطرفين، والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوِّت للحقوق ونحوهما. قال: وهي في غاية العسر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ" (¬2)، انتهى (¬3). قال الأستاذ أبو القاسم القشرِي: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا علي الشبوي رحمه الله تعالى يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت له: روي عنك أنك قلت: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ"؛ ¬
فما الذي شيبك من قصص الأنبياء عليهم السلام وهلاك الأمم؟ فقال: لا, ولكن قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] (¬1). وروى ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الحسن رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال: لما نزلت هذه الآية: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: 112] قال - صلى الله عليه وسلم -: "شَمِّرُوا"، وما رؤي ضاحكًا (¬2). وروى الإِمام أحمد، وابن ماجه -بإسناد صحيح- والحاكم -وصححه- والبيهقي في "سننه" عن ثوبان رضي الله تعالى عنهما، والطبراني في "الكبير" عنه، وعن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمالِكُمُ الصَّلاة، وَلَنْ يُحافِظَ عَلى الوُضُوءِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ" (¬3). وروى ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، والطبراني في "الكبير" عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَقِيمُوا وَنعِمَّا إِنِ اسْتَقَمْتُمْ، وَخَيْرُ أَعْمالِكُمُ الصَّلاةُ، وَلَنْ يُحافِظَ عَلى ¬
الوُضُوءِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن ربيعة الجرشي رضي الله تعالى عنه -واختلف في صحبته- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسْتَقِيمُوا وَنعِمَّا إِنِ اسْتَقَمْتُمْ، وَحافِظُوا عَلى الوُضُوءِ؛ فَإِنَّ خَيرَ أَعْمالِكُمُ الصَّلاة، وَتَحَفَّظُوا مِنَ الأَرْضِ؛ فَإِنَّها أُمُّكُمْ، وإنَّهُ لَيسَ أَحَدٌ عامِلاً عَليها خَيراً أَوْ شَرًّا إِلاَّ وَهِيَ مُخْبَرَةٌ" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَنعِمَّا إِنِ اسْتَقَمْتُمْ"؛ فيه إشارة إلى شرف مقام الاستقامة وعزته، وعزة من يقوم به كما قال في الحديث السابق: "اسْتَقِيموا وَلَن تُحْصُوا"؛ أي: لن تطيقوا الإحصاء والاستقصاء في الاستقامة، بل استقيموا بقدر الطاقة. وقوله: "وَنعِمَّا"؛ أي: نعم القوم أنتم "إِنِ اسْتَقَمْتُمْ"؛ فأهل الاستقامة هم خيار عباد الله. وقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] فيه دليل على أن العبد لو ابتدع طريقًا في العبادة ثم استقام عليه، فليس شيء حتى تكون العبادة والاستقامة عليها موافقة لما أمر الله تعالى به، وهو كذلك، وما سواه طغيان، ولذلك قال: {وَلَا تَطْغَوْا} [هود: 112]؛ أي: ¬
بأن تكون استقامتكم على خلاف ما أمرتم، وهو موافق لبطر النعمة والظلم المفسر بهما الطغيان في الآية: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] بأن تودوهم، أو توالوهم، أو تطيعوهم ليكونوا أولياءكم وأنصاركم، فتنعكس آمالكم فيهم؛ {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود: 113] لا هم ولا غيرهم، {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113] آخرًا، بخلاف ما لو أعرضتم عنهم وعن الاعتماد على غير الله تعالى، واكتفيتم به، وأقبلتم على طاعته، واستقمتم كما أمرتم؛ فإن الله يتولاكم، ويأمر الملائكة بتوليكم كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت: 30، 31]. فأهل الاستقامة يتولاهم الله، ويولي الملائكة توليهم بالحفظ والمعونة والإلمام بالخير، وفي الآخرة بالسلام، وبالبشارة والمودة، والهيبة وغير ذلك. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]؛ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: على شهادة لا إله إلا الله. رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" (¬1). وروى الترمذي، والنسائي، وآخرون عن ابن عباس رضي الله ¬
تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] قال: "قَدْ قالَها النَّاسُ ثُمَّ كَفَرَ أكثَرُهُمْ؛ فَمَنْ ماتَ عَلَيْها فَهُوَ مِمَّنِ اسْتَقامَ" (¬1). وفي رواية: "فَمَنْ قالَها حَتَّى يَمُوتَ فَهُوَ مِمَّنِ اسْتَقامَ عَلَيها" (¬2). وهذه الرواية تدل على أن الاستقامة الاستقرار على كلمة التوحيد إلى الممات. والأول يدل على أن الاستقامة القيام بها عند الموت، ويدل عليه حديث معاذ رضي الله تعالى عنه: "مَنْ كانَ آخِرَ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ" (¬3). لكن لا يخفى أن هذه الاستقامة -وإن كانت كرامة عظيمة في نفسها- فليست كتلك الاستقامة. وروى السهروردي في "عوارفه" عن عبد الرحمن بن زيد: أن عيسى ابن مريم عليهما السلام قال: ربّ! أنبئني عن هذه الأمة المرحومة. قال: أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - هم علماء أخفياء، حكماء كأنهم أنبياء، يرضون مني بالقليل من العطاء، فأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة ¬
بلا إله إلا الله. يا عيسى! هم أكثر سكان الجنة لأنها لم تَذِلَّ ألسن قوم قط بلا إله إلا الله كما ذَلت ألسنتهم، ولم تَذِلَ رقاب قوم قط بالسجود كما ذَلَّت رقابهم. وهذه صفة أهل الخصوص من هذه الأمة، وأما عوامهم ففي ظلهم، ولذلك كانت أمة مرحومة؛ يرحم الله مسيئهم بمحسنهم، فأهل الخصوص هم المستقيمون على كلمة التوحيد وإقامة الصلاة، وسائر الأعمال متابعة لهذين العملين الكريمين لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. ويقول: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] (¬1). وقال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]: الاستقامة أن لا تشركوا بالله شيئًا (¬2). وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في الآية: استقاموا بطاعته. رواه الإِمام عبد الله بن المبارك، وسعيد بن منصور، وعبد بن ¬
حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر (¬1). ويدخل في كلامهما الاستقامة على الإخلاص، والتنزه عن الرياء، ولا يتم مقام الاستقامة عليه إلا بذلك. وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى: أنه سئل عن هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]، فقال: استقاموا عليه فعلًا كما أقروا به قولًا. قال يحيى: كونوا عباد الله بأفعالكم كما زعمتم أنكم عبيد الله بأقوالكم (¬2). وهذا التفسير في غاية الحسن. وعلى وزان الآية ما رواه الإِمام أحمد، والدارمي، والبخاري في "تاريخه"، ومسلم، والترمذي -وصححه- والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان عن سفيان الثقفي رحمه الله تعالى قال: إن رجلًا قال: يا رسول الله! مرني بأمر في الإِسلام لا أسأل عنه أحدًا بعدك. قال: "قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ". قلت: فما أتقي؟ فأومأ إلى لسانه. ¬
ولفظ الترمذي: قلت: يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به. قال: "قُلْ: ربي اللهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ". قال: قلت: يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه، وقال: "هَذا" (¬1). في هذه الإشارة إلى اللسان: أن أهم شيء يستقيم فيه العبد حفظ لسانه على أن يقول الخير، أو يصمت. وقد روى الترمذي، وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِن الأَعْضاءَ تكفرُ اللسانَ؛ فتقولُ: اتَّقِ الله فِينا؛ فَإنَّا نحنُ بِكَ، فَإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا". وأشار الترمذي إلى تصحيحه موقوفًا على أبي سعيد (¬2). ومن هنا سئل بعض العارفين عن الكرامة، فقال: هي حصول الاستقامة. وقال القشيري: واعلم أن الاستقامة توجب إمامة الكرامة. قال الله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]. قال: لم يقل: سقيناهم، بل قال: أسقيناهم؛ يقال: أسقيته؛ أي: ¬
جعلت له سقياً، فهو يشير إلى الدوام، انتهى. وقال أبو علي الجوزجاني: بن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة؛ فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالبك بالاستقامة (¬1). قال الشيخ شهاب الدين السهروردي في "العوارف" بعد أن حكى كلام الجوزجاني: وهذا الذي ذكرته أصل كبير في الباب، وسر غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلب، وذلك أن المجتهدين، والمتعبدين يسمعون بسير الصالحين والمتقدمين، وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات، فأبداً نفوسُهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئًا من ذلك، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهمًا لنفسه في صحة عمله حيث لم يكاشف بشيء من ذلك، ولو علموا سر ذلك لهان عليهم الأمر فيه. فليعلم أن الله سبحانه قد يفتح على بعض المجتهدين الصادقين من ذلك بابًا والحكمة فيه أن (¬2) يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة يقينا، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج من دواعي الهوى. وقد يكون بعض عباده يكاشف بصرف اليقين، ويرفع عن قلبه الحجاب، ومن كوشف بصرف اليقين أغنى بذلك عن رؤية خوارق ¬
العادات لأن المراد منها كان حصول اليقين، وقد حصل اليقين، فلو كوشف المرزوق صرف اليقين بشيء من ذلك لازداد يقينًا، فلا تقتضى الحكمة كشف القدرة بخوارق العادات لهذا الموضع استغناء به، وتقتضى الحكمة كشف ذلك للآخر لموضع حاجته؛ فكان هذا الثاني يكون أتم استعدادًا وأهلية من الأول حيث أغنى عن رؤية شيء من ذلك، فسئل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة، ثم إذا وقع في طريقه شيء من ذلك جاز وحسن، وإن لم يقع فما يبالي ولا ينقص بذلك، وإنما ينقص بالإخلال بواجب من الاستقامة. قلت: وهذا الذي ذكره السهروردي هو أحد الأسباب في قلة ظهور الخوارق على الصحابة وأهل الصدر الأول، وأخذها من قرب عهدهم بالوحي ومشاهدة المعجزات، فاستغنوا بذلك عن كثرة ظهور الخوارق فيهم. وأما السبب في قلة الخوارق الآن في هذه الأعصار المتأخرة فاختفاء أولياء الله تعالى لظلمة الوقت، وكثرة المكذبين والمؤولين لما يشاهدونه من الأولياء في الأسرار والخوارق، والمنكرين، وقلة الطالبين للخير وأهله، ولو حصل طالب صادق لوجد؛ فإن وجدان الأدب من شرط صحة الطلب؛ فافهم! وفي المعنى قول ابن حبيب الصفدي رحمه الله تعالى: [من البسيط] وَكُلُّ وَقْتٍ لَهُ أَهْلٌ يَلِيقُ بِهِ ... وَبَعْدَهُ مِنْهُ شَرٌّ بِالنُّصوصاتِ
يَكْفِي زَمانٌ يُرى ما لَمْ يَأْتِ فِيهِ نبِيْ ... وَالأَوْلِياءُ اخْتَفَوْا وَعْظًا لِيَقَظَاتِ قال الشيخ أبو العباس بن عطاء الله الإسكندري رحمه الله تعالى: سئل بعض العارفين عن أولياء العدد ينقصون في زمن، فقال: لو نقص منهم واحد ما أرسلت السماء قطرها, ولا أبرزت الأرض نباتها، وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم ولا بنقص أمدادهم، ولكن إذا فسد الوقت كان مراد الله سبحانه وقوع اختفائهم مع وجود بقائهم، فإن كان أهل الزمان معرضين عن الله، مؤثرين لما سوى الله، لا تنجع فيهم الموعظة، ولا تميلهم إلى الله التذكرة، لم يكن أهلاً لظهور الأولياء فيه. وذكر القشيري عن سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: أكبر الكرامات أن تبدل خُلُقًا مذموماً من أخلاق نفسك بخُلُق محمود (¬1). قلت: والحكمة فيه أن حقيقة الكرامة خرق العادة، وإذا كان خُلق العبد سيئاً فبدله الله حسنًا، فقد خرق له هذه العادة لأن الانتقال عن الطبع لا قدرة للعبد عليه إلا أن ينقله الله تعالى عنه، فإذا تيسر للعبد أن ينتقل من خلق سيئ إلى خلق حسن فقد أكرمه بأعظم الكرامات. وفي معنى كلام سهل ما رواه ابن عساكر عن الأصمعي قال: قال لنا يونس: كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى محمَّد بن كعب ¬
القرظي رحمه الله تعالى، فكتب إليه: إن ابن آدم مطبوع على أخلاق شتى؛ كَيْسٌ وحمق، وجراءة وجبن، وحلم وجهل؛ فداو بعض ما فيك ببعض، وإذا صحبت فاصحب من كان ذا نية في الخير يعينك على نفسك، ويكفيك مؤونة الناس، ولا تصحب من الناس من خطرك عنده على قدر حاجتك إليك، فإذا انقطعت انقطعت أسباب مودتك من قلبه، وإذا غرست غرساً من المعروف فلا يضيق ذرعك أن تربيه (¬1). وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته" عن محمَّد بن عليان النسوي قال: آيات الأولياء وكرامتهم رضاهُم بما يسخط العوام عن مجاري المقدور (¬2). قلت: وإنما رجع ابن عليان معنى الآيات والكرامات إلى الرضا؛ لأن الحكمة في الكرامة زيادة الإيمان وتقوى اليقين، فإذا رضي العبد بمجاري أقدار الله تعالى فقد تحقق بالإيمان المطلوب بالكرامة. وقد روى الإِمام أحمد، ومسلم، والترمذي عن العباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاقَ طَعْمَ الإِيْمانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينا، وَبِمُحَمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رَسُولًا" (¬3). ¬
تنبيه
* تَنبِيهٌ: قد تكون الكرامة مما يحسبه الجاهل عقوبة كالمصائب، وقلة ذات اليد، وقلة الأولاد، وقلة العشيرة، فيكرم الله العبد بذلك تمحيصًا لذنوبه، وزيادة في كرامته، وصيانة له عن الفتنة. ألا ترى أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 14، 15]. وروى أبو نعيم عن أبي سنان ضرار بن مرة رحمه الله تعالى قال: يقول الله عز وجل: يا دنيا! مري على المؤمن ليصبر عليك فيجزى، ولا تحلولي له فتفتنيه (¬1). وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَقُولُ اللهُ عز وجل لِلدنْيا: يا دنيا! مرِّي على أَوْلِيائِي، وَلا تَحْلَوِلي فَتْفَتِنِيهِمْ" (¬2). وروى الطبراني، والبيهقي في "الشعب"، والأصبهاني في "الترغيب"، والديلمي عن قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
"نزَلَ اللهُ تَعالَى عَلَيَّ جِبْرِيلَ في أَحْسَنِ ما كانَ يَأتِيني صُورةً، فَقالَ: إِنَّ الله يُقْرِئُكَ السَّلامَ يا محمدُ، وَيقُولُ لَكَ: إِني أَوْحَيْتُ إِلَى الدُّنْيا أَنْ تَمَرَّرِي وَتَكَدَّرِي، وَتَضَيقِي وَتَشَدَّدِي على أَوْلِيائِي حَتَّى يُحِبوا لِقائِيَ، وَتَحَبَّبِي وَتَسَهَّلِي، وَتَوَسَعِي وَتَصَفَّيْ لأَعْدائِي كَيْ يَكْرَهُوا لِقائِيَ؛ فَإِنِّي خَلَقْتُها سِجْنًا لأَوْلِيائِي، وَجَنَّةً لأَعْدائِي" (¬1). ولفظ الديلمي: "أَوْحَى اللهُ إِلَى جِبْريلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَتانِي بِأَحْسَنِ ما كانَ يَأتِيني صُورَةً، فَقالَ: السَّلامُ يُقْرِئُكَ السَّلامَ، وَيقولُ لَكَ: إِنيِّ أَوْحَيْتُ إِلَى الدُّنْيا أَنْ تَمَرَّري وَتَضَيقِي، وَتَنَكَّرِي على أَوْلِيائِي حَتَّى يُحِبُّوا لِقائِيَ، وَتَبَحْبَحِي وَتَوَسَّعِي، وَتَسَهَّلِي وَتَزَيَّني عَلى أَعْدائِي حَتَّى يَكْرَهُوا لِقائِي؛ فَإِنِّي جَعَلْتُها سِجْناً لأَوْلِيائِي، وَجَنَّةً لأَعْدائِي" (¬2). وقلت: [من السريع] أَوْحَى إِلَى الدُّنْيا الإِلَهُ الْحَكِيمُ ... وَهْوَ بِحالِ العَبْدِ أَوْلَى عَلِيمْ تَمَرَّرِي عَلى وَلِيِّيْ وَلا ... تَبْقَيْ عَلى حالٍ لَهُ مُسْتَقِيمْ ¬
وَأَزْعِجِيهِ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى ... رَوْمِ لِقائِي في جَنَّاتِ النَّعِيمْ ضِيْقِي بِهِ تَكَدَّرِي وَانْكَدِرِي ... يَصْبِرْ فَيُجْزَى بِالثَّوابِ الْمُقِيمْ قَدْ يَكْرَهُ الإِنْسانُ حالًا وَفِي ... ذَلِكَ رِضوانٌ وَأَجْرٌ جَسِيمْ تَبارَكَ اللهُ وَأَوْحَى إِلَى الدُّ ... نْيا وَأَمْنُ الْمَكْرِ ذَنْبٌ عَظِيمْ تَبَحْبَحِي تَحَبَّبِي وَاسْهُلِي ... عَلى عَدُوِّي يَنْبَسِطْ أَوْ يَهِيمْ يَكْرَهُ إِذْ ذاكَ لِقائِي وَلا ... يَطْلُبُ مَرْضاتِي وَلا يَسْتَقِيمْ أَبْعَدْتُهُ بِالْمَكْرِ عَنِّي كَما ... قَرَّبْتُ بِاللُّطْفِ الوَليَّ الكَرِيمْ الْمُلْكُ لِي وَالأَمْرُ لِي دائِماً ... أَفْعَلُ ما شِئْتُ وإنِّي حَكِيمْ سُبْحانَ مَنْ قَدَّرَ ما شاءَهُ ... ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمْ
تنبيه
روى أبو الفرج بن الجوزي في "صفة الصفوة" عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى قال: ما طلبت شيئًا من الدنيا قط فولى لي؛ حتى لقد ركبت مرة حمارًا فلم يمش، فنزلت عنه، وركبه غيري فعدا. قال: فرأيت في منامي كأن قائلًا يقول لي: لا يحزنك ما زوي عنك من الدنيا، وإنما يفعل ذلك بأوليائه وأحبائه وأهل طاعته. قال: فسري عني (¬1). قلت: ما تشهيت قط شهوة من شهوات الدنيا، ثم طلبتها إلا تعسرت علي، أو حصلت وتنغَّصتُ فيها بمنغص ما، وأنا أحمد الله على ذلك، وهذا أمر تكرر لي من أكثر من خمس وعشرين سنة، وإلى الآن. * تَنبِيهٌ: من معارف الولاية تمني الموت شوقًا إلى لقاء الله تعالى، لا فراراً من ضرر دنيوي يمسه. ومن ثم كذب الله تعالى اليهود في دعواهم ولايته بما امتحنهم من الأمر بتمني الموت؛ قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6، 7]. قال أبو عبيد الله القرطبي في تفسير الآية: لما ادعت اليهود الفضيلة، وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] قال الله تعالى: {إِنْ زَعَمْتُمْ ¬
أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} [الجمعة: 6]؛ فللأولياء عند الله الكرامة، {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [الجمعة: 6] لتصيروا إلى ما يصير إليه أولياء الله، {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: أسلفوه من تكذيب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فلو تمنوه لماتوا، فكان في ذلك بطلان قولهم وما ادعوه من الولاية، انتهى (¬1). ولما تحقق يوسف عليه السلام بولاية الله تعالى له تمنى الموت شوقاً إلى لقاء الله تعالى. قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الآية: اشتاق إلى لقاء الله، وأحب أن يلحق به وبآبائه، فدعا الله أن يتوفاه وأن يلحقه بهم. قال ابن عباس: ولم يسأل نبي قط الموت غير يوسف عليه السلام. قال ابن جريج: وأنا أقول: في بعض القرآن -أي: في بعض الكتب-: من الأنبياء من قال: توفني. رواه ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن ابن جريج عن ابن عباس (¬2). ¬
قال القشيري: سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: من علامات الشوق تمني الموت على بساط العوافي كيوسف عليه السلام لما ألقي في الجب لم يقل: توفني، ولما دخل السجن لم يقل: توفني، ولما دخل عليه أبوه وخر الإخوة له سجدًا، وتم له الملك والنعم، قال: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. قال: وفي معناه أنشد بعضهم: [من الخفيف] نَحْنُ في أكمَلِ السُّرورِ وَلَكِنْ ... لَيسَ إِلاَّ بِكُمْ يَتِمُّ السُّرورُ عَيبُ ما نَحْنُ فِيهِ يا أَهْلَ وِدِّي ... أَنَّكمْ غُيَّبٌ وَنَحْنُ حُضورُ (¬1) قال: وفي معناه أنشدوا: [من مجزوء الكامل المرفل] مَنْ سَرَّهُ العِيدُ الْجَدِيـ ... ـدُ فَقَدْ عَدِمْت بِهِ السّرورا (¬2) كانَ السُّرورُ يَتِمُّ لِي ... لَوْ كانَ أَحْبابِي حُضُورا (¬3) (¬4) ¬
قلت: وصبَرَ يوسف عليه السلام على البلاء ولم يتمنَّ فيه الموت، إنما تمناه حين توفرت له النعم موافق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الموتَ لضُرٍّ نزلَ بِهِ، فَإِنْ كانَ لا بُدَّ فَلْيقُلْ: اللهُمَّ أَحْيِني ما كانَتِ الحَياةُ خَيرًا لِي، وَأَمِتْنِي إِذا كانَ الْمَوْتُ خَيراً لِي". رواه الشيخان من حديث أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). وفي هذا الحديث، وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ؛ إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ يَزْدادُ، وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ". رواه البخاري وغيرَه (¬2)؛ إرشادٌ إلى ما هو الأولى والأفضل، وهو ترك تمني الموت، وكلة الأمر فيه إلى الله تعالى، واختيار ما اختار الله تعالى. ولقد رد الله تعالى يوسف عليه السلام إلى مراده؛ فروى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أبي الأخنس (¬3) قال: لما قال يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} إلى قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] شكر الله تعالى له ذلك، فزاد في عمره ¬
ثمانين عامًا (¬1). ثم تمني الموت إن كان شوقا إلى الله تعالى وإلى ما عنده، فهو حسن، وأولى منه ترك الاختيار. وإن كان لضر مسه، أو يخاف أن يمسه فهو مكروه، وإن كان خوفا من الفتنة في الدين فهو أحسن أيضًا. وأما كراهية الموت فهو في طبع كل إنسان، وأما المكروه المذموم كراهية لقاء الله؛ لأنها تدل على الوحشة بينه وبين الله تعالى بالمعصية واليأس من رحمته. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَرِهَ لِقاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقاءَه" (¬2). وهذا هو الذي كان سببًا في امتناع اليهود من الموت. وإن كان الموت لازما لكل إنسان لم يبق للمؤمن إلا الرضا به -وإن كان قد أوحش ما بينه وبين الله تعالى بالمعصية- ثم يتمسك بالانكسار والافتقار، وحسن الظن بالكريم الغفار. وأما الكافر والمنافق فلا ينفعه الرضا إلا لو آمن، وإذا آمن فقد أفلح، وإلا هلك قطعًا. ومن ثم قال الله تعالى لليهود حين علم أنهم لا يتمنون الموت وأخبر ¬
به؛ قال: {إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8]. قال قتادة وقد تلا هذه الآية: إن الله أذل ابن آدم بالموت. قال معمر عن قتادة: لا أعلمه إلا رفعه. رواه عبد الرزاق (¬1). وإذلال ابن آدم بالموت مختلف؛ فإن كان مؤمنا فإذلاله في الدنيا بالنسبة إلى ما يراه منها, لا بالنسبة إلى حاله في البرزخ، وفيما عند الله تعالى؛ فإنه إعزاز وراحة. روى الإِمام عبد الله بن المبارك، والطبراني في "الكبير"، والحاكم في "المستدرك"، وأبو نعيم، والبيهقي في "الشعب" عن عبد الله بن عمرو، وله عن جابر رضي الله تعالى عنهم قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ المْوْتُ" (¬2). وروى الديلمي عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَوْتُ رَيْحانُ المؤْمِنِ" (¬3). وفي كتاب الله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ ¬
نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 83 - 94]. قال الربيع بن خُثيم رحمه الله تعالى في قوله: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 88، 89] قال: هذا عند الموت، تخبأ له الجنة يوم البعث. {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} [الواقعة: 92، 93] قال: هذا عند الموت. {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 94]؛ قال: تخبأ له الجحيم إلى يوم يبعث. رواه ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد"، وعبد بن حميد، وابن المنذر (¬1). وفي "موطأ الإِمام مالك"، و "مسند الإِمام أحمد", و"صحيحي البخاري ومسلم"، و"سنن النسائي" عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ مرت جنازة، فقال: "مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَراحٌ مِنْهُ". فقلنا: يا رسول الله! ما المستريح؟ وما المستراح منه؟ فقال: "العَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نصَبِ الدُّنْيا وَأَذاها إلَى رَحْمَةِ اللهِ تَعالَى، وَالعَبْدُ الفاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبادُ وَالبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوابُّ" (¬2). *** ¬
فصل
فَصْلٌ واعلم أن الأولياء من شأنهم الاختفاء والستر لأنهم معادن الأسرار الإلهية، ومن شأنها التحجب والاستتار. ويحكى أن في بعض الكتب: أوليائي تحت حبائي، لا يعرفهم أحد سواي؛ أي: لا يعلم بهم من كل وجه أحد سواي، وقد يعرَّف بهم العباد أو بعضهم بتعريف الله تعالى على حسب ما يقسم لهم من المعرفة. نعم؛ لا يطلع على الأولياء في الغالب إلا الأولياء لأنهم محارم. وقد قال أبو يزيد رضي الله تعالى عنه: أولياء الله عرائس الله، ولا يرى العرائس إلا المحرمون (¬1). وقال يحيى بن معاذ رضي الله تعالى عنه: الولي ريحان الله في الأرض يشمه الصديقون، فتصل رائحته إلى قلوبهم، فيشتاقون به إلى مولاهم، ويزدادون عبادة على تفاوت أخلاقهم (¬2). ¬
وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في "الْحِكَم": سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه (¬1). وليس للولي أن يظهر ولايته إذا تحققها من نفسه إلا إذا أذن الإظهار، أو كان داعيا إلى الله تعالى بإذنه. ويعرف الإذن بالكشف، أو بإذن بعض أولياء الله تعالى له، أو بتيسير الدعوة والكلام لِما قيل: علامة الإذن التيسير. قال أبو العباس المرسي رحمه الله تعالى: يكون الولي مشحونًا بالعلوم والمعارف، والحقائق لديه مشهودة، حتى إذا أعطي العبارة كان كالإذن له من الله في الكلام (¬2). وإنما منع الولي في الأصل من الإظهار لأن سر الولاية لا يحتمله عقول أكثر الخلق. ولقد قال الشيخ أبو العباس المرسي رحمه الله تعالى: لو كشف عن حقيقة الولي لعبد من دون الله؛ لأن أوصافه من أوصافه، ونعوته من نعوته (¬3). ويكون اختفاء الولي سببًا داعيا لقلوب الناس إلى تحسين الظن بكل ¬
مسلم كما أخفيت ليلة القدر في ليالي رمضان طلباً إلى الاجتهاد في كل ليلة، وكما أخفيت ساعة الإجابة في كل ليلة وفي يوم الجمعة للاجتهاد في كل اليوم وكل الليلة، وكما أخفيت الصلاة الوسطى للاجتهاد في كل الخمس، وكما أخفي رضا الله تعالى في طاعاته للاجتهاد في كلها، وغضبه في معاصيه للحذر من كلها. ولأن سر الولاية من الأسرار الإلهية الباقية، فلا يظهر منه في دار الفناء إلا ما يحتاج إليه في جذب بعض القلوب القاسية إلى زمن البقاء، فيظهر الله تعالى سر الولاية والولي لينقاد صاحب ذلك القلب إلى الله وأمره، أو يصل إليه ما قسم له من طاعته، وبذلك يرتفع مقام الولي ويكثر أجره. ومن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا واحِداً خَيْر لَكَ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ". رواه الشيخان (¬1). وفي رواية: "خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيا وَما فِيها". رواه ابن المبارك (¬2). وفي حديث آخر: "لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ عَلى يَدِكَ رَجُلاً خَيرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ". رواه الطبراني في "الكبير" - بسند حسن - عن أبي رافع رضي الله تعالى عنه (¬3). ¬
ومن هنا يعلم أن الولي إذا أعطي مقام الدعوة إلى الله تعالى بالوراثة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا بد من ظهوره للعباد؛ إذ لا يكون الداعي إلى الله تعالى إلا ظاهراً، وكذلك لو أمر برد بدعة أو دفع شبهة فلا بد أن يكون ظاهراً. وقد روى أبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ لله عِنْدَ كُل بِدْعَةٍ كِيدَ بِها الإِسْلامُ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيائِهِ يَذُبُّ عَنْ دِينهِ" (¬1). ثم لا بد لمن يظهر من الأولياء لما تقدم أن يكسوه الله تعالى كسوتين: الجلالة، والبهاء. كما قال ابن عطاء الله في "لطائف المنن": أما الجلالة؛ فليعظمه العباد فيقفوا على حدود الأدب معه، فيضع الله تعالى في قلوب العباد حبه لمن ينصره بما يكون أمره ونهيه مسموعين لمن يأمره وينهاه، وهو من إعزاز الحق لعباده المؤمنين كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. وأما البهاء؛ فليحليهم به في قلوب عباده، فينظروا إليه بعين الاستحسان والمحبة، فيكون ذلك باعثًا لهم إلى الانقياد إليه (¬2). ¬
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]؛ أي: محبة في قلوب العباد، وقبولاً؛ يكون ذلك تمكينا لهم في مقام الاختلاف لهم عنهم الذي وعدهم به في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]. وقال ابن خفيف الشيرازي رحمه الله تعالى في كتابه "المسائل والجوابات": حكي أن الإِمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه قال: يعطى الولي ثلاث خصال: عز من غير عشيرة، وإنشاء من غير جند، ورزق من غير كَدٍّ. قال ابن خفيف: قلت: يعطى الولي ثلاثة أشياء: المحبة في قلوب الأبرار، والهيبة في قلوب الفجار، والملاحة في عيون الخلق، انتهى. ومن علامة الولي حلاوة لسانه، وطلاوة كلامه كما قيل فيما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً، وَإِنَّ لَهُ لَحَلاوَةً، وإنَّ أَعْلاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَدْناهُ لَمُغْدِقٌ (¬1). وفي نفس الأمر أعظم الدليل على الرجل لسانه. ¬
ومن لطائف يحيى بن معاذ - رضي الله عنه - قال: أفواه الرجال حوانيتها، وشفاهها مغاليقها، وأسنانها مغاليقها؛ فإذا فتح الرجل باب حانوته تبين لك العطار من البيطار. رواه ابن نعيم (¬1). وقال ابن عطاء الله في "لطائف المنن": سمعت شيخنا -يعني: أبا العباس المرسي رحمه الله تعالى- يقول: كلام المأذون له - يعني: في التكلم - يخرج وعليه كسوة وطلاوة، وكلام الذي لم يؤذن له يخرج مكسوف الأنوار؛ حتى إن الرجلين ليتكلمان بالحقيقة الواحدة، فتقبل من أحدهما، وترد على الآخر (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في "الإخلاص والنية"، وغيره عن أبي بحر البكراوي قال: اجتمع بمكة الفضل الرقاشي وعمر بن ذر، فشهدتهما، فتكلم الفضل، فأطال وأكثر، ووعظ وذهب من الكلام في مذاهب، فما رأيت أحدًا رق لكلامه، ثم سكت، فتكلم ابن ذر، فحيث تكلم بكى الناس ورقوا (¬3). وعن ابن السَّمَّاك قال: قال ذر بن عمر بن ذر لأبيه: ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد، وإذا تكلمت سمعت البكاء من ها هنا وها هنا؟ ¬
فقال: يا بني! ليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى (¬1). وقال أبو العباس المرسي: إن أولياء هذا الوقت ليريدون بشيء الغنى واليقين؛ فالغنى لكثرة ما عند الناس من الإفلاس، واليقين لكثرة ما عند الناس من الشكوك. وأراد بالغنى غنى النفس المشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيس الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَالغِنَى غِنَى النَّفْسِ" رواه الإِمام أحمد، والشيخان، وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬2). وروى أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن سهل بن عبد الله التُّستَري رحمه الله تعالى قال. إنّ الله تعالى اصطنع إلى أوليائه ثلاث خصال: لا يطمعهم من حيث يطمعون, ويشوش عليهم تدبيرهم لأنفسهم، ولا يظفر بهم عدوهم؛ يريد عز وجل ألا يرجوا غيره، ولا يخافوا سواه؛ لأنه البارُّ بهم اللطيف الكريم (¬3). وقال بعض العارفين: إن لله تعالى في أوليائه لطيفة، وذلك أن يضطرهم ويبتليهم حتى يسألوا الناس ويقصدونهم في حاجتهم، ثم يبقى ¬
تتمة
في قلوب الناس القسوة عليهم، فإذا أيسوا من الخلق رجعوا إليه فيغنيهم، وإنما يفعل بهم ذلك لئلا يشهدوا غيره، ولا يرجوا إلا خيره. وقلت: [من الخفيف] إِنَّ لله في الوَليِّ لَطِيفَة ... لَيْسَ تَقْوى لَها القُلُوبُ الضَّعِيفَة يُحْوِجُ العَبْدَ الأَنامَ وُيلْقِي ... قَسوَةً في قُلُوبِهِمْ لِيُخِيفَه فَيَحارَ الوَليُّ ثُمَّ يَلْوِي ... قَلْبَهُ نَحوَ رَبهِ ويُطِيفَه فَيَرَى مِنْهُ ما يُرِيدُ فَيَغْدُو ... وَلَهُ في الأَنامِ نَفْسٌ عَفِيفَة فَإِذن يَشهَد الإله وينسى ... غيرَهُ تِلْكَ إِلَى حالٍ شَرِيفَة * تَتِمَّةٌ: نقل ابن عطاء الله في "لطائف المنن" عن بعض العارفين أنه قال: إن لله عباداً كما اشتدت ظلمة الوقت كما قويت أنوار قلوبهم؛ فمثلهم كمثل الكواكب كما قويت ظلمة الليل قوي إشراقها.
قلت: وقد لمحت بذلك في خطبة هذا الكتاب، وقلت في المعنى: [من الكامل] نُورُ الوِلايَةِ لائِحٌ للمُؤتسي ... وَالوَقْتُ مِنْ ظُلْمِ الْهَوى في حِنْدِسِ مِثْلَ الكَواكِبِ زادَ نُورُ ضِيائِها ... ما اشْتَدَّ غَيْهَبُ لَيْلِها المغلنكس فَأدِرْ سلافات الصَّفَا في الأكؤُسِ ... وأشع أَحادِيثَ الظباء الكُنَّسِ دع يَحْتَسِي مِنْ كَأسِها مَنْ يَحْتَسِي ... أَوْ يَأْتَسِي بِذوي التُّقى مَنْ يَأتَسِي لا تَيْأسَنْ مِنْ رَوْحِ رَبِّكِ يا فَتَى ... إن الهمام الندب مَنْ لَمْ يَيْأَسِ اصْبِرْ فَإِنَّ الصَّبْرَ يُبْلِغُكَ الْمُنَى ... وَارْبِطْ حِبالَكَ بِالْجَنابِ الأَقْدَسِ وَائْنَسْ بِرَبِّكَ إِنْ رُمِيتَ بِوَحْشَةٍ ... وَبِغَيْرِ رَبِّكَ في الوَرَى لا تَأنسِ
تتمة
* تَتِمَّةٌ (¬1): أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخلاص" عن بلال بن سعد قال: لا تكن وليًا لله في العلانية، وعدوه في السريرة (¬2). معناه: لا تتلبس بأوصاف الأولياء ظاهراً، وتضمر في باطنك مثل أعمال أعداء الله تعالى؛ فإن هذا بعينه كان حال المنافقين، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] الآية. بل إذا تلبست بأعمال الأولياء ظاهراً، فتشبه بهم باطنا في الصدق، وحسن النية، والإخلاص؛ إذ لا يشبه الزي الزي حتى يشبه القلب القلب، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -، وسبق بيان ذلك. * تنبِيْهٌ: قال أبو سعيد بن الأعرابي: إن الله تعالى أعار بعض أخلاق أوليائه أعداءه؛ ليستعطف بهم على أوليائه. رواه السلمي في "طبقاته" (¬3). ¬
ومعناه: إنَّ الله تعالى قد يُخلِّق بعض أعدائه ببعض أخلاق أوليائه عطفًا منه على أوليائه؛ فإنهم لا يستغنون عن مخالطة الناس، فإذا تَخَلَّقَ من يخالطونه بالرحمة، أو بالمودة، أو بالحياء، أو غيرها من الأخلاق الجميلة عاملهم بتلك الأخلاق دون أضدادها، فيكون رفقًا بهم؛ إذ لو عاملهم من يخالطهم بأضداد تلك الأخلاق ساءهم ذلك، وشق عليهم، فتلك الأخلاق الجميلة لا يعود نفعها على المتخَلِّقِ بها، بل على من يخالطه المُتَخَلِّقُ بها من أولياء الله تعالى. ومن هذا القبيل رفق أبي طالب بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومودته له، وعطفه عليه. ويعلم من هذا: أنَّ محبة الكافر للمؤمن، ومودته له، لا تضر المؤمن؛ لأنها من باب التسخير للمؤمن الولي، كما ألقيت محبة موسى عليه السلام في قلب فرعون حين كان موسى عليه السلام صغيرًا. قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان كل من رآه ألقيت عليه منه محبة. رواه ابن أبي حاتم، وغيره. وإنما يضر العبد أن تنفر عنه قلوب المؤمنين، وتمقته. قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: ليحذر امرؤ أن تمقته قلوب المؤمنين من حيث لا يعلم. رواه الإِمام أحمد في "الزهد" (¬1). ¬
فائدة لطيفة
وفي حديث "الصحيحين" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "وَإِذا أَبْغَضَ اللهُ عَبْداً نادَىْ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِنِّي قَدْ أَبْغَضْتُ فُلانًا، فَيُنادِيْ فِيْ أَهْلِ السَّماءِ، ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ البَغضَاءُ فِيْ أَهْلِ الأَرْضِ" (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنْتُمْ شُهَدَاءُ الله فيْ الأَرْضِ، وَالملائِكةُ شُهَدَاءُ الله فِيْ السمَاء". رواه الطبراني، وغيره من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - (¬2). والخطاب في قوله: "أنتم" للمؤمنين. * فائِدَةٌ لَطِيْفَةٌ: روى أبو نعيم عن علي بن الحسين - رضي الله عنه - قال: قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: إذا كان يوم القيامة أتت الدنيا بأحسن زينتها، ثم قالت: يا رب! هبني لبعض أوليائك، فيقول الله تعالى لها: يا لا شيء! اذهبي فأنتِ لا شيء، أنتِ أهون من أن أهبك لبعض أوليائي، فتطوى كما يطوى الثوب الْخَلِقُ، فتلقى في النار (¬3). وإنما لم تكن الدنيا صالحة في الآخرة لأن يثاب بها أحد من أولياء ¬
الله تعالى؛ لأنها ضد الآخرة وضَرَّتُها، فلا تجتمع معها, ولأن الله تعالى كتب على الدنيا الفناء، والآخرة دار البقاء، ولأنها لئيمة، والآخرة دار الكرامة للمؤمنين، والإهانة للكافرين، فاجتمعت هي وأتباعها اللؤماء في دار الإهانة، ولأن الدنيا سجن المؤمن وسنته، فكيف تصلح أن تكون دار الولي وسنته. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِن وَسَنَتُه" (¬1)؛ فَإِذا خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا فَارَقَ السِّجْنَ والسَّنَةَ". رواه الإِمام أحمد، والحاكم وصححه، عن ابن عمرو - رضي الله عنهما - (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في "ذمها"، والبيهقي في "الشعب" عن عطاء ابن يسار - رحمه الله - مرسلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "إِنَّ اللهَ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ - لَمْ يَخْلُقْ خَلقًا أَبْغَضَ إِليْهِ مِنَ الدُّنْيَا، وإنَّهُ مُنْذُ خَلَقَهَا لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهَا" (¬3). وإذا كانت أبغض خلقه إليه، فكيف يرضاها ثوابًا لبعض أوليائه؟ وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الدُّنْيَا مَلْعُوْنة، مَلْعُونٌ مَا فِيْهَا إِلاَّ مَا كَانَ مِنْهَا للهِ عز وجل". وفي لفظ: "إِلاَّ مَا أُرِيْدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ". ¬
وفي لفظ آخر: "إلا ذِكْرُ الله وَمَا وَالاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلمًا". وفي آخر: "إِلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفِ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرِ، أَو ذِكرَ الله". رواه باللفظ الأول أبو نعيم، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" عن جابر - رضي الله عنه - (¬1). وباللفظ الثاني في الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء (¬2). ووقفه الإِمام أحمد في "الزهد" عليه بلفظ: "إِلَّا ذِكْرُ الله، وَمَا آوَى إِلى ذِكْرِ الله" (¬3)، وهو قريب من اللفظ الثالث. وهو عند الترمذي، وابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، والطبراني في "الأوسط" من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬4). ورواه باللفظ الرابع البزار عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أيضًا (¬5). وإذا كانت الدنيا ملعونة - واللعنة: البعد عن الله تعالى - فلا تليق أن ¬
تكون دارًا لأحد من الأولياء؛ لأنهم أهل القرب. روى الإِمام أحمد، والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لا دارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لا مَالَ لَهُ، وَلهَا يَجْمَعُ مَنْ لا عَقْلَ لَه" (¬1). وكل أحد من أولياء الله تعالى له دار ومال مخصوصان به في الآخرة، فلا تصلح أن تكون الدنيا دارًا له أصلًا. وكأن التقدير في الحديث: دار من لا دار له في الآخرة، أو في الجنة. وحقيقة الدار: ما يحوط المرء، ويلم شعثه، ويسكن قلبه، بحيث يأمن ويطمئن ويأنس، ولا تصلح الدار إلا إذا كانت دار مقامة واستقرار، وذلك غير وصف الدنيا حقيقة لأن كل عبد مزعج منها مخرج منها، وإن الدار الآخرة هي دار القرار وهي دار المقامة، ومن ثم يقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34، 35]. فحقيقة الدار ما كانت هكذا دار مقامة وسرور وراحة، من غير إعياء ولا سآمة ولا ملل، ولا كذا دار الدنيا, ولا دار أعداء الله في الآخرة؛ ¬
فإنها - وإن كانت دار مقامة وقرار - فإن مقامها بئس المقام، وقرارها بئس القرار، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28 - 29]. ***
فصل
فَصْلٌ ويقال للأولياء والصالحين: أولو الألباب، وذوو الألباب. ولب كل شيء: خالصه وقلبه. ومن ثم قيل لهؤلاء، أو لخواصهم: أرباب القلوب، وأصحاب القلوب؛ أخذاً من قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]. وكل إنسان له قلب، بل كل حيوان، إلا أنه لما كانت قلوب الحيوانات غير الإنسان، والملحقين بها من جنس الإنسان ممن لا يفهم ولا يعقل لا نفع فيها, ولا فائدة منها، كانت كأنها لم تكن؛ فلذلك قال تعالى: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}؛ أي: قلب يفهم به ولعقل به. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19]؛ أي: أصحاب القلوب الخالصة. وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى: 9، 10]. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وقال تعالى: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]؛ أي:
الكاملين في الإيمان، وهم العلماء بالله الذين يخشون الله تعالى، وهم أصحاب القلوب. وأولو الألباب الحكماء، كما قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]. الحكمة: فهم كتاب الله وتدبره، والعمل بما فيه، ولا يتهيأ هذا إلا لذوي الألباب، وأصحاب العقول والآداب. قال خالد بن ثابت الربعي: وجدت فاتحة زيور داود عليه السلام: رأس الحكمة خشية الله. رواه الإِمام أحمد في "الزهد" (¬1). وقد روى الحكيم الترمذي في "نوادره"، وابن لال في مكارمه، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأْسُ الحِكْمَةِ مَخَافَةُ الله" (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن الإِمام مالك بن أنس - رضي الله عنه - قال: قال زيد ابن أسلم رحمهما الله تعالى: إن الحكمة العقل؛ لأنه ليقع في قلبي أنَّ الحكمة الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله. ¬
قال: ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلاً في أمر الدنيا إذا نظر فيها، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه، عالمًا بأمر دينه، بصيرًا به، يؤتيه الله إياه، ويَحْرِمُهُ هذا (¬1). واختار النووي في "شرح مسلم": أن الحكمة عبارة عن: العلم بالأحكام المشتملة على المعرفة بالله تبارك وتعالى، مصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق والعمل به، والصدِّ عن اتباع الهوى والباطل. وقوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269]؛ أي: من يختاره لها ويصطفيه لها، فأهل الحكمة وأولو الألباب هم المصطفون الأخيار، قليل من أعمالهم، كثير عند الله تعالى؛ لأنهم أحباب الله، وأولياؤه، ومختاروه، والقليل من الأحباب مقبول، وشتان بين المقبول والمردود. وفي كتاب الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، والتقوى نتيجة الخشية التي هي رأس الحكمة، ومحك العلم، والقليل إذا كان مقبولاً عند الله تعالى، لم يكن قليلاً في نفسه؛ لأن الذي قَبِلَهُ كريم، ومن شأن الكريم أن يرى القليل من غيره كثيرًا، وإن عين الرضى تكثر قليل المرضي عنه، وتعظم صغير المقبول منه. وقد روى ابن أبي شيبة عن الحسن رحمه الله مرسلاً قال: قال ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ لا يَقبَلُ عَمَلَ عَبْدٍ حَتَّى يَرْضَى عَنْه" (¬1). وفي كتاب "التقوى" لابن أبي الدنيا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل؟ (¬2). وفيه عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - قال: لأن أكون أعلم أنَّ الله تقبل مني مثقال حبَّة من خردل، أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها؛ فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (¬3). وروى ابن أبي حاتم نحوه عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، ولفظه: لأن أستيقن أن الله تعالى تقبل مني صلاة واحدة، أحبُّ إلي من الدنيا وما فيها؛ إنَّ الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (¬4). وروى ابن عساكر عن هشام، عن يحيى، عن أبيه قال: دخل سائل إلى ابن عمر - رضي الله عنه - فقال لابنه: أعطه دينارًا، فأعطاه، فلما انصرف قال ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه، فقال: لو علمت أن الله تعالى تقبل مني سجدة واحدة، أو صدقة درهم، لم يكن غائب أحب إلي من الموت؛ تدري ممن يتقبل الله؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (¬5). ¬
وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: يا حبذا نوم الأكياسِ وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصيامهم؟ ولَمِثْقال ذرة من صاحب تقوى ويقين، أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين (¬1). وصدق - رضي الله عنه -؛ فإن نوم الأكياس -وهم الفطناء أولو الألباب - وإفطارهم يكون بنية صالحة، ولغرض صحيح، فهما أفضل من سهر المتكلف وصومه. وقد أطلق أبو الدرداء عليه اسم الحمق؛ لأنه يضرب في حديد بارد لم يعقل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِ امْرِئٍ مَا نَوَى" (¬2)، ولم يعمل بمقتضاه، ولو كان له عقل وكَيْسٌ لعقل هذا وغيره عن الله تعالي ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن هنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبًّا". وفي رواية: "قَدْ أَفْلَحَ". رواه البخاري في "تاريخه"، والبيهقي في "شعبه" عن قرة بن هبرة - رضي الله عنه - (¬3). و(قد) لتحقيق حصول الفلاح، وهو العون والبقاء في الخير لذوي الألباب، ومهما حصل لهم فيما بين ذلك من مشقة، فإن الله تعالى يأخذ ¬
بأيديهم فيها، ويخفف عنهم حتى يلقوه في سلامة، كما قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44]. وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا الشَّاهِدُ عَلَى الله أَلا يَعثُرَ عَاقِلٌ إلا رَفَعَهُ، ثُمَّ لا يَعثُرَ إِلا رَفَعَهُ، ثُمَّ لا يَعثُرَ إِلا رَفَعَهُ، حَتَّى يَجْعَلَ مَصِيرَهُ إِلى الجَنَةِ". رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "العقل"، والطبراني في "الأوسط" (¬1). ثم إن لأولي الألباب مزية ظاهرة في فهم كلام الله تعالى، وآياته، ومطالعة حكمه منه بريَّاتِه، ولقد أثنى الله تعالى عليهم بذلك، فقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، فحصر فهم آياته وأمثاله في أهل العلم، وهم أولو الألباب كما علمت. قال عمرو بن مرة - رضي الله عنه -: ما مررت بآية في كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنتني؛ لأني سمعت الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}. رواه ابن أبي حاتم (¬2). وعندي: أن المراد بالأمثال: كل مخلوق خلقه الله تعالى للعقل في ¬
مطالعته ومطالعة الحكمة التي لأجلها خُلِق مجالٌ، والقرآن العظيم لم يدع شيئًا مما هذا سَمْتُهُ إلا وقد وقعت فيه الإشارة إليه بوجه ما، وإن من أبعد الأمثال عن الأفهام -إلا فهم أولي الألباب - أن الله تعالى شرع القصاص، وهو إتلاف لعضو، أو إزهاق لروح لأجل وقاية الأعضاء، وحياة الأرواح؛ إذ يعلم العادي أنه يُقَاصَصَ فيكف، فلذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]؛ أي: تتقون الحياة بوقاية أنفسكم عنها، أو بمنع غيركم منها. وقال سفيان بن عيينة في قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}؛ قال: بقية؛ تناهي بعضكم عن بعض. رواه ابن جرير (¬1). ومن ألطف ما اتفق: ما رواه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن أبي الجوزاء أنه قرأ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، وقال: القصاص (¬2) القرآن (¬3). والأولى حمل القصاص (¬4) على [قصص] القرآن، وما يوافقه من مواعظ الأنبياء، ونصائح الأولياء على سبيل القص عن المتقدمين. وعليه: فالمراد بالحياة الحياة الأخروية، وهي في الدنيا بالإيمان ¬
والعلم، وفي الآخرة بثوابها وما أعد الله لذويها. وفي نفس الأمر لا يحس بهذه الحياة في دار الدنيا إلا أولو الألباب، وهم الراسخون في العلم؛ لأنهم الذين نفخت فيهم روح الحياة في الدنيا. ولقد قال الله تعالى فيهم: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، وهم الراسخون في العلم بأعيانهم، إلا أنه ذكرهم بصفة أخرى ثناء عليهم، وتفخيماً لأمرهم، فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]؛ فيه إشارة إلى أن المتدبرين للقرآن كثيرون، وإنما يتذكر منهم مما تدبره أولو الألباب، وأصحاب العقول النافعة ذويها، المخلصة الخالصة لباريها. وقال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} [إبراهيم: 52]؛ أي: كفاية لهم في الموعظة والبيان، {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52]. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. في الآية إشارة إلى الحكمة التي يتميز بها أهل العلم عن غيرهم، وهي أن أهل العلم أهل تذكر وتفطن، وأهل الجهل أهل غفلة ولهو، فإذا كان ذو العلم يغلب عليه ما يغلب على أهل الجهل لحق بهم، وكان أسوأ حالًا منهم.
وقال الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [غافر: 53، 54]. فيه إشارة إلى أن ذوي الألباب هم المقصودون بالهداية والذكرى، وكأن الكتب لم يكن مطلوب بها حقيقة إلا هؤلاء، وقد علمت أنهم هم المتقون، فتوافقت هذه الآية هي وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] الآيات، فهؤلاء قوم صلحت قلوبهم، فصلحت لقبول الحكم القرآنية والمعارف الربانية بما تحنن الله عليهم وعطف، ونظر إليهم ولطف. ولقد سبق قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا إِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَ لَهُ قَلْب صالح تَحَنَّنَ اللهُ عَلَيْهِ، وإِذَا تَحَنَّنَ اللهُ عَلى قَلبِ عَبدٍ، حَنَّنَهُ لِلأَعمَالِ الصَّالِحَةِ، وَحَبَّبها إِلَيْهِ" (¬2). ولقد وصف الله تعالى أولي الألباب بأوصاف الصالحين، فقال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 190 - 195]. ¬
وصفهم سبحانه وتعالى بالذكر وملازمته في سائر الأحوال، والفكر في مخلوقات الله تعالى، والمعرفة بأنه سبحانه لم يخلق شيئًا باطلًا، والتسبيح والاستعاذة من النار، والإيمان بأمور الآخرة التي منها عذاب النار، وسؤال الله الوقاية منها، وأنَّ دخولها هو الخزي، وأنَّ الظالم هو المخذول يوم القيامة لا أنصار له، وحسن الاستماع، وسؤال الله المغفرة، وتكفير السيئات، والثناء على الأبرار، وطلب اللحاق بهم، والجهاد في سبيل الله تعالى، والهجرة، واحتمال الأذى في ذات الله، والرغبة في الشهادة؛ وكل ذلك من خواص أعمال الصالحين وأخلاقهم. ثم بين الله تعالى أنه يستجيب لهم بقوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران: 195] الآية. فأهل الاستجابة هم أولو الألباب الذين يدعون الله تعالى، وقلوبهم في مشاهدته تشهد أن العطاء والمنع بيده، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادْعُوْا الله وَأنتُم مُوقنُوْنَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوْا أَنَّ اللهَ لا يَقبَلُ دُعَاء مِنْ قَلب غَافِلِ لاهٍ". رواه الترمذي، والحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: قال الله تبارك وتعالى على لسان نبي من أنبياء بني إسرائيل: قل لبني إسرائيل: تدعوني بألسنتكم، وقلوبكم بعيدة مني؟ باطل ما ترهبون، ¬
وقال: تدعونني وعلى أيديكم الدم؟ اغسلوا أيديكم من الدم؛ أي: من الخطايا، هلموا نادوني (¬1). وروى الحكيم الترمذي عن معاذ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ عَرَفْتُمُ الله حَقَّ مَعرِفَتِهِ، لَزَالت بِدُعَائِكُمُ الجِبَالُ" (¬2). وقد فهم الحسن رحمه الله من الآية: أن سبب استجابة الله تعالى لهم (¬3) تكرار الدعاء، والإلحاح فيه. فروى ابن أبي حاتم عن عطاء رحمه الله: أنه قال: ما من عبد يقول: يا رب، يا رب، ثلاث مرات، إلا نظر الله إليه، فذكر للحسن رحمه الله، فقال: أما يقرأ القرآن: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} إلى قوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 193 - 195]؟ (¬4). ولا شك أن في التكرار تحقيقًا لاستحضار القلب في الدعاء؛ لأن له تأثيرًا في التوجه. وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُنَادِيْ مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ: أَينَ أُولُوْ الأَلبَابِ؟ قَالُوا: أَيَّ أُولِيْ الأَلبَابِ تُريْد؟ قالَ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190 - 191]، قَالَ: عُقِدَ لَهُمْ لِوَاءٌ، واتَّبَعَ القَوْمُ لِوَاءَهُمْ، وَقَالُوا لَهُم: اُدخُلوْهَا خَالِدْينَ" (¬1). وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17، 18]. وصفهم باجتناب عبادة الطاغوت، وهو الشيطان، أو كل ما سوى الله تعالى؛ فإن عبادة من سواه طغيان، وبالإنابة إلى الله، وهي الرجوع إليه، وهو حقيقة التوبة واستماع القول، واتباع أحسنه؛ قال: أحسنه طاعة الله. رواه ابن جرير (¬2). وقال الكلبي: هو الرجل الذي يقعد إلى المحدث فيقوم بأحسن ما سمع. رواه سعيد بن منصور. وهذا وصف العاقل؛ فإن العاقل من إذا عُرضَ عليه أمور يتخير منها، اختار لنفسه أحسنها، فإن اختار لنفسه دون الأحسن فهو سخيف العقل؛ ومن ثم كرهوا الإيثار في القُرَبِ، فإن اختار لنفسه أدناها كان ¬
أحمق عاريًا عن العقل. وقد مثله النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثال منطبق على حاله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الَّذِي يَجْلِسُ يَسْمَعُ الْحِكْمَةَ وَلا يُحَدِّثُ عَن صَاحِبِهِ إِلاَّ بِشَرِّ مَا يَسْمَعُ، كَمَثَلِ صَاحِبِ رَجُلٍ أتى رَاعِيًا فَقَالَ: يَا رَاعِي! اُجْزُر لِي شَاةً، فَقَالَ: اذهبْ فَخُذْ بِأُذُنِ خَيْرِهَا شَاةً، فَذهبَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلبِ الغَنَمِ"، رواه الإِمام أحمد، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). وهذا المثال - وإن كان ضربه لمن يسمع فيحدث شر ما سمع - فهو بمن يعمل بشر ما سمع، أو بضد ما سمع من الخير أولى. ثم قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21]؛ أي: إن في ذلك تذكيراً لأولي الألباب دون غيرهم، بأنه لا بد لذلك من صانع حكيم دبره، وسوَّاه، وأوجده، وأحكمه، ثم أفناه، وبأن هذا مثل الحياة الدنيا فلا يغتر به، وبأن هذا مثل ابن آدم يبدو به والزرع في ريعانه وخضرته، ثم يكون آخره إلى الموت والفناء، وهذا لا يهتدي إليه إلا أولو الألباب، وهم أصحاب الصدور المشروحة، ولذلك عقبه بقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]؛ أي: كغيره. ¬
وشرح الصدر بخلوص القلب للتوجه إلى الله تعالى، وطلب الآخرة الموصل إليه. قال محمَّد بن كعب القرظي: رحمه الله تعالى: لما نزلت هذه الآية: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} قالوا: يا رسول الله! هل ينشرح الصدر؟ قال: "نعمْ"، قالوا: هل لذلك علامة؟ قال: "نعمْ، التَجَافِي عَنْ دارِ الغُرُورِ، والإِناَبَةُ إِلى دارِ الخُلُودِ، والاسْتِعْدَادُ لِلمَوتِ قَبْلَ نُزُولِهِ". أخرجه ابن مردويه هكذا مرسلاً (¬1). وأخرجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: تلا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}، فقلنا: يا رسول الله! كيف انشراح صدره؟ قال: "إِذَا دَخَلَ النُّورُ القَلْبَ انشَرَحَ وَانْفَسَحَ"، قلنا: فما علامة ذلك؟ الحديث (¬2). وهو عند الحاكم، والبيهقي في "الزهد" عن ابن مسعود إلا أنه قال: لما تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] قيل: ما هذا الشرح؟ فقال: "إِنَّ النُّورَ إِذا قُذِفَ في القَلبِ، انشَرَحَ لَهُ الصدْرُ وانْفَسَحَ"، قيل: فهل لذلك من علامة؟ قال: "نعمْ، التَّجَافِي عَن دَارِ الغُرُورِ، والإِنَابَةُ إِلى دارِ الخُلُودِ، والاسْتِعْدَادُ ¬
لِلمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ" (¬1). ولا شك أنَّ هذه الثلاثة من أوضح ما يظهر من الأخلاق على ذوي القلوب الصالحة، والعقول السليمة، والألباب الخالصة؛ لأن هذا أنفع شيء لهم في مصيرهم الذي لا بد لهم من المصير إليه. قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - عاشر عشرة، فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله! من أَكْيَس الناس، وأحزم الناس؟ قال: "أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلمَوتِ، وَأَكْثَرُهُمُ اسْتِعدَادًا لِلمَوْتِ؛ أُولَئِكَ الأكيَاس، ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا، وَكَرَامَةِ الآخِرَة". رواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الموت"، والطبراني في "الصغير" بسند جيد (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكَيسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ -أي: حاسبها في الدنيا -، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ - وفي رواية: وَالأَحْمَقُ - مَنْ أتبَعَ نفسَهُ هَواهَا، وَتَمَنَّى عَلى اللهِ". رواه الإِمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم في "المستدرك" عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - (¬3). ¬
وقال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19]؛ أي: ليس من يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق -وهو شامل للقرآن، وغيره مما جاء به - صلى الله عليه وسلم - كمن هو أعمى القلب عن الحق فلا يبصره، ولا يعقله {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}؛ أي: أصحاب العقول السليمة البصيرة. ثم بين من هم بقوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 20 - 24]. قيل: أراد بقوله: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}: صلة الرحم. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ البِرَّ وَالصِلَةَ ليُخَفّفَانِ سُوءَ الحِسَابِ يَوْمَ القِيَامةَ"، ثم تَلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} ". رواه ابن عساكر (¬1). ¬
وفي "الكشاف" في قوله: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} من القرابات؛ قال: ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقرابة المؤمنين الثابتة بالإيمان {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرهم، والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم، وطرح التفرقة بين أنفسهم وبينهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم. ومنه مراعاة حق الأصحاب، والخدم، والجيران، والرفقاء في السفر، وكل ما تعلق منهم بسببٍ، حتى الهرة والدجاجة (¬1). والمراد بإقامة الصلاة: إتمامها، كما رواه ابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير، وبالإنفاق سرًا وعلانية النفقة الفرض، والأولى فيها إعلانها وإظهارها للقدوة، واسقاط العتاب عنه، والوقوع في غيبته، والتطوع، والأولى فيها الإسرار لأنه أبعد عن الرياء. وقوله: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد: 22]، أي: يدفعون الشر بالخير، ولا يكافئون الشر بالشر، ولكن يدفعونه بالخير. رواه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم عن الضحاك (¬2). وقال سعيد بن جبير في معناه: يردون معروفاً على من يسيء إليهم. ¬
رواه ابن أبي حاتم (¬1). وحاصل ما في هذه الآية: أن الله تعالى وصف أولي الألباب بالوفاء والصلة والخشية، وخوف سوء الحساب في العاقبة، والصبر والإخلاص، وإقامة الصلاة، والإنفاق في وجوه الخير سرًا وعلانيةً؛ لأنهم لا يتوقفون على حالة تبعثهم على النفقة أو تؤخرهم عنها؛ لأن الكرم سجيتهم وعادتهم، ولأنهم لا يراقبون غير الله، فاستوى سرهم وعلنهم. ثم ختم وصفهم بالخلق العظيم المشتق من خلق نبيهم - صلى الله عليه وسلم - الذي وصفه ربه به في التوراة لا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح (¬2). فذكر أنهم بعد استيفاء الحلم والعفو والاحتمال، يدرؤون بالحسنة السيئة فضلاً عن مقابلتها بمثلها، وهذا منهم مصانعة لربهم، طلباً منهم أن يعاملهم ربهم بالعفو والإحسان, وهذا يدل على أنهم في أعلى طبقات العقل والنُّهَى؛ لأنهم وضعوا الإحسان والمعروف عند من لا يضيع عنده مثقال ذرة. ولقد علمت أن ذوي الألباب هم الحكماء حقيقة. والحكيم: هو من يضع الشيء في موضعه. ¬
تتمة
ومن بدائع حكم ذوي الألباب ما ذكره محمود الوراق في قوله: [من المتقارب] تَمَثَّلَ ذُوْ اللُّبِّ فِيْ نَفْسِهِ ... مَصائِبَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلا فَإِنْ نزلَتْ بِهِ لَمْ يَرْعُه ... لِما كانَ فِيْ نَفْسِهِ مَثَّلا رَأى الأَمْرَ يُفْضِيْ إِلَى آخِر ... فَصَيرَ آخِرَه أَوَّلا ومن معناه أن اللبيب العاقل وَطَّنَ نفسه على مصائب الدنيا، وأنَّ ما قُدِرَ منها نازل لا محالة، فلم يجزع لما دهمه من خطوبها, ولم يفرح لما نأى منها، وعلم أن آخرها للانقضاء والزوال، فعمل لما بعدها، وتجافى عنها، وأناب إلى الآخرة، وانتظر الموت، كما قال الحسن رحمه الله تعالى: إن الموت فضح الدنيا، فلم يترك لذي لب فرحاً. رواه عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" (¬1). * تَتِمَّةٌ: قال الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق: 36]. ¬
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {فَنَقَّبُوا}: أثروا؛ أي: تركوا آثارهم {فِي الْبِلَادِ} (¬1). وقال مجاهد: ضربوا في الأرض. رواهما ابن جرير (¬2). وقال الضحاك في قوله: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ}: هل من مهرب يهربون إليه من الموت. رواه ابن المنذر (¬3). وقال قتادة في الآية: حاص أعداء الله، فوجدوا أمر الله لهم مدركًا. رواه عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر (¬4). ثم قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِك} [ق: 37]؛ أي. ما ذكرناهم به من أمر الأمم الماضية، وما أثروا في البلاد، وتصرفوا فيها، وخربوا في أرجائها، فلم يجدوا لهم مهربا من الموت، بل أدركتهم آجالهم التي قدرناها لهم، وكان مصيرهم إلينا {لَذِكْرَى} [ق: 37]؛ أي: تذكرة {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]؛ أي: لمن كان له قلب يستمع به فيتذكر، أو ألقى السمع إلى ما يملى عليه بحيث يصغي إليه، ويستمع له وهو شهيد؛ أي: القلب. ¬
فقسم المنتفعين بالذكرى إلى قسمين: على ذي قلب يتذكر به ما عليه، ومستمع شهد القلب ما يسمعه؛ فالواعظ والمستمع إذا كانا من أهل القلوب تمت سعادتهما. وقد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إن الكلام إذا خرج من القلب دخل القلب (¬1). قال مجاهد في قوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}؛ قال: لا يحدث نفسه بغيره؛ أي بغير ما يسمعه، وهو شهيد؛ أي: شاهد بالقلب؛ أي: لما سمعه. رواه ابن جرير (¬2). وقال محمَّد بن كعب في الآية: يستمع وقلبه شاهد، لا يكون قلبه مكاناً آخر. رواه ابن المنذر (¬3). ففي الآية دليل على أن قصص القرآن لا ينتفع به إلا ذوو القلوب، وأولو الألباب من قارئ ومستمع، ومن قرأ بلسانه، وقلبه غافل عن تدبر ما يقرأه، أو يسمع بأذنه، وقلبه غافل عما يسمعه فهو لما أن [ .... ] (¬4) بما قرأ أو سمع أقرب من أن ينتفع. ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]؛ ¬
هي سفينة نوح عليه السلام {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12]. قال أبو عمران الجوني رحمه الله تعالى: أذن عقلت عن الله. رواه ابن المنذر (¬1). وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في الآية: قال لي رسول - صلى الله عليه وسلم -: "سَأَلتُ الله أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنكَ يَا عَليُّ"، فقال علي: ما سمعت من رسول الله شيئًا فنسيته. رواه سعيد بن منصور، وأبو نعيم في "المعرفة" (¬2). والأذن الواعية: هو الذي يعي الشيء فيحفظه، وينتفع به، ثم لا ينساه، ولا يغفل عنه، كحال علي - رضي الله عنه -، ولذلك كان بابَ العلم كما روى الحاكم، وغيره من حديث جابر، وابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَناَ مَدِيْنةَ العِلْمِ، وعَلى بَابُهَا؛ فَمَنْ أَرَادَ العِلمَ فَليَأتِ البَابَ" (¬3). ¬
وحمله بعض الصوفية على العلم اللَّدُنِّيِّ (¬1) أو لذلك تنتهي معظم طرق الصوفية إلى سيدنا علي - رضي الله عنه -، وأكثرها من طريق الحسن البصري, ولقد كان من أبواب العلم اللَّدُنِّيِّ النافع. ولقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب "قصر الأمل", وابن حيان في "الثقات"، وأبو نعيم عن أبي عبيدة الناجي رحمه الله تعالى قال: دخلنا على الحسن في مرضه الذي مات فيه فقال: مرحبًا بكم وأهلًا, وحياكم الله بالسلام، وأدخلنا وإياكم دار المقام, هذه علانية حسنة إن صبرتم وصدقتم، وأيقنتم، فلا يكن حظكم من هذا الخير أن تسمعوه بهذه الأذن، وتخرجوه من هذه؛ فإنَّه من رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد رآه غاديًا ورائحًا، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، ولكن رفع له علم ¬
فشمر إليه؛ الوَحَاءَ الوَحَا (¬1)، النجاء النجاء، على ما تعرجون أنتم ورب الكعبة كأنكم والأمر معا، رحم الله عبدًا جعل العيش عيشا واحدًا، وأكل كسرة، ولبس خرقًا, ولزق بالأرض، واجتهد في العبادة، وبكى على الخطيئة، وهرب من العقوبة، وابتغى الرحمة، حتى يأتيَه أجله وهو على ذلك (¬2). ومعنى قوله: جعل العيش عيشًا واحدًا؛ أي: لم يلتفت إلا إلى عيش واحد وهو عيش الآخرة؛ إذ لا عيش إلا عيش الآخرة، كما في الحديث. وقوله: وكل كسرة، ولبس خَلِقًا؛ أي: أكل ما وجد ولو كسرة، ولبس ما وجد ولو خَلِقًا؛ أي: لم يتقيد في طعام أو لباس بهوى نفسه، بل يكتفي بالميسور. وقوله: ولزق بالأرض معناه: ترك السعي في طلب الدنيا، والتأنق في تحصيل ملاذها بحيث لا يهتم بشيء منها، بل يكون اهتمامه واجتهاده فيما خلق له من العبادة. وبكى على خطيئته، وهرب من موجبات العقوبة، وابتغى الرحمة من الله تعالى من مظانها؛ ومن أهم مظانها البكاء على الخطيئة، والخوف من العقوبة. ¬
قال الحسن: إن البكاء داع إلى الرحمة (¬1). وقال أبو حازم رحمه الله: بلغنا أن البكاء من خشية الله مفتاح الرحمة (¬2). وقال محمَّد بن واسع رحمه الله: بلغنا أن الباكي مرحوم (¬3). وقال الحسن رحمه الله: بلغنا أنَّ الباكي من خشية الله مرحوم يوم القيامة (¬4). وقال فرقد السبخي: قرأت في بعض الكتب: قل للبكائين من خشية الله عز وجل: أبشروا؛ فإنكم أول من تنزل عليه الرحمة إذا نزلت (¬5). وقال رشدين (¬6) بن سعد عن بعض أصحابه: قرأت في بعض الكتب: قل للمريدين من عبادي فليجالسوا البكائين من خشيتي؛ لعلي أصيبهم برحمتي إذا أنا رحمت البكائين (¬7). وقال الحسن: لو بكى عبد من خشية الله عز وجل لرحم من حوله ولو ¬
كانوا عشرين ألفًا (¬1). وقال هو، وشهر بن حوشب رحمهما الله تعالى: لو أنَّ عبدًا بكى في ملأ من الناس لرحموا ببكائه (¬2). روى هذه الآثار ابن أبي الدنيا في كتاب "الرقة والبكاء". واعلم أنَّ البكاء النافع الداعي إلى الرحمة هو البكاء من خشية الله، ومحله القلب، وقد يكون الباعث عليه رؤية الآثار بالبصر، أو سماع الأخبار والعبر، أو تذكر الأحوال والفكر، وهو من أعمال أفضل أعضاء البشر، ولها رابع وهو اللسان، وقد يكون عمله باعثًا على البكاء أيضًا، وسلطانها القلب، والثلاثة وزراؤه ونصراؤه، فإذا صلحت هذه الأربعة عمرت مدينة إنسانيته، وقد نهى الله تعالى ما دون اللسان منها إلى [التلهي عن] ما خلق له، وعاتب أصحابها على [إيقافها] (¬3) عن أدائها بقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. روى البيهقي في "شعبه"، وغيره عن عبد الله بن جراد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ الأَعْمَى مَنْ يَعْمَى بَصَرُهُ، وَلَكِنَّ الأَعْمَى مَنْ ¬
تَعْمَى بَصِيرَتُه" (¬1) وقد تبيَّن أن اللسان والسمع والبصر لا فائدة للإنسان فيها إلا إذا توافقت مع القلب الصالح، وإلا شارك فيها البهائم وصار من أهل النار. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. *** ¬
فصل
فَصْلٌ أولو الألباب من الأولياء والصالحين على قسمين: صديقون، وأبرار. فإما الصديقون، فهم الذين لا يريدون من الله غيره، وسيأتي الكلام على أخلاقهم، وهم أشرف الأولياء، وأكمل الصالحين، وأعقل أولي الألباب. وأمَّا الأبرار فهم الذين لا يريدون من غيره شيئًا، ولكن يريدونه، ويريدون منه ثوابه المعدَّ لهم في الآخرة، وهي إرادة محمودة لقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]. وذكر سبحانه الأبرار، وما أعد لهم، ثم قال: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 22]. وقال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]. وينبغي أن نذكر جملة من أخلاقهم وأعمالهم، وإن كانت داخلة في أخلاق الصالحين والأولياء وأعمالهم، أو هي هي؛ فإن العمل الصالح
والخلق الحسن إذا كان مضافاً إلى قوم ممدوحين كانت النفس أرغب فيه من هذه الحيثية، وإن كان هو في نفسه محبوبًا وفيه مرغوبًا. وقد أثنى الله تعالى على قوم طلبوا الحشر مع الأبرار، وسماهم أولي الألباب، فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191] إلى قوله - حكايته عنهم -: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193]؛ أي: مصاحبين لهم، معدودين في زمرتهم، وذلك يدل على أنهم كانوا معهم في الدنيا, ولو بالأعمال والمحبة. ونقل القرطبي في "تفسيره" قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27] عن مالك بن دينار رحمه الله قال: إنك أن تنقل الأحجار مع الأبرار، خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجَّار، وأنشد: [من الطويل] وَصاحِبْ خِيارَ النَّاسِ تَنْجُ مُسَلَّماً ... وَصاحِبْ شِرارَ النَّاسِ يَوْما فَتَنْدَما (¬1) وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن طلحة بن يحيى قال: كنت ¬
جالسا عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فدخل عليه عبد الأعلى بن هلال، فقال: أبقاك الله يا أمير المؤمنين ما دام البقاء خيراً لك، قال: قد فرغ من ذلك يا أبا النضر، ولكن قل: أحياك الله حياة طيبة، وتوفاك مع الأبرار (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن إسماعيل بن عبيد الله: أنَّ أبا الدرداء - رضي الله عنه - كان يقول: اللهم توفني مع الأبرار، ولا تبقني مع الأشرار (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان بعضنا يدعو لبعض: جعل الله عز وجل عليكم صلاة قوم أبرار يقومون الليل، ويصومون النهار، ليسوا بأثَمَةٍ ولا فجار (¬3). ورواه ابن السُّنِّي، ولفظه: كان أحدنا إذا دعا لأخيه فاجتهد قال: جعل الله عليك صلاة قوم أبرار يقومون الليل، ويصومون النهار، ليسوا بأَثَمَةٍ ولا فجار (¬4). وروى أبو نعيم عن مغيرة قال: كنا إذا قلنا لعبد الرحمن بن أبي نعم: كيف أنت يا أبا الحكم؟ قال: إن نكن أبراراً فكرام أتقياء، وإن نكن فجاراً فلئام أشقياء (¬5). ¬
وروى الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: من ينصف الناس من نفسه، يعطى الظفر في أمره، والذل في الطاعة، أقرب إلى البر من التعزز في المعصية (¬1). وقد أمرنا الله تعالى بالبر والتعاون عليه بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. قال القشيري - رضي الله عنه - في الآية: البر فعل ما أمرت به، والتقوى ترك ما نهيت عنه (¬2). وهو مروي عن الربيع بن أنس. أخرجه عبد بن حميد (¬3). وأراد رحمه الله تعالى بهذا التفسير دفع المغايرة بين اللفظين، المستلزمة للتكرار، وإلا فإن التقوى في الأصل بمعنى الحذر، والبر هو "الإحسان قولًا وعملًا ونية، والحذر من المعصية داخل فيه؛ فالتقوى من البر، والبر هو الإحسان؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33]؛ فالمحسنون هم الصالحون، وقد علمت محل التقوى بهم، وهم الأبرار -أيضًا- كما علمت. وقال الله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189]؛ أي: بر من أتقى. ¬
وفيه: أن الإحسان الصوري ليس معتدًا به حتى يكون مقرونا بتقوى القلب، ولذلك جمع الله بينهما في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. واعلم أنَّ الله تعالى أمرنا في هذه الآية بالبر والتقوى، ولم يذكر ثوابهما فيها، وإنما ذكره في آيات أخر، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]. قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى في هذه الآية: اتقوا فيما نهاهم الله عنه، وأحسنوا فيما أمرهم الله به. وهذا أعم مما رواه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية: اتقوا فيما حرم الله عليهم، وأحسنوا فيما افترض الله عليهم (¬1). وهو موافق لما ذكره القشيري في الآية السابقة. والمراد بهذه المعية معية الكَلأَة والحفظ، بحيث يكون العبد بالله في حركاته وسكناته، لا معية القدرة المشار إليها في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]؛ فإنها قد تكون للإضلال والانتقام. قال ممشاء الدينوري - رضي الله عنه -: رأيت ملكا من الملائكة يقول لي: من ¬
كان مع الله فهو هالك إلا رجلًا واحدًا، قلت: ومن هو؟ قال: من كان الله تعالى معه. وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]. فمن تشبه بالأبرار والمحسنين كان الله تعالى معه بالكلأة والحفظ والمعونة؛ لأنه كان مع الله بالبر والحفظ لحقوقه، فكان الله له في سائر أموره جزاءً وفاقا من جنس العمل {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]. وقيل: ما جزاء من يحب إلا أن يُحب. وقال الله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]. وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن سليم بن أخضر قال: أردت السفر إلى مكة، فأتيت ابن عون لأودعه، فقال: يا سليم! اتقِ الله، وعليك بالإحسان؛ فإن المحسن معانٌ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] (¬1). وروى أبو نعيم عن عبد المعز بن سليمان، عن مالك بن دينار، قال: كنت عند أنس - رضي الله عنه - إذ جاءه شيخ، فاستأذن عليه، فقام وتوكأ على عصاه من الكبر، فقال: يا أبا حمزة! لقد أعهدك بين ظهراني قوم ليسوا ¬
كقوم أنت بين ظهرانيهم اليوم، قال: يا أخي! {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (¬1). وفي كلامه إشارة إلى أن المحسن في حفظ الله ومعونتهِ، سواء كان في محسنين أو غيرهم، وسواء كان في زمان صالح، أو غير صالح، فلا يمنع كدر الزمان، وقلة الخير حفظ الله إياهم، ومعونته لهم، وإنهم لا يضامون كيف كانوا، ومتى كانوا. وقال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26]. روى ابن أبي شيبة، والدارقطني في "الرؤية"، وآخرون عن أبي بكر الصديق، وعن حذيفة، وابن مردويه عن علي بن أبي طالب، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهما عن أبي موسى الأشعري، والبيهقي في "الأسماء والصفات"، وغيره عن ابن عباس، وابن أبي حاتم، واللالكائي في "السنة" عن ابن مسعود، والدارقطني عن قتادة، وعن الضحاك، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعن عامر بن سعد البجلي، وعن السدي، وعن أبي إسحاق السبيعي، وعن عبد الرحمن بن سابط: أنَّ {الْحُسْنَى}: الجنة، و {وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]: النظر إلى وجه الله تعالى (¬2). ¬
ورواه الدارقطني عن أبي موسى، وعن أبي بن كعب، وعن أنس، واللالكائي، والبيهقي في "الاعتقاد" (¬1) عن كعب بن عجرة، وابن مردويه عن ابن عمر، وأبو الشيخ عن أبي هريرة، والدارقطني، وابن مردويه عن صهيب - رضي الله عنه - مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وهو حديث صهيب عند مسلم، والترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، وغيرهم: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا ¬
هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنّةِ الجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَارَ نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ! إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ مَوعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزكُمُوهُ, فَيقولُونَ: وَمَا هُوَ؟ ألمْ يُثَقِّلْ مَوَازِيْنَنَا، وَيُبيِّضْ وُجُوهَنَا، ويُدخِلْنَا الجَنَّةَ، وُيزَحْزِحْنَا عَنِ النَّارِ؟ قَالَ: فَيُكْشَفُ لَهُمُ الحِجَابُ، فَينظُرُونَ إِليْه، فَوَاللهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَيْهِ" (¬1). وقال الله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30، 31]. وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114، 115]. وهذه الآية تلويح بأن البر والإحسان يكفر الإساءات والفجرات، وأنَّ المحسن لا بد أن يُوفَّى أجره، إلا أن للثواب أجلاً، فهو يحتاج إلى الصبر على أمر الله تعالى، وبالصبر تمام البر والإحسان. ومن الآيات الواردة في ثواب الأبرار -وهم أهل "الإحسان بأعيانهم- ¬
قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 22، 23]؛ أي: ينظرون إلى ما يسرهم، أو إلى الله تعالى، وهو موافق لما ذكره في جزاء المحسنين من تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى. ثم قال عز وجل: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 24 - 26]، وفيه إرشاد إلى مشاركة الأبرار في برهم لتحصل المشاركة في ثوابهم. قال تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 27، 28]. قال ابن عباس: تسنيم: أشرف شراب أهل الجنة، وهو صرف للمقربين، وممزوج لأصحاب اليمين. رواه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي (¬1). وقال ابن مسعود في قوله: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ}: عين في الجنة تمزج لأصحاب اليمين، ويشربها المقربون صرفًا. رواه ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬2). ¬
وقال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: تسنيم: عين في عدنٍ يشرب بها المقربون صرفًا، وتجري تحتهم أسفل منهم إلى أصحاب اليمين، فيمزج بها أشربتهم كلها؛ الماء، والخمر، واللبن، والعسل، يطيب بها أشربتهم. رواه ابن المنذر (¬1). وأصحاب اليمين هم الأبرار، والمقربون هم الصديقون، كما سيأتي، وهم أفاضل أهل الجنة، فلذلك كان شرابهم أفضل شراب الجنة. قال عكرمة: التسنيم أفضل شراب أهل الجنة، ألم تسمع يقال للرجل: إنه لفي سنام من قومه؟ رواه عبد بن حميد (¬2). وقال الله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} [آل عمران: 198]، وهم الذين اتقوا ربهم فبروه، وأطاعوه. وفي قوله: {فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} من التخصيص والتشريف ما لا يخفى. والنزل: ما أُعِدَّ للنازل من طعام، أو شراب، أو صلة. وقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} إلى قوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} إلى قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ¬
ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 5 - 20]. قال مجاهد: هو استئذان الملائكة عليهم لا يدخل عليهم إلا بإذن. رواه ابن جرير، والبيهقي، وغيرهما (¬1). قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 21، 22]. قال قتادة: لقد شكر الله سعيا قليلاً. رواه عبد الرزاق، وابن جرير (¬2). أشار قتادة إلى أن البَرَّ مهما عمل في الدنيا من أعمال البِر، فإنه قليل بالنسبة إلى ما يقابله من ثواب الآخرة، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، وهذا لأن الله تعالى من كرمهِ يقبل القليل، ويجازي عليه بالكثير. وقال الله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27]، فخَّم أمرهم، وعظم شأنهم، والمراد بهم الأبرار؛ لأنه قسَّمَ في هذه السورة إلى ثلاثة أقسام: السابقين وهم المقربون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، فوصف ما للمقربين، ثم وصف ما للأبرار بقوله: {(27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} ¬
{وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} [الواقعة: 27 - 39]. قال أبو بكرة - رضي الله عنه -: هما جميعًا من هذه الأمة. رواه أبو داود الطيالسي، وغيره (¬1). وأخرجه عبد الرزاق، وغيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬2). وإنَّما سمي الأبرار أصحاب اليمين لوقوعهم في اليمين من القبضتين؛ أي: المباركة. روى الإِمام أحمد عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أن رسول - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية: " {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27]، {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة: 41]، فقبض بيديه قبضتين، فقال: هَذهِ في الجَنَّةِ وَلا أُبَالِي، وَهَذ في النَّارِ وَلا أُبَالِي" (¬3). وروى هو، والبزار، والطبراني، والآجري في "الشريعة" عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ جَلَّ ذِكْرُهُ يَومَ خَلَقَ ¬
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَبَضَ مِنْ صُلْبِهِ قَبضَتَيْنِ، فَوَقَعَ كُلُّ طَيِّبٍ في يَمِيْنهِ، وَكُلُّ خَبِيْث بِيَدهِ الأُخْرَى، فَقَالَ: هَؤُلاءِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ وَلا أُبالِي، وَهَؤُلاءِ أَصْحَابُ النَّارِ وَلا أُبَالِي، ثُمَّ أَعَادهمْ في صُلْبِ آدَمَ، فَهُمْ يَنْسِلُونَ عَلى ذَلِكَ إِلى الآن" (¬1). وروى الإِمام مالك في "موطئه"، والإمام أحمد، والبخاري في "تاريخه"، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وآخرون عن مسلم ابن يسار الجهني رحمه الله: أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سُئِلَ عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عنها، فقال: "إِنَّ الله خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِيْنهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ يعْمَلُون، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَاستَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ"، فقال الرجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟ فقال: "إِن الله إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوْتَ عَلى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَيُدْخِلَهُ اللهُ الجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلى ¬
عَمَل مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّار، فَيُدْخِلَهُ اللهُ النَارَ" (¬1). وروي حديث القبضتين عن ابن عباس، وأبي أمامة، وهشام بن حكيم، وابن عمرو، وعبد الله بن أبي قتادة السلمي، وأبي الدرداء، وأبي سعيد الخدري، وابن عمر، وأبي هريرة، وأنس، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم (¬2). والمقربون -وهم السابقون، والصديقون، والمصطفون الأخيار- خواص أصحاب اليمين والأبرار، إلا أنهم استخلصوا منهم، وخصُّوا، فتميزوا عنهم بهذه الأوصاف. وأول البر التوفيق من الله تعالى إليه، وقد قيل في الحكم: التوفيق خير قائد (¬3). فإذا استنارت القلوب بتوفيق الله تعالى، واستضاءت بالتصديق به، أبصرت، فأرسلت الجوارح في البر، كما قال أبو بكر محمَّد بن حامد الترمذي رحمه الله تعالى: إذا تمكنت الأنوار في السر، نطقت الجوارح بالبر. رواه السلمي في "طبقاته" (¬4). ¬
وأعظم أخلاق الأبرار حسن الخلق؛ لما رواه مسلم، والترمذي عن النواس بن سَمعان - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم، فقال: "البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ [في] صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ النَّاسُ عَليْهِ" (¬1). وروى الإِمام أحمد، وأبو نعيم عن وابصة بن معبد - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألته عنه، فجعلت أتخطى، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: دعوني [فدنوتُ (¬2) منه، فإنه من أَحَبِّ الناس إلى أن أَدْنُوَ منه. فقال لي: "ادْنُ، يا وَابِصَةُ! " فَدَنَوْتُ حتى مَسَّتْ ركبتي رُكْبَتَهُ. فقال: "يا وَابِصَةُ! أُخْبِرُكَ ما جِئْتَ تسألني عنه؟ " فقلت: أخبرني يا رَسُولَ اللهِ! ، قال: "جِئْتَ تسألني عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ"، قلت: نعم، قال: فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ ثمَّ جَعَلَ يَنْكُتُ بها في صدري، وَيقُولُ: "يا وَابِصَةُ! اسْتَفْتِ قلبَكَ، استفتِ نفسَكَ، الْبِرُّ ما اطْمَأَنَّ إليه الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إليه النَّفْسُ، وَالإِثْمُ ما حَاكَ في الصَّدْرِ، وَتَرَدَّدَ في النَّفسِ، وإن أَفْتَاكَ الناس وَأَفْتَوْكَ] " (¬3). ¬
وروى الترمذي، والحاكم، والطبراني -بسندين جيدين- عن أبي عامر الأشعري -ويقال: المسكوني- رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله! ما تمام البر؟ قال: "أَنْ تَعْمَلَ في السِّرِّ عَمَلَ العَلانِيَةِ" (¬1). ومعناه: إخلاصُ القلب في سائر الأعمال. وإليه الإشارة بقوله تعالى حكايته عن الأبرار: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9]. وأعظم أعمال الأبرار: الصلاة. ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاةٌ عَلى إِثْرِ صَلاةٍ لا لَغْوَ بَيْنَهُما كِتابٌ في عِليّينَ". رواه الإِمام أحمد، وأبو داود عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه (¬2). وكلُّ ما كان مكتوبا في عليّين فهو من أعمال البر لقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 18 - 21]. وروى ابن أبي شيبة عن مكحول رحمه الله تعالى بلاغا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَينِ قَبلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ كُتِبَتْ صَلاتُهُ في عِلِّيِّينَ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" -بسند قريب- عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "منْ تَوَضَّأَ ثُمَّ أتى الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَينِ قَبْلَ الفَجْرِ، ثُمَّ جَلَسَ حَتَّى يُصَلِّيَ الفَجْرَ، كُتِبتْ صَلاتُهُ يَوْمَئِذِ في صَلاةِ الأَبْرارِ، وَكُتِبَ في وَفْدِ الرَّحْمَنِ" (¬2). وفي "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: "اهْجُرِي الْمَعاصِيَ؛ فَإِنَّها خَيْرُ الْهِجْرَةِ، وَحافِظِي عَلى الصَّلَواتِ؛ فَإِنَّها خَيْرُ البِرِّ" (¬3). وروى سعيد بن منصور في "سننه" عن أبي عمار رحمه الله تعالى -مرسلاً- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا قامَ العَبْدُ في صَلاتِهِ ذُرَّ البِرُّ عَلى رَأْسِهِ حَتَّى يَرْكَعَ، فَإِذا رَكَعَ ذُرَّتْ عَلَيهِ الرَّحْمَةُ حَتَّى يَسْجُدَ، وَالسَّاجِدُ يَسْجُدُ عَلى قَدَمَيْ اللهِ؛ فَلْيَسْأَلْ وَلْيَرْغَبْ". والمراد بالبر هنا: "الإحسان من الله تعالى المجازى به العبد على الصلاة التي هي أفضل البر، والقدم من الصفات الواردة. ¬
وفيها المذهبان: التصديق مع التسليم (¬1). والمراد: المبالغة في تقريب العبد إلى الله تعالى بالسجود لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبهِ إِذا كانَ ساجِداً" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: كان الأبرار يتواصون بثلاث: سجن اللسان، وكثرة الاستغفار، والعزلة (¬3). وروى الدارقطني في "الأفراد"، والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ أَبْوابِ البِرِّ الصَّدَقَةُ" (¬4). وهي شاملة لكل نفقة، وإذا كانت مما يحب العبد فهي أفضل. قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92]. روى الإمامان؛ مالك وأحمد، والشيخان؛ البخاري، ومسلم، والنسائي، وغيرهم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان أبو طلحة رضي الله تعالى عنه أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله ¬
إليه بَيْرُحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قال أبو طلحة: يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذخرها عند الله؛ فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاكَ مالٌ رابحٌ، ذاكَ مالٌ رابحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ ما قُلْتَ، وَإِنيِّ أَرى أَنْ تَجْعَلَها في الأَقْرَبِينَ". فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه (¬1). وروى ابن جرير، وابن المنذر، والثعلبي عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى في قتال سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، فدعا بها عمر، فأعجبته، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: إن الله تعالى يقول؛ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، فأعتقها عمر (¬2). ¬
وروى البزار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: حضرتني هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] فذكرت ما [أ] عطاني الله، فلم أجد شيئًا أحب إلى من مرجانة -جارية لي رومية- فقلت: هي حرة لوجه الله تعالى، فلو أني أعود في شيء جعلتُه لله لنكحتها، فأنكحها نافعًا (¬1). وروى الإِمام أحمد في "الزهد"، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قرأ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وهو يصلي، فأتى على هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وأعتق جارية له وهو يصلي؛ أشار إليها بيده (¬2). و[روى] ابن المنذر عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يشتري الشُكر، فيتصدق به، فنقول له: [لو] اشتريت لهم بثمنه طعامًا كان أنفع لهم من هذا. فيقول: إني أعرف الذي تقولون، ولكني سمعت الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، [وابن عمر يحب السكر] (¬3). ¬
وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن الربيع بن خُثيم رحمه الله تعالى: أن سائلًا وقف ببابه، فقال: أطعمني سكرًا. فقالوا: ما يصنع هذا بسكر؟ نطعمه خبزاً أنفع له. قال: ويْحَكُم! أطعموه سُكَّرًا؛ فإن الربيع يُحِبُّ السكر (¬1). وعنه أيضًا: أن سائلاً جاءه في ليلة بردة، فخرج إليه، فرآه كأنه مقرور، فقال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، فنزع برتشاً له، فأعطاه إياه (¬2). والنفقة في الآية شاملة الصدقة على المحتاجين وعلى غيرهم، وعلى الأقارب وعلى غيرهم، وعلى الأرقاء وعلى غيرهم، وعلى الجيران وعلى غيرهم، ثم هي على الأقارب والجيران والمحتاجين أفضل، وفي حديث أنس (¬3) إشارة إليه. وروى أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن بشر بن الحارث أنه قال: ليس شيء من أعمال البر أحبَّ إليَّ من السخاء، ولا أبغضَ إليَّ من الضيق وسوء الخلق (¬4). ¬
والكلام الثاني منقطع عن الكلام الأول؛ فليس الضيق وسوء الخلق من أعمال البر في شيء. وتقديره: ولا من أعمال الإثم شيء أبغض إلى من الضيق وسوء الخلق. واختلف المفسرون في قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا} [آل عمران: 92]؛ فقال ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، ومسروق، وعمرو بن ميمون، والسدي: البر: الجنة (¬1). والتقدير على هذا القول: لن تنالوا ثواب البر؛ أي: لن تصلوا إلى الجنة، وتعطَوها حتى تنفقوا مما تحبونه؛ أي: تؤدوا زكاة أموالكم والحقوق التي فيها عليكم من أحبها إليكم. وقال عطية العوفي في البر: الطاعة. وقيل: العمل الصالح. وقال الحسن: البر: أن تكونوا أبرارًا (¬2). هذه الأقوال الأربعة متقاربة المعنى. قلت: ولقد بين الله تعالى البر، وليس بعد بيانه بيان؛ فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ ¬
بِاللَّهِ} [البقرة: 177] أي: برُّ من آمنَ بالله، كما يقال: الجود حاتم؛ أي: جود حاتم، والفصاحة قيس. أو التقدير: ولكن ذو بر من آمن بالله، كما في قوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 163]؛ أي: ذوو درجات عند الله. والأول أبلغ وأحسن؛ أي: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} [البقرة: 177] برُّ {مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177]؛ أي: صدق {بِاللَّهِ} [البقرة: 177]، {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. وبهذه الآية يُستدلُّ لما قاله محمَّد بن أحمد بن حمدون الفراء رحمه الله تعالى حين قيل له: مَن الأبرار؟ فقال: هم المتقون (¬1). وقال قتادة: ذُكر لنا: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر، فأنزل الله عليه هذه الآية. رواه ابن جرير، وغيره (¬2). وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن أبي ميسرة رحمه الله تعالى قال: من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان: {لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة: 177] الآية (¬3). ¬
وفي "مصنف عبد الرزاق" عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، فقرأ: {لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة: 177] الآية (¬1). وروى ابن أبي حاتم، والحاكم -وصححه- عنه: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان, فتلا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177] حتى فرغ منها. ثم سأله فتلاها، وقال: "وَإِذا عَمِلْتَ حَسَنَةً أَحَبَّها قَلْبُكَ، وإِذا عَمِلْتَ سَيئةً أَبْغَضَها قَلْبُك" (¬2)؛ يعني: إن ذلك من علم الإيمان. ومن تمام البر أن تحب الحسنة وتسر بها، وتبغض السيئة وتساءَ بها، وتستغفر الله منها. وفيه سعة عظيمة: أن ارتكاب السيئات لا يطعن في الإيمان ولا في البر ما دام العبد يساء بها. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا أَسَرَّتكَ حَسَنتكَ، وَساءَتْكَ سَيِّئتُكَ، فَأَنْتَ مُؤْمِن". رواه الإِمام أحمد، وابن حبان، والحاكم -وصححاه- والطبراني في "الكبير"، والضياء المقدسي في "المختارة" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "مَنْ سَرتْهُ حَسَنتهُ وَساءَتْهُ سَيئتهُ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ" (¬3). ¬
وقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]؛ أي: على حب المال. رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى (¬1). وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]: يعطي وهو صحيح شحيح، يأمل العيش ويخاف الفقر. رواه ابن المبارك في "الزهد"، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والمفسرون، وصححه الحاكم موقوفًا ومرفوعًا (¬2). ويؤيده ما رواه الشيخان، وأبو داود، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيح شَحِيح، تأمَلُ البَقاءَ وَتَخْشَى الفَقْرَ، وَلا تُمْهِلَ حَتَّى إِذا [بَلَغَتِ] الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذا، لِفُلانِ كَذا؛ أَلا وَقَدْ كانَ لِفُلانٍ" (¬3). قلت: وفي قوله: {عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]؛ يعني: المال: إشارةٌ إلى أن محبة المال لا تناقض البر، ولا تُخرج العبد عن كونه بارًّا إلا إذا ¬
[منعه] (¬1) حب المال عن إنفاقه فيما يجب عليه كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 17 - 20]. قال ابن عباس، وقتادة: أي: شديدًا. رواهما ابن جرير (¬2). وقال الحسن في قوله: {أَكْلًا لَمًّا} [الفجر: 19]: من طيب، أو خبيث. وفي قوله: {حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]؛ فاحشًا. رواه ابن أبي حاتم (¬3). وعليه يحمل حديث الحسن مرسلاً: "حُبُّ الدُّنْيا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ". رواه البيهقي في "الشعب" (¬4). ويحتمل أن يكون معناه: أول كل خطيئة، أو: مبدؤها. وروى الطبراني -بإسناد حسن- عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "منْ أُشْرِبَ حُبَّ الدُّنيا الْتاطَ مِنْها بِثَلاثٍ: شَقاءٍ لا يَنْفَدُ عَناؤُهُ، وَحِرْصٍ لا يَبْلُغُ غِناهُ، وَأَمَلٍ لا يَبْلُغُ مُنْتَهاه" (¬5). وأما قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8]؛ فقال مجاهد: ¬
وهم يشتهونه. رواه البيهقي في "شعبه"، وغيرها، وفهم ذلك غيره من المفسرين (¬1). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن أم الأسود سُرِّيةِ الربيع بن خُثيم قالت: كان الربيع يعجبه السكر يأكله، فإذا جاءه السائل ناوله، فقلت: ما يصنع بالسكر؟ الخبز خير منه. فقال: إني سمعت الله يقول: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] (¬2). وعنده أنه يجوز أن يكون الضمير في قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] عائدًا إلى اسم الله تعالى لتقدمه في قوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6]؛ أي: يطعمون الطعام لأجل محبة الله تعالى {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8، 9]. قال مجاهد: لم يقل القوم ذلك حين أطعموهم، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى عليهم به ليرغب فيه راغب. رواه البيهقي، وغيره (¬3). وروى إسحاق الختلي في كتاب "الديباج" عن ثور بن يزيد قال: مكتوب في بعض الكتب: القلب المحب لله يحب النَّصَب لله (¬4)؛ فلا ¬
تظن يا ابن آدم أن قدرك رفعه البر بغير مشقة. وروى ابن أبي الدنيا في "الإخلاص" عن داود الطائي رحمه الله تعالى قال: البر همة التقي (¬1)؛ ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يوما نيته إلى أصله (¬2). وقال ابن عطاء في قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]: لن تصلوا إلى القربة وأنتم متعلقون بحظوظ أنفسكم (¬3). ويجمع بينه وبين كلام الطائي بأنه في حال تعلق قلبه بالحظوظ لا بر له، غير أن لقلبه تعلقًا بربه في أصل الفطرة، فهذا لاحظته عين العناية تحركت دواعي الإيمان من قلبه فردته إلى أصل فطرته، كفرت ذنوبه فظهرت حظوظه، فإن غلب عليه ذلك فهو بَرٌّ، وإن استقام عليه فهو صِدِّيق. وأقول: إنما كان نيل البر بإخراج بعض الباب وإنفاقها لأن الإيمان عبارة عن التصديق بالله، وبربوبيته وألوهيته، ولا يتم ذلك إلا بمحبته بدليل أن العبد لا يؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما في الحديث الصحيح (¬4)؛ فالمؤمن يدعي المحبة بإيمانه لأنها من لوازم ¬
الإيمان, فلا يبر في دعواه إلا بإخراج بعض محابه من قلبه لأجل الله تعالى. وعليه: فالبر في الآية بمعنى الصديق، كما يقال: بَرٌّ في يمينه؛ أي: ذا صدق. ويظهر حينئذ حبه تسمية كل طاعة بر لأنها تظهر بر صاحبها؛ أي: صدقه في دعواه الإيمان والمحبة كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الرقة والبكاء" عن مضر رحمه الله تعالى قال: اجتمعنا ليلة على الساحل ومعنا مسلم أبو عبد الله، فقال رجل من المار: [من الكامل] ما لِلْمُحِبِّ سِوى إِرادَةِ حِبِّهِ ... إِنَّ الْمُحِبَّ بِكُلِّ خَيْرٍ يَضْرَعُ (¬1) قال: فبكى مسلم حتى خشيت أن يموت. وقوله: سوى إرادة حِبِّه؛ أي: ما لَهُ سوى مراد حِبِّه وإن خالف مراد نفسه كما قيل: [من الوافر] أُرِيدُ وِصالَهُ وُيرِيدُ هَجْرِي ... فَأَتْرُكُ ما يُرِيدُ لِما يُرِيدُ (¬2) ¬
فهو أبدًا متضرع إلى الله، متوسل إليه بكل عمل صالح طلبًا لرضى مولاه كما قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]. فالأبرار هم المريدون لوجه الله تعالى، ولَمَّا أرادوا وجهه سبحانه وتعالى دون غيره عوضهم عما [أ] عرضوا عنه في الدنيا لوجهه بما عنده في الآخرة كما قال الله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]. [ ... ] (¬1) بعباده قوله: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. وأتى بـ: (من) التبعيضية؛ أي: بعض ما تحبون. ولو قال: حتى تنفقوا ما تحبون، لكان الأمر في غاية الشدة، فما أنفقوه أنفقوه لأمره، وما أمسكوه أمسكوه للقيام بأمره؛ فإنهم وما يملكون ويحبون لله تعالى، وتصرفهم فيما بأيديهم للخلافة عنه كما قال {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]. والمحققون من العارفين يقولون: كل محبوب لنا هو المراد إنفاقه منا؛ فمنهم من خرج عن كل محبوباته، واقتصر على حاجته والضرورة، كما فعل أبو بكر رضي الله تعالى عنه حين تصدق بكل ماله لله تعالى، وكذلك فعل كثير من المهاجرين كأهل الصُّفة رضي الله تعالى عنهم. ومنهم من عمد إلى أحب أمواله إليه، فخرج عنه لله تعالى كما فعل ¬
عمر، وابنه، وأبو طلحة فيما نقلناه عنهم آنفًا. ومنهم من فهم أن المراد بالبعض المراد إنفاقه من المحبوبات هو نفس العبد المنفق، ومعنى إنفاقها: بذلها في طاعة الله تعالى في كل أحوالها وأوقاتها، وإذا خرجت عن نفسك [ .... ] (¬1) ما كان لها صار تبعًا لها لأن العبد وماله لسيده. ولذلك قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: بذل الْمُهَج يصل العبد إلى بر حبيبه وقُرب مولاه، ثم قرأ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] (¬2). وقال أبو القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه: لن تنالوا محبة الله حتى تسخوا بأنفسكم لله (¬3). وقال يحيى العلوي رحمه الله تعالى: أحب الأشياء إليك روحك؛ فاجعل حياتك نفقة عليك لكي تنال برَّ الله لك (¬4). نقل هذه النصوص السلمي في "حقائقه". وقد قلت: قمت من الأبوابِ أَقْصِدُ سادَتي ... وَجِئْتُ إِلَيْهِمْ وافِيًا بِأمانتَي ¬
[ ............... ] وَقالَ ... وحَالٍ وقالٍ وَافتِقارٍ وفاقَتِي وَمِنْ بَعْدِها وافَيْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمُ ... بِرُوحِي كَما شاؤُوا عَلى كُلِّ حالَةِ فَإِنْ يَقْبَلُوا مِنِّي فَمِنْ بَعْضِ فَضْلِهِمْ ... وَإِلا فَما قَدْرِي وَقَدْرُ بِضاعَتِي عَلى أنَّها في الأَصْلِ مِنْ فَيْضِ جُودِهِمْ ... بِها أَنْعَمُوا مِنْ قَبْلُ قَبْلَ البِدايَةِ فَلا أَعِزُّ وَإِن عادَتْ إِلَيْهِمُ وَإِنْ رَضُوا ... إِلَيْهِمْ مَصِيرًا مِنْ عِنْدِ النِّهايَةِ رُدَّتْ أَماناتٌ لِلْكِرامِ [ .... ] ... قِيامًا بِطاعاتٍ لَهُمْ وَعِبادتي وَجائِزتي مِنْهُمْ رِضاهُمُ وَحَيْثُما ... رَضوني فَيا فَوْزِي بِهِمْ وَسعادَتِي إِلَهِي أَعِذْنِي مِنْ سِواكَ فَإنَّنَي ... أَرَدْتُكَ قُلْتُ يا رَبِّ فَحَقَقْ إِرادتي وروى الطبراني في "الأوسط" -بسند صحيح - عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُكُمْ راعٍ، وَكُلُكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَأَعِدُّوا
لِلْمَسائِلِ جَواباً". قالوا: وما جوابها؟ قال: "أَعْمالُ البِرِّ" (¬1). وصدق - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الأعمال التي يجاب بها الجواب الذي يخلص المجيب من العهدة في كل حال يسأل عنه من الأحوال المشار إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَزُولُ قَدما عَبْدٍ حَتَّى [يُسْأَلَ] عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمرِهِ فِيما أَفْناهُ، وَعَنْ عَمَلِهِ فِيما فَعَلَ، وَعَنْ مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيما أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيما أَبْلاهُ". رواه الترمذي -وصححه- عن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه (¬2). وروى البزار، والطبراني -بإسناد صحيح - عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزولُ قَدما عَبْدٍ يَومَ القِيامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصالٍ: عَنْ عُمرِهِ فِيما أَفْناهُ، وَعَنْ شَبابِهِ فِيما أَبْلاهُ, وَعَنْ مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيما أنفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ ماذا عَمِلَ فِيهِ" (¬3). وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "لا تَزُولُ قَدما عَبْدِ مِنْ عَبِيدِ رِّبهِ يَومَ القِيامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمرِهِ فِيما أفْناهُ، وَعَنْ شَبابِهِ فِيما أَبْلاهُ، وَعَنْ مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيما أَنْفَقَهُ، وَماذا عَمِلَ فِيما عَلِمَ" (¬1). عدَّها في حديث ابن مسعود خمساً لأنه جعل في المال مسألتين، وجعلها خصلة واحدة في حديث أبي برزة، ومعاذ باعتبار أن المسؤول عنه المال، وهو واحد، والمسؤول عنه في الخصال كلها؛ أي: فيما أفنى عمره وأبلى شبابه من الأعمال، ومن كسبه المال وإنفاقه، وهما من الأعمال، ولذلك سُئل عن العلم: هل عمل به أو لا؟ وقوله في حديث أبي برزة: "فِيما فَعَلَ" معناه: هل فعل ما فعل بعلم أو بجهل؟ فلا ينفعه في كل ذلك إلا أن يجيب بأعمال البر، ولا تكون أعمال برِ إلا بالإخلاص والصدق فيها. وقد سبق في الآية المشار إليها سابقا من أعمال البر أمهاتها. - ومنها: تلاوة القرآن - وهي من جملة الصلاة الْمُثْنَى بإقامتها على الأبرار في الآية المتقدمة - وكتابته. قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 - 16]. ¬
قال قتادة: هم القراء. رواه ابن المنذر. وروى هو وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {سَفَرَةٍ} [عبس: 15]؛ قال: بالنبطية؛ القراء (¬1). ورويا عنه أنه قال: سفرة: كَتَبة (¬2). وروى عبد الرزاق مثله عن قتادة (¬3). ورواه الخطيب في "تاريخه" عن عطاء بن أبي رباح (¬4). وروى الإِمام أحمد، والستة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْماهِرُ بِالقُرْاَنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ" (¬5). وروى الطبراني في "الصغير" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ يَقُومُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ؛ يُحِلُّ حَلالَهُ، وُيحَرِّمُ حَرامَهُ، حَرَّمَ اللهُ لَحْمَهُ وَدَمَهُ على النَّارِ، وَجَعَلَهُ رَفِيقَ السَّفَرَةِ الكِرامِ ¬
البَرَرَةِ؛ حَتَّى إِذا كانَ يَومُ القِيامَةِ كانَ القُرآنُ حُجةً لَهُ" (¬1). وفي "الأوسط" عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما سيدا أعمال أهل البر؟ قال: "إِذا أَصابَكُمْ ما أَصابَ بني إِسْرائِيلَ". قلت: يا رسول الله! وما أصاب بني إسرائيل؟ قال: "إِذا داهَنَ خِيارُكُمْ فُجَّارَكُمْ، وَصارَ الفِقْهُ في شِرارِكُمْ، وَصارَ الْمُلْكُ في صِغارِكُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَلْبَسُكُمْ (¬2) فِتْنةٌ تَكُرُّونَ وُيكَرُّ عَلَيْكُمْ" (¬3). وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا أصاب هذه الأمة هذا الأمر سقط عنهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسبب ما يترتب عليه من الضرر حينئذ، ولا يبقى منه مطلوبًا حينئذ إلا إنكار القلب؛ فإنه لا يسقط عن العبد أصلًا؛ إذ لا ضرر عليه فيه. وروى ابن أبي شيبة عن عبيد بن عمير رحمه الله تعالى قال: من ¬
صِدق الإيمان وبرِّه: إسباغ الوضوء في المكاره، ومن صدق الإيمان وبره: أن يخلو الرجل بالمرأة الأجنبية فيدعها؛ لا يدعها إلا لله (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن محمَّد بن يزيد قال: قرأت في بعض الكتب: قيل للذين يتظامؤون ويتجوعون للبر: أولئك الذين يأوون في حظيرة القدس عندي (¬2). وروى الإِمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، والنسائي عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ مِنَ البِر الصِّيامُ في السَّفَرِ" (¬3). وروى أبو نعيم عن عروة بن رويم رحمه الله تعالى قال: من ركع ركعتي الفجر، ثم صلى صلاة الصبح في جماعة، كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأبرار، وكتب يومئذ في وقد المتقين (¬4). وروى ابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ في قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ فِيما لا يَصْلُحُ، فَبِرُّهُ [أَنْ] لا يتمَّ عَلى ذَلِكَ" (¬5). ¬
وروى الإمامان؛ مالك، وأحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه، والإمام أحمد، ومسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ عَلى يَمِينِ، فَرَأى غَيْرَها خَيْرًا مِنْها، فَلْيَأتِ الّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفرْ عَنْ يَمِينِه" (¬1). وروى الأصبهاني، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: البر شيء هين؛ وجه طليق، وكلام لين (¬2). وزاد بعض الأدباء قبل هذا الكلام "بَنيَّ" مضعَّف "بُنيَّ"، فصار بيتًا منظوما من بحر الرجز. وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصَلاةُ عَلى وَقْتِها". قلت: ثم أي؟ قال: "بِرُّ الوالِدَينِ". قلت: ثم أي؟ ¬
قال: "الْجِهادُ في سَبِيلِ الله" (¬1). قدَّم برَّ الوالدين على الجهاد، ومحله إذا كانا مسلمين. ورويا عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستأذنه في الجهاد، فقال: "أَحَيٌّ والِداكَ؟ ". قال: نعم. قال: "فَفِيهِما [فَجاهِدْ] " (¬2). يا مَنْ لَهُ والِدَةٌ وَوالِدْ ... مَتَى تُجاهِدْ فِيهِما تُجاهِدْ فَإِنَّ مَنْ يَبَرَّ والِدَيهِ أَوْ ... مَنْ كانَ مِنْهُما كَمَنْ يُجاهِدْ رَوى البُخارِي وَمُسْلِمٌ ... عَنِ النَّبِيِّ هَذا وَنِعْمَ الشَّاهِدْ وروى الإِمام أحمد -بسند حسن- عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ في عُمرِهِ، وُيزادَ لَهُ في رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" (¬3). وروى أبو يعلى، والطبراني، والحاكم -وصححه- عن معاذ بن أنس رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ بَرَّ وَالِدَيهِ طُوبَى ¬
لَهُ، زادَ اللهُ في عُمره" (¬1). ومعنى الزيادة في العمر وفي الرزق: أن يكون فيهما بركة بأن يصرف العمر في الطاعة، ويستعان بالرزق عليها؛ فإنَّ من صرف معظم عمره في المعصية أو في البطالة، واستعان برزقه على غير الطاعة، ظهر النقصان في عمره ورزقه. وروى الترمذي -وحسنه- عن سلمان رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَرُدُّ القَضاءَ إلا الدُّعاءُ، وَلا يَزِيدُ في العُمرِ إِلاَّ البِرُّ" (¬2). ويحتمل أن يريد بالبر برَّ الوالدين، فتكون الألف واللام للعهد، ويؤيده حديث معاذ بن أنس. وُيحتمل أن يريد به مطلق البر، وهو"الإحسان مطلقًا، ويؤيده إذا فسرنا الزيادة في العمر بالطاعة، وهي: البرُّ بعينه، فالعمر المصروف في الطاعة أزيدُ من قدره المصروف معظمه، أو بعضه في المعصية أو في الطاعة. وفيه تأويل آخر: أن يكون سبق في قضاء الله تعالى أن هذا العبد إن ¬
برَّ كان عمره كذا، وإلا كان كذا دون ذلك، وكذلك يكون القضاء مشروطاً بترك الدعاء. وسبق في القضاء أنه إن دعا رُدَّ عنه القضاء. وروى الطبراني -بإسناد حسن- عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو وغيره عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بِرُّوا آباءكمْ تَبَرَّكُمْ أَبْناؤُكُمْ، وَعفُّوا تَعِفَّ نِساؤُكُمْ" (¬1). وروى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قال]: "عفُّوا عَنْ نِساءِ النَّاسِ تَعفَّ نِساؤُكُمْ، وَبِرُّوا آباءكمْ تَبَرَّكُمْ أَبناؤُكم" (¬2). وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ وَلَدٍ يَنْظُرُ إِلَى وَالِدَيْهِ نَظْرَةَ رَحْمَةٍ إِلاَّ كتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ نَظْرَةٍ حَجَّةً مَبْرُورَةً". قالوا: وإن نظر كل يوم مئة نظرة؟ ¬
قال: "نعَمْ؛ اللهُ أكبَرُ وَأَطْيَبُ" (¬1). وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا نظرَ الوالِدُ إِلَى وَلَدهِ فَسُرَّ بِهِ، كانَ لِلْوَلَدِ عِتْقُ نسمَةٍ". قيل: يا رسول الله! وإن نظر ستين وثلاثمئة نظرة؟ قال: "اللهُ أكبَرُ مِنْ ذَلِكَ". أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2). وروى البيهقي عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَنَوْمُكَ عَلى السَّرِيرِ بِرًّا بِوالِدَيكِ، فَيَضْحَكانِ، وَيَضْحَكانِ لَكَ، أفضَلُ مِنْ جِهادِكَ في سَبِيلِ الله بِالسَّيْفِ" (¬3). وروى هو والحاكم -وصححه- عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! إني أذنبت ذنبا عظيما، فهل لي من توبة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألكَ والِدانِ؟ ". قال: لا. قال: "أَلَكَ خالةٌ؟ ". ¬
قال: نعم. قال: "فَبِرَّها إِذَن" (¬1). وروى مسلم عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رجلًا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه. قال ابن دينار، فقلنا: له: أصلحك الله! إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير. فقال ابن عمر: إن هذا [أبا] هذا كان ودًّا لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ أَبَرَّ البِرِّ صِلَةُ الوَلَدِ أَهْلِ وِدِّ أَبِيهِ" (¬2). وروى ابن حبان في "صحيحه" عن أبي بردة قال: قدمت المدينة، فأتاني عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقال: تدري لم أتيتك؟ قلت: لا. قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَباهُ في قَبْرِهِ فَلْيَصِلْ إِخْوانَ أَبِيهِ [بعده] "؛ وإنه كان بين أبي عمَر وبين أبيك إخاءٌ، ¬
فأحببت أن أصل ذلك (¬1). وروى البخاري في "الأدب المفرد" عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه قال: والذي بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أُنزل في كتاب الله: لا تقطع من كان يصل أباك؛ فيطفئ بذلك نورك (¬2). وروى الحكيم الترمذي، وابن أبي الدنيا، والبيهقي عن محمَّد بن النعمان -معضلاً- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُل مَنْ زارَ قَبْرَ أَبَوَيهِ أَوْ أَحَدِهِما في كُلِّ جُمُعَةٍ غُفِرَ لَهُ، وَكُتِبَ بَرًّا" (¬3). وأخرجه الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬4). وروى ابن قانع في "معجمه" عن أبي سيد مالك بن زرارة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسْتِغْفارُ الوَلَدِ لأَبِيهِ بَعْدَ مَوْتهِ مِنَ البِرِّ" (¬5). قلت: وفي كتاب الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي ¬
صَغِيرًا} [الإسراء: 24]. وفي قوله: {كَمَا رَبَّيَانِي} [الإسراء: 24] إشارةٌ إلى أن البر والإحسان إلى الوالدين شكرًا لتربيتهما إياه، ولا شك أن من البرّ شكر الصنيعة. روى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن المهاجرين قالوا: يا رسول [الله]! ذهب الأنصار بالأجر كله. قال: "لا؛ ما دَعَوْتُمْ لَهُمْ، [وَ] أثنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ" (¬1)؛ أي: فأنتم كذلك تشاركونهم في الأجر. فالأبوان كانا يحسنان إلى الولد ويرحمانه، ويسألان الله له الخير والرحمة، فأمره الله بالإحسان إليهما والدعاء بالرحمة لهما جزاءً. وكذلك كل محسن، فجزاؤه الإحسان والبر. وروى أبو داود، وابن ماجه عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله! هل يبقى من أبويَّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: "نَعَمْ؛ الصَّلاةُ عَلَيْهِما، وَالاسْتِغْفارُ لَهُما، وإيفاءُ عَهْدِهِما مِنْ بَعْدِهِما، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا تُوْصَلُ إِلاَّ بِهِما، وَإِكْرامُ صَدِيقِهِما" (¬2). وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، وزاد في آخره: قال الرجل: ¬
ما أكثر هذا وأطيبه! قال: "فَاعْمَلْ بِهِ" (¬1). وروى البيهقي، والأصبهاني عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ العَبْدَ لَيَمُوتُ والِداه أَوْ أَحَدُهُما وَإِنَّه لَهُما لَعَاقٌّ، فَلا يَزالُ يَدْعو لَهُما وَيَسْتَغْفِرُ لَهُما حَتَّى يَكْتُبَهُ اللهُ بارًّا" (¬2). والبيهقي عن الأوزاعي رحمه الله تعالى قال: بلغني أن من عق والديه في حياتهما، ثم قضى دينا كان عليهما، أو استغفر لهما, ولم يستسب لهما، كتب بارًا، ومن بر والديه في حياتهما، ثم لم يقض دينًا إذا كان عليهما, ولم يستغفر لهما، واستسب لهما، كان عاقًا (¬3). وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَجَّ عَنْ والِدَيهِ، أَوْ قَضى عَنْهُما مَغْرَمًا، بَعَثَهُ اللهُ أُمَّةً يَومَ القِيامَةِ مِنَ الأَبْرارِ" (¬4). وروى البخاري في "الأدب المفرد"، وعبد بن حميد، وابن أبي ¬
الدنيا في "المداراة"، وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إنما سماهم الله أبراراً لأنهم بروا الآباء والأبناء؛ كما أن لوالدك عليك حقًا، كذلك لولدك عليك حقًا (¬1). ورواه الطبراني، وغيره مرفوعًا (¬2)، والموقوف أصح. وروى ابن أبي الدنيا عن عمران بن عبد الله الخزاعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا رسول الله! من أبرُّ؟ قال: "والِدَيكَ". قال: ليس لي والدان. قال: "بِرَّ وَلَدَكَ" (¬3). وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَعِينُوا أَوْلاكمْ عَلى البِرِّ؛ مَنْ شاءَ اسْتَخْرَجَ العُقُوقَ لِوَلَده" (¬4). ¬
وروى البيهقي، وغيره عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما: أن أباه أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني نَحَلتُ ابنِيَ هذا نِحْلةَ؛ غلامًا كان لي. فقال: "لِكُلِّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَ هَذا؟ ". قال: لا. قال: "أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لَكَ في البِرِّ سَواءَ؟ ". قال: نعم. قال: "فَلا إِذَن". وأصل هذا الحديث في "الصحيحين" (¬1). وفي رواية البخاري قال: "اتَّقُوا الله، وَاعْدِلُوا بَينَ أَوْلادِكُمْ" (¬2). وروى البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء ابنٌ له، فقبَّله وأجلسه على فخذه، وجاءت بُنَيَّة له، فأجلسها بين يديه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا سَوَّيتَ بَيْنَهُمْ" (¬3)! وروى أبو عمرو النوقاني في "معاشرة الأهلين" عن الشعبي ¬
رحمه الله تعالى -مرسلاً- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَ اللهُ والِدًا أَعانَ وَلَدَ عَلى برِّة" (¬1). وأخرجه أبو الشيخ في كتاب "الثواب" عن علي، وابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وإسناده ضعيف (¬2). وقال حجة الإِسلام في "الإحياء": جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، فشكا إليه بعض ولده، فقال له: هل دعوت عليه؟ قال: نعم. قال: أنت أفسدته (¬3) وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذهِ البَناتِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ" (¬4). ¬
وروى أبو داود في "مراسيله" عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَقُّ كَبِيرِ الإِخْوَةِ عَلى صَغِيرِهِمْ كَحَقِّ الوالِدِ عَلى وَلَدهِ" (¬1). وأخرجه أبو الشيخ في "الثواب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأكبَرُ مِنَ الإِخْوانِ بِمَنْزِلَةِ الأَبِ" (¬2). وروى البخاري في "الأدب المفرد" عن كليب بن منفعة قال: قال جدي: يا رسول الله! من أبرُّ؟ قال: "أُمَّكَ وَأباكَ، وَأُخْتَكَ وَأخاكَ، وَمَوْلاكَ الَّذِي يَلِي؛ ذاكَ حَقٌّ واجِبٌّ، وَرَحِمٌ مَوْصُولةٌ" (¬3). وروى الترمذي -وحسنه - عن علي رضي الله تعالى عنه: أن ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيه" (¬1)؛ أي: شقيق أبيه، وأخوه من أصل واحد. وروى الشيخان، والترمذي عن البراء رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْخالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ" (¬2). ولأبي داود نحوه من حديث علي رضي الله تعالى عنه (¬3). وروى البزار -بسند صحيح- عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن جويرية رضي الله تعالى عنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أريد أن أعتق هذا الغلام. قال: "أَعْطِهِ خالَكِ الَّذِي في الأَعْرابِ يَرْعَى عَلَيهِ؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لأَجْرِكِ" (¬4). وقال الله تعالى في وصف الأبرار: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ ¬
لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 7 - 10]. وصفهم بالوفاء بالنذر؛ قال عكرمة: كل نذر في شكر. وقال مجاهد: إذا نذروا في حق [الله]. رواهما عبد بن حميد (¬1). وخوفِ يوم القيامة، وهو يتضمن الإيمان به، والتصديق بما فيه، وإطعام المساكين واليتيم والأسير في عز منه ولا رياء، والمراد: المشرك، كما رواه عبد الرزاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). وروى ابن مردويه، وأبو نعيم عن [أبي] سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]؛ قال: "فَقِيراً"، {وَيَتِيمًا} [الإنسان: 8]، قال: "لا أَبَ لَهُ"، و {وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]؛ قال: "الْمَمْلُوكُ وَالْمَسْجُونُ" (¬3). وقال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12]؛ فوصفهم الله بالصبر، وتقدم أثر عكرمة المتقدم، ووصفهم بالشكر، وهذا شطر الإيمان. وروى عبد بن حميد عن قتادة أنه قال في الآية: الصبر صبران: ¬
صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله (¬1). قلت: وله قسم ثالث، وهو الصبر على بلاء الله تعالى. وسبق في أولي الألباب قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23، 24]. روى أبو الشيخ عن محمَّد بن النصر الحارثي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24]، قال: على الفقر في الدنيا (¬2). وروى هو وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية: صبروا عن فضول الدنيا (¬3). صرف معنى الصبر إلى القناعة، وهي من أخص أوصاف الأبرار. وتعين وصفهم بالصبر وصفهم بالصوم؛ ففي الحديث: "الصَّوْمُ نِصفُ الصَّبْرِ". رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، والترمذي -وحسنه- عن رجل من بني سليم (¬4). وقال تعالى في أصحاب اليمين -وقد علمت أنهم الأبرار-: ¬
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 19 - 24]؛ يعني: الصوم كما رواه ابن المنذر، والبيهقي في "الشعب" عن عبد الله (¬1) بن رفيع رحمه الله تعالى (¬2). وروى ابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ الأَعْمالِ عِنْدَ اللهِ إِيْمانٌ لا شَك فِيهِ، وَغَزْوٌ لا غُلُولَ فِيهِ، وَحَجٌّ مَبْرورٌ" (¬3). وروى الإِمام مالك، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العُمرَةُ إِلَى العُمرَةِ كَفارَة لِما بَينَهُما، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيسَ لَهُ ثَواب إلا الْجَنَةُ" (¬4). والبخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: ¬
يا رسول الله! ترى الجهاد أفضل العمل؛ أفلا نجاهد؟ قال: "لَكِنْ أَفْضَلُ الْجِهادِ حَجٌّ مَبْرورٌ" (¬1). والإمام أحمد، والطبراني عن ماعز رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إِيْمان باللهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ الْجِهادُ، ثُمَ حَجَّةٌ بَرَّةٌ تَفْضُلُ سائِرَ الأَعْمالِ كَما بَيْنَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِها" (¬2). وعن عمرو بن عبسة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ الأَعْمالِ حَج مَبْرورٌ أَوْ عُمرَة مَبْرورَةٌ" (¬3). واختلف في بر الحج والعمرة، والأصح الأشهر -كما قال النووي- أنه الذي لا يخالطه شيء من الإثم (¬4). قلت: ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَجَّ هَذا البَيتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ¬
ذُنُوبِهِ كَيَومَ وَلَدَتْهُ أُمه". رواه الشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (¬1). وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما عَمل أَحَبَّ إِلَيَ مِنْ جِهادٍ في سَبِيلِهِ وَحَجَّةٍ مَبْرورَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ لا رَفَثَ فِيها وَلا فُسوقَ وَلا جِدالَ" (¬2). وقيل: الحج المبرور: المقبول. وقيل: الذي لا رياء فيه ولا سمعة. وهما داخلان في القول الأول. وروى ابن ماجه عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج على رحل رَثٍّ [وقطيفة] تساوي أربعة دراهم، وكان يقول: "اللهُمَّ اجْعَلْها حَجَّةً مَبْرُورَةً لا رِياءَ فِيها وَلا سُمْعَة" (¬3). وروى الإِمام أحمد عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيسَ لَهُ جَزاءً إِلاَّ الْجَنَّةُ". فقيل: يا رسول الله! ما بر الحج؟ ¬
قال: "إِفْشاءُ السَّلامِ، وإطْعامُ الطَّعامِ" (¬1). وفي رواية بدل: "إفشاء السلام": "طِيبُ الكَلامِ" (¬2). وفي رواية: "لِينُ الكَلامِ". قلت: وهذا قدر زائد على خلو [الحج] (¬3) من المأثم. ويجمع ما بين هذا وبين ما سبق بأن أول بر الحج خلوه من الإثم، ثم كما استكثر الحاج من الخير والبر كان أبرَّ. وقيل: الحج المبرور: الذي لا يعقبه معصية. وقال المازري: يحتمل أن يراد أن صاحبه أوقعه على سبيل البر؛ أي: الصدق بأن لا يريد به غيره، أو غير وجه الله تعالى. وقد يقال: إن هذا يرجع إلى القول الثالث. وروى ابن أبي شيبة عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: من حج هذا البيت لا يريد غيره خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه (¬4). ومعنى قوله: لا يريد غيره؛ أي: غير قصد البيت؛ ليخرج من يحج بقصد التجارة، أو نحوها كالتسلية والنزهة. ¬
روى البخاري، وأبو داود، والنسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، ثم يقومون، فيسألون الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] (¬1). فأجمع ما يفسر به البر: التقوى، حتى الاحتراز عن الشبهات بقدر [ .... ] (¬2). قال تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، وأولو الألباب هم الأبرار والصديقون. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتقِينَ حَتَّى يَدَع ما لا بَأسَ بِهِ حَذَراً لِما بِهِ بَأسٌ". رواه البخاري في "تاريخه"، والترمذي -وحسنه- والحاكم وصححه (¬3). وروى أبو نعيم عن طاوس رحمه الله تعالى قال: حج الأبرار على الرحال (¬4). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن سفيان قال: أول ما اتخذت ¬
المحامل زمن الحجاج. قال: وقال أبي: شَيَّعْتُ أمي خرجت حاخة، فما رأيت في القادسية محملاً، إنما الناس على الرحال. قال سفيان: كان يقال: حج الأبرار على الرحال (¬1). وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه دفع مع النبي يوم عرفة، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وراءه زجراً شديدًا، وضربًا للإبل, فأشار بسوط إليهم، وقال: "يا أيها النَّاسُ! عَلَيْكم بِالسَّكِينَةِ؛ فَإِن البِرَّ لَيسَ بِالإِيضاعِ" (¬2)؛ أي: بالإسراع. وروى أبو داود عنه قال: أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة وعليه السكينة، ورديفه أسامة رضي الله تعالى عنه، فقال: "يَا أيُّها النَّاس عَلَيكُم بِالسَّكِينَةِ؛ فَإِنَّ البِرَّ لَيسَ بِإِيْجافِ الخَيْلِ وَالإِبِلِ". قال: فما رأيتها رافعة يديها حتى أتى مني (¬3). روى عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والأزرقي في "تاريخ مكة" عن عبد الله بن عثمان بن خيثم قال: قدم علينا وهب بن منبه رحمه الله تعالى، فاشتكى، فجئنا نعوده، فإذا عنده من ماء زمزم "فقلنا: لو استعذبت؛ فإن هذا ماء فيه غلظ. ¬
قال: ما أريد أن أشرب حتى أخرج منها غيره، والذي نفس وهب بيده إنها لفي كتاب الله زمزم، لا تنزف ولا تدم، وإنها لفي كتاب الله برءٌ، وشراب الأبرار، وإنها لفي كتاب الله مضنونة، وإنها لفي كتاب الله طعام طعم، وشفاء سقم، والذي نفس وهب بيده لا يعمد إليها أحد، فيشرب منها حتى يتضلع، إلا نزعت منه داءً، وأحدثت له شفاءً (¬1). وروى الأزرقي، وأبو نعيم في "الطب النبوي" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: صلوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار. قيل له: ما مصلى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب. قيل له: وما شراب الأبرار؟ قال: ماء زمزم (¬2). وروى الأزرقي عن عكرمة بن خالد قال: بينا أنا ليلة في جوف الليل عند زمزم جالس؛ إذ نفر يطوفون عليهم ثياب بيض، لم أرَ بياض ثيابهم بشيء قط، فلما فرغوا صلوا قريبًا، فالتفت بعضهم، فقال لأصحابه: اذهبوا بنا نشربْ من شراب الأبرار. ¬
فقاموا فدخلوا زمزم، فقلت: والله لو دخلت على القوم فسألتهم! فقمت فدخلت، فإذا ليس فيها أحد من البشر (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: ليس البرُّ في حسن اللباس والزي، ولكن البرَّ السكينة والوقار. وروى أبو يعلى عن عمار رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما تَزيَّنَ الأَبْرارُ بِمِثْلِ الزُّهْدِ في الدُّنْيا" (¬2). وروى أبو نعيم عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: "يا عَلِيُّ! إِنَّ اللهَ قَدْ زَّيَنَكَ بِزِينَةٍ لَمْ يَتَزَيَّنِ العِبادُ [بِزِينَةٍ]، أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْها، هِيَ زِينة الأَبْرارِ عِندَ اللهِ؛ الزُّهْدِ في الدنْيا، فَجَعَلَكَ لا تَرْزَأُ مِنَ الدُّنْيا شَيئًا، وَلا تَرْزَأُ الدُّنْيا مِنكَ شَيئًا، وَوَهَبَ لَكَ حُبَّ الْمَساكِينِ، فَجَعَلَكَ تَرْضى بِهِمْ أتباعًا وَيرْضَوْنَ بِكَ إِمامًا" (¬3). ويروى أن في بعض الكتب [ ... ] (¬4). ¬
وروى الخطيب في "الجامع"، وابن عساكر، وغيرهما عن سهل ابن سعد رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عَمَلُ الأَبْرارِ مِنَ الرِّجالِ الْخِياطَةُ، وَعَمَلُ الأَبْرارِ مِنَ النساءِ الْمِغْزَلُ" (¬1). و[ ... ] (¬2) الأبرار من شأنهم الأكل من عمل اليد، لكنهم يختارون الخياطة للرجال، والمغزل للنساء لأنهما صنعتان لطيفتان نظيفتان لا يشغلان الصانع عن ذكر الله تعالى، ولا عن التفكر في مصنوعاته. لكن من شأنهم أن لا يعينوا على إثم، فلا يخيطيون ما لا يجوز لبسه للرجال كالحرير الصِّرف، وما أكثرُه حرير، ولا للرجال ولا للنساء كالثوب [ .... ] لأن ذلك كله من باب التعاون على الإثم، وليس ذلك من عمل الأبرار. وكذلك [ .... ] هم لا يقتصرون على هذه الحرفة، وإنما هو من أعمالهم، وإنما شأنهم الأكل من عمل اليد. وفي حديث "البخاري" عن المقدام رضي الله تعالى عنه: "ما أَكَلَ أَحَدٌ طَعامًا خَيراً مِنْ أَنْ يَأكلَ مِنْ عَمَلِ يَدهِ، وَإِن نبِيَّ الله تَعالَى دَاودَ ¬
كانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدهِ" (¬1). والمشهور من عمل داود عليه السلام أنه كان زرَّاداً يعمل الدروع. وفي كتاب الله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 10، 11]. قال ابن شوذب رحمه الله تعالى: كان داود عليه السلام يرفع في كل يوم درعًا، فيبيعها بستة آلاف درهم؛ ألفين له ولأهله، وأربعة آلاف يطعم بها بني إسرائيل [الخبز] حواري. رواه الحكيم الترمذي في "نوادره"، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (¬2). ويروى أنه عليه السلام كان يعمل الخوص أيضًا. قال في "الإحياء": وقد كان غالب أعمال الأخيار من السلف عشر صنائع: الخوز، والتجارة، والحمل، والخياطة، والحذو، والقصارة، وعمل الخفاف، وعمل الحديد، وعمل المغازل، ومعالجة صيد البر والبحر، والوراقة (¬3). وهذا باعتبار غالب صنائعهم، وإلا فقد كان من السلف بزَّازون، وخفَّافون، وحاكةٌ، وأبَّارون. روى الإِمام أحمد -بإسناد حسن - عن أبي هريرة رضي الله تعالى ¬
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيرُ الكَسْبِ كَسبُ العامِلِ إِذا نَصَحَ" (¬1). وروى هو والبزار عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه قال: قيل: يا رسول الله! أي الكسب أطيب؟ قال: "عَمَلُ الرّجُلِ بِيَدهِ"، وَكُل بَيعٍ مَبْرورٍ" (¬2). وأخرجه الطبراني في "الكبير" من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. ورواه البزار، والحاكم -وصححه- عن سعيد بن عمير، عن عمه - قال الحاكم: وذكر يحيى بن معين أن عم سعيد البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما - (¬3). وَالبَيعُ الْمَبْرورُ] (¬4): مِنْ بَرَّ: إذا صدق. ¬
أو هو البيع المقرون بالبر والإحسان من النصح والإنصاف وغيرهما. وروى الدارمي، والترمذي وصححه، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، وغيرهم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه -: أنه خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأى الناس يتبايعون، فقال: "يا مَعْشَرَ التُّجَّارِ"، فاستجابوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: "إِنَّ التُجَّارَ يُبعَثُونَ يَومَ القِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنِ اتَّقَى الله، وَبرَّ، وَصَدَقَ" (¬1). وقال ابن ماجه في رواية: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا الناس يتبايعون بكرة، فناداهم: "يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ" (¬2)، فلما رفعوا أبصارهم ومدوا أعناقهم، قال ... ، فذكره. وروى الترمذي وصححه، عن قيس بن أبي غرزة قال: خرج علينا رسول - صلى الله عليه وسلم - ونحن نسمى السماسرة، فقال: "يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ! إِنَّ الشَّيْطَانَ وَالإثْمَ يَحْضُرانِ البَيعَ؛ فَشَوِّبُوا بَيْعَكُم بِالصدَقَةِ" (¬3). ¬
وأخرجه الإِمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، ولفظه: كنا نسمى في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السماسرة، فأتانا رسول الله في - صلى الله عليه وسلم - فسمَّانا باسم هو أحسن منه، فقال: "يَا مَعْشَرَ التُجَّارِ! إِنَّ البَيع يَحْضُرُهُ الحَلِفُ وَاللغْوُ؛ فَشَوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ" (¬1). أي: امزجوه بالصدقة، لعل برَّ الصدقة يدفع إثم الحلف واللغو. وروى الطبراني، والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا مَعْشَرَ التجَّارِ! إِنَّ اللهَ بَاعِثُكُمْ يِوْمَ القِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلا مَنْ صَدَقَ، وَبرَّ، وَأَدَّى الأَمَانة" (¬2). ومعنى تأدية الأمانة أن لا يكتم عيبًا يعلمه. وروى ابن الجوزي عن جعفر الحذاء رحمه الله، قال سعيد بن حرب رحمه الله، عن يوسف بن أسباط رحمه الله قال: ما أقدم عليه أحدًا من هذه الأمة: البر عشرة أجزاء؛ تسعة منها في طلب الحلال، وسائر البر في جزء واحد (¬3). ¬
وروى أبو منصور الديلمي في "مسند الفردوس" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العِبَادَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ؛ تِسْعَة مِنْهَا في الصَّمْتِ، وَالعَاشِرُ كَسْبُ اليَدَيْنِ مِنَ الحَلالِ" (¬1). قال العراقي: وهو منكر (¬2). وأورده في "الإحياء" بلفظ: "العِبَادهَ عَشَرةُ أَجْزَاءٍ؛ فَتِسْعَةٌ مِنْهَا في طَلَبِ الحَلالِ" (¬3). وروى إبراهيم الحربي في "غريبه" عن نعيم بن عبد الرحمن - قيل: وهو من الصحابة، والأصح أنه تابعي كما قال ابن أبي حاتم، وابن حبان (¬4)، وبقية رجاله ثقات -؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُمْ بِالتِّجَارَةِ؛ فَإِنَّ فِيْهَا تِسْعَةَ أَعشَارِ الرزْقِ" (¬5). وروى الديلمي، وابن النجار في "تاريخه" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ! لا تَغْلِبَنَكُمُ المَوَالِي عَلى التَّجَارَةِ؛ فَإِنَّ الرّزْقَ عِشْرُونَ بَابًا؛ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْهَا لِلتَّاجِرِ، وَواحدٌ لِلصَّانِعِ، ¬
وَمَا أَمْلَقَ تَاجِرٌ صَدُوقٌ، إِلا تَاجِرٌ حَلافٌ مَهِيْنٌ" (¬1). وهذا لا يلزم منه تفضيل التجارة على الحرفة؛ فقد قال كثير من العلماء: إنَّ الزراعة أفضل من التجارة، وفي الحرفة مهنة، وفي التجارة سلطنة (¬2). وروى أبو يعلى، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اطلُبُوا الرزْقَ فِيْ خَبَايَا الأَرْضِ" (¬3)؛ يعني: الزراعة. وأخرجه الدارقطني في "أفراده" والبيهقي بلفظ: "الْتَمِسُوْا" (¬4). وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261]: إن فيه دليلاً على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس، ¬
والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب اللهُ به المثل. ثمَّ ذكر أنَّ الزراعة من فروض الكفايات. قال: ولقي عبد الله بن عبد الملك ابن شهاب الزهريّ، فقال: دلني على مال أعالجه، فأنشأ ابن شهاب يقول: [من الطويل] أقوْلُ لِعَبْدِ اللهِ يَوْمَ لَقِيْتُه ... وَقَدْ شَدَّ أَحْلاسَ الْمَطِيّ مُشَرِّقا تتَبَّعْ خَبايا الأَرْضِ وَادع مَلِيْكَها ... لَعَلَّكَ يَوْمًا أَنْ تُجابَ فترْزَقا فَيُؤْيتْكَ مالًا واسِعًا ذا مَثابَةٍ ... إِذا ما مِياهُ الأَرْضِ غابَتْ (¬1) تَدَفُّقا (¬2) واعلم أن طلب المال من حِلِّه ليصرف في محله، لا يناقض البر، كما سبق أنه لا يناقض الصلاح. وقد روى البيهقي في "الشعب" عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: دينك لمعادك، ودرهمك لمعاشك، ولا خير في أمر بلا درهم (¬3). وروى الإِمام أحمد، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن معاذ بن ¬
عبد الله بن خبيب، عن أبيه، عن عمه - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا بَأْسَ بِالغِنَى لِمَنِ اتَّقَى الله، وَالصِحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى خيرٌ مِنَ الغِنَى، وَطِيْبُ النَّفْسِ مِنَ النعْيِمِ" (¬1). وروى أبو نعيم عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال: لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حِلِّه؛ يعطي منه حقه، ويكفُّ بهِ وجهَهُ عن الناسِ (¬2). وفي رواية: لا خيرَ فيمن لا يحبُّ هذا المال؛ يصلُ بهِ رحِمَهُ، ويؤدي به أمانته، ويستغني به عن خلقِ ربهِ (¬3). وعن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: أنه ترك ألفين أو ثلاثة آلاف دينار، وقال: ما تركتها إلا لأصون بها ديني، وفي رواية: [ترك مئة دينار، وقال] (¬4): أصون بها ديني وحسبي (¬5). واكتساب المال وجمعه بحسن النية مع الاهتمام لأمر آخرته، من ¬
أعمال البر، مع الاقتصاد في الطلب، وترك التكاثر؛ لقوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] الآية. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أجملُوا (¬1) في طَلَبِ الدُّنيَا؛ فَإِنَّ كُلًّا مُيسَّرٌ لِما خُلِقَ لَه". وفي رواية: "لِما كُتِبَ لَهُ مِنْهَا". رواه ابن ماجه، والطبراني في "الكبير"، والحاكم وصححه، عن أبي حميد - رضي الله عنه - (¬2). وروى ابن ماجه عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّهَا النَّاسُ! اتّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلوا في الطَّلَبِ؛ فَإِنَّ نفسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوفيَ رِزْقَهَا وإنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا الله وَأَجْمِلُوا في الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ" (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى إِبرَاهِيْمَ عَليْهِ السَّلامُ: يِا خَليْليْ! حَسِّنْ خُلُقَكَ وَلوْ مَعَ الكُفَّارِ، تَدْخُلْ مَدَاخِلَ الأَبْرَارِ، وإن كَلِمَتِي سَبقَتْ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ ¬
أَنْ أُظِلَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشْي، وَأَنْ أَسْقِيَهُ مِنْ حَظِيْرَةِ قُدُسِي، وَأَنْ أُدْنِيَهُ مِنْ جِوَارِي" (¬1). قلت: وقد سبق في الحديث تفسير البِر بحُسنِ الخُلُقِ، وهو شامل للسخاء، والكرم، والحياء، والخوف، والرجاء، والحلم، والصبر، والعفو، والصفح، والاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الغضب، والشهوة، ومخالفة النفس والهوى، والتوكل، والثقة بالله، والاستعانة به، والتفويض إليه والتسليم؛ وكل ذلك من صفات الأبرار. وروى أبو نعيم في (الحلية) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ كُنُوزِ البر كِتْمَانُ المَصَائِبِ وَالأَمْرَاضِ وَالصَّدَقَةُ (¬2) " (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في "الصمت" عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: ثلاث من كنَّ فيه أصاب البر: سخاوة النفس، والصبر على الأذى، وطيب الكلام (¬4). وروى الإِمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أنَّه قال: من سقى ¬
مؤمناً على ظمأ، سقاه الله يوم: القيامة من الرحيق المختوم (¬1). وهذا شراب الأبرار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} إلى قوله: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين: 223 - 25]. وروى أبو نعيم عن عمر بن ذر رحمه الله تعالى قال: من أجمع على الصبر في الأمور فقد حوى الخير، والتمس معاقل البر، وكمال الأجور (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في "الورع" عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه قال لجلسائه: ما الذي نقيم به وجوهنا عند الله يوم القيامة؟ قال بعض القوم: الصلاة، قال عمر: قد يصلي البَرّ والفاجرُ، قالوا: الصيام، قال عمر: قد يصوم البَرُّ والفاجِرُ، قالوا: الحج، قال عمر: قد يحج البَرُّ والفاجر، قال عمر: الذي نقيم به وجوهنا عند الله أداء ما افترض علينا، وتحريم ما حرم علينا، وحسن النية فيما عند الله تعالى (¬3). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار قال: قال عيسى ابن مريم عليهما السلام: إن ابن آدم لو عمل بأعمال البر حتى يبلغ عمله عنان السماء وحب في الله ليس، [وبغض في الله ليس] (¬4)، ¬
ما أغنى ذلك عنه شيئًا (¬1). وروى أبو نعيم عن الحارث بن أسد المحابسي رحمه الله قال: حدثني الحسن بن أحمد الشامي قال: سمعت ذا النون المصري رحمه الله يقول: قرأت في التوراة: إن الأبرار الذين يؤمنون، والذين في سبيل خالقهم يمشون، وعلى طاعته يمضون؛ أولئك في وجه الجبار ينظرون (¬2). وعن السَّرَي السَّقَطي قال: ثلاث من أخلاق الأبرار: القيام بالفرائض، واجتناب المحارم، وترك الغفلة. قال: وثلاث من أخلاق الأبرار يبلغنَ بالعبد رضوان الله: كثرة الاستغفار، وخفض الجناح، وكثرة الصدقات. قال: وثلاث من أبواب سخط الله: اللعب، والمرح، والغيبة. قال: والعاشر [من هذه الثلاث] (¬3) عمود الدين، وذروته، وسنامُه: حسن الظن بالله (¬4). وإنما صح أن يكون هذا عاشرًا باعتبار أنه أشار بالثلاثة التي هي من أبواب السخط إلى أضداد تركها؛ أعني السكوت، والإمساك عن اللعب، وعن المرح وعن الغيبة، وهذه أمهات الباطل، ومن أكثر باطلًا على حق ¬
فليس ببار ولا مبرور، بل هو خاسر، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية: 27]. وروى أبو نعيم عن عبد العزيز بن أبي خالد قال: مرَّ سفيان الثوري رحمه الله بالغاضري، وهو يتكلم ببعض ما يضحك به الناس، فقال له: يا شيخ أما علمت أن لله يوما يخسرُ فيه المبطلون؟ فما زالت تُعرَفُ في وجهِ الغاضري حتى لقي الله عز وجل (¬1). وروى البيهقي في "شعبه" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه مرَّ على قوم وعليه بردةٌ حسناء، فقال رجل من القوم: إن أنا سلبته بردته فما لي عندكم؟ فجعلوا له شيئًا، فأتاه، فقال: يا أبا عبد الرحمن! بردتك هذه لي، فقال: إني اشتريتها أمس، قال: قد أعلمتك وأنت في حرج من لبسها، فخلعها ليدفعها إليه، فضحك القوم، فقال: ما لكم؟ فقالوا له: هذا رجل بطال، فالتفت إليه، فقال له: يا أخي! أما علمت أن الموت أمامك لا تدري متى يأتيك صباحاً أو مساءً، ليلاً أو نهارًا، ثم القبر وهول المطلع، ومنكر ونكير، وبعد ذلك القيامة يوم يخسر المبطلون؟ فأبكاهم، ومضى (¬2). وروى الإِمام أبو الفتوح محمَّد بن محمَّد بن علي الطائي في "أربعينه" عن أبي بكر الآجري رحمه الله تعالى قال: كان ابن المبارك كثيرًا ينشد بهذه الأبيات: [من الخفيف] ¬
اغْتَنِمْ رَكْعَتَيْنِ زُلْفَى إِلَىْ الله ... إِذا كُنْتَ فارِغا وَمُسْتَرِيْحا وإذا ما هَمَمْتَ بِالنُّطْقِ بِالْبا ... طِلِ فَاجْعَلْ مَكانَهُ تَسْبِيْحاً فَاغْتِنامُ السُّكُوْتِ أَفْضَلُ مِنْ خَوْ ... ضٍ وَإِنْ كُنْتَ بِالْكَلامِ فَصِيْحاً (¬1) وروى أبو نعيم عن حبيب الفارسي رحمه الله تعالى قال: لأن أكون في صحراء ليس علي إلا ظلة وأنا بارٌ بربِّي، أحبُّ إلى من جنتكم هذه (¬2). والمراد بالبر أن يكون محسنا فيما بينه وبين الله تعالى، وهو الإحسان الذي بيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الصحيحين: "أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنكَ تَرَاهُ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنهُ يَرَاك" (¬3)؛ والمعنى أن تعبدهُ وأنت شاهده بقلبك، وهو عبارة عن حضور القلب مع الله تعالى، "فإن لم تكن تراه فإنه يراك"؛ أي: فإن لم تعبده على المشاهدة، فعلى المراقبة، بأن تعلم أنَّه رقيب ¬
عليك، مُطَّلع على سرك وعلانيتك، وهذه الصفة لا بد منها حتى يكون العبد باراً بربه عز وجل. وروى أبو نعيم عن عمران بن مسلم -وهو المعروف بالقصير- قال: كان جعفر بن زيد رحمه الله تعالى يقول في كلامه: ما أحلى ذكرَك في أفواه الأبرار، وأعظمك في قلوب المؤمنين (¬1). فيه إشارة أن لذكر الله تعالى من أفواه الأبرار -أعني: الصادقين- مزية لم تكن لذكره من أفواه غيرهم؛ لأن كل كلام يبرز من فم متكلم يبرز وكسوة قلب ذلك المتكلم عليه، فإذا كان الكلام ذكرًا لم يكن أحسن منه، ولا أعلى. وفي الحديث الصحيح: "مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِيْ يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ؛ طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَريحُهَا طَيِّبَهٌ" (¬2). وروى أبو نعيم عن إبراهيم بن شيبان رحمه الله تعالى قال: من أراد أن يكون معدودًا في الأحرار، مذكوراً عند الأبرار، فليخلص عبادة ربه؛ فإن المحقق في العيون مُسَلَّم من الأغيار (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخلاص والنية" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: إنَّ الأبرار تغلي قلوبهم بأعمال البر؛ فانظروا ¬
ما همومكم رحمكم الله! (¬1). وعن يزيد الرقاشي رحمه الله قال: للأبرار همم تبلغهم أعمال البر، وكفاك بهمة دعتكَ إلى خير خيرًا (¬2). وعن نعيم بن صبيح السعدي -وكان يعدُّ من حكماء بني تميم- قال: همم الأبرار متصلة بمحبة الرحمن، وقلوبهم تنظر إلى مواضع العز من الآخرة بنور أبصارهم، فأهواؤهم بها متعلقة، وأنفسهم إليها منطلقة، وأعينهم نحوها طامحة، قد جلا رجاؤهم إياها عنهم كلَّ كربة، وهوَّن عليهم كلَّ شدة، مسجونون في طرق الدنيا بين أهلها، مغمومون لطول البقاء فيها عند محبة أهل الدنيا لطول العمر فيها، تخبرهم دواعي الخير من أنفسهم أنْ لا راحة لهم دون الخروج منها، والكينونة عند مسرة أهلها فيها، فأنفسهم أشد اشتياقا إلى مفارقة الدنيا من الظمآن إلى الشراب عند انقطاع الرَّجاء، سكنت مشارق الجنة قلوبهم، ومخاوف النار أجوافهم، فأهملوا لذلك العيون، وغضوا عن الدنيا لذلك الجفون، وَسَمَوْا بالقربة إلى معالي العز. وروى الدينوري في "المجالسة"، وابن أبي حاتم عن الحسن: أنه سئل عن الأبرار: من هم؟ قال: هم الذي لا يؤذون الذَّرَّ (¬3). ¬
والمراد بالذَّرِّ: النمل الصغير. والمعنى: إن أذاهم مأمون لا يتوقع منهم أنهم يؤذون شيئًا حتى الذَّرَّ. ويوافق هذا ما رواه الأصبهاني في "الترغيب" عن أبي قرة رحمه الله قال: دخلنا على فضيل بن عياض بمكة، فقال لي: من أين أنتم؟ قلنا: إننا من أهل خراسان، فقال: اتقوا الله، وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أنَّ العبد لو أحسن الإحسان كلهُ، وكانت له دجاجة فأساء إليها، لم يكتب من المحسنين (¬1). وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء". رواه الإِمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - (¬2). بل روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: إنَّما الإحسان أن تُحسِنَ إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك (¬3). وصدق عليه السلام؛ لأن هذا مكافأة، وحقيقة الإحسان التفضل. ¬
وروى الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي عن عبد الله ابن عمرو - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: "لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئِ، وَلَكِنَ الوَاصِلَ الّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُه (¬1) وَصَلهَا" (¬2). والذي أراه: أن من وصل من الإحسان إلى هذه المرتبة، فقد تجاوز إلى مقام الصديقين الأخيار. روى الحافظ عبد الرزاق، والبيهقي من طريقه عن معمر عن ابن أبي إسحاق الهمداني، عن ابن أبي حسين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أَدلُّكُمْ عَلى خَيْرِ أَخْلاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك" (¬3). قال البيهقي: هذا مرسل حسن. ورواه البيهقي موصولًا من حديث علي - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أَدُلُّكَ عَلى خَيْرِ أَخْلاقِ الأَوَّليْنَ وَالآخِرِيْنَ؟ " قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: "تُعْطِيْ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ، ¬
وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ" (¬1). ومن حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ أَخْلاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟ تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفو عَمَّنْ ظَلَمَكَ" (¬2). وروى الإِمام أحمد، والطبراني عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَفْضَلُ الفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصْفَحَ عَمَّنْ شَتَمَكَ" (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَنْ يَنَالَ عَبدٌ صَرْيحَ الإِيْمَانِ حَتى يَصِلَ منْ قَطَعَهُ، وَيَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيَغْفِرَ لِمَنْ شَتَمَهُ، وَيُحْسِنَ إِلى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ" (¬4). ومعنى قوله: "صريح الإيمان": خالصهُ وأفضلهُ، وهي رتبةٌ الصديقية كما علمت، وهي حال أبي بكر - رضي الله عنه - حين حلف أن لا ينفق على مِسْطَح بعد أن تكلم في حديث الإفك، وكان ابن خالتهِ، وكان من فقراء ¬
المهاجرين، فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]. روى ابن المنذر عن الحسن رحمه الله: أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - صار يضعف لمسطح بعد ما نزلت هذه الآية [ضعفي] (¬1) ما كان يعطيه (¬2). قلت: وفي قوله تعالى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] إشارة إلى أنَّ الإحسان إلى المسيء، ووصل القاطع خلق من أخلاق الله تعالى؛ ألا ترى أن تقدير الآية: ألا تحبون أن يغفر الله لكم ما أسأتم؟ والمغفرة إحسان من الله تعالى؛ أي: عاملوا عباده الفقراء المهاجرين إذا أساؤوا إليكم بمعاملة الله لكم من إحسانه إليكم وأنتم تسيئون، وإن كانت إساءة العبد إنما تعود إليه، كما قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، والله تعالى منزهٌ عن وصول الإساءة إلى جنابه المقدس، وإنما الإشارة بذلك إلى الإنصاف من نفس العبد؛ فإنه إذا أساء وطلب الإحسان مع إساءته، ثم عامل غيره بمقابلة الإساءة بالإساءة، فما تم إنصافه، وإن كان لا سبيل عليه؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ ¬
سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 39 - 42]. فالمنتصر بقدر حقه بارّ، والعافي عن حقه صِدِّيْقٌ، والمتجاوز عن مثل ما أسيء إليه ظالم، ولو بشيء قليل؛ لقوله تعالى: {مِثْلُهَا}. ثم من كان مسيئاً فالأولى في حقه العفو عن أخيه المؤمن رجاءَ أن يعفى عنه، فإن أخذ حقه ثم طلب العفو عن جنايته فهو في نفسه لم يتسمْ بالإنصاف، وإن كان تحت المشيئة. وروى الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن أبي عمرو الشيباني قال: بلغنا أنَّ موسى عليه السلام سأل ربه عز وجل فقال: أي ربِّ! أيُّ عبادك أعدلُ؟ قال: من أنصف من نفسه (¬1). وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: من ينصف الناس من نفسه يعطى الظفرَ في أمرِه، والذل في الطاعة أقرب إلى البر من التعزز في المعصية (¬2). وعن عمار بن ياسر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَسْتكمِلُ العَبْدُ الإِيِمَانَ حَتَّى تَكُونَ فِيْهِ ثَلاثُ خِصَالٍ"، قلتُ: وما هن؟ قال: "الإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ، والإِنْصَافُ مَنْ نَفْسِهِ، وَبَذْلُ السَّلامِ". ورواه أبو نعيم من طريق الطبراني، وزاد: "وَبَذْلُ السَّلامِ لِلعَالَمِ". ¬
وعلَّقهُ البخاري موقوفًا (¬1). وروى الدينوري في "المجالسة" عن الحسن: أنه نظر إلى القراء وهم على باب ابن هبيرة، فقال: ما أجلسكم ها هنا؟ تريدون الدخول على هؤلاء؟ أما والله ما مخالطتكم مخالطة الأبرار، تفرقوا فرق اللهُ بين أرواحكم وأجسادكم، خصفتم نعالكم، وشمرتم ثيابكم، وجززتم رؤوسكم، فضحتم القراء فضحكم اللهُ، أما والله لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم، فزهدوا فيما عندكم، فأبعد الله مَنْ أَبْعَد (¬2). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن الحسن: أنه رأى على باب بعض الأمراء هؤلاء الذين يُقَالُ لهم القراء، فقال: ما يجلسكم على أبواب هؤلاء [ .... ] (¬3) لا والله ما هذه مجالس الأبرار. وروى الدينوري، وأبو نعيم عن داود بن أبي هند قال: مكتوب في صحف إبراهيم عليه السلام: يا دنيا! ما أهونك على الأبرار الذين تصنعت لهم، وتزينتِ لهم، إني قذفت في قلوبهم بغضكِ والصدود عنكِ، وما خلقت خلقا أهون عليَّ منكِ، كل شأنك صغير، وإلى الفناء ¬
تصيرين، قضيت عليكِ يوم خلقتكِ أن لا تدومي لأحد، وأن بخل بكِ صاحبكِ وشحَّ بك، طوبى للأبرار الذين أطلعوني من قلوبهم على الرضا من ضميرهم، وعلى الصدق والاستغناء، طوبى لهم، ما لهم عندي من الجزاء إذا وفدوا إليَّ من قبورهم النور يسعى أمامهم، والملائكة حافُّون بهمُ، حتى أبلغهم ما يرجون من رحمتي (¬1). وروى ابن عساكر في "تاريخهِ" عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: قال المسيح عليه السلام: إنما تُطلَبُ الدنيا لتُبر؛ فتركك لها أبر (¬2). وروى الدينوري عن خلف بن تميم قال: التقى إبراهيم بن أدهم وشقيق رحمهما الله بمكة، فقال إبراهيم لشقيق: ما بدء أمرك الذي بلَّغك هذإ؟ فقال: سرت في بعض الفلوات، فرأيت طيراً مكسور الجناحين في فَلاَة من الأرض، فقلت: انظروا من أين رُزِقَ هذا؟ فقعدتُ حذاءه، فإذا أنا بطائر قد أقبل في منقاره جرادة، فوضعها في منقار الطير المكسور الجناحين، فقلت لنفسي: يا نفسُ! الذي قيض هذا الطير الصحيح لهذا الطير المكسور الجناحين في فلاة من الأرض هو قادر على أن يرزقني حيث ما كنت، قال: فتركت التكسب، واشتغلتُ بالعبادة، فقال له إبراهيم: يا شقيق! ولم لا تكون الطير الصحيح الذي أطعم العليل حتى ¬
تكون أفضل منه؟ أما سمعت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ اليد العليا خير من اليد السفلى" (¬1)، ومن علامة المؤمن أن يطلب أعلى الدرجتين في أموره كلها حتى يبلغ منازل الأبرار، فأخذ بيد إبراهيم فقبَّلها، وقال له: أنت أستاذي يا أبا إسحاق (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن يوسف بن أسباط رحمه الله تعالى قال: الجوع رأس كل بر فيما بين السماء والأرض، ويورث العقل الدقيق (¬3). وروى ابن أبي الدنيا، ومن طريقه ابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن محمَّد بن النضر الحارثي رحمه الله تعالى قال: كان يقال: الجوع يبعث على البر، كما تبعث البِطنة على الأشر (¬4). وروى ابن جهضم في "بهجة الأسرار" عن بشر بن الحارث رحمه الله تعالى قال: أفضل ما تعبد الله به سكون القلب إلى روح نزول الرزق، وأفضل أعمال البر الصبرُ على الفقر. والصبر على الفقر والشدائد من أخلاق الأبرار، فإذا تناهى إلى الرضا كان من أخلاق الصديقين. ¬
كما ذكر المحب الطبري في "الرياض النضرة" ما رواه أبو الحسن علي بن أحمد بن نعيم البصري في "جزئه" الذي ألفهُ في فضل الشيخين عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا أَبا بَكْرِ! هَذَا جِبْرِيْلُ عَليِهِ السَّلامَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ، وَيقُولُ لَكَ: أَرَاضٍ أَنْتَ في فَقْرِكَ هَذَا أَمْ سَاخِطٌ؟ " فبكى أبو بكر، وقال: أسخط على ربي! أنا عن ربي راضٍ، أنا عن ربي راضٍ، أنا عن ربي راضٍ (¬1). وروى أبو نعيم، والبيهقي في "الشعب"، والخطيب في "التاريخ" عن السري السقطي رحمه الله تعالى قال: قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، وقلوب المقربين معلقة بالسوابق؛ أولئك يقولون: ماذا من الله سبق، وهؤلاء يقولون: بم يختم لنا (¬2). وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن مالك بن دينار قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام؛ لو أنَّ ابن آدم عمل بأعمال البر كلها حتى يبلغ عمله عنان السماء، وحبَّ في الله ليس، وبغضَ في الله ليس، ما أغنى عنه ذلك شيئًا (¬3). ¬
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب (الرقة والبكاء) عن أبي عمران الجوني رحمه الله قال: لكل أعمال البر جزاء، وفي كلها خير إلا الدمعة تخرج من عين العبد ليس لها قيل ولا وزن حتى تطفا منها بحار من النيران (¬1). وروى أبو نعيم عن أبي عبد الله الساجي (¬2) رحمه الله قال: خصال لا يعبد الله بمثلها؛ لا تسأل إلا الله، ولا ترد شيئًا على الله، ولا تبخل بشيء على الله؛ فإنه من عرف الله، فقد بلغ الله. قال: وقال سفيان الثوري رحمه الله: ليس من علامات الهدى شيء أبين من حبِّ لقاء الله، فإذا أحب العبد لقاء الله فقد تناهى في البر. قال أبو نعيم في معنى قوله: ولا تبخل على الله: يعني: تمسك لله، وتعطي لله (¬3). انتهى. وأما قوله: فإنه من عرف الله فقد بلغ الله؛ أي: وصل إليه؛ أراد أنَّ الوصول إلى الله في الدنيا هو الوصول إلى معرفتهِ سبحانه. قلت: ولا شك أن نهاية البر في الدنيا معرفة الله، وفي الآخرة لقاؤه، وهما أطيب شيء في الدارين. وروى ابن جهضم عن أبي الحسن عمرو بن عثمان الصَّدَفي قال: ¬
أعمال البر كلها على وجهين؛ سر وعلانية، فمن لم يقدر على تصحيح النية فيما يعمل من السر كان فيما يعلن من عمله أبعد، ومن قدر على تصحيح النية في العلانية كان فيما يسر من عمله أقوى، ومن لم يقدر على تصحيح النية في القليل من العمل كان في الكثير منه أبعد. وهذا موافق لما تقدم عن أبي عامر السكوني - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَمَامُ البِرِّ أَنْ تَعْمَلَ في السِّرِّ عَمَلَ العَلانِيَةِ" (¬1). وقال أبو عبد الرحمن السلمي في "الحقائق" في قول تعالى: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193]: من رضيت ظواهرهم للخلق، وبواطنهم لك. وقال: قال أبو عثمان: الأبرار هم الذين أسقطوا عن أنفسهم أشغال الدنيا، واشتغلوا بما يقربهم إلى مولاهم. قال: وقال سهل - رضي الله عنه -: الأبرار هم المتمسكون بالسنة. قال: وقال بعضهم: هم الناظرون إلى الخلق بعين الحق (¬2). وقال في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14]: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت محمد ابن الفضل رحمه الله يقول في قوله: إِنَّ اَلأبَرارَ {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] قال: في التنعم بذكر مولاهم، {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14]: في ¬
التقلب في الشهوات والغفلات (¬1). وقال في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين: 22] في سورة المطففين: قال أبو سعيد الخرّاز رحمه الله: للأبرار علامات؛ أولها: أن يكون معصومًا عن المخالفات بعصمة الله تعالى، محفوظًا بطاعة الله تعالى، لا يؤذي أحدًا من المخلوقين، ويرحم الضعفاء لضعفهم، ويعرف نعم الله عليه في جميع الأحوال، ويرى نقصانه في جميع الأحوال (¬2). قلت: ومن أسماء الله تعالى: البَرُّ -بالفتح -؛ ومعناه: المحسن، والواسع الإحسان، الكثير البر، والصادق، والوَصول، والعَطوف، ويرجع معنى العطف إلى الرحمة، وغايتها إرادة الخير. وسيأتي أن من أسماء الله تعالى ما يَحسُنُ من العبد التخلُّق بهِ، ومنها البَرُّ؛ فمن أحسنَ وأكثر من الإحسان، وصَدَقَ في الكلام، وعطف على الأنام، ورحم الضعفاء فهو من عمل الأبرار. وفي الحديث المسلسل بالأولية عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرَّاحِمُوْنَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ؛ ارْحَمُوْا مَنْ فِي الأَرْضِ، يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السَّمَاءِ". وقد رواه الإِمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم في "المستدرك" (¬3). ¬
وروى الإِمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، والبيهقي في "الشعب" من حديثه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، واغْفِرُوا يُغَفَرْ لَكُمْ؛ ويلٌ لأَقْمَاعِ القَوْلِ، ويلٌ للِمُصِرِّيْنَ الَّذِيْنَ يُصِرَّونَ عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (¬1). وروى الإِمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، والترمذي عن أبي هريرة، والشيخان عن جرير - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرحَمْ" (¬2). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم وصححاه عن أبي هريرة - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِن شَقِي" (¬3). وسبب ذلك أن الرحمة لا تنزع إلا من القلب القاسي، وقد قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]. ¬
وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُكْثِرُوا الكَلامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الله؛ فَإنَّ كَثْرَةَ الكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ قَسْوَةُ القَلْبِ، وَإِنَ أبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الله القَلْبُ القَاسِي" (¬1). وفيه إشارة إلى أنَّ سبب القسوة كثرة الخوض في فضول الكلام، وأن ذكر الله سبب لحصول الرحمة في القلب. وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن أبي الجلد رحمه الله: أنَّ عيسى عليه السلام أوصى الحواريين: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل فتقسو قلوبكم، وإن القاسي قلبه بعيد عن الله ولكنه لا يعلم (¬2). ومن أسباب القسوة: ما رواه أبو بكر بن مردويه عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تُوْرِثُ القَسْوَةُ في القَلْبِ ثَلاثَ خِصَالٍ: حُبَّ الطَّعَامِ، وَحُبَّ النَّوْمِ، وَحُبَّ الرَّاحةِ" (¬3). قلتُ: ومن أسباب القسوة: طول العهد بالعيش، وإمهال العبد في الطيش، وذلك من مكر الله عز وجل؛ قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]. ¬
وكل شيء يوجب القسوة، أو يكون ناشئاً عنها، فليس من أخلاق الأبرار، ولا من أعمالهم. وأما ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو نعيم بإسناد صحيح، عن أبي صالح قال: لما قدم أهل اليمن في زمن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فسمعوا القرآن، فجعلوا يبكون، قال أبو بكر الصديق: هكذا كنا، ثم قست القلوب (¬1). فقال أبو نعيم: معنى قوله: قست القلوب: قويت، واطمئنت لمعرفة الله تعالى (¬2). وأصل القسوة الصلابة، ثم استعيرت لفساد القلب وبعده عن الخير. أو هو من: قسا الدرهم: إذا ذاق، فهو قسي. فالقساوة في كلام أبي بكر - رضي الله عنه - بمعنى صلابة القلب للخير لا عن الخير، فالقساوة المذمومة صلابته عن الخير، قال تعالى لبني إسرائيل: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]. قال ابن عباس: أي: إن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون ¬
إليه من الخير. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). فالأبرار قلوبهم لينة لخلقِ الله، وصدورهم منشرحة لذكر الله تعالى، كما في الحديث: "المُؤْمِنُونَ هَينُوْنَ لَينُوْنَ كَالجَمَلِ الأَنِفِ؛ إنْ قِيْدَ انْقَادَ، وإنْ أُنِيخَ عَلى صَخْرَةٍ اسْتَنَاخَ". رواه ابن المبارك عن مكحول مرسلاً، ووصله البيهقي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - (¬2). وقد اشتمل هذا الفصل على أكثر من سبعين خصلة هي من صفات الأبرار، فعليك بالاتصاف بها لتكون من الأخيار، ولا تطمح في التشبه بهم وأنتَ متصف بصفات الفجار، متخلق بأخلاق الأشرار. قال الله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]؛ أي: لا يكون ذلك أصلاً؛ إذ لو تساووا لبَطلَ الوعد والوعيد، ولم يكن لإيراد الكتب وإرسال الرسل فائدة. وروى أبو يعلى عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "كَمَا لا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ العِنَبُ، كَذَلِكَ لا يَنَالُ الفُجَّارُ مَنَازِلَ الأَبْرَارِ" (¬3). ¬
ورواه أبو نعيم عن يزيد بن مرثد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَمَا لا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ العِنَبُ، كَذَلِكَ لا يُنْزَلُ الفُجَّارُ مَنَازِلَ الأَبْرَارِ؛ فَاسْلُكُوْا أَيَّ طَريقٍ شِئْتُم، فَأَيُّ طَرِيْقٍ سَلَكْتُمْ وَرَدْتُمْ عَلَى أَصْلِهِ" (¬1). أي: من طريق الخير وطريق الشر؛ فإن الطريقين مبينان في هذه الشريعة المطهرة ليهلكَ من هلك عن بينة فتظهر الحجة عليه، ويحيا من حيَّ عن بينة، فتظهر الحجة في الإحسان إليه، ولله الحجة البالغة. قال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: سبيل الخير، وسبيل الشر. رواه المفسرون، والطبراني، وصححه الحاكم (¬2). وقال مجاهد: عرَّفناه سبيل الخير والشر. رواه ابن المنذر، وغيره (¬3). وروى هو، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}؛ قال: الهدى والضلالة (¬4). ¬
وروى مثله سعيد بن منصور عن محمَّد بن كعب، وابن جرير عن عكرمة، والضحاك (¬1). وروى الطبراني عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا أيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا هُمَا نَجْدَانِ؛ نَجْدُ خَيْرٍ، وَنَجْدُ شَرٍّ؛ فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشَّرِّ أَحَبَّ إِليْكُمْ مِنْ نَجْدِ الخَيْرِ؟ " (¬2). وروى ابن مردويه عن أبي هريرة نحوه، إلا أنه قال: "فَلا يَكُنْ نَجْدُ الشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ" (¬3). فَنَجْدُ الْخَيْرِ هُوَ طَرِيْقُ الأَبْرارِ وَالأَخْيارِ، وَنَجْدُ الشَّر هُوَ طَرِيْقُ الْفُجَّارِ وَالأَشْرارِ. فأي طريق سلكهُ العبد أتى منه إلى منازل أهله، وكان معهم كما في حديث يزيد بن مرثد. ثمَّ إنَّ من تمام سلوك الأبرار أن يتبرأ السالك عليه من الحول والقوة؛ فإن عمل البر سلوك في طلب، والتبري من الحول والقوة وصول إلى ¬
[الله] (¬1) وعثور على الكنز المطلوب. وروى الإِمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي عن قيس بن سعد بن عبادة - رضي الله عنهما -: أن أباه دفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخدمه، قال: فخرج عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد صليت ركعتين واضطجعت، فضربني برجله، وقال: "أَلا أَدُلّكَ عَلى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؟ " قلت: بلى، قال: "لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللهِ" (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن أبي هريرة، وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والنسائي نحوه عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بَاللهِ كَنْزٌ مِنْ كُنُوْزِ الجَنَّةِ" (¬3). وعن أبي ذر - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أَدُلُّكَ عَلى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بَاللهِ" (¬4). ¬
وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنه كنز من كنوز الجنة (¬1). وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "أَلا أَدُلُّكُمْ عَلى كَنْزٍ مِنْ كُنُوْزِ الْجَنَّةِ؟ تُكْثِرُوْنَ مِنْ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللهِ" (¬2). وإنما أمر بالإكثار من هذه الكلمة ليتمكن معناها في القلب، وهو البراءة من حول العبد وقوته، وهو سر الكلمة، فلا بِرَّ للعبد وهو يرى لنفسه حولاً أو قوة أو عملًا، بل من شأن البَرِّ الإزراء على نفسه والاتهام لها، فلا يرى نفسه أهلاً أن يكون من الأبرار، ألا ترى إلى قول أولي الألباب: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193] لما في المعية من الإشعار بالمباينة. بل وصف الله تعالى السابقين من الأبرار بذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61]. روى الإِمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن أبي الدنيا في كتاب "الخائفين"، والحاكم وصححه، والبيهقي، والمفسرون عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! قول الله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا ¬
تتمة
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]؛ أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال: "لا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُوْمُ وَيتَصَدَّقُ وُيصَلّي، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ أَنْ لا يُقبَلَ مِنْهُ" (¬1). والحكمة في ذلك أنهم لا يرون أنفسهم أهلاً للقرب، ولا أعمالهم أهلاً للقَبول، ويرون أنفسهم مقصرين في حق الله تعالى. وقال الحسن: كانوا يعملون ما يعملون من أعمال البر، ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب الله. رواه الإِمام عبد الله بن المبارك في "الزهد"، وغيره (¬2). وروى أبو نعيم عن سفيان الثوري رحمه الله: أنَّ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ضرب بيدهِ على بطنه، فقال: بطني بطيء عن عبادة ربه، متلوث بالذنوب والخطايا، يتمنى على الله منازل الأبرار بخلاف أعمالهم (¬3). * تَتِمَّةٌ: روى ابن ماجه، والحاكم وصححه، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ يَسِيْرَ الرِّيَاءِ ¬
شِرْكٌ، وإنَّ مَنْ عَادَى وَلِيًّا للهِ فَقَدْ بَارَزَ الله بِالمُحَارَبَةِ، وَإِنَ اللهَ تَعَالى يُحبُّ الأَبْرَارَ الأتقِيَاءَ الأَخْفِيَاءَ، الَذِيْنَ إِذَا غَابُوْا لَمْ يُفْتَقَدُوْا، وإذَا حَضَرُوْا لَمْ يُدْعَوْا, ولَمْ يُعْرَفُوْا، مَصَابِيْحَ الهُدَى، يَخْرُجُوْنَ مِنْ كُل غَبْرَاءَ مُظْلِمَة" (¬1). وهذا الحديث فيه فوائد جليلة: - منها: أنَّ الأبرار أحباب الله تعالى، وهي محبة خاصة أخص من محبة المؤمنين المشروطة بالاتباع في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وإنما شرطت محبة الله بالاتباع لا بالمحبة؛ لأن المحبة لا تتحقق إلا به، ولذلك قيل (¬2): المحبة هي موافقة الحبيب. وفي نفس الأمر لا تترتب محبة الله تعالى للعبد إلا على محبة العبد لله، فالأبرار ما كانوالله أحبابا حتى كانوا لهُ محبين، وإن كانت محبة الله سابقة على محبتهم إياه؛ بدليل قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. ومنه قول أبي يزيد - رضي الله عنه -: إنه غلط في بدايته في أمور؛ منها: أنه كان يحسب أنه يحب الله، فإذا محبة الله متقدمة على محبته، فإنا نقول: يحب الله تعالى العبد فيوفقه لحبه، فيحبه العبد، فيحبه الله تعالى محبة خاصة هي جزاء محبته، فالبار من العباد من وفق لمحبة الله تعالى فأحبه، ¬
وأطاعه، فأحبه الله تعالى على طاعته، وإلا لم يكن باراً، ولا بَرًّا، فالمحبة أول البر. وقد روى ابن أبي الدنيا: أنَّ رجلًا قال لبَعض العارفين: أوصني، فقال: اقتن فعل الخيرات، وتوصل إلى الله بالحسنات؛ فإني لم أر شيئًا قط أرضى للسيد مما يحب، فبادر محبته يسرع في محبتك، ثم بكى، فقال له: زدني رحمك الله! قال: الصبر على محبة الله تعالى، وإرادته رأس كل بر -أو قال -: كل خير (¬1). وروى أبو نعيم عن عمر بن ذر رحمه الله قال: من أجمع على الصبر في الأمور، فقد حوى الخير والتمس معاقل البر وكمال الأجور (¬2). وروى ابن أبي الدنيا -أيضًا- عن مضر العابد قال: اجتمعنا ليلة على الساحل ومعنا مسلم أبو عبد الله، فقال رجل من الأزد: ما إِنْ جَهِدْتُ سِوَىْ إِرادةِ حُبِّهِ ... إِنَّ الْمُحِبَّ بِكُلِّ بِرٍّ يَضْرَعُ قال: فبكى مسلم حتى خشيت -والله- أن يموت (¬3). ومن فوائد الحديث: أنَّ الأبرار هم الأتقياء؛ لأن الأتقياء في الحديث صفة مفسرة مبينة، وقد قال الله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا ¬
رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]. وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، فقابل المتقين بالفجار الذين هم بخلاف الأبرار. وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن المغيرة قال: كان عبد الرحمن بن أبي نعم يفطر في رمضان مرتين، وكنا إذا قلنا لعبد الرحمن بن أبي نعم: كيف أنت يا أبا الحكم؟ يقول: إن نكن أبراراً فكرام أتقياء، وإن نكن فجاراً فلئام أشقياء (¬1). وقد تبين بذلك أن طلب اللحاق بالأبرار لا يكون بمجرد التمني مجديًا ما لم يتشبه العبد بهم في التقوى والعمل الصالح؛ ألا ترى أن الله أثنى على الطالبين للوفاة مع الأبرار في الآية السابقة بالذكر والفكر والدعاء، ثم قال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]. ثم بين أن الأبرار هم المتقون بقوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [آل عمران: 198]. وروى أبو نعيم عن ثور بن يزيد قال: قرأت في التوراة: إنَّ الزُّناة والسُّراق إذا سمعوا بثواب الله للأبرار، طمعوا أن يكونوا معهم بلا نَصَب ¬
ولا تعب ولا مشقة [على أبدانهم، ولا مخالفة لأهوائهم] (¬1)، وهذا ما لا يكون (¬2). وروى أبو القاسم إسحاق الختلي في "الديباج" عن ثور بن يزيد -أيضًا- قال: مكتوب في بعض الكتب: القلب المحب لله يحبُّ النَّصَب لله، فلا تظن يا ابن آدم أنك مدرك رفعة البر بغير مشقة (¬3). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن خالد بن شوذب قال: شهدت الحسن وأتاه فرقد رحمهما الله تعالى، فأخذ الحسن بكسائه فمدَّه إليه، فقال: يا فريقد! يا ابن أم فرقد! إن البر ليس في هذا الكساء، إنما البر ما وقع في القلب، وصدَّقهُ العمل (¬4). وروى أبو نعيم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليْسَ البِرُّ في حُسْنِ اللّبَاسِ وَالزِّيِّ، وَلَكِنَّ البِرَّ السَّكِيْنَةُ وَالوَقَارُ". ومن فوائد الحديث المذكور: أنَّ من صفات الأبرار إِيثار الخفاء والخمول على الشهرة والنباهة، حتى لا يعرفهم الناس، ولا يهتمون بشأنهم، وهذا علامة الولاية والقرب، والاعتناء بهم من الله ¬
تعالى، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِيْ طِمْرَيْنِ، تنبُوْ عَنْهُ أَعْيُنُ الناسِ؛ لَوْ أَقْسَمَ عَلى اللهِ لأَبَرَّهُ". رواه الحاكم وصححه، وأبو نعيم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). وهو في "صحيح مسلم"، ولفظه: "رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، مَدْفُوْعٍ بِالأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلى اللهِ لأَبَره" (¬2). ورواه البزار من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - بلفظ: "ذِيْ طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ بِهِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلى الله لأَبَرَّهُ" (¬3). وأنشد ابن رجب في كتابا اختيار الأولى في اختصام الملأ الأعلى": [من مجزوء الرمل] رُبَّ ذِيْ طِمْرَيْنِ نَضْوٍ ... يَأمَنُ الْعالَمُ شَرَّهْ لا يُرى إلا غنيًا ... وَهْوُ لا يَمْلِكُ ذَرَّهْ ثُمَّ لَوْ أَقْسَمَ فِيْ شَيْءٍ .... عَلَىْ اللهِ أَبَرَّهْ (¬4) ¬
وقال الشيخ العارف بالله سيدي علوان الحموي - رضي الله عنه - في المعنى: [من مجزوء الرمل] رُبَّ ذِيْ طِمْرَيْنِ أَشْعَثَ ... يَعْتَرِيْهِ وَصْفُ غَيرَهْ تَرَكَ الدُّنيا اخْتِياراً ... فَهُوَ لا يَمْلِكُ ذَرَّه خامِلِ الذّكْرِ حَقِيْرٍ ... مَهْما يَجْهَلُ قَدْرَه إِنْ دَنَا يَوْماً عَلَيْنا ... فَهُوَ مَدْفُوع بِمَرَّة وَلَهُ جاهٌ وَقَدْرٌ ... عِنْدَ مَوْلاهُ وَشهْرَة فَهُوْ لَوْ آلَىْ عَلَىْ اللـ ... ـه فِيْ يَمِيْنٍ لأَبَرَّه وقد قلت في سنة ثمان وتسعين وتسع مئة قصيدة بائية في مدح الأولياء، والتحذير من الإنكار عليهم، والترغيب في حبهم مع الإشارة إلى خفائهم، والتلميح بالحديث المذكور، والاقتباس للحديث المتقدم "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" (¬1)، وقد أحببت إثباتها هنا وهي: [من المجتث] كَمْ مِنْ وَلِي خَفِيٍّ ... إِلَيْهِ لا يُتَنبَّهْ تَراهُ يَبْدُوْ حَقِيْراً ... بِشَأْنِهِ لَيْسَ يُؤْبَه مَعْ أَنَّهُ ذُوْ مَقامٍ ... تُجِلُّهُ أَنْ يُشَبَّهْ أَحَبَّهُ اللهُ لَمَّا ... أَصْغَىْ إِلَىْ الله حُبَّه ¬
فَلا تَكُنْ مُنْكراً ... أَحْوالَهُ فتشَبَّهْ فَإنَّما هُوَ سِرٌّ ... أَوْلاهُ رَبيْ مُحِبَّه إِنْ لَمْ تَنَلْ مِنْهُ حَظًّا ... فَلِمْ تُنازِعُ حِزْبَه أقلُّهُمْ لَيْسَ تَقْوَىْ ... بِأَنْ تُقابِلَ حَرْبَهْ أَنَّىْ تُحارِبُ جَيْشاً ... كانَ الْمُهَيْمِنُ حَسْبَهْ وَالله لَيْسَ يُهْزَمُ ... مع الضاد لك حسبه فارْجَعْ إِلَىْ الْحَقِّ طَوْعاً ... فَالْحَق ما فِيْه لَعِبَهْ وإنْ تَسَلْهُ تُسَلَّمْ ... وَاللهُ يَكْفِيْكَ خَطْبَهْ وإنْ تَرِدْ بعد ..... (¬1) ... مِنْ مَنْهَلِ الْقَوْمِ شَرْبَهْ ولم يكن ........ (¬2) ... شهم منهم وبينك نسبة فَاخْلُصْ إِلَيْهِمْ وَأَخْلِص ... لَهُمْ فُؤادَ الْمَحَبَّةْ فَإِنَّها لَكَ قُرْبَةْ ... إِلَيْهِمُ أيُّ قُرْبَه عَساكَ تُحْشَرُ مَعْهُم ... فَإِنَّهمْ خَيْرُ حَلْبَةْ وَحُبُّهُمْ فِيْهِ بِرٌّ ... وَفِيْهِ خَيْرٌ وَحِسْبَهْ وفي الحديث [الذي] رويناه "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" [فوائد]، ومن ¬
فوائد هذا الحديث: أنَّ من أحوال الأبرار إيثار العزلة والوحدة؛ فإنَّ الخفاء أبلغ ما يكون بها. روى ابن أبي الدنيا عن الفيض بن إسحاق قال: ذكر عند حذيفة المرعشي الوحدة وما يكره منها، فقال: إنما يكره ذلك للجاهل، فأمَّا عالم يعرف ما يأتي فلا. وقال: ما أعلم من أعمال البر أفضل من لزومك بيتك، ولو كانت لك حيلة لهذه الفرائض لكان ينبغي لك أن تحتال لها (¬1). وسبق أن ابن أبي الدنيا روى عن مالك بن دينار قال: كان الأبرار يتواصون بثلاث: سجن اللسان، والاستغفار، والعزلة (¬2). والمراد الاعتزال عن عموم الخلق اشتغالاً بالله تعالى إلا قدر الضرورة، وكلما خاف من أحد فتنة في دينه تعين الفرار منه، ومن ثم ورد التحذير من الدخول على الأمراء؛ لأن فتنتهم أشد، خصوصًا في هذه الأعصار. وقد روى أبو نعيم عن فضيل بن جعفر: أنَّ الحسن خرج من عند ابن هبيرة، فإذا هو بالقراء على الباب، فقال: ما يجلسكم ها هنا؟ تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء؟ أما والله ما مجالستهم بمجالسة الأبرار، تفرقوا فرق الله بين أرواحكم وأجسادكم، فرطحتم نعالكم، وشمرتم ¬
ثيابكم، وجززتم شعوركم، فضحتم القراء فضحكم الله، أما والله لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم، فأبعد الله من أبعد (¬1). - ومنها: الخفاء، وإسرار الأعمال الصالحة، وخصوصاً الذكر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيْرُ الذكْرِ الخَفِيُّ، وَخَيْرُ الرزْقِ مَا يَكْفِيْ". رواه الإِمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي في "الشعب" من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - (¬2). وروى أبو داود، والترمذي، والنسائي عن عقبه بن عامر - رضي الله عنه -، والحاكم وصححه، عن معاذ - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْجَاهِرُ بِالقُرْآنِ كَالجِاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ" (¬3). وروى الإِمام أحمد، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلّ إِلى فَقِيْر في سِرِّ" (¬4). ¬
وفي كتاب الله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: إنَّ الله جعل صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً. قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). وقال قتادة: كل معنى من الصدقات مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السر أفضل. رواه ابن جرير (¬2). فالأعمال إنما تكون برًا بالصدق فيها؛ فإن كانت سراً كانت أبر. ومن فوائد الحديث السابق أيضًا: أنَّ الأبرار من شأنهم إعراض الناس عنهم، واحتقارهم حتى لا يدعوهم إذا حضروا, ولا يعتنوا بهم، ولا يتفقدوهم إذا غابوا، وهو وصف غالب عليهم، وقد يكونون بخلاف ذلك. وقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفقراء الذين يسبقون إلى الجنة بذلك، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬
"يَدْخُلُ فُقَرَاءُ أُمَّتِيْ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِيْنَ خَرِيْفًا"، فقيل له: صفهم لنا، قال: "الدَّنِسَةُ ثَيَابُهُمْ، الشَّعِثَةُ رُؤُوْسُهُمْ، الذِيْنَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ عَلى السُّدَّاتِ، وَلا يَنْكِحُوْنَ المُتَنَعِّمَاتِ، تُوْكَلُ بِهِمْ مَشَارِقُ الأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، يُعْطُوْنَ كُل الذِيْ عَلَيْهِمْ، وَلا يُعْطَوْنَ الَذِيْ لَهُمْ". رواه الطبراني في "معجمه الكبير"، و"الأوسط" (¬1). قال المنذري: ورواته ثقات (¬2). ومن فوائد الحديث: أنَّ من صفة الأبرار إيضاح سبيل الهدى بالتربية والتعليم، وحسن الرعاية، خصوصاً في أيام الفتن والاختلاط والمحن، كما أن المصابيح توضح الطرق للسائرين في جنح الليالي المظلمة، كما يؤخذ من قوله: "مصابيح الهدى". فإن قلت: كيف يكونون مصابيح الهدى وهم أخفياء لا يكاد الناس يعرفونهم، ولا يلتفتون إليهم؟ قلت: إنَّما يعرفهم السائرون إلى الله، المريدون لوجهه، الصادقون في إرادتهم له وسيرهم إليه، كما أنَّ النجوم هي مصابيح السماء لا يلتفت إليها أكثر الناس، ولا يراعونها لعدم احتياجهم إليها، بخلاف السائرين في جنح الليالي؛ فإنهم يتقصدونها شروقًا وغروباً، ويتعرفونها، ويتفقدونها، ويراعونها، ويراقبونها لشدة اشتياقهم إليها، فالنجوم في ¬
حق هؤلاء ليست خفية عنهم، بخلافها في حق غيرهم ممن هو غافل عنها لعدم احتياجه إليها. وقد تبين لك بذلك أن الأولياء ليسوا بأخفياء في أنفسهم، ولا محجوبين، وإنما الناس هم المحجوبون عنهم بغفلتهم، وعدم تقصدهم، وأما من طلب الله وصدق في طلبه، وقصدهم في الدلالة عليه، وصدق في قصده إياهم، فإنهم لا يختفون عنه ولا يحجب هو عنهم. ولما طلب سليمان بن عبد الملك أبا حازم سلمة بن دينار فكلمه، ودعاه إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة حتى أثر كلامه في سليمان، وكان الزهريّ حاضرًا، قال الزهريّ: إنَّه لجاري ثلاثين سنة وما كلمته قط، وفي رواية: وما علمت أنه يحسن مثل هذا، قال له أبو حازم: إنكَ نسيت الله فنسيتني، ولو أحببتَ الله لأحببتني، قال الزهريّ: أتشتمني؟ قال أبو حازم: بل أنتَ شتمت نفسك؛ أما علمت أنَّ للجار على جاره حقًا؟ والقصة رواها أبو نعيم، وابن الجوزي، وغيرهما (¬1). فأشار أبو حازم إلى أنَّ أهل ولاية الله تعالى المشتغلين به لا يعرفهم إلا من أحبَّ الله تعالى؛ لأنَّ من أحبَّهُ أحبَّ أولياءَه، وطلبهم فوجدهم، ¬
والزهري مع ما كان عليهِ من العلم، شغله حاله عن معرفة مقام أبي حازم، وهو جاره ثلاثين سنة، وما كان كلام أبي حازم له إلا من باب النصيحة، وإرشاداً لهُ إلى ما هو مطلوب منه من الإحسان إلى الجار وتفقد أحواله؛ إذ في تفقد أحوال الجار وإكرامه والإحسان إليه التوصل إلى معرفة مقامه والتبرك به والانتفاع بما هو عليه من الحكمة والولاية إن كان من أهلها؛ فافهم! ومن فوائد الحديث المشار إليه: أنَّ الله تعالى يكرم الأبرار الذين هذه صفاتهم بإنقاذهم من الفتن الغبراوات المظلمات، وهذا من أسعد السعادات، وأفضل الفوائد، وفي حديث المقداد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ السَّعِيْدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ؛ فَواهاً". رواه أبو داود (¬1)، وغيره. ومعنى قوله: "فواها"؛ أي: فوا عجباً لهما. وروى الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: إن لله ضنائن من عباده يغذيهم في رحمة، ويحييهم في عافية، إذا توفاهم توفاهم إلى جنته، أولئك الذين تمرُّ عليهم الفتن كَقِطع الليل المظلم، وهم منها في عافية (¬2). ¬
تنبيه أول
وقد تقدم نظير ذلك: أنَّ الصالحين لا تقوم عليهم الساعة، ولا يقاسون أهوالها, ولا يفتنون في قبورهم، ويدافع عنهم برَّهم، وأعمالهم الصالحة. وقلت: [من الخفيف] كُنْ حِبِّيَ بَرًّا لَعَلَّكَ تَنْجُوْ ... مِنْ عَذابٍ وَفِتْنَةٍ غَبْراءِ تَنْجَلِيْ عَنْكَ بِالصَّلاحِ وَبِالْيُسْرِ ... دَياجِيْ حَنادِسِ الظَّلْماءِ وَلَدَىْ الْقَبْرِ وَالْقِيامَةِ تُلْفِيْ ... عَمَلَ الْبِرِّ أَنْفَعَ النُّصَراءِ يا لَهُ مِنْ مُؤانِسٍ وَصَدِيْقٍ ... وافِيًا عِنْدَ غَيْبَة الأَصْدِقاءِ * تنبِيْهٌ أَوَّلٌ: الحديث -وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ يَسِيْرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ" (¬1) - يشير إلى أن من صفات الأبرار التنزه عن الرياء؛ إذ لا برَّ مع الشرك، والتحلي بحلية الإخلاص، وهذا عماد كل بِرٍّ، وبه ثبات كل خير، وبالإخلاص يحصل لهم الخلاص من الفتن، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طُوْبَى لِلْمُخْلِصِيْنَ، أُوْلَئِكَ مَصَابِيْحُ الهُدَى، تنجَلِيْ عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ ظَلْمَاءَ". رواه ابن أبي الدنيا في "الإخلاص"، والبيهقي في "الشعب" عن ثوبان - رضي الله عنه - (¬2). ¬
تنبيه ثان
فوصف - صلى الله عليه وسلم - المخلصين بما وصف به الأبرار، فقال: "أُولَئِكَ مَصَابِيْحُ الهُدَى ... " إلى آخره، فالإخلاص نور تلك المصابيح، وبه تنجلي الظلماء عنهم، وتتضح لهم طرق الهدى؛ فافهم! * تنبِيْهٌ ثانٍ: سبقَ تفسير البر في قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا} [آل عمران: 92] أنه الجنَّة؛ كما رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - قال: "لِكُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ البِر بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وإنَ بَابَ الصّيَامِ يُدْعَى الرَّيَان" (¬2). ظاهر هذا الحديث: أن للجنة أبواباً كثيرة بعدد أنواع البر، والمشهور أنها ثمانية. يحتمل أنَّ الثمانية هي الأبواب الكبيرة العظيمة ولها أبواب دون ذلك، ويحتمل أن يكون لكل بِرٍّ باب، لكنهُ قد يتوافق أنواع من البر في باب واحد من الثمانية. [فائدة] (¬3): دعاء الأبرار مستجاب؛ لقوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ ¬
لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195]. ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء لمن أضافوه: "أَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ" (¬1)؛ لأنهم إذا أكلوا دعوا لصاحبه؛ لأنَّ من السّنة الدعاء للمضيف وللمحسن، ودعاؤهم ترجى إجابتهُ. وروي عن زيد بن أسلم قال: خرج عمر - رضي الله عنه - ذات ليلة يحرس، فرأى مصباحاً في بيت؛ إذا عجوز تنفش صوفًا وتقول: [من الرجز] عَلَىْ مُحَمَّدٍ صَلاةُ الأَبْرارْ ... صَلَّىْ عَلَيْهِ الطيبوْنَ الأَخْيارْ قَدْ كُنْتُ قَوَّاماً بِذا بِالأَسْحارْ ... يا لَيْتَ شِعْرِيْ وَالْمَنايا أَطْوارْ هَلْ تَجْمَعَنيْ وَحَبِيْبِيَ الدَّارْ ... تعني: النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجلس عمر - رضي الله عنه - يبكي. وفي رواية أنه قال لها: لا تنسي عمر، فقالت: وَعُمَرُ فَاغفِرْ لَهُ يا غَفَّارُ (¬2) ¬
فائدة أخرى
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد" عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح (¬1). وروى أبو نعيم عن سفيان رحمه الله: أنه قيل له في خلافة أبي جعفر -وهو يتخوف منه-: يا أبا عبد الله! لو دعوت بدعوات، فقال: ترك الذنوب هو الدعاء (¬2). وقد علمت أن البر لا يتم [إلا] بتركك الذنوب، وقلت: [من مجزوء الكامل] مَهْما أَرَدْتَ إِجابَةً ... فِيْ حاجَةٍ أَنْ تُسْرِعا فَدَعِ الذُنُوْبَ فَإِنَّما ... تَرْكُ الذُّنُوْبَ هُوَ الدُّعا * فائِدَةٌ أُخْرَىْ: روى البيهقي عن الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى: أنه قال: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: حليم من أحمق، وشريف من دنيء، وبرٌّ من فاجر (¬3). وأخرجه أبو نعيم من قول سليمان بن موسى الأشدق رحمه الله: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: حليم من جاهل، وبر من فاجر، ¬
فائدة ثالثة
وشريف من دنيء (¬1). ووجهه: أن الحليم يمنعه حلمه من السفه ومن مشاكلته، والأحمق الجاهل ليس له عمل يمنعه من قوله فيبقى الحليم في حسرةٍ منه، والشريف يمنعه شرفهُ من التنزل إلى أخلاق أهل الدناءة، ومن مقابلتها بمثلها، ويرى أن مقابلة الدنيء بمثل ما يأتي به مساواة له في الدناءة، والبر يمنعه بره من الفجور، وتقواه من الشقي بالإثم والعدوان. وقد روى ابن أبي الدنيا في "التقوى"، وغيره عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اتَّقَى الله كَلَّ لِسَانهُ، وَلَمْ يَشْفِ غَيْظَه" (¬2). * فائِدَةٌ ثالِثةٌ: قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]؛ أي: وتنسون أنفسكم من العمل به. أو المعنى: أتدلون الناس على ما فيه برهم وتنسون أنفسكم من البر؟ روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والبزار، وابن أبي داود في ¬
فائدة رابعة
"البعث"، وابن حبان، وأبو نعيم، والبيهقي، وغيرهم عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِيْ رِجَالاً تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيْضَ مِنْ ناَرٍ، كُلمَا قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيْلَ عَليْهِ السَّلامُ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، كَانُوْا يَأمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَينْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُوْنَ الكِتَابَ، أفلا يَعْقِلُوْنَ" (¬1). * فائِدَةٌ رابِعَةٌ: روى أبو نعيم عن أبي عبد الله البراثي (¬2) رحمه الله: أنه كان يقول: ما بينك وبين ملاقاة السرور، ومجالسة الأبرار في كلِّ لذة وحُبور، إلا أن تفارق نفسك من بين جنبيك، والمولى عنك راضٍ، ثم يبكي ويقول: وأنَّى بالرضا ونحن نعلم ما عندنا من الخطايا والآثام، ثم يبكي (¬3). * فائِدَةٌ خامِسَةٌ: روى ابن جهضم عن أبي سعيد الخرّاز رحمه الله قال: سَتَرَتْ العافية البَر والفاجر، فإذا جاءت البلوى تبين عندها الرجال (¬4). ¬
قلت: وأكثر الناس في العافية فجار طغاة بغاة. قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]. وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]. ولكن فجورهم وطغيانهم ونعتهم مستور بالعافية عن أنفسهم يحسبون أنهم أبرار، وأنَّ العافية جزاؤهم، وبعض الناس يحسبون أنفسهم إنما خولوا وعوفوا لبرهم، فإذا جاء البلاء كفروا نعمة الله تعالى، وسخطوا فضلهُ، ووقعوا فيما يقعون فيه، فانكشف أمرهم، وتبين زيفهم. ومن أفراد معنى العافية: الغنى؛ فإن اللئيم قد يسترهُ ماله، بل جرت العادة أن ذا المال مكرم عند كثير الناس وإن لم ينالوا من ماله، فإذا افتقر انكشفت عيوبه لهم، ولقد أحسنَ القائل: رُبَّ قَوْمٍ فِيْ خَلائِقِهِمْ ... عرر قد صُيِّرُوا غُرُرَا سَتَرَ الْمالُ الْقَبِيْحَ لَهُمْ ... سَتَرَىْ إِنْ زالَ ما سَتَرَا فاعلم أنَّ أكثر الناس فجار في العافية والبلاء، وفي الرخاء والشدة إلا من [هداه] (¬1) الله بنور التوفيق، وهم الأبرار، وهذا في كتاب الله تعالى في قوله: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]. أي: تواصوا ¬
فائدة سادسة
بالحق في حال العافية والرَّخاء، لا يميلون عن الحق ولا يظلمون حقاً، وتواصوا بالصبر في حال النبلاء والشدة؛ لأن الصبر ينتهي بهم إلى البر. وما بعد حرف الاستثناء في الآية هو مجموع أوصاف الصالحين والأبرار. وهذه السورة أجمع سورة لأحوال الناس ومصيرهم، وأنفعها موعظة مع كمال الإيجاز ونهاية الإعجاز، ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2] إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر. كما رواه الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الشعب" عن أبي مدينة الدارمي، وكانت له صحبة - رضي الله عنه - (¬1). * فائِدَةٌ سادِسَةٌ: روى البيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صَلُّوْا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَصَلُّوْا عَلى كُلٌ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَجَاهِدُوْا مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ" (¬2). المراد بالفاجر ما دون الكافر من عصاة المؤمنين؛ بدليل حديث ¬
فائدة سابعة
ابن عمر - رضي الله عنهما -: "صَلُّوْا عَلَىْ مَنْ قالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَخَلْفَ مَنْ قالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ الله". رواه الطبراني، وأبو نعيم، والخطيب (¬1). وإنما صحت الصلاة خلف الفاسق؛ لأن الجماعة رحمة، والعاصي أحوج إليها، وعلى الفاسق؛ لأن الصلاة على الميت دعاء، وهو أحوج إليه، وجاز الجهاد مع الأئمة الفُساق خشية من شق العصا، وإن كان الجهافى مع الأَّمر البر أفضل، والصلاة خلف الإِمام العدل البر أفضل؛ لأن الأئمة شفعاء. * فائِدَةٌ سابِعَةٌ: قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8]، أي: برها، وعبر عنه بالتقوى لرعاية رؤوس الآي، مع أنَّ التقوى تؤدي معنى البر كما علمت. ومعنى ألهمها: بيَّن لها، وعَرَّفها. رواه الحاكم وصححه، عن ابن عباس من طريق مجاهد (¬2). ¬
فائدة ثامنة
وصحح عنه من طريق سعيد بن جبير: أنَّه قال: ألهمها: ألزمها (¬1). وأخرجه الديلمي من حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا (¬2). ومذهب أهل السنة أن التوفيق: خَلقُ قدرة الطاعة والبر في العبد، والخذلان خلق قدرة المعصية. وروى الطبراني بسند حسن، عن ابن عباس كما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا هذه الآية: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8] وقف، ثم قال: "اللَّهُمَّ آتِ نفسِي تَقْوَاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا وَخَيْرُ مَنْ زَكَاهَا" (¬3). وروى ابن أبي شيبة، والنسائي عن زيد بن أرقم أنَّه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا" (¬4). * فائِدَةٌ ثامِنةٌ: قال الله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ ¬
أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 5 - 6]. قال قتاده في قوله: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}: لا تلقى ابن آدم إلا تنزع نفسه إلى معصية الله قدمًا قدمًا إلا من عصم الله. رواه ابن جرير (¬1). وقال ابن عباس: يقدم الذنب ويؤخر التوبة. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الأمل"، والبيهقي في "الشعب" (¬2). وروى ابن جرير عنه أنه قال: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}؛ يعني: الأمل، يقول: أعمل ثم أتوب (¬3). وهذا حال أكثر الناس إلا من عصمه الله تعالى، فيقدم [نية المعصية والعمل السيئ، ويؤخر] (¬4) نية البر والعمل الصالح، كما قال تعالى حكايته عن يوسف عليه السلام: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]. فطول الأمل للعمل الصالح والاستكثار من البر والخير محمود من صفة الأبرار، وطول الأمل لمتابعة الهوى وتحصيل شهوات الدنيا والاستكثار من الأغراض العاجلة مذموم من صفة الفجار. ¬
فائدة تاسعة
* فائِدَةٌ تاسِعَةٌ: روى أبو نعيم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ صَبَاحٍ فَيَعْلَمُ ملكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبي مُرْسَل مَا يَكُوْنُ في آخِرِ ذَلِكَ اليَوْمِ، فَيقْسِمُ اللهُ تَعَالى فِيْهِ قُوْتَ كُلِّ دابّةٍ، حَتَّى إِنَّ الرجُلَ ليَجِيْءُ مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ وَإِن الشيِطَانَ بَيْنَ عَاتِقَيْهِ فَيَقُوْلُ لَهُ: اكْذِبْ بِالْحَقِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأكلُ رِزْقَهُ بِكَذِبٍ وَفُجُوْرٍ، فَذَلِكَ الْخَائِنُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأخُذُهُ بِبِرٍّ وَتَقْوْى، فَذَلِكَ الّذِي عَزَمَ اللهُ عز وجل عَلى رُشْدِهِ" (¬1). * فائِدَةٌ عاشِرَةٌ: روى الديلمي في "مسند الفردوس" عن علي، وعن ابن عمر - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَزَالُ هَذه الأمةُ تَحْتَ يَدِ اللهِ وَكَنَفِهِ مَا لَمْ يُعَظِّمْ أَبْرَارُهَا فُجَّارَهَا، وُيدَاهِنْ خِيَارُهَا شِرَارَهَا"، وإسنادهما ضعيف (¬2). وروى أبو سعيد بن الأعرابي في "شرف الفقر"، وابن السمعاني في "أماليه" عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنهم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَدُ الله وَكَنَفُهُ عَلى هَذه الأُمةِ مَا لَمْ تَعْمَلْ بِثَلاثٍ: مَا لَمْ يُوَقِّرْ أَبْرَارُهَا فُجارَهَا، وَيمِلْ قُرَّاؤُهَا إِلى أُمَرَائِهَا، ويعَظِّمْ خِيَارُهَا شِرَارَهَا، ¬
فَإِذَا فَعَلُوْا ذَلِكَ أَخَذَهُمُ اللهُ عز وجل بِالذُلِّ، وَابْتَلاهُمْ بِالفَقْرِ، وَسَلَّطَ عَليِهِمْ جَبَابِرَتَهُمْ يَسُوْمُوْنهمْ سُوْءَ العَذَابِ" (¬1). قلتُ: ومصداق هذا الحديث في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} [الرعد: 37]. فقد أخبر سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم -وهو أبو الأبرار، وخير الأخيار- أنه إنْ مال إلى أهواء الفجار تخلى عنه فلا يقيه، ولا ينصره ولا يواليه، وإنما خاطب بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان المراد بمثل ذلك غيره من الأمة؛ لأن ذلك أبلغ في زجر الأمة عن متابعة الفجار، وإنما يقع التعميم في الوعيد بين الأخيار والأشرار إذا وَقَّرَ الأخيار الأشرار، وعظموهم، ومالوا إليهم، لأنهم تساووا حينئذ في الظلم المستتبع للعذاب؛ لأن الميل إلى الظالم وتوقيره محبة لظلمه، ورضى به، والراضي بالظلم ظالم كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]. وقال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]. روى ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال في الآية: ¬
فائدة حادية عشرة
{وَلَا تَرْكَنُوا}: لا تميلوا (¬1). وروى ابن أبي حاتم عنه أنه قال فيها: لا تداهنوا (¬2). وقال عكرمة: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا: أن تطيعوهم، أو تودوهم، أو تصطنعوهم. وقال أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم. رواهما أبو الشيخ (¬3). وروى ابن جهضم عن حذيفة المرعشي رحمه الله: أنه قال: إياكم وهدايا الفجار والسفهاء؛ فإنكم إن قبلتموها ظنوا أنكم قد رضيتم فعلهم (¬4). * فائِدَة حاديةَ عَشْرَةَ: روى ابن أبي شيبة عن ابن الزبير - رضي الله عنهما - قال: إن الإِمام مثل السوق يأتيه ما كان فيه؛ فإن كان بَرًّا جاءه أهل البِر، وإن كان فاجرًا جاءه أهل الفجور (¬5). * فائِدَةٌ ثانِيةَ عَشْرَةَ: روى الإِمام أحمد في "الزهد" عن عثمان السحام أبي سلمة، عن ¬
فائدة ثالثة عشرة
شيخ من أهل البصرة كان له فضل، وكان له سن: أنَّ داود عليه السلام قال: أي ربِّ! كيف لي أن تحببني في أهل الدنيا البر والفاجر؟ قال: يا داود! تصانع أهل الدنيا لدنياهم، وتحب أهل الآخرة لآخرتهم، وتختار إليك دينك (¬1). يعني: فإنك إذا بلغت ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت. وفي ضد هذا المعنى: ما رواه أبو نعيم عن أبي طيبة الجرجاني قال: قلت لكرز بن وبرة رحمه الله: ما الذي يبغضه البر والفاجر؟ قال: العبد يكون من أهل الآخرة ثم يرجع إلى الدنيا (¬2). قلت: سبب بغض الأبرار له إعراضهُ عن طلب الآخرة، وحبه الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، وسبب بغض الفجار له أنه زاحمهم -لرجوعه إلى الدنيا- على مطلوبهم. * فائِدَةٌ ثالِثَةَ عَشْرَةَ: روى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، وابن باكُويه الشيرازي في "الألقاب" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الفَاجِرُ الرَّاجِيْ لِرَحْمَةِ اللهِ أَقْرَبُ مِنْهَا مِنَ العَابِدِ الْمُقْنِطِ" (¬3). ¬
فائدة رابعة عشرة
إنما لم يقابل الفاجر بالبر بل بالعابد؛ لأنه لا برَّ له مع القنوط من رحمه الله تعالى أصلًا. * فائِدَةٌ رابِعَةَ عَشْرَةَ: روى أبو بكر بن مردويه في "تفسيره" عن كثير بن عطية، عن رجل لم يسمَّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يقول: "اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لِفَاجِر عِنْدِي يَدًا، فَيُحِبهُ قَلْبِيْ". وأخرجه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث معاذ - رضي الله عنه -، وأبو موسى المديني في كتاب "تضييع العمر والأيام" من طريق آل البيت مرسلاً، وطرقه كلها ضعيفة (¬1). وفيه ترتبت المحبة على الإحسان، كما في حديث ابن مسعود مرفوعًا، وموقوفاً: "جُبِلَتِ القُلُوْبُ عَلى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِليْهَا، وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِليِهَا". رواه جماعة منهم ابن عدي في "الكامل"، والبيهقي، وقال: إن الموقوف معروف (¬2). ويشير إلى معناه: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَحِبُّوْا اللهَ لِمَا يَغْذُوْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبوْني لِحُبِّ اللهِ إِيَّايَ". ¬
حسنه الترمذي (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد" عن عبد الله بن الحارث قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: أحبني، وأحب عبادي، وحببني إلى عبادي، قال داود: يا رب! هذا أحبك، وأحب عبادك، فكيف أحببك إلى عبادك؟ قال: تذكرني عندهم؛ فإنهم لا يذكرون مني إلا الحسن (¬2). وقوله: "وأحب عبادي": الإضافة فيه تخصيصية؛ أي: عبادي المختصين بي، كما في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49]. فأما محبة العصاة منهم والفجار من حيث المعصية فمنهي عنها. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَليَّ يَدًا" يخرج البَرَّ؛ فإن يده محبوبة وإحسانه مقبول، وإذا دعا إحسانه المحسن إليه إلى حبه، فحبه من أفضل الأعمال بخلاف الفاسق. ومن هنا نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إجابة طعام الفاسقين. رواه ¬
فائدة خامسة عشرة
الطبراني، والبيهقي عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - (¬1). * فائِدَةٌ خامِسَةَ عَشْرَةَ: روى البغوي في "معجم الصحابة"، والبزار، والطبراني، وابن السَّكَن في "صحاحه"، وابن منده، وصححه ابن حجر، وغيره، عن أبي طويل شطب الممدود (¬2) - رضي الله عنه -: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أرأيت رجلًا عمل الذُّنوبَ كُلّها فلم يترك مِنها شيئًا، وهو مع ذلك لم يَتركْ حاجةً ولا داجةً إلا أتاها فهل لذلك من توبة؟ قال: "أليْسَ قَدْ أَسْلَمْتَ؟ " قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا رسول الله، قال: "نَعَمْ، تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكُ السيِئَاتِ، فَيَجْعَلُهُنَّ اللهُ لَكَ حَسَنَاتٍ كُلَّهُنَّ"، قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: "نعمْ"، قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى (¬3). هذا الحديث: فيه دليل على أن البر لا يضر صاحبه ما تقدمه من ¬
فائدة سادسة عشرة
الفجور، وأنه يُكفر الفجور، ويؤيده ما سبق في قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. وفيه دليل أن التوبة أول أبواب البر، كما يشير إليه قوله: "وتترك السيئات"؛ فإن التوبة إنما تتحقق بترك المعصية. * فائِدَةٌ سادِسَةَ عَشْرَةَ: البر يقابل الفجور، وهو كما في "القاموس": الانبعاث في المعاصي، ويقال: فجرَ: إذا فَسقَ، وكذب، وعصى، وخالف (¬1). وفي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَلَيْكُمْ بِالصّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَجُلُ يَصْدُقُ وَيتحَرَّى الصدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِديْقًا، وإيَّاكُمْ والكَذبَ؛ فَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلى الفُجُوْرِ، وإنَّ الفُجُوْرَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيتحَرَّى الكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا" (¬2). رواه الإِمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والترمذي. وروى الطبراني في "الكبير" عن معاوية - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَلَيْكُمْ بِالصدْقِ؛ فَإِنهُ يَهْدِي إِلى البِر وَهُمَا في الجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالكَذِبَ؛ ¬
فائدة سابعة عشرة
فَإِنَهُ يَهْدِي إِلى الفُجُوْرِ وَهُمَا في النَّارِ" (¬1). وروى الإمامان مالك، وأحمد، والبخاري في "الأدب"، والنسائي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، والحاكم، وغيرهما، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَليِكُمْ بِالصدْقِ؛ فَإنهُ مَعَ البر وَهُمَا في الجَنَّةِ، وَإياكُمْ وَالكَذِبَ؛ فَإِنَهُ مَعَ الفُجُوْرِ وَهُمَا في النَّارِ" (¬2). * فائِدَةٌ سابِعَةَ عَشْرَةَ: روى أبو داود، والترمذي، والحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُؤْمِنُ غِرُّ كَرِيْمٌ، وَالفَاجِرُ خَبٌّ لئِيْم" (¬3). الخب -بفتح الخاء المعجمة، والكسر-: الْخَداع. قابل المؤمن بالفاجر، وهو موافق لقول المحققين: إنَّ الإيمان قولٌ وعملٌ ونيةٌ. وأراد بالمؤمن الطائع المنبعث في الطاعة، وبالفاجر العاصي ¬
فائدة ثامنة عشرة
المنبعث في المعصية. وفيه دليل على أن الخديعة ليست من أخلاق الأبرار، ولا اللؤم من صفاتهم. * فائِدَةٌ ثامِنَةَ عَشْرَةَ: روى الإِمام أحمد، وغيره عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإنَ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه، فقال به هكذا، فذبه عنه (¬1). وأراد أن المؤمن يهتم لذنبه، ويخاف العقوبة؛ لأنه مصدق بالوعيد، والفاجر يتمرن على الذنب ويرين الذنب على قلبه، فيضعف تصديقه بالوعيد، فلا يهتم للذنب، ولا يخاف العقوبة، فلا يبادر إلى التوبة ولا يعتني بأمرها، بخلاف المؤمن البر. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "محاسبة النفس" عن الحسن في قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]؛ قال: إنَّ المؤمن لا نراه إلا يلوم نفسه؛ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بالكلمة؟ ما أردت بحديثي؟ نفسي؟ ولا أراه إلا معاتبها، وإن الفاجر يمضي قدما لا يعاتب نفسه (¬2). ومعنى قوله: قُدُما -بضم القاف والدال المهملة، وبإسكانها-؛ أي: شجاعاً في المعصية، له جرأة عليها. ¬
فائمة تاسعة عشرة
* فائِمَةٌ تاسِعَةَ عَشْرَةَ: روى الإِمام أحمد في "الزهد"، وابن أبي شيبة عن عبد الله بن مرة رحمه الله: أنَّ رجلًا قال لأبي الدرداء - رضي الله عنه -: أوصني، قال: اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، وإياك ودعوة المظلوم، واعلم أن قليلاً يكفيك، خير من كثير يلهيك، واعلم أنَّ البر لا يبلى، والإثم لا ينسى (¬1). وإنما كان البر لا يبلى؛ لأنه صار عند الله تعالى، وقد قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]. * فائِدَةٌ مُتَمِّمَةُ الْعِشْرِيْنَ: روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ما من نفسٍ برَّةٍ، ولا فاجرةٍ إلا وأنَّ الموت خيرٌ لها من الحياة؛ لئن كان براً لقد قال الله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]، ولئن كان فاجراً لقد قال الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] (¬2). قلت: ولعل محل هذا فيما لو خشي البر على نفسه بالحياة، أو خشي عليه تغير الحال، أو خِيفَ على الفاجر الاسترسال في الفجور فيعظم عقابه، وإلا فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ ¬
وَحَسُنَ عَمَلُهُ". رواه الترمذي من حديث عبد الله بن بُسر - رضي الله عنه -، وحسنه (¬1). وصحح من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله! أي الناس خير؟ قال: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ"، قال: فأي الناس شر؟ قال: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ" (¬2). ومن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ؛ إمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدادُ، وإمَّا مُسِيْئًا فَلَعَلَهُ يَسْتَعْتِبُ". رواه الشيخان (¬3). وروى الترمذي، والبيهقي في "الزهد" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوْتُ إِلا نَدِمَ"، قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: "إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُوْنَ ازْدَادَ، وإنْ كَانَ مُسِيْئًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُوْنَ نَزَعَ" (¬4). والقول الحق في هذا المقام: إنَّ من وفقه الله للبر حتى استوفى أجله الذي أجل له وهو على بره، فحياته خير ومماته خير، ومن خذله الله عن البر ويسره للفجور حتى مات فاجراً، فلا خير فيه ولا خير له. وندامة الأول -إن صح الحديث- ليست من قبيل ما سبق له في ¬
القضاء، بل من حيث نسبةُ نفسهِ إلى التقصير واعترافُه بالعجز، وفي ذلك تمام الاعتراف بالعبودية، وهو نافع له في تلك الدار في ترقية المقام وبسط الرضا، وتمهيد الفتاوى، وإن لم تكن تلك دار تكليف؛ لأن العبودية باقية في تلك الدار، وإنما المرفوع عنهم فيها التكليف بالعبادة. وأمَّا ندامة المسيء فإنها زيادة في نكَاله؛ إذ لا تنفعه الندامة، بخلاف المحسن الأول إذا ندم أولًا ازداد فإنها تنفعه وترفعه كما علمت، وهذا يندم فتثير الندامة منه الحسرات والزفرات، فلا ينتفع منها بشيء إلا إن كان له إحسان وإيمان فإن إحسانه يكفر إساءته مع الإيمان, أما مع غير الإيمان فلا الندامة تنفعهم، ولا الاعتراف ينقذهم، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10، 11]، فندامتهم زيادة في النَّكال، بخلاف ندامة الأبرار على ترك الزيادة، فإنها تؤول بهم إلى الازدياد من الكرامة، وفرق بين الندامتين. وتأمل قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37]: جمع بينهم في أن كل واحد منهم في شأن مخصوص به لا يتفرغ منه لغيره، ثم فرق بين حالي البر والفاجر، فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 38 - 42].
تنبيه نفيس
وكأن في كلامه حذفًا تقديره: وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة؛ أولئك هم الأتقياء البررة. * تنبِيْهٌ نَفِيْسٌ: اعلم أنَّ العبد كما كانت نفسه متمنعة عن طاعة الله تعالى وبره لتعلقها بالدنيا واسترسالها مع الهوى، كان تشبهه بالكُمَّل الأبرار والصالحين الأخيار أعظمَ أجرًا عند الله تعالى وثوابا؛ لأنه أكثر جهادًا لنفسه، وأقوى دفاعا لها عن الهوى. ويدلُّ لذلك: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الَّذِيْ يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالذِيْ يَقْرَؤُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ". رواه الأئمة الستة (¬1). وروى أبو نعيم عن عبد الله بن المبارك: أن سفيان الثوري رحمه الله كان يقول: الأجر على قدر الصبر (¬2) (¬3). ¬
ومن ثم كان الصلاح والكمال في النساء أقل منه في الرجال؛ لأن حبَّ الدنيا واتباع الهوى فيهن أغلب منها، وأمكن فيهم حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَمُلَ مِنَ الرِّجالِ كَثِيْرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاء -يعني: في الأمم الماضية -إِلا آسيَةُ امْرَأة فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بنَتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلى النِّسَاء كَفَضْلِ الثرِيْدِ عَلى سَائِرِ الطعَامِ". رواه ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - (¬1). ومن ثم -أيضًا- كان تبرر النساء أعظمَ أجرًا من تبرر الرجال. وقد روى أبو نعيم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ فُجُوْرَ المَرْأَةِ الفَاجِرَةِ كَفُجُوْرِ ألفِ فَاجِرٍ، وَإِنَّ بِرَّ المَرْأَةِ المُؤْمِنَةِ كَعَمَلِ سَبْعِيْنَ صِدِّيْقًا" (¬2). فإن قلت: إذا كان كذلك فلِمَ تضاعف إثم فجورها مع توفر شهوتها؟ ¬
تتمة مهمة، وخاتمة حسنة
قلت: لأن الله تعالى لما وفر شهوتها وضاعفها، وفَّر حياءها وضاعفه لها أيضًا، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فُضِّلَتِ الْمَرْأة عَلى الرَّجُلِ بِتِسْعَةٍ وتسْعِيْنَ جُزْءًا مِنَ اللَّذَّةِ، وَلكِنَّ الله ألقَى عَليِهِنَّ الحَيَاءَ". رواه البيهقي في "الشعب" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). ولذلك لا تسأل المرأة حليلها الوقاع، بخلاف الرجل، فإذا فجرت المرأة، فإن حجاب الحياء الذي تخرقه بفجورها أعظم من الحجاب الذي يخرقه الرجل بفجوره، فعظم إثمها لذلك، والله سبحانه أعلم. * تَتِمَّةٌ مُهِمَّةٌ، وَخاتِمَةٌ حَسَنَةٌ: قد علمت أن من تشبه بالصالحين والأولياء والأبرار كان منهم، فإذا تشبه بهم في شيء مرة واحدة فهو منهم في الجملة ولا يحرم من خيرهم، وكلما زاد وأكثر كان فيهم أدخل. وقد روى الإِمام عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد"، والخطيب البغدادي في "تاريخه" عن عمرو بن قيس المُلائي رحمه الله: أنه قال: إذا سمعت شيئًا من الخير فاعمل به ولو مرَّة تكن من أهله (¬2). وإنما قال ذلك لأن الله عز وجل لا يضيع عنده مثقال ذرة من خير. ¬
وأبلغ من ذلك: ما رواه الطبراني، وأبو نعيم عن أبي البَخْتَري قال: أصاب سلمان جارية، فقال لها بالفارسية: صلي، قالت: لا، قال: فاسجدي واحدة، قالت: لا، قيل: يا أبا عبد الرحمن! ما تغني عنها سجدة؟ قال: إنها لو صَلَّتْ صَلَّتْ، وليس من له سهم كمن لا سهم له (¬1). وروى أبو نعيم عن أحمد بن أبي الحواري قال: حدثني عبد الخالق ابن جبير قال: سمعت أبا موسى الطرسوسي يقول: ما تفرغ عبدٌ لله تعالى ساعة إلا نظر الله إليه بالرحمة (¬2). وكذلك من نوى أن يتشبه بهم، ويقتدي بهم لا يحرم بركتهم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الصحيحين: "وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" (¬3). وقلت: [من مجزوء الرجز] انْوِ مُعاناةَ الْجَوَىْ ... فِيْ حُبِّ أَرْبابِ الْهَوَىْ تَلْحَقْ بِهِمْ فَإنَّما ... لِكُل مرءٍ ما نَوَىْ يا مَنْ رَوَىْ حَدِيْثَهُمْ ... ما الْمُهْتَدِيْ كَمَنْ غَوَىْ وَلا الَّذِيْ أتَىْ بِما ... أتَوْا بِهِ كَمَنْ رَوَىْ ¬
وقد نص ابن الحاج في "مدخله" على ما ذكرته، فقال في فضل الخروج إلى المسجد، وكيفية النية فيه: وينوي إذا خرج إلى المسجد الاقتداء والاقتباس بآثار من أمرنا باتباعهم من العلماء والصلحاء، ويتأدب بآدابهم؛ يعني: بالنظر إلى تعبدهم، وتصرفهم لأنه "ليس الخبر كالمعاينة" (¬1)، انتهى (¬2). وينبغي لمن نوى التشبه بالصالحين، والتخلق بأخلاقهم أن يرجو نجاز ذلك وتنفيذه من الله تعالى، ولا يعزم على نفسه في ذلك بنذر ونحوه خوفاً من الإخلاف من ذلك؛ فإنه من أفعال المنافقين. قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77]. نسأل الله تعالى العافية، ونبرأ إليه من الحول والقوة، وليس للعبد البار الصالح أحسن من الإنفاق من كنز: لا حول ولا قوة إلا بالله. وروى ابن النجار في "تاريخه" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "أَلا أُخْبِرُكَ بِتَفْسِيْرِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ؟ لا حَوْلَ عِنْ ¬
مَعْصِيَةِ اللهِ إِلا بِعِصْمَةِ الله، وَلا قُوّةَ عَلى طَاعَةِ اللهِ إِلا بِعَوْنِ اللهِ؛ هَكَذَا أَخْبَرني جِبْرِيْلُ عَليْهِ السَّلامُ يَا ابْنَ أُم عَبْدٍ". وأخرجه ابن مردويه، والخطيب، والديلمي بنحوه من طرق (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسيرها: لا حول بنا على العمل بالطاعة إلا بالله، ولا قوة لنا على ترك المعصية إلا بالله (¬2). وعن زهير بن محمَّد: أنه سئل عن تفسيرها، فقال: لا تأخذ ما تحب إلا بالله، ولا تمتنع عما تكره إلا بعون الله (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن مطرف رحمه الله: أنه كان يقول: لو كان الخير في كف أحدنا ما استطاع أن يفرغه في قلبه إلا بتوفيق من الله تعالى، ومشيئته، والله الموفق (¬4). وقلت في معناه: [من الرجز] لو أنَّ وصفَ الخيرِ في كفِّ امرئ ... ما استطاعَ أن يُفْرِغَهُ في قلبه إلا بتوفيقٍ مِنَ اللهِ به ... لا يكفِهِ الإنسانُ غيرَ مَرْته • • • ¬
(4) باب التشبه بالشهداء
(4) باب التَّشَبُّه بِالشَّهَدَاءِ
(4) بَابُ التَّشَبُّه بِالشَّهَدَاءِ اعلم أن الشهداء إما أن تفسرهم بالذين جادوا بأنفسهم حتى قتلوا في سبيل الله تعالى. وإمَّا أن تفسرهم بالعلماء الراسخين في العلم لأنهم شهداء الله في الأرض، وهم الواقفون في مقام الاستدلال من أهل العلم. فإن أخذنا بالتفسير الأول -وهو المتبادر- فبهذه الشهادة يستكمل العبد مقامات الصلاح؛ لأن حقيقة الصلاح شغل النفس بالطاعة ما دامت باقية، فإذا انتهت من الطاعة إلى الجود بذاتها فقد بلغت الغاية. وقد روى النسائي، والحاكم وصححه، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أنَّ رجلًا جاء إلى الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، فقال حين انتهى إلى الصف: اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال: "مَنِ الْمُتِكِّلمُ آنِفًا؟ " قال: أنا، قال: "إِذَنْ يُعْقَرُ جَوادُكَ، وَتُسْتَشْهَدُ في سَبِيْلِ اللهِ" (¬1). ¬
فاعلم أن العبد لا يكون له اختيار في تحصيل الشهادة بنفسه أصلًا إلا بتقديم نفسه للجهاد فقط، ثم إن شاء الله تعالى قُتِلَ في سبيله، وإن شاء سَلِمَ، وحصلَ على أجر الجهاد، وهما الحسنيان. نعم، إذا تقدم إلى الجهاد بنية طلب القتل في سبيل الله تعالى وهو مطمئن النفس على ذلك لو حصل كُتِبَ له ما نوى، فإن قُتِلَ فذاك، وإلا كانت سلامته صدقةً عليه من الله تعالى. فلا طريق إلى التشبه بالشهداء إلا تقديم النفس إلى الجهاد، أو طلب الشهادة من الله تعالى، وتوطين النفس على القتل. وفي "معجم الطبراني الأوسط" بإسناد صحيح: أنَّ عمر - رضي الله عنه - قال يوم أُحد لأخيه: خذ درعي يا أخي، قال: إني أريد من الشهادة مثل الذي تريد، فتركاها جميعًا (¬1). وقد وقعت الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. فانظر كيف فسر الله تعالى بيع المؤمنين أنفسهم إياه بمقاتلتهم الكفار المترتب عليها؛ إمَّا قتلُ المؤمن أحدًا من الكفار، وإما قتله هو بسبب ¬
إصابة أحد من الكفار له، أو بسبب إصابة نفسه سلاحه خطأً في قتالهم، أو نحو ذلك. أمَّا قتلُ الإنسان نفسه على سبيل التعمد فإنه ليس من هذا الباب، سواء كان في معركة الحرب، أو دونها؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]. وروى الشهاب عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة (¬1) إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ". وفي رواية: أيَّنَا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ فقال رجل من القوم: أنا صاحبه أبدًا، قال: فخرج معه كما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحاً شديدًا، فاستعجل الموت، فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين يديه، ثم تحامل على سيفه، فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أشهد إنك رسول الله، قال: "وَما ذاكَ؟ " قال: الرجل الذي ذكرت آنفًا أنه من أهل ¬
النار؛ قتل نفسه، فأعظم الناس ذلك (¬1). فدل هذا الحديث أن من قتل نفسه، تعمداً، أو تعجلاً بالموت، فهو من أهل النار؛ أي: إلا أن يعفو الله تعالى عنه، فهو من أهل الجرائم الذين إن نجوا كان ذلك فضلاً من الله تعالى عليهم، لا من أهل الدرجات والمقامات كالشهداء. نعم، من مات بفعل نفسه في الجهاد على سبيل الخطأ فإنه شهيد، بل له أجران لما في "الصحيحين" عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر، فكان سيف عامر به قصر، فتناول به ساق يهودي ليضربه، فرجع ذباب سيفه فأصاب ركبة عامر، فمات منه، فقلت: يا رسول الله! زعموا أن عامراً حبط عمله؟ قال: "مَنْ قَالَ؟ كَذَبَ مَنْ قَالَ، إِنَّ لَهُ لأَجْرَيْنِ؛ إِنه لَمُجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ" (¬2). وإنما لم يكن قتله لنفسه محبطًا لعمله كما زعموا؛ لأنه لم يتعمد قتل نفسه كما تعمد ذلك الرجل المذكور في حديث سهل المذكور. فإن قلت: فإن العبد إذا طلب الشهادة، وقاتل ليقتل في سبيل الله فإنه يكون مأجورًا مع أنه اختار القتل؛ فما الفرق بينه وبين ما لو قتل نفسه اختيارًا؟ قلت: إن العبد إذا طابت نفسه بأن يقتل في سبيل الله، وجاهد ¬
لحصول ذلك، فإن ذلك لا يكون منه تعمداً لقتل نفسه، وإنما أمره الله تعالى أن يجاهد في سبيله مع أنه بين له أن الجهاد فيه الابتلاء الكل؛ لأن الغاية فيه إما إلى قتل العدو، وإما إلى قتل المقاتل، فوعد سبحانه من يجاهد مطمئن القلب على حصول أحد الأمرين بالثواب الجزيل، وهو أجر الجهاد والاستشهاد، وهو الحسنيان، وإنما بين الله تعالى ما يؤول إليه أمر الجهاد ليوطن المجاهد نفسه على ذلك، فيكون البيع الواقع على النفس منجَّزاً عن طيب نفس من غير غبن ولا خديعة، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّمَا البَيعُ عَنْ تَرَاضٍ". رواه ابن ماجه عن أبي سعيد - رضي الله عنه - (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل ذكر أنه يخدع في البيع: "مَنْ بَايَعْتَ فَقُلْ لَهُ: لا خِلابَةَ"، والحديث في "الصحيحين" وغيرهما (¬2). وخِلابة - بكسر المعجمة، وبالموحدة -: الغبن والخديعة. قال الرافعي، والنووي رحمهما الله تعالى: واشتهر في الشرع أنها عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثة أيام، انتهى (¬3). فإذا كان هذا مأخوذًا به في المبايعة بين العباد، فالأخذ به في المبايعة بين الله تعالى وبين العباد أحق وأحرى؛ فإن الغَبن والخديعة ظلم، وما ربك بظلام للعبيد. ¬
ولئن كان في الشرع لمن بايع العباد أن يشترط الخيار ثلاثة أيام فقط، على الأصح من مذاهب العلماء، فإن الله تعالى جعل العبد مختارًا في المبايعة إلى أن يموت، بدليل أنه وإن امتنع عن الجهاد حيث تعين عليه مدة عمره حتى لم يبقَ من عمره إلا ساعة قبل الموت أو ظهور الآيات فتاب، وعزم على المجاهدة، وألزم عقد المبايعة بينه وبين الله تعالى، كان الله تعالى موجبا لعقد مبايعته، ملزما لربط معاقدته. وقد قلت في المبايعة المشار إليها: [من الخفيف] إِن رَبِّيْ مُبايعٌ أَحْبابَه ... خَيْرَ بَيْعٍ وَلَيْسَ فِيْهِ خِلابَةْ فَاشْتَرَىْ مِنْهُمُ النُّفُوْسَ وَلَوْلا الـ ... ـفضْلُ مِنْهُ لَما اسْتَباحُوْا خِطابَهْ بِجِنانٍ فِيْهِنَّ ما تَشْتَهِيْ النَّـ ... ـفْسُ وَما إِنْ فِيْهِنَّ شَيْءٌ يَشابَهْ يا لَها بَيْعَةٌ بِأَطْيَبِ رِبْحٍ ... لَيْسَ فِيْها وَاللهِ إِلاَّ الإِصابَةْ مَنْ يَنَلْهَا يَنَلْ أَعَزَّ مَقامٍ ... يَرْفَعِ اللهُ قَدْرَهُ وَجَنابَه
عودا على بدء
وُينَعِّمْهُ بِالشُّهُوْدِ وَأَنَّى ... لِيْ بِها مِنْ فَضِيْلَةٍ مُسْتَطابَةْ إِنَّ نَفْسِي النَّفُوْرَ قَدْ أَقْعَدَتْنِيْ ... عَنْ كِرامِ الْهَوَىْ وَأَهْلِ الصَّبابَةْ رَبِّ خَلِّصْ حَقِيْقَتِيْ لَكَ حَتَّىْ ... لا سِوَىْ يَسْلُبُ الْفُؤادَ صَوابَهْ زَكِّ نَفْسِي فَأَنْتَ خَيْرُ مُزَكٍّ ... لا تَدَعْها بِما سِواكَ مُشابَةْ وَأِبحْنِيْ رِضاكَ دُنْيًا وأُخْرى ... بِالَّذِيْ شَرَّفْتَ بِهِ أَرْضَ طابَةْ صَلَواتِيْ عَلَيْهِ فِيْ كُلِّ حِيْنٍ ... وَعَلَىْ آلِهِ الرِّضَا وَالصَّحابَةْ عوداً على بدء: فإنما حسن للإنسان طلب الشهادة، واختيار القتل في سبيل الله تعالى؛ لأنه مجرد طمأنينة تحت أحكام الله تعالى، ومحض تسليم لقضائه، ورضى بقدره وحكمه، بخلاف قتل الإنسان لنفسه؛ فإنه ليس كذلك، وإنما هو تحكم على الله تعالى فيما هو ملكه حقيقة.
بل نقول: إن المؤمن لا يملك نفسه لأنها دخلت تحت المبايعة، كما قال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: لا نفس للمؤمن لأنها دخلت تحت البيع من الله تعالى (¬1)، فإذا قتل نفسه فقد تصرف في غير ملكه بغير إذن المالك، بل تجرأ على ما لا يملك، وتعدى عليه، فأتلفه مع نهي مالكه له عن إتلافه بقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]. فقد تبين لك بذلك أن طلب الشهادة، واختيار القتل في سبيل الله تعالى تنفيذ للبيع وتسليم للمبيع لمبتاعه، وقتل المؤمن نفسه إتلاف من البائع للمبيع بعد صدور العقد وانتقال الملك فيه إلى المشتري، فتفطن لما ذكرناه، وتدبر ما حررناه! ومن لطائف عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - قوله وهو آخذ بخطام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، كما في السير، وغيرها: [من الرجز] قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِيْ تَنْزِيْلِهْ ... بِأَنَّ خَيْرَ الْقَتلِ فِيْ سَبِيْلِهْ (¬2) وإيضاح هذه الخيرية أن المقتول ظلمًا بصدد المغفرة والثواب، إلا أنه لا يبلغ ثواب المقتول في الجهاد في سبيل الله تعالى؛ فالقتل في سبيل الله تعالى خير أنواع القتل المتسبب عنه ثواب المقتول. ¬
ثم قتل النفس ظلمًا شر للقاتل، سواء كان المقتول نفس القاتل أو غيره، إلا أنه إذا قتل نفسه كان شر أنواع القتل؛ لأن أعز الأشياء على المرء نفسه، فإذا قتل نفسه لم يدع من القسوة والتفريط شيئًا، فهو شر القتل في سبيل الشيطان، كما أن القتل في الجهاد خير القتل في سبيل الرحمن، فافهم! ثم هنا لطيفة: من كرم الله تعالى أن جادَ علينا بالنفوس والأموال، ثم اشتراها منا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]. وكذلك أفاض علينا النعم والأموال منًّا، ثم اقترضها بلطفه منا؛ {منْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]. وقد قلت مترجمًا عن الحضرة الإلهية، ومشيرًا إلى الذات العلية كما هي عن سواها غنية: [من المتقارب] وَهَبْتُكَ نَفْسَكَ ثُمَّ اشْتَرَيـ ... ـتُ نَفْسَكَ مِنْكَ بِأَثْمانِها وَأَعْطَيْتُكَ الْمالَ ثُمَّ اقْتَرَضْـ ... ـتُ مِنْكَ الزَّكاةَ لإِخْوانِها وَوالَيْتُ نَعْماءَ فَضْلٍ عَلَيـ ... ـكَ لَمَّا ابْتَدَأْتَ بِإِحْسانِها
تنبيه
وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ قابَلْتُ ما ... أَتانِيَ مِنْها بِشُكْرانِها فَهَذا دلِيْلٌ عَلَىْ غُنْيَتِي ... وَفَقْرِ عَبِيْدِي إلى حانِها * تَنْبِيْهٌ: ليس من التشبه بالشهداء -أيضًا- تمني لقاء العدو، ومن ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتَمَنوْا لِقَاءَ العَدُو، وَإِذَا لَقِيْتُمُوْهُمْ فَاثْبُتُوْا". رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). والحكمة في ذلك: أن العبد قد لا يثبت عند اللقاء فيكون عليه فتنة كما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية الإِمام أحمد، والطبراني بقوله: "فَإِنَّكمْ لا تَدْرُوْنَ ما يَكُوْنُ فِيْ ذَلِكَ" (¬2)؛ أي: في لقاء العدو. فأما بعد اللقاء فالثبات مطلوب، وبه يحصل التشبه بالشهداء، ووظيفته حينئذ طلب المبارزة، والصبر عليها، وعدم الفرار، وتثبيت القلب بموعود الله تعالى. قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه على المبارزة (¬3). ¬
وقال أبو أيوب - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَقِيَ العَدُوَّ فَصَبَرَ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَغْلِبَ، لَمْ يُفْتَنْ فِيْ قَبْره" (¬1). رواهما الطبراني. وروى الخطيب في "تالي التلخيص" عن أبي عبد الله سعيد بن يزيد النَّباجي الزاهد قال: بينما نحن صافون نقاتل العدو بأرض الروم، فإذا أنا بغلام كأحسن من رأيت من الغلمان، وعليه طرة وقفا، وعليه حلة ديباج، وهو يقاتل قتالاً شديدًا، ويقول: [من مجزوء الرمل] أَنا فِيْ أَمْرِيْ رَشادِ ... بَيْنَ غَزْوٍ وَجِهادِ بَدَنِيْ يَغْزُوْ عَدُوِّيْ ... وَالْهَوَىْ يَغْزُوْ فُؤادِيْ قال: فدنوت منه، فقلت: يا غلام! هذا القتال، وهذه المقالة، والطرة، والقفا، والحلة لا يشبه بعضه بعضاً؟ فقال الفتى: أحببت ربي، فشغلني حبه عن حب غيره، فتزينت لحور العين، لعلها تخطبني إلى مولاها. *** ¬
فصل
فَصْلٌ إنما قيل للقتيل في سبيل الله شهيدًا -وقد تُكسرُ شينه- لأن الملائكة عليهم السلام تشهده. أو لأنَّ الله تعالى وملائكته شهود له بالجنة. أو لأنه ممن يستشهد يوم القيامة على الأمم الخالية. أو لسقوطه على الشاهدة؛ أي: الأرض. أو لأنه حي عند ربه حاضر. أو لأنه شهد ملكوت الله، وملكه. نص على ذلك كله صاحب "القاموس" فيه (¬1). وعلى الوجهين الأولين يكون بمعنى المفعول، فهو مشهود له. وعلى سائر الوجوه بمعنى الفاعل. ويظهر من تقديم صاحب "القاموس" الوجهين الأوليين ترجيح كونه بمعنى المفعول. وعندي ترجيح كونه بمعنى الفاعل، وأنه إنما سمي شهيداً؛ لأنه ¬
يشهد على ما غاب عن غيره مما أعد الله تعالى له من النعيم والمقام الكريم، وما له فيه من الرزق والأزواج والملك الكبير والرضا الدائم، ومن ثم يخفف عنه القتل، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يَجِدُ الشَّهِيْدُ مِنْ مَسّ القَتْلِ إِلا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ القَرْصَةِ". رواه الترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). وروى الترمذي وصححه، [و] ابن ماجه، والبيهقي عن المقدامِ بن معدي كرب - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ لَلشَهِيْدِ خِصَالًا: يُغْفرُ لَهُ فِيْ أُوْلَى دُفْعَةٍ مِنْ دمِهِ، وُيرى مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَتَحُلُّ عَليْهِ حُلَّةُ الإيْمَانِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيأمَنُ يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وُيوْضَعُ عَلى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ؛ اليَاقُوْتةُ مِنْهُ خَيْر مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا، وُيزَوَّجُ اثْنتَيْنِ وَسَبْعِيْنَ زَوْجَة مِنَ الْحُوْرِ الْعِيْنِ، وَيُشَفَّعُ في سَبْعِيْنَ إِنْسَاناَ مِنْ أقارِبِهِ" (¬2). ورواه الإِمام أحمد، والطبراني من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - (¬3). وروى البيهقي في "الشُّعب" عن أبي بكر محمَّد بن أحمد التميمي قال: سمعت قاسم بن عثمان الجوعي رحمه الله تعالى يقول: رأيت ¬
في الطواف حول البيت رجلًا لا يزيد على قوله: اللهم! قضيت حاجة المحتاجين، وحاجتي لم تقضِ؟ فقلت له: مالك لا تزيد على هذا الكلام؟ فقال: أحدثك: كنَّا سرية رفقاء من بلدان شتى، غزونا أرض العدو فاستؤسرنا كلنا، فاعتزل بنا لتضرب أعناقنا، فنظرت إلى السماء فإذا سبعة أبواب مفتحة عليها سبع جوار من الحور العين، على كل باب جارية، فقدم رجل منا فضُرِبَت عنقه، فرأيت جارية في يدها منديل قد هبطت إلى الأرض حتى ضُرِبَت أعناق ستة، وبقيت أنا وبقي باب وجارية، فلما قُدمتُ لتُضرَب عنقي استوهبني بعض رجاله، فوهبني له، فسمعتها تقول: أي شيء فاتك يا محروم وأغلقت الباب؟ وأنا يا أخي متحسر على ما فاتني. قال قاسم بن عثمان: أراه أفضلهم لأنه رأى ما لم يروا، وترك يعمل على الشرف (¬1). *** ¬
فصل
فَصْلٌ يدل على فضل التشبه بالشهداء والمجاهدين الآيات والأحاديث الواردة في فضل الجهاد وفضل الشهداء، والأحاديث الواردة -أيضًا- في تمني النبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين للقتل في سبيل الله، وكذلك تمني الشهداء أن يعودوا إلى الدنيا فيقتلون مرة أخرى، وكذلك ما ورد في استحباب طلب الشهادة من الله تعالى. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الآية. وقال تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} [النساء: 95، 96]. روى عبد الرزاق عن أبي مِجْلَز رحمه الله تعالى: أنه قال في قوله تعالى: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ}: بلغني أنها سبعون درجة، بين كل درجتين سبعون عامًا كالجواد المُضَمر (¬1). ¬
وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ فِيْ الْجَنَّةِ مِئَةَ درَجَةٍ أَعَدَّها اللهُ لِلْمُجَاهِدِيْنَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإذَا سَأْلتُمُ الله فَاسْأَلوُهُ الفِرْدَوْسَ؛ فَإِنّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ" (¬1). وروى مسلم، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا أبَا سَعِيْدٍ! مَنْ رَضِيَ باللهِ رَبًّا، وِبالإسْلامِ دِيْنًا، وَمُحَمَّدٍ نبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة". قال: فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعدها يا رسول الله، ففعل. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَخَصْلة أُخْرى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا العَبْدَ مِئَةَ درَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ"، فقال: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الْجِهَادُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ" (¬2). وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "وَالذِيْ نَفْسِيْ بِيَدهِ! لَوْلا أَنَّ رِجالاً (¬3) مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ لا تَطِيْبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يتَخَلفُوْا عَنّيْ، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَليِهِ، مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سريةٍ تَغْزُوْ فِيْ سَبِيْلِ الله. ¬
وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدهِ! لَوَدِدِتُ أنِّيْ أُقْتَلُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَ أُحيا، ثُمَ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحيا" (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ عبدٍ يَمُوْتُ لَهُ عِنْدَ الله خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجعَ إِلى الدّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ الدّنْيَا وَمَا فِيْهَا، إِلاَّ الشَّهِيْدُ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشهَادةِ؛ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّة أُخْرَى" (¬2). وروى الشيخان، والترمذي من حديثه - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا أَحَدٌ يدخلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، إِلاَّ الشَّهِيْدُ تتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ" (¬3). وروى مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن سهل بن حُنَيْفٍ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ سَأَلَ الله الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلى فِرَاشِه" (¬4). وروى الإِمام أحمد، ومسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ [صادقًا] أُعْطِيَهَا وَلوْ لَمْ تُصِبْهُ" (¬5). ¬
وروى ابن حبان في "صحيحه" واللفظ له، والحاكم وصححه، عن معاذ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ جُرِحَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ جُرْحًا، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَرِيْحُهُ رِيْحُ المِسْكِ، وَلَوْنه لَوْنُ الزَّعْفَرَانِ، وَعَليْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ، وَمَنْ سَأَلَ اللهَ تَعَالى الشَّهَادةَ مُخْلِصًا أُعْطِيَ أَجْرَ شَهِيْدٍ وَإِنْ مَاتَ عَلى فِرَاشِه" (¬1). وروى مسلم، وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ، مَاتَ عَلى شُعْبَةٍ مِنَ النفَاقِ" (¬2). واعلم أنه لا يَرِد على ما ذكرناه هنا قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]؛ لأنَّ هذه الآية نزلت في تارك الجهاد. وروى الترمذي وصححه، عن أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفا عظيمًا من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر، قال: وعلى أهل مصر عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، وعلى الجماعة فضالة ابن عبيد - رضي الله عنه -، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم، فصاح الناس، وقالوا: سبحان الله! يلقي بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب - رضي الله عنه - فقال: أيها الناس! إنكم لتأولون هذا التأويل، وإنما نزلت ¬
تنبيه
هذه الآية فينا معشر الأنصار؛ أعز الله الإِسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً دون النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله تعالى قد أعز الإِسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما يَرُد علينا ما قلنا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله حتى دُفِن بأرض الروم (¬1). * تنبِيْهٌ: ولا بد في المتشبه بالشهداء بالجهاد وطلب الشهادة أن يكون ذلك منه خالصاً لوجه الله الكريم؛ لما تقدم أنه لا يشبه الزِّيُّ الزِّيَّ حتى يشبه القلب القلب، وإلا كان عمله محبطاً، وإن جرت عليه أحكام الشهداء ظاهراً لو قتل في الجهاد. وقد روى الشيخان، وأصحاب السنن عن أبي موسى - رضي الله عنه -: أنَّ أعرابيا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! الرجل يقاتل للغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه؛ فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُوْنَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُليَا فَهُوَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ عز وجل" (¬2). ¬
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: أنه قال: يا رسول الله! أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال: "يَا عَبْدَ اللهِ! إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا بَعَثَكَ اللهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرائِيَا مُكَاثِرًا بَعَثَكَ اللهُ مُرائِيًا مُكَاثِرًا، يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو! عَلى أَيِّ حَالٍ قَاتَلْتَ، أَوْ قُتِلْتَ، بَعَثَكَ اللهُ عَلى تِلْكَ الحَالْ" (¬1). وروى هو، والنسائي، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا شَيْءَ لَهُ"، فأعادها ثلاث مراتٍ يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا شَيْءَ لَهُ" ثم قال: "إِنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ مِنَ العَبْدِ إِلا مَا كَانَ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ" (¬2). وحكى الغزالي رحمه الله تعالى في "منهاج العابدين" عن أحمد بن أرقم البلخي رحمه الله -وكان من الصالحين- أنه قال: نازعتني نفسي بالخروج إلى الغزو، فقلت: سبحان الله! إن الله تعالى يقول: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، وهذه تأمرني بالخير، لا يكون هذا أبدًا، ولكنها استوحشت فتريد لقاء الناس، فتتريح إليهم، ويتسامع الناس بها، فيستقبلونها بالتعظيم والبر والإكرام. ¬
تنبيه
قال: فقلت لها: لا أنزلك العمران، ولا أنزل على معرفة، فأجابت، فأسأت الظن بها وقلت: الله أصدق، فقلت: أقاتل العدو حاسرًا لتكون في أول قتيل، فأجابت. وعد أشياء مما أرادها فأجابت إلى ذلك كله، فقلت: يا رب! نبهني لها؛ فإني متهم لها، مصدق ذلك، فكوشفت كأنها تقول لي: يا أحمد! أنت تقتلني كل يوم بمنعك إياي من شهواتي، ومخالفتك، ولا يشعر به أحد، فإن قاتلت قُتِلت مرة واحدة فنجوت منك، وتسامع الناس بي، فيقال: استشهد أحمد، فيكون لي شرفًا وذكراً. قال: فقعدت، ولم أخرج إلى الغزو في ذلك العام. قال حجة الإِسلام الغزالي: وانظر إلى خدل النفس وغرورها! ترائي الناس بعد الموت بعمل لم يكن بعد. قال: ولقد أحسن القائل هنا: [من البسيط] تَوَقَّ نَفْسَكَ لا تَأْمَنْ غَوائِلَها ... فَالنَّفْسُ أَخْبَثُ مِنْ سَبْعِيْنَ شَيْطانًا (¬1) * تَنْبِيْهٌ: روى الإِمام محمَّد بن جرير الطبري عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مُؤْمِنُوْ أُمَّتىْ شُهَدَاءُ"، ثم تلا ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] (¬1). قلت: وهذا الحديث يحتمل وجهين: الأول: أن يكون معنى قوله: "شهداء" أنهم شهداء للأنبياء عليهم السلام على أممهم بالتبليغ، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]؛ فإن الظاهر أن هذه الشهادة تكون يوم القيامة من عامة الأمة على وجه الاتفاق وإن كان من الأمة من هو ذو عصيان؛ لأنَّ إطباق أمة هي أعظم الأمم على الشهادة أبلغ في نصرة الأنبياء عليهم السلام في إثبات الحجة على الأمم. وهي شهادة صحيحة مقبولة لأنها من لازم الإيمان, وقد وصفنا العاصي من هذه الأمة بالإيمان مع العصيان ما لم يكن مشركًا. ويؤيد هذا الوجه: استشهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالآية، وقد قال تعالى فيها: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19]؛ إذ الأحسن أن يكون الظرف متعلقًا بنفس الشهداء؛ أي: الذين يشهدون عند ربهم. والوجه الثاني: أن يكون المراد أن مؤمني هذه الأمة في رتبة الشهداء من غير هذه الأمة، بل في رتبة الصديقين من غيرهم أيضًا. وعليه يُحملُ ما أخرجه ابن المنذر عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، وعبد الرزاق عن مجاهد، وعبد بن حميد عنه، وعن عمرو بن ميمون: أنهم قالوا: ¬
"كل مؤمن صِدِّيْقٌ، وشهيد"، ثم قرأ كل منهم الآية (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه قال يومًا وهم عنده: كلكم صِدّيْقٌ، وشهيد، قيل له: ما تقول يا أبا هريرة؟ قال: اقرؤوا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ (19)} [الحديد: 19] (¬2). فإن قلت: هل من دليل على هذا الاحتمال؟ وهل في لفظ حديث البراء ما يفهم منه ذلك؟ قلت: نعم، يفهم من قوله: "مُؤْمِنُو أُمَّتِيْ"، ولم يقل: "المؤمنون". ثم رأينا أن الله تعالى قسم المؤمنين إلى صِدِّيْقِين، وشهداء، وصالحين، وأظهر في آيات خصوصيات الشهداء على عامة المؤمنين، فحملنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "شهداء" في قوله: "مُؤْمِنُوْ أُمَّتِي شُهَدَاءُ" على شهداء غير هذه الأمة على وجه التشبيه؛ أي: مثل شهداء سائر الأمم. ونظير ذلك: ما رواه الطبراني في "الأوسط" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رَاحَ مِنَّا سَبْعُوْنَ رجُلاً إلى الْجُمُعَةِ كَانُوْا كَالسَّبْعِيْنَ (¬3) الذِيْنَ وَفَدُوْا عَلى رَبّهِمْ، أَوْ أَفْضَلَ" (¬4). ¬
و"أو" بمعنى: بل. وقد قلت في منظومتي في "خصائص يوم الجمعة": [من الرجز] وَإِنْ إِلَىْ الْجُمُعَةِ رأَيْ مِنَّا ... سَبْعُوْنَ إِنْساناً فَقَدْ سَمِعْنا بِأَنَّهُمْ كَقَوْمِ مُوْسَىْ السَّبْعِيْنْ ... إِذْ وَفَدُوْا لِرَبِّهمْ مُجِدِّيْنْ بَلْ إِنَّهُمْ يا صاحِ مِنْ أُوْلَئِكْ ... أَفْضَلُ فِيْ الأَحْوالِ وَالْمَسالِكْ ¬
فصل
فَصْلُ وقد ألحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمقتول بسبب الجهاد في حصول ثواب الشهادة جماعة لا تدخل أحوالهم تحت الاختيار، فينبغي التنبيه عليهم هنا. روى الإمام مالك، والشيخان، والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُوْنُ، والْمَبْطُوْنُ، وَالْغَرِيْقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيْدُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ" (¬1). وروى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت منه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ فِيْ القَتْلِ شَهَادَةً، وَفِيْ الطَّاعُوْنِ شَهَادَةً، وَفِي البَطْنِ شَهَادَةً، وَفِيْ الغَرَقِ شَهَاَدَةً، وَفِيْ النُّفَسَاءِ يَقْتُلُهَا وَلدُهَا جَمْعًا شَهَاَدَةً" (¬2). وروى الأربعة، وابن حبان في "صحيحه" عن جابر بن عَتيك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَىْ القَتْل فِيْ سَبِيْلِ اللهِ: الْمَبْطُوْنُ ¬
شَهِيْدٌ، وَالغَرِيْقُ شَهِيْدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيْدٌ، وَالْمَطْعُوْنُ شَهِيْدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيْقِ شَهِيْدٌ، وَالَّذِيْ يَمُوْتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيْدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوْتُ بِجَمْعٍ شَهِيْدَةٌ" (¬1). قال المنذري: يقال: ماتت المرأة بجمع - مثلث الجيم -: إذا ماتت وولدها في بطنها، وقيل: إذا ماتت عذراء (¬2). قلت: ويؤيد الأول حديث عبادة بن الصامت المتقدم. ويحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عين التي يقتلها جنينها في حديث عبادة، وأراد بقوله في حديث جابر "وَالْمَرْأةُ تَمُوْتُ بِجِمَاعٍ": العذراء؛ لأن المعنيين معروفان في لسان العرب، والله الموفق. وروى الإمام أحمد بسند حسن، عن راشد بن حبيش - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - يعوده في مرضه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتَعْلَمُوْنَ مَنِ الشُّهَدَاءُ مِنْ أُمَّتِيْ؟ "، فأَرَمَّ القوم؛ أي: تقدموا، فقال عبادة: ساندوني، فأسندوه، فقال: يا رسول الله! الصابر المحتسب؟ فقال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم - "إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِيْ إِذَنْ لَقَلِيْلٌ: القَتْلُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ عز وجل شَهَادَةٌ، وَالطَّاعُوْنُ شَهَادَةٌ، وَالغَرَقُ شَهَاَدَةٌ، وَالبَطْنُ شَهَاَدَةٌ، وَالنُّفَسَاءُ يَجُرُّهَا وَلَدُهَا بِسُرَرِهِ إِلَىْ الْجَنَّةِ". ¬
وزاد أبو العوام سَادِنُ بيت المقدس: "وَالْحَرْقُ، وَالسُّلُّ" (¬1). قال المنذري: والسادن - بالسين، والدال المهملتين -: هو الخادم. والسل - بكسر السين، وضمها، وتشديد اللام -: هو داء يحدث في الرئة يؤول إلى ذات الجنب، وقيل: زكام، أو سعال طويل مع حمى هادئة، وقيل غير هذا (¬2). انتهى. وقال صاحب "القاموس": والسل: بالكسر، والضم، وكغراب: قرحة تحدث في الرئة إما تعقب ذات الرئة، أو ذات الجنب، أو زكام ونوازل، أو سعال طويل، ويلزمها حمى هادئة. قال: وقد سُل - بالضم -، وأسله الله، فهو مسلول (¬3)، انتهى. وقال العلامة علاء الدين بن النفيس في "الموجز": السل: هو قرحة في الرئة يلزمها حمى دقيقة للقرب من القلب، ونفث المدة، ويفرق بينها وبين البلغم باستدارتها ونتن رائحتها، وخصوصًا إذا وضعت على الجمر وبين سرتها في الماء. قال: وقد يكون ذلك انتقالياً من ذات الجنب، أو ذات الرئة إذا تفتحت، وقد يكون لنزلة أكالة، وقد يكون لتفرق اتصال تقادم، ويتقدمه نفس دم وريدي. ¬
قال: والمبتدئ من هذا قلما يبرأ، والمستحكم لا علاج له، إنما يتلطف به ليهون أمره، انتهى. قلت: لا يبعد أن تكتب الشهادة للمسلول، سواء انتهى مرضه إلى ذات الجنب، أو ذات الرئة، أو انتشا عنه، وسواء لزم مرضه حمى الدق، أو لا، أو كان مرضه مجرد سعال، أو نزلة، ويقال لها سقوط إذا مات بهذه العلل أو بعضها؛ لأن الكل يسل. وروى الطبراني في "الكبير" عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صُرِعَ عَنْ دَابَّتِهِ فَهُوَ شَهِيْدٌ" (¬1). وروى أبو داود بسند جيد، عن أم حرام رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَائِدُ فِي البَحْرِ الَّذِيْ يُصِيْبُهُ القَيءُ لَهُ أَجْرُ شَهِيْدٍ، وَالغَرِقُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ" (¬2). والمائد الذي يصيبه الغثيان والدوار من ركوب البحر، وكذا من السكر، كما في "القاموس" (¬3). وقوله في الحديث: "الذي يصيبه القيء" يحتمل أنه من كلام ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون تفسيرًا للمائد، وتقييداً لبلوغه الشهادة بأن ينتهي ميده إلى القيء. ويحتمل أن يكون التفسير مدرجاً في الحديث من كلام بعض الرواة فلا يكون قيدًا، بل تحصل الشهادة بمجرد حصول الدوار والغثيان وإن لم ينتهِ إلى القيء. وروى الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، والنسائي عن ابن عمرو (¬1) - رضي الله عنهما -، والإمام أحمد عن علي - رضي الله عنه -، وهو وأبو يعلى عن الحسين - رضي الله عنه -، والإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قُتِلَ دُوْنَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيْدٌ" (¬2). وروى النسائي، والضياء المقدسي في "المختارة" عن سُوَيْدِ بن ¬
مُقَرِّنٍ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قُتِلَ دُوْنَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيْدٌ" (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه" عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قُتِلَ دُوْنَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيْدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُوْنَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُوْنَ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُوْنَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" (¬2). وروى ابن النجار في "تاريخه" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قُتِلَ دُوْنَ أَهْلِهِ ظُلْمًا فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُوْنَ مَالِهِ ظُلْمًا فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُوْنَ جَارِهِ ظُلْمًا فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ فِيْ ذَاتِ اللهِ عز وجل فَهُوَ شَهِيدٌ". وروى عبد الرزاق عن عبيدة بن الحارث صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُوْنُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيْقِ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الغَرَقِ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الغَمِّ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوْتُ بِجَمْعٍ شهيدٌ" (¬3). وروى ابن ماجه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَوْتُ ¬
الغَرِيْبِ شَهَادَةٌ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير"، والرافعي في "تاريخ قزوين" عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَوْتُ الرَّجُلِ فِيْ الغُرْبَةِ شَهَاَدَةٌ، وَإِذَا احتُضِرَ فَرَمَىْ بِطَرْفِهِ عَنْ يَمِيْنِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ فَلَمْ يَرَ إِلاَ غَرِيْبًا، وَذَكَرَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَتَنَفَّسَ، فَلَهُ بِكُلِّ نَفَسٍ يَتَنَفَّسُ بِهِ يَمْحُوْ اللهُ بِهِ ألْفَيْ أَلْفِ سَيَّةٍ، وَيَكْتُبُ اللهُ لَهُ ألفَيْ ألفِ حَسَنَةٍ، ويُطْبَعُ بِطَابَعِ الشُّهَدَاءِ إِذَا خَرَجَتْ نَفْسُهُ" (¬2). وروى أبو نعيم عن مكحول رحمه الله قال: مَنْ مَاتَ مُدَارِيًا، مَاتَ شَهِيدً" (¬3). وهذا مثله لا يقال رأياً، فحكمه حكم المرفوع. وروى ابن عساكر عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الغَرِيْقُ شَهِيدٌ، وَالْحَرِيْقُ شَهِيدٌ، وَالغَرِيْبُ شَهِيدٌ، وَالْمَلْدُوْغُ شَهيدٌ، وَمَنْ يَقعُ عَلَيهِ البَيْتُ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُوْنَ نَفْسِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُوْنَ أَخِيْهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُوْنَ جَارِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالآمِرُ بِالْمَعْرُوْفِ وَالنَّاهِيْ عَنِ ¬
الْمُنْكَرِ شَهِيْدٌ" (¬1). وقوله: "والآمِرُ بِالْمَعْرُوْفِ" إلى آخره يحتمل وجهين: الأول: أن يكون على إطلاقه، فيشارك الشهداء في أجر الشهادة بمجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء قُتِل، أو مات. والثاني: أن يكون المعنى: والآمر بالمعروف إذا قُتِل بسبب ذلك شهيد على نسق: "من قُتل دون نفسه أو دون دينه أو دون أخيه". ويدل عليه ما صححه الحاكم، وأورده الضياء في "المختارة" عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بَنُ عَبدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَىْ إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنهاهُ، فَقَتَلَهُ" (¬2). وروى الطبراني بسند صحيح، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: إنّ من يتردى من رؤوس الجبال وتأكله السباع، ويغرق في البحار لشهداء عند الله تعالى" (¬3). وعن عقبة بن عام - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صُرِعَ عَنْ دَابَّتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" (¬4). ¬
وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ وَقَصَهُ بَعِيرُهُ أُوْ فَرَسُهُ، أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ، أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" (¬1). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المرء يموتُ (¬2) عَلَى فِرَاشِهِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ شَهِيدٌ". وقال ذلك في المبطون، واللديغ، والغريق، والشريق، والذي يفترسه السبع، والخارِّ عن دابته (¬3). وروى أبو نعيم عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أُجِيْرَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَجَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعَلَيْهِ طَابَعُ الشُهَدَاءِ" (¬4). روى ابن ماجه، وأبو نعيم، وصححه بعض العلماء، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَاتَ مَرِيْضًا (¬5) مَاتَ شَهِيْدًا"، ¬
وَوُقِيَ فِتْنَةَ القَبْر، وَغُدِيَ عَلَيْهِ وَرِيْحَ بِرِزْقِ مِنَ الْجَنَّةِ" (¬1). وروى أبو نعيم عن خلف بن حوشب رحمه الله قال: دخل جبريل عليه السلام، أو ملك على يوسف عليه السلام وهو في السجن، فقال: أيها الملك الطيب الريح، الطاهر الثياب! أخبرني عن يعقوب عليه السلام، أو ما فعل يعقوب عليه السلام، قال: ذهب بَصَره، قال: ما بلغ من حزنه؟ قال: حُزْنُ سبعين ثَكْلى، قال: ما أجره؟ قال: أجر مئة شهيد (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الحزن" عن ثابت البُناني رحمه الله قال: دخل جبريل على يوسف السجن عليهما السلام فعرفه، فقال: أيها الملك الطيبة ريحه، الطاهرة ثيابه، الكريم على الله ربه! هل لك علم بيعقوب عليه السلام؟ قال: نعم؛ بكى عليك حتى ذهب بصره، قال: فما بلغ حزنه؟ قال: حُزْنُ سبعين ثكلى، قال: فما له على ذلك من الأجر؟ قال: أجر مئة شهيد (¬3). وروى الخطيب عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ ¬
عَشِقَ فَعَفَّ، ثُمَ مَاتَ، مَاتَ شَهِيدًا" (¬1) وروى هو، وغيره، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَشِقَ وَكتَمَ، وَعَفَّ، فَهُوَ شَهِيْدٌ" (¬2) (¬3). وقال أبو الوليد الباجي ملمحًا بالحديث: [من الوافر] إِذا ماتَ الْمُحِبُّ هَوًى وَعِشْقاً ... فَتِلْكَ شَهادَةٌ يا صاحِ حَقَّا رَواهُ لَنا ثِقاتٌ عَنْ ثِقاتٍ ... إِلَىْ الْحَبْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَرَقَّا (¬4) ¬
تنبيه
ونقل ابن الجوزي عن عثمان بن زكريا المؤدب: أن معنى "فكتم": كتم من يحبه أنه يُحِبُّه (¬1). وقد جنح إلى هذا المعنى الإمام أبو بكر الظاهري، فقال ملمحًا بالحديث: [من الطويل] سَأَكْتُمُ ما أَلْقاهُ يا نُوْرَ ناظِرِيْ ... مِنَ الْحُبِّ كَيْلا يَذْهَبَ الأَجْرُ باطِلا فَقَدْ جاءَنا عَنْ سَيَّدِ الْخَلْقِ أَحْمَدٍ ... وَمَنْ كانَ بَرًّا بِالأَنامِ وَواصِلا بِأَنْ مَنْ يَمُتْ بِالْحُبَّ يَكْتُمُ أَمْرَهُ ... يَكُوْنُ شَهِيْداً فِيْ الْفَرادِيْسِ نازِلا (¬2) * تنبِيْهٌ: ربما فهم من لم ينور الله بصيرته أن التوصل إلى الشهادة بالتعرض إلى العشق بالنظر ونحوه، فيباشر هذه الأسباب، فيقع فيما لم يكن له في حساب كما قال الشاعر: [من التقارب] تَعَلَّقَ بِالْعِشْقِّ حَتَّىْ عَشِقْ ... فَلَمَّا اسْتَقَلَّ بِهِ لَمْ يُطِقْ ¬
رَأَىْ لُجَّةً ظَنَّها مَوْجَةً ... فَلَمَّا تَوَسَّطَ فِيْها غَرِقْ (¬1) فقد يعشق ولا يقدر على العفاف، فيقع في الفسق، بل ربما انتهى به العشق إلى الكفر، وكم إنسان أدى به العشق إلى الخروج من دينه، ثم لم يظفر بما خرج لأجله عن الدين حتى هلك. والعشق من حيث هو مذموم، والتعرض له بالنظر وغيره حرام، ولا يدخل فيه النظر والتمتع بالحلائل؛ لأن ذلك لا يؤدي به إلى العشق، بل إلى الحب، والحب محمود بخلاف العشق. وليس الثواب المنصوص عليه في الحديث على العشق، ولكنه على العفاف والصبر عن مقتضى العشق إذا دهم العبد الابتلاء بالعشق، لا إذا تعرض له بما هو حرام، وكيف يتوصل إلى درجات الشهادة بالمعاصي؟ هذا مما لا يكون أصلاً. وأكثر الواقعين في هذه المنزلة متصوفة هذه الأزمنة المتأخرة، القائلون بالشاهدة، المعرضون عن أمر الواحد الماجد، وأكثرهم حلولية، اتحادية، بطلة، جهلة، إلحادية إلا من عصمه الله تعالى وحفظه، وأقام له من قلبه واعظًا وعظه. وقد قال شيخ الطائفة أبو القاسم القشيري رحمه الله في "رسالته": ¬
ومن أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث، ومن ابتلاه الله تعالى بشيء من ذلك، فبإجماع من الشيوخ أنَّ ذلك عبد أهانه الله وخذله، بل عن نفسه شغله ولو بألف ألف كرامة أَهَّلَهُ، وهب أَنَّهُ بلغ رتبة الشهداء لما في الخبر تلويح بذلك، أليس قد شغل ذلك القلب بمخلوق، فأصعب من ذلك تهوين ذلك على القلب حتى يعد ذلك يسيرًا؛ قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)} [النور: 15]. إلى أن قال: ومن ارتقى في هذا الباب عن حالة الفسق - وأشار إلى أن ذلك من بلايا الأرواح، وأنه لا يضره - فما قالوه من وساوس القائلين بالشهادة. قال: وإيراد حكايات عن الشيوخ بما كان الأولى بهم الستر على هناتهم وآفاتهم، فذلك نظير الشرك، وقرين الكفر؛ فليحذر المريد من مجالسة الأحداث ومخاطتهم؛ فإن اليسير منه فتح باب الخذلان، ويد وِصال الهجران، ونعوذ بالله من قضاء السوء. هذا نص القشيري - رضي الله عنه - بحروفه (¬1). وقد أشرت إلى تحرير هذا الموضع بأبسط من ذلك في كتاب "منبر التوحيد"، فليراجَع. ¬
فصل
فَصْلُ وقد جاء الشرع الشريف بالإرشاد إلى أمور تدخل تحت الاختيار إذا أتى بها العبد كُتِب له أجر الشهادة. فمن ذلك: ما رواه الإمام أحمد، والبخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيْهَا أَحَبُّ إِلَىْ اللهِ مِنْ هَذهِ الأَيَّامِ؛ يَعْنَيْ أَّيَّامَ العَشْرِ"، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيْلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ مَالِهِ وَلم يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيءٍ" (¬1). وروى الإمام أحمد، وابن أبي الدنيا في "فضل عشر ذي الحجة"، والبيهقي في "الشعب" عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ أَيَّاْمٍ العَمَلُ فِيْهِنَّ أَفْضَلُ مِنْ أَّيَّامِ العَشْرِ"، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيْلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّىْ يُهْرَاقَ دَمُهُ" (¬2). ¬
جعل - صلى الله عليه وسلم - العمل الصالح أيًا ما كان مُعادلاً لبذل النفس والمال في سبيل الله حتى يذهبا فيه، وهذا هو نفس الشهادة. وروى الإمام أحمد، والدارامي، والترمذي وحسنه، عن معقل ابن يسار - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَالَ حِيْنَ يُصْبحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَعُوْذُ بِاللهِ السَّمِيْع العَلِيْمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ، وَقَرَأَ ثَلاَثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُوْرَةِ الْحَشْرِ، وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعِيْنَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّوْنَ عَلَيْهِ حَتَّىْ يُمْسِي، وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ اليَوْمَ مَاتَ شَهِيْدًا، وَمَنْ قَالَهَا حِيْنَ يُمْسِي كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ" (¬1). وروى الدارامي عن الحسن رحمه الله قال: من قرأ ثلاث آيات من آخر الحشر إذا أصبح فمات من يومه ذلك، طُبع بطابع الشهداء، وإن قرأ إذا أمسى فمات من ليلته طُبع بطابع الشهداء (¬2). وروى أبو الشيخ عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَرَأَ آخِرَ الْحَشْرِ: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ (21)} [الحشر: 21]، إِلَىْ آخِرِهَا، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، مَاتَ شَهِيْدًا". وروى أبو القاسم الأصبهاني في "ترغيبه" عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَفَ بِالأَمَانَةِ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ ¬
خَانَ امْرَأً مُسْلِمًا فِيْ أَهْلِهِ وَخَادِمِهِ، وَمَنْ قَالَ حِيْنَ يُمْسِيْ وَحِيْنَ يُصْبح: اللَّهُمَّ! إِنيِّ أُشْهِدُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ الله لاَ إِلَهَ إِلاَ أَنْتَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيْكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُوْلُكَ، أَبُوْءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوْءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي؛ إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الدُّنُوْبَ غَيْرُكَ، فَإِن قَالَهَا مِنْ يِوْمِهِ ذَلِكَ حِيْنَ يُصْبحُ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِي، مَاتَ شَهِيْدًا، وَإِنْ قَالَهَا حِيْنَ يُمْسِي فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ ماتَ شَهِيْدًا" (¬1). وروى أبو يعلى، وابن السُّنِّي عن سليمان بن بريدة، عن أبيه - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ: اللَّهُمَّ! أَنْتَ رَبِّيْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِيْ وَأَناَ عَبْدُكَ، وَأَناَ عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرَّ مَا صَنَعْتُ، أَبَوْءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوْءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي؛ إِنَّه لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوْبَ إِلاَ أَنْتَ، فَإِنْ قَالَهَا نهارًا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ مَاتَ شَهِيْدًا، وَإِنْ قَالَهَا لَيْلاً فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ تِلْكَ مَاتَ شَهِيْدًا" (¬2). وهذا هو سيد الاستغفار الذي رواه ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والبخاري، وغيرهم عن شدَّاد بن أوس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَيَّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُوْلَ: ... "، فذكره، ثم قال: "مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوْقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِن يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمْنْ قَالَهَا منَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوْقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ" (¬3). ¬
وروى البيهقي في "الشعب" عن كعب الأحبار رحمه الله: أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام في خبر طويل: أن من وافى القيامة وفي صحيفته ثلاثون رمضان، فهو من أفضل الشهداء (¬1). بل ورد في السنة ما هو أبلغ من ذلك، فروى الإمام أحمد بسند حسن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رجلان من بَلِىًّ - حي من قضاعة - أسلما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، استشهد أحدهما، وأخَّر الآخر سنة، قال طلحة ابن عبيد الله - رضي الله عنه -: فرأيت المؤخر منهما أدخل الجنة قبل الشهيد، فتعجبت لذلك، فأصبحت، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أليْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى سِتَّةَ آلاَفِ رَكْعَةٍ، وَكَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلاَةَ سَنَةٍ؟ " (¬2). وأخرجه ابن ماجه، وابن حبان من حديث طلحة بنحوه أطول منه، وزاد في آخره: "فَلَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ ممَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" (¬3). وفي هذا الحديث دلالة على من كان من الشهداء أكثر صلاة وصيامًا، فهو أرفع مقامًا ممن هو دونه في ذلك منهم. وروى الطبراني في "معاجمه الثلاثة" بسند جيد، عن أنس بن ¬
مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ عَشْرًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ مِئَةً، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ مِئَةً، كتبَ اللهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ بَرَاْءَةً مِنَ النِّفَاقِ، وَبَرَاْءَةً مِنَ النَّارِ، وَأَسْكَنَهُ اللهُ تَعَالَىْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ الشُّهَدَاءِ" (¬1). وروى ابن ماجه عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ مَاتَ عَلَىْ وَصِّيةٍ مَاتَ عَلَىْ سَبِيْلٍ وَسُنَّةٍ، وَمَاتَ عَلَىْ تُقَى وَشَهَادَةٍ، وَمَاتَ مَغْفُوْرًا لَهُ" (¬2). ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "على تقى وشهادة" شهادة أن لا إله إلا الله، فيكون فيه إشارة إلى أن من يسَّر الله تعالى له أن يوصي عند الموت، يسر له الشهادة عند الموت، ولا عجب أن يكون تيسير الشهادة عند الموت دليل الشهادة؛ أي: النزول في منازل الشهداء، وقد يشير إلى هذا المعنى حديث معاذ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ لله، دَخَلَ الْجَنَّةَ". رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه (¬3). ¬
وروى البزار عن أبي ذر، وأبي هريرة - رضي الله عنه - قالا: الباب من العلم يتعلمه الرجل أحب إلي من ألف ركعة تطوعًا. وقالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا جَاءَ الْمَوْتُ لِطالِبِ العِلْمِ وَهُوَ عَلَى هَذه الْحَالِ، مَاتَ وَهُوَ شَهِيْدٌ" (¬1). وروى أبو نعيم عن علي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يَا عَلِيُّ! تَعَلَّمِ القُرْآنَ وَعَلِّمْهُ النَّاسَ؛ فَلَكَ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، فَإِنْ مِتَّ مِتَّ شَهِيْدًا" الحديث (¬2). وتقدم في التشبه بالملائكة عليهم السلام. وروى أبو نعيم - أيضًا - عن حذيفة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ بإعْرَابٍ، فَلَهُ أَجْرُ شَهِيْدٍ". وروى أبو القاسم الرافعي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كتَبَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ فلم يعور الهَاءُ الَتِيْ فِيْ اللهِ، كتَبَ اللهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سِيَّئَاتٍ، ورفَعَ له عَشْرَ دَرَجَاتٍ" (¬3). وروى الإمام أحمد، وأبو بكر بن السُّنِّي، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ¬
قَرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِيْ سَبِيْلِي، كُتِبَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ النَّبِيِّيْنَ وَالصِّدِّيْقِيْنَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيْقًا" (¬1). قلت: اعتبرت من أول سورة الملك إلى آخر سورة الناس ألف آية، تزيد شيئًا أو تنقص شيئًا. وعلى ما اعتبره الشيخ شهاب الدين المقدسي في "مصحفه" تنقص عن الألف خمس آيات. ومن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا (8)} [التحريم: 8] إلى آخر التحريم خمس آيات، فينبغي لمن أراد العمل بهذا الحديث أن يقرأ من أول هذه الآية إلى آخر القرآن العظيم. وروى الطبراني في "الصغير"، والخطيب بسند ضعيف، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دَامَ عَلَى قِرَاءَةِ (يس) كُلَّ لَيْلَةٍ ثُمَّ مَاتَ، مَاتَ شَهِيْدًا" (¬2). ¬
وروى الحكيم الترمذي عن زيد المروزي رحمه الله معضلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيَّ دُبُرَ كُلَّ صَلاْةٍ، كَانَ الَّذِيْ يَلِيْ قَبْضَ رُوْحِهِ ذُوْ الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، وَكَانَ كَمَنْ قَاتَلَ عَنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ حَتَّىْ يُسْتَشْهَدَ". وأخرج ابن السني نحوه من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - (¬1). وروى الحاكم في "المستدرك" عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى اسْمِ اللهِ الأَعْظَمِ؟ دُعاءُ يُوْنسُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنَّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِيْنَ، فَإيُّمَا مُسَلِمٍ دَعَا بِهَا فِيْ مَرَضِهِ أَرْبَعِيْنَ مَرَّةَ فَمَاتَ فِيْ مَرَضِهِ ذَلِكَ، أُعْطِيَ أَجْرَ شَهِيْدٍ، وَإِنْ بَرَأَ بَرَأَ مَغْفُوْرًا لَهُ" (¬2). وروى أبو الشيخ، وأبو نعيم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ رَكِبَ دَابَّةً فَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِيْ سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِيْنَ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ، مَاتَ شَهِيْدًا" (¬3). وروى الحاكم في "تاريخه" عن محمد بن عجلان، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "القَائِمُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِيْ لَهُ أَجْرُ شَهِيْدٍ". وروى أبو نعيم عن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬
"أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ الْمُقْسِطُوْنَ" (¬1)، أي: أهل العدل والقسط. وروى الطبراني في "الكبير" عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُؤَذِّنُ الْمُحْتَسِبُ كَالشَّهِيْدِ الُمُتَشَحَّطِ (¬2) فِيْ دَمِهِ، إِذَا مَاتَ لَمْ يُدَوَّدْ فِيْ قَبْرِهِ" (¬3). وأخرجه - أيضًا - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الْمُؤَذِّنُ المُحْتَسِبُ كَالشَّهِيْدِ المُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ؛ يَتَمَنَّى عَلَى اللهِ مَا يَشْتَهِيْ بَيْنَ الأذَانِ وَالإِقَامَةِ" (¬4). وأخرج في "الكبير" - أيضًا - عن معاوية - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ تَبعَ (¬5) الْمُؤَذِّنَ فَقَالَ مِثَلَ مِا يَقُوْلُ، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ" (¬6). ¬
قال المنذري: متنهُ حسن، وله شواهد (¬1). وتقدم في حديث علي - رضي الله عنه -: "وَالآمِرُ بِالْمَعْرُوْفِ وَالنَّاهِيْ عَنِ الْمُنْكَرِ شَهِيْدٌ" (¬2) إن حملناه على إطلاقِهِ - كما سبق - فهو من هذا الباب. وروى الإمام أحمد عن جماعة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شُهَدَاءُ اللهِ فِيْ الأَرْضِ أُمَنَاءُ اللهِ عَلَىْ (¬3) خَلْقِهِ، قُتِلُوْا، أَوْ مَاتُوْا" (¬4). وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ كتَبَ الْغَيْرَةَ عَلَىْ النَّسَاءِ، وَالْجِهَادَ عَلَى الرَّجَالِ؛ فَمَنْ صَبَرَ مِنْهُنَّ إِيْمَانًا وَاحْتِسَابًا، كَانَ لَهَا مِثَلُ أَجْرِ الشَّهِيْدِ" (¬5). وروى ابن السُّنِّي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَاتَ عَلَىْ ¬
طَهَارَةٍ ثُمَّ مَاتَ مِنَ لَيْلَتِهِ، مَاتَ شَهِيْدًا" (¬1). وروى أبو بكر الآجُرِّي، والسَّلَفي عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَنَسُ! إِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَكُوْنَ أَبَدًا عَلَىْ وُضُوْءٍ فَافْعَلْ؛ فَإِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ إِذَا قَبَضَ رُوْحَ العَبْدِ وَهُوَ عَلىْ وُضُوْءٍ كُتِبَ لَهُ شَهَادَةٌ" (¬2). وروى أبو نعيم عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صَلَّى الضُّحَى، وَصَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلَّ شَهْرٍ، وَلَمْ يَتْرُكِ الوِتْرَ فِيْ حَضَرٍ وَلاَ سَفَرٍ، كُتِبَ لهُ أَجْرُ شَهِيْدٍ" (¬3). وروى ابن ماجه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التَّاجِرُ الأَمِيْنُ الصَّدُوْقُ الْمُسلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬4). وروى الحاكم عن اليسع بن المغيرة - مُرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْجَالِبُ إِلَىْ سُوْقِنَا، كَالْمُجَاهِدِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ" (¬5). ومقتضاهُ: أنَّهُ لو سافر للجلب فماتَ في سفرهِ، وقعَ أجرهُ على ¬
الله، كما وقع أجرُ الشهيد على الله تعالى. على أنَّ هذا داخل في عموم الغرباء، وقد سبق أن موت الغريب - يعني: المؤمن - شهادةٌ. وروى ابن أبي شيبة عن مُوَرَّقٍ رحمه الله تعالى قال: المتمسك بطاعة الله إذا جَبُنَ (¬1) النَّاسُ عنها كالكَارَّ بعد الفارَّ (¬2). ولهذا حكمُ الرَّفع لأنهُ لا يقالُ رأياً. وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: ذاكرُ الله في الغافلين، بمنزلةِ الصابر في الفارَّين (¬3). قلتُ: ومقتضاهُ أن من مات على ذكرٍ، بمنزلة من قتل مصابراً. وهو يشير إلى أنَّ من كان آخر كلامه عند الموتِ: لا إله إلا الله، كان بمنزلة الشهداء، ومن ثم وجبت لهُ الجنة كما تجبُ للشهداءِ. وإذا كان هذا في عموم الذكرِ، وكذلك الطاعة - لقول مُوَرِّقٍ - فالشهادة الحاصلة عند الموت بلا إله إلا الله أوضح وأتَم من الشهادة ¬
الحاصلة بغيرها من الأذكار لأنها أفضلها؛ لحديث جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَفْضَلُ الذَّكْرِ لا إِلَهَ إِلاَّ الله، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمْدُ للهِ". رواه الترمذي، وابن حبان، والحاكم وصححوه، والنسائي، وابن ماجه (¬1). وروى أبو بكر بن مردويه في "تفسيره" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ جَالبٍ يَجْلِبُ طَعَامًا إِلَى بُلْدَانِ الْمُسْلِمِيْنَ فَيَبِيْعُهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ، إِلاَّ كَانَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللهِ بِمَنْزِلةِ الشَّهِيْدِ"، ثم قرأ - صلى الله عليه وسلم -: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (20)} [المزمل: 20] (¬2). وقال عمر - رضي الله عنه -: "ما من حال يأتيني عليهِ الموتُ بعد الجهاد في سبيل الله، أحبُّ إليَّ من أن يأتيني وعليه بين شعبتي رحلي وأنا أبتغي من فضلِ الله، ثمَّ قرأ هذه [الآية]. رواه سعيد بن منصور، وغيره (¬3). وأخرج الثعلبي نحوهُ عن وَلده عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - (¬4). ¬
وقال الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله في كتاب "شرح الصدور شرح حال الموت والقبور": روي أنه قيل: يا رسول الله! هل يحشر مع الشهداء أحد؟ قال: "نَعمْ؛ مَنْ يَذْكُرُ الْمَوْتَ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عِشْرِيْنَ مَرَّةً" (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن حجاج بن الشاعر رحمه الله تعالى قال: ما كنت أحب أن أقتل في سبيل الله تعالى، ولم أصلّ على أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - (¬2). وروى أبو الشيخ في كتاب "الثواب"، وأبو نعيم عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَمْ مِمَّنْ أَصَابَهُ السَّلاحُ ليْسَ بِشَهِيْدٍ وَلا حَمِيْدٍ، وَكَمْ مِمَّنْ مَاتَ عَلى فِرَاشِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ صِدَّيْقٌ وَشَهِيْدٌ" (¬3). ¬
فصل
فَصْلٌ وإذا أخذنا الشهداء بالتفسير الثاني بأن نقول: هم العلماء الراسخون في العلم من حيث إنهم شهداءُ اللهِ في أرضه لقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ (18)} [آل عمران: 18] فالتشبه بهم على قسمين: - تشبه بهم في البدايات. - وتشبه بهم في النهايات. فأما التشبه بالعلماء في البدايات فهو أن يأخذ العبد في الاستعداد لطلب العلم بتقديم النية الصالحة في طلبِ العلمِ بأن يطلبهُ للتفقه في الدين، والتمسك بالشرع، والتوصل إلى إيقاع العبادات على وجهها، وإجراء العقود التي يحتاجُ إليها في معاشهِ، وتحصين فرجه على طريق الشرع الشريف؛ كالبيع والشراء، والسَّلم، والإجارة، والمُساقَاة، والقراض، والنكاح، وآداب المعاشرة، والطلاق، والرجعة، والنفقات، وغير ذلك؛ لأن هذه الأمور إذا وقعت على وجهها وجرت على نهجها كانت سببًا لسعادة الدُّنيا والآخرة. قال سفيان الثوري رحمه الله: لا أعلم شيئًا من الأعمال أفضلُ من
طلبِ العلم، أو الحديث لمن حَسُنَت فيهِ نيتُهُ (¬1). وقال الشافعي رحمه الله تعالى: أخشى على من طلب العلم بغير نيَّة أن لا ينتفعَ بهِ (¬2). رواهما البيهقي في "المدخل". ومهما لم تتيسر لهُ نية صالحة فلا يترك الاشتغال بالعلم، بل يأخذ في الاشتغال، ويتحرى تحصيل النية، فقد كان من السلف من يقول: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله (¬3). وقال مجاهد رحمه الله: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نيَّة، ثمَّ رزقَ اللهُ تعالى النيةَ بعدُ. وفي رواية: وما لنا فيه نيَّةٌ (¬4). وقال حبيب بن أبي ثابت رحمه الله تعالى: لقد التمستُ - أو: التمسنا - هذا العلم وما نريدُ بهِ، ثمَّ رزق الله نيةً بعدُ. وفي رواية: لقد طلبتُ العلمَ وما لي فيه نية، ثمَّ رزق الله نورَ النيَّة بعدُ (¬5). ¬
وقال محمد بن إسحاق رحمه الله: جاء قوم إلى سماك بن حِرب رحمه الله يطلبون الحديث، فقال جلساؤُهُ: ما ينبغي لك أن تحدثَ هؤلاء، ما لهؤلاء رغبة ولا نية، فقال سماك: قولوا خيرًا، قد طلبنا هذا الأمر ولا نريدُ الله به، فلما بلغتُ حاجتي دَلَّني على ما ينفعني، وحجزني عما يَضُرُّني (¬1). روى هذه الآثار البيهقي في "المدخل". وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: طلبنا العلمَ للدنيا، فدلنا على تركِ الدنيا. رواه الخلال، ومن طريقهِ أبو الفرج بن الجوزي في "صفة الصَّفوة" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" - ورجاله مُوَثَّقُون - عن فَضَالة بن عُبيد - رضي الله عنه -: أنه كان إذا أتاه أصحابه قال: تدارسوا، وأبشروا، وزيدوا زادكم الله خيرًا، وأحبكّم وأحبَّ من يحبُّكم، ردُّوا عليَّ المسائل؛ فإن أجر آخرها كأجر أولها، واخلطوا حديثكم بالاستغفار (¬3). وما أحسن قول الحافظ أبي الحجاج الزي رحمه الله تعالى: [من المتدارك] ¬
مَنْ حازَ العِلمَ وذاكَرَهُ ... صَلَحَتْ دُنْيَاهُ وآخِرَتُهْ فَأَدِمْ للعِلم مُذَاكَرةً ... فَحَياةُ الْعِلْمِ مُذَاْكَرَتُهْ (¬1) وعلى قوله: "صلحت دنياه وآخرَته" فمن صلاح دنياه: رفعته في الخلق بحيث يُوَقَّرُ ويحترمُ ولا يستذلُّ. وقد روى مسلم، وابن ماجه عن أبي الطُّفيل: أنَّ نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بِعُسْفَانَ - وكان عمر استعملهُ على مكة -، فقال عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ فقال: استخلفت عليهم ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: رجلٌ من موالينا، قال عمر: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنهُ قارِئٌ لكتاب الله تعالى، عالم بالفرائض، قاضٍ، قال عمر: أما إنَّ نبيَّكم - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِيْنَ" (¬2). وروى الدينوري عن أبي العالية رحمه الله تعالى قال: كنتُ آتي ابنَ عباسٍ - رضي الله عنهما - وقريش حولهُ، فيأخذ بيدي، فيجلسني معه على السرير، فتغامزَتْ لي قُريش، ففطِنَ لها ابن عباس، فقال: هكذا هذا العلم؛ يزيدُ الشريف شرفًا، ويجلس المملوك على الأسِرَّة. ¬
قال: ثمَّ أنشَدَ محمد بن الحارث - يعني: المروزي - أحد رواته في أثره: [من الطويل] رَأَيْتُ رَفِيْعَ النَّاسِ مَنْ كانَ عالِمًا ... وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيْ قَوْمِهِ بِحَسِيْبِ إِذا حَلَّ أَرْضًا عاشَ فِيْها بِعِلْمِهِ ... وَما عالِمٌ فِيْ بَلْدَةٍ بِغَرِيْبِ (¬1) وروى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن السري بن يحيى رحمه الله: أنَّ لقَمان عليه السلام قال لابنهِ: يا بنيَّ! إنَّ الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك (¬2). وأمَّا صلاح آخرتهِ فبإصلاح الطاعة، وإيقاعها على وفقِ العلم. وقد روى ابن النجار في "تاريخه" عن محمد بن علي رحمهما الله مُرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَكْعَتَانِ مِنْ عَالِمٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِيْنَ رَكْعَةً مِنْ غَيْرِ عَالِمٍ". وروى الديلمي في "مسند الفردوس" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَكْعَتَانِ مِنْ رَجُلٍ وَرِعٍ أَفضَلُ مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ مِنْ مُخَلَّطٍ" (¬3). ¬
ولا شك أن العالم أعرفُ بطريقِ الورَع، بل لا يكونُ الورعُ بغير العلم، وإنما البَليَّةُ والمُصيبة أنْ يكونَ عالم ولا ورع عندهُ. واعلمْ أنَّ العبادةَ من العالم هي العبادة المعتدُّ بها، ولذلك ذمَّ الله تعالى في كتابهِ من يعبد الله على حرف؛ أي: على جهل. وقيل في تفسير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]: ليعرفون؛ أي: فيعبدون على معرفة وعلم (¬1). وقال الجنيد رحمه الله تعالى: العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رأس الملوك. رواه ابن جهضم (¬2). ثم من تمامِ حُسنِ النيةِ أن لا يقصد العلم ليماري به السفهاء، ويباهي به العلماء، ويتوصل به إلى الأخذ بالرُّخص والحيل، ويتأكل به الدنيا وأموال الناس، ويتجَوَّه به على الناس، ويتقوى به على الضعفاء، ويزدري به الناس؛ فإنَّ ذلك كلهُ وَبَالٌ على صاحِبِهِ. وإذا لم يفسح في أجلِ العبد حتى يتعلم ما ذكرناه من الأحكام ويوقعها على أسلوبها كفاهُ أن يموتَ على نيتها وإرادتها؛ لأنَّ الناس يحشرون على نياتهم. وقد تقدم في الحديث: أنَّ طالب العلم إذا أتاهُ الموتُ وهو على حالة الطلب مات وهو شهيد. ¬
وروى مسلم، وابن ماجه عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلى مَا مَاتَ عَليِهِ" (¬1). ولفظُ الإمام أحمد، والحاكم وصححه: "مَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءِ بَعَثَهُ اللهُ عَليِهِ" (¬2). وروى الدارمي، والطبراني بسند جيد عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ طَلَبَ عِلْمًا وَأَدْرَكَهُ، كَتَبَ اللهُ لَهُ كِفْلَيْنِ مِنَ الأَجْرِ، وَمَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَلَمْ يُدْرِكْهُ، كَتَبَ اللهُ لَهُ كِفْلاً مِنَ الأَجْرِ" (¬3). قال [ابن الحاج] (¬4): وقد روي أن يحيى بن يحيى راوي "الموطأ" لما جاء إلى مالك رحمه الله تعالى ليقرأ عليه، قال له مالك: اجتهد يابني؛ فإنَّهُ قد جاء شاب في سنك يقرأ على ربيعة رحمه الله، فما كان إلا أيام وتوفي الشاب، فحضر جنازته علماء المدينة، وألحده ربيعة بيدهِ، ثم رآهُ بعد ذلك بعض علماء المدينة في النوم وهو في حالة حسنة، فسألهُ ¬
عن حالِهِ، فقال: غفَرَ لي، وقال لملائكتِهِ: هذا عبدي فلان، كان نيته أن يبلغَ درجة العلماء فبلَّغُوهُ دَرَجَتَهمُ، فأنا معهم أنتظر ما ينتظرون، قال: فقلتُ: وما ينتظرون؟ قال: الشفاعة يوم القيامة في العصاةِ من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1) انتهى. وإذا صَحت النية للطالب أَخذَ في الاشتغال بالعلم، وجدَّ؛ فإنَّ لكلِّ مجتهدٍ نصيبًا. وكان الحسن رحمه الله تعالى يقول: إذا لم تكن حليماً فتحلَّم، وإذا لم تكن عالمًا فتعلَّم، فقلَّ ما تشبه رجل بقوم إلا كان منهم. رواه العسكري في "أمثاله". وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن الرجل (¬2) لا يولد عالماً، وإنما العلم بالتعلم. رواه البيهقي في "المدخل" (¬3). بل روى الطبراني، وأبو نعيم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَ يُوْقَهُ" (¬4). ¬
ورواه البيهقي في "المدخل" موقوفًا بإسناد حسن (¬1). وروى الطبراني عن معاوية - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِيْ الدِّيْنِ، وَإِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ" (¬2). وعلقه البخاري في "صحيحه" (¬3). وروى الدينوري عن ابن داب قال: جاء رجل إلى أبي ذر - رضي الله عنه - فقال: إني أريد أن أتعلم العلم وأنا أخاف أن أضيعه ولا أعمل به، فقال: إنك أن تَوسَّدَ العلم خير من أن تَوسَّدَ الجهل. ثم ذهب إلى أبي الدرداء - رضي الله عنه -، فقال له مثل ذلك، فقال له أبو الدرداء - رضي الله عنه -: إنَّ الناس يبعثون على ما ماتوا عليه من قبورهم، فيُبعثُ العالمُ عالماً، والجاهلُ جاهلاً. ثم جاء إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال له مثل ذلك، فقال له أبو هريرة - رضي الله عنه -: ما أنت بواجد شيئًا أضيع له من تركه (¬4). وليبدأ في طلب العلم بالأهم ثمَّ الأهم، حتى إذا اخترمته المنية ¬
لا يطالب من العلم بشيء هو أهم مما مات عليه. وقد قيل: العمر عن حصول كل العلم يقصرُ، فابدأ منه بالأهم (¬1). وروى أبو نعيم عن الشعبي رحمه الله تعالى قال: العلم أكثر من عدد القطر؛ فخذ من كل شيء أحسَنَهُ، ثم تلا: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 - 18] (¬2). وروى ابن جهضم عن أبي عمرو بن العلاء رحمه الله تعالى قال: العلم أكثر من أن يحصى؛ فخذوا من كل شيء أحسنَهُ. وليطلب شيخًا مؤتمنًا ناصحاً عارفًا تقيًا نقياً بعد اجتهاده على ذلك، وسؤاله عنه من أهل المعرفة والإلمام، وإذا وجد فائدة عند أحد بادرَ إلى اقتناصِها - وإن كان دونَهُ -، ولا يمنعه التكبر من الأخذ عمن هو دونَهُ فيكون غاشًا لنفسِهِ؛ إذ الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها. وروى الحافظ عبد الغني في مقدمة "الكمال في أسماء الرجالِ" عن وكيع رحمه الله تعالى: أنَّهُ قال: لا يكملُ الرجل - أو لا يَنبُلُ - حتى يكتب عن من هو فوقَهُ، وعن من هو مثلهُ، وعن من هو دونه (¬3). وليتأدب بآداب المتعلم حسبما ذكرها العلماء في مَحالِّهَا، وأحسن ¬
كتاب أُلِّفَ في هذا الفن بلا مغالاة ولا تجوُّزٍ كتاب: "الدر النضيد في آداب المفيد والمستفيد" للشيخ الوالد - رضي الله عنه -. وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التشبه بالعلماء في طلب العلم في أحاديث كثيرة. منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَلَكَ طَرِيْقًا طَلَبَ فِيْهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللهُ بِهِ (¬1) طَرِيْقًا إلى الجنَّةِ" (¬2). وروى ابن باكويه الشيرازي في "الألقاب" عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ انتعَلَ لِيَتَعَلَّمَ عِلْمًا، غُفِرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْطُوَ" (¬3). وروى البزار ورجالهُ موثقون، والطبراني في "معاجمِهِ" عن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اُغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ مُسْتَمِعًا أَوْ مُحِبًّا، وَلا تَكُنِ الْخَامِسَةَ فَتَهْلَكَ" (¬4). قال عطاء: قال لي مِسْعر: زدتنا خامسة لم تكن عندنا. ¬
والخامسة أن يبغض العلم وأهلهُ (¬1). وأنشد الإمام أبو المظفر عبد الرحيم بن عبد الكريم السمعاني عن الرياشي (¬2) قال: [من السريع] طَلَبْتُ يَوْمًا مَثَلاً سَائِرًا ... فَكُنْتُ فِيْ الشِّعْرِ لَهُ نَاظِماً لا خَيْرَ فِيْ الْمَرْءِ إِذا ما غَدا ... لا طالِبَ الْعِلْمِ وَلا عالِماً (¬3) وفيه تلميح بحديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -: العالم والمتعلم في الأجر سواء، وسائرُ الناسِ همج لا خير فيهم. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" موقوفا، ويروى مرفوعًا (¬4). وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "النَّاسُ رَجُلانِ: عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ، وَلا خَيْرَ فِيْمَا سِوَاهُمَا" (¬5). ¬
وروى البيهقي في "الشعب"، وابن عبد البر في "فضل العلم"، وغيرهما عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أطْلُبُوْا العِلْمَ وَلُوْ بِالصِّيْنِ؛ فَإِنَّ طَلَبَ العِلْمِ فَرِيْضَةٌ عَلى كُلِّ مُسْلمٍ" (¬1). وروى ابن عبد البر شطرَهُ الأخير بزيادة، ولفظه: "طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلى كُل مُسْلِمٍ، وإنَّ طَالِبَ العِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيْتَانُ فِيْ البَحْرِ" (¬2). وأخرجه بدون هذه الزيادة ابن عدي، والبيهقي من حديث أنس، والطبراني في "الأوسط" من حديث ابن عباس، وهو في "الصغير"، والخطيب من حديث الحسين بن علي، والخطيب من حديث علي، والطبراني في "الكبير" من حديث ابن مسعود، وهو والبيهقي في "الشعب" من حديث أبي سعيد الخدري، وتمَّام في "فوائده" من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - (¬3). ¬
وحديث أنس - رضي الله عنه - عند ابن ماجه، وزاد فيه: "وَوَاضعُ العِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلَّدِ الْخَنَازيْرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ" (¬1). وعند البيهقي، وابن عبد البر، وزاد فيه: "واللهُ يُحِبُّ إِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ" (¬2). ثم العلم المفروض على الأعيان ما يحتاجُ إليه المسلمُ في موافقة حاله في كل وقت لأحكام الله تعالى. فأول ذلك معرفة الله، ومنه تعلم أحكام الصلاة لمن وجبت عليه، ثم الصوم كذلك، ثم الحج، ثمَّ الزكاة لمن ملكَ النصاب، وأحكام بر الوالدين وعقوقهما في حق الولد، وصلة الرحم في حق من له رحم، وهكذا. ¬
وأما تعلم ما يحتاج الناس إليه من العلوم الشرعية وآلاتها فإنه فرض على الكفاية، ولنا في هذه المسألة كلام واضح في كتاب "منبر التوحيد". وروى مسلم عن كثير بن قيس رحمهُ الله تعالى قال: كنت مع أبي الدرداء - رضي الله عنه - بمسجد دمشق، فجاءهُ رجل، فقال: يا أبا الدرداء! إني جئتك من مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ما كانت لك حاجة غيرها؟ قال: لا، قال: ولا جئت لتجارة؟ قال: لا، قال: ولا جئت إلا فيه؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ سَلَكَ طَرِيْقَ عِلْمٍ سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيْقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ عَليْهِمُ السَّلامُ لتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًى لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ والْمَاءَ لتَدْعُو لَهُ، وَإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ عَلى سَائِرِ الكَوَاكِبِ ليْلَةَ البَدْرِ؛ العُلَمَاءُ هُمْ وَرثَةُ الأَنْبِيَاءِ عَلْيْهِمُ السَّلام، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرّثُوْا دِيْنَارًا وَلا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوْا العِلْمَ لِيُعْمَلَ بِهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظًّ وَافِرٍ" (¬1). وأخرجه أبو يعلى، والحاكم في "تاريخهِ" بنحوه، وزاد فيه: "وَمَوْتُ العَالِمِ مُصِيْبَةٌ لا تُجْبَرُ، وَثُلْمَةٌ لا تُسَدُّ، وَهُوَ نَجْمٌ طُمِسَ، مَوْتُ قَبِيْلَةٍ أَيْسَرُ مِنْ مَوْتِ عَالِمٍ" (¬2)؛ أي: موت قبيلة لا عالم فيهم. ¬
وروى الترمذي وحسنه، عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ خَرَجَ فِيْ طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ" (¬1). وعن سَخْبَرَة (¬2) - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ طَلَبَ العِلْمَ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى" (¬3). وروى ابن عبد البر، وغيره عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ العِلْمِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُصَلَّيَ مِئَةَ رَكْعَةٍ" (¬4). وهو عند ابن ماجه، ولفظهُ: "يَا أَبَا ذَرٍّ! لأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَليَ مِئَةَ رَكْعَةٍ، وَلأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ العِلْمِ [عُمِلَ به أو لم يُعمل] (¬5)، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلَّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ" (¬6). وروى أبو الشيخ في "الثوب"، وأبو نعيم، والديلمي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طَلَبُ العِلْمِ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ، وَطَلَبُ العِلْمِ يَوْمًا خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ" (¬7). ¬
والديلمي عنه - أيضًا - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طَلَبُ العِلْمِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِن الصَّلاةِ وَالصَّيَامِ وَالحَجِّ والْجِهَادِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ" (¬1). وروى الدينوري في "المجالسة" عن معاوية قال: أوحى الله تعالى إلى داود النبيِّ عليه السلام: يا داود! اتخذ نعلين من حديد، وعصا من حديد، واطلب العلم حتى تنخرق نعْلاكَ، وتنكسرَ (¬2) عصاك (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" بسند صحيح عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ غَدَا إلى الْمَسْجِدِ لا يُرِيْدُ إِلا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يُعَلِّمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ مُعْتَمِرٍ تَامِّ العُمْرَةِ، وَمَنْ رَاحَ إلى المَسْجِدِ لا يُرِيْدُ إِلا لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا وُيعَلِّمَهُ، كَانَ لَهُ كأَجْرِ حَاجٍّ تَامِّ الحَجِّ" (¬4). وروى فيه بإسناد صحيح - أيضًا - عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَأدْرَكَهُ، كتَبَ اللهُ تَعَالى لَهُ كِفْلَيْنِ مِن الأَجْرِ، وَمَن طَلبَ عِلْمًا فَلَمْ يُدْرِكْهُ كَتَبَ اللهُ لَهُ كِفْلاً مِنَ الأَجْرِ" (¬5). ¬
وأخرجه أبو يعلى، والحكم في "الكنى"، وتمام في "الفوائد"، وابن عساكر، وغيره من حديث أبان، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ طَلَبَ بَابًا مِنَ العِلْمِ لِيُصْلِحَ لَهُ نَفْسَهُ، أَوْ لِمَنْ بَعْدَهُ، كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ رَمْلِ عالِجٍ (¬1) " (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" بسند جيد، عن صفوان بن عسَّال - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ غَدَا يَطْلُبُ عِلْمًا كَانَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ، وَإِنَّ المَلائِكَةَ لتضَعُ أَجْنِحَتَها لِطَالِبِ العِلْمِ" (¬3). وروى العقيلي عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ غَدَا يَطْلُبُ العِلْمَ صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلائِكَةُ، وَبُوْرِكَ لَهُ فِيْ مَعِيْشَتِهِ، وَلَمْ يُنْتَقَصْ (¬4) مِنْ رِزْقِهِ، وَكَانَ مُبَارَكًا عَلَيْهِ" (¬5). وروى الحاكم في "تاريخه"، والخطيب، والديلمي عن زياد بن الحارث الصُّدائي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ طَلَبَ العِلْمَ تَكَفَّلَ اللهُ بِرِزْقِهِ" (¬6). ¬
قلت: هذا تكفل خاص يتميز على غيره، وإلا فإن الله تعالى بأرزاق عباده وخلقه كفيل، لكنه يتكفل للعالم وهو في الطلب والاشتغال كفالة أخص من كفالته بغيره؛ إما بتيسير، أو سعة، أو طيب عيش، أو طيب كسب. ونظيره قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ (132)} [طه: 132]، مع أنه سبحانه وتعالى يرزق الخلق أجمعين، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا (6)} [هود: 6]، إلا أن رزق المصلي الصابر، وكذلك المتعلم أيسر وأسهل، وأهنئ وأميز، فافهم ذلك! وروى الديلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَلَّمُوْا العِلْمَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَعْلَمُ مَتَى يُفْتَقَرُ إلى مَا عِنْدَهُ". وأخرجه هو، والطبراني في "الكبير"، من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، إلا أنَّ الطبراني وَقَفَهُ على ابن مسعود (¬1). وفيه إشارة أن المتعلم لا ينبغي أن يحتقر نفسه احتقاراً يمنعه عن الطلب، فقد يأتي زمان يحتاج الناس فيه إليه، وكذلك لا ينبغي أن يمتنع ¬
عن الطلب تكبراً. وفي كتاب الله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ (146)} [الأعراف: 146] الآية. وقال بعض السلف: لا ينال العلم مُسْتَحْيٍ ولا متكبر (¬1). وروى أبو نعيم عن شعبة رحمه الله قال: إنَّ الذين يطلبون العلم (¬2) على الدواب لا يفلحون (¬3). والتواضع مطلوب من كل مؤمن، ومن المتعلم أولى، وهو من تمام التشبه بالعلماء. وإن كان العلم شرفاً فإنما يتم شرفه بتواضع المتصف به، ثم إن شرف العلم مرغوب فيه؛ لأنه يمنع صاحبه عن تسلط السفهاء ومَعَرَّة اللؤماء ومضرة الأشقياء، ويربي له المهابة عند الملوك، فتنفذ فيهم كلمته، وتنفع فيهم موعظته ونصيحته، فالعلم وطلبه بهذه النية عمل صالح، كما سبق. وروى الدينوري عن الأصمعي قال: دخل عطاء بن أبي رباح ¬
رحمه الله على عبد الملك بن مروان وهو على سريره، فلما بصر به قام إليه وأجلسه معه على السرير، وقعد بين يديه، وقال له: يا أبا محمد! حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين! اتقِ الله في حرم الله وحرم رسوله؛ فتعاهده بالعمارة، واتقِ الله في أولاد المهاجرين والأنصار؛ فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتقِ الله في أهل الثغور؛ فإنهم حصن للمسلمين، وتفقد أمر المسلمين؛ فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتقِ الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم، ولا تغلق بابك. فقال له: أفعل، ثم نهض وقام، فقبض عليه عبد الملك، فقال: يا أبا محمد! إنما سألتنا حوائج غيرك، ثم قد قضيناها، فما حاجتك؟ فقال: ما لي إلى مخلوق حاجة، [ثم خرج] (¬1)، فقال عبد الملك: هذا الشرف، هذا - وأبيك - السُّؤدد (¬2). وقد تقدم ما رواه الدينوري - أيضاً - من صنيع ابن عباس - رضي الله عنهما - مع أبي العالية - واسمه رُفَيع بن مهران الرِّياحي مولاهم -، وعطاء بن أبي رباح مولى قريش، فانظر في رفعتهما بالعلم - وإن كانا (¬3) من الموالي - إلى أرفع المراتب العوالي. وفي ذلك إشارة إلى أن العلم يُكسِبُ صاحبه الشرف والرفعة في الدنيا مع حسن الثواب في الآخرة. ¬
وقد روى أبو نعيم عن مِسعر بن كِدَام رحمه الله قال: العلم أشرف الأحساب (¬1)؛ يرفع الخسيس في نفسه، ومن قعد (¬2) به حسبه نهض به أدبه (¬3). وروى الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" عن سفيان رحمه الله قال: سمعت الأعمش رحمه الله تعالى يقول: لو كنت باقلانياً استقذرتموني، ولولا هذه الأحاديث لكنا مع البقالين بالسوية (¬4). وأسند فيه عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَعَلَّمَ حَدِيْثَيْنِ اثْنَيْنِ يَنْفَعُ بِهِمَا نَفْسَهُ، أَوْ يُعَلِّمُهُمَا غَيْرَهُ فَيَنْتَفِعَ بِهِمَا، كَانَ خَيْرًا مِنْ عِبَادَةِ سِتِّيْنَ عَامًا" (¬5). وعن بِشْر بن الحارث الحافي رحمه الله تعالى قال: لا أعلم على وجه الأرض عملًا أفضل من طلب العلم والحديث لمن اتقى اللهَ وحسنت نيته [فيه] (¬6). قال: وأما أنا فأستغفر الله من كل خطوة خطوت فيه (¬7)؛ كأنه اتهم ¬
نفسه في حسن النية فيه. وروى أبو بكر بن لال، وأبو الشيخ في "الثواب"، وأبو نعيم، وابن عبد البر، والديلمي، وغيرهم عن معاذ - رضي الله عنه - قال: تعلموا العلم؛ فإنَّ تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الوحدة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، والمقرب عند الغرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع الله تعالى به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة وهُداة يهتدى بهم، أدلةً في الخير تقتص آثارهم، وترمَقُ أفعالهم، وترغب الملائكة في خلتهم (¬1)، وبأجنحتها تمسحهم، وكل رطب ويابس لهم يستغفر حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، والسماء ونجومها لأن العلم حياة القلب من العمى، ونور الأبصار من الظُّلمة، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ العبد به منازل الأخيار والدرجات العلى، التفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، فبه يُطاع الله، وبه يعبد، وبه يوحد، وبه يتورع، ويه تُوصَل الأرحام، فهو إمامٌ والعمل تابعه، يُلْهَمُه السعداء، ويحرمه الأشقياء (¬2). ¬
وروى ابن عبد البر عن الحسن رحمه الله تعالى قال: لأن أتعلم باباً من العلم وأعلمه، أحب إلي من أن يكون لي الدنيا كلها [أجعلها] (¬1) في سبيل الله تعالى (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عنه قال: إن العبد لا يزال بخير ما ابتغى من الله تعالى علماً. قلت: وفي كتاب الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] , وفي ذلك إشارة إلى أن التشبه بالعلماء مطلوب من كل جاهل وعالم؛ إذ لا عالم إلا ووراء ما يعلم ما لا يعلم، كما قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، فالتشبه بالعلماء وظيفة العمر. ومن ظن أنه بلغ النهاية فيه فقد جهل، كما روى الدينوري في "المجالسة" عن نعيم بن حماد قال: قال ابن المبارك رحمه الله تعالى: لا يزال المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل (¬3). وفي ذلك - أيضا - إشارة إلى أن التشبه بالعلماء لا يكون إلا بإلهام من الله تعالى وتوفيق، وأن الزيادة من العلم لا تكون إلا منه. ¬
ومن ثمَّ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ انْفَعْنِيْ بِمَا عَلَّمْتَنِيْ، وَعَلِّمْنِيْ مَا يَنْفَعُنِيْ، وَزِدْنِيْ عِلْمًا، وَالحَمْدُ للهِ عَلى كُلِّ حَالٍ". رواه الترمذي، وابن ماجه (¬1). وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه كان يدعو: اللهم زدني إيمانا وفقهاً [ويقيناً] (¬2) وعلماً (¬3). وروى الخطيب عن الشافعي - رضي الله عنه -: أنه قال: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة (¬4). وقال: ما تقرب إلى الله تعالى بشيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم (¬5). ونحوه عن سفيان، وقد سبق. وروى الدينوري عن نعيم بن حماد قال: سمعت ابن المبارك رحمه الله تعالى يقول: عجبت لمن لم يطلب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة (¬6). ¬
ولجار الله الزمخشري: [من الوافر] وَكُلُّ فَضِيْلَةٍ فِيْها سَناءُ ... وَجَدْتُ الْعِلْمَ مِنْ هاتِيْكَ أَسْنَىْ فَلا تَعْتَذَّ غَيْرَ الْعِلْمِ ذُخْراً ... فَإِنَّ الْعِلْمَ كَنْزٌ لَيْسَ يَفْنَىْ ويروى لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: [من البسيط] ما الْفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّهُمُ ... عَلَىْ الْهُدَىْ لِمَنِ اسْتَهْدَىْ أَدِلاَّءُ وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ ما كانَ يُحْسِنُهُ ... وَالْجاهِلُوْنَ لأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْداءُ فَفُزْ بِعِلْمٍ وَلا تَجْهَلْ بِهِ أَبَداً (¬1) ... فَالنَّاسُ مَوْتَىْ وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْياءُ (¬2) وروى أبو نعيم، والخطيب، وغيرهما عن كُميل بن زياد قال: أخذ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بيدي، فأخرجني إلى ناحية الجَبَّان، فلما أصحرنا جلس، ثم تنفس، ثم قال: يا كميل بن زياد! القلوب أوعية؛ فخيرها ¬
أوعاها، احفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق. العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، والمال تنقصه النفقة، ومحبة العالم دِين يدان بها، العلم يكسب للعالم الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد موته، وصنيعة المال تزول بزواله. مات خُزَّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة، هاه! إن هاهنا - وأشار بيده إلى صدره - علماً لو أصبتُ لها (¬1) حملة، بلى أصبتُهُ لَقِناً غير مأمون عليه يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في إحيائه، يقتدح الشك (¬2) في قلبه بأول عارض من شبهة لا ذا، ولا ذاك، أو منهوماً بالذات سَلِس القِياد للشهوات، أو مَغْرِيٌّ بجمع الأموال والادخار، وليس من رعاة (¬3) الدين أقرب شبهاً بهما الأنعام؛ كذلك يموت العلم بموت حامليه. اللهم بلى (¬4)، لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة لكيلا تبطل ¬
حجج الله وبيناته، أولئك هم الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عز وجل عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلانوا ما استوعره (¬1) منه المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالنظر (¬2) الأعلى، أولئك خلفاء الله في بلاده، ودعاته إلى دينه، هاه! هاه! شوقاً إلى رؤيتهم، وأستغفر الله لي ولك، إذا شئت فقم (¬3). قال الخطيب: هذا حديث حسن من أحسن الأحاديث معنىً، وأشرفها لفظًا (¬4). والأخبار والآثار في ذلك كثيرة لا تنحصر، وفي هذا القدر كفاية لمن يعتبر. *** ¬
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ «وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ» تَألِيف العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة 977 هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة 1061 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى تَحقِيقَ وَدِرَاسَة لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ بِإِشْرَافِ نُورِ الدِّين طَالِب المُجَلَّد الرَّابِعُ دَارُ النَّوادِرِ
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ (4)
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 7 - 84 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
تَابِع (4) بَابُ التَّشَبُّه بِالشُّهَدَاءِ
تنبيه
تَابِع (4) بَابُ التَّشَبُّه بِالشُّهَدَاءِ * تَنْبِيْهٌ: مهما أخذ الإنسان بحظه من العلم الشرعي بحيث يقدم الأهم فالأهم - كما تقدم - فلا بأس بالنظر في غير ذلك من العلوم التي لا تذم؛ فإن الإنسان إذا تفنن في العلوم عَظُم قدره، وزَكَى طبعه، واتسعت معرفته. وروينا في "الحلية"، وغيرها عن الربيع بن سليمان رحمه الله قال: قال لي الشافعي - رضي الله عنه -: يا ربيع! رضى الناس غاية لا تُدرَك، فعليك بما يصلحك فألزمه؛ فإنه لا سبيل إلى رضاهم، واعلم أنَّ من تعلم القرآن جَلَّ في عيون الناس، ومن تعلم الحديث قويت حجته، ومن تعلم النحو هيب، ومن تعلم العربية رق طبعه، ومن تعلم الحساب جزل (¬1) رأيه، ومن تعلم الفقه نَبُل قدره، ومن لم يضر نفسه لم ينفعه عليه، وملاك ذلك كله التقوى (¬2). ¬
وأراد الشافعي - رضي الله عنه - بالعربية كل علم يتعلق بكلام العرب؛ كاللغة، والشعر، والفصاحة، والبلاغة، وتوابعها، والتصريف، والهجاء. وأمَّا ما رويناه في "الحلية" - أيضا - عن أبي محمد ابن بنت الشافعي قال: سألت أبي - يعني: الشافعي -، فقلت له: يا أب! أيُّ العلم أطلب؟ فقال: يا بني! أمَّا الشعر فيضع الرفيع ويرفع الخسيس، وأمَّا النحو فإذا بلغ صاحبه الغاية صار مؤدباً، وأمَّا الفرائض فإذا بلغ فيها صاحبها غاية صار معلم صبيان (¬1)، وأما الحديث فباقي (¬2) بركته وخيره عند فناء العمر، وأما الفقه فللشاب وللشيخ فهو سيد العلم (¬3). فإنما أرشده في هذا الكلام إلى البداءة بالأهم، وهو كذلك كما علمت، ولم ينهه عن أصل تلك العلوم، بل عن الاكتفاء بها عما هو أهم منها، والتبحر فيها، والأمر كذلك. وأمَّا العلوم المهمة - وهي علوم الشرع تفسيرًا، وحديثاً، وفقهاً - فإنَّ الاستكثار منها خصوصاً ما ينفع منها في الآخرة كعلم السلوك، ومعرفة طريق الآخرة، وتهذيب النفس من أخلاق المؤمنين؛ قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "النَّاسُ مَعَادِنُ؛ فَخِيَارُهُمْ فِيْ الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِيْ الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوْا" (¬1). وروى الترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لنْ يَشْبَعَ المُؤْمِنُ مِنْ خَيْر يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُوْنَ مُنْتَهَاهُ الجَنَّةَ" (¬2). وروى البزار عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وابن عدي عن أنس - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْهُوْمَانِ لا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ، وَطَالِبُ دَنْيَا" (¬3). وروى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - موقوفًا قال: منهومان لا يشبعان: صاحب علم، وصاحب دنيا، ولا يستويان؛ فأما صاحب العلم فيزداد رضى الرحمن، ثم قرأ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وأمَّا صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان، ثم قرأ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7] (¬4). وأخرجه الطبراني في "الكبير" مرفوعًا، ولفظه: "مَنْهُوْمَانِ لا يَشْبَعُ ¬
تتمة
طَالِبُهُمَا: طَالِبُ عِلْمِ، وَطَالِبُ دُنْيَا" (¬1). * تَتِمَّةٌ: وليكثر من مجالسة العلماء - سواء فتح عليه بالعلم، أو لا -؛ فإنه إذا داوم على مجالستهم يوشك أن يفتح عليه شيء من العلم، وإلا تخلَّقَ بمثل أخلاقهم، وإلا رحم معهم، ونال الشرف بمجالستهم، وسَلِم بها من الآثام. وقد روى الديلمي في "مسند الفردوس" عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُجالَسَةُ العُلَمَاءِ عِبَادَةٌ" (¬2). وروى الطبراني بإسناد حسن عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ لُقْمانَ قالَ لابْنِهِ: يا بُنَيَّ! عَلَيْكَ بِمُجالَسَةِ الْعُلَماءِ، وَاسْتَمِعْ كَلامَ الْحُكَماءِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعالَىْ يُحْيِيْ الْقَلْبَ الْمَيْتَ بِنُوْرِ الْحِكْمَةِ، كَما يُحْيِيْ الأَرْضَ الْمَيْتَةَ بِوابِلِ الْمَطَرِ (¬3). وروى أبو يعلى بإسناد حسن، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قيل: ¬
يا رسول الله! أي جلسائنا خير؟ قال: "مَنْ ذَكَّرَكُمُ اللهَ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَ فِيْ عَلمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُمْ بِالآخِرَةِ عَمَلُهُ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عبيد بن عمير رحمه الله تعالى قال: قال لقمان عليه السلام لابنه وهو يَعِظه: يا بني! تخير المجالس على عينك، فإذا رأيت المجلس يذكر الله فيه فاجلس معهم؛ فإنك إن تكُ عالمًا ينفعك علمك، وإن تكُ غبياً يعلموك، وإن يطلع الله إليهم برحمة يصبك معهم، يا بني! لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر الله - عز وجل - فيه؛ فإنك إن تك عالمًا لا ينفعك علمك، وإن تك غيياً يزيدوك غياً (¬2)، وإن يطلع الله إليهم بعد ذلك بسخط يصبك معهم (¬3). وروى الإمام مالك، وغيره عن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذهب واحد قال: فوقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأما أحدهما فوجد فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنِ الثَّلاثَةِ النَّفرِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى ¬
إِلى اللهِ فآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَى فَاسَتَحْىَ اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ" (¬1). وأما التشبه بالعلماء في النهايات فيحصل بأمرين: - العمل بالعلم. - وتعليمه لمن لم يعلمه. وأما العمل بالعلم فإنما يُراد العلم لأجله. وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لعبد الله بن سلام - رضي الله عنه -: من العلماء؟ قال: الذين يعملون بما يعلمون، قال: فما ينفي العلم من صدور الرجال؟ قال: الطمع. رواه الدارمي (¬2)، وغيره. وروى الطبراني في "الصغير"، والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا [يومَ القيامةِ] عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ" (¬3). ¬
وروى ابن عساكر في "تاريخه" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَشَدُّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ أَمْكَنَهُ طَلَبُ العِلْمِ فِيْ الدُّنْيِا فَلَمْ يَطْلُبْهُ، وَرَجُلٌ عَلَّمَ عِلْمًا فَانتفَعَ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ دُوْنه" (¬1). وروى ابن ماجه، وأبو نعيم في "رياضة المتعلمين"، والبيهقي في "الشعب" عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَلُوْا اللهَ عِلْمًا ناَفِعًا، وَاسْتَعِيْذُوْا بِاللهِ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ" (¬2). وروى الترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: "اللَّهُمَّ انْفَعْنِيْ بِمَا عَلَّمْتَنِيْ، وَعَلِّمْنِيْ مَا يَنْفَعُنِيْ، وَزِدْنِيْ عِلْمًا، وَالْحَمْدُ للهِ عَلى كُلِّ حَالٍ، وَأَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ النَّارِ" (¬3). وروى أبو نعيم في "الرياض" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم: "اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ إِيْمَاناً دَائِمًا؛ فرُبَّ إِيْمَانٍ غيْرِ دَائِمٍ، وَأَسْأَلُكَ عِلْمًا ناَفِعًا؛ فَرُبَّ عِلْمٍ غَيْرِ نَافِعٍ" (¬4). قال الأستاذ الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله تعالى: العلم ¬
الذي لا ينتفع به صاحبه أن يكون الرجل عالمًا ولا يكون عاملاً. انتهى (¬1). قلت: دليله ما رواه أبو نعيم، وأبو الشيخ، والخطيب عن معاذ - رضي الله عنه -، وابن عساكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَلَّمُوْا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعَلَّمُوْا؛ فَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اللهُ حَتَّى تَعْمَلُوْا بِمَا تَعْلَمُوْنَ" (¬2). وروى الأصبهاني في "ترغيبه" عن حبيب بن عبيد رحمه الله تعالى قال: تعلموا العلم، واعقلوه (¬3)، وانتفعوا به، ولا تعلموه لتجملوا به؛ فإنه يوشك إن طال بكم عمر أن يُتَجَمل بالعلم كما يتجمل ذو البزة ببزته (¬4). وروى الطبراني، والخطيب في "اقتضاء العلم العمل"، والأصبهاني في "الترغيب" بسند جيد، عن جندب بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ العَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الخَيْرَ وَلا يَعْمَلُ بِهِ (¬5) كَمَثَلِ ¬
السِّرَاجِ يُضِيْءُ عَلى النَّاسِ وُيحْرِقُ نَفْسَهُ" (¬1). وروى الأولان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ وَينْسَى نَفْسَهُ، كَمَثَلِ الفَتيْلَةِ تُضِيْءُ لِلنَّاسِ وَتُحْرِقُ نَفْسَهَا" (¬2). وروى الخطيب في "الاقتضاء"، وابن النجار في "تاريخ بغداد" عن جابر - رضي الله عنه -، [عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) قال: "اطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار، فقالوا: بم دخلتم النار وإنَّما دخلنا الجنة بتعليمكم؟ قالوا: إنا كنا نقول ولا نفعل" (¬4). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ويلٌ لمن لا يعلم ولو شاء الله لعلمه، وويل لمن يعلم ولا يعمل - سبع مرات - (¬5). ¬
وروى هو، وابن سعد في "طبقاته" وابن أبي شيبة عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: ويل للذي لا يعلم - مرة - ولو شاء الله لعلمه، وويل للذي يعلم ولا يعمل - سبع مرات - (¬1). وأخرجه سعيد بن منصور عن جبلة رحمه الله مُرسَلاً، ومرفوعاً. وروى أبو نعيم عن حذيفة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَيْلٌ لِمَنْ لا يَعْلَمُ، وَويلٌ لِمَنْ عَلِمَ ثُمَّ لا يَعْمَلُ" (¬2). ومِنَ العملِ بالعلم: التحديث به وتعليمه. ومِنْ تركِ العمل به: كتمه ومنعه أهله، وتعليمه غير أهله. روى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ العِلْمَ ثُمَّ لا يُحَدِّثُ بِهِ، كَمَثَلِ الَّذِي يَكْنِزُ الكَنْزَ فَلا يُنْفِقُ مِنْهُ" (¬3). وأخرجه أبو نصر السِّجزي في "الإبانة"، ولفظه: "كَمَثَلِ رَجُلٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً فَكَنَزَهُ وَلَمْ يُنْفِقْ مِنْهُ" (¬4). ¬
وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسَّنهُ، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة، والطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود، وهو والخطيب عن قيس بن طلق، عن أبيه قالوا - رضي الله عنهم -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أَلْجَمَهُ اللهُ تَعَالى يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ ناَرٍ" (¬1). ولا شك أنَّ العمل بالعلم شامل لفعل طاعة [بلغ] (¬2) العالم فضلها، والأمر بها، وترك كل معصية أو مكروه [بلغه] (¬3) النهي عنها، وهذا كله مطلوب من كل مسلم، غير أن العالم أولى أن يأخذ بذلك لأنه محل الاقتداء؛ فإنَّ العلماء هم قدوة الأنام، وإليهم المرجع في الأحكام، وهم حجة الله على العوام، وقد يُراقبهم للأخذ عنهم من لا ينظرون، ويقتدي بهديهم من لا يعلمون. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلى أُمَّتِيْ (¬4) الأَئِمَّةُ المُضِلُّوْنَ". ¬
وقال: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلى أُمَّتِيْ كُل مُنَافِقٍ عَلِيْمُ اللِّسَانِ". وقال: "غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُ عَلى أُمَّتِيْ مِنَ الدَّجَالِ؛ الأَئِمَّةُ المُضِلُّونَ". رواها الإمام أحمد؛ الأول عن أبي الدرداء (¬1)، والثاني عن عمر (¬2)، والثالث عن أبي ذر (¬3)، - رضي الله عنهم -. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رُبَّ عَابِدٍ جَاهِلٍ، وَرُبَّ عَالِمٍ فَاجِرٍ، فَاحْذَرُوْا الجُهَّالَ مِنَ العُبَّادِ، وَالفُجَّارَ مِنَ العُلَمَاءِ". رواه ابن عدي عن أبي أمامة - رضي الله عنه - (¬4). وروى الدارامي في "مسنده" عن أبي عمران الجوني، عن هَرِم بن حيان رحمه الله تعالى: أنه قال: إياكم والعالم الفاسق، فبلغ عمر - رضي الله عنه -، ¬
فكتب إليه - وأشفق منها -: ما العالم الفاسق؟ قال: فكتب إليه هرم: يا أمير المؤمنين! ما أردت إلا الخير؛ يكون إماماً يتكلم بالعلم ويعمل بالفسق، فيشبه على الناس فيضِلُّون (¬1). وروى أبو نعيم عن سفيان الثوري - رضي الله عنه - قال: كان يُقال: تعوذوا بالله من فتنة العابد الجاهل، والعالم الفاجر؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون (¬2). وقال [علي - رضي الله عنه -] (¬3): قصم ظهري [رجلان] (¬4): عالم متهتك، وجاهل متنسك؛ فالجاهل يغشُّ الناس بتنسكه، والعالم ينفرهم بتهتكه (¬5). وقال همام في المعنى: [من الطويل] فَسادٌ كَبِيْرٌ عالِمٌ مُتَهَتِّكٌ ... وَأَكبَرُ مِنْهُ جاهِلٌ مُتَنَسِّكُ هُما فِتْنَةٌ لِلْعالَمِيْنَ كَبِيْرَةٌ ... لِمَنْ بِهِما فِيْ دِيْنِهِ يَتَمَسَّكُ (¬6) ¬
وروى الحلواني، وابن عدي، والعقيلي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احْذَرُوْا زَلَّةَ العَالِمِ، وانتظِرُوْا فَيْئتَهُ" (¬1). وروى الديلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احْذَرُوْا زَلَّةَ العَالِمِ؛ فَإِنَّ زَلتهُ تُكَبْكِبُهُ فِيْ النَّارِ". وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَخَافُ عَلى أُمَّتِيْ ثَلاثاً: زَلَّةَ عَالِمٍ، وَجِدَالَ مُنَافِقٍ بِالقُرْآنِ، وَالتَّكْذِيْبَ بِالقَدَرِ" (¬2). ومن كلام بعض الحكماء: إذا زل عالِم زل بزلته عالَم كبير (¬3). وروى أبو نعيم عن علي بن الحسين - رضي الله عنهما - قال: من ضحك ضحكة مجَّ (¬4) مجة علم (¬5). ¬
فإذا كان الضحك يمج العلم، فلا شك أنه نقص في العالم، فكيف بتهتكه ووقوعه في المعصية؟ فمن هنا ينبغي للعالم أن لا يلهو مع من يلهو. وكان أبو جعفر محمد بن علي الباقر (¬1) رحمه الله تعالى إذا ضحك قال: اللهم لا تمقتني (¬2). وكان الأوزاعي رحمه الله تعالى يقول: أما بعد أن صرنا يقتدى بنا فلا ينبغي لنا التبسم (¬3). رواهما أبو نعيم. وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَلَّمُوْا العِلْمَ، وَتَعَلَّمُوْا لِلِعِلْمِ السَّكِيْنَةَ وَالوَقَارَ، وَتَوَاضَعُوْا لِمَنْ تَعَلَّمُوْنَ مِنْهُ" (¬4). وروى أبو نعيم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَعَلَّمُوْا العِلْمَ، وَتَعَلَّمُوْا لِلعِلْمِ الوَقَارَ" (¬5). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني عن أبي الدرداء، وأنس، وأبي أمامة، وواثلة - رضي الله عنهم -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن الراسخين في ¬
تنبيه
العلم، فقال: "مَنْ بَرَّتْ يَمِيْنُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ، وَعَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، فَذَلِكَ مِنَ الرَّاسِخِيْنَ فِيْ العِلْمِ" (¬1). وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَذَلِكَ مِنَ الرَّاسِخِيْنَ فِيْ العِلْمِ" إشارة إلى أن لهم أخلاقاً أخرى، وقد وصفهم الله تعالى بقوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] الآية. نعم، جمع الحديث المذكور مجامع أخلاق الراسخين في العلم يجمعها جميعًا الإيمان المشار إليه في الآية، وكل ذلك داخل في العمل بالعلم. * تَنْبِيْهٌ: من أولى ما ينبغي أن يهتم به العالم: طلب العافية من الله في علمه؛ إذ ورد: "يعافى الأميون يوم القيامة مما لا يعافى منه العلماء" (¬2). ولذلك لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح: "اللَّهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِيْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِيْنِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ ¬
عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِيْ، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِيْنِيْ وَعَنْ شِمَالِيْ، وَمِنْ فَوْقي، وَأَعُوْذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي". قال وكيع بن الجراح: يعني: الخسف. رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم وصححه، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - (¬1). وروى الترمذي وحسنه، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدُّعَاءُ لا يُرَدُّ بَيْنَ الأَذَانِ والإِقامَةِ"، قالوا: فماذا نقول؟ قال: "سَلُوْا اللهَ العَافِيَةَ فِيْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ" (¬2). وروى هو والحاكم وصححه، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا سُئِلَ اللهَ تَعَالى شَيْئاً أَحَبَّ إِليْهِ مِنَ العَافِيَةِ" (¬3). وروى ابن ماجه بإسناد حسن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ دَعْوَةٍ يَدْعُوْ بِهَا العَبْدُ أَفْضَلَ مِن: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ المُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ" (¬4). ¬
وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي بأسانيد بعضها صحيح، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: أنه قام على المنبر، ثم بكى، فقال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الأول على المنبر، ثم بكى، فقال: "سَلُوْا اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ اليَقِيْنِ خَيْرًا مِنَ العَافِيَةِ" (¬1). وروى الإمام أحمد، وغيره، وصححه ابن حبان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول على المنبر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول - ثم استعبر - يقول في مثل هذا اليوم من عام الأول: "إنَّ النَّاسَ لَمْ يُؤْتَوْا شَيِئاً بَعْدَ كَلِمَةِ الإِخْلاصِ مِثْلَ العَافِيَةِ؛ فَاسْأَلوْا اللهَ العَافِيَةَ" (¬2). وأنشد الحافظ أبو الفضل بن حجر العسقلاني لنفسه عند إملاء هذا الحديث: [من السريع] أَمْرانِ لَمْ يُؤْتَ امْرُؤٌ عاقِلٌ ... مِثْلَهُما فِيْ دارِنا الْفانِيَةْ مَنْ يَسَّرَ اللهُ تَعالَىْ لَهُ ... شَهادَةَ الإِخْلاصِ وَالْعافِيَةْ ¬
وأنشد شيخ الإسلام أبي رحمه الله تعالى عقب إملائه: [من السريع] يا أَيُّها النَّاسُ سَلُوْا رَبَّكُمْ ... عافِيَةً فَهْيَ لَكُمْ كافِيَةْ فَما مُنِحْتُمْ بَعْدَ أَنْ تَشْهَدُوْا ... شَهادَةَ الإِخْلاصِ كَالْعافِيَة وقد ألم بذلك قبلهما الإمام الشافعي - رضي الله عنه - فيما أسنده أبو القاسم الأصبهاني (¬1) في "الترغيب" عن الربيع بن سليمان عنه، فقال: [من السريع] لا تَأْسَ فِي الدُّنْيا عَلى فائِتِ ... وَعِنْدَكَ الإِسْلامُ وَالعافِيَة إِنْ فاتَ شَيْءٌ كُنْتَ تَسْعَى لَهُ ... فَفِيهِما مِنْ فائِتٍ كافِيَة (¬2) وأقول: ¬
أَحَقُّ مُحْتاجٍ لِلْعافِيَة ... فِي دارِهِ الدُّنْيا وَفِي الآتِيَة ذُو العِلْمِ فِي أَحْوالِهِ كُلِّها ... فَيا لَها مِنْ نِعْمَةٍ كافِيَة إِنْ عُوفِيَ العالِمُ فِي دِينِهِ ... فَنِعْمَةٌ وافِرَةٌ وافِيَة فَالعِلْمُ وَالإِخْلاصُ وَالعافِيَة ... تُسْكِنُهُ فِي الْجَنَّةِ العالِيَة [ ................. ] ... كانَتْ لَهُ مِنْ قَبْلِها واقِيَة يا رَبِّ فِي الدُّنْيا وَفِي الباقِيَة ... أَدِمْ عَلَيْنا العَفْوَ وَالعافِيَة يا رَبِّ [ ... ] تعفه مِنْهُما ... [ ... ] واهِية فِي [ ... ] إِنَّ الَّذِي مَنَحْتَهُ العافِيَة ... فَهْوَ الَّذِي نِعْمَتُهُ شافِيَة وفي تقديم [ ... ]، فإنه مقام الوراثة عن النبوة والخلافة عن الله - عز وجل -؛ فإن [ ... ] خلق رفيع كريم، ومقام نبوي [ ... ].
قال الله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. وقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1 - 2]. وقال: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4 - 5]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي". رواه الحكيم الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). [ ... ] على العالم أن يبث عليه لمن يحتاج إليه إذا تعين عليه البث؛ كأن [يرى] المعصية، أو رأى من يعمل بعد [ ... ] من يقوى بهذا أن أمر غيره [ ... ] بجاهل عن فروض الكفايات، و [ ... ] فرض عين. قال الله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]. وروى أبو نعيم، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما آتَى اللهُ عالِماً عِلْماً إِلاَّ أَخَذَ عَلَيْهِ مِنَ الْمِيثاقِ ما أَخَذَ مِنَ النَّبِيِّينَ أَنْ يُبيِّنَهُ وَلا يَكْتُمَهُ" (¬2). وروى الإمام أحمد، وأصحاب السنن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، ألْجِمَ يَومَ القِيامَةِ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ" (¬3). ¬
ويروى من حديث حَسن، وابن مسعود كما تقدم (¬1). وروى ابن عدي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كتَمَ عِلْماً عَنْ أَهْلِهِ، أُلجِمَ يَومَ القِيامَةِ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ" (¬2). وروى ابن ماجه عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَتَمَ عِلْماً مِمَّا يَنْفَعُ اللهُ بِهِ [في أمر] النَّاس فِي الدَّارَينِ (¬3)، أَلْجمَهُ اللهُ يَومَ القِيامَةِ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ" (¬4). وروى الحاكم في "تاريخه" عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى قال: من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما أن يموت فيذهب عليه، وإما أن ينسى حديثه، وإما أن يبتلى بالسلطان (¬5). وفي معناه قلت: مَنْ ضَنَّ بِالعِلْمِ ابْتُلِيَ بِثَلاثَةٍ ... فِي هَذِهِ لدُّنْيا وَيَلْقَى إِثْمَهُ إِمَّا يَمُوتُ فَلا يَكُونُ بِعِلْمِهِ ... نَفْعٌ وإِمَّا أَنْ يُنَسَّى عِلْمَهُ أَوْ يَتْبَعُ السُّلْطانَ حَتَّى إِنَّهُ ... لَيُقِرُّهُ يَوما وَيرْضَى حُكْمَهُ ¬
وينبغي للعالم كما لا يبخل بالعلم عن أهله أن يصونه عن غير أهله، ولا يكون ذلك كتماناً، وقد شبِّه من وضع العلم في غير أهله بتقليد أعناق الخنازير الجوهر، ففي حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَطْرَحُوا الدُّرَّ فِي أَفْواهِ الْخَنازِيرِ". وفي لفظةٍ: "أَفْواهِ الكِلابِ". رواه البخاري في "تاريخه" باللفظ الأول، والمُخَلِّص بالثاني (¬1). أي: لا تلقوا الحكمة وتعطوها غير أهلها. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن سفيان رحمه الله تعالى قال: قال عيسى عليه السلام: إن للحكمة أهلاً؛ [فإن وضعتها في غير أهلها أضعتها، وإن منعتها من أهلها] (¬2) ضيعتها، لكن كالطبيب يضع الدواء حيث ينبغي (¬3). وروى أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن أبي محمد الجريري رحمه الله تعالى قال: رأيت في المنام كأن قائلًا يقول: إن لكل شيء عند الله حقًا، وإن أعظم الحق عند الله حق الحكمة؛ فمن جعل ¬
الحكمة في غير أهلها طالبه الله بحقها، ومن طالبه الله بحقٍّ خُصِم (¬1). وروى ابن السبكي في "طبقاته" عن أبي عمرو العثماني قال: لما دخل الشافعي إلى مصر كلَّمه أصحاب مالك، فأنشأ يقول: أَأَنْثُرُ دُرًّا بَيْنَ راعِيَةِ الغَنَم ... وَأَنْثُرُ مَنْظُوما لِراعِيَةِ النِّعَم لَئِنْ كُنْتُ قَدْ ضُيِّعْتُ فِي شَرِّ بَلْدَةٍ ... فَلَسْتُ مُضَيِّعاً بَيْنَهُمْ غُرَرَ الكَلِم فَإِنْ فَرَّجَ اللهُ الكَرِيْمُ بِلُطْفِهِ ... وَأَدْرَكْتُ أَهْلاً لِلْعُلُومِ وَالْحِكَم بَثَثْتُ مُفِيداً وَاسْتَفَدْتُ وِدادَهُمْ ... وإِلاَّ فَمَخْزُونٌ لَدَيَّ وَمُكْتَتَم وَمَنْ مَنَحَ الْجُهَّالَ عِلْماً أَضاعَهُ ... وَمَنْ مَنَعَ الْمُسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَم (¬2) قلت: وقول الشافعي رضي الله تعالى عنه: ومن منح الجهال يريد ¬
[ ... ] الذين لا يرغبون فيه، ولا [ ... ] به؛ وإلا فإن تعظيم العلم لا يكون لمن جهله. وروى ابن السبكي أيضًا عن الإمام الزاهد الفقيه العابد سيدي نصر بن إبراهيم المقدسي رحمه الله تعالى قال: أنشدني بعض أصحابنا؛ وقيل: إنها للشافعي رضي الله تعالى عنه: الْعِلْمُ مِنْ شَرْطِهِ مَنْ (¬1) خَدَمَه ... أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ خَدَمَة وَواجِبٌ صَوْنُهُ عَلَيْهِ كَما ... يَصُونُ فِي النَّاسِ عِرْضَهُ وَدَمَه فَمَنْ حَوى العِلْمَ ثُمَّ أَوْدَعَه ... بِجَهْلِهِ غَيْرَ أَهْلِهِ ظَلَمَه وَكانَ كَالْمُبْتَنِي البِناءَ إِذا ... تَمَّ لَهُ ما أَرادَ هَدَمَه (¬2) ومهما قصد بتعليم العلم تعيَّن عليه من غير تعرض لغرض دنيوي بحيث لا يُؤثر بتعليمه غنيًا عن فقير، و [ ... ]، ولا من نيته في طلبه المناصب والجاه، أو نحو ذلك [ ... ] نيته [ ... ] وحشره. ¬
وقد روى ابن أبي شيبة، وغيره عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لو أن أهل العلم صانوا علمهم، ووضعوه عند أهله، لسادوا أهل زمانهم، ولكن بذلوه لأهل الدنيا لينالوا من دنياهم، فهانوا على أهلها. سمعت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا واحِداً كَفاهُ اللهُ هَمَّ آخِرَتِهِ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ لَمْ يُبالِ اللهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِها وَقَعَ" (¬1). وقد لَمَّح بحديث ابن مسعود هذا القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني أحد أئمة الشافعية، وأصحاب الوجوه منهم في أبياته المشهورة، وقد رويناها في "طبقات ابن السبكي": [من الطويل] يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِباضٌ وَإِنَّما ... رَأَوْا رَجُلاً عَنْ مَوقِفِ الذُّلِّ أَحْجَما أَرى النَّاسَ مَنْ داناهُمْ هانَ عِنْدَهُمْ ... وَمَنْ أكرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِما وَما كُلُّ بَرْقٍ لاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي ... وَلا كُلُّ مَنْ لاقَيْتُ أَرْضاهُ مُنْعِما وَإِنِّي إِذا ما فاتَنِي الأَمْرُ لَمْ أَبِتْ ... أُقَلِّبُ كَفِّي إِثْرَهُ مُتَنَدِّما ¬
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْمِ إِنْ كانَ كُلَّما ... بَدا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّما إِذا قِيلَ هَذا مَنْهَل قُلْتُ قَدْ أَرى ... وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّما وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَتِهِ العِلْمَ مُهْجَتِي ... لأَخْدِمَ مَنْ لاقَيْتُ لَكِنْ لأُخْدَما أَأَشْقَى بِهِ غَرْساً وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً ... إِذاً فَاتِّباعُ الْجَهْلِ قَدْ كانَ أَحْزَما وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صانُوهُ صانَهمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعَظَّما وَلَكِنْ أَهانُوهُ فَهانُوا وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاهُ بِالأَطْماعِ حَتَّى تَجَهَّما (¬1) وليحذر كل الحذر من حمل العلم إلى [الأمراء] والتردد به إلى الأغنياء؛ فإن ذلك من إضاعة العلم وإهانته، وليس هذا من شأن العلماء، ومن [ ... ] محبة هؤلاء فقد عرض لنفسه لفوات محبة الله تعالى ولحصول مقته وطرده وإبعاده. وقد روى أبو نعيم عن السَّري بن يحيى قال: كتب وهب بن منبه ¬
إلى مكحول رحمه الله: إنك قد أصبت بما ظهر من علم الإسلام عند الناس محبة وشرفاً؛ فاطلب بما بطن من علم الإسلام عند الله تعالى محبة وزلفى، واعلم أن إحدى المحبتين سوف تمنعك الأخرى (¬1). وروى ابن ماجه ورجاله ثقات، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أُناسًا مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، يَقُولُونَ: نأْتِي الأُمَراءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ، وَنَعْتَزِلُهُمْ بِدِيننا، ولا يَكُونُ ذلك كما لا يُجْتَنَى من القَتَادِ إِلاَّ الشَّوْكُ؛ كَذَلِكَ لا يُجْتَنَى من قُرْبِهِمْ إِلاَّ" - قال محمد بن الصَّبَّاحِ: كَأَنَّهُ يَعْنِي الْخَطَايَا - (¬2). وروى ابن لال، والرافعي في "تاريخ قزوين" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَبْغَضَ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ العالِمُ يَزُورُ العُمَّالَ" (¬3). وروى ابن عدي من حديثه مرفوعًا: "إِنَّ فِي جَهَنَّمَ وادِياً تَسْتَعِيذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ كُلَّ يَومٍ سَبْعِينَ مَرَّة، أَعَدَّهُ اللهُ لِلقُرَّاءِ الْمُرائِينَ بِأَعْمالِهِمْ، وَإِنَّ أَبْغَضَ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ عالِمٌ [يزور] السُّلْطانِ" (¬4). ¬
وروى الحاكم في "تاريخه"، والديلمي عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ عالِمٍ أتَي صاحِبَ سُلْطانٍ طَوْعاً إِلاَّ كانَ شَرِيكَهُ فِي كُلِّ لَوْنٍ يُعَذَّبُ بِهِ فِي جَهَنَّمَ" (¬1). وروى الحسن بن سفيان في "مسنده"، والرافعي في "تاريخ قزوين" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العُلَماءُ أُمَناءُ الرُّسُلِ عَلى عِبادِ اللهِ ما لَمْ يُخالِطُوا السُّلْطانَ، فَإِنْ خالَطُوا السُّلْطانَ فَقَدْ خانُوا الرُّسُلَ؛ فَاحْذَرُوهُمْ" (¬2). وروى العسكري عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الفُقَهاءُ أُمَناءُ الرُّسُلِ ما لَمْ يَدْخُلوا الدُّنْيا وَيتَّبِعوا السُّلْطانَ؛ فَإِذا فَعَلُوا ذَلِكَ فَاحْذَرُوهُمْ" (¬3). وجمع جلال الدين السيوطي في ذلك مؤلفاً سماه "ما رواه الأساطين في ترك المجيء إلى السلاطين". وقد نظمته في أرجوزة [ ... ] عنها. ¬
ويتعين على العالم أن [يتقي الله] في عليه، ولا يرائي به ولا يعجب، ولا يريد من الناس من أن يقبلوا عليه ما لا يقبلون على غيره [ ... ] في عليه، ولا يتشقشق بعلمه ويتنفق في كلامه ليَسْبي به قلوب الناس. فقد روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلامِ لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجالِ أَوِ النَّاسِ، لَمْ يَقْبَلِ اللهُ مِنْهُ يَومَ القِيامَةِ صَرْفاً وَلا عَدْلاً" (¬1). وروى عبد الرزاق عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويَهْرَم فيها الكبير، فتتخذ سنة؛ فإن غَيَّرْت يومًا قيل: هذا منكر. قيل: ومتى ذلك؟ قال: إذا قَلَّتْ أمناؤكم وكثرت أمراؤكم، وقلَّت فقهاؤكم وكثرت قراؤكم، وتُفُقِّهَ لغير الدين، وتُعُلِّمَ العلمُ لغير العمل، والْتُمِسَتِ الدنيا بعمل الآخرة (¬2). وروى البزار بسند جيد، والطبراني في "الأوسط" عن عمر بن ¬
الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَظْهَرُ الإِسْلامُ حَتَّى يَخْتَلِفَ التُّجَّارُ فِي البَحْرِ، وَحَتَّى تَخُوضَ الْخَيْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَ يَظْهَرُ قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ يَقُولُونَ: مَنْ أَقْرَأُ مِنَّا؟ مَنْ أَعْلَمُ مِنَّا؟ مَنْ أَفْقَهُ مِنَّا؟ ". ثم قال للصحابة: "فَهَلْ فِي أُوْلَئِكَ مِنْ خَيْرٍ؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أُوْلَئِكَ مِنْكُمْ مِنْ هَذهِ الأُمَّةِ، وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ" (¬1). ورواه هو وأبو نعيم من حديث العباس رضي الله تعالى عنه (¬2). وبالجملة: [لا يتم التأدب] إلا بالتأدب بجميع آدابهم، وإنما آدابهم هي دأب الصالحين، والأخيار من العلماء خيارُهم، ومن تقرب من أهل العلم إلى سَفساف الأمور والأخلاق فليس من أهل العلم حقيقة، وليس ممن يؤمر بالتشبه بهم، بل ممن ينهى عن التشبه بهم في ذلك، وهو من علماء السوء. وإنما التشبه بخيار العلماء وبهم الاقتداء، وفيهم الآيات نزلت، ¬
والأخبار أثرت. فأما الآيات فمثل قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]. {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. وأما ما ورد في فضل العلم والتعليم من الأخبار والآثار، فشيء كثير. منه: ما رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً، وكَانَ منها بُقعةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ منه أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِها النَّاسَ، فَشَرُبوا منها وَسَقَوْا ورَعَوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْها أُخْرَى إِنَّما هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً ولا تنبِتُ كَلأً؛ فَذَلِكَ مَثَلُ من فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ولم يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ" (¬1). ¬
المثال الأول مثال الفقهاء والمستنبطين لأسرار العلم من الآيات والأحاديث؛ كالمفسرين والمتكلمين من أهل السنة. والمثال الثاني مثال أوعية العلم في القرآن والحديث، والمقرئين والمجودين؛ وكلهم على خير. وروى الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما عُبِدَ اللهُ تَعالَى بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ الفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَلَفَقِيةٌ واحِدٌ أَشَدُّ عَلى الشَّيْطانِ مِنْ ألفِ عابِدٍ، وَلِكُلٍّ شَيْءٍ عِمادٌ؛ وَعِمادُ هَذا الدِّينِ الفِقْهُ" (¬1). وروى ابن النجار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما عُبِدَ اللهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّينِ وَنَصِيحَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ" (¬2). وروى الطبراني في "معاجمه" [عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما]، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَفْضَلُ العِبادَةِ الفِقْهُ، وَأفضَلُ الدِّينِ الوَرعُ" (¬3). ¬
وروى الديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ العِبادَةِ طَلَبُ العِلْمِ" (¬1). ويجمع بين الحديثين أن العلم أفضل الأعمال، والفقه أفضله. وفي "الصحيحين" عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ". وأخرجه أبو يعلى، وزاد فيه: "وَمَنْ لَمْ يَفْقَهْ لَمْ يُبالِ بِهِ" (¬2). وروى ابن ماجه بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ عِلْماً ثُمَّ يُعَلِّمَهُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ" (¬3). وروى الحكيم الترمذي، وابن عبد البر بسند ضعيف، عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنه قيل - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ فقال: لا العِلْمُ بِاللهِ - عز وجل -". فقيل: أي العلم تريد؟ ¬
فقال: "العِلْمُ بِاللهِ". فقيل: نسأل عن العمل وتجيب عن العلم؟ فقال: "قَلِيلُ العَمَلِ يَنْفَعُ مَعَ العِلْمِ، وَإِنَّ كَثِيرَ العَمَلِ لا يَنْفَعُ مَعَ الْجَهَلِ" (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: أفضل الناس المؤمن العالم؛ إن احتيج إليه نفع، وإن استغنى عنه أغنى نفسه (¬2). وروى الترمذي وصححه، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَضْلُ العالِمِ عَلى العابِدِ كَفَضْلِي عَلى أَدْنىَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحابِي، إِنَّ اللهَ - عز وجل - وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ؛ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِها، حَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ" (¬3). وروى أبو يعلى عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَضْلُ العالِمِ عَلى العابِدِ سَبْعُونَ دَرَجَة؛ ما بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَما بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ" (¬4). ¬
وروى الشيخان، وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعليٍّ رضي الله تعالى عنه: "لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً واحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمرِ النَّعَمِ" (¬1). وروى الإمام أحمد من حديث معاذ رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له حين بعثه إلى اليمن: "يا مُعَاذُ! لأَنْ يَهْدِيَ الله على يَدَيْكَ رَجُلًا من أَهْلِ الشّرْكِ خَيْرٌ لك من أن يَكُونَ لك حُمْرُ النَّعَمِ" (¬2). وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مَثَلَ العُلَماءِ فِي الأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ يُهْتَدى بِها فِي ظُلُماتِ البَرِّ وَالبَحْرِ؛ فَإِذا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُداةُ" (¬3). وروى ابن عدي عن علي رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "العُلَماءُ مَصابِيحُ الأَرْضِ، وَخُلَفاءُ الأَنْبِياءِ، وَوَرثَتِي وَوَرَثَةُ الأَنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ" (¬4). وروى ابن النجار في "تاريخه" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العُلَماءُ قادَةٌ, وَالْمُتَّقُونَ سادَةٌ، وَمُجالَسَتُهُمْ زِيادَةٌ". ¬
قلت: ومقتضاه أن العالم لما كان متقياً فهو من قادة السادة وسادة القادة. وروى ابن النجار أيضاً عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العُلَماءُ وَرثَةُ الأَنْبِياءِ، يُحِبُّهُمْ أَهْلُ السَّماءِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الْحِيتانُ فِي البَحْرِ إِذا ماتُوا إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ". وسبق في هذا الباب حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه. وروى الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه مر بسوق المدينة، فوقف فقال: يا أهل السوق! ما أعجزكم! قالوا: وما ذاك؟ قال: ذاك ميراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم وأنتم هاهنا؟ ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هذا؟ قال: في المسجد. فخرجوا سراعاً، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد، فدخلنا فيه فلم نر فيه شيئاً يقسم! فقال لهم أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: وما رأيتم في المسجد أحداً؟
قالوا: بلى؛ رأينا قوماً يصلون، وقوما يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام. فقال لهم أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فذاك ميراث محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وروى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات يوم على أصحابه، فرأى مجلسين؛ أحدهما يدعو الله، والثاني يعلمون الناس، فقال: "أَمَّا هَؤُلاءِ يَسْألونَ الله؛ إِنْ شاءَ أَعْطاهُمْ وَإِنْ شاءَ مَنَعَهُمْ، وَأَمَّا هَؤُلاءِ فَيُعَلّمُونَ النَّاسَ؛ وإِنَّما بُعِثْتُ مُعَلِّماً"، وجلس معهم (¬2). وروى ابن المبارك في "الزهد والرقائق" عن زيد بن أسلم - رحمهما الله تعالى - مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَلِمَةٌ مِنَ الْحِكْمَةِ يَسْمَعُها الْمُؤْمِنُ، فَيَعْمَلُ بِها وَيُعَلِّمُها خَيْرٌ لَهُ مِنْ عِبادَةِ سَنَةٍ" (¬3). وروى الطبراني بسند ضعيف، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ العَطِيَّةُ كَلِمَةُ حَقٍّ تَسْمَعُها، ثُمَّ تَحْمِلُها إلَى أَخٍ لَكَ مُسْلِمٍ فتعَلِّمُها إِيَّاهُ" (¬4). ¬
وروى البزار بسند رجاله ثقات، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العُلَماءُ خُلَفاءُ الأَنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ" (¬1). وروى الخطيب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "حَمَلَةُ العِلْمِ فِي الدُّنْيا خُلَفاءُ الأَنْبِياءِ، وَفِي الآخِرَةِ مِنَ الشُّهَداءِ" (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفائِي". قلنا: يا رسول الله! ومن خلفاؤك؟ قال: "الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يَرْوُونَ أَحادِيثِي وُيعَلِّمُونَها النَّاسَ" (¬3). وروى ابن عبد البر عن الحسن -قيل: هو ابن علي رضي الله تعالى عنهما، وقيل: هو البصري رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَحْمَةُ اللهِ عَلى خُلَفائِي". قالوا: ومن خلفاؤك يا رسول الله؟ ¬
قال: "الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي وُيعَلِّمُونهَا النَّاسَ" (¬1). وروى أبو نعيم في كتاب "فضل العالم العفيف" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ أَهْلُ العِلْمِ وَالْجِهادِ؛ فَأَمَّا أَهْلُ العِلْمِ فَدَلُّوا النَّاسَ عَلى ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْجِهادِ فَجاهَدُوا بِأَسْيافِهِمْ عَلى ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ" (¬2). قلت: ومن هنا تساوت العلماء والمقتولون في جهاد في رتبة الشهادة لأن كلًّا منهما مات على ما هو عليه من [ .... ] على ما مات [ .... ] وهو شهيد [ .... ] لوجود الله تعالى معه؛ فإنه مصدق له عن قلب محب له في؛ فافهم! وروى أبو نعيم في "الحلية" عن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: ما ازداد عبد علما إلا ازداد الناس منه قرباً من رحمة الله (¬3). ومن الأولى معنى [ ... ] بسبب [ ... ] اللسان [ ... ] والخشية تبعثه على طاعة الله تعالى وتقواه، ومن تمام أمره أن يأمر غيره بالطاعة ¬
والتقوى بسبب الرحمة. قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189]. وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]. وكل علم لا يدعو صاحبه إلى التقوى والأمر بها، فليس بعلم نافع. وقد روى ابن حبان في "روضة العقلاء" عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: من ازداد علماً ثم ازداد على الدنيا حرصاً، لم يزده من الله إلا بعداً (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" ورواته ثقات، عن ثعلبة بن الحكم رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَقُولُ اللهُ عز وجل للْعُلَماءِ يَومَ القِيامَةِ إِذا قَعَدَ عَلى كُرْسِيِّهِ لِفَصْلِ عِبادِهِ: إِنيِّ لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِيَ وَحِلْمِيَ فِيكُمْ إِلاَّ وَأَنا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ على ما كانَ فِيكُمْ وَلا أُبالِي" (¬2). وروى أبو العباس المُرهبي في "العلم" -بسند ضعيف- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا كانَ يَومُ القِيامَةِ يَقُولُ اللهُ عز وجل لِلْعابِدِينَ وَالْمُجاهِدِينَ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ العُلَماءُ: ¬
بِفَضْلِ عِلْمِنا عَبَدُوا وَجاهَدُوا، فَيَقُولُ اللهُ عز وجل لَهُمْ: أَنْتُمْ عِنْدِي كَبَعْضِ مَلائِكَتِي؛ اشْفَعُوا، فَيَشْفَعُونَ ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ" (¬1). وروى ابن عدي، والبيهقي في "الشعب" وضعفه، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُبْعَثُ العالِمُ وَالعابِدُ، فَيُقالُ لِلْعابِدِ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، وَيقالُ لِلْعالِمِ: اثْبُتْ حَتَّىْ تشفَعَ لِلنَّاسِ بِما أَحْسَنْتَ أَدبَهُمْ" (¬2). قلت: أخبرني من أثق به من الثقات المأمونين: أن شيخ الإسلام والدي رحمه الله تعالى سئل عن العلماء: هل يشفعون يوم القيامة؟ فقال: نعم. قال له بعض الحاضرين: إذن تشفع لنا يا مولانا الشيخ يوم القيامة. فقال: والله [إن] أعطيت شفاعة يوم القيامة لأشفعن في إخواننا وأصحابنا (¬3). ¬
قال: فرآه بعض الأخيار في المنام بعد موته، قال: فقلت له: يا سيدي! كيف حالكم؟ قال: بخير، وقد أعطاني ربي الشفاعة في أصحابي وإخواني، وأنا واقف على باب الجنة [ ... ]. وشفاعة العلماء ثابتة: وروى ابن ماجه بإسناد حسن، عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَشْفَعُ يَومَ القِيامَةِ ثَلاثَةٌ: الأَنْبِياءُ، ثُمَّ العُلَماءُ، ثُمَّ الشُّهَداءُ" (¬1). وهذا الحديث يدل على أن الشهداء [ ... ] العلماء أفضل وأعظم درجة من الشهداء المقتولين في سبيل الله، ومن ثم فإن [ ... ] إذ العلماء هم الصديقون في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]. قلت: ويحتمل أن يكون {وَالشُّهَدَاءِ}: لفظاً مشتركاً يستعمل في معنيين؛ فأريد به الشهداء المقتولون، والشهداء العلماء الراسخون [ ... ] الصديقين وهم العارفون بالله تعالى. وعلى كلا الوجهين فالعلماء أفضل من الشهداء لحديث ابن ماجه [ ... ]. ¬
ورواه ابن عبد البر عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه والمرهبي في "فضل العلم" عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، والشيرازي في "الألقاب"، وغيره عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُوْزَنُ يَومَ القِيامَةِ مِدادُ العُلَماءِ وَدِماءُ الشُّهَداءِ، فَيَرْجِحُ مِدادُ العُلَماءِ عَلى دِماءِ الشُّهَداءِ" (¬1). وذكر ابن الحاج في "المدخل" [الحديث ثم قال]: وهذا بَيِّن لأن دم الشهداء إنما هو في ساعة من نهار أو ساعات، ثم انفصل الأمر فيه لإحدى الحسنيين، ومداد العلماء هو وظيفة العمر ليلاً ونهاراً، ثم إنه محتاج فيه لمباشرة غيره لابد من ذلك، إما أن يعلم أو يتعلم، وكلاهما يحتاج فيه إلى مجاهدة [عظيمة] (¬2) لأجل خلطة الناس ومباشرتهم، وذلك أمر عسير لأنه يحتاج أن كل من اجتمع به ينفصل وهو طيب النفس منشرح الصدر؛ بذلك مضت السنة وانقرض السلف عليه (¬3). ¬
قلت: وفي الحديث وجه آخر، وهو أن دم الشهداء يكون [ ... ] سبب الحياة؛ أشار بها في قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. وفي قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)} [البقرة: 154]. وهذه حياة قاصرة على نفس الشهيد غير متعدية إلى غيره، وأما سيلان مداد العلماء على صفحات الطروس فإنه يكون سبب حياة [ ... ] العالم الكاتب بالعلم تعلماً وتعليماً، وحياة غيره كملت، وقد مضى في القرآن تسمية العلم والإيمان حياة في مواضع شتى [ ... ] قد يكون مداد العلماء سبباً بحياة [ ... ] إما [ ... ] أو شفاعته أو نحو ذلك. وقد قال الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)} [المائدة: 32]. قال سليمان بن علي للحسن -يعني: البصري رحمه الله تعالى-: يا أبا سعيد! أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرمَ على الله من دماءنا. رواه ابن جرير، وغيره (¬1). ¬
وقد سئل شيخ الإسلام الوالد رحمه الله تعالى [ ... ] فأجاب الشيخ أن [ ... ] وباشر أهل زمانه، ثم تنبه له بعض أعدائه، فاستفتى بعض علماء أهل العصر في مسألته، فأفتاه بالوقوع، ثم رتبوا على ذلك أنه في مدة المعاشرة كان زانياً [ ... ] تدرأ عنه الحد، فراجعوا الشيخ الوالد رضي الله تعالى عنه فيه فقال [ ... ] عن هذه المسألة، وليس في عادتي إذا كتب مرة عن مسألة [ ... ] كتب عليها [ ... ] مرة أخرى، فقيل له: إن الرقعة قد فقدت، فلم يكتب حتى اجتمع الناس على صاحب السؤال المذكور، وأرادوا رجمه [ ... ] كتب الشيخ على رقعة ثانية [ ... ] ثالث مرة [ ... ] فجيء بالرقعة إلى حكام البلدة وعلمائها، وكانوا اجتمعوا لذلك، وهموا بإبعاد [ ... ] الرجل قد عرضت [ ... ]. إِذا قالَتْ حَذامِ فَصدِّقوها ... فَإِنَّ القَولَ ما قالَتْ حَذامِ [ ... ]. ورواه المزي في "تهذيب الكمال" عن ابن المبارك قال رحمه الله تعالى: الحبر في الثياب خلوق العلماء (¬1). وروى الترمذي عن أبي هارون العبدي قال: كنا نأتي أبا سعيد -يعني: الخدري رضي الله تعالى عنه - فيقول: مرحباً بوصيَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ، وَإِنَّ رِجَالاً يَأتُونكُمْ مِنْ أَقْطَارِ ¬
الأرضِ تتَفَقَّهُونَ في الدِّينِ؛ فَإِذا أتوْكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْراً" (¬1). ورواه الخطيب، ولفظه: "سَيَأْتِيكُمْ شَبابٌ مِنْ أَقْطارِ الأَرْضِ يَطْلَبُونَ الْحَدِيثَ؛ فَإِذا جاؤُوكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْراً". وفي رواية له: "سَيَأْتِي مِنْ بَعْدِي قَوْم يَسْألونكُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي؛ فَإِذا جاؤُوكُمْ فَالْطُفُوا بِهِمْ وَحَدِّثُوهُمْ" (¬2). وفي رواية أخرى أنه كان -يعني: أبا سعيد رضي الله تعالى عنه- إذا رأى شباباً قال: مرحباً بوصية رسول الله. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أوصانا أن نوسع لكم في المجلس وأن نفهمكم الحديث، فإنكم خلوفنا وأهل الحديث بعدنا (¬3). [ ... ]. وروى أبو نعيم عن محمد بن عمران قال رجل للشعبي: إن فلاناً عالم. قال: ما رأيتُ عليه بهاء العلم. قيل: وما بهاؤه؟ قال: السكينة؛ إذا علم لا يعنف، وإذا علم لا يأنف (¬4). ¬
وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: "عَلِّمُوا وَلا تُعَنِّفُوا؛ فَإِنَّ الْمُعَلّمُ خَيْرٌ مِنَ الْمُعَنِّفِ". رواه البيهقي (¬1). وفي حديثه أيضا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَلَّمُوا العِلْمَ، وَتَعَلَّمُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالوَقارَ، وَتَواضَعُوا لِمَنْ تَعَلَّمُونَ مِنْهُ". رواه الطبراني في "الأوسط" (¬2). ونحوه من قول عمر - رضي الله عنه -، وفيه: تواضعوا لمن تُعَلِّمون العلم، ولا تكونوا [من] جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم. وروى أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه - قال: "تَواضَعُوا لِمَنْ تَعَلَّمُونَ مِنْهُ، وَتَواضَعُوا لِمَنْ تُعَلّمُونَ، وَلا تَكُونُوا جَبابِرَةَ العُلَماءِ فَيَغْلِبَ جَهْلُكُمْ عِلْمَكُمْ" (¬3). وقد يكون جبروت العالم من حيث تحسينُ ضلالاته واعتقاداته [ ... ] فيها وإنها [ ... ] رتبة في العلم، ثم يسعى إلى أحد يره وهذا من كما [ ... ] في العلم يكون [ ... ] الله تعالى. ¬
ولقد قال سبحانه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم} [يوسف: 76]. وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قالَ: أَنا عالِم فَهُوَ جاهِلٌ". [ ... ]. من عدم الرغبة فيه من أكثرهم [ ... ]، ولأن في العلم تحجير على النفوس منعها عن كثير من شهواتها، ومن رغب منهم في العلم إنما يرغب فيه لطلب الدنيا، فيلزم من ذلك صرف ما حصله منه في تحصيلها، فيتقرب به إلى أغراض أهل الدنيا فيصرف علمه في تحصيل خير [ ... ] في أمورهم واستنباط الرخص لهم، فينقلب العلم عليه وبالاً، و [ ... ] التشبه ببعض، ويكون منه شيء [ ... ] مقام يستريح منه [ ... ] الأسرع من أن كان فيه؛ فإنه طلب التشبه بالعلم ليخلص من ضرر الدنيا ويحصل على سعادة الآخرة [ ... ] بالعلم - أي: الدنيا - وبعد عن الآخرة من هذه [ ... ] حينئذ أبعد من بعد غيره عنها. قال معاذ رضي الله تعالى عنه: تعرضت وتصديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يطوف بالبيت، فقلت: يا رسول الله! أي الناس شر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ غَفْراً! سَلْ عَنِ الْخَيْرِ وَلا تَسْأَلْ عَنِ الشَّرِّ؛ شِرارُ النَّاسِ شِرارُ العُلَماءِ فِي النَّاسِ". رواه البزار (¬1). ¬
[ ... ] في هذه الأزمنة عن طلب العلم، وأشار به إلى العلماء أن أكثر الناس [ ... ] رغبة [ ... ] في عشرة العلماء وفي مجالستهم لأنهم يأمرون بخلاف ما هم عليه وينهون عما هم فيه [ ... ] من تجاوز عن ذلك بهذا السبب إلى الزهد في العلماء وبغضهم وعداوتهم، وهذا يقطع الأكثرين عن العلماء لأن من يطلب العلم لوجه الله تعالى قد كان في زمان رواج الخير وفُشُوِّ الدين قليلاً، وأما الآن فهو أعز من [ ... ] وكثير ممن يختص في الأشياء والاشتغال بالعلم قد يقطعه عنه محنة [ ... ] تصيبه من بعض وقته. ثم إن الموت [ ... ] أن الزمان خلف البقايا من العلماء من أهل كل زمان، وفي كل [ ... ] منهم يقل المخلصون والصابرون منهم، وحينئذ يعظم أجر المتشبه بالصالحين، من العلم بمقتضى [ ... ] الوقت وفساد الزمان، فالمتشبه بالعلماء على أمر الشرع ومنهج الحق لا يعلم كنه ما لهم عند الله [ ... ] وإنما [ ... ] وبهم، وعظمة [ ... ]. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّكُمْ فِي زَمانٍ مَنْ تَرَكَ عُشْرَ ما أُمِرَ بِهِ هَلَكَ، ثُمَّ يَأْتِي زَمانٌ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِعُشْرِ ما أُمِرَ بِهِ نَجا". رواه الترمذي، وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). وكيف لا يعظم أجر العالم العامل المخلص الآن. وقد قلت [ ... ] وفقدت إخوانه وعدمت أشكاله [ ... ] بروح ¬
أمره عندهم ولا يحسن حاله لديهم ولا يرغبون في بضاعته فيهم غريب، وطوبى للغرباء! وقد روى أبو بكر بن السني، وأبو نعيم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ شَيْءٍ إِقْبالٌ [وَإِدْبارٌ]؛ وَإِنَّ مِنْ إِقْبالِ هَذا الدِّينِ أَنْ تَفَقَّهَ القَبِيلَةُ كُلُّها بِأَسْرِها حَتَّى لا يُوْجَدَ فِيها إِلاَّ الرَّجُلُ الْمُجافِي أَوِ الرَّجُلانِ، وَاِنَّ مِنْ إِدْبارِ هَذا الدِّينِ أَنْ تَجْفُوَ القَبِيلَةُ كُلُّها بِأَسْرِها حَتَّى لا يُوْجَدَ فِيها إِلاَّ الرَّجُلُ الفَقِيهُ أَوِ الرَّجُلانِ، فَهُما مَقْهُورانِ ذَلِيلانِ لا يَجِدانِ على ذَلِكَ أَعْواناً وَلا أَنْصاراً" (¬1). وروى الحاكم، ومن طريقه ابن الجوزي عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: ارحموا عزيز قوم ذَلَّ، وغنياً افتقر، وعالماً بين جُهَّال (¬2). ورواه العسكري، وابن حبان في "الضعفاء" من حديث أنس مرفوعاً بنحوه (¬3). ¬
وروى الطبراني بسند ضعيف، عن حزام بن حكيم، عن عمه، وقيل: عن أبيه رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّكمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمانٍ كَثِير فُقَهاؤُهُ قَلِيل خُطَباؤُهُ، قَلِيل سُؤَّالُهُ كَثِير مُعْطُوهُ، العَمَلُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ العِلْمِ، وَسَيَأْتِي على النَّاسِ زَمانٌ قَلِيلٌ فُقَهاؤُهُ كَثِيرٌ خُطَباؤُهُ، قَلِيلٌ مُعْطوهُ كَثِيرٌ سُؤَّالُهُ، العِلْمُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ العَمَلِ" (¬1). وروى الحاكم في "المستدرك"، والطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيَأْتِي على أُمَّتِي زَمانٌ تَكْثُرُ فِيهِ القُرَّاءُ وَيَقِلُّ الفُقَهاءُ، وَيُقْبَضُ العِلْمُ وَيكْثُرُ الْهَرْجُ" (¬2). وروى البخاري، وابن ماجه عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ"، الحديث (¬3). وروى الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه ¬
عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ العِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ"، الحديث (¬1). ورووه أيضاً عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ الصُّدُورِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَماءِ، حَتَّى إِذا لَمْ يُبْقِ عالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" (¬2). فموت العلماء مصيبة وأي مصيبة. وروى البزار عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وابن لال عن ابن عمر، وجابر رضي الله تعالى عنهم؛ قالوا رضي الله تعالى عنهم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَوْتُ العالِمِ ثُلْمَةٌ فِي الإِسْلامِ لا تُسَدُّ ما اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ" (¬3). [ ... ] أعظم منها أن يكون في الخشية [ ... ] فاسق لا يدعو ¬
إلى خير ولا يكون إلا مع هذه، وفي الحقيقة [ ... ] ابتلي الناس في زمان يغلبه الجهل عليهم وشدة الجرأة فيهم، وفسق العلماء منهم فليس بعد بينتهم بينة، ولا بعد رزيتهم رزية. وقد روى الحاكم في "تاريخه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والديلمي عن معاذ رضي الله تعالى عنهم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيَأْتِي على النَّاسِ زَمانٌ لا يَبْقَى مِنَ القُرْآنِ إِلاَّ رَسْمُهُ، وَلا مِنَ الإِسْلامِ إِلاَّ اسْمُهُ، يَتَسَمَّوْنَ بِهِ وَهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْهُ، مَساجِدُهُمْ عامِرَةٌ وَهِيَ [خَرابٌ مِنَ الْهُدى]، فُقَهاءُ ذَلِكَ الزَّمانِ شَرُّ فُقَهاء تَحْتَ ظِلِّ السَّماءِ، مِنْهُمْ خَرَجَتِ الفِتْنَةُ وَإلَيْهِمْ تَعُودُ" (¬1). وخرجه ابن [عدي في "الكامل"]، والدارمي في "السنن" من حديث علي رضي الله تعالى عنه موقوفاً عليه بنحوه، وقال: علماؤهم (¬2). وأخرجه البيهقي في "الشعب" مرفوعاً (¬3). وروى الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَرُّ النَّاسِ فاسِقٌ قَرَأَ كِتابَ اللهِ، وَتَفَقَّهَ فِي دِينِ اللهِ، [ثُمَّ] بَذَلَ نَفْسَهُ لِفاجِرٍ؛ إِذا نَشَطَ تَفَكَّهَ بِقِراءَتِهِ وَمُحادَثَتِهِ، فَيَطْبَعُ اللهُ على قَلْبِ ¬
القائِلِ وَالْمُسْتَمعِ". وروى الحاكم -قال العراقي: وهو ضعيف- عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُبَّادٌ جَهَلَةٌ وَعُلَماءُ فَسَقَةٌ" (¬1). وروى ابن ماجه وغيره بإسناد حسن، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: "إِذا ظَهَرَتِ الْمُداهَنَةُ فِي خِيارِكُمْ، وَالفاحِشَةُ فِي شِرارِكُمْ، وَتَحَوَّلَ الْمُلْكُ فِي صِغارِكُمْ، وَالفِقْهُ فِي أَرْذالِكُمْ" (¬2). والأرذال: الأخساء؛ كما في "القاموس" (¬3). وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتِي على النَّاسِ زَمانٌ يَتَعَلَّمُونَ فِيهِ القُرْآنَ فَيَجْمَعُونَ حُرُوفَهُ وَيُضَيِّعُونَ حُدُودَهُ؛ ويلٌ لَهُمْ مِمَّا جَمَعُوا، وَويلٌ لَهُمْ مِمَّا ضَيَّعُوا! إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِهَذا القُرْآنِ مَنْ جَمَعَهُ وَلَمْ يُرَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ" (¬4). ¬
وروى الحاكم، والخطيب في "تاريخهما" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَأْتِي على النَّاسِ زَمانٌ يَحْسُدُ الفُقَهاءُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَيَغارُ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ كَتَغايُرِ التُّيوسِ بَعْضِها على بَعْضٍ" (¬1). واعلم أنه إن كان هذا الزمان الموصوف كيفما كان أهله لا يخلو من [ ... ]. وقد صح بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَزالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظاهِرِينَ على الْحَقِّ"، الحديث (¬2). [ ... ]. لذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ لا يُدْرِكْنِي زَمانٌ، وَلا تُدْرِكُونَ زَماناً لا يُتَّبَعُ فِيهِ العَلِيمُ، وَلا يُسْتَحْيَى فِيهِ مِنَ الْحَلِيمِ، قُلُوبُهُمْ قُلوبُ الأَعاجِمِ، وَأَلْسِنتُهُمْ أَلْسِنةُ العَرَبِ". رواه الإمام أحمد من حديث سهل ابن سعد رضي الله تعالى عنه (¬3). وروى أبو عمرو الداني عن الحكم بن عتيبة قال: كان يقال: ليأتين ¬
على الناس زمان لا يقر فيه عين حليم (¬1) (¬2). وروى أبو نعيم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتِي على النَّاسِ زَمانٌ يَكُونُ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَى أَحَدِهِمْ مِنَ الذَّهَبَةِ الْحَمْراءِ" (¬3). *** ¬
خاتمة
خاتمة الشهداء في موتهم من الصديقين والأنبياء عليهم السلام؛ لخصوصية عظيمة يحصل فيها التشبه بهم، وهي أن جنة عدن لا يسكنها إلا من كان منهم. روى الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جَنَّةُ عَدْنٍ لا يَسْكُنُ فِيها إِلاَّ الأَنْبِياءُ وَالصِّدِّيقُونَ والشُّهداءُ، وَفِيها ما لَمْ يَرَهُ أحدٌ، وَلا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ" (¬1). أورده السيوطي في "البدور السافرة". ¬
(5) باب التشبه بالصديقين رضي الله تعالى عنهم
(5) بَابُ التَّشَبُّه بِالصِّدِّيْقِيْنَ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُم
(5) بَابُ التَّشَبُّه بِالصِّدِّيْقِيْنَ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. قال نافع: مع محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله تعالى عنهم. رواه ابن جرير (¬1). ورواه ابن أبي حاتم عنه، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬2). وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: مع أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -. رواه ابن جرير (¬3). وقال الضحاك رحمه الله تعالى: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما رضي الله تعالى عنهم. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو ¬
الشيخ، وابن عساكر (¬1). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. رواه ابن مردويه (¬2). وروي عنه أيضا أنه قال: مع الذين صدقت نياتهم، فاستقامت قلوبهم وأعمالهم، وخرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك بإخلاص ونية (¬3). وعليه: فالصادق ليس بمعنى اسم الفاعل، بل بمعنى [ ... ] كما تقول العرب: تامرٌ ولابنٌ؛ أي: ذا تمر، وذا لبن؛ لمن صار يبيع التمر واللبن حرفته؛ أي: مع الذين صار الصدقُ حرفتَهم ودينهم. إذ لو كان بمعنى اسم الفاعل لم يفهم منه الاستقامة على الصدق. والأولى أن المراد مطلق الصادقين من المؤمنين، وإذا كانت متابعة الصادقين مطلوبة، فمتابعة الصديقين أولى. وروى ابن الأنباري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقرأ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}؛ وهو أبلغ (¬4). وفي قوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} لطفٌ؛ إذ لو قال: ¬
مع الصديقين لكان فيه تحرج على العبد أن يكتفي من نفسه دون بلوغ مرتبة الصديقية، ولا شكَّ أنَّ أكثر الناس عاجزون عن بلوغ الاستقامة على الصدق. ولقد قال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: قَدْ بَقِينا مُذَبْذَبِينَ حَيارى ... نَطْلُبُ الصِّدْقَ ما إِلَيْهِ سَبِيلُ فَدَعاوِيْ الهَوَى تَخِفُّ عَلَينا ... وَخِلافُ الْهَوى عَلَينا ثَقِيلُ (¬1) (¬2) وفي الآية على القراءة المتواترة: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] إشارة بديعة إلى أن التعلق بأذيال الصادقين ينفع لا محالة؛ فإن العبد إذا كان مع الصادقين ولم يكن منهم، فقد تجره رغبته في الكينونة معهم إلى أن يكون منهم. وفي قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] إشارة إلى أنَّ التقوى أساس الصدق؛ فإنَّ حقيقة التقوى خشية الله تعالى، فيتقي عذابه وسخطه، فيصدق في طلبه، وحينئذ فقد ينفع قليل الصدق ¬
مع التقوى، فإذا تمرَّن العبد على الصدق مع التقوى فقد بلغ الغاية، وأركز على قطب الصديقية. وفي قوله: {مَعَ الصَّادِقِينَ} تلطف بالعبد في إرشاده إلى الصديقية بلطف أمره بأن يكون مع مطلق الصادقين؛ فإنَّ قليل الصدق يدعو إلى كثيره، ولو أمروا بالصديقية أولاً لشق ذلك عليهم، وتوعَّر الطريق بين أيديهم، وربما وقفوا وجبنوا عن سلوكه، بل أمر الله تعالى بالقليل من ذلك، ووعد أن لا يضيع سعي ساع عنده ولو كان مثقال ذرة ليكون الطريق في وجوه السائرين إليه سهلاً واسعاً. ولقد روى الطبراني في "الكبير"، والحاكم في "تاريخه" حديثاً حسناً عن أبي أمامة وإنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لامْرِئٍ مَا احْتَسَبَ، وَعَلَيْهِ مَا اكْتَسَبَ، وَالمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، وَمَنْ مَاتَ عَلى ذَنَابَيِ (¬1) الطَّرِيْقِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ" (¬2). وقوله: على "ذنابي الطريق"، أو: "على طرفه" فيه إشارة إلى أنَّ من السعادة التي لا شبهة في نجاة صاحبها أن يموت على طريق الهدى ولو على طرف منه، فإذا كان ذلك الطرف المتعلق به هو الصدق في طلبه سبحانه وتعالى فقد تمت سعادته؛ فإنَّ من أحب لقاء الله تعالى أحبَّ الله تعالى لقاءه، وفي محبة لقاء الله تعالى ينطوي الصدق، فإذا مات ¬
العبد على استقامة من الصدق وطمأنينة في الحب وجبت له مساكن الصديقين ومنازل المقربين، وحقَّ له أن ينادى عند الموت بما نودي به أبو بكر الصديق وأقرانه - رضي الله عنهم -: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30]. ثم إنَّ نيل هذا المقام، بل الدخول في أول طريق الصدق لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى وهدايته، ومن ثمَّ يشرع لنا في كل صلاة أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7]. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الصدق" عن عمرو بن قيس: أن بعض التابعين وقعت عليه رقعة وهو قائم يصلي، فنظر فإذا فيها: اللهم إني أسألك يقين الصادقين، وصدق الموقنين، وعمل الطائعين، وخوف العاملين، وعبادة الخاشعين، وخشوع العابدين، وإنابة المخبتين، [وإخبات المنيبين] (¬1)، وإلحاقاً برحمتك بالأحياء المرزوقين (¬2). ثم الصديقون -كما تقدم- هم الذين صَعِدت نفوسهم إلى أَوج المعارف، وأفق الاطلاع على الحقائق؛ تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات، وتارة بمعارج التصفية والرياضات، لكن يشترط فيهم استصحاب الصدق مآلاً وحالاً في بداياتهم ونهاياتهم. ¬
وبذلك يظهر الفرق بين الصديق والمُسْتَدْرَج؛ فإنَّ كثيراً من الناس ينطق بالحكمة، ويتكلم بلسان المعرفة، ويقتدر على الاحتجاج والاستظهار، وتكون أفعاله غير مرضية عند الله تعالى، فمعرفته على لسانه ليست على قلبه، فهو مستدرج بعمله، مملًى له في معرفته. ولذلك قال ذو النون - رضي الله عنه -: أريد عارفًا خائفاً، لا عارفاً واصفاً. فالصديق من شأنه الخوف الدائم. قال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]. قال ابن شوذب (¬1): نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. رواه ابن أبي حاتم (¬2). وقال عطاء رحمه الله تعالى: إنَّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - ذكر ذات يوم، وفكر في القيامة والموازين، والجنة والنار، وصفوف الملائكة، وطي السماوات، ونسف الجبال، وتكوير الشمس، وإنثار الكواكب، فقال: وددت أني كنت خضراً من هذه الخضر تأتي علي بهيمة فتأكلني وأني لم أخلق، فنزلت هذه الآية: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "المتمنين"، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في "العظمة" (¬3). ¬
فلا اعتبار بطلاقة اللسان، وفصاحة الكلام، والتكلم على الأسرار والأحوال حتى يصحبه الخوف. ومن هذا القبيل حكماء الفلاسفة، والبراهمة، والشعراء، وأمثالهم ممن تجد كلامه مشحوناً بالحكم، وهو منحلُّ الاعتقاد، آمن من المكر؛ فإنهم مستدرجون، وليسوا بعارفين ولا صديقين لأنهم لو كانوا عارفين صديقين لصدقوا الله ورسوله فيما أدى نظرهم القاصر إلى مخالفتهما فيه. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19]؛ أي: لا غيرهم؛ أي: لا يكون الصديقون إلا ممن آمن بالله ورسله؛ أي: صدق بهم وصدَّقهم فيما قالوا. وأما من تكرر منه الصدق بحيث لم يحفظ عنه ولا كذبة، ثم لم يؤمن بالله ورسوله، فإنه لا يكون صديقاً لأنه كذب على الله تعالى في نفي وجوده، أو نفي وحدانيته، وعلى رسوله في نفي رسالته أو نبوته، أو في شيء مما جاء به، فكل صدق وقع منه في غير ذلك هباء. بل من صدق في الإيمان بالله تعالى ورسله، ودام على ذلك، فقد يسمى صديقاً إما بمعنى صادق، وإما من حيث إنه تكرر منه هذا الصدق ودام عليه، ومن ثم قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كلكم صديق وشهيد، ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19]. رواه ابن أبي حاتم (¬1). ¬
وقال مجاهد رحمه الله: كل مؤمن صديق وشهيد، ثم تلا الآية. رواه عبد الرزاق، وغيره، وأخرجه ابن المنذر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬1). وروى ابن حبان عن عمرو بن ميمون الجهني وإنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان، فممن أنا؟ قال: "مِنَ الصِّدِّيْقِيْنَ وَالشُّهَدَاءِ" (¬2). ويحتمل أن يقال: كل من شهد -أي: علم - مقاماً من مقامات الإيمان، وأيقن به، وصدق فيه، ودام على ذلك، فهو شهيد وصديق بالنسبة إلى ذلك المقام. فإن شهد كذلك مقامين، فهو شهيد وصديق فيهما. وإنما يكمل مقام الشهادة بالقتل في سبيل الله تعالى، أو بالاستقامة في علوم الشرع، ومقام الصديقية لمن بلغ الكمال في المعارف، ولم يصرفه عن الصدق صارف، فافهم! ثم الفرق بين الشهداء الذين هم العلماء وبين الصديقين: أنَّ الشهداء واقفون في مقام الاستدلال في كل علومهم وأحوالهم، وأمَّا الصديقون فإنهم يستكشفون الحق تارة بالاستدلال، وتارة بالرياضة المؤديين إلى تنوير البصيرة، وتارة بمجرد التوفيق والإلهام من الله تعالى، فهم أخص ¬
من الشهداء، وأتم حالاً منهم. على أن الشهيد يشترط فيه ما يشترط في الصديق من استصحاب الصدق، لكن في أغلب أحوالهم فلابد أن يكون مع الله تعالى صادقاً أبداً، ولذلك لم يكن للعبد في الجهاد ولا للموت على العلم فائدة مع الرياء لعدم الصدق، ففي "صحيح مسلم"، و"سنن النسائي" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ القِيَامَةِ عَليِهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيْهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيْكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: هُوَ جَرِيْءٌ، فَقَدْ قِيْلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلى وَجْهِهِ حَتَّى ألقِيَ فِيْ النَّارِ. وَرَجُل تَعَلَّمَ العِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ بهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَه، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيْهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ، وَعَلَّمتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيْكَ القُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ القُرْآنَ ليُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيْلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلى وَجْهِهِ حَتَّى أُلقِيَ فِيْ النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ، فَعَرَّفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيْهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيْلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيْهَا إِلا أَنْفَقْتُ فِيْهَا لكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوُ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيْلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلى وَجهِهِ حَتَّى أُلقِيَ فِي النَّارِ" (¬1). ¬
وأخرجه الترمذي وحسنه، وابن حبان في "صحيحه"، ولفظهما: قال: حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن اللهَ تَبارَكَ وَتَعالَى إِذا كانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ يَنْزِلُ إِلَىْ الْعِبادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ أُمَّةٍ جاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُوْنَهُ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، وَرَجُلٌ كَثِيْرُ الْمالِ، فَيَقُوْلُ اللهُ عز وجل لِلْقارِئِ: أَلمْ أُعَلِّمْكَ ما أَنزَلْتُ عَلَىْ رَسُوْليَ؟ فَيَقُوْلُ: بَلَىْ يا رَبِّ، قالَ: فَماذَا عَمِلْتَ فِيْما عَلِمْتَ؟ قالَ: كُنْتُ أقوْمُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَآناءَ النَّهارِ، فَيَقُوْلُ اللهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُوْلُ لَهُ الْمَلائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيقُوْلُ اللهُ تَعالَىْ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقالَ: فُلانٌ قارِئٌ، وَقَدْ قِيْلَ ذَلِكَ. وُيؤْتَىْ بِصاحِبِ الْمالِ، فَيَقُوْلُ اللهُ: ألَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّىْ لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَىْ أَحَدٍ؟ قالَ: بَلَىْ يا رَبِّ، قالَ: فَماذا عَمِلْتَ فِيْما آتَيْتُكَ؟ قالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ، وَأتصَدَّقُ، فَيَقُوْلُ اللهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُوْلُ الْمَلائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُوْلُ اللهُ تَعالَىْ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقالَ: فُلانٌ جَوادٌ، وَقَدْ قِيْلَ ذَلِكَ. وُيؤْتَىْ بِالَّذِيْ قُتِلَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، فَيَقُوْلُ اللهُ تَعالَىْ لَهُ: فِيماذا قُتِلْتَ؟ فَيقُوْلُ: أَيْ رَبِّ! أَمَرْتَ بِالْجِهادِ فِيْ سَبِيْلِكَ، وَقاتَلْتُ حَتَّىْ قُتِلْتُ، فَيَقُوْلُ اللهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُوْلُ الْمَلائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُوْلُ اللهُ تَعالَىْ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقالَ: فُلانٌ جَرِيْءٌ، وَقَدْ قِيْلَ ذَلِكَ. ثم ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ركبتي، فقال: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! أُولَئِكَ الثَّلاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ".
قال: فدخل على معاوية رجل فأخبرهَ بهذا عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، فقال معاوية - رضي الله عنه -: قد فعل هؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديدا ظننا أنه هالك، وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16] (¬1). فالشهيد لابد أن يكون الصدق فيه دائماً، ومن ثم لا يصلح العالم المتزندق لأخذ العلم عنه، ولا يكون أهلاً للرواية؛ لقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِيْنٌ؛ فَانْظُرُوْا عَمَّنْ تَأْخُذُوْنَ دِيْنَكُمْ". رواه الحاكم في "المستدرك" عن أنس - رضي الله عنه -، والديلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬2). ولقد اشترط الله تعالى في الشهداء ما اشترطه في الصديقين، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19]. إن قلنا: إن الشهداء معطوف على الصديقين -وهو أحد الوجهين في الآية -، ولا يصح الإيمان إلا بالصدق والإخلاص فيه، ولعله أراد سبحانه وتعالى بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} [الحديد: 19]، كُمِّل أهل الإيمان؛ ¬
أي: الذين داموا على الإيمان، واستقاموا عليه، فلا يكون كل مؤمن صديقا ولا شهيداً، خلافاً لمن أخذ بظاهر الآية إلا من حيث دوامه على الإيمان والصدق فيه، كما تقدم. وكيف يصلح للشهادة لله تعالى من هو غير مصدق به، ولا مصدق له، ولا صادق في تصديقه. وكذلك لا يصلح العالم المتفسق للأخذ عنه، والرواية، فلابد من عدالته؛ لأن الرواية شهادة فلا يتم التشبه بالعلماء إلا بالعدالة، وهي داخلة في العمل بالعلم، وقد تقدم الكلام على ذلك. وأما التشبه بالصديقين فلا يتحقق العبد به حتى يترقى في مقامات الدين، ويتصفى عن كدورات التلوين، ولا يتم ذلك إلا لمن قطع مقامات الأبرار، وعبر مقامات المصطفين الأخيار، فيكون مسلماً صادقاً في إسلامه، حنيفًا صادقاً في تحنفه، مؤمناً صادقاً في إيمانه، ثم باراً صادقاً في بره، ثم صديقا، ولا يكون باراً حتى يعبر أول مقامات الإحسان؛ لما قررته لك سابقا من أنَّ البر هو الإحسان، وأول مقامات الإحسان أن يلاحظ وجه الله تعالى في كل أعماله وأقواله، ويراقبه في لحظاته، وحركاته، وسكناته بأن يعلم أنَّ الله تعالى مطلع على سره وعلانيته، وعلى باطنه وظاهره. وقد روى البيهقي في "الأسماء والصفات" عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ إِيْمَانِ المَرْءِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ
مَعَهُ حَيْثُ كَانَ" (¬1). فإذا ترقى في إخلاصه ومراقبته لله تعالى حتى وصل إلى مقام العيان المعبر عنه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث "الصحيحين": "الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ" (¬2)، واستقام على ذلك كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: 112]. قال الحسن رحمه الله: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَمِّرُوْا"، فما رؤي ضاحكاً. أخرجه ابن حاتم (¬3). فقد تحقق حينئذ بمقام الصديقية، وبكمال الإحسان. والبر -أيضا- اسمٌ من شرطه استصحاب الخوف والحياء، وملازمة الذكر، والعزوف عن الدنيا، والحذر منها، والاستغناء عن الناس، و [استكمال] (¬4) المسلمين منهم، وطلب المعونة من الله تعالى، والبراءة من الحول والقوة، والاعتراف بالعجز والقصور، ودوام الافتقار إلى الله تعالى، وهذه كانت أحوال أبي بكر الصديق - رضى الله عنه -. روى الحاكم، وأبو نعيم، والبيهقي في "الشعب" عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: أنَّ أبا بكر الصديق استسقى، فأتي بإناء فيه عسل (¬5)، فلما ¬
وضع على يده بكى [وردَّ الإناء] (¬1)، وانتحب، فما زال يبكي حتَّى بكى من حوله، فسألوه: ما الذي هيجك على البكاء؟ فقال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل يدفع عنه شيئاً: "إِلَيْكِ عَنِّيْ، إِلَيْكِ عَنِّيْ"، ولم أرَ معه أحداً، فقلت: يا رسول الله! أراك تدفع شيئاً ولا أرى معك أحداً؟ فقال: "هَذهِ الدُّنْيَا مُثِّلَتْ لي بِمَا فِيْهَا، فَقُلْتُ لَهَا: إِلَيْكِ عَنِّيْ، فتنَحَّتْ، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَقَالَتْ: أَمَا وَاللهِ إِنْ أفلَتَّ مِنِّي فَلَنْ يَتَفَلَّتَ مِنِّي مَنْ بَعدَكَ" فَخَشِيْتُ أَنْ تَكُوْنَ لَحِقَتْنَا، فَذَاكَ أَبْكَانِيْ (¬2). وروى الحاكم في "التاريخ"، والعسكري في "المواعظ" عن الأصمعي رحمه الله قال: كان أبو بكر - رضي الله عنه - إذا مدح قال: اللهم أنت أعلم مني بنفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون (¬3). وروى ابن حبان (¬4) في "روضة العقلاء" عن ابن شهاب رحمه الله تعالى: أنَّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال يوماً وهو يخطب: استحيوا من الله حق الحياء؛ فوالله ما خرجت لحاجة منذ بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[أريد ¬
الغائط] (¬1) إلا مقنعاً رأسي حياءً من ربي عز وجل (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي عمران الجوني رحمه الله تعالى قال: قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن (¬3). وعن الحسن رحمه الله قال: قال أبو بكر - رضي الله عنه -: لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتُعْضَد (¬4). وعن قتادة رحمه الله قال: بلغني أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - قال: وددت أني خضرة تأكلني الدواب (¬5). وعن قيس بن أبي حازم رحمه الله قال: رأيت أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - آخذاً بطرف لسانه وهو يقول: هذا هو الذي أوردني الموارد (¬6). وعن أسلم رحمه الله قال: أخذ أبو بكر بلسانه في مرضه، فجعل يَلُوكُه ويقول: هذا أوردني الموارد (¬7). ¬
وروى عبد الله ابنه عن أسلم: أن عمر رأى أبا بكر - رضي الله عنه - وهو مدل لسانه، آخذه بيده، فقال: ما تصنع يا خليفة رسول الله؟ فقال: وهل أوردني الموارد إلا هذا؟ (¬1) وفي رواية: إنَّ عمر دخل على أبي بكر - رضي الله عنه - وهو يَجْبِذ لسانه، فقال له عمر: مه! غفر الله لك، فقال أبو بكر: إنَّ هذا أوردني الموارد (¬2). قلت: حكي عن بعض الصالحين قال: رأيت أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - في المنام، فقلت له: يا خليفة رسول الله! رُويَ عنك أنَّك كنت تمسك لسانك، وتقول: هذا أوردني الموارد، فما أوردك؟ قال: قلت به: (لا إله إلا الله) فأوردني الجنة (¬3). وروى الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخجندي في "أربعينه" عن جعفر الصادق رحمه الله قال: كان أكثر كلام أبي بكر - رضي الله عنه -: لا إله إلا الله (¬4). وروى أبو عبد الرحمن السلمي، والديلمي عن علي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر - رضي الله عنه -: "يَا أَبَا بَكْرٍ! إذَا رَأَيْتَ النَّاسَ يُسَارِعُوْنَ فِي الدُّنْيَا فَعَلَيْكَ بِالآخِرَةِ، وَاذْكُرِ اللهَ عِنْدَ كُل حَجَرٍ وَمَدَرٍ يَذْكُرْكَ إِذَا ذَكَرْتَهُ، ¬
وَلا تَحْقِرَنَّ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِيْنَ؛ فَإِنَّ صَغِيْرَ المُسْلِمِيْنَ عِنْدَ اللهِ كَبِيْر" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - قال: إن الدنيا لم تُرِد أبا بكر، ولم يُرِدْها، وأرادت ابن الخطاب ولم يردها (¬2). وروى إسحاق بن راهويه، وأبو ذر الهروي في "الجامع" عن الحسن رحمه الله: أنَّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - خطب، فقال: أما والله ما أنا بخيركم، ولقد كنت لمقامي هذا كارهاً، ولوددت أن فيكم من يكفيني، أفتظنون أني أعمل فيكم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذن لا أقوم لها؛ إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُعصم بالوحي، وكان معه ملك، وإنَّ لي شيطاناً يعتريني، فإذا غضبت فاجتنبوني أن لا أؤثر في أشعاركم، وأبشاركم، ألا فراعوني؛ فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوِّموني. قال الحسن: خطبة -والله - ما خطب بها بعده (¬3). ثم إن عماد الصديقية تصحيح اليقين كما يشير إليه حديث الإحسان. وأركانها العبادة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ" (¬4). ¬
فحقيقة الصديقية استكمال الإحسان، وهذا مجموعه إلا أن عماده اليقين، فهو أول العبادة وآخرها، كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 99]. وبه كان فضل أبي بكر - رضي الله عنه - كما قال بكر بن عبد الله المزني رحمه الله: ما فُضِّل أبو بكر الناس بكثرة صلاة، ولا بكثرة صيام، ولكن بسِرٍّ (¬1) وقر في صدره. رواه الحكيم الترمذي في "نوادره" (¬2). وذلك السر هو اليقين، وما [يتشعَّب] (¬3) منه من طاعات القلب، وهو شيء عزيز، وجوهر نفيس، وأَهْلُوه أفرادٌ في الناس. روى ابن عبد البر عن معاذ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى شَيْئاً أقلَّ مِنَ اليَقِيْنِ، وَلا قَسَّمَ بَيْنَ النَّاسِ شَيْئاً أَقَلَّ مِنَ الحِلْمِ" (¬4). وقد ختم الله تعالى به أوصاف المتقين بقوله: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]، ثم قال: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]؛ أي: أولئك الذين أول أحوالهم التقوى، وآخر أمرهم اليقين، على هدى من ربهم، وبصيرة من ثوابه، وأولئك هم الباقون في الخير، الدائمون في السعادة. ¬
روى ابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَجَا أَوَّلُ هَذه الأُمَّةِ بِاليقِيْنِ وَالزُّهْدِ، وَيهْلَكُ آخِرُهَا بِالبُخْلِ وَالأمَلِ" (¬1). واعلم أنَّ أصحاب هذا المقام لا يتفاوتون في اليقين، ولذلك قال بعضهم: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً؛ ويروى عن علي - رضي الله عنه - (¬2). نعم، تتفاوت مقاماتهم باعتبار تفاوتهم في الصدق، فيزدادون وضوحاً في يقينهم، كما قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]؛ أي: بزيادة الوضوح، وإلا فإنه عليه السلام كان كامل اليقين، خالصاً عن الشك، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَنَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيْمَ"، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في "الصحيحين" (¬3)؛ [أي]: إِنَّهُ لَوْ فُرِضَ الشَّكُّ مِنْ إِبْراهِيْمَ لَكُنَّا أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ. وهذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - تواضع، ومبالغة في تنزيه إبراهيم عليه السلام من الشك. ونظير ذلك ما اتفق لأبي بكر - رضي الله عنه - حين قال له رجال من المشركين: ¬
هل لك إلى صاحبك؛ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك في خبر السماء في غدوة وروحة، ولذلك سمي الصديق (¬1). وفي رواية: في خبر السماء، في ساعة من ليل أو نهار، فهذا أبعد مما تعجبون منه، ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: يا نبي الله! حدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: "نَعَمْ"، قال: يا نبي الله! فصفه لي؛ فإني قد جئته، قال الحسن: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ لِي حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصفه لأبي بكر - رضي الله عنه -، فيقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنك رسول الله، كلما وصف له منه شيئاً قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله، حتى إذا انتهى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه -: "وَأَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ الصدِّيْق"؛ فيومئذ سماه الصديق (¬2). قال المحب الطبري رحمه الله تعالى في "الرياض النضرة": قول أبي بكر - رضي الله عنه -: "صفه لي" يحتمل معنيين: أحدهما: إظهار صدقه - صلى الله عليه وسلم - لقومه؛ فإنهم كانوا يتقوون بقول أبي بكر - رضي الله عنه -، فإذا طابق خبره - صلى الله عليه وسلم - ما كان يعلم أبو بكر، وصدقه به، كان حجة ظاهرة عليهم. الثاني: طمأنينة قلبه - رضي الله عنه -، كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ¬
{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، لا أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان عنده شك، كلا، بدليل تصديقه أول وهلة، والله أعلم. انتهى (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإحسان: "فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" (¬2) إشارة إلى أول مقام الإحسان وأدناه، وهو مقام الأبرار" أي: فإن لم تكن كمن يراه سبحانه فتكون صديقاً، فكن عالمًا بأنه يراك ويراقبك، فتكون باراً؛ {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265]. فإن قلت: فإذا تقرر أنَّ مقام الصديقية فوق مقام البر، فهل يكون هذا مخالفاً لما رواه الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب"، ومسلم في "الصحيح"، والترمذي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلى الجَنَّةِ، وَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا" (¬3)؟ ! قلت: لا مخالفة فيما ذكرناه للحديث أصلاً؛ فإنَّ البر لا يتم إلا بالصدق فيه -كما تقدمت الإشارة إليه في كلامنا آنفاً- بل الصدق طريق الهداية إلى البر -كما في الحديث- فالصدق بداية البر، والبر بداية الصديقية، وكأن البار بمعنى الصادق، والصديق أبلغ منه صدقاً وبراً. ¬
وهذا الحديث على وزان قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177]، إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]؛ أي: أولئك الذين صدقوا فأدى بهم الصدق إلى هذا البر الموصوف. فمن جاء بهذه الأوصاف المذكورة في هذه الآية فهو بار وصادق، ولا يكون صديقا حتى يستقيم عليها، وعلى الصدق فيها، وتكون تلك غاية مستمرة له. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَى يُكتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا". وقلت في معنى الحديث بطرفيه: ما يَزالُ الْعَبْدُ يَصْدُقُ فِيْ كُلِّ شَيْءٍ يَتَحَرَّاهُ أَبَدَ الدَّهْرِ فَيَكْتُبَهُ اللهُ صِدِّيْقًا وَيرْضاهُ وَيدُوْمُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ فِيْ كُلِّ أَمْرٍ يَتَوَخَّاهُ هَكَذَا أَيْضا فَيَكْتُبَهُ اللهُ كَذَّابًا وَيقْلاهُ وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، يؤخذ منه أن البار هو المتقي؛ فإن ترقى في التقوى إلى غاياتها بحيث استقام قلبه عليها حتى صار معدنا لها كان صديقاً.
وقد روى الطبراني عن عبد الله بن عمر (¬1) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ شَيْءٍ مَعْدِنٌ، وَمَعْدِنُ التَّقْوى قُلُوْبُ العَارِفِيْنَ" (¬2). والعارفون بالله هم الصديقون؛ فإنهم خواص العلماء، استقاموا على الخشية، والتقوى، والصدق. وقال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 23، 24]؛ أي: بقدر صدقهم، أو بسبب صدقهم. {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 24]: نزلت هذه الآية في شهداء أحد، ومن بقي من أهل تلك الغزوة، وناهيك بهم صديقين! وفي قوله تعالى: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]، إشارة إلى أنهم داموا على العهد، والصدق فيه حتى قتلوا، أو ماتوا. وسئل أبو عبد الله القرشي رحمه الله تعالى عن الفرق بين الصادق والصِّدِّيق فقال: كل صادق بلسانه ولم تستقم أحواله لا يسمى صدِّيقاً حتى يستوي صدقه في أفعاله وأقواله وأحواله؛ إذ ذاك يستحق اسم الصديقية. ¬
وقال حجة الإسلام: لفظ الصدق يستعمل في ستة معان: - صدق في القول. - وصدق في النية، والإرادة. - وصدق في العزم. - وصدق في الوفاء بالعزم. - وصدق في الفعل. - وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها. فمن صدق في جميع ذلك فهو صدِّيق؛ لأنه مبالغة عن الصدق (¬1). وفي "القاموس": الصديق -كسكيت- الكثير الصدق. قلت: وقد تلخص لي أخذاً من سيرة أبي بكر الصديق - رضى الله عنه - وهو رأس الصدِّيقين بعد الأنبياء عليهم السلام كما أنَّ محمد - صلى الله عليه وسلم - رأس النبيين، ومن ثم اشتركا في هذه الخصوصية التي في حديث حذيفة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ رَآنِيْ فِيْ المَنَامِ فَقَد رَآنِي؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَمَثَّلُ بِي، وَمَنْ رَأَى أَبَا بَكْرٍ فِي المَنَامِ فَقَد رَآهُ لأَنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَمَثَلُ بِهِ". رواه الخطيب، والديلمي (¬2). ¬
إنَّ أركان الصدِّيقية أربعة: أولها: التبري عن الأكوان كلها، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[لأبي بكر - صلى الله عليه وسلم -، لمَّا تصدق بكل ماله: "مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟ " قال: "الله ورسوله" (¬1). وُيعبر عن ذلك بالحرية، ولذلك قال جدي الشيخ رضي الدين - رضي الله عنه - في "ألفيته" في التصوف: [من الرجز] وُيعْرَفُ الصِّدِّيْقُ بِالْحُرّيَّة ... مِنْ رِقِّ كُلِّ صِفَةٍ نَفْسِيَّةْ الثاني: التصديق بكل أمرٍ إلهي -وإن كان خارجاً عن العادات، والمألوفات- كما صدق أبو بكر - رضي الله عنه - بحديث الإسراء، وقد تزلزل فيه غيره لولا تصديقه - رضي الله عنه -، فهو أول المصدقين بذلك، وبكل أمر إلهي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى أبو عبد الله محمد بن منده في كتاب "فضائل أبي بكر"، والملاء في "سيرته"، وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِيْ قُلْتُ لِجِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلام: إِنَّ قَوْمِي لا يُصَدِّقُونِي، فَقَال لي جِبْرِيْل: يُصَدِّقُكَ أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ الصِّدِّيْقُ" (¬2). ¬
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنه قال: أول من صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر - رضي الله عنه -. ثم تمثل بأبيات حسان - رضي الله عنه -: [من البسيط] إِذا تَذَكَّرْتَ شَجْواً مِنْ أَخِيْ ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخاكَ أَبا بَكْر بِما فَعَلا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أتقاها وَأَعْدَلَها ... إِلاَّ النَّبِيَّ وَأَوْفاها بِما حَمَلا الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُوْدَ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلَ النَّاسِ حَقًّا صَدَّقَ الرُّسُلا (¬1) ومن هنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا صَحِبَ النَّبِيّينَ وَالمُرْسَلِيْنَ أَجْمَعِيْنَ، وَلا صَاحَبَ يس أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه -. رواه الحاكم في "تاريخه" عن أنس - رضي الله عنه - (¬2). وإنما كان التصديق مما تتحقق به الصديقية لأن الصدق يدعو إليه؛ لأن الصادق يُصدق الصادق. ومن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ تَصْدِيْقًا للنَّاسِ أَصْدَقُهُمْ ¬
حَدِيْثًا، وإِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ تَكْذِيْبًا كذَبُهُمْ حَدِيْثًا". رواه ابن الحسين القزويني في "أماليه". وقد شارك أبا بكر - رضي الله عنه - في السبق إلى التصديق آخرون؛ منهم: علي بن أبي طالب، وصاحب آل يس، ومؤمن آل فرعون، - رضي الله عنهم -. روى أبو نعيم، وابن عساكر، والديلمي عن أبي ليلى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصِّدِّيقُوْنَ ثَلاثة: حَبِيْبٌ النَّجَّارُ مُؤْمِنُ آلِ يس الَّذِي قَالَ: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20]. وَحِزْقِيْل مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28]. وَعَليُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ" (¬1)؛ أي: أفضل هؤلاء الثلاثة. وأبو بكر - رضي الله عنه - أفضل من سائر الصديقين، فهو أفضل من علي - رضي الله عنه - باتفاق أهل السنة، وبإقرار علي - رضي الله عنه -. روى البخاري عن محمَّد بن الحنفية رحمه الله قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين (¬2). ¬
وروى الإِمام أحمد، وغيره عن علي - رضي الله عنه - قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر (¬1). قال الحافظ الذهبي: هذا متواتر عن علي - رضي الله عنه -؛ فلعن الله الرافضة ما أَجْهَلَهُم (¬2). وأما تفضيل أبي بكر - رضي الله عنه - على صاحب آل يس ومؤمن آل فرعون؛ فإذا ثبت تفضيله على علي فقد ثبت تفضيله عليهما؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في علي: "وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ". وسبق في حديث أنس تفضيل أبي بكر - رضي الله عنه - على سائر أصحاب الأنبياء، وعلى آل يس. وروى البزار، وأبو نعيم في "فضائل "الصحابة" - رضي الله عنهم - عن علي - رضي الله عنه -: أنه قال: يا أيها الناس! أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت، قال: أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس، قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر - رضي الله عنه -؛ [إنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريشا، فقلنا: من يكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر شاهرًا السيف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس، ¬
قال علي] (¬1): لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذته قريش؛ فهذا يجؤه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحداً؟ قال: والله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر - رضي الله عنه - يضرب هذا، وَيجَأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟ ثم رفع علي - رضي الله عنه - ببردة كانت عليه، فبكى حتى اختضلت لحيته، ثم قال: أُنشدكم، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون؛ ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه (¬2). وفي "صحيح البخاري"، وغيره عن عروة قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بفِناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي مُعيط، فأخذ بمنكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديدًا، فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه -، فأخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] (¬3). الثالث من أركان الصديقية: قول الصدق في كل موطن - خصوصاً ¬
في المواطن التي يخاف فيها الضرر -كما سبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حدث بحديث الإسراء سعى ناس من قريش إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقالوا: هل لك في صاحبك، يزعم أنه أُسريَ به الليلة إلى بيت المقدس؟ فقال: أَوَقَدْ قال؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق ... الحديث. وكما في حديث ابن عمرو من قول أبي بكر - رضي الله عنه -: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات. وروى ابن أبي الدنيا، وغيره: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَحَرَّوُا الصِّدْقَ وإنْ كَانَ (¬1) فِيْهِ الهَلَكَةُ؛ فَإنَّ فِيْهِ النَجَاةَ" (¬2). ولذلك قال الجنيد رحمه الله: حقيقة الصدق أن تصدق في موطن لا يُنجيك فيه إلا الكذب (¬3). وقال النهرجوري رحمه الله تعالى: حقيقة الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة (¬4). الرابع: الاستقامة على هذه الأخلاق الثلاثة. وقد استقام عليها أبو بكر - رضي الله عنه - حتى لقي الله تعالى. ¬
وهذا لا يشك فيه مؤمن له إلمام بسيرة أبي بكر - رضي الله عنه -، وأخباره. وروى أبو الحسن بن جهضم عن يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى قال: من ظنَّ أنَّه ينال ما نال القوم بغير مقاساة الجهد، والصدق، والإيثار، واستقامة الصدق من القلوب، فقد ادَّعى على الله ما ليس من صفته، ومن أراد الوصول إلى الله من غير أبواب النبيين، والأولياء، والصالحين فهذا معدوم. ***
¶ قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر: 28 - 34]. ثم قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 38 - 45]. هذا ما قصَّهُ الله تعالى في كتابه العزيز عن مؤمن آل فرعون، وسبق أنَّ اسمه حزقيل، وقيل: حبيب. وقال قتادة في قوله: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}: كان قبطيًا من قوم فرعون، فنجي مع موسى عليه السلام، وبني إسرائيل حين نجوا. رواه عبد الرزاق، وغيره (¬1). ومن حاله أنه نهى قومه عن قتل موسى عليه السلام، وكذلك نهى أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن قتل محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، كما سبق. وهوَّن عليهم ترك قتله كما عظَّم عليهم قتله بقوله: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28] بأنَّ أمره لا يخلو من كذب فلا ضرر فيه عليكم، أو "صدق وقد وعدكم بأمور ¬
لو لم يصبكم إلا بعضها يضركم تكذيبه وهو صادق. ويروى لعلي - رضي الله عنه - نظير هذا كما ذكره حجة الإِسلام في "الإحياء" من قوله - رضي الله عنه -: [من الكامل] زَعَمَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيْبُ كِلاهُما ... لا تُحْشَرُ الأَجْسادُ قُلْتُ إِلَيْكُما إِنْ صَحَّ قَوْلُكُما فَلَسْتُ بِخاسِرٍ ... أَوْ صَحَّ قَوْليْ فَالْخَسارُ عَلَيْكُما (¬1) وقد توافق أبو بكر - رضي الله عنه - وحزقيل في هذا الأسلوب، فروى ابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي، والبيهقي في "الدلائل" عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: ما تنول من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء كان أشد من أن طاف بالبيت ضحى، فلقوه حين فرغ، فأخذوا بمجامع ردائه، وقالوا: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟ فقال: أَنا ذاكَ، فقام أبو بكر - رضي الله عنه - فالتزمه من ورائه، وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28] رافعاً صوته بذلك، وعيناه ¬
تسيحان حتى أرسلوه (¬1). وفي ذلك أنَّ من شأن الصديقين النصيحة، والنصرة للدين والحق، ولأولياء الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ بيد المظلوم، والتلطف في الإنكار على الظالم إذا كان ذا شوكة وغلبة، والتأنق في الاحتيال للتخليص منه، ومناظرته في أثناء ذلك على ألطف الوجوه وأوضحها في بيان الحق والإلزام، وفي ذلك اتصاف الصديق بأبلغ وجوه المعرفة، فافهم! وفي قوله: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر: 29] إشارة إلى أنَّ من شأن الصديقين التذكرة بالنعم، وأنها ينبغي أن تعرف وتشكر، ولا تكفر لتدوم، أو لتحمد عواقبها، والتحذير من الاغترار بالملك، والحول والقوة، والظهور والغلبة حذراً من غب ذلك. ومن مواعظ أبي بكر - رضي الله عنه - المُلائمةِ لذلك: ما رواه الإِمام أحمد في "الزهد"، وابن أبي الدنيا، وأبو نعيم عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى: أنَّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان يقول في خطبته: أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم؟ أين الملوك الذين بنوا المدائن وحسنوها؟ أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب؟ قد تضعضع أركانهم ¬
حين اختانهم الدهر، وأصبحوا في ظلمات القبور، الوَحَاءَ الوَحَاءَ، ثم النَّجاءَ النَّجاءَ (¬1). وهذا -أيضًا- يلائم قول مؤمن آل فرعون: {يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ} [غافر: 30، 31]-أي: حال - {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]. وفيه تحذير من مثل ما كان عليه الأمم الماضون من الظلم، وتخويف من مثل غبه. وفي قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، وقوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر: 34] إشارة إلى أنَّ الإصرار على المعاصي، والكذب، والارتياب في الدين قد يكون سببًا لسد أبواب الهداية عن العبد، بخلاف الطاعة فإنها تفتح باب الهدى لأنها شكر. وقد قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، والنعمة قيدها شكرها، وفي كفرانها تعريض لها للزوال، وذلك إنما أورده مؤمن آل فرعون على سبيل النصيحة لهم والتحذير، وهو من الحكم البالغة، وفيه أنَّ من أحوال الصديقين النطق بالحكمة. وفي قوله: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38] ¬
إيماء إلى أنَّهُ من العلماء العارفين بالله، وبالطريق الموصل إليه، وأنَّه من الهداة المهديين تحديثاً منه بنعمة العلم والهداية ليتبعوه. وفي ذلك أن الصديقين لا يضرهم دعوى العلم ليعرفوا فيسألوا، وقد سبق قول علي - رضي الله عنه - لكُميل بن زياد: هاه! هاه! إن ها هنا علوماً لو وجدت لها حملة -وأشار إلى صدره - (¬1). وفي قوله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44] إشار؛ إلى أدوم أحوال الصديقين وأغلبها، وهو التفويض والتسليم، وهما حال أبي بكر وعلي - رضي الله عنه - حين خرج الأول مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجرين حتى نزلا الغار، ونام الثاني في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أحاط به قريش يَأْتَمِرُون به ليقتلوه، وهذا غاية ما يطيقه العبد من التفويض. وإذا وصل العبد إلى هذه الرتبة فقد وُقِيَ، كما قال الله تعالى في مؤمن آل فرعون: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45]. وكذلك لما سَلَّم أبو بكر وعلي - رضي الله عنهما - سَلِما، ووقاهما الله شر قريش، وحينئذ حصلت الراحة، وذهبت المشقة عن كل واحد منهما. ومن ثم قال أبو عثمان الحيري رحمه الله تعالى: أنت في سجن ما تبعت مرادك، فإذا فوَّضت وسلمت استرحت (¬2). وقال أبو علي الروذاباري رحمه الله تعالى: سلامة النفس في ¬
التسليم، وبلاؤها في التدبير (¬1). والتفويض والتسليم من فوائدها الراحة من تعب التدبير، والأمن من التدمير، والظفر بالفرج أقرب متى يكون. كما قيل: [من البسيط] دعَ الْمَقادِيْرَ تَجْرِيْ فِيْ أَعِنَّتِها ... وَلا تَبِيْتَنَّ إِلاَّ خالِيَ الْبالِ مَا بَيْنَ طَرْفَةِ عَيْنٍ وَانْتِباهَتِها ... يُغَيِّرُ الدَّهرُ مِنْ حالِ إِلَىْ حالِ وفي "الصحيحين" عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أتيْتَ مَضْجَعَكَ فتوَضَّأْ وَضُوْءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجعْ عَلَى شِقكَ الأَيْمَنِ، وَقُلْ: اللهُمَّ أَسْلَمْتُ نفسِيَ إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَألجَأتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةَ وَرَهْبَةَ إِلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بَكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ". قَالَ: "فَإِنْ مِتَّ مِتَّ عَلَى الفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُول" (¬2). واعلم أن الصديقين -وإن بلغوا أعلى رتب التسليم، والتفويض- فإن الخوف [لا فارق] (¬3) قلوبهم؛ لما علمت أن ملازمته من شرط الصديقية. ¬
ولقد [قال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى] (¬1): ما فارق الخوف قلباً إلا خَرِب (¬2). فالخوف حالهم إلى الممات، ومن ثم [يقع لهم أنهم يتمنَّون] (¬3) أن لو كانوا عدمًا. وروى أبو نعيم عن يحيى بن معاذ - رضي الله عنه - قال: البارُّ يبكيه دينه (¬4)، والزاهد تبكيه عزته (¬5)، والصديق يبكيه خوف زوال الإيمان (¬6). ومن تمني الصديقين للموت تخوفًا من الفتنة في الدين: قول مريم عليها السلام: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23] , وقد شهد الله تعالى لها بالصديقية في قوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75]. وقال أبو بكر - رضي الله عنه -: لوددت أني تمرة (¬7) ينقرها الطير (¬8). وأخذ عمر - رضي الله عنه - تبنة من الأرض، فقال: يا ليتني هذه التبنة، ليتني ¬
لم أك شيئًا، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت نسَياً مَنسيًّا (¬1). ومرت عائشة رضي الله عنها بشجرة، فقالت: يا ليتني ورقة من هذه الشجرة (¬2). وقال عمران بن حصين - رضي الله عنهما -: لوددت أني كنت رمادًا (¬3). وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: لوددت أني كبش أهلي، فمر بي ضيف فأَمَرُّوا على أوداجي فأكلوا، وأطعموا (¬4). وقال أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -: لوددت أني كبش فذبحني أهلي، فيأكلون لحمي، ويحتسون مرقي (¬5). روى هذه الآثار ابن المبارك، وابن أبي الدنيا، وغيرهما. قال ابن المبارك رحمه الله: بلغنا عن الحسن رحمه الله أنه قال: ¬
تمنَّوا وتمنَّوا، فلما فاتهم ذلك جَدُّوا (¬1)؛ أي: فلما علموا أن ذلك الذي تمنوه فاتهم وأن التمني لم ينفعهم، بل لا ينفعهم بعد؛ إذ ما خلقوا إلا للاجتهاد في الطاعة، اجتهدوا فيها. كما روى الإِمام أحمد في "الزهد"، وغيره أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - كان يصوم الصيف، ويفطر الشتاء (¬2). وروى عبد الله ابنه في "زوائده" عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: كان أبو بكر - رضي الله عنه - لا يلتفت في صلاته (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه - أنه سمع عمر - رضي الله عنه - وهو في حائط وبينه وبينه جدار، وهو يقول: عمر أمير المؤمنين! بخٍ بخٍ! والله بني الخطاب لتتقين الله، أو ليعذبنك (¬4). وعن يحيى بن جعدة رحمه الله قال: قال عمر - رضي الله عنه -: لولا ثلاث لأحببت أن كون قد لقيت الله عز وجل: لولا أني أضع جبهتي لله عز وجل، أو أجلس في مجالس ينتقى فيها طيب الكلام كما ينتقى فيها طيب الثمر، أو أن أسير ¬
في سبيل الله عز وجل (¬1). وأخرجه والده، وغيره بنحوه. وروى أبوه -أيضًا- عن الحسن رحمه الله تعالى قال: تزوج عثمان ابن أبي العاص امرأة من نساء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال: والله ما نكحتها رغبة في مال ولا ولد، ولكن أحببت أن تخبرني عن ليل عمر، فسألها قال: كيف كان صلاة عمر بالليل؟ قالت: كان يصلي صلاة العشاء، ثم يأمرنا أن نضع عند رأسه تَورًا من ماء، فيتعارّ من الليل، فيضع يده في الماء، فيمسح يده ووجهه، ثم يذكر الله عز وجل حتى يغفي، ثم يتعارُّ حتى يأتيَ الساعةَ التي يقوم فيها (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن الحسن: أنه كان ربما ذكر عمر - رضي الله عنه - فيقول: والله ما كان بأولهم إسلاما, ولا بأفضلهم نفقة في سبيل الله، ولكنه غلب الناس بالزهد في الدنيا، والصرامة في أمر الله، ولا يخاف في الله لومة لائم (¬3). وروى الإِمام أحمد عن زهيمة رحمها [الله]؛ قالت: كان عثمان - رضي الله عنه - يصوم الدهر، ويقوم الليل إلا هَجْعة من أوله (¬4). ¬
وعن أبي عثمان النَّهدي: أنَّ غلام المغيرة بن شعبة تزوج، فأرسل إلى عثمان -وهو أمير المؤمنين -رضي الله عنه-، فلما جاء قال: أما إني صائم، غير أني أحببت أن أجيب الدعوة، وأدعو بالبركة (¬1). وأحوال الخلفاء الراشدين وأهل طبقتهم من الصديقين، وسيرهم إنما هي مشتملة على الجد، والتشمير في طاعة الله تعالى. ولقد قال الله تعالى في وصفهم: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 15 - 19]. ثم إنهم على ما هم عليه من السبق والتبريز في كل مقام من العبادة، وحال من التقوى متهمون لأنفسهم، غير مستكملين لها، بل ماقتون لها في ذات الله تعالى، غير راضين منها، مستمدون في ذلك من قول يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]. وروى ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" عن مولى لأبي بكر - رضي الله عنه - قال: قال أبو بكر الصديق - صلى الله عليه وسلم -: من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته (¬2). ¬
فائدة
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: لا تفقه كل الفقه حتى تمقُت الناس في جنب الله، ثم ترجع إلى نفسك فتكون أشد لها مقتًا (¬1). * فائِدَةٌ: روى حسن المروزي في "زوائد الزهد" لابن المبارك عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: حدثني يا كعب، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قصور في الجنة لا يسكنها إلا نبي، أو صديق، أو شهيد، أو حكم عدل، فقال عمر: أما النبوة فقد مضت لأهلها، وأما الصديقون فقد صدقت الله ورسوله، وأما حكم عدل فإني أرجو ألا أحكم بشيء إلا لم آل فيه عدلاً، وأما الشهادة فأنى لعمر بالشهادة (¬2). قلت: في هذا الكلام إشارة إلى أن تصديق الله ورسوله من أعظم أركان الصديقية، بل معظمها، ألا ترى أن عمر - رضي الله عنه - رجا هذه الرتبة بما علمه من نفسه من تصديق الله ورسوله، ثُمَّ إن عمر - رضي الله عنه - كان سأل الله تعالى الموت في المدينة، والشهادة في سبيل الله كما في "صحيح البخاري" (¬3)، ومَين الله عليه بالشهادة، بل جمع له بين الصديقية والشهادة والحكم بالعدل. ¬
وفي كلام عمر - رضي الله عنه - دليل على أنه لا بأس بالتحدث بنعم الله تعالى، ألا ترى أنه حدث بتصديقه، ورجائه أن يكون من الصديقين؟ ***
فصل
فَصْلٌ قد بينَّا لك أركان الصديقية التي تندرج تحتها جميع أخلاق الصديقين وأعمالهم، وبينا لك الأوصاف المشروطة فيهم حتى يتحققوا بهذا المقام. وقد رويت أخبار وآثار تدل على بعض أحوالهم، فينبغي أن نشير إلى نبذة منها ترغيبا للمشبه بهم في تحصيلها. فمنها: ما تقدم فيما رواه ابن حبان في "صحيحه" عن عمرو بن مرة الجهني - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنكَ رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان، وقمته، فممن أنا؟ قال: "مِنَ الصِّدِّيْقيْنَ وَالشُّهَدَاءِ" (¬1). قلت: ومن تمام الشهادة بالتوحيد اجتناب المعاصي، والقيام بالواجبات مع الإخلاص في ذلك كله. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا ¬
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. وقد روى الإِمام أحمد هذا الحديث بنحوه، وقال فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيْقِيْنَ، وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ هَكَذَا -وَنَصَبَ إِصْبَعَيْهِ- مَا لَمْ يَعُقَّ وَالِدَيْهِ" (¬1). وروى الإِمام أحمد، ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَنْبَغِي لِصِدِّيْقٍ أَنْ يَكُوْنَ لَعَّانًا" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر - رضي الله عنه - يلعن بعض رقيقه، فالتفت إليه، فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ! أَصِدِّيْقِيْنَ وَلَعَّانِيْنَ؟ كَلاَّ وَرَبّ الكَعْبَةِ، ألعَّانِيْنَ وَصِدِّيْقِيْنَ؟ كَلاَّ وَرَبِّ الكَعْبَةِ - مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا -". فأعتق أبو بكر - رضي الله عنه - بعض رقيقه، وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا أعود (¬3). وروى أبو نعيم عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: قال داود عليه السلام: معاشر الأنبياء! تعالوا أعلمْكم خشية الله: أيما عبد منكم أحب أن يحيا ويرى الأعمال الصالحة فليحفظ عينيه أن ينظر إلى السوء، ¬
ولسانه أن ينطق بالإفك، عين الله إلى الصديقين وهو يسمع لهم (¬1). وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد عن مالك بن دينار قال: قال داود عليه السلام: إلهي! من يسكن قبتك ويحل قدسك؟ قال: يا داود! الذي يتكلم بالحق بغير غش في قلبه، ولا زيغ في لسانه، ويعمل الصالحات، ويحب الذين يخشون الله، ويرذل في عينيه المسيء، ولا يعطي رزقه بالرياء، ولا يأخذ في دينه الرِّشا، وإذا حلف لصاحبه لم يكذبه، فإذا فعل ذلك فهو صديق صديق، ولا يضرع إلى الله بغرور. وروى أبو الحسن بن جهضم عن سهل بن عبد الله التُّستَري رحمه الله قال: من أحبَّ أن يرى خوف الله في قلبه، ويكاشف بآيات الصديقين، فلا يأكل إلا حلالًا، ولا يعمل إلا في سنة أو ضرورة (¬2). وروى الدينوري في "المجالسة" عن ابن المبارك رحمه الله قال: قال لي وُهَيب بن الورد رحمه الله تعالى: إذا وقع العبد في ألهانِيَّة الرب، ومهيمنية الصديقين، ورهبانية الأبرار لم يجد أحدًا يأخذ بقلبه، ولا يلحقه عتبه (¬3). قال ابن قتيبة: ألهانية الرب مأخوذ من الإله؛ كأن القلب تأله عند التفكير في عظمته تعالى، يقول: إذا وقع العبد في عظمة الله تعالى ¬
وجلاله، وغير ذلك من صفات الربوبية، وبلغ هذه الرتبة، لم يعجبه أحد، ولم يحب إلا الله. قال: ومهيمنية الصديقين؛ يعني: أمانتهم؛ قال تعالى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]؛ يعني أمينا، ويقال: شاهدًا عليه، وهما متقاربان (¬1). وروى الدينوري -أيضًا- عن الأصمعي رحمه الله تعالى، عن بعض الحكماء قال: إن مما يعجل عقوبته، ولا تؤخر؛ الأمانة تُخان، والإحسان يُكفر، والرحم تقطع، والبغي على الناس، وأيما رجل أدَّى أمانة طيباً بها نفسه فهو أحد الصديقين، ومن الأمانة: أن المرأة ائتمنت على فرجها (¬2)؛ يعني: إنها إذا وكلت إلى نفسها فعفت، وصانت نفسها عن الفاحشة فهي صديقة، وكأنه مأخوذ من حال مريم عليها السلام؛ فإن الله تعالى أثنى عليها بالإحسان، ثم سماها صديقة. ولقد توافقت عائشة رضي الله عنها في هذه الفضيلة، وبرَّأَها الله تعالى في كتابه كما برَّأَ مريم عليها السلام. ومن هنا كان مسروق رحمه الله تعالى إذا حدث عن عائشة رضي الله عنها قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرَّأَة في كتاب الله. كما رواه أبو نعيم (¬3)، وغيره. ¬
وفي "الصحيحين"، وغيرهما عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيْدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ" (¬1). وإنَّما مَثَّلها بالثريد إشارة إلى أنها أغنت في نفع الأمة بالعلم ما لم يغنه غيرها من النساء، كما أن الثريد يغني ما لا يُغني غيره. قال عطاء رحمه الله تعالى: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامة. رواه الحاكم (¬2). وقد علمتَ أن الصديقين هم العلماء الراسخون، وعائشة كانت من الراسخين في العلم. قال عروة رحمه الله: ما رأيت أحدًا أعلم بالحلال والحرام، والعلم، والشعر، والطب من عائشة (¬3). وسئل مسروق رحمه الله: كانت عائشة تحسن الفرائض؟ فقال: لقد رأيت الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونها عن الفرائض (¬4). رواهما الحاكم، وغيره. وروى أبو نعيم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِنَّ أَخْيَارَ ¬
الصِّدِيْقِيْنَ مَنْ دَعَا إِلَى اللهِ، وَحَبَّبَ عِبَادهُ إِلَيْهِ، وَمِنْ شَرِّ الفُجَّارِ مَنْ كَثُرَتْ أَيْمَانه وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، وإنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَدْخِلِ الجَنَّةَ" (¬1). وعن سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: من أخلاق الصديقين أن لا يحلفوا بالله، لا صادقين ولا كاذبين، ولا يغتابون، ولا يُغتاب عندهم، ولا يشبعون بطونهم، وإذا وعدوا لم يخلفوا, ولا يتكلمون إلا والاستثناء في كلامهم، ولا يمزحون أصلًا (¬2). قلت: لم أرَ الخصلة الأولى -وهي ترك الحلف - إلا للإمام الشافعي - رضي الله عنه -؛ فإنه قال: ما حلفت بالله صادق ولا كاذباً (¬3)، وهذا يدل على أنه كان من رؤوس الصديقين، وهذا مما لا شك فيه. أقول: قول سهل: أن لا يحلفوا بالله لا صادقين ولا كاذبين، يريد أن هذا أغلب أحوالهم؛ فإن اليمين كان قد ورد في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا، وكان يحلف: "وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَده"، وسبق قريبًا قوله: "كلاَّ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ"، وحلف أبو بكر - رضي الله عنه - أن لا ينفق على مسطح، ثم كفَّرَ عن يمينه، وأعاد عليه نفقته (¬4). ¬
وكذلك قوله: ولا يمزحون أصلًا؛ أي: في أغلب أحوالهم، أو مزحا موافقا لهوى النفس، فأما الممازحة لمطايبة القلوب، وإدخال السرور على قلوب الإخوان فيفعلون. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "إِنيِّ لأَمْزَحُ، وَلا أقوْلُ إِلا حَقًّا"، رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن عمر، والخطيب عن أنس - رضي الله عنهم - (¬1). وفي الخبر: أول ما كتب الله تعالى لموسى عليه السلام: إني أنا الله لا إله إلا أنا، من رضي بحكمي، واستسلم لقضائي، وصبر على بلائي كُتب صديقا، وحشرته مع الصديقين يوم القيامة. ذكره أبو طالب المكي في "القوت" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيَّمَا نَاشِئٍ نشأَ فِيْ العِلْمِ وَالعِبَادةِ حَتَّى يَكْبُرَ أَعْطَاهُ اللهُ تَعَالى يَوْمَ القِيَامَةِ ثَوَابَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِيْنَ صِدِّيْقًا" (¬3). قلت: لو اقتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عدد السبعين لقلنا: إن ذلك جارٍ على سنن التضعيف إلى سبعين ضعفا، أو قلنا: إنه جار على عادة العرب ¬
من ذكر السبعة، والسبعين، والسبع مئة للمبالغة والتكثير، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لما زاد اثنين على عقد السبعين علمنا أن لهذا التقييد بهذا العدد سراً. وقد ظهر لي في ذلك وجهان: الأول: أنَّ للناشئ في العلم والعبادة أجر صديق في مقابلة العلم، وأجر صديق في مقابلة العبادة، والسبعون مضاعفة في أجره زائدة على أجر كل عالم وعابد لأنه صابر، ورابَطَ في سائر عمره، وجَاهَدَ نفسه وهواه في كلٍّ. وقد نطقت نصوص الشريعة بتفضيل طاعة الشاب، فما ظنك ممن دام على ذلك منذ نشأ إلى أن مات؟ وقد روى الحافظ أبو حفص بن شاهين في "الأفراد"، والديلمي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَضْلُ الشَّابِّ العَابِدِ الَّذِي تَعَبَّدَ فِيْ شَبَابِهِ عَلَى الشَّيْخِ الَّذِي تَعَبَّدَ بَعْدَ مَا كَبُرَتْ سِنُّهُ كَفَضْلِ الْمُرْسَلِيْنَ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ" (¬1). الوجه الثاني: أن الناشئ في العلم والعبادة لا يتم له أمر حتى يخالف سائر الفرق المخالفة لما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام - رضي الله عنهم - في اعتقاداتهم، وأعمالهم المبنية عليها، وهي اثنان وسبعون فرقة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن أمته ستفترق ثلاثًا وسبعين فرقة؛ واحدة منها في الجنة، والباقون في النار، وسيأتي لفظ الحديث في محله إن شاء الله تعالى. ¬
فالفرقة الناجية مخالفة للاثنين وسبعين فرقة الهالكة، ولها في مقابلة مخالفة كل فرقة منها أجر، وهم متفاوتون في أجورهم؛ فالناشئ في العلم والعبادة ناشئ على مخالفة هذه الفرق، فله في مقابلة مخالفته لكل فرقة أجر صديق. وإنما ضوعف أجره لثباته ورسوخه على الحق منذ نشأته إلى آخر أمره بخلاف غيره ممن لم ينشأ على ذلك، فتأمله! وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ جَاءَهُ أَجَلُهُ وَهُوَ يَطْلُبُ العِلْمَ لَقِيَ الله وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّيْنَ إِلاَّ درَجَةُ النُّبُوَّةِ" (¬1). وأخرجه الخطيب، ولفظه: "مَنْ جَاءَهُ أَجَلُهُ وَهُوَ يَطْلُبُ العِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الإِسْلامَ لَمْ يَفْضُلْهُ النَّبِيُّونَ إِلاَّ بِدرَجَةٍ" (¬2). وأخرجه ابن عساكر من حديث الحسن رحمه الله مرسلاً، وابن النجار عنه، عن أنس، ولفظه: "لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَنْبِيَاءِ إِلاَّ دَرَجَة فِيْ الْجَنَّةِ" (¬3). وهذه مرتبة الصديقين؛ لأنها بين النبوة والشهادة. ¬
وذكر أبو طالب في "القوت": أن رجلًا من بني إسرائيل تزوج امرأة من بلدة، ولم يجد بها من يحملها إليه، فأمر عبدًا له فحملها، فراودته نفسه، فجاهدها واستعصم، قال: فنبأه الله مكان (¬1) نبي في بني إسرائيل (¬2). قلت: إنما نقله الله تعالى إلى مقام النبوة بعد أن تم له مقام الصديقية؛ إذ لا يلي النبوة إلا رتبة الصديقية، ومن ثم سمي يوسف عليه السلام صديقا على لسان قومه إذ قال قائلهم: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} [يوسف: 46]. وإنما شهد له الناس بالصديقية لأنه استعصم عن معصية الله تعالى، وقد توفرت دواعيها بمراودة امرأة العزيز له، وعرضها نفسها عليه، فاستعصم، ثم أكرهته على المعصية بالسجن والعقوبة حيث تقول: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} [يوسف: 32، 33] الآية، فاختار العقوبة على المعصية، فمن ثم اتخذه الله نبيًا. وقد علمت أن هذه الخصلة -أعني: الاستعصام عن الزنا مع توفر دواعيه - أحد الخصال التي يكون أصحابها في ظل عرش الله تعالى، وأكثرها من أخلاق الصديقين خصوصا السبعة المذكورة في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ومنهم الإِمام العادل (¬3). ¬
وروى أبو الشيخ بن حيان، والديلمي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السُّلْطَانُ العَادِلُ المُتَوَاضعُ ظِلُّ اللهِ وَرُمْحُهُ في الأَرْضِ؛ يُرْفَعُ لِلوَالِي العَادِلِ المُتَوَاضعِ في كُل يَوْمٍ عَمَلَ سِتِّيْنَ صِدِّيْقًا" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن الحسن -مرسلاً- قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم على أصحابه، فقال: "هَلْ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيْدُ أَنْ يُذْهِبَ اللهُ عَنْهُ العَمَى وَيَجْعَلَهُ بَصِيْراً؟ " قالوا: بلى، قال: "أَلا إنَّهُ مَنْ رَغِبَ في الدُّنْيَا، وَأَطَالَ فِيْهَا أَمَلَهُ أَعْمَى اللهُ قَلْبَهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ زَهِدَ في الدُّنْيَا، وَقَصَّرَ أَمَلَهُ أَعْطَاهُ اللهُ غِنًى بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ، وَهُدًى بِغَيْرِ هِدَايَةٍ، أَلا إنهُ سَيَكُوْنُ بَعْدَكُمْ قَوْمٌ لا يَسْتَقِيْمُ لَهُمُ الْمُلْكُ إِلا بِالقَتْلِ وَالتَّجَبُّرِ، وَلا الغِنَى إِلا بِالفَجرِ وَالبُخْلِ، وَلا الْمَحَبة إِلا بِاسْتِجْرَامٍ فِيْ الدُّنْيَا وَاتِّبَاعِ الهَوَى، أَلا مَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ مِنْكُمْ فَصَبَرَ عَلى الفَقْرِ وَهُوَ يَقدرُ عَلَى الغِنَى، وَصَبَرَ عَلَى البَغْضَاءِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَحَبَّةِ، وَصَبَرَ عَلَى الذُّلِّ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى العِزِّ -لا يُرِيْدُ بِذَلِكَ إِلا وَجْهَ اللهِ تَعَالَى أَعْطَاهُ اللهُ ثَوَابَ خَمْسِيْنَ صِدِّيْقًا" (¬2). وروى أبو عمرو الداني في كتاب "الفتن" عن جعفر الصادق، عن ¬
أبيه - رضي الله عنهما - مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا إِنه سَيَكُوْنُ أَقْوَامٌ لا يَسْتَقِيْمُ لَهُمُ الْمُلْكُ إِلا بِالقَتْلِ وَالتَّجَبُّرِ، وَلا يَسْتَقِيْمُ لَهُم الغِنَى إِلا بِالبُخْلِ وَالفُجُوْرِ، وَلا تَسْتَقِيْمُ لَهُمُ الْمَحَبَّةُ في النَّاسِ إِلا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى والاسْتِخْرَاجِ في الدّيْنِ، أَلا فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُم ذَلِكَ الزَّمَانَ فَصَبَرَ عَلَى الشِّدةِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الرَّخَاءِ، وَصَبرَ عَلَى الذُّلِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى العِزِّ، وَصَبَرَ عَلَى الفَقْرِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الغِنَى، وَصَبَرَ عَلَى البُغْضَةِ في النَّاسِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَحَبَّةِ -لا يُرِيْدُ بِذَلِكَ إلا وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ - آتَاهُ اللهُ عز وجل ثَوَابَ سَبْعِيْنَ صِدّيْقًا" (¬1). وروى أبو بكر بن مردويه عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ فَرَّ بِدِيْنهِ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ مَخَافَةَ الفتْنَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَدِيْنهِ كُتِبَ عِنْدَ اللهِ صِدّيْقًا، فَإِذَا مَاتَ قَبَضَهُ اللهُ شَهِيْدًا"، ثُمَّ تَلا هَذه الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19]، ثُمَّ قَالَ: "هَذه فِيْهِمْ"، ثُمَّ قَالَ: "وَالفَرَّارُوْنَ (¬2) بِدِيْنهِمْ مِنْ أَرْضٍ إِلى أَرْضٍ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ عِيْسَى بنِ مَرْيَمَ عَليِهِمَا السَّلامُ في دَرَجَتِهِ في الْجَنَّةِ" (¬3). قلت: في هذا الحديث تلويح بأن الآية نزلت في المهاجرين لأنهم فروا بالهجرة بدينهم، فمن كان على قدم المهاجرين فهو صديق. ¬
وكذلك الأنصار لأن النصرة لا تكاد تقصر عن الهجرة، وسيأتي باب في التشبه بالصحابة - رضي الله عنهم -. وروى الديلمي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَمعَ صَوْتَ ناَقُوْسٍ أَوْ دَخَلَ بَيْعَةً، أو بَيْتَ نارٍ، أَوْ بَيْتَ صَنَمٍ، أَوْ رَأَى جَمْعًا مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ، فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ، كُتِبَ لَهُ بِعَدَدَ مَنْ لَمْ يَقُلْهَا، وَ (¬1) كُتِبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا" (¬2). قلت: المعنى في ذلك أنه ذكر الله تعالى بتوحيده في الغافلين عنه، فنال هذا الثواب العظيم، فلا يبعد أن يكون كذلك من مر بمجالس الفسَّاق كبيوت القهوات - خصوصا في وقت سماع الآلات، وإجالة الأبصار في وجوه الأحداث، والغفلة بهذه الملاهي عن التوحيد الإلهي - فإن كان منهم منافقون يعدون ذلك توحيداً، ملحدون يزعمون ذلك طاعة، فقد عظم ثواب المنكر لذلك، إلا أنه بتوحيد الله، وتنزيهه، وتكبيره، وتحميده من غير أن يكثِر سوادهم، ولا يزيد عدادهم. وروى إسحاق الختلي في "الديباج" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ (¬3) رَفَعَ قِرْطَاسَا مِنْ الأَرْضِ فِيْهِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ ¬
الرَّحِيْمِ كُتِبَ عِنْدَ اللهِ مِنَ الصِّدِيْقِيْنَ، وَخَفَّفَ عَنْ وَالِدَيْهِ العَذَابَ وإنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ". رواه الخطيب بنحوه، وقال: "إجلالًا أن يدرس (¬1) " (¬2). قلت: لقد فاز بهذه الفضيلة بشر بن الحارث الحافي، وكان - رضي الله عنه - من سادات الأبرار، وأخيار الصديقين، كما ذكر الأستاذ أبو القاسم القشيري. ورواه بإسناده أبو الفرج بن الجوزي في "صفة الصفوة" عن أيوب العطار قال: قال لي بشر بن الحارث: أحدثك عن بدء أمري: بينما أنا أمشي رأيت قرطاسًا عَلى وجه الأرض فيه اسم الله تعالى، فنزلت إلى النهر، فغسلته، وكنت لا أملك من الدنيا إلا درهمًا فيه خمسة دوانيق، فاشتريت بأربعة دوانيق مسكاً، وبدانق ماء ورد، وجعلت أتتبع اسم الله تعالى وأطيبه، ثم رجعت إلى منزلي فنمت، وأتاني آت في منامي فقال: يا بشر! لأطيبن اسمك كما طيبت اسمي، وكما طهرته لأطهرنَّ قلبك (¬3). وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري عن بشر بن الحارث الحافي رحمه الله قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال لي: يا بشر! تدري لمَ رفعك الله من بين أقرانك؟ قلت: لا يا رسول الله، قال: باتباعك سنتي، وحرمتك للصالحين، ونصيحتك لإخوانك، ومحبتك لأصحابك وأهل ¬
بيتي هو الذي بلغك منازل الأبرار (¬1). قلت: بهذا بلغ منازل الأبرار، وبتعظيم الله تعالى وإجلال اسمه واحترامه بلغ منازل الصديقين. وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري -أيضًا- عن بلال الخواص رحمه الله تعالى قال: كنت في تيه بني إسرائيل فإذا رجل يماشيني، فتعجبت، ثم أُلهمت أنه الخضر عليه السلام فقلت له: بحق الحق من أنت؟ فقال: أخوك الخضر، فقلت له: أريد أن أسألك، فقال: سل، فقلت: ما تقول في الشافعي رحمه الله؟ قال: هو من الأوتاد، فقلت: ما تقول في أحمد بن حنبل رحمه الله؟ فقال: رجل صديق، قلت: فما تقول في بشر الحافي؟ فقال: لم يخلف بعده مثله، فقلت: بأي وسيلة رأيتك؟ قال: ببرك بأمك (¬2). قلت: الأوتاد قوم صالحون جعلهم الله تعالى بدلًا عن الأنبياء - كما سيأتي - فهم من خيار الصديقين. وإنما صرح بالصديقية في أحمد دون الشافعي وبشر؛ وإن أحمد - رضي الله عنه - ثبت في فتنة القول بخلق القرآن، وقام فيها مقاماً لم يقمه غيره حتى نظره غير واحد من سادات عصره بأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في قيامه في قتال أهل الردة مقاماً لم يقمه غيره. ¬
وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله قال: دخل بنو إسرائيل مسجداً لهم يوم عيد، فقام فتى شاب على باب المسجد من خارج فجعل يبكي، ويرفع صوته بالدعاء، ويزري على نفسه، ويقول: ليس مثلي يدخل معكم، أنا صاحب كذا، أنا صاحب كذا، فأصبح مكتوباً على لسان نبي من أنبيائهم: إن فلانا من الصديقين - لذلك الفتى (¬1). وروى إسحاق الختلي في "الديباج" عن كعب الأحبار رحمه الله تعالى قال: انطلق رجلان من بني إسرائيل إلى مسجد من مساجدهم، فدخل أحدهما المسجد، وجلس الآخر خارجًا، فجعل يقول: ليس مثلي يدخل بيت الله وقد عصيت الله، ليس مثلي يدخل بيت الله وقد عصيت الله، فكُتب صديقًا (¬2). قال: وأصاب رجل من بني إسرائيل ذنبا فحزن عليه، وجعل يجيء ويذهب، ويقول: بم أرضي ربي؟ بم أرضي ربي؟ فكُتِب صديقاً (¬3). وروى أبو نعيم عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: أجد في بعض الكتب: سبحوا الله أيها الصديقون بأصوات حزينة (¬4). وعنه -أيضًا- أنه قال: لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك ¬
زوجته كأنَّها أرملة، ويأوي إلى مزابل الكلاب (¬1). قلت: أراد بذلك تجرد القلب عن العلائق وذلة النفس؛ فإن ذلك روحُ ما ذكره. وكذلك ما رواه الختلي عن رشدين بن سعد رحمه الله تعالى قال: قرأت في بعض الكتب: لا ينبغي لصديق أن يكون صاحب حانوت (¬2). وهذا لا ينافيه ما رواه الترمذي وحسَّنه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "التَّاجِرُ الصَّدُوْقُ الأَمِيْنُ مَعَ النَّبِيينَ [والصديقين] (¬3) والشُّهَدَاءِ" (¬4)؛ لأنَّ المراد بقوله: "صاحب حانوت" أن لا يكون قلبه متعلقا به راكنا إليه؛ بدليل قوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كانوا أتجر الناس وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله تعالى. رواه الحاكم وصححه، والبيهقي (¬5). ¬
وقد يقال: لا يلزم من كونهم مع النبيين والصديقين أن يكونوا منهم. وفي "تاريخ ابن عساكر" بإسناده عن أبي عبيد الله محمَّد بن المبارك الصوري البصري رحمه الله قال: ثنا الفضل بن سعيد الأزرق، قال: أتيت راهباً في جبل الأسود فناديته، فأشرف عليَّ، فقلت له: يا واهب! بأي شيء تستخرج الأحزان؟ قال: بطول الانفراد، وبذكر الذنوب، وأخبرك أني ما رأيت شيئًا أجلب له داعي الحزن من أوكارها من الوحدة. قال؛ فقلت له: وما ترى في المكتسب؟ قال: ذاك زاد المتقين، قلت: إنما أعني الطلب، قال: وأنا -أيضًا- أعني الطلب، قلت: الرجل يلزم سوقًا من الأسواق يكتسب الشيء يعود به على نفسه؟ قال: من أمر الدنيا، أم من أمر الآخرة؟ قلت: من أمر الدنيا، قال: ذاك شر قد كفيه الصديقون، وهل ينبغي للمتقي أن يتشاغل عن الله بشيء؟ قال محمَّد بن المبارك: قال لي الفضل بن سعيد: فلقيت رشدين ابن سعد، فحدثته حديث الراهب، قال: صدق، قرأت في كتب الحكمة: لا ينبغي لصديق أن يكون صاحب حانوت (¬1). قلت: وإن حمل هذا على ظاهره، فإن من شرط الصديق التجرد عن الأسباب الظاهرة، فهذا كان في شريعة أولئك وملتهم، وأما في شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وملته فإنَّ الأسباب لا تناقض رتبة من رتب المؤمنين أصلًا. نعم، يلزم أن لا يكون القلب متعلقًا في طلب الرزق وحصوله إلا ¬
بالله تعالى، وقد كان السَّرِيُّ سَقَطياً، والجُنيد قواريرياً، وأبو حفص النيسابوري حداداً، وآخرون من سادات العارفين كانوا متَّجرِين ومحترفين، وقد كانوا صديقين، وعبد الرحمن بن عوف وأمثاله من الصحابة كانوا مكتسبين وهم من كُمَّلِ الصديقين، فافهم! وروى الختلي عن مالك بن دينار - رضي الله عنه - قال: قرأت في التوراة: أيها الصديقون! تنعموا في الدنيا بذكري؛ فإنه لكم في الدنيا نعيم، وفي الآخرة أجر (¬1). وروى الإِمام أحمد، والحاكم وصححه، عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَرَأَ ألفَ آيَةٍ في سَبِيْلِ اللهِ كُتِبَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ النَبِيّينَ وَالصِّدّيْقِيْنَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِيْنَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيْقًا إِنْ شَاءَ الله" (¬2). وقوله: "إن شاء الله" للتبرك، لا للشك. وروى ابن أبي الدنيا، والختلي عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى: أنَّه كان يقول: إن الصديقين إذا قرئ عليهم القرآن طربت قلوبهم إلى الآخرة، ثم يقول: خذوا، فيقرأ، ثم يقول: اسمعوا ما يقول الصادق من فوق عرشه (¬3). ¬
وروى أبو الحسن بن جهضم عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: من أقام نفسه مواقف ذل في طلب الحلال، حشره الله تعالى مع الصديقين، ورفعه إلى الشهداء يوم القيامة (¬1). وعن السَّرِي رحمه الله تعالى قال: ثلاثة من أحوال الصديقين: - أن يكونوا بما في يد الله أوثق منهم بما في أيديهم. - ومطالبون نفوسهم بما للناس عليهم. - وإذا عُرِض أمران لله فيهما رضي، حملوا نفوسهم على أصعبهما وأشدهما، وإن كان فيه تلف نفوسهم. قال أبو طالب المكي رحمه الله: وكان عبد الواحد بن زيد رحمه الله تعالى يحلف بالله عز وجل: ما تحول الصديقون صديقين إلا بالجوع [والسهر] (¬2) (¬3). وروى ابن جَهْضَم عن السري رحمه الله -أيضًا- قال: استوصيت لبِشْرٍ بوصية، فقال: أخاف أوصيك بوصية يكون وَبَالها عليك، ثم عليَّ، فقلت: عليَّ ذاك، فقال: انظر بأي بدن توافي القيامة، وانظر من يحاسبك وبين يدي من تقف، واعلم أنَّك مسؤول لا محالة، فاستعد للسؤال جواباً, وللجواب صواباً، والزم بيتك، وحاسب نفسك، فإذا قدمت ¬
القيامة تقول: يا رب! مازلت ملازما لبيتي، محاسبا لنفسي، فيقول الله تعالى: صدقت. ثم قال: هيهات! وأنى يقول صدقت إلا للصديقين (¬1). روى أبو نعيم عن سهل بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: أعمال البر يعملها البَر والفاجر، ولا يجتنب المعاصي إلا الصديق (¬2). وعن الأعمش قال: قال لي مطرف بن عبد الله: وجدت الغفلة التي ألقاها الله تعالى في قلوب الصديقين من خلقه رحمة رحمهم بها, ولو ألقى في قلوبهم الخوف على قدر معرفتهم به ما هَنأ لهم (¬3) عيش (¬4). وليس في هذا نفي الخوف عنهم، وقد سبق أنَّ من شرطهم ملازمة الحياء والخوف، بل من تمام أخلاقهم أن خوفهم يزيد كما رقوا في مقامهم، ولا يُعتبروا بما هم عليه من الاستقامة، وإن قامت لهم الشواهد بالصدق والنجاح. نعم، لهم ثبات وشجاعة على الخوف لقوة معرفتهم، ومن ثم كان يغلب الخوف على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقية العشرة ¬
المشهود لهم بالجنة، كما يعرف ذلك من سِيَرهم، وهؤلاء رؤوس الصديقين. وروى الطبراني، وأبو نعيم عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْحَى اللهُ إِلى نبَي مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلْيِهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: قُلْ لِعِبَادِي الصِّدِّيقِيْنَ: لا تَغْتَرُّوْا بِي؛ فَإِذَا أُقِيْمَ عَلَيْهِمْ قِسْطِيَ أَوْ عَدْلِي أُعَذِّبُهُمْ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَقُلْ لِعِبَادِيَ المُذْنِبِيْنَ: لا تَيْأَسُوْا مِنْ رَحْمَتِي؟ فَإِنَّهُ لا يَكْبُرُ عَلَيَّ ذَنْبٌ أَغْفِرُ لَهُمْ" (¬1). وروى ابن جهضم عن بشر بن الحارث الحافي رحمه الله تعالى قال: رجال الآخرة ثلاثة: عابد، وزاهد، وصديق؛ فالعابد يعبد الله مع العلائق، والزاهد يعبده على حذف العلائق، والصديق يعبده على الرضا والموافقة (¬2). وروى أبو نعيم في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال: ما صدق الله عبدٌ أحب الشهرة (¬3). وفي معناه قول بعض السادة: آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة (¬4). ¬
واعلم أنَّ أخلاق الصديقين وأعمالهم لا تختص بما ذُكِر، بل يندرج فيها جميع أخلاق الصالحين والشهداء؛ لأن الصديقين خواص هؤلاء، فالصديق من جاء بأعمال الأبرار، وجمع مكارم أخلاقهم، ثم زاد عليهم بأخلاق أخرى. وقد روى ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق"، وابن عساكر عن سليمان بن يسار رحمه الله تعالى مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِصَالُ الْخَيْرِ ثلاثة (¬1) وَستُّوْنَ خصْلَةً، إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدهِ خَيْرًا جَعَلَ فِيْهِ خَصْلَةً مِنْهَا بِهَا يدخلُ الْجَنَّةَ"، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله! أَفِيَّ شيء منها؟ قال: "نَعَمْ، جَمِيْعُهَا" (¬2). وفي رواية أخرى: فقال أبو بكر: يا رسول الله! فِيَّ منها شيء؟ قال: "كُلُّهَا فِيْكَ، فَهَنِيْئًا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ" (¬3). واعلم أنَّ من تمام أخلاق الصديقين وكمال أحوالهم أنهم لا يرضون بالإقامة على حالتهم التي هم عليها حتى يرتقوا عنها في كل نَفَس من أنفاسهم، وهذا مستمد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أتَى عَلَيَّ يَوْمٌ لا أَزْدادُ فِيْهِ عِلْمًا يُقَرِّبُنِي إِلى اللهِ فَلا بُوْرِكَ لِي في طُلُوْعِ شَمْسِ ذَلِكَ اليَوْمِ". ¬
وفي رواية: "كُلُّ يَوْمٍ لا أَزْدَادُ فِيْهِ عِلْمًا يُقَرِّبُنِي إِلى اللهِ". رواه الطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الحذر"، وأبو نعيم، والخطيب عن حجاج بن محمَّد قال: كتب إلى أبو خالد الأحمر رحمه الله فكان في كتابه: واعلم أن الصديقين كانوا يستحبون من الله أن لا يكونوا اليوم على منزلة أمس (¬2). قلت: والعارفون حملوا اليوم في الحديث على الوقت الذي أنت فيه، فالأمس هو الوقت الذي قبل وقتك، بل هم في كل نَفَس يحبون أن يكونوا أحسن منهم في النفس الذي قبله. وكان أخي العلامة العارف بالله تعالى شهاب الدين أحمد رحمه الله تعالى يقول: لا أرضى أن ألقى الله إلا على أحسن مما أنا عليه، وكان من أخيار الناس، ورؤوس العارفين، وكُمَّل العلماء العاملين. وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أنه قال لابنه: عليك بإسباغ الوضوء، وإذا صليت صلاة فصلِّ صلاة رجل مودع، وعليك بالإياس؛ فإنه غنى، وإياك والطمع؛ فإنه فقر حاضر، ¬
فائدة لطيفة
وإياك وما يعتذر منه؛ فإنه لا يعتذر من خير، وإذا استطعت أن تكون اليوم خيراً منك أمس، وغداً خيراً منك اليوم، فافعل (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "الحذر" عن محمَّد بن حميد قال: التقى حسان بن أبي سنان والحجاج بن سابور رحمهم الله تعالى، فقال أحدهما لصاحبه: من الذي يغبط؟ قال: عبد آتاه الله ما يكفيه يعمل له فيما يرضيه، قال: وما حمد ذلك؟ قال: فمن الذي يغبط؟ قال: اغبط رجلًا هو اليوم خير منه أمس، وغداً خير منه اليوم. * فائِدَةٌ لَطِيْفَةٌ: روى ابن أبي حاتم عن يزيد بن رُومان رحمه الله تعالى: أنَّهُ قال في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل: 40]: هو آصف بن برخيا، وكان صديقًا يعلم الاسم الأعظم (¬2). وروى هو، وابن جرير عن قتادة قال: هو كان رجلًا من بني إسرائيل يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب (¬3). ورويا، وابن أبي شيبة، وآخرون عن مجاهد قال في قوله: {عِلْمٌ ¬
مِنَ الْكِتَابِ}: الاسم الذي إذا دُعيَ الله به أجاب، وهو: يا ذا الجلال والإكرام (¬1). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الزهريّ قال: دعا الذي عنده علم من الكتاب: يا إلهنا إله كل شيء، إلها واحدًا لا إله إلا أنت! ائتني بعرشها، قال: فمَثُل له بين يديه (¬2). والمراد بإيراد ذلك هنا: أن من ثمرة الصديقية الاختصاص بالأسرار الإلهية، والمعارف الربانية، والتصرف بالأسماء العظيمة، واستجابة الدعوة؛ لأنهم لا يتصرفون بها إلا في خير، خصوصا في النصيحة، ونفع المسلمين. ولا يلزم من ذلك أن لا يستجاب إلا لصديق، فقد يستجاب لغيره من باب الرفق بالضعيف، أو الإملاء للفاجر، بل قد يُعطى الفاسق التصرف بالاسم الأعظم لفتنته وتمام شقوته، كما أعطيه بلعام الذي قص الله تعالى علينا من أمره ما قَصَّ بقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175]. قال كعب رحمه الله تعالى: كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي ¬
وأمر بلعام يحتمل وجهين
به أجاب. رواه ابن أبي حاتم (¬1). قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف: 176]؛ يعني: بالآيات {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176]؛ أي: رَكَن إلى الدنيا ونزَع إليها {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176]. قال مجاهد: هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما (¬2). وأمرُ بلعام يحتمل وجهين: - إما أن يكون قد أوتي العلم، ولم يؤت الدين في نفسه، وإنما كان بنو إسرائيل يعتقدونه لما يظهر لهم من علمه واجتهاده، وكانت استجابة دعوته فتنة له ولهم، وهذا حال من يتعلم علوم الأسماء والأوفاق، ويتقرب بها الآن إلى الأمراء، وذوي الأموال والولايات. - وإما أن يكون قد وصل من العلم والاجتهاد إلى مرتبة الصديقية، لكنه لم يلزم مقام الخوف، فسقط من عين الله تعالى، فمحاه من ديوان الصدق، وأثبته في ديوان الفسق، ومن ثمَّ قلنا: إن من شرط الصديقين ملازمة الخوف لأن الله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت، وقد سلَّط الشيطان على الإنسان وجعله بالمقربين أولع منه ممن دونهم، وكلما كان العبد ¬
إلى الله أقرب كان على إضلاله أحرص. ومن هنا اتفق للإمام أحمد - رضي الله عنه - وهو صديق: ما رواه أبو الفرج في "صفة الصفوة"، وغيره عن ابنه عبد الله قال: لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده وبيدي الخرقة لأشد بها لَحييه، فجعل يعرق ثم يفيق، ثم يفتح عينيه، ويقول بيده هكذا: لا بعد، لا بعد، يفعل هذا مرة، وثانية، فلما كانت الثالثة قلت له: يا أبه! أي شيء هذا قد لهجت به في هذا الوقت، تعرق حتى نقول: قد قضيت، ثم تعود فتقول: لا بعد، لا بعد؟ فقال لي: يا بني! ما تدري؟ قلت: لا، فقال: إبليس -لعنه الله- قائم حذائي، عاض على أنامله، يقول لي: يا أحمد! فُتَّنِيْ فأقول: لا بعد حتى أموت (¬1). واعلم أنَّ خوف الصديقين من الشيطان ليس منه حقيقة، وإنما خوفهم من أن يسلطه الله عليهم، فالخوف إنما هو من الله عز وجل؛ فإنه يقلب القلوب كيف يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت، فالصديق -وإن كان واثقاً بالله، موقناً به- فإنه يخافه. ولقد أحسن الإِمام عبد الله بن المبارك - رضي الله عنه - فيما رواه أبو نعيم عن أبي أمية الأسود قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: أحب الصالحين ولست منهم، وأبغض الطالحين وأنا شر منهم. ثم أنشأ عبد الله يقول: [من مجزوء الكامل المرفل] ¬
الصَّمتُ أَزْيَنُ بِالْفَتَىْ ... مِنْ مَنْطِقٍ فِيْ غَيْرِ حِيْنهْ فَمَنِ الذِيْ يَخْفَىْ عَلَيـ ... ـك إِذا نَظَرْتَ إِلَىْ قَرِيْنهْ رُبَّ امْرِئٍ مُتَيَقِّنٍ ... غَلَبَ الشَّقاءُ عَلَىْ يَقِيْنهْ فَأَزالَهُ عَنْ رَأْيِهِ ... فَابْتاعَ دنياهُ بِدِيْنهْ (¬1) وهذا الذي أشار إليه عبد الله بن المبارك هو الذي أخاف الصديقين -وأبو بكر - رضي الله عنه - رأسهم- حتى تمنوا أن لو كانوا جمادًا، كما سبق. وقال ابن شوذب رحمه الله في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]: نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. رواه ابن أبي حاتم (¬2). وروى هو، وابن أبي الدنيا في كتاب "المتمنين"، وأبو الشيخ في "العظمة" عن عطاء رحمه الله تعالى: أنَّ أبا بكر الصديق ذكر ذات يوم، وفكر في القيامة والموازين، والجنة والنار، وصفوف الملائكة، وطي السماوات، ونسف الجبال، وتكوير الشمس، وانتثار الكواكب، فقال: وددت أني كنت خضرًا من هذه الخضر تأتي علي بهيمة فتأكلني، وأني لم أخلق، فنزلت هذه الآية: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] (¬3). *** ¬
فصل
فَصْلُ ويقال للصديقين: سابقون لاستباقهم إلى الخير. وقد أرشد الله تعالى إلى التشبه بالسابقين في قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148]. روى ابن جرير عن ابن زيد رحمه الله تعالى في قوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]؛ قال: الأعمال الصالحة (¬1). وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، والتنافس المباراة في عمل الآخرة. وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 32، 33] الآية. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السَّابِقُ وَالمُقْتَصِدُ يَدْخُلانِ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، ¬
وَالظالِمُ لِنَفْسِهِ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيْرًا، ثُمَ يدخلُ الجَنَةَ". رواه الحاكم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، وقال: صحيح الإسناد (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - موقوفًا، وابن لال في "مكارم الأخلاق"، والبيهقي في "الشعب"، وفي "البعث" مرفوعًا قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سَابِقُنَا سَابِقٌ، وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وَظَالِمُنَا مَغْفُوْرٌ لَه" (¬2). وقال محمَّد بن الحنفية رحمه الله تعالى: أعطيت هذه الأمة ثلاثة لم تعطها أمة كانت قبلها: منهم ظالم لنفسه مغفور له، ومنهم مقصد في الجنان، ومنهم سابق بالمقام الأعلى. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬3). وإنما كان السابق بالمقام الأعلى؛ لأنه أخذ من السلوك إلى الله تعالى في دار الدنيا الحظ الأوفى، والعمل الأقوى، كما روى أبو نعيم عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَ للهِ خَوَاصًّا يُسْكِنُهُمُ الرَّفِيع ¬
مِنَ الْجِنَانِ، كَانُوْا أَعْقَلَ النَّاسِ"، قلنا: يا رسول الله! وكيف كانوا أعقل الناس؟ قال: "كَانَتْ هِمَّتُهُمُ الْمُسَابَقَةَ إِلى رَبِّهِمْ وَالْمُسَارَعَةَ إِلى مَا يُرْضِيْهِ، وَزَهِدُوْا فِي فُضُوْلِ الدُّنْيَا وَرِياشِهَا (¬1) وَنَعِيْمِهَا، وَهَانَتْ عَلَيْهِم فَصَبَرُوا قَلِيْلاً، وَاسْتَرَاحُوْا طَوِيْلاً" (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَأَلَ عَنِّي، أَوْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَشْعَثَ شَاحِبٍ مُشَمِّرٍ، لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلا قَصَبَةً عَلَى قَصَبَةٍ، رُفِعَ لَهُ عَلَمٌ فَشَمَّرَ إِليْهِ، اليَوْمَ الْمِضْمَارُ، وَغَدًا السَّبْقُ، وَالغَايَةُ الْجَنَّةُ أَوِ النَّارَ" (¬3). قال في "القاموس": المضمار: الموضع تضمر فيه الخيل، وغاية السباق (¬4). أشار إلى أنه مشترك بين معنيين: - أحدهما: الموضع الذي تضمر فيه الخيل؛ أي: تعلف القوت بعد التسمين؛ لأن الفرس المضمر أقوى عند الحاجة على السبق. وهذا المعنى هو الذي أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث بقوله: "اليَوْمَ ¬
الْمِضْمَارُ"؛ أي: موضع تضمير المطية وتهيئتها للسبق، وذلك بالأعمال الصالحة، والمسابقة إليها. "وغداً السبق"؛ أي: يوم القيامة يظهر السبق، فالمسابقة في دار الدنيا بالأعمال إنما تظهر ثمرتها في دار القرار، ولذلك قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] لأنَّ المسارعة في الخيرات المشهودة في دار الدنيا إنما هي مسارعة إلى اتباع الخيرات، وثوابه في دار الآخرة. ولقد أحسن صاحب "المنفرجة" في قوله: [من المتدارك] وَرِضًا بِقَضاءِ اللهِ حِجًى ... فعلى مركوزته فَعِج وَإِذا انْفَتَحَتْ أَبْوابُ هُدًى ... فَاعْمَلْ [لخزائنها] وَلِجِ وَإِذا حاوَلْتَ نِهايَتَها (¬1) ... فَاحْذَرْ إِذْ ذاكَ مِنْ العَرَجِ لِتَكُوْنَ مِنَ السُّبَّاقِ إِذا ... ما سِرْتَ إلى تلك (¬2) الْفَرَجِ ¬
فَهُناكَ الْعَيْشُ وَبَهْجَتُه ... فَلِمُنتَهِجٍ وَلِمُبتَهِجِ (¬1) واعلم أن طريق السبق مفتوح لطالبيه إلى يوم القيامة، إلا أنه الآن مهجور لا يرى عليه إلا الأفراد، فسلوكه غير ممتنع -وإن كان عسراً خطراً- إلا إنَّه يسير على من يسره الله تعالى له، آمن لمن صحب فيه المؤمن المهيمن، فلكل طالب - وإن تأخر زمانه - نصيب مما طلب. وقد روى الحكيم الترمذي في "نوادره"، وأبو نعيم عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَي كُلِّ قَرْنٍ -وفي رواية: لِكُلِّ قَرْنٍ- مِنْ أُمَّتِيْ سَابِقُوْن" (¬2). وهذا السبق - وإن كان عاماً في السبق في أمور الدنيا، وغيرها - إلا أنه شامل للسبق في أمور الآخرة، بل هو أولى بالقصد، مع أن لهذا الحديث شواهد كثيرة صحيحة كحديث: "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرَيْنَ عَلَى الْحَقِّ" (¬3). ¬
فالتشبه بالسابقين طريق الأقوياء المبشرين، وكلما أظلم الوقت كلما ظهر لهم السبق في السبق، وعظم لهم الأجر والثواب لأن الأجر على قدر المشقة. وحقيقة السبق أن تبادر إلى كل عمل صالح فتأخذ في أفضله وأكمله وأتمه، وإذا كان ذا وقت كنت أسبق الآخذين فيه إلى أول الوقت كما قيل: [من الوافر] إِذا هَبَّتْ رِياحُكَ فَاغْتَنِمْها ... فَعُقبى كلِّ (¬1) خافِقَةٍ سُكُوْن وَإِنْ دَرَّتْ نِياقُكَ فَاحْتَلِبْها ... فَما تدْرِيْ الْفَصِيْلُ لِمَنْ يَكُوْن وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وأبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتدْرُوْنَ مَنِ السَّابِقُوْنَ إِلى ظِلِّ اللهِ عز وجل؟ الَّذِيْنَ إِذَا أُعْطُوْا الْحَقَّ قَبِلُوْه، وَإذَا سُئِلُوْهُ بَذَلُوْهُ" وَحَكَمُوا للنَّاسِ كَحُكْمِهِمْ لأَنْفُسِهِم" (¬2). ¬
وأخرجه الحكيم، ولفظه: "طُوْبَى لِلسَّابِقِيْنَ إِلى ظِلِّ اللهِ تَعَالَى، الَّذِيْنَ ... " إلى آخره (¬1). وروى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له: جُمدان، فقال: "سِيْرُوْا هَذا جُمْدانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُوْنَ"، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذَّاكِرُوْنَ اللهَ كَثِيْرًا [والذاكرات] (¬2) " (¬3). ورواه الترمذي وصححه، ولفظه: قالوا: يا رسول الله! وما المفردون؟ قال: "الْمُسْتَهْتَرُوْنَ بِذِكْرِ اللهِ، يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُم أثقَالَهُم فَيَأْتُوْنَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ خِفَافًا" (¬4). وروى الطبراني نحوه عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - (¬5). قال المنذري: المفردون - بفتح الفاء، وكسر الراء - والمستهترون - بفتح التائين المثناتين فوق -: هم المولعون بالذكر، المداومون عليه، لا يبالون ما قيل فيهم، ولا ما فُعل بهم (¬6). ¬
وفي "القاموس": وقد أهتر - بالضم -, فهو مهتر: أولع بالقول في الشيء. ثم قال: والمستهتر - بالفتح -: المولع به لا يبالي بما فعل به، وشتم له (¬1). قلت: ويرجع معنى الاستهتار بالذكر إلى الإكثار منه، كما في الرواية الأخرى إكثاراً يؤدي إلى قول الناس فيه، وإنما يقول في الذاكرين الله من ليس من أهل الإنصاف، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكثِرُوْا ذِكْرَ اللهِ حَتَّى يَقُوْل الْمُنَافِقُوْنَ: إِنَّكمْ مُرَاءُوْنَ". رواه الإمام أحمد في "الزهد"، والبيهقي في "الشعب" عن أبي الجوزاء رحمه الله تعالى مرسلاً (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أَكْثِرُوْا ذِكْرَ اللهِ حَتَّى يَقُوْلُوا: مَجْنُوْن". رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان، والحاكم وصححاه، والبيهقي عن أبي سعيد - رضي الله عنه - (¬3). وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: "يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُم أثقَالَهُمْ" دليل على أنَّ السابق لا يلزم فيه أن لا يسبق له ساعة جهل؛ فإن ذلك لا يؤثر ¬
في كونهم سابقين وصديقين، بل منهم من لم يسبق له به جهل؛ كأبي بكر، وعلي - رضي الله عنه -، ومنهم من يسبق له ثم يتخلقون بما سبق لهم من الإحسان والسبق إلى الخير؛ كعمر - رضي الله عنه -. وروى أبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْبِقَ الدَّائِبَ الْمُجْتَهِدَ فَلْيَكُفَّ عَنِ الذنُوْبِ" (¬1). وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، فَالسَّابِقُ السَّابِقُ إِلى الْجَنَّةِ" (¬2). أي: والسابق إلى المودة والمصالحة هو السابق إلى الجنة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي أيوب - رضي الله عنه -: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُر أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدَّ هَذَا، وَيَصُدَّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ" (¬3). رواه الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، والترمذي. وروى الطبراني في "الكبير" عن الأغر المزني - رضي الله عنه -: أنَّ أبا بكر ¬
الصديق - رضي الله عنه - قال له: لا يَسْبِقَنَّكَ (¬1) بِالسَّلامِ أَحَدٌ (¬2). وروى البخاري في "الأدب المفرد" عن عمر - رضي الله عنه - قال: كنت رديف أبي بكر - رضي الله عنه - فيمر على القوم فيقول: السلام عليكم، فيقولون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: فضلنا الناس اليوم بزيادة كثيرة (¬3). وروى تمام في "فوائده"، وابن عساكر عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَبَقَ العَاطِسَ بِالْحَمْدِ وَقَاهُ اللهُ وَجَعَ الْخَاصِرَةِ، وَلَمْ يَرَ فِي فِيْهِ مَكْرُوهًا حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا" (¬4). أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى ما اختص به هذا السابق من الفضائل الظاهرة عليه في الدنيا، ولم يذكر ما له في الآخرة؛ لأن الحامد في الآخرة محمود بلا شك، وإنما كانت هذه الفضيلة لمن سبق العاطس لأنه يذكِّر العاطس بما عليه، ويرغبه في الحمد، فهو من المهتدين الهادين. وروى أبو نعيم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ سَبَقَ إِلى الصَّلاةِ مَخَافَةَ أَنْ تَسْبِقَهُ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ تَرَكَهَا مَأْثَرَةً عَليِهَا ¬
لَمْ يُدْرِكْهَا بِعَمَلٍ إِلى الْحَوْلِ" (¬1). وروى هو، والديلمي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السَّابِقُوْنَ السَّابِقُوْنَ أُوَلئِكَ الْمُقَرَّبُوْنَ، أَوَّلُ مْنَ يُهَجِّرُ إِلى الْمَسْجِدِ وَآخِرُ مَنْ يَخْرُجُ مِنْه" (¬2). وروى أبو نعيم في كتاب "حرمة المساجد" عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ البِقَاعِ إِلى اللهِ الْمَسَاجِدُ، وَأَحَبُّ أَهْلِهَا إِلى اللهِ أَوَّلُهُم دُخُوْلاً وَآخِرُهُم خُرُوْجًا، وَأَبْغَضُ البِقَاعِ إِلى اللهِ الأَسْوَاقُ، وَأَبْغَضُ أَهْلِهَا إِلى اللهِ أَوَّلُهُم دُخُوْلاً وَآخِرُهُم خُرُوْجًا" (¬3). والتبكير إلى الجمعة داخل في ذلك، والأحاديث في فضل السبق فيه معروفة (¬4). وروى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو نعيم عن عثمان بن أبي سودة مولى عبادة بن الصامت قال: بلغنا في هذه الآية: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11] أنهم السابقون إلى المساجد، والخروج في سبيل الله تعالى (¬5). ¬
وروى الشيخان، وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: قد ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، قال: "وَمَا ذَاكَ؟ " قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفلا أُعَلِمُكُمْ شَيْئاً تُدْرِكُوْنَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُوْنَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلا يَكُوْنُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تُسَبِّحُوْنَ، وَتُكَبِّرُوْنَ، وَتَحْمَدُوْنَ فِي دُبُرِ كُل صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِيْنَ مَرَّةً" (¬1). قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتيْهِ مَنْ يَشَاء" (¬2). وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى قال: إذا اشتكى إلى الله عباده الفقراء الحاجة قيل لهم: أبشروا ولا تحزنوا؛ فإنكم سادة الأغنياء، والسابقون إلى الجنة يوم القيامة (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي أيوب عبد الله بن سليمان ¬
قال: دخل أبو هريرة - رضي الله عنه - المسجد فإذا فيه غلام، فقال: يا غلام! اذهب إلى عمل أهلك، قال: إنما جئت إلى الصلاة، قال: فأنت السابق وأنا الْمُصَلِّي (¬1). أي: الآتي بعد السابق، وهو في الأصل الفرس الذي يأتي ثاني السابق كأنه يحاذي صلاه. وروى أبو نعيم عن يزيد الرقاشي قال: إن المتجوعين لله تعالى في الرعيل الأول يوم القيامة (¬2). وروى البيهقي عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أنه سئل عن صيام الدهر فقال: كنا نعد أولئك [فينا] (¬3) من السابقين (¬4). وهذا مما يدل على أن صيام الدهر لمن لم يخف منه ضرراً، ولم يفوت به حقاً مستحب. نص عليه الدارمي، والغزالي. وقال الشافعي، وبقية الأصحاب، وجمهور العلماء: لا يكره إذا أفطر أيام النهي. وذهب أبو يوسف، وغيره إلى كراهته (¬5). ¬
وروى البيهقي (¬1)، وغيره عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا، وَعَقَدَ تِسْعِيْن" (¬2). وفي "صحيح البخاري" عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان أبو طلحة - رضي الله عنه - لا يصوم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل الغزو، فلما قُبض النبي - صلى الله عليه وسلم - لم أره مفطراً إلا يوم الفطر، أو الأضحى (¬3). وممن سرد الصوم عمر، وابنه عبد الله، وأبو أمامة، وامرأته، وعائشة - رضي الله عنه -. رواه البيهقي عنهم (¬4). وزاد النووي في "شرح المهذب": سعيد بن المسيب، وأبا عمرو ابن حِماس - بكسر المهملة -، وسعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف التابعي؛ سرده أربعين سنة، والأسود بن يزيد صاحب ابن مسعود (¬5). ¬
وروى أبو الحسن بن جهضم عن أبي عثمان قال: السابق بالود مبتدئ، والمكافئ له مقتدي؛ فأنى يدرك المقتدي المبتدئ؟ وللمبتدئ أجره وأجر من اتبعه (¬1). ومن هنا قيل: إن الابتداء بالسلام - وإن كان سنة - أفضل من الرد وإن كان واجباً (¬2)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ" (¬3). ونظير ذلك أن الإحسان إلى المسيء سابق بالنسبة إلى من يقابل الإحسان بالإحسان. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا". رواه الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي عن ابن عمرو - رضي الله عنه - (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَكُوْنُوْا إِمَّعَةً؛ تَقُوْلُوْنَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ أَسَاؤُوْا أَسَأْنَا (¬5)، وَلَكِنْ وَطِّنُوْا أَنْفُسَكُم: إِنْ أَحْسَنُوا أَنْ تُحْسِنُوْا، وَإِنْ أَسَاؤُوا أَنْ لا تَظْلِمُوْا". رواه الترمذي من حديث حذيفة - رضي الله عنه - (¬6). ¬
وقوله: "وَإِنْ أَسَاؤوا أَنْ لا تَظْلِمُوا" وهو شامل للعفو والانتصار، إلا أن العفو صاحبه سابق؛ لأنه محسن مانٌّ بالعفو. قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وهو من أفضل السابقين -: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرِ أَخْلاقِ الأوَّلِيْنَ وَالآخِرِيْنَ؟ " قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: "تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَنْ مَنْ ظَلَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ". رواه البيهقي في "الشعب" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَنْ يَنَالَ عَبْدٌ صَرِيْحَ الإيِمَانِ حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ، وَيَعْفُوَ عَنْ مَنْ ظَلَمَهُ، وَيغْفِرَ لِمَنْ شَتَمَهُ، وَيحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ" (¬2). وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته - أي: حتى يسبق إلى أعلى خصاله - قال: ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده وذامُّه عنده سواء. قال عون بن عبد الله: ففسرها أصحاب عبد الله؛ قالوا: حتى يكون الفقر في الحلال أحب إليه من الغنى في الحرام، وحتى يكون التواضع في طاعة الله أحب إليه من الشرف في معصية الله، وحتى يكون حامده ¬
وذامه في الحق سواء. رواه الإمام أحمد في "الزهد"، وغيره (¬1). وروى النسائي عن أبي ذر - رضي الله عنه -، وهو، وابن حبان، وابن خزيمة، والحاكم وصححوه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَسْبِقُ (¬2) دِرْهَمٌ مِئَةَ ألفِ دِرْهَم"، فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: "رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيْرٌ أَخَذَ مِنْ عُرْضِ مالِهِ ألفَ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا، وَرَجُلٌ لَيْسَ لَهُ إِلا دِرْهَمَانِ فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا فتصَدَّقَ بِهِ" (¬3). وقوله: "من عرض" - بضم المهملة - أي: من جانبه. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: حضر باب عمر - رضي الله عنه - سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وأبو سفيان ابن حرب، ونفر من قريش من تلك الرؤوس، وصهيب، وبلال، وتلك الموالي الذين شهدوا بدراً - رضي الله عنهم -، فخرج آذنُ عمر - رضي الله عنه - فأذن لهم، وترك هؤلاء، فقال أبو سفيان: لم أر كاليوم قط يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه لا يلتفت إلينا، قال: فقال سهيل بن عمرو - رضي الله عنه - وكان رجلاً عاقلاً -: أيها القوم! إني والله لقد أرى الذي في وجوهكم إن كنتم ¬
غِضَابا فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم ودعيتم، فأسرَعوا وأبطأتم، فكيف لكم إذا دعوا يوم القيامة وتُركتم، أما والله لما سبقوكم إليه من الفضل مما لا ترون أشد عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تنافسون عليه، قال: ونفض ثوبه وانطلق. قال الحسن: وصدق - والله - سهيل؛ لا يجعل الله عبداً أسرعَ إليه كعبدٍ أبطأ عنه (¬1). وفي رواية: فكيف بكم إذا دعوا إلى أبواب الجنة وتركتم؟ والله لا أدع موقفاً وقفت مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أنفقت على المسلمين مثلها (¬2). ويناسب ما في هذا الأثر من سبق الموالي ذوي الأنساب بأعمالهم سبق الأرقاء الأحرار حتى قد يسبق العبد سيده؛ كما روى الطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" عن ابن عباس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَبْدٌ أَطَاعَ اللهَ تَعَالى، وَأَطَاعَ مَوالِيَهُ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ قَبْلَ مَوَالِيَهُ بِسَبْعِيْنَ خَرِيْفًا، فَيقُولُ السَّيدُ: رَبِّ! هَذَا كَانَ عَبْدِي فِي الدُّنْيَا، قَالَ: جَازَيْتُهُ بِعَمَلِهِ، وَجَازَيتُكَ بِعَمَلِكَ" (¬3). ¬
وفي "الأوسط" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ عَبْدًا دَخَلَ الْجَنَّةَ فَرَأَى عَبْدَهُ فَوْقَ دَرَجَتِهِ، فَقَال: يَا رَبِّ! هَذَا عَبْدِي فَوْقَ دَرَجَتِي؟ قَالَ: نعَمْ، جَزَيْتُهُ بِعَمَلِهِ، وَجَزَيِتُكَ بِعَمَلِك" (¬1). وفيه عنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ سَابِقٍ (¬2) إِلى الْجَنَّةِ مَمْلُوْكٌ أَطَاعَ اللهَ وَأَطَاعَ مَوَالِيَه" (¬3). وروى الإمام أحمد، وأبو يعلى بإسناد حسن، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَخِيْلٌ، وَلا خَبٌّ، وَلا خَائِنٌ، وَلا سَيُّء الْمَلَكَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ الْمَمْلُوْكُوْنَ إِذَا أَحْسَنُوْا فِيْمَا بَيْنَهُم وَبَيْنَ اللهِ عز وجل، وَفِيْمَا بَيْنَهُم وَبَيْنَ مَوَالِيهم" (¬4). والخب - بالفتح -: الْخَدَّاع الْمَكَّار الخبيث. ¬
ومن السابقين من جاء الأثر فيه بأنه أول من يقرع باب الجنة، أو أول من يدخلها، ولا معارضة بين الأخبار في ذلك؛ فأول من يقرع باب الجنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيبادر معه كافل اليتيم، ومن في رتبته. وقوله في هذا الحديث: "أَوَّلُ مَنْ يَقْرعُ بابَ الْجَنَّةِ الْمَمْلُوْكُوْنَ"؛ أي: بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن معه، أو النبي - صلى الله عليه وسلم - أول من يقرع باب الجنة ليفتح للداخلين، ثم يكون كافل اليتيم، والعبد المملوك، وأهل الجهاد، والصدقات، وتلاوة القرآن المخلصون أول الداخلين والفقراء من كل صنف أسبق إلى الجنة من الأغنياء جمعاً بين الأحاديث، فافهم! وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته" عن أبي علي الجوزجاني رحمه الله تعالى قال: السابقون هم المقربون بالعطيات، والمرتفعون في المقامات، وهم الصلة (¬1) بالله من بين البرية، عرفوا الله [حق معرفته] (¬2)، وعبدوه بإخلاص العبادة، وأَووا إليه بالشوق والمحبة، وهم الذين قال الله عز وجل: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [صَ: 47] (¬3). وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] قال: هم أهل القرآن (¬4). ¬
وروى عبد بن حميد عن صالح أبي الخليل قال: قال كعب رحمه الله تعالى: يلومني أحبار بني إسرائيل أني دخلت في أمة فرَّقهم الله تعالى، ثم جمعهم، ثم أدخلهم الجنة جميعاً، ثم [تلا] هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 32 - 33]؛ قال: فأدخلهم الله الجنة جميعاً (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: السابق من رجحت حسناته على سيئاته، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته (¬2). وروى ابن مردويه، والديلمي عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: يبعث الناس على ثلاثة أصناف، وذلك في قول الله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32]؛ قال: سابق بالخيرات يدخل الجنة بلا حساب، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً، والظالم لنفسه يدخل الجنة برحمة الله (¬3)؛ يعني: بعد الحساب بدليل الأثر عن أبي مسلم الخولاني قال: قرأت في كتاب الله أنَّ هذه الأمة تصنف يوم القيامة على ثلاثة أصناف: فصنف يدخلون الجنة بغير حساب، وصنف ¬
يحاسبهم الله حساباً يسيراً، وصنف يوقفون فيؤخذ منهم ما شاء الله، ثم يدركهم عفو الله وتجاوزه. رواه عبد بن حميد (¬1). ولأرباب الإشارات والحقائق في هؤلاء الثلاثةِ أقوالٌ: قال الحارث بن أسد المحاسبي رحمه الله تعالى: الظالم ينظر من نفسه إلى نفسه في دنياه وآخرته، فيقول في دنياه وآخرته: نفسي نفسي، والمقتصد نظر من نفسه إلى عقباه وهو في دنياه ناظر إلى عقباه (¬2)، والسابق ينظر من الله إلى الله فلم يرَ غير الله في دنياه وعقباه (¬3). وقال محمد بن علي الترمذي رحمه الله تعالى: لكل واحد من هؤلاء الثلاثة نوع من سؤال، وأخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فسؤال الظالم: أسألك الإيمان بك، والكفاف من الرزق. وسؤال المقتصد: أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، [وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل] (¬4). وسؤال السابق: أسألك النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك (¬5). قلت: وجميعهم على الباب واقفون، وإلى الله مفتقرون، وبلسان ¬
حالهم قائلون: [من مخلَّع البسيط] إِلَيْكَ جِئْنا وَأَنْتَ جِئْتَ بِنا ... وَلَيْسَ رَبٌّ سِواكَ يَحْمِيْنا (¬1) بابُكَ رَحْبٌ فِناؤُهُ كَرَمٌ ... تُؤْوِيْ إِلَىْ بابِكَ الْمَساكِيْنا والبيتان لأبي سعد عبد الملك بن محمد النيسابوري المعروف بالخركوشي، وهو ممن يرتجى بذكره الرحمة. حكي أنه خرج مرة مع الناس للاستسقاء، فأنشد البيتين فسقوا برحمة الله تعالى (¬2). وقال محمد بن علي الترمذي أيضاً: الظالم لنفسه إلى عفو الله، والمقتصد إلى رضى الله، والسابق بالخيرات إلى رضوان الله، ورضوان من الله أكبر (¬3). وقال أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى: الظالم مضروب بسوط الأمل، مقتول بسيف الحرص، مضطجع على باب الرجاء. والمقتصد مضروب بسوط الحسرة، مقتول بسيف الندامة، مضطجع ¬
على باب الكرم. والسابق مضروب بسوط المحبة، مقتول بسيف الشوق، مضطجع على باب الهيبة (¬1). وقال أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى: الظالم مضروب بسوط الغفلة، مقتول بسيف الأمل، مطروح على باب الرحمة والمشيئة. والمقتصد مضروب بسوط الندامة، مقتول بسيف الحسرة، مطروح على باب الفقر. والسابق مضروب بسوط المحبة، مقتول بسيف الشوق، مطروح على باب المشاهدة والبشرى واللقاء (¬2). قلت: ومعنى هذا الكلام: إن الظالم لنفسه هو الذي ظلم نفسه بالاسترسال في الغفلة عما يراد منه من أدب كل وقت من أوقاته، وحقوق كل حين من أحايينه في ذلك الوقت، وذلك الحين، ثم كلما تحركت روحه بواعظ الإيمان المستوي على عرش قلب كل عبد مؤمن للنهوض إلى التوبة والإقلاع عن المعصية لم تطاوعه نفسه؛ لأنها قد انقطعت بمُدْية التسويف، وقتلت بسيف الأمل، فهو تحت المشيئة؛ لأن سيئاته قد رجحت على حسناته فلم يستحق فوزاً، ولم يستوجب ثواباً، لكن الله تعالى لم يقطعه عن رحمته بالكلية، ولم يخرجه من دائرة الاصطفائية، ¬
بل طرحه على باب رحمته، وأناط آماله بدخول جنته لأنَّ له عند الله عهداً وذمة، وقد قال الله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87]؛ أي: قال: لا إله إلا الله. وما أحسن ما قال عبد الرحيم البرعي - من رجال اليمن - رحمه الله تعالى: [من الرمل] عَلَّها تَرْعَىْ ذِماماً سالِفاً ... وَبِظَنِّيْ أَنَّها تَرْعَىْ الذِّماما ولذلك قدم الله تعالى الظالم لنفسه في الآية. قال ابن عطاء الآدمي رحمه الله تعالى: قدم الظالم لئلا ييئس من فضله؛ قال: والسابق مقدم، لكن أظهر لطفه بتقديم الظالم ليعرفوا كرمه ويرجعوا إليه (¬1). وقال جعفر الصادق - رضي الله عنه -: بدأ بالظالمين إخباراً أنَّه لا يتقرب إليه إلا بصرف كرمه، وأنَّ الظلم لا يؤثر في الاصطفائية، ثم ثنَّى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره، وكلهم في الجنة ببركة كلمة الإخلاص (¬2). وقال أبو الحسن الفارسي (¬3) رحمه الله تعالى: إنَّ الله اصطفى جملة ¬
الموحدين من جملة الكافرين، وكانوا عباداً مخصوصين، فسوَّى بينهم لئلا يعتمد السابق على سبقه، ولا ييأس الظالم من ظلمه (¬1). واعلم أن الظالم لنفسه في هذه الآية أخص من الظالم لنفسه في قوله تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113]. قال قتادة: أي: مؤمن وكافر. كما رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬2). فظلم النفس على قسمين: ظلم عظيم؛ وهو الشرك، فهذا يُخرج صاحبه من الاصطفاء. وظلم دون ظلم؛ وهو بالمعصية ما عدا الشرك، وهذا لا يخرج العبد عن الرحمة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]؟ وروى أبو داود الطيالسي، والبزار عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ: فَظُلْم لا يَغْفِرُهُ اللهُ، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ، وَظُلْم لا يَتْرُكُهُ؛ فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ فَالشِّرْكُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وَأَمَّا الظُّلْمْ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللهُ، فَظُلْمُ العِبَادِ أَنْفُسَهُم فِيْمَا بَيْنَهُم وَبَيْنَ رَبِّهِم. ¬
وَأَمَّا الظّلْمُ الَّذِي لا يَتْرُكُهُ اللهُ، فَظُلْمُ العِبَادِ بَعْضَهُم بَعْضًا حَتَّى يَدِيْنَ لِبَعْضِهِم مِنْ بَعْضٍ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدَّوَاوِيْنُ [عند الله عز وجل] (¬2) ثَلاثة: فَدِيْوَانٌ لا يَغْفِرُ اللهُ مِنْهُ شَيئاً، وَدِيْوَانٌ لا يَعْبَأُ اللهُ بهِ شَيْئاً، وَدِيْوَانٌ لا يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئاً؛ فَأَمَّا الدِّيْوَانُ الَّذِي لا يَغْفِرُ اللهُ مِنْهُ شَيْئاً، فَالإِشْرَاكُ بِاللهِ، [قال الله عز وجل {يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72] (¬3)] (¬4). وَأَمَّا الدِّيْوَانُ الَّذِي لا يَعْبأُ اللهُ بِهِ شَيْئاً، فَظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ فِيْمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ، أَوْ صَلاةٍ تَرَكَهَا؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَغْفِرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ، وَيَتَجَاوَزُ. وَأمَّا الدِّيْوَانُ الَّذِي لا يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئًا، فَمَظَالِمُ العِبَادِ بَيْنَهُم؛ القِصَاصُ لا محَالَةَ" (¬5). ¬
أي: إلأَ أن يصالح الله تعالى صاحب الحق؛ للحديث الصحيح في ذلك. وقد عقدت حديث عائشة رضي الله عنها في أبيات ستأتي إن شاء الله تعالى في الخاتمة. وقول الجنيد رحمه الله تعالى: والمقتصد مضروب بسوط الندامة ... إلى آخره (¬1)، إنما كان المقتصد كذلك لأن نفسه لوامة تلومه على زلته، وتؤنبه في التقصير، كما قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إن المؤمن - والله - ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامي؟ ما أردت بأكلي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإنَّ الفاجر يمضي قُدماً لا يحاسب نفسه ولا يعاتبها. رواه عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" (¬2). فإذا فات المقتصد ما اقتصر عنه من أعمال البر ندم عليه وتحسر حيث فاته ذلك، ولم يزدد منه، فهو مضروب بسوط الندم، مقتول بسيف الحسرة لأنَّ الأوقات إذا فاتت ماتت حصتها من الخير، وإذا كان العبد قد فاته التسوق في أيامه، والبذر في إبانه، لم يبقَ له حين رواج الأسواق، ¬
ونَفَاق السلع، وحصاد الزروع إلا الانطراح على أبواب الجود والكرم، والافتقار إلى مفيد البذل والنعم. وقد روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن عبد الله بن عمرو ابن العاص - رضي الله عنه - أنه قال: ثلاث صاحبهن جواد؛ مقتصد في فرائض الله يقيمها، ويتقي السوء، ويقل الغفلة. وثلاث؛ لا تحقرن خيراً أن تتبعه، وشراً أن تتقيَه، ولا يكبرن عليك ذنب أن تستغفر الله منه. وإيَّاك واللعب؛ فإنك لن تصيب به دنيا، ولا تدرك به آخرة، ولن ترضى المليك، إنما خلقت النار لسخطه، وإني أحذرك سخط الله (¬1). واعلم أن المقتصد قد يكون سابقاً مُقدماً على المجتهد، وذلك بأمور: 1 - منها: أنَّ المجتهد إذا كان اعتقاده سقيماً فالمقتصد خير منه، بل البدعة قد تحبط الاجتهاد بمرة. وقد روى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: اقتصادٌ في سنةٍ خيرٌ من اجتهاد في بدعة، وأن تتبع خير من أن تبتدع (¬2). وروى الشيخ نصر المقدسي في كتاب "الحجة" عن أنس، وأبو القاسم الرافعي عن أبي هريرة، والديلمي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قالوا: قال ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَمَلٌ قَلِيْلٌ فِيْ سُنَّةٍ خَيْرٌ مِن اجْتَهَادٍ فِي بِدْعَة". هذا لفظ أنس، ولفظ غيره: "خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيْرٍ فِي بِدْعَةٍ" (¬1). 2 - ومنها: أن الاقتصاد إذا داوم عليه العبد خير من الاجتهاد، والانقطاع عنه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة رضي الله عنها: "أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ". رواه الشيخان (¬2). وفي رواية عند البخاري: كَانَ أَحَبُّ الدِّيْنِ إِلَى النَبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا دَامَ (¬3) عَلَيْهِ صَاحِبَهُ (¬4). وفي لفظ عن عائشة، وأم سلمة - رضي الله عنه -: كَانَ أَحَبُّ العَمَلِ إِلَيْهِ مَا دُوْوِمَ عَلَيْهِ وإِنْ قَلَّ (¬5). 3 - ومنها: أن يكون العبد في الاقتصاد أحفظ لآدابه في الاجتهاد كان يؤديه وهو خالص القلب، صادق القصد كأن يصلي ركعتين مُتدبراً للقراءة، مبطئاً في الأفعال؛ فإنها أفضل من عشر ركعات بدون ذلك، أو ¬
يقرأ آية بتدبر وفهم؛ فإنه أفضل من قراءة عشر آيات بدون ذلك. ففي الحديث: "رَكْعَتَانِ مِنْ عَالِمٍ بِاللهِ خَيْرٌ مِنْ ألفِ رَكْعَةٍ مِنْ مُتَجَاهِلٍ بِاللهِ". رواه الشيرازي في "الألقاب" عن علي - رضي الله عنه -. وفيه: "رَكْعَتَانِ مِنْ رَجُل وَرِعٍ أَفْضَلُ مِنْ ألفِ رَكْعَةٍ مِنْ مُخَلِّطٍ". رواه الديلمي عن أنس - رضي الله عنه - (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلبُ ساهي (¬2). وروى الدارقطني عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ إِلا بِتدَبُّر، وَلا عِبَادَة إِلا بِفِقْهٍ، وَمَجْلِسُ فِقْهٍ خَيْر مِنْ عِبَادَةِ سِتِّيْنَ سَنَة" (¬3). 4 - ومنها: أن تكون العبادة المقتصدة واقعة في مشاهد المسلمين كالصلاة في الجماعة. وفي الحديث الصحيح: "صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الفَذِّ بِسَبع وَعِشْرِيْنَ درَجَةً". رواه الإمامان مالك، وأحمد، والشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬4). ¬
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن الأزرق بن قيس الحارثي قال: كنا عند عسعس بن سلامة وفينا ابن حاصر الأسيدي - وكان رجلاً خطيبا متكلماً -، فقال: وددت أن لنا بالجبان قصراً فيه من الطعام والشراب ما يكفينا حتى يدفن آخرنا رجلاً، فقال عسعس بن سلامة: أما بلغك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر، ففقد رجلاً من أصحابه، فقال: "اطْلُبُوْهُ فِيْ الْغِيْرانِ"، فوجدوه في غار قائما يصلي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ "قال: كبرت سني وحضر أجلي فأحببت أن أخلوَ لعبادة ربي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا إِنَّ مَوْطِنَ سَاعَة مِنْ مَوَاطِنِ الْمُسْلِمِيْنَ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الرَّجُلِ سِتِّيْنَ سَنَة خَالِيًا" (¬1). 5 - ومنها: أنَّ صدقة المقتصد من حلال تسبق صدقة المكثر من شبهة، أو صدقة المقل تسبق صدقة المكثر؛ لأن الأول يجود بما عزَّ، ¬
والثاني بما هان؛ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سَبَقَ دِرْهَمٌ مِئَةَ ألفِ دِرْهَم" الحديث (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن كيسان قال: مرَّ رجل من العمال يتصدق على المساكين قال: فأتى أبا هريرة (¬2) - رضي الله عنه -، فقال: يا أبا هريرة! مررت بفلان وهو يتصدق على المساكين، فقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: لكن درهم أصيبه بكد يعرق فيه جبيني أحب إلي من صدقة هؤلاء مئة ألف ومئة ألف (¬3). وكلام أبي هريرة - رضي الله عنه - يحتمل وجهين: الأول: أن درهم يتصدق به العبد اكتسبه بعمل يده وكَدِّه أفضل من مئة ألف درهم يتصدق بها جميعها من العمالة ونحوها بغير كد، أو بغير ورع. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في "الصحيحين": "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلا يَقْبَلُ اللهُ إِلا الطَّيِّبَ - فَإِنَّ اللهَ عز وجل يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِيْنهِ، ثُمَّ يُربِّيْهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى يَكُوْنَ مِثْلَ الجَبَلِ" (¬4). والوجه الثاني: أن اكتساب العبد لدرهم واحد بعرق جبينه وكد ¬
يمينه خير له من مئة ألف درهم تحصل له بمنة أحد على سبيل الهبة، أو الصدقة؛ لأن احتمال المنة يشق على قلوب الأخيار. ومن هنا كان - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة لأن الهدية يكافأ عليها فتندفع المنة عنه بالمكافأة؛ بخلاف الصدقة. وفي حديث الزبير بن العوام - رضي الله عنه - في "الصحيحين": "لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً فَيَأْتِيَ الْجَبَلَ، فَيَجِيْءَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِه، فَيَبِيْعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بِهِا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسأَلَ النَّاسَ؛ أَعْطَوْهُ، أَوْ مَنَعُوْهُ" (¬1). وروى مسلم، والترمذي نحوه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وزاد: "ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَدَ العُلْيَا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى" (¬2). وقد تسبق الصدقة المقتصدة الصدقة الكثيرة بمعنى آخر؛ كالصدقة في حال حياة العبد وهو صحيح شحيح [يأمل] (¬3) الحياة؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ بِدِرْهَمِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يتَصَدَّقَ بِمِئَةِ درْهَمٍ عِنْدَ مَوْته". رواه أبو داود، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (¬4). وكذلك الصدقة على الأقارب، والجيران، والأصدقاء تسبق الصدقة ¬
على غيرهم لأن الصدقة على القريب صدقة وصلة، وعلى الجار والأخ صدقة وأداء لحق الجوار والأخوة، وأدلة ذلك مشهورة. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان" عن يزيد بن عبد الله بن الشخير رحمه الله تعالى مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ أُعْطِيَ أَخًا فِي اللهِ دِرْهَمًا أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أتصَدَّقَ بِعَشَرَةٍ، وَلأَنْ أُعْطِيَ أَخًا فِي اللهِ عَشَرَة أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ رَقَبَةً" (¬1). ولذلك الاقتصاد فيما هو حال العبد يسبق الاجتهاد فيما ليس من حاله، فالصدقة من المَلِيء أولى به من سرد الصوم مثلاً، بل لو سرد الصوم وهو يمنع الزكاة، أو أكثر من الركوع والسجود ونحوهما تطوعاً وهو كذلك، يخشى عليه أن تُرد عليه أعماله، وتنعكس به آماله. وكذلك لو اشتغل بأنواع العبادة وقلبه غافل عن ذكر الله تعالى؛ صاحب الذكر واليقظة أسبق منه. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لأن أذكر الله من لدن صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس أحب إلي من أن أعطي فارسين الخيل في سبيل الله عز وجل. رواه الإمام أحمد في "الزهد" (¬2). وروى عبد الرزاق، والطبراني في "الكبير" عن سهل بن سعد ¬
الساعدي - رضي الله عنه -، والطبراني - أيضاً - عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ أُصَلِّيَ الصُّبْحَ ثُمَّ أَجْلِسَ فِي مَجْلِسٍ، فَأَذْكُرَ الله عز وجل حَتَى تَطْلُعَ الشَّمْسُ, أَحَبُّ إِليَّ مِنْ شدٍّ عَلَى جِيَادِ الْخَيْلِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ مِنْ حِيْنِ أُصَلِّي إِلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ" (¬1). وفي حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى مِنْ صَلاةِ الغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَة مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيْلَ، وَلأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُوْنَ اللهَ مِنْ صَلاةِ العَصْرِ إِلى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، أَحَبُّ إلَيِّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ رَقَبَة مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيْلَ (¬2) ". رواه أبو داود، وغيره (¬3). فالسبق تارة يكون بالاجتهاد، وتارة بالكثرة في العمل، وتارة يكون بدون ذلك لحكمة نفهمها، أو لا نفهمها. وسَبْقُ الذِّكرِ - وإن كان أخف من غيره، أو أقل من غيره - حكمته ¬
ظاهرة؛ لأنَّ من أحَّط شيئا أكثر من ذكره، فغلبة الذكر على لسان العبد دليل غلبته على قلبه، وغلبته على قلبه دليل محبته المذكور. ومن هنا قال الجنيد رحمه الله: من ألهم الذكر أوتي منشور الولاية (¬1). ومن هنا قال الله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]. ولأنَّ ذكر العبد لله تعالى، ثوابه ذكر الله للعبد، فإذا ذكره بالتعظيم والهيبة، ذكره الله تعالى بالرفعة، "وإقامة الحرمة له بين عباده، وإلقاء المودة له في قلوبهم. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]. وقال: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: ما عادى عبد ربه بشيء أشد عليه من أن يكره ذكره، وذكر من يذكره (¬2). بل الحكمة البالغة: أن الله تعالى لم يكلف العباد طاعته إلا لذكره، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. وروى أبو داود، والحاكم وصححه، عن عائشة رضي الله عنها ¬
قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لإقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى" (¬1). وقول الجنيد رحمه الله في كلامه المتقدم: والسابق مضروب بسوط المحبة، مقتول بسيف الشوق، مطروح على باب المشاهدة والبشرى واللقاء. وقال أبو يزيد البسطامي رحمه الله: مضطجع على باب الهيبة (¬2). إنما كان مضروباً بسوط المحبة؛ لأنه قد أفرغ مجهوده في طاعة حبيبه، وبذل الوسع في خدمة سيده حتى غلب الحب على كله، واستولى سلطان الهوى على عقله، فصار يدعى إلى مقتضى المحبة بما هو أشد من السوط، وأبلغ من السيف. وقد استشهد بعض العارفين على هذا المعنى بقوله تعالى حكاية عن بلقيس: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34]؛ أي: أفسدوها على غيرهم، فلم تصلح إلاَّ لهم. كذلك المحبة تستولي على القلب فيفسد فيه ما سوى طاعة المحبوب، ولا يصلح إلا لمحبوبه (¬3). وسلطان المحبة يغلب سلطان الملوك، كما أجرى الله تعالى هذه ¬
الحكمة على لسان الرشيد في قوله: [من الكامل] مَلَكَ الثَّلاثُ الْغانِياتُ جَنانِي ... وَنَزَلْنَ (¬1) مِنْ قَلْبِيْ بِكُلِّ مَكانِ ما لِيْ تُطاوِعُنِيْ الْبَرِيَّةُ كُلُّها ... وَأُطِيْعُهُنَّ وَهُنَّ فِيْ عِصْيانِ ما ذاكَ إِلاَّ أَنَّ سُلْطانَ الْهَوَىْ ... وَبِهِ سَطَيْنَ أَعَزُّ مِنْ سُلْطانِي (¬2) فإذا كان هذا سلطان محبةِ مخلوق، فكيف إذا غلب سلطان حب الخالق على القلب المقرون بالتوفيق، المملوء بالتحقيق؟ فإنه يدعوه إلى التبريز في خدمته، والسبق إلى طاعته، فالمحبة تدعوه إلى أن لو ازداد من أعمال الخير المرضية لحبيبه، والموجبة لتقريبه لأنه يرى النعم مترادفة من حبيبه إليه، والمنن متعاكفة من قبله عليه، وقد جُبِلت القلوب على حب من أحسن إليها، وأقبل بملاطفته عليها، فدعاه تَرادُفُ النعمة إلى الازدياد من الخدمة، فهو مضروب بسوط المحبة من هذه الحيثية. ثم إن الحبيب ناداه برسل الإفضال، ورسائل النوال إلى القرب والاتصال، فود أن لو سارع إلى اللقاء طيراناً، فحبسته إرادة الحبيب لبلوغ ¬
إبان التقريب، حيث قضى أن لكل أجل كتاباً وإباناً، فهو مقتول بسيف الشوق من هذا القبيل، مطروح على باب المشاهدة والبشرى واللقاء من هذا السبيل، وحسبه الله تعالى ونعم الوكيل. ثم هو في شوقه حاضر بين يدي من إليه ناظرة لأنَّ الله تعالى يقول في بعض كتبه: "بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي" (¬1)؛ فهو مضطجع على باب الهيبة من هذه الجهة كما قال أبو يزيد: وحقيقة الهيبة المخافة، والتقية مع الإجلال والإعظام. وقد علمت بذلك أنَّ مبنى أمر السابقين على محبة رب العالمين، فبقدر المحبة يكون السبق إلى الطاعة. قال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله في "رسالته": قال جعفر - يعني: الخلدي -: قال الجنيد: دفع السَّريُّ إليَّ رقعة، وقال: هذه لك خير من سبع مئة فضة، أو حديث بعلو، فإذا فيها: [من الطويل] وَلَمَّا ادَّعَيْتُ الْحُبَّ قالَتْ كَذَبْتَنِيْ ... فَما لِيْ أَرَىْ الأَعْضاءَ مِنْكَ كَواسِيَا فَما الْحُبُّ حَتَّىْ يَلْصَقَ الْقَلْبُ بِالْحَشا ... وَتَذْبُلَ حَتَّىْ لا تُجِيْبَ الْمُنادِيَا ¬
وَتَنْحُلَ حَتَّىْ لا يُبْقِيْ لَكَ الْهَوَىْ ... سِوَىْ مُقْلَةٍ تَبْكِيْ بِها وَتُناجِيَا (¬1) وفي "الصحيحين" عن أنس - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيْمَانِ: أَنْ يَكُوْنَ اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَحَبَّ إِليِهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُوْدَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَبْعَدَه" (¬2) اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ بِالنَّار" (¬3). ومهما حصل القلب على الحب كان الباعث له على أعمال الخير حبه، فالعمل المحثوث عليه بالحب هو عمل السابقين، ولذلك قال يحيى ابن معاذ الرازي رحمه الله تعالى: مثقال خردلة من الحب أحبُّ إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب (¬4). وعلى هذا المنوال كان عمل الصحابة والصدر الأول. ثم كان أكثر الناس في طاعاتهم إنما هم جارون على عادة اعتادوها، أو على ما كان وفق هواهم. ومن هنا قال عبيد الله بن عمير رحمه الله تعالى: ما المجتهد فيكم إلا ¬
كاللاعب فيمن مضى. رواه الإمام أحمد في "الزهد" عن مجاهد، عنه (¬1). ورواه في موضع آخر منه عن مجاهد؛ قال: ذهب العلماء فما بقي إلا المتعلمون، وما المجتهد اليوم إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم (¬2). وإنَّما كان ذلك لغلبة الهوى على الناس، ومحبة الدنيا جيلاً بعد جيل، ولأنَّ محبة السابقين كانت أمكن، ومعرفتهم كانت أظهر وأبين لمشاهدة الأولين منهم من كان يوحى إليه - صلى الله عليه وسلم -، ومخالطة التالين لهم هؤلاء الذي شاهدوا أحواله - صلى الله عليه وسلم -، وعملوا على الاقتداء به، ثم تقهقر الناس. ومن هنا فسرت عائشة رضي الله عنها السابق ممن مضى على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى الثعلبي وغيره عن عقبة بن صهبان قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 132] فقالت: يا بني! كلهم في الجنة؛ أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسَها معنا (¬3). ¬
وهذا من عائشة رضي الله عنها على طريقة أمثالها من السابقين والصديقين، وعادتهم من ترك تعظيم النفوس، ورؤيتها دون سائر المسلمين. وهو نظير ما في "صحيح البخاري" عن محمد بن علي بن أبي طالب قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول: ثم عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن سهل بن أسلم قال: كان بكر بن عبد الله رحمه الله تعالى إذا رأى شيخاً قال: هذا خير مني؛ عَبَدَ الله قبلي، وإذا رأى شاباً قال: هذا خير مني؛ ارتكبت من الذنوب أكثر مما ارتكب (¬2). وقد كثرت أقوال أرباب المعاني والحقائق في معنى الظالم، والمقتصد، والسابق. والقول الجامع المطابق - إن شاء الله - للواقع: أن الظالم نفسه هو المقصر عن بعض الحقوق، المخل ببعض الآداب، الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، واعترف بذنبه كما قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102]، ¬
وهذا حال عامة الأمة إلا الصالحين منهم. فهذا القسم لا ينبغي التشبه بهم أصلاً إلا في أصل الإيمان، والعمل الصالح، والوقوف على باب الرحمة بالذل، والخضوع، والتوبة إلى الله تعالى، والرجوع. والمقتصد هو الذي خرج من عهدة الواجب، واقتصر في الرغائب، وكلما فرطت منه فرطة، أو زل زلة، فر إلى الله فرار التائب العارف بأنَّ الله تعالى مطلع عليه، ولأفعاله مراقب، المقتدي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سَدِّدُوْا وَقَارِبُوْا" (¬1)، فهو مسدد مقارب. وهذا أول مقامات الصالحين، وأدنى مراتب الأبرار. فهذا القسم ينبغي التشبه بهم لمن لم تنهض به مطية التوفيق إلى التشبه بالصديقين، وقعد به سابق القضاء عن اللحاق بحلبة السابقين؛ فإن لم يصبها وابل فَطَل، وقد استوفينا الكلام على ذلك. والسابق هو الصديق المتحقق بقوله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]؛ أي: من القيام بحق عبوديته التي وعدوه بها من أنفسهم في [ضمن] (¬2) قولهم بلى، جواباً لقوله لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]؛ أي: أنت ربنا ونحن عبادك، فلا بد من تحققهم بصفة العبودية بالتحرر من رق الأغيار، والخروج عن رِبْقَة الآثار، فلذلك ¬
لا تراهم إلا يسارعون في الخيرات، ويسابقون إلى الطاعات تحقيقاً لما تحققوا به من صدق العبودية، والقيام بحق الربوبية. ولقد قال سعيد بن جبير رحمه الله في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11]: هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر (¬1). وقال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]. وقال: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]. وهذا القسم ينبغي لكل ذي نعمة أن يتشبه بهم؛ فإنَّ لهؤلاء يوم القيامة دولة عظيمة، وملكاً كبيراً، وظلاً ظليلاً، وروضاً نضيراً. ولا يتحقق العبد بالتشبه بهم إلا إذا سارع إلى كل خير، وكانت مسارعته [ناتجة] (¬2) عن صدق في العبودية، ومحافظة لحق الربوبية، واستقام على ذلك؛ لقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: 112]. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثمَّ اسْتَقِم" (¬3). قال ذو النون رحمه الله تعالى: العبودية أن تكون عبده في كل حال، ¬
كما أنه ربك في كل حال (¬1). وذلك يكون بدوام الخوف، وملازمة الإخلاص، واستحقار النفس عن أن يكون أهلاً للقبول، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61]. روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]؛ أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال: "لا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُوْمُ وَيَتَصَدَّقُ وُيصَليْ، وَهُوَ مَعَ ذَلكَ يَخافُ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُ" (¬2). وروى ابن المبارك في "الزهد"، وغيره عن الحسن رحمه الله تعالى في الآية قال: كانوا يعملون ما يعملون من أعمال البر، ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب الله تعالى (¬3). قلت: ويدل عليه قوله تعالى في آخر الكلام: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]. ¬
وفيه تلميح إلى أن الخوف هو الذي دعاهم إلى المسابقة، والمسارعة في الخيرات الأخروية لا الدنيوية؛ لأنهم يعلمون أن الخيرات الدنيوية شاغلة عن الخيرات الأخروية، ألا ترى أنها شغلت سليمان بن داود عليه السلام حتى فاتته صلاة العصر، فعقر الخيل التي كانت تعرض عليه وهي من أفضل خيرات الدنيا لما شغلته عن ذكر ربه، فأثنى الله تعالى عليه بعقرها، والإعراض عنها بقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 31]؛ يعني: الشمس، وإضمارُها من غير ذكر لها لدلالة العشي عليها. {رُدُّوهَا عَلَيَّ}؛ يعني: الخيل الصافنات الجياد. {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33]؛ أي: فطفق، وأخذ يمسحها مسحاً بضرب سوقها وأعناقها بالسيف، كما رواه الطبراني في "الأوسط"، والإسماعيلي في "معجمه"، وابن مردويه بإسناد حسن، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآية قال: "قَطَعَ سُوْقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسَّيْفِ" (¬1). وقد قال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: ما شغلك عن الله ¬
تعالى من أهل أو ولد فهو عليك مشؤوم (¬1). وكذلك المال، وإنما سكت عنه أبو سليمان؛ لأنَّ الأهل والولد أعز من المال، فإذا كان ما شغل العبد منها عن الله تعالى مشؤوماً، فما شغله عنه من المال أكثر شؤماً، فليحذر المشمِّر في طاعة الله تعالى أن يشغله شيء دون الله عن الله تعالى، ولا يستعظم نفسه عن ذلك، فقد شغلت من هو أقوى منه كآدم، وداود، وسليمان عليهم السلام، إلا أنهم أعرضوا في الحال عما شغلهم مرةً، وفرُّوا إلى الله تعالى، فلم يعاودوا شيئاً من ذلك، بل لازموا الحذر، وخافوا أن شغلوا بشيء من لذات الدنيا، فأعرضوا عنها توبة رجاءً لموعود الله تعالى، وخوفاً من عذابه، وطلباً لمرضاته، فينبغي للعبد أن يسلك سبيلهم، ويحذر كحذرهم. وقد روى البيهقي، وابن عساكر، وغيرهما عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَابَقَ إِلَى الْخَيْرَاتِ - يعني: الأخروية -، وَمَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ لَهَا عَنِ الشَهَوَاتِ - يعني: الدنيوية -، وَمَنْ تَرَقَّبَ الْمَوْتَ صَبَرَ عَنِ اللَّذَّاتِ، وَمَنْ زَهِدَ فِيْ الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْهِ الْمُصِيْبَاتِ" (¬2). وروى الترمذي وحسنه، والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، ¬
وأبو نعيم عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه -، والحاكم وصححه عنهما؛ قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَافَ أَدْلَجْ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّة" (¬1). وقوله: أدلج - على وزن أكرم -: من الدلج - بفتحتين -، والدلجة - بالضم، والفتح -؛ وهما السير أول الليل، والإدلاج - بالتشديد -: السير من آخره، وهكذا في "القاموس" (¬2). والمراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل"؛ أي: قبل غيره، فينجو مما يخاف منه غيره بسبب التأخر تشبيهاً بمن يسير أول الليل فيسبق غيره ممن نام ولم يدلج، أو يسبق ما كان يحذر في طريقه. وقد قيل: عند الصباح يحمد القوم السرى (¬3). فالإدلاج في الحديث استعارة للتقدم في الأعمال الصالحة، والاستكثار منها، فبذلك يكون السبق في الدار الآخرة. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]؛ فمن عمل ذرتين ¬
من خير يرَ ما لا يراه من عمل ذرة، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19]. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "التهجد" عن معاوية بن صالح عن عبد الملك - يرفع الحديث -، وفي كتاب "صفة الجنة" عن الحسن بن علي، [عن علي]- رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ فِيْ الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ أَعْلاهَا حُلَلٌ، وَمِنْ أَسْفَلِهَا خَيْلٌ مِنْ ذَهَبٍ مُسْرَجَةٌ، لُجُمُهُ مِنْ درٍّ وَيَاقُوْتٍ، لا تُرَوِّثُ، وَلا تَبُوْلُ، لَهَا أَجْنِحَةٌ، خَطْوُهَا مَدُّ بَصَرِهَا، فَيَرْكَبُهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ". وقال عبد الملك (¬1): "فيركبها أولياءُ اللهِ، فتطيرُ بهم من الجنة حيث شاؤوا، فيناديهم الذين أسفلُ منهم فيقولون: يا أهلَ الجنةِ! أنصفُونا، يا ربِّ! بمَ نالَ عبادُك منك هذه الكرامةَ؟ فيقول لهم الربُّ عز وجل: كانوا يقومون بالليل وكنتم تنامون، وكانوا يصُومون وكنتم تأكلون، وكانوا يُنفقون وكنتم تَبخلون، وكانوا يقاتلون وكنتم تَجبُنون" (¬2). وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أَلا أَدَلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ "قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إِسبَاغُ الْوُضُوْءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى ¬
الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ؟ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ" (¬1). وروى البزَّار، والطبراني عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَرْفَعُ اللهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ " قالوا: نعم، قال: "تَحْلُمُ عَلَى مَنْ جَهِلَ عَلَيْكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ" (¬2). وروى ابن المبارك في "الزهد" عن أبي المتوكل الناجي مرسلاً قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الدَّرَجَةَ فِيْ الْجَنَّةِ فَوْقَ الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَرْفَعُ بَصَرَهُ فَيَلْمَعُ لَهُ بَرْقٌ يَكَادُ يَخْطَفُ بَصَرَهُ، فَيَفْزَعُ لِذَلِك، فَيَقُوْلُ: مَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: هَذَا نُوْرُ أَخِيْكَ فُلان، فَيقُوْلُ: أَخِي فُلان؟ كَنَّا نَعْمَلُ فِي الدُّنْيَا جَمِيْعًا، وَقَدْ فُضِّلَ عَلَيَّ هَكَذَا؟ فَيُقَالُ لَهُ: إنَّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْكَ عَمَلاً، ثُمَّ يُجْعَلُ فِي قَلْبِهِ الرِّضَا حَتَّى يَرْضَى" (¬3). واعلم أنَّ السبق والفضل في الجنة تارةً يكون بكثرة العمل كما يسبق الصائم المفطر، والقائم النائم، والمجاهد القاعد، والكريم البخيل. وتارة يكون بحسن العمل، وحسن تأديته، والأدب فيه. وتارةً يكون بعمل الأركان. ¬
وتارةً بعمل القلب والجنان. ولا شك أنَّ من كانت معاملته قلبية أفضل وأسبق ممن معاملته عملية قالبية، كذلك من كان [تقياً] (¬1) معرضاً عن العصيان وأكل الحرام أسبق وأفضل ممن كان مخلطاً. ومن ثمَّ قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: انظر درهمك من أين هو وصَلِّ في الصف الأخير. رواه أبو نعيم (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن يوسف الفِريابي قال: قلت لسفيان: أرى الناس يقولون: سفيان الثوري وأنت تنام بالليل! فقال لي: اسكت! ملاك هذا الأمر التقوى (¬3). فإنْ جَمَعَ بين الأعمال الظاهرة من أعمال البر والتقوى من أعمال القلب كان أمره أتم، وسبقه أقوى، وفضله أكثر. ولا يفهم من مقالة سفيان أنه مدح الإعراض عن ظواهر الأعمال. ولقد أنصف عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ورضي عنه في قوله: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيراً فهو خير إلى خير. رواه ابن أبي الدنيا (¬4). ¬
وقلت في معنى ذلك: [من الرمل] لَيْسَ تَقْوَىْ اللهِ صَوْماً لا وَلا ... أَنْ يَقُوْمَ اللَّيْلَ عَبْدٌ خَلَّطا إِنَّها تَرْكُ الْمَعاصِيْ ثُمَّ أَنْ ... جاءَ بِالْفَرْضِ وَما أَنْ فَرَّطا فَإِذا ما زادَ خَيْراً بَعْدَ ذا ... فَهْوُ خَيْرٌ، وَمِنَ اللهِ الْعَطا رُبَّ عَبْدٍ عامِلٍ لَمْ يَأْلُ فِيْ ... عَمَلٍ لَكِنَّهُ قَدْ أُحْبِطَا وَفَتًى تَحْسَبُهُ مِنْ دُوْنِهِ ... وَلَقَدْ نالَ مَقاماً أَوْسَطا فَاحْذَرِ الإِفْراطَ وَالتَّفْرِيْطَ فِيْ ... كُلِّ أَمْرٍ مِنْكَ وَاذْهَبْ مُقْسِطا تَسْبِقِ الْغالِيَ فِيْ أَعْمالِهِ ... وَتَنَلْ بِالْعَدْلِ ما لَنْ تَسْخَطا وقد لَمَّحنا في هذا المقالة إلى الجواب عن سؤال، وهو أن يقال: لقد مدحت السبق في الأعمال، وحقيقة الاجتهاد، واتقاء الله حق تقاته، وقد قال الله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2].
وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]؟ والجواب عن ذلك: أنَّ المراد بالسبق: الاجتهاد بقدر الوسع، والطاعة في غير تكلف ولا تشدد، بل ما كان مع النشاط، وسكون القلب، وطمأنينة النفس، ألا ترى أنَّ الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]؟ ولا يكون ما ذكرناه إلا إذا سلك طريقاً وسطاً بين الإفراط والتفريط؛ فإن خيار الأمور أوسطها، والحسنة بين السيئتين. وفي الحديث: "أَنَا وَأتْقِيَاءُ أُمَّتِي بَرَاءُ مِنَ التَّكَلُّفِ" (¬1). وفي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُوْنَ"؛ قالها ثلاثاً (¬2). قال النووي رحمه الله: المتنطعون: المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد (¬3). وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها ¬
وعندها امرأة؛ قال: "مَنْ هَذِهِ؟ " قالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها، قال: "مَهْ! عَلَيْكُمْ بِما تُطِيْقُوْنَ، فَوَاللهِ لَنْ يَمَلَّ اللهُ حَتَّىْ تَمَلُّوْا" وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه (¬1). ومعنى: "لا يمل الله حتى تملوا"؛ أي: لا يقطع ثوابه عنكم، وجزاء أعمالكم حتى تملوا فتتركوا العمل، فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم، وفضله عليكم. وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الدِّيْنَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ، فَسَددُوْا، وَقَارِبُوْا، وَأَبْشِرُوْا، وَاسْتَعِيْنُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ" (¬2). وفي رواية: "سَدِّدُوْا وَقَارِبُوْا، وَاغْدُوْا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ؛ القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا" (¬3). والمراد بالقصد: الاقتصاد مع المداومة. والغدوة: سير أول النهار. والروحة: سير آخره. والدلجة: سير أول الليل. وهذا تمثيل واستعارة؛ ومعناه: استعينوا على طاعة الله بالأعمال ¬
في وقت نشاطكم، وفرك قلوبهم بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون، وتبلغون مقصودكم، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات، ويستريح هو ودابته في غيرها، فيصل إلى مقصده من غير مشقة ولا تكلف. وروى عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: "إِنَّ هَذا الدِّيْنَ مَتِيْنٌ فَأَوْغِلُوْا فِيْهِ بِرِفْقٍ، وَلا تُبَغِّضُوْا إِلَىْ أَنْفُسِكُمْ عِبادَةَ اللهِ؛ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لا أَرْضاً قَطَعَ وَلا ظَهراً أَبْقَىْ" (¬1). وأخرجه البزار، والحاكم في "علوم الحديث"، والبيهقي، وأبو نعيم، والقضاعي، والعسكري في "الأمثال"، والخطابي في "العزلة" عن محمد بن المنكدر، عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعا بنحوه بلفظ الإفراد (¬2). وصدْرُه عند الإمام أحمد من حديث أنس - رضي الله عنه - (¬3). وهو من البت: وهو القطع؛ يريد: أن هذا الدين مع كونه سهلاً سمحاً متينٌ شديد؛ فالمتعبد به - وإن اجتهد - ينبغي أن يرفق بنفسه؛ فإنَّ الذي يبالغ فيه بغير رفق، ويتكلف من العبادة فوق طاقته يوشك أن يمل حتى ينقطع عن العبادة الواجبة، فيكون كالذي يعسِفُ الرِّكابَ، ويحملها ¬
على السَّير الحثيث ما لا تطيقه رجاءَ الإسراع، فينقطع ظهره، فلا هو قطع الأرض الذي أراد، ولا هو أبقى ظهره سالماً ينتفع به بعد ذلك. وهذا وجه ذم الإفراط والتفريط والتقصير عن الاجتهاد المأمور به في مثل قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، وقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 1 - 2]. وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]. قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: "أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَقْلاً، وَأَوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، وَأَسْرَعُكُمْ فِي طَاعَةِ اللهِ". رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في "تاريخه" (¬1). فإذا قصر العبد عن ما يستطيعه من العمل كان حرِياً بالذم؛ لأنه ترك ما خلقه سيده سبحانه وتعالى من أجله، وهو العبادة؛ ألا ترى أن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؟ ¬
وروى الطبراني في "مسند الشاميين"، والحاكم في "تاريخه"، والبيهقي في "شعبه" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللهُ عز وجل: إِنِّي وَالْجِنَّ وَالإنْسَ فِيْ نَبَأٍ عَظِيْمٍ: أَخْلُقُ ويُعْبَدُ غَيْرِيْ، وَأَرْزُقُ ويشْكَرُ غَيْرِيْ" (¬1). وهذا وجه ذم التفريط في العبادة، فإذا كان الذم واقعاً على طرفي التفريط والإفراط، فالمحمود المقبول ما كان وسطاً بينهما. وروى ابن جرير عن يزيد بن مرة الجعفي قال: العلم خير من العمل، والحسنة بين السيئتين، وخير الأمور أوساطها (¬2). والجملة الأخيرة رواها ابن جرير، والبيهقي عن مطرف، ورواها ابن السمعاني في "ذيل تاريخ بغداد" بسند مجهول من حديث علي - رضي الله عنه - مرفوعاً (¬3). وفي "الفردوس" للديلمي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في حديث: "وَخَيْرُ الأَعْمَالِ أَوْساطُها" (¬4). وروى أبو يعلى بسند رجاله ثقات عن وهب بن منبه رحمه الله ¬
تعالى قال: إن لكل شيء طرفين ووسطاً؛ فإذا أمسك بأحد الطرفين مال الآخر، وإذ أمسك بالوسط اعتدل الطرفان؛ فعليكم بالأوساط من الأشياء (¬1). وروى العسكري عن الأوزاعي رحمه الله تعالى قال: ما من أَمْرٍ أَمَرَ الله تعالى به إلا عارض الشيطان فيه بخصلتين لا يبالي أيها أصاب؛ الغلو، والتقصير (¬2). وروى أبو نعيم عن إسحاق بن سويد قال: تعبَّدَ عبد الله بن مُطرِّف، فقال له أبوه: أي عبد الله! العلم أفضل من العمل، والسيئة بين الحسنتين، وشر السير (¬3) الحقحقة. قال أبو نعيم: كذا قال: السيئة بين الحسنتين، وقد قيل: الحسنة بين السيئتين؛ يعني: ترك الغلو والتقصير (¬4). والحقحقة: أرفع السير، وأتعبه للظهر، أو اللجاج في السير، أو أن يلح في السير حتى تعطب راحلته، أو تنقطع. والمعروف من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأكثر أصحابه، وأفاضل السلف من التابعين ممن بعدهم الاعتدال في الطاعة، وهذا عين طريق السابقين؛ ¬
فمن أخذ في طريقهم واستقام عليها فهو من الصديقين، كما قال حذيفة - رضي الله عنه -: يا معشر القراء! استقيموا، ولئن استقمتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يمينا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً. رواه أبو القاسم الأصبهاني (¬1). ولقد أثنى الله تعالى على أهل الاستقامة بما بيَّن من مما جبل عليه الإنسان من الضجر والملل، فمن كان له دوام على الطاعة وقد جبل على الملل فله فضل عظيم، فقال الله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19 - 23] الآيات. قال عكرمة في تفسير هلوع: الضجر. رواه ابن المنذر (¬2). وفي "القاموس": إنه الضَّجور الذي لا يصبر على المصائب (¬3). وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: سئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الهلوع، فقال: هو كما قال الله تعالى: إذا مسه الشر كان جزوعا، وإذا مسه الخير كان منوعاً (¬4). ¬
وروى ابن المنذر عن الحسن رحمه الله تعالى: أنه سئل عن قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19]؛ قال: اقرأ ما بعدها، فقرأ: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 20 - 21]، قال: هو هكذا (¬1). وروى عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي في قوله تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 22 - 23]؟ قال: الصلاة المكتوبة (¬2). قال الله تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج: 22 - 35]. استثنى من هذه صفاتهم من المطبوعين من جنس البشر على الهلع، والجزع، والطمع ثناءً عليهم بما خرجوا به من طباعهم إلى طاعة بارئهم، وعبادة منشئهم بحيث استغرقوا في طاعته، وبدلت سيئاتهم حسنات، ¬
تنبيه
وهذا مثال الصديقين، وحال السابقين والمقربين؛ ألا ترى أنَّ الله تعالى لم يكتف لهم بالإخبار بأنهم في جناته حتى أخبر بأنهم مكرمون؟ فيها إشارة إلى مزيد تقربهم. * تَنْبِيْهٌ: قد يلحق الله الأبرار بالسابقين وأصحاب اليمين بالمقربين: إما لمحبته لهم لقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سأله السائل: يا رسول الله! المرء يحب قوماً ولمَّا يلحق بهم؟ قال: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" (¬1). وإمَّا لأنه ينوي أعمال السابقين، ويريد التخلق بأخلاقهم، لكن يمنعه من ذلك ما يقصر به عن نجاز ذلك كفقره، واشتغاله بعياله، ونحوهم، وضعف بدنه، وابتلائه بنحو الأسر، والحبس لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا يُبْعَثُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِم". رواه ابن ماجه بإسناد حسن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬2). وفي حديث أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: "عَبْدٌ رَزَقَهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيْهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيْهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ فِيْهِ حَقًّا؛ فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَرَجُلٌ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُوْلُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلانٍ؛ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ"، الحديث. رواه الترمذي وصححه (¬3). ¬
ولما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك قال: "لَقَدْ تَرَكْتُمْ بِالْمَدِيْنَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيْرًا وَلا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ، وَلا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلا وَهُمْ مَعَكُمْ"، قالوا: يا رسول الله! وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: "حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ". رواه أبو داود (¬1). وعند البخاري نحوه، وقال: "حَبَسَهُمُ العُذْرُ" (¬2). وروى مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فقال: "إِنَّ بِالْمَدِيْنَةِ لَرِجَالاً مَا سِرْتُمْ مَسِيْراً، وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلا كَانُوْا مَعَكُمْ". وفي لفظ: "إِلا شَارَكُوْكُمْ (¬3) فِي الأَجْرِ؛ حَبَسَهُم الْمَرَضُ" (¬4). وإمَّا لأنه في زمان يغلب فيه الشر وأهله، والحاملون عليه، وتغلب فيه الشهوة ودواعيها، ويقل فيه الخير وأهله، والحاملون عليه، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "غَشِيَتْكُمُ السَّكْرَتَانِ: حُبُّ العَيْشِ، وَحُبُّ الْجَهْلِ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ لا يَأْمُرُوْن بِالْمَعْرُوْفِ، وَلا يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالقَائِمُوْنَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالسَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَارِ"؛ أي: وإن قصروا عن أعمالهم وأحوالهم يعطون أجورهم. ¬
وهذا الحديث رواه أبو نعيم كما تقدم (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامٌ الصَّبْرُ فِيْهِنَّ مِثْلَ القَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلعَامِلِ فِيْهِنَّ أَجْرُ خَمْسِيْنَ رَجُلاً يَعْمَلُوْنَ مِثْلَ عَمَلِهِ"، قيل: يا رسول الله! أجر خميس رجلاً منا أو منهم؟ قال: "بَلْ أَجْرُ خَمْسِيْنَ مِنْكُمْ". رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه من حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - (¬2). وأورده الغزالي في "الإحياء"، وزاد فيه: "إِنَّكَمْ تَجِدُوْنَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَاناً وَلا يَجِدُوْنَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَاناً" (¬3). وقد يكون لحاق من ليس من السابقين بهم لغير معنى يرجع فيه إليه سوى الإيمان، بل لما بينهما من التناسب، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]. وقال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد: 23]. وروى سعيد بن منصور، وهنَاد بن السَّرِي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في "سننه" عن ابن ¬
عباس - رضي الله عنهما - قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة - وإن كانوا دونه في العمل - لتقر بهم عينه، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21] (¬1). قال أبو مجلز في الآية: يجمع الله له ذريته كما يحب أن يجتمعوا له في الدنيا. رواه ابن المنذر (¬2). وقال سعيد بن جبير رحمه الله: يدخل الرجل الجنة فيقول: أين أمي؟ أين ولدي؟ أين زوجتي؟ فيقال: لم يعملوا مثل عملك، فيقول: كنت أعمل لي ولهم، ثم قرأ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ} [الرعد: 23] (¬3)؛ يعني: من آمن بالتوحيد بعد هؤلاء من آبائهم، وأزواجهم، وذرياتهم يدخلون معهم. وقال أبو مجلز رحمه الله تعالى في هذه الآية: علم الله أنَّ المؤمن يحب أن يجمع الله له أهله وشمله في الدنيا، فأحب أن يجمعهم له في الآخرة (¬4). رواهما ابن أبي حاتم. ¬
تتمة
* تَتِمَّةٌ: قد ألحق الله تعالى اللاحقين بالسابقين بحسن الاتباع في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. روى أبو الشيخ عن عصمة: أنه سأل سفيان عن: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} قال: من يجيء بعدهم، قال: قلت: إلى يوم القيامة؟ قال: أرجو (¬1). فهذه الآية تدل دلالة صريحة لا شبهة فيها أنَّ من تشبه بالسابقين من المهاجرين والأنصار ألحقه الله بهم. نعم، عليه أن يعرف حقهم، ويحفظ سبقهم، ويحبهم، ويستغفر لهم، ولا يبغضهم، ولا يسبهم؛ ألا ترى كيف يقول سبحانه وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا} ¬
{إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10]. قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: الناس على ثلاث منازل، قد مضت منزلتان، وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} الآية. ثم قال: هؤلاء المهاجرين، وهذه منزلة وقد مضت. ثم قرأ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية. ثم قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة وقد مضت. ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}. فقد مضت هاتان المنزلتان، وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذا المنزلة. رواه الحاكم وصححه، وغيره (¬1). وفي قوله: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا}؛ أي: من السابقين واللاحقين. قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: لا والله لا يكون منهم من يتناولهم وكان في قلبه الغل عليهم. رواه ابن مردويه. وسيأتي أنَّ الأبدال ما نالوا الذي نالوه إلا بسلامة الصدور، وهذه الخصلة تسبق بصاحبها أهل الصيام والقيام، والنفقات والصدقات. ¬
وقد روى النسائي، والحكيم الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ"، فاطلع رجل من الأنصار تَنطُف لحيته ماء من وضوء، معلق نعليه في يده الشمال، فلما كان من الغد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، فاطلع ذلك الرجل على مثل مرتبته الأولى، فلما كان من الغد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فاطلع ذلك الرجل، فلما قام الرجل اتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً؛ فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تحل يميني، فقلت: قال: نعم. قال أنس: فكان عبد الله بن عمرو يحدث أنه بات معه ليلة، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه كان إذا انقلب على فراشه ذكر الله، وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، فيسبغ الوضوء، غير أني لا أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي الثلاث، وكدت أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله! إنَّه لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ثلاث مرات في ثلاثة مجالس: "يَطْلُعُ عَلَيْكُم الآنَ رَجُلٌ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ"، فاطلعت أنت تلك المرات الثلاث، فأردت أن آوي إليك، فأنظر ما عملك، قال: ما هو إلا ما قد رأيت، فانصرفت عنه، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت،
غير أني لا أجد في نفسي غلًّا لأحد من المسلمين، ولا أحسده على خير أعطاه الله إياه، فقال له عبد الله بن عمرو: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق (¬1). وروى آدم بن أبي أياس في كتاب "العلم" عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: لما قرب الله موسى عليه السلام نجياً، أبصر في ظل العرش رجلاً، فغبطه بمكانه، فسأل عنه، فلم يخبر باسمه، وأخبر بعمله، فقال له: هذا رجل كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، بَرٌّ بالوالدين، ولا يمشي بالنميمة (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عمرو بن ميمون رحمه الله تعالى قال: رأى موسى عليه السلام رجلاً عند العرش، فغبطه بمكانه، فسال عنه، فقالوا: نخبرك بعمله؛ لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يمشي بالنميمة، ولا يعق والديه، قال: أي رب! ومن يعق والديه؟ قال: يستسب لهما حتى يسبا (¬3). وقد علمت بذلك وأمثاله أن هذه الأخلاق الكريمة يسبق المتخلقون بها أهل الاجتهاد في العبادات، وإنما يكون تفاوتهم فيها على قدر ¬
تفاوتهم في المعرفة. وبهذا كان يسبق المهاجرين والأنصار. وقد علمت ما وصفهم الله به من مكارم الأخلاق، ولذلك قد تجد في أخبار من بعدهم من كان أكثر صلاة وصياماً، واجتهاداً منهم، ولا يبلغ شَأْوَهم. وهذا أبو بكر - رضي الله عنه - أسبقهم إلى الإيمان، فكان يسابقهم إلى كل خلق كريم، وعمل صالح، وكان أكثر عمله في طهارة أخلاقه، وتقديس سره، وما فضلهم ولا سبقهم بكثرة صلاة، ولا صيام، ولكن بسرٍّ وَقَرَ في صدره، وحب شغف قلبه. وكذلك علي - رضي الله عنه - سبق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد اختلف أيهما كان أسبق. وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]؛ قال: يوشع بن نون سبق إلى موسى، ومؤمن آل يس سبق إلى عيسى، وعلي بن أبي طالب سبق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وأخرجه نحوه مرفوعاً. وقد شارك أبا بكر وعلياً في هذا السبق خديجة - بل هي أسبقهم -، وزيد بن حارثة، وبلال. وقد أحسن من قال: أول من سبق إلى الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد، ¬
ومن العبيد بلال - رضي الله عنهم - (¬1). ثم إن ثم سابقين من وجه آخر بالنسبة إلى أصناف العباد؛ كما روى عبد بن حميد عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السَّابِقُوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَرْبَعَةٌ؛ فَأَنَا سَابِقُ العَرَبِ، وَسَلْمَانُ سَابِقُ فَارِسَ، وبِلالٌ سَابِقُ الْحَبَشَةِ، وَصُهَيْبٌ سَابِقُ الرَّومِ" (¬2). ورواه الحاكم وصححه عن أنس متصلاً، ولفظه: "أَنَا سَابِقُ العَرَبِ، وَصُهَيْبٌ سَابِقُ الرَّومِ، وَسَلْمَانُ سَابِقُ الفُرْسِ، وَبِلالٌ سَابِقُ الْحَبَشَةِ" (¬3). ورواه البزار، والطبراني في "الكبير"، والحاكم عن أنس، والطبراني عن أم هانئ، وابن عدي عن أبي أمامة - رضي الله عنهم - قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السُّبَّاقُ أَرْبَعَةٌ؛ أَنَا سَابِقُ العَرَبِ ... فَذَكَرَهُ" (¬4). وهذا السبق شامل للسبق إلى الإيمان والخير، وللسبق في الفضيلة أيضاً. ¬
وأفضل السابقين بعد الأنبياء عليهم السلام: أبو بكر - رضي الله عنه -، وهو سابق العرب بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رضي الله عنهم -، ثم هذه العشرة، وهم أفضل ممن سواهم حتى من سلمان، وصهيب، وبلال - رضي الله عنهم -. ومن الأدلة على سبق أبي بكر - رضي الله عنه -، وفضله مع الإجماع: ما رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنهم كانوا يخيرون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان (¬1). وروى خيثمة بسند صحيح عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: أول من صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق (¬2). وروى ابن أبي شيبة، وابن عساكر عن سالم بن أبي الجعد قال: قلت لمحمد بن الحنفية: هل كان أبو بكر - رضي الله عنه - أول القوم إسلاماً؟ قال: لا، قلت: فيم علا أبو بكر وسبقَ حتى لا يذكر أحد غير أبي بكر؟ قال: لأنه كان أفضلهم إسلاما حين أسلم حتى لحق بربه (¬3). وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسين التميميُّ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلامِ ¬
إِلاَّ كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ، وَنَظَرٌ، إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ مَا عتم عَنْهُ حِيْنَ ذَكَرْتُهُ لَهُ، وَمَا تَرَدَّدَ فِيْهِ" (¬1). وروى أبو نعيم، وابن عساكر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا كَلَّمْتُ فِي إلإِسْلامِ أَحَداً إِلا أَبَى عَلَيَّ وَرَاجَعَنِي فِي الكَلامِ إِلا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ؛ فَإنيِّ لَم أُكَلِّمْهُ فِي شَيْءٍ إِلا قَبِلَهُ وَاسْتَقَامَ عَلَيْهِ" (¬2). وروى أبو بكر بن أبي عاصم في "فضائل الصحابة" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فقال: يا أمير المؤمنين! كيف سبق المهاجرون والأنصار إلى بيعة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأنت أسبق منه سابقة، وأدرى منه منقبة؟ فقال علي - رضي الله عنه -: ويلك! إنَّ أبا بكر سبقني إلى أربعة لم أوتهن، ولم أعتض منهن بشيء: سبقني إلى إفشاء الإسلام، وقدم الهجرة، ومصاحبته في الغار، وأقام الصلاة وأنا يومئذ بالشعب يُظهِرُ إسلامَه، وأخفيه، وتستحقر في قريش وتستوفيه، والله لو أنَّ أبا بكر زال عن مزيته ما بلغ الدين - يعني: الجانبين -، ولكان الناس كرعة ككرعة طالوت، ويلك! إنَّ الله ذم الناس ومدح أبا بكر، فقال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40]، الآية ¬
كلها؛ فرحمة الله على أبي بكر، وأبلغ الله روحه مني السلام (¬1). وروى ابن الجوزي في كتاب "الإشراف على مناقب الأشراف" عن علي - رضي الله عنه - قال: سبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلى أبو بكر، وثلَّث عمر - رضي الله عنهما - (¬2). وعن عامر - يعني: الشعبي - قال: قال رجل لبلال - رضي الله عنه -: من سبق؟ قال: محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال: من صلى؟ قال: أبو بكر - رضي الله عنه -، قال الرجل: وإنما أعني في الخيل؟ قال بلال: وأنا إنما أعني في الخير (¬3). وروى اللالكائي، وابن عساكر، وغيرهما عن الشعبي: أنَّ حسان ابن ثابت - رضي الله عنه - قال في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر - رضي الله عنهما -: [من المنسرح] ثَلاثَةٌ بَرَزُوْا بِسَبْقِهِمُ (¬4) ... نَضَّرَهُمْ رَبُّهُمْ إِذا نُشِرُوْا فَلَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ لَهُ بَصَرٌ ... يُنْكِرُ تَفْضِيْلَهُمْ إِذا ذُكِرُوْا ¬
عاشُوْا بِلا فُرْقَةٍ ثَلاثَتُهُمْ (¬1) ... وَاجْتَمَعُوْا فِيْ الْمَماتِ إِذْ قُبِرُوْا (¬2) وروى ابن أبي خيثمة، وعبد الله ابن الأمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عمر - رضي الله عنه - قال: إنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - كان سابقاً مبرزاً (¬3). وروى ابن عساكر عن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حَدَّثَنِي عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ مَا سَابَقَ أَبَا بَكْرٍ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلاَّ سَبَقَهُ بِهِ (¬4). وروى الطبراني في "الأوسط" عن علي - رضي الله عنه - قال: والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر - رضي الله عنه - (¬5). وروى أبو داود، والترمذي وصححه، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق، ووافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً. ¬
قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟ "، قلت: مثله. وأتى أبو بكر - رضي الله عنه - بكل ما عنده، فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟ "، فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: "لا أسبقه إلى شيء أبداً" (¬1). وروى أبو الحسن علي بن الحسين الخلعي في "فوائده" عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الصبح، فلما صلى صلاته قال: "أَيُّكُمْ أَصْبَحَ اليَوْمَ صَائِمًا؟ " فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أما أنا يا رسول الله بتُّ لا أحدث نفسي بالصوم، وأصبحت مفطراً، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا يا رسول الله بتُّ الليلة وأنا أحدث نفسي بالصوم، فأصبحت صائما، قال: "فَأَيُّكُمْ عَادَ اليَوْمَ مَرِيْضًا؟ " فقال عمر: يا رسول الله! إنما صلينا الساعة ولم نبرح، فكيف نعود المريض؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله؛ أخبروني أن أخي عبد الرحمن بن عوف وجع فجعلت طريقي عليه، فسألت به، ثم أتيت المسجد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَأَيُّكُمْ تَصَدَّقَ اليَوْمَ صَدَقَةً؟ " فقال عمر: يا رسول الله! ما برحنا معك منذ صلينا، أو قال: ما برحنا منذ صلينا، فكيف نتصدق؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا يا رسول الله؛ لما جئت من عند عبد الرحمن دخلت المسجد فإذا سائل يسأل، وابن لعبد الرحمن بن أبي بكر معه كسرة خبز، فاجتذبتها، ¬
فناولتها إياه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: "فَأَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ"، مرتين. فلما سمع عمر بذكر الجنة تنفس فقال: "هاه"، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال كلمة رضي بها عمر - رضي الله عنه -: "رَحِمَ اللهُ عُمَرَ! يَقُوْلُ: ما سابَقْتُ أَبا بَكْرٍ إِلَىْ خَيْرٍ إِلاَّ سَبَقَنِيْ إِلَيْهِ" (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو حفص بن شاهين عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سَلْ تُعْطَ"، ولم أسمعه، فأدلج أبو بكر - رضي الله عنه -، فسرني بما قال إليه - صلى الله عليه وسلم -، ثم أتاني عمر - رضي الله عنه -، فأخبرني بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: قد سبقك إليها أبو بكر، قال عمر - رضي الله عنه -: أبو بكر؟ ما استبقنا لخير إلا سبقني إليه، إنه كان سبَّاقاً للخيرات، فقال عبد الله: ما صليت فريضةً ولا تطوعاً إلا دعوت الله في دبر صلواتي: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة نبيك محمد في أعلى جنة الخلد. أنا أرجو أن أكون دعوت [بهنَّ] (¬2) البارحة (¬3). وروى الإمام أحمد عن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سمع قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - ليلاً: "مَنْ سَرَّهُ أَنُ يَقْرَأَ القُرْآنَ رَطْبًا، فَلْيَقْرَأْهُ ¬
كَمَا يَقْرَؤُهُ ابنُ أُمِّ عَبْدٍ"، فلما أصبحت غدوت إليه لأبشره، فقال: سبقك أبو بكر (¬1). وروى أبو نعيم عن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: إني جئتك من عند رجل يُمْلِ المصاحف عن ظهر قلب، ففزع عمر - رضي الله عنه -، وغضب، وقال: ويحك! انظر ما تقول، قال: ما جئتك إلا بالحق، قال: من هو؟ ، قال: عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: ما أعلم أحداً أحق بذلك منه، وسأحدثك عن عبد الله: إنَّا سهرنا ليلة في بيت عند أبي بكر - رضي الله عنه -، وفي بعض ما يكون من حاجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم خرجنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي بيني وبين أبي بكر، فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجل يقرأ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمع إليه، فقلت: يا رسول الله! أعتمت، فغمزني بيده؛ اسْكُتْ، قال: فقرأ، وركع، وسجد، وجلس يدعو ويستغفر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سَلْ تُعْطَهْ"، ثم قال: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ القُرْآنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ قِرَاءَةَ ابنِ أُمِّ عَبْدٍ"، فعلمت أنا وصاحبي أنَّه عبد الله، فلما أصبحت غدوت إليه لأبشره، فقال: سبقك بها أبو بكر، وما سابقتُه إلى خير قط إلا سبقني إليه (¬2). وروى ابن الجوزي في "الإشراف" عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التيمي قال: كان أبو بكر - رضي الله عنه - رجلاً مؤلفاً محبباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم ¬
قريش بما كان من خير أو شر، وكان رجلاً تاجراً ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر؛ لعلمه، وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام كل من وثق به من قومه ممن يغشاه، ويجلس إليه، فأسلم على يديه - فيما بلغني - عثمان بن عفان، والزبير ابن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استجابوا لله، وأسلموا، وصلوا، فكان هؤلاء أول من أسلم وآمن بالله ورسوله بعد أبي بكر، وهم سُبَّاق هذه الأمة (¬1). وقوله: "فكان هؤلاء ... " إلى آخره احترازٌ عمن سبق مع أبي بكر - رضي الله عنهم -؛ وهم: خديجة، وعلي، وزيد بن حارثة، وبلال، وكذلك من أسلم مع هؤلاء، إلا أنَّ هؤلاء أسلموا على يد أبي بكر - رضي الله عنهم - كابن مسعود، وأبي ذر، وعمار، وأبويه، وخباب وصهيب - رضي الله عنهم -. فكل هؤلاء سابقون، والتشبه بهم مطلوب؛ فمن أراد الاقتداء بهم ينبغي أن يبحث عن ما كانوا عليه من الأعمال والأخلاق والآداب، فيتلبس بها، ويتحلى بحلاها، ولا سيما الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم -، وبالخصوص الشيخان - رضي الله عنهما -. روى الترمذي، وابن ماجه عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: كنَّا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِنَّي لا أَدْرِيْ مَا بَقَائِيَ فِيْكُمْ؛ فَاقْتدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي، ¬
وأشار إلى أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -" (¬1). وأخرجه الإمام أحمد، وابن حبان، ولفظهما: "إِنِّى لا أَدْرِيْ بَقَائِيَ فِيْكُم إِلا قَلِيْلاً؛ فَاقْتَدُوْا ... " (¬2). وفي رواية للترمذي - وقال: هذا حديث حسن -، فقال: "إِنِّى لا أَدْرِيْ مَا قَدْرُ بَقَائِيَ فِيْكُم؛ فَاقْتَدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارَ - رضي الله عنه -، وَمَا حَدَّثَكُم ابْنُ مَسْعُوْدِ - رضي الله عنه - فَصَدِّقُوْهُ" (¬3). وأخرجه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقْتَدُوا بِاللذَيْنِ مِنْ بَعْدِي - أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارَ، وَتَمَسَّكُوْا بِعَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ" (¬4). وأخرجه أبو يعلى من حديث، وقال فيه: "وَمَا حَدَّثَكُم ابْنُ مَسْعُوْدٍ فَاقْبَلُوْهُ". قلت: وفي قوله: "اقتدوا باللذين من بعدي"، ثم قال: "واهتدوا بهدي عمار" إشارة إلى مزية لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، وهي أنَّ أعمالهما ¬
وأقوالهما جميعها على السداد؛ كل ما منهما، أو فيهما صالح للاقتداء به، صواب مقبول؛ فافهم! وقد روى الحديث الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، ولفظه: "اقْتَدُوا بِاللذَيْنِ مِنْ بَعْدِي - أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ -؛ فَإِنَّهُمَا حَبْلُ اللهِ الْمَمْدُوْدُ، مَنْ تَمَسَّكَ بِهِمَا فَقَد تَمَسَّكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى الَّتِي لا انْفِصَالَ لَهَا" (¬1). أي: فإنَّ الاقتداء بهما، أو: فإنَّ هديهما حبل الله الممدود بينه وبين عباده، الموصل إليه، ومن تمسك بهديهما فقد استوثق. وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن العِرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً وَجِلَت منها القلوب، وذَرَفَت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع؛ فأوصنا، قال: "أُوْصِيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُم عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُم فَسَيَرى اخْتِلافًا كَثِيْراً؛ فَعَلَيْكُم بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ الْمَهْدِيِّيْنَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُم وَمُحْدَثَاتِ الأُمُوْرِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَة" (¬2). ¬
وروى الترمذي وصححه، ولفظه: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إنَّ هذه موعظة مودع؛ فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ فقال: "أُوصِيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُم يَرَى اخْتِلافًا كَثِيْرًا، وَإِيَّاكُم وَمُحْدَثَاتِ الأُمُوْرِ؛ فَإنَّهَا ضَلالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُم فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ الْمَهْدِيِّيْنَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِد" (¬1). وهذه الرواية تدل على مزيد التأكيد باتباع سنة الخلفاء الراشدين، والتشبه بهم في زمان الاختلاف الكثير، والاختلاط الهائل، والإحداث في الدين؛ فإنَّ الاتباع حينئذ عزيز، والانقياد للسنة حينئذ دليل على رشد العبد وثباته في الدين، ورسوخه في اليقين، ولذلك يعظم أجره حتى يكون له أجر خمسين من الأولين، كما تقدم. ومن كان كذلك كيف لا يكون من أقوى الصديقين، وأسبق السابقين؟ *** ¬
خاتمة
خَاتِمَة لا تظهر لنا حقيقة السبق في هذه الدار، فلذلك ينبغي لمن تحرى عمل السابقين أن لا يتكل على عمله، ولا يزدري من هو دونه. وقد روى المعافى بن زكريا في كتاب "الأنيس والجليس" عن المدائني قال: خطب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - الناس بعرفة، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس! إنكم قد جئتم من القريب والبعيد، وأنضببتم الظهر، وأخلقتم الثياب، وليس السابق اليوم من سبقت راحلته، ولكن السابق اليوم من غفر له (¬1). وروى ابن أبي شيبة، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"، ومن طريقه أبو نعيم عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى قال: انطلقت إلى الجمعة مع أبي بالمدائن، وبيننا وبينها فرسخ، وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - على المدائن، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1]، ألا وإنَّ القمر قد انشق، ألا وإنَّ الدنيا قد آذنت بالفراق، ألا وإنَّ اليوم المضمار، وغداً السباق. ¬
قال: فقلت لأبي: ما يعني بالسباق؟ فقال: من سبق إلى الجنة؛ أي؛ سباق من سبق إلى الجنة (¬1). والله الموفق. *** ¬
فصل
فَصَلٌ ويقال للصديق والسابق: مقرب. قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11]. قيل: السابقون الأول مبتدأٌ، والثاني توكيدٌ له، وأولئك هم المقربون خبرُه. وقال الزَّجَّاج: السابقون رُفِعَ بالابتداء، والثاني خبره. قال القرطبي: والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله (¬1). انتهى. قال أبو محمد الجريري رحمه الله تعالى: إنما قربوا إلى ربهم لأنه لم يكن لهم هَمُّ (¬2) غيره (¬3). وفي تسميتهم مقربين إشارة إلى أنَّ قربهم إنما كان بتقريب الله تعالى، إياهم من غير تعمل منهم، بل هو مجرد فضل من الله تعالى، كما ¬
قال شيخ الإسلام الجد في "الدرر اللوامع": [من السريع] عِنايَةُ اللهِ بِمَحْضِ الأفْضالْ ... لَيْسَتْ بِأَقْوالِ وَلا بِأَفْعالْ فشأن المقرب في طلب القرب الاستعانة بالله تعالى مع تسليم الأمر إليه سبحانه، كما قال الشيخ العارف بالله أرسلان الدمشقي - رضي الله عنه - في "رسالته": إن سَلَّمْت قَرَّبك، وإن نازعت أبعدك. ثم قال: إن تقربت به قربك، وإن تقربت بك أبعدك. وقلت في نظم "الرسالة": [من الرجز] سَلِّمْ يُقَرِّبْكَ وَإِلاَّ عَنْهُ بِكْ ... أَقْصاكَ هائِماً وَراءَ حُجُبِكْ إِذا تَقَرَّبْتَ بِهِ يُقَرِّبُكْ ... أَوْ بِكَ يُقْصِيْكَ إِذَنْ وَيُتْعِبُكْ وقال السياري رحمه الله تعالى: أضاف الله تعالى الأفعال إلى عباده بقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]، ثم قال: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11]، ولو لم يكونوا مقربين لم يكونوا سابقين، ولو كانت الأفعال إليهم حقيقة لكانوا متقربين لا مقربين. انتهى. ونشأ في الآية فهمان: الأول: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] إلى الخيرات والمبرات؛
{أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11]؛ أي: الذين سبق لهم القضاء بالتقريب، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا}؛ أي: عن جهنم {مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] فهم مقربون بمعنى أن الله تعالى قضى بقربهم في الأزل. وعليه: فلولا سابقة الحسنى التي سبقت لهم بالتقريب، لم يكونوا سابقين إلى الطاعات مسارعين إلى الخيرات. وهذا هو الذي فهمه السياري من الآية. وهؤلاء كلما سابقوا إلى خير، وسارعوا إلى خير، كان ذلك علامة قربهم السابق لهم في الأزل. وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله في حديث الصحيحين: "اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" (¬1). ومن لطائف أخي العارف بالله العلامة شهاب الدين رحمه الله: [من الطويل] إِذا ما أَرادَ اللهُ تَقْرِيْبَ مُبْعَدٍ ... وَساعَدَهُ سَعْدٌ وَسابِقَةُ الْحُسْنَىْ تَكَلَّمَ تَوْفِيْقاً بِخَيْرِ لِسانِهِ ... يُصِيْبُ بِهِ مِنْ حَيْثُ يُخْطِئُ فِيْ الْمَعْنَىْ ¬
الفهم الثاني: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]؛ أي: الذين تكرر منهم السبق إلى أعمال البر، وخصال الخير حتى صار ذلك لهم عادة وسنة؛ أولئك الذين يستحقون من فضل الله تعالى أن يقربهم من حظيرة قدسه، ويحادث أسرارهم بمناجاة أنسه. وعلى هذا: فالسبق إلى الطاعة - ويعبر عنه بالتقرب - يكون سبباً للتقريب؛ كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي رواه البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَال: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِليَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَي مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَإِنْ اسْتَعَاذَني لأُعِيْذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ" (¬1). فتقرب العبد إلى الله تعالى بالفرائض، ثم بالنوافل هو السبب في تقريب الله تعالى للعبد، وإن كان تقربه إليه بسابقة الحسنى التي سبقت له منه، فإذا كان العبد مبرزاً في أفعال الخير، وتكررت منه أفعال القربة، واستقام على ذلك، صار حينئذ في مقام الأحباب المقربين، فقد كان متقرباً محباً، ثم صار مقرباً حِبًّا فالتقرب على ذلك مقام الأبرار، والتقريب تحفة المصطفين الأخيار. ¬
فلذلك قال الله تعالى في السابقين الذين استقاموا على أعمال البر وأفعال الخير: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11]، ولم يقل: "المتقربون"؛ لأن المتقرب أعم من أن يكون سابقاً، أو غير سابق. وروى أبو نعيم عن عبد (¬1) الله بن شميط بن عجلان قال: كان أبي يقول: الناس ثلاثة: فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا؛ فهذا مقرب. ورجل ابتكر عمره بالذنوب، وطول الغفلة، ثم راجع بتوبته؛ فهذا صاحب يمين. ورجل ابتكر الشر في حداثته، ثم لم يزل فيه حتى خرج من الدنيا؛ فهذا صاحب شمال (¬2). وفي قوله: "وطول الغفلة" إشارة إلى أنَّ من لم يطول الغفلة بأن ألَمَّ بالذنب، ثم تاب من قريب، لا يقصر عن درجة المقربين، وكذلك هو. وقد علمت مما سبق من التشبه بالمقربين تحصل بالاستقامة على أفعال البر، والسبق إلى الخيرات، وأعمال المقربين هي أعمال الأبرار، لكن مع المداومة والتكرار والاستقامة عليها في السر والإجهار. وأفضل أعمال المقربين تأدية الفرائض، وهي لازمة للبر، إلا أنها تكون من المقرب أتم وأكمل، ثم يترقون في القربة على مقدار الترقي ¬
في التقرب بالنوافل للحديث؛ فإنَّما كانت من أنواع البر. غير أنَّ من لطائف أعمال المقربين كثرة السجود مع الفَناء في مشاهدة المعبود لقوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. والحكمة في ذلك أن الصلاة محل المناجاة، وإنما يكون قرب المناجي على قدر تقربه، ولا يتقرب العبد إلى الله تعالى بشيء أبلغ من معرفته، وكلما عرف نفسه بالذل والضعة والافتقار عرف ربه بالعز والرفعة والغنى، ولا شيء في ضعة العبد لنفسه أبلغ من وضع جبهته - وهي من أشرف أعضائه - على الأرض. وروى مسلم، وأبو داود، والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْرَبُ مَا يَكُوْنُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِد؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ" (¬1). وروى ابن المبارك عن ضمرة بن حبيب رحمه الله تعالى مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا تَقَرَّبَ العَبْدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ أَقْرَبَ مِن سُجُوْدٍ خَفِىٍّ" (¬2). وفي "مسند الشهاب" للقضاعي عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّلاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ" (¬3). ¬
ومحل القربة من الصلاة السجود لما سبق. ومن ثم أمر فيه بالدعاء؛ لأن الطلب يكون على قدر القربة. [وكذلك] (¬1) قراءة القرآن؛ لأن القربة تابعة للمحبة، فالمقرب محبوب، والمحبوب محل المناجاة، ولا نجوى أحلى من كلام الحبيب. روى الإمام أحمد، والترمذي عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أَذِنَ اللهُ تَعَالَى لِعَبْدٍ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّيْهِمَا، وَإِنَّ البِرَّ لَيُذَرُّ عَلَى رَأْسِ العَبْدِ مَا دَامَ فِي صَلاتِهِ، وَمَا تَقَرَّبَ العِبَادُ إِلَى اللهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ" (¬2)؛ يعني: القرآن. وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في "فضائل القرآن" عن فروة بن نوفل الأشجعي قال: كان خَبَّاب بن الأَرَتِّ - رضي الله عنه - لي جاراً، فقال لي يوماً: يا هنتاه! تقرَّب إلى الله تعالى ما استطعت، واعلم أنَّك لست تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه (¬3). وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ للهِ أَهْلِيْنَ مِنَ النَّاسِ"، قيل: من هم ¬
يا رسول الله؟ قال: "أَهْلُ القُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ" (¬1). ولا شك أنَّ الأهل والخاصة هم محل القربة، وأولى من غيرهم بها. وروى أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب في كتاب "الاستغناء بالقرآن"، وغيره عن عبد الله ابن الإمام أحمد - رضي الله عنهما - قال: سمعت أبي يقول: رأيت رب العزة عز وجل في النوم؛ قلت: يا رب! ما أفضل ما تقرب المتقربون به إليك؟ فقال: كلامي يا أحمد، فقلت: يا ربي! بفهم، وبغير فهم؟ قال: بفهم، وغير فهم (¬2). ومن ألطف ما يتقرب به المتقرب إلى الله تعالى كثرة ذكره لأنَّه ناشئ عن المحبة؛ إذ من أحبَّ حبيباً أكثر من ذكره. وإن كان القرآن أفضل أنواع الذكر، فإنَّ للذكر غير القرآن تأثيراً في التقريب. وفي "مسند البزار" عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! أخبرني بأفضل الأعمال وأقربها إلى الله عز وجل، قال: "أَنْ تَمُوْتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى" (¬3). ¬
وروى الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي" (¬1). وفي رواية لمسلم: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِيْنَ يَذْكُرُنِي؛ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً". وفي رواية لمسلم: "وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ هَرْوَلَةً" (¬2). وفي هذا الحديث دليل أن حسن الظن بالله من أعظم أسباب القربة، ومن ألطف القربات عند الله تعالى التقرب إلى أوليائه لأن أصل الولاية القرب، ومن تقرَّب إلى القريب قُرِّبَ، كما أنَّ من تقرب من البعيد بعد. وروى أبو حفص بن شاهين في "أفراده" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَقَرَّبُوا إِلَى اللهِ بِبُغْضِ أَهْلِ الْمَعَاصِي، وَالْقَوْهُمْ بِوُجُوْهٍ مُكْفَهِرَّةٍ، وَالتَمِسُوْا رِضَى اللهِ بِسَخَطِهِم، وَتَقَرَّبُوا إِلَى اللهِ بِالتَّبَاعُدِ مِنْهُم" (¬3). ¬
ومن أبلغ القرب إلى الله تعالى الإنفاق في سبيله عن طيب نفس من غير أن يعد النفقة غرامة؛ لأنَّ المحبة لا تتحقق إلا ببذل ما سوى المحبوب في رضاه، والقربة على قدر المحبة، ومن ثمَّ قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. وقال الله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 99]. فشهد سبحانه وتعالى لمن كان الباعث له على الإنفاق الإيمان وقصد القربة بالتقرب، وأنَّهُ حصل على القربة الحقيقية الموجبة للرحمة، كما شهد على المنافقين الذين يتخذون ما ينفقون مغرماً بأنَّ عليهم دائرة السوء حيث قال تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [التوبة: 98]. فالتقرب إلى الله تعالى بالصدقات والنفقات على حسب الإيمان وحسن النية، ومن ثمَّ ليس كل متقرب أو مقرب مقرباً، ألا تسمع قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. ظهر شِرْكه في قوله: "لأقتلنَّك"؟ حَسِبَ أنَّ المانع من قبول قربانه وجود أخيه، فتوعده بالإعدام والقتل، فأثبت لنفسه - أيضاً - حولاً وقوةً، فنبهه أخوه على أن سبب قبول القربان ليس نفس تقديم القربان ولا غيره
إلا تقوى الله بقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. وروى ابن جرير عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: إنَّ ابني آدم اللذين قربا قرباناً كان أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، وإنَّما أُمِرَا أن يُقرِّبا قرباناً، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبةً بها نفسه، وإنَّ صاحب الحرث قرَّبَ شر حرثه الكردن والزوان غير طيبة بها نفسه، وإنَّ الله تقبل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه. وايم الله! إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه (¬1). واعلم أن المتقرب إليه عظيم لا يقبل إلا ما يليق أن يقابل به، وكل شيء يتقرب به إليه لا يليق للقربة إلا إذا قرَّبه إليه المتقرب به إليه وهو مستغفر لما قربه شاهد بعظمة من يتقرب به إليه، وباحتقار نفسه أن يكون أهلاً لهذه القربة، وحينئذٍ فقد أدى حق التقرب بإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقه؛ إذ حق الربِّ الاعتراف بربوبيته وعظمته، وحق العبد الاعتراف بعبوديته وضعته وحقارتِهِ، وحق ما من العبد إلى الله تعالى استصغاره واستحقاره؛ لأن الله تعالى غنيٌّ عن كل شيء، وحق ما من الله إلى العبد استعظامه واستكثاره؛ لأنَّ العبد فقير إلى الله أبداً محتاج إليه في كل حال، فمتى شهد العبد نفسه، أو شهدَ ما منه واستعظَمَهُ، فقد خرجَ بذلك عن التقريب ¬
لأنه لم يؤدِّ حقوق التقرب. وروى الترمذي عن أبي هريرة، والبيهقي في "الشعب" عن جابر، والطبراني في "الأوسط" عن عائشة؛ قالوا - رضي الله عنهم -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السَّخِيُّ قَرِيْبٌ مِنَ اللهِ، قَرِيْبٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيْبٌ مِن الْجَنَّةِ، بَعِيْدٌ مِن النَّارِ، وَالبَخِيْلُ بَعِيْدٌ مِن اللهِ، بَعِيْدٌ مِن النَّاس، بَعِيْدٌ عِن الْجَنَّةِ، قَرِيْبٌ مِن النَّارِ، وَالْجَاهِلُ السَّخِيُّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ عَابِدٍ بَخِيْلٍ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والترمذي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأَدْناَهُم مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِل، وَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ، وَأَبْعَدُهُم مِنْهُ إِمَامٌ جَائِر" (¬2). وقوله: "وَأَدْناَهُم منه"؛ أي: أقربهم من محلِّ كرامته. وإنما كان الإمام العادل أقرب إلى الله تعالى لتخلقه بخلقه الكريم من العدل في رعيَّته وولايته. وروى أبو داود عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ ¬
أَوْلَى النَّاسِ بِاللهِ مَن بَدَأَهُم بِالسَّلامِ" (¬1). ورواه الترمذي وحسنه، ولَفظهُ: قيل: يا رسول الله! الرجلان يلتقيان، أيهما يبدأ بالسلام؟ فقال: "أَوْلاهُمَا بِاللهِ" (¬2)؛ أي: أقربهما إليه لأنه مِنْ وَلِيَ: إذا قَرُبَ. وروى البيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُكْثِرُوا الكَلامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ قسوةُ القَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِن اللهِ القَلْبُ القَاسِي" (¬3)؛ أي. ذو القلب القاسي. ومفهومه أن القلب الرحيم اللين قريب من الله تعالى. وكلما كان أرحم وأعطف كان أقرب، وفي كتاب الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. فإذا كان المحسن قريباً من رحمة الله تعالى لإحسانه، فقربه من رحمته عين قربه منه. وروى هنَّاد بن السَّري في "الزهد" عن عبيد بن عمير رحمه الله - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا ازْدَادَ رَجُلٌ مِن السُّلْطَانِ قُرْبًا إِلا ازْدَادَ عَن اللهِ بُعْدًا، وَلا كَثُرَتْ أتبَاعُهُ إِلا كَثُرَتْ شَيَاطِيْنُهُ، وَلا كَثُرَ مَالُهُ ¬
إِلا كَثُرَ حِسَابُهُ" (¬1). وروى أبو داود، والبيهقي بسند صحيح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَدَا فَقَدْ جَفَا، وَمَن اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفِلَ، وَمَنْ أَتَى أَبْوَابِ السُّلْطَانِ افْتُتِنَ، وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِن السُّلْطَانِ دُنُواً إِلا ازْدَادَ مِن اللهِ بُعْدًا" (¬2). وأخرجه الإمام أحمد، ولفظه: "وَمَن أَتَى أَبْوَابَ السَّلاطِيْنِ افْتُتِن، وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِن السُّلْطَانِ قُرْبًا إِلا ازْدَادَ مِنْ اللهِ بُعْدًا" وسنده صحيح (¬3). ويؤخذ منه أنه كلما أبعد عن السلطان قربه الله تعالى. وروى أبو نعيم عن أبي حمزة البغدادي قال: قلت لعبد الله بن دينار الجعفي رحمه الله: أوصني، قال: اتق الله في خلواتك، وحافظ على أوقات صلواتك، وغض طرفك عن لحظاتك؛ تكن عند الله مقرباً (¬4). ولا شك أن التقوى محل القربة لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55]. والقربة في دار الدنيا إنما تراد للقربة في دار الآخرة. و(عند): اسم لمكان القرب. ¬
ثمَّ إنَّ الصلاة من أفراد التقوى، إلا أنه عطفها محطف الخاص على العام اعتناءً بالصلاة التي هي قربان كل تقي، ومن ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عَن الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِن اللهِ إِلا بُعْدًا". أخرجه الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬1). فالصلاة إنما تكون قرباناً إلى الله تعالى إذا نهت صاحبها عن الفحشاء والمنكر، وذلك عين التقوى. ثم عطف على المحافظة على الصلاة غض البصر؛ لأن إطلاق البصر يغرق القلب في مطالعة الأغيار، ثم يوقع العبد في مهاوي الأوزار، وبذلك يصد العبد عن مقام القرب. واعلم أنَّ كل عمل صالح فهو قربة من الله تعالى إذا صحت فيه النية وخلا عن العجب والمن ورؤية العمل، وذلك حقيقة التقوى، وذلك لا يَعْدُو الفرائض والنوافل المشار إليها في حديث البخاري المتقدم. ولمن أهم الفرائض الإخلاص في كل عمل، فأما إذا كان العمل مشوباً بإرادة غير الله تعالى فلا يكون صاحبه براً، فضلاً عن أن يكون ¬
صدِّيقاً مقرَّباً لأنه لم يتقرب في ذلك العمل إلى ذلك الغير؛ قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]؛ إذ ضمن السؤال الإرادة والطلب، فمن عمل لغير الله تعالى فإنما سأل وطلب شيئاً من ذلك الغير، فلا يكون الله منه قريباً. ومعنى الإخلاص والصدق فيه لم يتم التقرب لمقرب حتى لا يرى نفسه أهلاً للقرب. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن مسروق قال: قال رجل عند عبد الله - يعني: ابن مسعود - رضي الله عنه -: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقربين أحب إلي، قال: فقال عبد الله: لكن هاهنا رجل ود أنه إذا مات لم يبعث؛ يعني: نفسه (¬1). ثم إنَّ التقرب إلى الله لا يكون إلا من حيث أمرك، لا من حيث تريد أنت وتستحسن، ومن ثم كان تقرب المشركين بأوثانهم بعداً أوجب لهم لعناً وطرداً كما حكى الله عنهم مشيراً إلى ذم ما هم عليه، فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 3]، أي: قالوا: ما نعبدهم، وهكذا كان يقرأها ابن عباس كما رواه سعيد بن منصور، وسعيد بن جبير ¬
كما رواه عبد بن حميد (¬1). ومن حكمته سبحانه وتعالى في هؤلاء إذا ماتوا على ما زعموه قربةً من عبادة الأوثان أنه يحلهم دار الهوان، فإذا قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون: 107] أجابهم بقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. ومن هذا القبيل: من تقرَّب إلى الله تعالى بمعصية كالغناء، وضرب الآلة، أو بما لم يكن مشروعًا كمن يتقرب إلى الله تعالى بالسكوت الدائم أو بترك أكل اللحم تحرجاً، أو بسجود غير مشروع، أو بربط نفسه بحبل لئلا ينام؛ فإنَّ ذلك يوجب لمن عمله البعد من حيث يظن بالقرب؛ فإنَّ العبد لا يتم تقربه لسيده إلا بتنفيذ ما يأمره به سيده، سواء وافق مراد العبد، أو خالف مراده. ولو تقرب إليه العبد بما يريده العبد، ولم يوافق رضى مولاه، لم يكن ذلك تقرباً، بل هو بالتبعد أشبه. وإذا كان العبد لا تتم له العبودية إلا بالرضى بقضاء المعبود فيما يخص العبد، فكيف تتم له عبوديته بغير الرضا بقضاء المعبود فيما يختص بالمعبود؟ ولا يتحقق قرب العبد من الرب إلا بالتحقق بالعبودية، ولا تتحقق العبودية إلا بالرضا بقضاء المعبود في كل قضية. وقد روى ابن جهضم عن سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: ¬
إنَّ الله اصطنع إلى أوليائه ثلاث خصال؛ لا يطمعهم من حيث يطمعون، ويشوش عليهم تدبيرهم لأنفسهم، ولا يظفر بهم عدوهم (¬1). يريد عز وجل أن لا يرجو غيره، ولا يخافوا سواه؛ لأنه البار بهم، اللطيف الكريم. والأولياء هم المقربون؛ لأنَّ أصل الولاية القرب، فإذا كان هذا عادة الله في المقربين، فعليهم أن يقطعوا الأطماع في سوى ما يرزقهم، ويدَعوا التدبير لأنفسهم، ويكلوا أمرهم إلى تدبيره لهم، وبذلك يتم قربهم، وتكمل ولايتهم، ولا يحققهم بذلك مثل علمهم بأنَّه أقرب إليهم من حبل الوريد، وأَعْلَم منهم بما يصلحهم؛ كما روى أبو نعيم عن وهب: أنه قرأ في بعض كتب الله: يا ابن آدم! ما أنصفتني؛ تذكر بي وتنساني، وتدعوا إلي (¬2) وتفر مني، خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد، ولا يزال ملك كريم قد نزل إليك من أجلك، ولا يزال ملك لهم (¬3) قد صعد إلي منك بعمل قبيح. يا ابن آدم! إن أحب ما تكون إلي، وأقرب ما تكون مني إذا كنت راضياً بما قسمت لك، وأبغض ما تكون إلي، وأبعد [ما تكون مني إذا ¬
كنت] (¬1) ساخطاً لاهياً عما قسمت لك. يا ابن آدم! أطعني فيما أمرتك، ولا تعلمني بما يصلحك؛ إني عالم بخلقي، أنا أُكرم من أكرمني، وأهين من كان عليه أمري، لست بناظر في حق عبدي حتى ينظر العبد في حقي (¬2). وقد روى ابن جهضم عن سهل قال: من نظر إلى الله قريباً منه بعد عن قلبه كل شيء سوى الله، ومن طلب مرضاته أرضاه الله، ومن أسلم قلبه تولى الله جوارحه (¬3). وعن حال الرضا والتحقق فيه [عبّر ذو النون المصري رحمه الله تعالى بقوله: من تقرب إلى الله بتلف نفسه، حفظ الله عليه عليه نفسه، كما رواه ابن جهضم، فعبر بتلف النفس عن محوها في مرضاة الله تعالى، وعدم الاعتداد] (¬4) بها، والالتفات إلى ما تريد وتهوى، ومن ثمَّ كان الشهيد حياً عند الله تعالى مرزوقاً؛ لأنه أتلف نفسه في طلب رضى الله تعالى، وإنما يكون تلف النفس سبباً لحفظها إذا أتلفها صاحبها من حيث أُمر لا من حيث نهي، ألا ترى أنَّ الله تعالى يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، ويقول تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]؟ ¬
تنبيه
ثمَّ يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]. وقد تعد النفس منعها عن شهواتها ومراداتها تلفاً وهلاكاً، فإنَّ منعها من حيث منعها الله تعالى فقد أحياها عند الله، وإن أماتها في نظرها. ومتى فنيت في نظرها، وبقيت عند الله تعالى، فقد تحققت بمقام المقرب، وعاشت في دار المقامة، وحييت بالنعمة والكرامة. * تنبِيْهٌ: دليل التشبه بالمقربين معروف من أدلة التشبه بالصالحين والصديقين والسابقين. وروى ابن جهضم عن الجنيد رحمه الله تعالى قال: إن الله ندب العباد إلى طلب القربة إليه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]؛ قال: والإيمان بهذه العصابة من أفضل القربات؛ يعني: الإيمان بطريق الصوفية. قال في "القاموس": الوسيلة والوسالة: المنزلة عند الملك، والدرجة، والقربة. ووسل إلى الله توسيلاً: عمل عملاً يقرب إليه؛ كتوسل (¬1). فهذه الآية دليل على إرشاد المؤمنين إلى طلب درجة المقربين، ¬
[ ..... ] (¬1) الترغيب في طلب مقام المقربين مما أعده الله لهم عند الموت بقوله تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 86 - 91]. قال الربيع بن خُثَيم رحمه الله تعالى في قوله: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 88، 89]، قال: هذا عند الموت، {وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89]؛ قال: تخبأ له الجنة إلى يوم يبعث. وفي قوله: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} [الواقعة: 92، 93]، قال: هذا عند الموت، {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 94]، قال: تخبأ له الجحيم إلى يوم يبعث. رواه ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد" (¬2). وقال أبو العالية رحمه الله: لم يكن أحد من المقربين يفارق الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه، ثم يقبض. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬3). ¬
وفسر ابن عباس - رضي الله عنهما - الروح بالراحة، والريحان بالاستراحة (¬1). ومجاهد [رحمه الله تعالى الروح بالفرح، والريحان بالرزق. رواهما ابن جرير] (¬2). وقال الحسن: أما والله إنهم ليبشرون بذلك عند الموت. روى ذلك عنهما عبد بن حميد، وغيره (¬3). وروى ابن المنذر عن ابن عباس قال: الريحان الرزق (¬4). وفي الآية تمييز المقربين عن أصحاب اليمين؛ فإنَّ أصحاب اليمين يسلمون من المكروهات عند الموت، ويشاركهم المقربون في السلامة، ويمتازون عليهم بالروح والريحان، وما لقيه الميت عند الموت فما بعده أبلغ من خير أو شر، إلا المؤمن العاصي فقد يخلص من ذنبه مما يلقاه عند الموت من كرب أو هول، وقد يبقى عليه بقية تكفر بما بعد الموت من الأهوال. فأما أصحاب اليمين فإنَّهم يترقون فيما يجدونه عند الموت من الخير، والمقربون أولى بذلك. ¬
ولحصول القربة للعبد علامة في العبد، وعلامة من الله تعالى للعبد: فأمَّا علامة القرب في العبد فمحبة لقاء الله تعالى، والطمأنينة بذكره لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَه". رواه الشيخان، وغيرهما من حديث عبادة، وعائشة - رضي الله عنهما - (¬1). ولما ادعى اليهود ولاية الله والقرب منه امتحنهم الله بتمني الموت، وعرَّفهم أنهم لا يتمنونه، وأكذبهم بعدم تمنيه، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الجمعة: 6، 7]؛ أي: من المعاصي التي هي سبب البعد والعداوة. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 94 - 96]. ادَّعوا القرب فأكذبهم، وعرفهم أنهم غير مشتاقين إلى لقاء الله، ويؤثرون طول العمر على لقائه، ولو كانوا متقربين إليه لأحبوا لقاءه، فلما لم يحبوا لقاءه، وأحبوا البقاء في دار الدنيا، علم أنهم عملوا أعمالًا ¬
أبعدتهم عنه، وطول العمر لو حصل لهم لم ينفعهم، ولم يزحزحهم عن البعد والتعذيب. وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتَمَنَّيَن أَحَدُكُم الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بهِ" (¬1) من حيث إنَّ هذا التمني ليس الباعث عليه الشوق إلى لقاء الله، ولا القرب منه، وإنما هو التباعد عما لا يلائم النفس من الضر الذي يصيبه في الدنيا، ولعل ذلك الضر يكون سبباً في القرب من الله، ورفع المنزلة عنده. وأمَّا الطمأنينة بذكر الله تعالى فلأنها ناشئة عن الأنس به، والأنس لا يتحقق إلا بتحقق القرب. روى ابن جهضم عن أبي سعيد الخزَّاز قال: حدثني بعض العلماء قال: بينما عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهم السلام يسيران جرى ذكر شيء من العلم بينهما، فصاح يحى وقال: إن لله عباداً إذا ذكروا عظمة الله طاشت عقولهم، وكادت أن تتقطع أوصالهم. فقال عيسى: إنَّ لله عباداً ألطف من هؤلاء، وأسكن؛ إذا ذكروا الله لم يصبهم ذلك لأنهم معه يسمعون كلامه من قرب لا من بعد، فبم يطيشون؟ فقال يحيى: لقد سقيتني بكأس أرويتني، وأزويت بعض خيري. وعن الفتح بن شخرف رحمه الله قال: رأيت سعدون قائماً على حلقة ذي النون رحمة الله عليهما، وعليه جبة صوفٍ ضيقة الكمين، على ¬
ظهره وصدره مكتوبٌ عليها: لا تباع ولا تشترى، وذو النون يتكلم على من حوله، فناداه سعدون: يا أبا الفيض! متى يكون القلب أميراً بعد ما كان أسيراً؟ فقال ذو النون: إذا اطَّلع الخبير على الضمير، فلا يرى إلا حبه اللطيف، فصرخ سعدون وخرَّ مغشياً عليه، فلما أفاق قال: يا أبا الفيض! أمن القلوب قلوبٌ تستغفر قبل أن تذنب؟ قال: نعم؛ تلك قلوب تُثَابُ قبل أن تطيع، فقال: اشرح لي، فقال: يا سعدون! أولئك قومٌ أشرقت قلوبهم بضياء روح اليقين، وأنست أبصارهم بصدق الناظرين، ثمَّ ولَّى - يعني: سعدون - وهو يقول: [من البسيط] أَهْلُ الْمَحَبَّةِ ما نالُوْا الَّذِيْ وَجَدُوْا (¬1) ... حَتَّىْ بِخِدْمَتِهِ فِيْ لَيْلٍ انْفَرَدُوْا هُمُ الْمُرِيْدُوْنَ وَالْمَوْلَىْ مُرادُهُمُ ... وَهُمْ سِواهُ مِنَ الأَحْبابِ لَمْ يُرِدُوْا حَثُّوْا الْمَطايا سِراعاً نحو سيِّدهمْ (¬2) ... وَاستمسكوا بالمليك الحي واعتمدوا (¬3) ¬
وَلَمْ تَزَلْ خَطَراتُ الْعِزِّ (¬1) تَصْرَعُهُمْ ... حَتَّىْ مِنَ الْحُزْنِ (¬2) أَعْلَىْ مَوْرِدٍ وَرَدُوْا إِذا تَدانوا مِنَ الْمَحْبُوْبِ (¬3) مَنْزِلَةً ... وَدُّوْا بأَنَّهمُ مِنْ خَلْقِهِ بَعُدُوْا نُوْرُ السَّكِيْنَةِ عالٍ فَوْقَ رُووْسِهِمُ ... فما لخلقٍ (¬4) عَلَىْ أَنْوارِهِمْ جَلَدُ فَلَوْ تَراهُمْ عَلَىْ نُجْبٍ إِذا رَكِبُوْا ... مِنَ الجَواهِرِ نَحْوَ اللهِ قَدْ قَصَدُوْا وَجِبْرئيلُ لَدَىْ طُوْبَىْ يُرَتِّبهُم ... مِنْهُ عَلَىْ قَدْرِ (¬5) ما فِيْ الْخِدْمَةِ اجْتَهَدُوْا (¬6) ¬
وأما علامة القرب من الله تعالى للعبد فتوفيق العبد لطاعة أخرى سوى الطاعة التي تقرب إليه بها أولاً، ولطفه به، وتأييده فيها كما قال الله تعالى في حديث البخاري: "وَمَا يَزَالُ العَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ... ".إلى آخره (¬1). فالمقرب المؤيد في الحركات والسكنات، ومحال أن يتقرب العبد إلى الله تعالى بإخلاص وصدق، ولا يتقرب الله منه لقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]. ولما رواه البخاري عن أنس، وعن أبي هريرة، والطبراني عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ العَبْدُ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وإذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذرَاعاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً، وإنْ أتانِي مَشْياً أتيْتُهُ هَرْوَلَةً" (¬2). وروى الإمام أحمد عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: ابنَ آدَمَ! إِنْ ذَكَرْتَنِي فِي نَفْسِكَ ذَكَرْتُكَ فِي نَفْسِي، وإنْ ذَكَرْتَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُم، وَإِنْ دَنْوْتَ مِنِّي شِبْرًا دَنَوتُ مِنْكَ ذرَاعًا، ¬
وإِنْ أتَيْتَنِي تَمْشِي أتيْتُكَ أُهَرْوِل" (¬1). واعلم أنَّ التقرب ذراعاً أو باعاً، والهرولة في الحديثين ليس المراد بهما قرب المسافة، ولا الحركة؛ فانَّ الله تعالى منزه عن ذلك، ولكنه على سبيل التمثيل والتقريب، والتعبير عن سرعة ظهور الفضل من الله تعالى، والإحسان على العبد في مقابلة إقباله على الله تعالى، وتقربه منه سبحانه بأبلغ عبارة، وأوضحها في تأدية المقصود. وفي "حلية أبي نعيم" عن ابن أبي الحواري: حدثني إسحاق بن خلف، قال: مرَّ عيسى بن مريم عليهما السلام بثلاثة من الناس قد نحلت أبدانهم، وتغيرت ألوانهم، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الخوف من النيران، قال: مخلوقاً خِفتم، وحقاً على الله أن يؤمن الخائف. ثم جاوزهم إلى ثلاثة فإذا هم أشد تغير ألوان، وأشد نحول أبدان، فقال: ما الذي بلغ بلغكم ما أرى؟ قالوا: الشوق إلى الجنان، فقال: مخلوقاً اشتقتم، وحقاً على الله أن يعطيكم ما رجوتم. قال: ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشد نحول أبدان، وأشدُّ تغير أبدان، [كأن على وجوههم المرآة من النور] فقال: ما الذي بلغكم ما أرى؟ قالوا: الحب لله، قال: أنتم المقربون، أنت المقربون (¬2). ¬
قلت: كذلك التحقيق أن أهل هذه الأحوال الثلاث كلهم محمودون لأنهم كلهم في طاعة الله، وهم متصلون بالله؛ الأولون يخافون عذاب الله، والذين يلونهم يرجون رحمته، والآخرون يحبهم ويحبونه. والخائف من النار مستجير بالله منها، مستعيذ به، وناهيك بمن هو في جوار الله تعالى، وقد أوصى بالجار. ومن اشتاق إلى الجنة إنما يطلبها ويرجوها من الله تعالى، وقد قالوا: من قصد إلينا وجب حقه علينا. ومن أحب الله أحبه الله؛ إذ ما جزاء من يحب إلا أن يُحب، غير أنَّ هؤلاء أعظم اتصالاً من الذين قبلهم، ثم قال عيسى عليه السلام عنهم: أولئك المقربون، أولئك المقربون. وروى ابن جهضم، وغيره عن أحمد بن أبي الحواري قال: سأل محمود أبا سليمان الداراني - رضي الله عنه - وأنا حاضر: ما أقرب ما يتقرب به إلى الله؟ فبكى أبو سليمان، ثم قال: مثلي يسأل عن هذا؟ أقرب ما تقرب به إليه أن يطلع على قلبك وأنت لا تريد من الدنيا والآخرة إلا إياه (¬1). وروى ابن باكُويه الشيرازي في "الألقاب"، وغيره عن أبي القاسم الجنيد رحمه الله قال: حججت على الوحدة، فجاورت بمكة، فكنت إذا جن الليل دخلت الطواف، فإذا بجارية تطوف وتقول: [من الطويل] ¬
أَبَىْ الْحبُّ أَن يَخْفَىْ وَكَمْ قَدْ كَتَمْتُهُ ... فَأَصْبَحَ عِنْدِي قَدْ أَناخَ وَطَنَّبا إِذا اشْتدَّ شَوْقيْ هامَ قَلْبِيْ بِذِكْرِهِ ... فَإِنْ رُمْتُ قُرْباً مِنْ حَبِيْبِيْ تَقَرَّبا وَيَبْدُوْ فَأَفْنَىْ ثُمَّ أَحْيَىْ بِهِ لَهُ ... ويُسْعِدُنِيْ حَتَّىْ ألَذَّ وَأَطْرَبا قال: فقلت لها: يا جارية! أما تتقين الله في مثل هذا المكان تتكلمين بهذا الكلام؟ فالتفتت إليَّ وقالت: يا جنيد! [من مجزوء الرجز] لَوْلا التُّقَىْ لَمْ تَرنيْ ... أَهْجُرُ طِيْبَ الْوَسَن إِنَّ التُّقَىْ شَرَّدَنِيْ ... كَما تَرَىْ عَنْ وَطَنِي أَهِيْمُ مِنْ وَجْدِيْ بِه ... فَحبُّهُ هَيَّمَنِيْ ثم قالت: يا جنيد! تطوف بالبيت، أم برب البيت؟ فقلت: أطوف بالبيت، فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت: سبحانك! سبحانك! ما أعظم مشيئتك في خلقك، خلقاً كالأحجار يطوفون بالأحجار، ثم أنشأت تقول: [من الطويل]
يَطُوْفُوْنَ بِالأَحْجارِ يَبْغُوْنَ قُرْبةً ... إِلَيْكَ وَهُمْ أَقْسَىْ قُلُوْباً مِنَ الصَّخْرِ وَتاهُوْا فَلَمْ يَدْرُوْا مِنَ التِّيْهِ مَنْ هُمُ ... وَحَلُّوْا مَحَلَّ الْقُرْبِ فِيْ باطِنِ النُّكْرِ (¬1) فَلَوْ أَخْلَصُوْا فِيْ الْوُدِّ غابَتْ صِفاتُهُمْ ... وَقامَتْ صِفاتُ الْوُدِّ لِلْحَقِّ بِالذِّكْرِ قال الجنيد: فغشي عليَّ من قولها، فلما أفقت لم أرها (¬2). وقد تكلمتُ على حال القرب في كتاب "منبر التوحيد" بما فيه مقنع، وليس عليه مزيد، ولي فيه أبيات لطيفة تشتمل على معان شريفة، وهي: [من مجزوء الرمل] لِيْ إِلَىْ وَجْهِ حَبِيْبِي ... مِنْ صَلاةِ الْقُرْبِ وِرْدُ لِيْ إِلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ ... نِيَّةٌ حُسْنَىْ وَقَصْدُ فَسُهُوْدِيْ فِيْ سُجُوْدِيْ ... بِوُجُوْدِيْ يَسْتَبدُّ ¬
وَمَقامِيْ فِيْ قِيامِيْ ... عِنْدَهُ شُكْرٌ وَحَمْدُ فِيْ مُناجاتِيْ نَجاتِيْ ... عَنْ سِوَى عَنْهُ يَصُدُّ قَدْ عَزَفْتُ الْغَيْرَ عَنِّيْ ... كُلُّ غَيْرٍ فَهْوَ رَدُّ لَيْسَ لِيْ فِيْ غَيْرِ حِبِّيْ ... فِيْ صَمِيْمِ الْقَلْبِ وَجْدُ صُمْتُ إِذْ صَوَّمْتُ سِرِّيْ ... وَالْهَوْى لا شَكَّ جِدُّ عَنْ هَوَىْ الأَغْيارِ حَتَّىْ ... لَيْسَ لِيْ فِيْهِنَّ عَهْدُ وَتَفَرَّدْتُ بِحُبِّيْ ... فَأنا فِيْ الْحُبِّ فَرْدُ [ ..................... ] (¬1) ... إِنَّما تَحْدُوْ وَتَشْدُوْ ¬
تتمة
إِنْ تَجِدْ غَيًّا عَرانِي ... فَهْوُ فِيْ التَّحْقِيْقِ رُشْدُ لا بِرَحْبِ الدَّهْرِ صَبًّا ... لِيْ إِلَىْ الْمَحْبُوْبِ وَجْدُ فَهْوَ مَوْلايَ وإِنِّيْ ... بَيْنَ أَقْرانِيْ لَعَبْدُ عِنْدَهُ قَلْبِيْ وَإِنِّيْ ... لَيْسَ لِيْ وَاللهِ عِنْدُ وَلَهُ أَمْرِيْ وَكُلِّي ... قَبْلَ تَبْرِيْحِيْ وَبَعْدُ يا حَبِيْبِيْ جُدْ بِهِ لِيْ ... إِنَّ شَوْقِيْ لا يُعَدُّ * تتمة: قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 18 - 21]. قال قتادة رحمه الله تعالى: عليّون فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى. {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين: 20]؛ قال: رقم لهم بخير.
{يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 21]؛ قال: المقربون من ملائكة الله. رواه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر (¬1). وروي [عن] ابن عباس: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 21]؛ كل أهل السماء (¬2). وقال ابن جريج: هم مقربو أهل كل سماء إذا بهم عمل المؤمن شيعه مقربو كل سماء حتى ينتهي العمل إلى السماء السابعة، فيشهدون حتى يثبت في السماء السابعة. رواه ابن المنذر (¬3). ثم قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 22 - 28]. فروى عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: تسنيم أشرف شراب أهل الجنة، وهو صِرف للمقربين، وممزوج لأصحاب اليمين، وأصحاب اليمين هم الأبرار، وهم سائر أهل الجنة ممن سوى المقربين (¬4). ¬
وروي مثل ذلك عن ابن مسعود، ومالك بن الحارث، وقتادة، وغيرهم (¬1). وروى ابن المنذر عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: تسنيم عين في عدن يشرب بها المقربون في عدن صرفاً، وتجري تحتهم أسفل منهم إلى أصحاب الممين، فتمزج بها أشربتهم كلها؛ الماء، والخمر، واللبن، والعسل، تطيب بها أشربتهم (¬2). وقد روي مما ذكر أنَّ المقربين في الآية الأولى غير المقربين في الآية الثانية؛ فالأولون الملائكة، والآخرون سادات أهل الجنة وسابقوهم. وقد وصف الله الملائكة بالقربة في قوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]، والصفة تحتمل أن تكون لازمة فكل الملائكة مقربون كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206]؛ يعني: الملائكهَ. ويحتمل أن تكون مخصصة، وفسر مقربو الملائكة بالكَرُوبيين (¬3)، ¬
وهم حملة العرش، أو هم ومن حوله. وروى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير رحمه الله تعالى في قوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12]؛ قال: إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا خرَّ ترعد فرائصه، حتى إنَّ إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه، ويقول: يا رب! لا أملك اليوم إلا نفسي (¬1). وروى أبو نعيم عن كعب قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ونزلت الملائكة [فصارت] صفوفاً، فيقول الله لجبريل عليه السلام: اِيت بجهنم، فيأتي بها تقاد بسبعين ألف زمام، حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مئة عام زفرت زفرة طارت لها أفئدة الخلائق، ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه، ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر، وتذهل العقول، فيفزع كل امرئٍ إلى عمله، حتى إنَّ إبراهيم يقول: بِخُلَّتِيْ لا أسألك إلا نفسي، ويقول موسى: بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي، ويقول عيسى: ¬
بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي، لا أسألك مريم والدتي، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أمتي أمتي، لا أسألك اليوم نفسي، [إنما أسألك اليوم أمتي] "، فيجيبه الجليل جل جلاله: "إنَّ أوليائي من أمتك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فوعزتي [وجلالي] لأقرن عينك في أمتك"، ثم تقف الملائكة بين يدي الله ينتظرون ما يؤمرون (¬1). ففي هذا الأثر، والذي قبله تقييد الملك بوصف التقريب، والأنبياء بوصف الرسالة إشارة إلى أنَّ غيرهم أولى بأن يرتاع لهذا الهول العظيم. وفي أثر كعب تبشير لأهل القربة من هذه الأمة - وهم الأولياء - بأن لا خوف عليهم إذ ذاك ولا حزن. وجعل الأستاذ أبو طالب المكي المقربين في قوله: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 21]، وفي قوله: {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 28] بمعنى واحد، وفسرهم في الآيتين بالمحبين لله تعالى، الذين أخلصوا وجودهم لله حقاً، فيعبدونه حقاً لأجله صرفاً، فنعيمهم في الجنة صرف. قال: {وَمِزَاجُهُ}؛ يعني: مزاج شراب الأبرار {مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 27، 28] [أي: يشربها المقرَّبون] صرفاً، وممزوجاً لأصحاب اليمين، فما طاب شراب الأبرار إلا بمزاج من شراب المقربين. ¬
قال: فعبر عن جملة نعيم الجنان بالشراب، كما عبر عن العلوم والأعمال بالكتاب، فقال: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18]، ثم قال: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 21]. فما حسن عملهم (¬1)، ولا صفت أعمالهم، ولا علا كتابهم إلا بشهادة المقربين لما قرب كتابهم منهم، وحضروه، كذلك كانوا في الدنيا تحسن علومهم بعلومهم، وترتفع أعمالهم بمشاهدتهم، ويجدون المزيد في مزيدهم (¬2) بقربهم منهم (¬3). انتهى. وفيه سياق الآيتين على نسق واحد. والمعنى أنَّ الأبرار لما كانوا يأخذون في الدنيا بسبب من أنفاس المقربين، وحبل من أعمالهم، غير أنهم لم يستقيموا كاستقامتهم؛ إذ لم يخلوا من تخليط ما في أعمالهم، نفعهم هذا الاتصال بالمقربين يوم الدين، فشهدوا أعمالهم، وزكوهم عند الله تعالى، وكانت شهادتهم لهم شفاعة لهم، ثم كانت عاقبتهم أن مزج شرابهم بشرابهم، وطاب نعيمهم بمزاح نعيمهم، ولو أخلصوا في حبهم في دار الدنيا؛ أعني: المحبة الخاصة التي تنشأ عن التعارف، وتثمر التآلف، لألحقهم الله بهم في كل ما لهم بدليل الحديث المتقدم: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"؛ فافهم! ¬
ولقد سبق قول شيخ الإسلام الجد - رضي الله عنه - مقتبسا للحديث: [من الخفيف] إِنْ تَكُنْ عَنْ مَقامِ الَّذِيْن اجْتَباهُمْ ... رَبُّهُمْ عاجِزاً وَتَطْلُبُ قُرْبا حِبَّ مَوْلاكَ وَالَّذِيْن اجْتَباهُمْ ... تَبْقَ مَعْهُمْ فَالْمَرْءُ مَعْ مَنْ أَحَبَّا ثم اعلم أنَّ عليين اسم لأعلى الجنة فيه كتب الأبرار، وفيه مساكن المقربين. قال الله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 19 - 21]. وإنما يشهدوا به لأنه مستودع في مساكنهم، وإنما كانت كتب الأبرار عندهم ليشهدوا لهم، ويطلعوا على منازلهم لأن الأعمال تدل على المنازل والمقامات، فهم مطلعون على منازل الأبرار، ولا يطلع الأبرار على منازلهم، وليس لهم من علمها إلا الترائي إليها كما يتراءى أهل الأرض نجوم السماء. وقد روى الإمام أحمد، والشيخان عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيتَرَاءَوْنَ أَهْلَ (¬1) الغُرَفِ كَمَا تَرَاءَوْنَ ¬
الكَوْاكِبَ (¬1) فِي السَّمَاء" (¬2). وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، والطبراني عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، وابن عساكر عن ابن عمر، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ العُلَى لَيَرَاهُمْ منْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُم كَمَا تَرَوْنَ الكَوْكَبَ الطَّالِعَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَ أَبَا بَكْرِ وَعُمَرَ مِنْهُم، وَأَنْعِمَا! " (¬3). وروى ابن عساكر عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ أَهْلَ عِلِّيِّيْنَ لَيَشْرُفُ أَحَدُهُم إِلَى الْجَنَّةِ فَيُضِيءُ وَجْههُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا يُضِيْءُ القَمَرُ لَيْلَةَ البَدْرِ لأَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِنَ أَبَا بَكْرِ وعُمَرَ مِنْهُم، وَأَنْعِمَا! " (¬4). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: إنَّ لأهل عليين كوى يشرفون منها، فإذا أشرف أحدهم أشرقت الجنة، فيقول أهل الجنة: قد أشرف رجل من أهل عليين (¬1). وعن محمد بن كعب رحمه الله قال: يرى في الجنة كهيئة البرق، فقيل: ما هذا؟ قيل: رجلٌ من أهل عليين تحول من غرفة إلى غرفة (¬2). وروى الشيخان عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيراءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِن فَوْقهِم كَمَا تتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ مِن الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُم"، قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يدخلها غيرهم؟ قال: "بَلى، وَالَّذِي نفسِي بِيَدهِ، رِجَالٌ آمَنُوْا بِاللهِ، وَصَدَّقُوْا الْمُرْسَلِيْنَ" (¬3). وروى ابن أبي الدنيا عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَةِ فِي الْجَنَّةِ يَقُوْلُ الَّذِيْنَ أَسْفَلَ مِنْهُم: أَي رَبِّ! بِمَ بَلَغَ عِبَادُكَ هَذهِ الكَرَامَةَ كُلَّهَا؟ فَيُقَالُ لَهُم: كَانُوْا يُصَلُّوْنَ بِاللَّيْلِ وَكُنْتُم تَنَامُوْنَ، وَكَانُوْا يَصُوْمُوْنَ وَكُنتم تأكلُوْن، وَكَانُوْا يُنْفِقُوْنَ وَكُنْتُم تَبْخَلُوْن، وَكَانُوْا يُقَاتِلُوْن وَكُنْتُم تَجْبُنُوْن" (¬4). ¬
وروى ابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةَ يَرْفَعْهُ اللهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي عِلِّيِّينَ، وَمَنْ يَتَكَبَّرْ عَلَى اللهِ دَرَجَةً يَضَعْهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ سَافِلِيْنَ" (¬1). وروى ابن المبارك في "الزهد" عن أبي المتوكل الناجي - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الدَّرَجَةَ فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ الدَّرَجِةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَرْفَعُ بَصَرَهُ فَيَلْمَعُ لَهُ بَرْقٌ يَكَادُ يَخْطَفُ بَصَرَهُ، فَيَفْزَعَ لِذلِكَ، فَيَقُوْلُ: مَا هَذَا؟ فَيقالُ: هَذَا نُوْرُ أَخِيْكَ فُلان، فَيَقُوْلُ: أَخِي فُلان؟ كُنَّا نَعْمَلُ فِي الدُّنْيَا جَمِيْعًا، وَقَد فُضِّلَ عَلَيَّ هَكَذَا؟ فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْكَ عَمَلاً، ثُمَّ يُجْعَلُ فِي قَلْبِهِ الرِّضَا حَتَّى يَرْضَى" (¬2). قلت: وهذه أعظم نعمة في الجنة على كل واحد من أهلها أن يلقيَ اللهُ الرِّضا في قلبه حتى يرضى بمقامه ومنزلته فيها، وهذا أثر من آثار رضوان الله تعالى عنهم، ومن ثمَّ وصف الله تعالى أهل ولايته وتقريبه بقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8]. وأقول في هذا المعنى، والحجة عليه قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] [من الخفيف] ¬
أَعْظَمُ ما فِيْ الْجِنانِ عِنْدِيْ ... لِكُلِّ عَبْدٍ لَهُ كَرامَة رِضْوانُ مَوْلاهُ حَتَّىْ يَرْ ... ضَىْ مِمَّا نالَ مِنْ مَقامَه إِنَّ الرِّضَا أَصْلُ كُلِّ خَيْر ... فِيْ هَذِهِ الدَّارِ وَالْقِيامَة
فصل
فَصْلٌ ويقال للصديقين: أخيار، وخيار، وقد يقال ذلك لعامة الصالحين. ويقال للصديقين: خيار الخيار، وأخيار الأخيار، وصفوة الصفوة، وخلاصة الخلاصة، وخاصة الخاصة. قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 45 - 48]. ولا يختص ذلك بالأنبياء عليهم السلام لأنَّ ذا الكفل مختلف في نبوته، والأقوى أنه غير نبي إلا أنه صديق (¬1). ¬
روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والترمذي وحسنه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وآخرون من طريق سعيد مولى طلحة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَانَ ذُوْ الكِفْلِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيْلَ" (¬1). ورواه ابن مردويه عن نافع، عن ابن. عمر، ولفظه: "كَانَ ذُوْ الكِفْلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيْلَ لا يَتَورَّعُ مِنْ ذَنْب عَمِلَهُ، فَأَتَتْهُ امْرَأةٌ، فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِيْنَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِن امْرَأَتِهِ أَرْعَدَت، وَبَكَتْ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيْكِ؟ أَكْرَهْتُكِ؟ قَالَتْ: لا، وَلَكِنَّهُ عَمَلٌ مَا عَمِلْتُهُ قَطُّ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلا الْحَاجَةُ، فَقَالَ: تَفْعَلِيْنَ أَنْتَ هَذَا وَمَا فَعَلْتِ؟ اذْهَبِي فَهِيَ لَكِ، وَقَالَ: وَاللهِ لا أَعْصِي اللهَ بَعْدَهَا أَبَدًا، فَمَاتَ مِن لَيْلَتِهِ، فَأَصْبَحَ مَكْتُوْباً عَلَى بَابِهِ: إِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لِلكِفْلِ، أَوْ قَالَ: لِذِي الكِفْلِ (¬2) (¬3). ¬
وروى عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهم عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: ما كان ذو الكفل نبياً، ولكنه كان في بني إسرائيل رجل صالح يصلي كل يوم مئة صلاة، فتوفي فتكفل له ذو الكفل من بعده، فكان يصلي كل يوم مئة صلاة، فسمي ذا الكفل (¬1). روى ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَذَا الْكِفْلِ} [ص: 48]؛ قال: رجل صالح غير نبي، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه، ويقيمهم له، ويقضي بينهم بالعدل، فسمي ذا الكفل (¬2). وقال بعض العلماء: سمي ذا الكفل لأنه تكفل بأن لا يغضب، فامتحنه الشيطان، فلم يغضب، ووفى بما كفل. وروى المفسرون، وابن أبي الدنيا في ذلك آثاراً (¬3). ¬
وهذا الفصل يغني عن عقد باب، أو فصل مستقل في التشبه بذي الكفل لأنه في جملة الصديقين والأخيار. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} [البينة: 7، 8]. قالت عائشة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله! من أكرم الخلق على الله؟ قال: "يا عائِشَةُ! ما تَقْرَئيْنَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7]؟ ". رواه ابن مردويه (¬1). وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: أتعجبون من منزلة الملائكة عند الله؟ والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من منزلة ملك، واقرؤوا إن شئتم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} [البينة: 7]. رواه ابن أبي حاتم (¬2). استنبط أبو هريرة - رضي الله عنه - من الآية تفضيل أخيار بني آدم على الملائكة، أو على بعضهم من هذه الآية؛ لأنها في سياق التقسيم بين المؤمنين وأنهم خير البرية، والمشركين وأنهم شرُّ البرية، ولا يكون القسمان موجودين إلا في الثقلين، فأمَّا الملائكة فتمحضوا للإيمان، وأما الشياطين ¬
فتمحضوا للشرك. وهذه الآية قاضية بأنَّ خيار الناس والخلق أهل الإيمان والعمل الصالح، إلا أنَّ ثمَّ أخباراً وآثاراً ناصَّةَ على أن خيار الناس ذوو أعمال خاصة، وقد أحببت أن أصرد منها هنا جملة صالحة لمناسبتها لهذا المقام. فروى الإمام أحمد، والترمذي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَفْضَلُ العِبَادِ درَجَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ الذَّاكِرُوْن اللهَ كَثِيْرًا" (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد" عن ابن عباس - رضي الله عنها - قال: قال موسى عليه السلام: أي ربِّ! أيُّ عبادك أحبُّ إليك؟ قال: أكثرهم لي ذكراً، قال: أي ربِّ! أيُّ عبادك أغنى؟ قال: الراضي بما أعطيته، قال: أي ربِّ! أيُّ عبادك أحكم؟ قال: الذي يحكم على نفسه ما يحكم على الناس (¬2). وروى الإمام أحمد عن أبي عمرو الشيباني رحمه الله تعالى قال: ¬
سأل موسى عليه السلام ربه - عز وجل -: أيُّ عبادك أحبُّ إليك؟ قال: أكثرهم لي ذكراً، قال: فأي عبادك أغنى؟ قال: أقنعهم بما أعطيته، قال: أي عبادك أعدل؟ قال: من دان نفسه (¬1). وروى آدم بن [أبي] إياس عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّ موسى عليه السلام قال: أي ربِّ! أيُّ عبادك أتقى؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: ربِّ! أيُّ عبادك أغنى؟ قال: الذي يقنع بما يؤتى، قال: ربِّ! أي عبادك أفضل؟ قال: الذي يقضي بالحق، ولا يتبع الهوى، قال: ربِّ! أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يطلب علم الناس إلى علمه لعله يسمع كلمة تدله على هدى، أو ترده عن ردى، قال: ربِّ! أي عبادك أحب إليك عملاً؟ قال: الذي لا يكذب لسانه، ولا يزني فرجه، ولا يفجر قلبه، قال: ربِّ! ثم أي على أثر هذا؟ قال: قلب مؤمن في خلق حسن. قال: ربِّ! أي عبادك أبغض إليك؟ قال: قلب كافر في خلق سيء، قال: ثم أي على أثر هذا؟ قال: جيفة بالليل، بطَّال بالنهار (¬2). وفي كتاب الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وروى البخاري في "الأدب المفرد" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ما تعدون الكرم وقد بيَّن الله الكرم؟ فأكرمكم عند الله أتقاكم، وما تعدون ¬
الحسب؟ أفضلُكم حسباً أحسنُكم خلقاً (¬1). وروى في "الصحيح" هو، والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أكرم؟ قال: "أكرَمُهُمْ عِنْدَ اللهِ أتقَاهُمْ"، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: "فَأكرَمُ النَّاسِ يُوْسُفُ نبَيُّ اللهِ بنُ يَعْقُوْبَ نبِيِّ اللهِ بْنِ إبْرَاهِيْمَ خَلِيْلِ اللهِ"، قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: "فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْألُوني؟ " قالوا: نعم، قال: "خِيَارُهُم فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُم فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوْا" (¬2). وروى الحافظ عبد الغني عن زر بن حبيش رحمه الله: أنَّ ابن مسعود - رضي الله عنه - قال يوماً لابن أخيه: يا ابن أخي! ترى الناس ما أكثرهم؟ قال: نعم، قال: لا خير فيهم إلا تائب أو تقي. ثم قال: يا ابن أخي! ترى الناس ما أكثرهم؟ قال: نعم، قال: لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم (¬3). وروى الحكيم الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُكُمُ الَّذِيْنَ إِذَا رُؤُوْا ذُكِرَ اللهُ تَعَالَى لِرُؤْيَتِهِم". وروى الإمام أحمد، وابن ماجه عن أسماء بنت يزيد رضي الله ¬
عنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أُخْبِرُكُم بِخِيْارِكُمْ؟ خِيَارُكُمُ الَّذِيْنَ إِذَا رُؤُوْا ذُكِرَ الله" (¬1). وروى أبو نعيم، والخطيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيَارُ أُمَّتِي عُلَمَاؤُهَا، وخِيَارُ عُلَمَائِهَا فُقَهَاؤُهَا (¬2)، أَلا وإِنَّ اللهَ لَيَغْفِرُ لِلعَالِمِ أَرْبَعِيْنَ ذَنْبًا قَبْلَ أَنْ يَغْفِرَ لِلجَاهِلِ ذَنْبًا وَاحِدًا، أَلا وَإِنَّ العَالِمَ الرَّحِيْمَ يَجِيْءُ يَوْمَ القِيَامَةِ وإِنَّ نُوْرَهُ قَدْ أَضَاءَ يَمْشِي فِيْهِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، كَمَا يُضِيءُ الكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ" (¬3). وروى ابن النجار عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيَارُ أُمَّتِي مِن دَعَا إِلَى اللهِ، وحَبَّبَ عِبَادَهُ إِلَيْهِ". ورواه أبو نعيم، ولفظه: "إِنَّ أَخْيَارَ الصِّدِّيقِينَ مَنْ دَعَا إِلَى اللهِ، وَحَبَّبَ عَبَادَهُ إِلَيْهِ، وَمِنْ شَرِّ الفُجَّارِ مَنْ كَثُرَتْ أَيْمَانُهُ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ" (¬4). وروى أبو يعلى عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيَارُ أُمَّتِي ¬
مَنْ دَعَا إِلَى اللهِ، وحَبَّبَ عِبَادَهُ إِلَيْهِ". وروى أبو يعلى عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنِ الأَجْوَدِ؟ اللهُ الأَجْوَدُ، وأَناَ أَجْوَدُ وَلَدِ آدَمَ، وأَجْوَدُهُمْ مِنْ بَعْدِيْ رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَنَشَرَ عِلْمَهُ؛ يَبْعَثُهُ اللهُ تَعَالَى أُمَّةً وَحْدَهُ، وَرَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ فِي سَبِيْلِ اللهِ حَتَّى يُقْتَلَ" (¬1). وروى الحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيَارُكُمْ مَن ذَكَّركُمْ بِاللهِ رُؤْيتُهُ، وَزادَ فِيْ عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، ورَغَّبَكُمْ فِي الآخِرَةِ عَمَلُهُ" (¬2). ورواه هو وعبد بن حميد، والخرائطي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ: "خَيْرُ جُلَسَائِكُم" (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان" عن الحسن مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الأَصْحَابِ صَاحِبٌ إِذَا ذَكَرْتَ اللهَ أَعَانَكَ، وإِذَا ¬
نَسِيْتَ ذَكَّرَكَ؛ خِيَارُهُمُ الَّذِيْنَ إِذَا رُؤُوْا ذُكِرَ الله" (¬1). وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسَّنه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن عبد الله ابن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُم لِصَاحِبِهِ، وخَيْرُ الْجِيْرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُم لِجَارهِ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن دُرَّة بنت أبي لهب رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ النَّاسِ أَقْرَؤُهُم، وأَفْقَهُهُم فِي دِيْنِ اللهِ، وأتْقَاهُم للهِ، وآمَرُهُم بِالْمَعْرُوْفِ، وأَنْهَاهُم عَنِ الْمُنْكَرِ، وأَوْصَلُهُم للرَّحِمِ" (¬3). وروى البخاري، والترمذي عن علي - رضي الله عنه -، والإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والإمام مالك، وابن ماجه عن عثمان - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ" (¬4). ¬
قال أبو عبد الرحمن - يعني: السلمي الراوي عن عثمان -: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا؛ وعلم القرآن في زمان عثمان حتى بلغ الحجاج (¬1). ورواه ابن ماجه عن سعد، ولفظه: "خِيارُكُمْ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير"، وابن الضِّرِّيس، وابن مردويه عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُكُم - وفي رواية: خِيَارُكُم - مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وأَقْرَأَهُ" (¬3). وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي أمامة - رضي الله عنه - زاد فيه: "إِنَّ لِحَامِلِ ¬
القُرْآنِ دَعْوَةَ مُسَتَجَابَةَ يَدْعُوْ بِهَا فَيُسْتَجَابُ لَه" (¬1). وروى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ؛ خَيَارُهُمْ فِي الْجَاهِليَّةِ خِيَارُهُم فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوْا" (¬2). وفي هذا الحديث اعتبار التفضيل بالنسب والعلم، فإذا انفردا فالتقديم بالعلم. وروى الدارمي عن الأحوص بن حكيم، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشر؟ فقال: "ألا تَسْألوْني عَن الشَّرِّ، وسَلَونِي عَن الْخَيْرِ" - يقولها ثلاثا - ثم قال: "أَلا إِنَّ شِرَارَ الشَّرِّ شِرَارُ العُلَمَاءِ، وإِنَّ خَيْرَ الْخَيْرِ خِيَارُ العُلَمَاء" (¬3). وروى سيدي الشيخ نصر المقدسي في كتاب "الحجة" عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث: "وخَيْرُ أُمَّتِي العُلَمَاءُ، ثُمَّ الْمُتَعَلِّمُوْنَ، وطُوْبَى لِمَنْ حَدَّثَ حَدِيْثًا حَتَّى يَبْلُغَ فِيَّ، وإنَّهَا حُجَّةٌ لَكُم عِنْدَ رَبِّكُم يَوْمَ القِيَامَةِ". والمراد بالعلماء هنا خيارهم، كما في حديث حكيم، وإلا فإنَّ علماء السوء شر من الجهلاء. ¬
وذكر الحافظ المزي في "تهذيب الكمال" عن محمد بن عيسى الزجاج قال: سمعت أبا عاصم - يعني: النبيل - يقول: من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى الأمور؛ فيجب أن يكون خير الناس (¬1). وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الْمُسْلِمِيْنَ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيدهِ" (¬2). وكان الشيخ العارف بالله سيدي علي بن ميمون المغربي رحمه الله تعالى يفهم أن (من) في الحديث المذكور للسببية؛ أي: من سلم المسلمون بلسانه بالتعليم، والتأديب، والنصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وييده بالتأديب، والذب عن المسلمين في الجهاد، ودفع الصائل، وإزالة المنكر، وقيادة الأعمى، وتنحية الأذى عن الطريق، وغير ذلك. وهذا الفهم في غاية اللطف، وإن كان خلف المتبادر من الحديث. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي قلابة رحمه الله: أنه قيل للقمان عليه السلام: أي الناس أعلم؟ قال: من ازداد من علم الناس إلى علمه، قال: فأي الناس أغنى؟ قال: الذي يرضى بما يؤتى، قيل: فأي الناس خير؟ قال: المؤمن الغني، قال القوم: من المال؟ قال: لا، بل من العلم؛ فإن احتاجوا إليه وجدوا عنده علماً، وإن لم يحتج ¬
الناس إليه أغنى نفسه (¬1). وروى هو في "المسند"، والأئمة الستة غير أبي داود عن أبي سعيد - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيْلِ اللهِ بِنَفْسِهِ ومَالِهِ، ثُمَّ مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِن الشِّعَابِ يَتَّقِي اللهَ، ويَدَعُ النَّاسَ مِن شَرِّه" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن أم مبشر رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ النَّاسِ مَنْزِلَةً رَجُلٌ عَلَى مَتْنِ فَرَسٍ يُخِيْفُ العَدُوَّ وَيُخِيْفُوْنهُ" (¬3)، أَي: في سبيل الله. وروى الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن أم مالك البَهَزِيَّة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ النَّاسِ فِي الفِتْنَةِ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي مَالِهِ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وُيؤَدِّي حَقَّهُ، ورُجلٌ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ فِي سَبِيْلِ اللهِ يُخِيْفُ العَدُوَّ، ويُخِيْفُوْنهُ" (¬4). وروى الحاكم في "المستدرك" نحوه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬5). ¬
وروى أبو نعيم عن معاذ - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَحَبُّ العِبَادِ إِلَى اللهِ تَعَالَى الأتقِيَاءُ الأَخْفِيَاءُ؛ الَّذِيْنَ إِذَا غَابُوْا لَمْ يُفْتَقَدْوا، وإِذَا شَهِدُوْا لَمْ يُعْرَفُوْا، وأُوَلئِكَ أَئِمَّةُ الْهُدَى، ومَصَابِيْحُ العِلْم" (¬1). وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ الْمُسْلِمِيْنَ إِسْلامًا مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُوْنَ مِن لِسَانِهِ ويَدهِ، وأَفْضَلُ الْمُؤْمِنِيْنَ إِيْمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وأَفْضَلُ الْمُهَاجِرِيْنَ مَنْ هَجَرَ مَا نهى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وأَفْضَلُ الْمُجَاهِدِيْنَ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللهِ". وروى البخاري في "أدبه"، والترمذي، وابن ماجه عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمُسْلِمُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، ويَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُم، خَيْرٌ مِنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ، ولا يَصبِرُ عَلَى أَذَاهُم" (¬2). وروى الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، والترمذي عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالِ يَلْتَقِيَانِ، فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ" (¬3). ¬
وسبق حديث أبي أمامة: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالله مَن بَدَأَهُم بِالسَّلامِ" (¬1). وروى الطبراني عن أسامة بن شريك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ عِبَادِ اللهِ إِلَى اللهِ أَحْسَنُهُم خُلُقًا" (¬2). وروى ابن ماجه، والحاكم في "المستدرك" عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِيْنَ أَحْسَنُهُم خُلُقًا" (¬3). وروى البخاري في "الأدب" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُكُم إِسْلامًا أَحَاسِنُكُم أَخْلاقًا إِذَا فَقُهُوْا" (¬4). وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ النَّاسِ أَحْسَنُهُم خُلُقاً" (¬5). وروى أبو نعيم عن يزيد بن ميسرة رحمه الله قال: كان المسيح عليه السلام يقول: إن أحببتم أن تكونوا أصفياء الله، ونور بني آدم فاعفوا عن من ظلمكم، وعودوا من لا يعودكم، وأقرضوا من لا يقرضكم، ¬
وأحسنوا إلى من لا يحسن إليكم (¬1). وروى الإمام أحمد، والبزار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيَارُكُم أَطْوَلُكُم أَعْمَارًا، وأَحْسَنُكُم أَخْلاقًا" (¬2). وروى الحاكم في "المستدرك" عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خِيَارُكُم أَطْوَلُكُم أَعْمَارًا، وأَحْسَنُكُم أَعْمَالاً" (¬3). وفي كتاب الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 1 - 2]. قال السدي في الآية: أيكم أكثر للموت ذكراً، وله أحسن استعدادا، ومنه أشد خوفاً وحذراً. رواه أبن أبي الدنيا في " الموت"، والبيهقي في "شعب الإيمان" (¬4). وقال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]. قال قتادة في الآية: لنختبرهم أيهم أتم عملاً. ¬
وقال الحسن: أشدهم للدنيا تركاً. وقال سفيان: أزهدهم في الدنيا. رواها ابن أبي حاتم (¬1). فسر قتادة العمل بالباعث عليه وهو تمام العقل، وفسره الحسن وسفيان بما يعين على العمل وهو الزهد، وترك الدنيا كأنهم يشيرون إلى أن العمل المعتد بحسنه ما كان ناشئًا عن العقل التام غير مشوب بمطلوب دنيوي، وكلما كان عقل العامل أتم، وإخلاصه أبلغ كان أحسن. وحسن العمل هو ما يحبه الله من العباد، وإنما خلق زينة الدنيا وامتحن الخلق بها، وخلق الموت منغصًا والحياة جميلة؛ ليظهر تفاوت العباد في العبادة والعمل الصالح، فاستظهار الأخيار، وتمييز الخيار هو مقصود الله تعالى من الخلق. وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم في "تاريخه" عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: "لِنَبْلُوَهُمْ أيَّهُمْ أَحْسَنُ عَقْلًا، وأَوْرَعُ عَن مَحَارِمِ اللهِ، وأَسْرعُ فِي طَاعَةِ اللهِ - عز وجل - " (¬2). وأقول ملمحاً بما سبق: [من السريع] ¬
أَحْسِنْ فَإِنَّ اللهَ مَطْلُوْبُهُ ... مِنْ خَلْقِ هَذا الْخَلْقِ أَنْ يُحْسِنُوْا وَكلَّما أَحْسَنْتَ فِيْ طاعَةٍ ... ممَّا يُجازِيْكَ بِهِ أَحْسَنُ وَالْعُمْرُ إِنْ طالَ عَلَىْ مُحْسِنٍ ... فَالْفَضْلُ فِيْهِ ظاهِرٌ بَيِّنُ وإنْ يَطُلْ عُمْرُ مُسِيْءِ فَلا ... تَعْبَأ بِهِ إِذْ حالُهُ تُحْزِنُ لَوْ يَمْلِكُ الدُّنْيا بِأَطْرافِها ... مِنْ كُل شَيْء حَسَنٍ يُمْكِنُ فَإِنَّما عُقْباهُ سُوْءٌ بِما ... دانَ يُدانُ الْعَبْدُ لا يُغْبَنُ يَحْصُدُ ما يَزْرَعُ، يَكْتالُ ما ... كالَ وَيسْتَوْفيْ كَما يَخْزِنُ وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن عبد الله بن بُسْر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ" (¬1). ¬
و [رووه] (¬1) والحاكم، وصححه هو، والترمذي، عن أبي بكرة - رضي الله عنه - بزيادة: "وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ طالَ عُمُرُهُ وَساءَ عَمَلُهُ" (¬2). وروى الديلمي عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "أَفْضَلُ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ الْمُؤْمِنُ الْمُعَمَّرُ". وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد عن طلحة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ أَحَدٌ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ مِن مُعَمَّرٍ (¬3) يُعَمَّرُ فِي الإِسْلامِ لِتَهْلِيْلِهِ، وتَكْبِيْرِه، وَتَسْبِيْحِهِ، وتَحْمِيْدهِ" (¬4). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه رحمه الله قال: قال: داود عليه السلام: رب! أي عبادك أحب إليك؟ فقال: مؤمن حسن الصورة (¬5)، قال: فأي عبادك أبغض إليك؟ قال: كافر حسن الصورة؛ ¬
فائدة
شكر هذا، وكفر هذا، قال: رب! أي عبادك أبغض إليك بعد هذا؟ قال: عبد استخارني في أمر فخرت له، فلم يرض به (¬1). * فائِدةٌ: وفي قوله: "شكر هذا وكفر هذا" إشارة إلى أنه أراد بالكافر كافر النعمة، فيدخل فيه الفاسق، فبطل ما قد يزخرفه الشيطان لأهل الخذلان من الاحتجاج بمثل هذا الأثر على استحسان اللمح إلى المرد الحسان والنظر، وكذلك الجميل الصورة إذا كان بالغاً، ورضي بمعاشرة الرجال، لذلك كان من أبغض خلق الله تعالى إليه؛ لأنه كفر نعمة الجمال، بل كل من مكن من الاستمتاع بجماله من لا يحل له الاستمتاع به من أمرد بالغ، أو امرأة، كافرٌ لهذه النعمة، غيرُ شاكرٍ لها. ومن لطيف ما اتفق لي مع بعض خطباء العصر، وعلماء الوقت: أن ذُكِرَ له وأنا حاضر ما يفعله الفسقة من حمل المرد على الشرب من آنية القهوة البنية، ثم يشربون عقب الأمرد ويسمونه زمزمة، فأنكرت ذلك، فاعترضني الخطيب، وقال لي متعجباً: يا مولانا الشيخ! "سؤر المؤمن شفاء" (¬2)، فلم أزده في الجواب على أن قلت له: وأين المؤمن؟ فحملت المؤمن في هذا اللفظ على تقدير أنه حديث على أن المراد به الكامل الإيمان. ¬
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها، والطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه -؛ كلاهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ خِيَارَ عِبَادِ اللهِ الْمُوَفُّوْنَ الْمُطَيَّبُوْنَ" (¬1). وقوله: "الموفون" جمع موفى - بضم الميم وفتح الواو مع التشديد، وبإسكان الواو مع التخفيف، والأول أولى -: وهو من اتبع ملة إبراهيم حنيفاً حيث وصفه الله تعالى بقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]. قال ابن عباس: سهام الإسلام ثلاثون سهماً، لم يتمها (¬2) أحد قبل إبراهيم؛ قال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]. رواه الحاكم وصححه، وابن مردويه (¬3). وفي رواية له قال: وفى بسهام الإسلام كلها، ولم يوفها أحد غيره - يعني: قبله - قال: وهي ثلاثون سهماً؛ عشرة في براءة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الآيات كلها. وعشرة في الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآيات كلها. ¬
وستة في: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]، من أولها الآيات كلها. وأربعة في {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج: 1]، و {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المعارج: 26، 27] الآيات كلها، فذلك ثلاثون سهماً؛ فمن وافى الله بسهم منها فقد وافاه بسهم من سهام الإسلام، ولم يوافه بسهام الإسلام كلها إلا إبراهيم عليه السلام؛ قال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] (¬1). فالموفون هم الذين اجتمعت فيهم هذه الخصال، وهم المطيبون - بفتح الياء المثناة تحت - من طيبه: إذا زكاه؛ أي: المزكون في ألسنة الناس كما زكَّى الله تعالى إبراهيم عليه السلام في ألسنة الناس، وأشار إلى ذلك بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]. قال مجاهد: يعني الثناء الحسن. رواه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، وغيرهما (¬2). فهؤلاء لما كانوا على قدم إبراهيم عليه السلام، فوفوا بما وفى كما وفى، زكَّاهم الله تعالى على ألسنة الناس كما زكاه، وكانوا خيار الناس. كما روى الإمام أحمد، وابن ماجه، والدارقطني في "الأفراد"، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي، وغيرهم عن أبي زهير الثقفي - رضي الله عنه - قال: ¬
خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبناء، أو البناوة - قال: والبناوة في الطائف - قال: "يُوْشِكُ أَنْ تَعْرِفُوْا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِن أَهْلِ النَّارِ، وخِيَارَكُم مِن شِرَارِكُم"، قالوا: بم ذاك يا رسول الله؟ قال: "بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، والثَّنَاءِ السَيئِ؛ أَنتم شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ بَعْضُكُم عَلَى بَعْضٍ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، وابن ماجه عنه قال: قال رجل: يا رسول الله! كيف لي أن أعلم إذا أحسنت، أو أسأت؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا سَمِعْتَ جِيْرَانَكَ يَقُوْلُوْنَ أَنْ قَدْ أَحْسَنْتَ فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وإِذا سَمِعْتَهُم يَقْوْلُوْنَ: قَدْ أَسَأْتَ فَقَدْ أَسَأْتَ" (¬2). وعن كُلثوم الخزاعي (¬3)، ولفظه: قال - رضي الله عنه -: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: يا رسول الله! كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أني قد أحسنت، وإذا أسأت أني قد أسأت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا قَالَ جِيْرَانُكَ: إِنَّكَ أَحْسَنْتَ فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وإِذَا قَالُوْا: قَدْ أَسَأْتَ فَقَدْ أَسَأْتَ" (¬4). ¬
واللفظ الأول كان يدل على أن شرط ذلك سماع المشهود له بالإحسان أو بالإساءة، وأما اللفظ الثاني فإنه يدل على أن مجرد شهادة الجيران تكفي، سواء سمع أم لا، وهو كذلك. والمراد معظم الجيران، أو خيارهم وأتقياؤهم. وقد سبق عن سفيان: أنَّ الرجل إذا أثنى عليه كل جيرانه كان غير مرضي، ووجهه: أنه يمالئ كل واحد منهم على ما يكون عليه من حَسَن أو قبيح، فلو أنكر على من يقع منه المنكر منهم لغضب منه، فلم يتفقوا على الثناء عليه. وروى الطبراني في "الأوسط" ورجاله رجال الصحيح، عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِيْنَ رَجُلٌ سَمْحُ البَيع، سَمْحُ الشِّرَاءِ، سَمْحُ القَضَاءِ، سَمْحُ الاقْتِضَاءِ" (¬1). وروى الشيخان، وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه فأغلظ له، فهمَّ به أصحابه، فقال رسول الله: "دَعُوْهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالاً"، ثم قال: "أَعْطُوْهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ"، قالوا: يا رسول الله! لا نجد إلا أمثلَ من سنه، قال: "أعطُوْهُ؛ فإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنَكُم قَضَاءً" (¬2). ¬
وقد روي هذا الحديث من طرق، وبألفاظ. وفي بعض ألفاظه: "إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً" (¬1). وقال شيخ الإسلام والدي - رضي الله عنه - عاقداً لهذا الحديث، مورِّياً بالقضاء بمعنى الحكم، وهو فهم لطيف كما تقدم نظيره عن ابن ميمون - رضي الله عنه -: [من الوافر] حَكَمْتَ فَلَمْ تَجُرْ فِيْ الْحُكْمِ يَوْماً ... وَقَدْ أَحْسَنْتَ فِيْ الْقَرْضِ الأَداءَ فَأَنْتَ مِنَ الْخِيارِ فَقَدْ رَويْنا ... خِيارُ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضاءَ وقلت في حاكم جائر من شأنه الجحود والمطل بالحقوق: [من الوافر] حَكَمْتَ فَجُرْتَ ثُمَّ جَحَدْتَ حَقَّا ... وَلَمْ تُحْسِنْ عَنِ الْقَرْضِ الأَداءَ فَأَنْتَ مِنَ الشّرارِ لأَنَّ جَوْراً ... وَجَحْداً شَرُّ ما فِيْ الْمَرْءِ جاءَ وَمَفْهُوْمُ الْحَدِيْثِ كَما عَلِمْنا ... شِرارُ النَّاسِ أَسْوَؤُهُمْ قَضاءَ ¬
وروى الطبراني في "الأوسط" عن علي - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خِيَارُ أُمَّتِيْ أَحِدَّاؤُهُمْ؛ الذِيْنَ إِذا غَضِبُوْا رَجَعُوْا" (¬1). وفي "الكبير" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحِدَّةُ تَعْتَرِي خِيَارَ أُمَتِي" (¬2). وروى الديلمي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحِدَّةُ لا تَكُوْنُ إِلا فِي صَالِحِيْ أُمَّتِي وَأَبْرَارِهَا، ثُمَّ تَفِيْءُ"؛ أَي: ترجع (¬3). وروى ابن عدي عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أن النبي قال: "الْحِدَّةُ تَعْتَرِيْ حَمَلَةَ (¬4) القُرْآنِ لِغَيْرَةِ (¬5) القُرْآنِ فِيْ أَجْوافِهِمْ" (¬6). وقد تقدم أن حملة القرآن خيار الناس. والحدة دون سوء الخلق، والفرق بين سوء الخلق والحدة: أن سوء ¬
الخلق لا يسلم صاحبه من الإثم بخلاف الحدة؛ فإنَّه يرجع قبل أن يدركه الإثم، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي: "الَّذِيْنَ إِذَا غَضِبُوْا رَجَعُوْا"، وفي حديث معاذ: "ثُمَّ تَفِيْءُ"؛ أي: ترجع قبل أن يدركها الإثم. وفي "القاموس" تفسير الحد والحدة بالنزق، ثم فسر النزق بالطيش والخفة (¬1)، ولعلهما طيش وخفة مخصوصان بحال الغضب. لكن يرشد حال المحتد بخلاف سيئ الخلق؛ فإنه يعبِّر على حاله وينتقل من الخفة إلى التهور. ومن ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سُوْءُ الخُلُقِ شُؤْمٌ". رواه أبو حفص بن شاهين في "أفراده" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، والخطيب عن عائشة رضي الله عنها، وزاد فيه: "وَشِرَارُكُمْ أَسْوَؤُكُمْ خُلُقًا" (¬2). وروى الإمام أحمد ورواته رواة الصحيح، والطبراني، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَحَبكمْ إِليَّ وأَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الآخِرَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاقًا، وإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِليَّ وأَبْعَدَكُمْ مِنِّي فِي الآخِرَةِ أَسْوَؤُكُمْ أَخْلاقًا"، الحديث (¬3). ¬
وهو وما قبله مع حديثي ابن عباس وأنس السابقين في الحدة: يدل على أن بينهما فرقاً، والفرق هو ما ذكرناه؛ لأن المحتد يرجع آخراً عما هم به أو وقع فيه بخلاف سيئ الخلق، كما وقع بيان ذلك فيما رواه الأصبهاني في "الترغيب" عن ميمون بن مهران رحمه الله - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ ذَنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ سُوْءِ الخُلُقِ، وذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهُ لا يَخْرُجُ مِنْ ذَنْبِ إِلا دَخَلَ فِيْ ذَنْبٍ" (¬1). وروى الطبراني في "الصغير"، والأصبهاني بإسناد ضعيف، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ شَيْءِ إِلا لَهُ تَوْبَةٌ إِلا صَاحِبَ سُوْءِ الخُلُقِ؛ فإِنَّه لا يَتُوْبُ مِنْ ذَنْبِ إِلا عَادَ فِيْ شَرٍّ مِنْهُ" (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط" عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ أُمَّتِيْ الذِيْنَ إِذَا أَسَاؤُوا اسْتَغْفَرُوا، وإِذَا أَحْسَنُوْا اسْتَبْشَرُوا، وَإِذَا سَافَرُوا قَصَّرُوْا، وأفطَرُوْا" (¬3)؛ يعني: أخذاً برخصة الله تعالى، وتيسيراً في الدين؛ لأن الدين يسر. وعليه يحمل ما رواه ابن لال في "مكارم الأخلاق" عن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَفْضَلُ أُمَّتِيْ الذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ بِالرُّخَصِ" (¬4). ¬
أي: ولا يتحرجون في دينهم ولا يشادونه. وليس المراد منه تتبع كل رخصة من كل مذهب؛ فإن هذا حرام، والطريق الموصلة إلى الله تعالى حسنة بين السيئتين، وقصد بين الإفراط والتفريط، وهما الطرفان اللذان قيل فيهما: كلا طرفي قصدِ الأمورِ ذَميمُ (¬1) وروى ابن السمعاني في "ذيل تاريخ بغداد" بسند ضعيف عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الأُمُوْرِ أَوْسَاطُهَا" (¬2). وقد أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي قلابة، وهو والبيهقي عن مطرِّف، وابن جرير عنه، وعن يزيد بن مرة الجعفي من طريقهم (¬3). وروى أبو داود عن سراقة بن مالك - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬
"خَيْرُكُمْ الْمُدَافِعُ عَنْ عَشِيْرَتهِ مَا لَمْ يَأثَمْ" (¬1). وروى الخطيب عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُكُمْ مَنْ لَمْ يتْرُكْ آخِرَتَهُ لِدُنْيَاهُ، ولا دُنيَاهُ لآخِرَتهِ، ولَمْ يَكُنْ كَلًّا عَلى النَّاس" (¬2). قلت: فيه إشارة إلى أن العبد إذا اكتفى عن الناس ولم يكن كلًّا على أحد منهم، فلا يضره في آخرته تناول دنياه، وإن كان ترك دنياه لآخرته أفضل إذا قدر على ذلك، واستقامت معه معيشته. وعلى ذلك فقوله: "ولم يكن كلًّا على الناس" جملة حالية من الضمير في قوله: "ولا دنياه لآخرته"، والواو للحال لا للعطف؛ فإنَّه لا كلام في تفضيل الزاهدين في الدنيا على الراغبين فيها، كما روى البيهقي في "الشعب" عن الحسن رحمه الله مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُكُمْ أَزْهَدُكُمْ فِي الدُّنْيَا، وأَرْغَبُكُمْ فِي الآخِرَةِ" (¬3). وروى الديلمي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبكُّم إِلى اللهِ أقلُّكُمْ طُعْمًا وأَخَفُّكُمْ بَدَناً". ¬
وروى أبو حفص بن شاهين، وأبو موسى المديني عن الجذع - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ أُمَّتِيْ الذِيْنَ لَمْ يُعْطَوْا فَيبَطَرُوْا، ولَمْ يُمْنَعُوْا فَيَسْألوْا". وفي رواية: "ولَمْ يُقتَّرْ عَليْهِمْ فَيَسْأَلوْا" (¬1). أي: لم يعطوا من الدنيا ما يبطرهم فيبطروا، ولم يمنعوا مما يحتاجون إليه، ولم يضيق عليهم في معيشتهم فيسألوا، بل رزقهم كفاف، ومعيشتهم على قدر كفايتهم. كما روى ابن أبي شيبة عن أبي الصَّهباء رحمه الله قال: طلبت المال من حلِّه فأعياني إلا رزق يوم بيوم، فقلت: إنه قد خير لي؛ فأيم الله! ما من عبد أتى برزق يوم بيوم فلم يظن أنه قد خير له إلا كان عاجزاً أو غبي الرأي (¬2). وروى الديلمي عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ فَقِيْرٌ يُعْطَى جُهْدَه" (¬3). وهو بفتح الجيم، وضمها، كما في "القاموس"؛ أي: طاقته (¬4). ¬
فأما أنه يتكلف ما لا طاقة له به فليس هذا من شأن الأخيار؛ لما سبق أنَّ الأتقياء برآء من التكلف. وروى الإمام أحمد، والترمذي وصححه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف على ناس جلوس فقال: "أَلا أُخْبِرُكُم بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرِّكُمْ؟ " قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل: بلى يا رسول الله أخبرنا بخيرنا من شرنا، قال: "خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وُيؤْمَنُ شَرُّهُ، وشَرُّكُمْ مَنْ لا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلا يُؤْمَنُ شَرُّهُ" (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن سفيان بن عيينة رحمه الله قال: قيل للقمان: أي الناس خير؟ قال: المؤمن الذي إن احتيج إليه نفع، وإن استغني عنه اكتفى. وعن الحسن رحمه الله - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ العِبَادِ إِلى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِه". وروى القضاعي في "مسند الشهاب" عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ للنَّاسِ" (¬2). وقال صاحبنا العلامة شهاب الدين أحمد بن أحمد بن أحمد بن بدر الطيبي إمام الجامع الأموي بدمشق، وابن إمامه تلميحاً بذلك مع قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: "واللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ، مَا كَانَ العَبْدُ فِي ¬
عَوْنِ أَخِيْهِ" (¬1)، كما رواه مسلم، والأربعة: [من الطويل] وَخَيْرُ عِبادِ اللهِ أَنْفَعُهُمْ لَهُ ... رَواهُ عَنِ الأَثْباتِ كُلُّ نبَيْهِ وَإِنَّ إِلَهَ الْعَرْشِ جَلَّ جَلالُهُ ... يُعِيْنُ الْفَتَىْ ما كانَ عَوْنَ أَخِيْهِ وروى الإمام أحمد، وأبو يعلى، والحاكم وصححه، عن صهيب - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ ورَدَّ السَّلام" (¬2). وروى الديلمي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيَارُ أُمَّتِي مَنْ يُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَلَيْسَ فِيْهِ رِيَاءٌ وَلا سُمْعَةٌ، ومَنْ أَطْعَمَ طَعَامًا فِيْهِ رِياءٌ وسُمْعَةٌ جَعَلَهُ اللهُ تَعَالى ناَرًا فِي بَطْنِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنَ الحِسَاب" (¬3). ومن شواهد هذا المعنى حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا خَيْرَ فِيْ مَنْ لا يُضِيْف". رواه الإمام أحمد ورجاله رجال ¬
الصحيح إلا ابن لهيعة، وقد اختلف فيه (¬1). والمراد من يمتنع عن الضيافة بخلاً وشحاً. وإذا نفى عنه الخير ثبت الخير لمن يطعم الطعام ويضيف الضيفان. والضيافة وإكرام الضيف، وإطعام الطعام من أخلاق إبراهيم عليه السلام. وروى أبو نعيم عن وهب: أنَّ الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: "هل تدري يا داود من أسرع مَرًّا على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي وألسنتهم رطبة من ذكري، هل تدري يا داود أي المؤمنين أعظم منزلة عندي؟ الذي هو بما أعطى أشد فرحاً مما حبس، هل تدري أي الفقراء أفضل؟ الذين يرضون بحكمي وبقسمتي، ويحمدونني على ما أنعمت عليهم من المعاش، هل تدري أي المؤمنين أحب إلي أن أطيل حياته؛ الذي إذا قال: لا إله إلا الله اقشعرَّ جلده. فإني أكره لذلك الموت كما يكره الوالد لولده" (¬2). وروى الترمذي، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَكْمَلُ المُؤْمِنِيْنَ إِيْمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لنِسَائِهِم" (¬3). ¬
وروى الترمذي، والحاكم وصححاه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ المُؤْمِنِيْنَ إِيْمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وأَلطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ" (¬1). والأهل: خاصة الرجل من زوجة، وولد، وقريب، وخادم. وروى ابن حبان في "صحيحه" عن عائشة، وابن ماجه عن ابن عباس، والطبراني في "الكبير" عن معاوية - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ قال: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ، وأَنَا خَيْرُكُمْ لأهْليْ" (¬2). وأخرجه ابن عساكر عن علي - رضي الله عنه -، وزاد فيه: "مَا أَكْرَمَ النِّسَاءَ إِلا كَرِيْمٌ، ولا أَهَانَهُنَّ إِلا لئِيْمٌ" (¬3). وأخرج الحاكم حديث ابن عباس، ولفظه: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ للنِّسَاءِ" (¬4). ¬
وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمرو - رضي الله عنهما -، ولفظه: "خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لنِسَائِهِمْ" (¬1). والطبراني في "الكبير" عن أبي كَبشة الأَنْماري - رضي الله عنه -، ولفظه: "خِيَارُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لنِسَائِهِ ولبَنَاتِهِ" (¬3). وروى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن ثوبان - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَفْضَلُ الدَّنَانِيْرِ دِيْنَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلى عِيَالِهِ، ودِيْنَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلى دَابَّتِهِ، ودِيْنَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيْلِ الله" (¬4). قال أبو قلابة - رحمه الله وهو أحد رواته -: بدأ بالعيال، ثم قال: وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال له صغار، ويعفهم ¬
الله به، ويغنيهم الله به (¬1). روى أبو الفرج بن الجوزي في "صفوة الصفوة" عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى قال: لا يقع موقع الكسب على العيال شيء ولا الجهاد في سبيل الله (¬2). وروى غيره عنه أنه كان في الغزو فبات ليلة هو وأصحابه كالِّين من قتال العدو، فقال عبد الله لهم: هل تعرفون أحداً بات في مثل هذا الليل على أفضل من عملنا هذا؟ قالوا: لا، قال: إني لأعرفه؛ رجل استيقظ فنظر إلى عيال له صغار وقد تكشف بعضهم، وتحول بعضهم عن فراشه - أي: وساده - فأصلح من شأنهم؛ فإنه على عمل أفضل مما نحن فيه. وروى الديلمي عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِلمَمَالِيْك" (¬3)؛ أي: أكثرهم نفعاً وإحساناً إليهم، وذلك بأن يطعمهم مما يأكل، ويلبسهم مما يلبس، ويرفق بهم، ولا يسيء إليهم، ولا يشتمهم، ويصونهم عن الفاحشة. فأما من يتخذ المماليك الذكور الحسان المرد للفاحشة فلا خير فيه أصلاً، بل هو شر مالك لمملوك - وإن ألبسه أفخر ملبوس، وأطعمه أطيب مطعوم - كما هو دأب فسَّاق المالكين مع المماليك في هذه ¬
الأعصار، وكم من مشتر لمملوك بهذه النية، ومقتن له بها عاد وَبَالُه عليه، وانقلب له عدواً ولو بعد حين، فربما ذهب بماله، وربما سطا على أحد جنى عليه فوصل ضر إلى سيده، أو فَسَقَ به فآل أمره إلى سوء، فسيء سيده به. والتاجر في المماليك - ولو واحداً - متعرض متسبب في الفسق، فإن باعه لمن يغلب على ظنه أنه يفسق به كان [قيادة] (¬1) وحرم عليه ذلك كما يحرم بيع العنب لمن يعصره خمراً، وإذا سامه منه تقيٌّ بشيء، وسامه منه فاسق بأكثر منه، فرغب في بيعه للفاسق، فقد أساء وعصى، ولهذا المقتضي الغالب في هذه الأزمنة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَرُّ المَالِ (¬2) فِي آخِرِ الزَّمَانِ المَمَاليِك" كما رواه أبو نعيم من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - (¬3). ومن حمل المملوك على الفاحشة، أو باعه ممن يحمله عليها فقد أساء إليه، وكان سيئ الملكة. وقد روى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ سيَىِّءُ المَلكَةِ" (¬4). ¬
وسيئ الملكة: من يسيء الصنعة إلى مماليكه كما نقله الأصبهاني في "ترغيبه" عن أهل اللغة في تفسير الحديث. وفي "القاموس": ساءَهُ سَوْءاً وسَوَاءً وسَوَاءَةً وسَوَايَةً [وسَوَائِيَةً] ومَسَاءَةً ومَسَائِيَةً: فَعَلَ به ما يَكْرَهُ (¬1). ويدخل في ذلك فعل الفاحشة، بل هي أسوء مكروه يفعل بالمملوك. والسوءة الفاحشة، والخلة القبيحة لأنها تسوء، كما سميت العورة سوءة لأنها تسوء الناظر والمنظور. فلو قيل: إن سيئ الملكة في الحديث من يفعل الفاحشة بالمملوك لم يبعُد، إلا أن التعميم أولى. قلت: [من البسيط] مَنْ رامَ فاحِشَةً مِنْ أَمْرَدٍ مَلَكَه ... فَذاكَ أَسْوَا عُبِيْدٍ سَيِّءِ الْمَلَكَةْ فَقَدْ باءَ بِالْعار ثُمَّ النَّار آخِرَةً ... وَوَرَّطَ النَّفْسَ بِالآثامِ فِيْ الْهَلَكَةْ لا تَعْبَأنَّ بِما يَلْهُوْ بِهِ زَمَناً ... عَلَىْ طَرِيْقٍ مِنَ الْعَمْياءِ قَد سَلَكَهْ ¬
فَقَدْ يَرَىْ [عبد] (¬1) فِيْما يَرَىْ حَزَناً ... إِذا أَدارَ عَلَيْهِ دَهْرُهُ فَلَكَهْ فَكَمْ فَتًى كانَ ذا أَصْلِ وَذا حَسَبٍ ... فَصارَ بِالْفِسْقِ فِيْ أَقْرانِهِ هَلَكَةْ إِنَّ التَّقِيْ لَضِياءٌ يُسْتضاءُ بِهِ ... وَفِيْ الْهَوَىْ ظُلْمَةُ الْخِذْلانِ وَالْحَلَكَة فَارْبَأ بِنَفْسِكَ عَنْ سَفْسافِ كُلِّ هَوَىَ ... حَتَّىْ تَكُوْنَ بِما زَكَّيْتَها مَلَكَة وَاتْرُكْ مِنَ الذنْبِ ما تَخْشَىْ عَواقِبَهُ ... إِنَّ السَّعِيْدَ مِنَ الأَشْخاصِ مَنْ تَرَكَه وَلا تَمِلْ عَنِ التَّقْوَىْ لِطُوْلِ مَدًى ... إِنَّ التُّقَىْ فِيْهِ كُلُّ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَة وَسَلْ مِنَ اللهِ تَوْفِيْقاً إِلَىْ عَمَلِ ... حَتَّىْ تَكُوْنَ حَمِيْدَ السَّعْيِ وَالْحَرَكَة إِنَّ الْمُوَفَّقَ قَدْ تَمَّتْ سَعادَتُهُ ... مُسَدَّدُ الأَمْرِ فِيْ الأَفْعالِ وَالْمَلَكَة ¬
روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان، والحاكم - وصححاه - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْراً اسْتَعْمَلَهُ"، قيل: كيف يستعمله؟ قال: "يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ المَوْت، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَليْهِ" (¬1). وروى الشيخان عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: مر رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لرجل عنده جالس: "ما رَأْيُكَ فِيْ هَذا؟ " فقال: رجل من أشراف الناس، هذا حَرِيٌّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم مر رجل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ " قال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلِ هَذَا" (¬2). وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم في "المستدرك" عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَغْبَطَ النَّاسِ عِنْدِيْ لَمُؤْمِنٌ خَفِيْفُ الْحَاذِ ذُوْ حَظٍّ مِنَ الصَّلاةِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وأَطَاعَهُ فِيْ السِرِّ، كَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ لا يُشَارُ إِليْهِ بِالأَصَابعِ، وكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا، ¬
عُجلَتْ مَنِيِّتُهُ، وقَلَّ تُرَاثُهُ، وقَلَّتْ بَوَاكِيْهِ" (¬1). روى ابن أبي الدنيا في "العزلة" عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ أَعْجَبَ النَّاسِ إِليَّ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللهِ ورَسُوْلهِ، ويُقِيْمُ الصَّلاةَ، وُيؤْتِيْ الزَّكَاةَ، وُيعَمرُ مَالَهُ، ويَحْفَظُ دِيْنَهُ، وَيعْتَزِلُ النَّاسَ" (¬2). وروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: "مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيْلِ اللهِ"، قال: "ثم من؟ " قال: "رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ". وفي رواية: "يَتَّقِي اللهَ، ويَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ" (¬3). وقد سبق بلفظ آخر. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه قال: قال موسى عليه السلام: "أي ربِّ! أي عبادك أحب إليك؟ " قال: "من أُذْكَرُ برؤيته"، قال: "ربِّ! أي عبادك أحب إليك؟ " قال: "الذين يعودون المرضى، ويعزون الثَّكلى، ويشيعون الهلكة" (¬4). ¬
ويجمع بين هذا وبين ما ورد في فضل العزلة بأن العزلة عند خوف الفتنة، والاختلاط عند حصول الفائدة. وروى ابن أبي شيبة عن عروة: أنَّ موسى عليه السلام قال: "يا رب! أخبرني بأكرم خلقك عليك" قال: "الذي يسرع إلى هواي إسراع النسر إلى هواه، والذي يَكْلَف بعبادي الصالحين كما يكلف الصبي بالناس، والذي يغضب إذا انتهكت محارمي غضب النمر لنفسه؛ فإنَّ النمر إذا غضب لم يبال أَكَثُر الناس أم قلوا" (¬1). وروى الإمام أحمد، والترمذي عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وأَدْناَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَام عَادِلٌ، وأَبْغَضُ النَّاسِ إِلى اللهِ تَعَالى وأَبْعَدُهُم مِنْهُ إِمَامٌ جَائِرٌ" (¬2). وروى مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِيْنَ تُحِبُّونَهُم ويُحِبُّوْنَكُم، وتُصَلُّوْنَ عَلَيْهِم وُيصَلُّوْنَ عَلَيْكُم، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِيْنَ تُبْغِضُوْنَهُم وُيبْغِضُونَكُم، وتَلْعَنُونَهُم وَيَلْعَنُونَكُم"، قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: "لا، مَا أقامُوا فِيْكُمُ الصَّلاةَ، وإِذَا رَأَيْتُم مِنْ وُلاتِكُم شَيْئاً تَكْرَهُوْنهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، ولا تَنْزِعُوا يَداً مِنْ طَاعَةٍ" (¬3). ¬
وفي رواية: "أَلا مَنْ وَلِي عَلَيْهِ وَالٍ فَرآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ فَلْيُنْكِرْ مَا يَأتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعةٍ" (¬1). وروى ابن النجار في "تاريخه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيارُ أُمَّتِيْ مَنْ دَعا إِلَىْ اللهِ وَحَبَّبَ عِبادَهُ إِلَيْهِ، وَشِرارُ أُمَّتِيْ التجَّارُ؛ مَنْ كَثُرَتْ أَيْمانُهُ وَإِنْ كانَ صادِقاً" (¬2). وفي كتاب الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 33] الآية. وروى أبو داود، والبيهقي في "السنن" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيَارُكُمْ أليَنُكمْ مَنَاكِبَ (¬3) فِيْ الصَّلاةِ" (¬4). وروى البيهقي في "الشعب"، والديلمي عن علي - رضي الله عنه - قال: قال ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيَارُكُمْ كُلُّ مُفْتَنٍّ تَوَّابٍ (¬1) " (¬2). وروى الديلمي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الْمُؤْمِنِيْنَ القَانِعُ، وَشَرُّهُمُ الطَّامعُ" (¬3). وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم - وصححاه - عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وخَيْرُ الْخَطَّائِيْنَ التَّوَابُوْنَ" (¬4). وروى الطبراني في "الكبير"، والحاكم عن ابن أبي أوفى - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ خِيَارَ عِبَادِ اللهِ الَّذِيْنَ يُرَاعُوْنَ الشَّمْسَ، وَالقَمَرَ، وَالنُّجُوْمَ، وَالأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى" (¬5). ¬
وروى الطبراني في "الكبير" - أيضًا - عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِن أَفْضَلَ عِبادِ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ الحَمَّادُوْنَ" (¬1). وروى ابن ماجه، وغيره عن ابن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ النَّاسِ ذُوْ القَلْبِ الْمَحْمُوْمِ (¬2)، واللسَانِ الصَّادِقِ"، قيل: قد عرفنا اللسان الصادق، فما القلب المحموم؛ قال: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لا إِثْمَ فِيْهِ، ولا بَغْيَ وَلا حَسَدَ"، قيل: فمن على أثره؟ قال: "الَّذِي يَشْنأُ الدُّنْيَا، وُيحِبُّ الآخِرَةَ"، قيل: فمن على أثره؟ قال: "مُؤْمِنٌ فِي خُلُقٍ حَسَنٍ" (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "قضاء الحوائج"، وأبو الشيخ عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللهِ إِلى اللهِ مَنْ حُبِّبَ إِليْهِ المَعُرُوفُ، وَحُبِّبَ إِليْهِ أَفْعَالُه" (¬4). وروى ابن أبي شيبة عن يزيد بن ميسرة رحمه الله - وكان قد قرأ ¬
الكتب -: إنَّ الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: "إن أحب عبادي إلي الذين يمشون لي في الأرض بالنصيحة، والذين يمشون على أقدامهم إلى الجمعات، والمستغفرون بالأسحار؛ أولئك إن أردت أن أصيب أهل الأرض بعذاب، ثم رأيتهم كففت عذابي، وإنَّ أبغض عبادي إلي الذي يقتدي بسيئة المؤمن، ولا يقتدي بحسنته" (¬1). وروى عبد الرزاق عن معمر عن جماعة (¬2): أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِيْ إِلَيَّ الْمُتَحَابِّيْنَ فِيَّ، الَّذِيْنَ يَعْمُرُونَ مَسَاجِدِي، وَيَسْتَغْفِرُوني بِالأَسْحَارِ؛ أَوَلئِكَ الَّذِيْنَ إِنْ أَرَدْتُ خَلْقِي بِعَذَابٍ ذَكَرْتُهُم، فَصَرَفْتُ عَذَابِيَ عَنْ خَلْقِي" (¬3). وقوله: "المتحابين في" كذا في نسختي من مصنف عبد الرزاق، وهي نسخة صحيحة قديمة، وهو محمول على أنه صفة لعبادي، وخبر أنَّ ما بعده. وروى عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن خالد بن معدان رحمه الله قال: قال الله تعالى: "إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إِليَّ الْمُتَحَابُّوْن بِحُبِّي، والْمُعَلَّقَةُ قُلُوْبُهُم فِي الْمَسَاجِدِ، والْمُسْتَغْفِرُوْنَ بِالأَسْحَارِ؛ أَوَلَئِكَ الَّذِيْنَ إِنْ أَرَدْتُ أَهْلَ الأَرْضِ بِعُقُوْبَةٍ ذَكَرْتُهُم، فَصَرَفْتُ العُقُوْبَةَ عَنْهُم بِهِم" (¬4). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه -: أنَّ أصحابه كانوا ينتظرونه، فلما خرج قالوا: ما أبطأك عنَّا أيها الأمير؟ قال: أما إني سوف أحدثكم أن أخاً لكم ممن كان قبلكم وهو موسى عليه السلام قال: "يا رب حدثني بأحب الناس إليك"، قال: "ولم؟ " قال: "لأحبه بحبك إياه"، قال: "عبد في أقصى الأرض، أو في طرف الأرض سمع به عبد آخر في أقصى الأرض أو في طرف الأرض لا يعرفه، فإن أصابته مصيبة فكأنما أصابته، وإن شاكته شوكة فكأنما شاكته، لا يحبه إلا لي، فذلك أحب خلقي إلي"، قال: "يا رب! خلقت خلقاً تدخلهم النار أو تعذبهم؟ " فأوحى الله إليه: "كلهم خلقي"، ثم قال: "ازرع زرعًا"، فزرعه، فقال: "اسقه"، فسقاه، ثم قال: "قم عليه"، فقام عليه أو ما شاء الله من ذلك، فحصده، ورفعه، فقال: "ما فعل زرعك يا موسى؟ " قال: "فرغت منه ورفعته" قال: "ما تركت منه شيئاً؟ " قال: "ما لا خير فيه، أو ما لا حاجة لي فيه"، قال: "كذلك أنا لا أعذب إلا ما لا خير فيه" (¬1). ومن لطائف ما يلحق بهذا الباب: ما رواه ابن الأنباري عن الأصمعي قال: خرج أعرابي من أهله مبكراً يغدو في حاجة له، فاجتاز بمسجد تقام فيه الصلاة، فدخل يصلي مع القوم تبركاً بالجماعة، فأطال الإمام القراءة والصلاة حتى استيأس الأعرابي من حاجته، وعلم أن قد فاته الذي غدا في طلبه، فلما قضيت الصلاة وجلس الإمام في محرابه جاءه الأعرابي حتى وقف بين يديه، ثم أنشأ يقول: [من الوافر] ¬
أَلا خَيْرُ الأَئِمَّةِ غَيْرَ شَكٍّ ... أَخَفُّهُمُ صَلاةً فِيْ تَمامِ أترْغَبُ فِيْ وَصِيَّةِ مَنْ عَلَيْهِ ... صَلاةُ اللهِ تُقْرَنُ بِالسَّلامِ أَما تَخْشَىْ الإلهَ وَتتَّقِيْهِ ... أَمْ أَنْتَ مُبَرَّأ مِنْ كُلِّ ذامِ لِنَفْسِكَ قُمْ إِذا صَلَّيْتَ حَتَّىْ ... يَدُقَّ اللهُ صُلْبَكَ بِالْقِيامِ وروى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ؛ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ" (¬1). وأخرجه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس، وعن معاوية، والطبراني عن أم هانئ، وأخرجه ابن أبي شيبة عن مكحول مرسلاً، وزاد فيه "ولَوْ عَلِمْتُ أَنَّ مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ رَكِبَتْ بَعِيْرًا مَا فَضَّلْتُ عَلَيْهَا أَحَدًا" (¬2). وروى الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ النِّسَاءِ الَّتِي تَسَرُّهُ إِذَا نَظَرَ - يعني: ¬
الزوج -، وتُطِيْعُهُ إِذَا أَمَرَ، ولا تُخَالِفُهُ فِيْ نَفْسِهَا وَلا مَالِهَا بَمَا يَكْرَهُ" (¬1) - يعني: ما لم يأمر بمعصية الله -، وَلا تَكْمُلُ خِيْرَتُهَا إِلاَّ بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى. وروى أبو القاسم البغوي في "معجمه"، والبيهقي في "سننه" عن أبي أذينة من أهل مصر - قال البغوي: ولا أدري صحبة أم لا - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ نِسَائِكُمُ الوَلُوْدُ الوَدُوْدُ، الْمُوَاتِيَةُ الْمُوَاسِيَةُ إِذَا اتَّقَيْنَ اللهَ، وشَرُّ نِسَائِكُمُ الْمُتَبَرِّجَاتُ الْمُتَخَيِّلاُتُ وهُنَّ الْمُنَافِقَاتُ، لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلا مِثْلُ الغُرَابِ الأَعْصَمِ" (¬2). وسبق تفسير الأعصم في التشبه بالصالحين. وقوله: "خَيْرُ نِسَائِكُمُ الوَلُوْد" يحتمل أن يكون هذا في كل وقت، ويحتمل أن يكون هذا في غير الزمان السوء؛ لما رواه أبو عمرو الداني في "الفتن" عن الأوزاعي معضلاً رحمه الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأتِي زَمَانٌ خَيْرُ أَوْلادِكُمْ فِيْهِ البَنَاتُ، وخَيْرُ نِسَائِكُمُ العَقِيْمُ، وخَيْرُ دَوابَّكُمُ الْحَمِيْرُ" (¬3). وعن معاوية بن يحيى - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ سَنَةُ خَمْسِيْنَ ومِئَةِ فَخَيْرُ نِسَائِكُمْ كُلُّ عَقِيْمٍ" (¬4). ¬
ومن شواهده: ما رواه ابن عساكر في "تاريخه" عن حذيفة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: "يَأتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ أَفْضَلُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانُ كُلُّ خَفِيْفِ الْحَاذِ"، قيل: يا رسول الله! ومن خفيف الحاذ؟ قال: "قَلِيْلُ العِيَالِ" (¬1). وروى أبو يعلى، والبيهقي في "الشعب"، والخطيب، وابن عساكر عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُكُم فِيْ الْمِئتَيْنِ كُلُّ خَفِيْفِ الْحَاذِ"، قيل: يا رسول الله! وما الخفيف الحاذ؟ قال: "الَّذِي لا أَهْلَ لَهُ وَلا وَلَدَ" (¬2). والحاذ - بالحاء المهملة، والذال المعجمة -: الظهر؛ كذا في "القاموس". وقال: وخفيف الحاذ: قليل المال والعيال (¬3). وإنما فسره في الحديث بعدم الولد والأهل لأن خفة الظهر إنما تتحقق بذلك. وإذا كانت هذه الخيرية لم تتحقق لأحد في المئتين إلا بخفة الحاذ كما دل عليه الحديث - وإن كان ضعيفاً - فكيف بما بعد الألف بسنين، ¬
تنبيه
وقد غلب الشر على الناس إلا نادرًا، فهذا الزمان حريٌ بأن يغبط فيه الموتى فضلاً عن خفيف الحاذ! وقد روى الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَتْ أُمَرَاؤُكُم خِيَارَكُم، وأَغْنِيَاؤُكُم سُمَحَاءَكُمْ، وأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ، فَظَهْرُ الأرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وإِذَا كَانَتْ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وأغنِيَاؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ، وأُمُوْرُكُم إِلى نِسَائِكُمْ، فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرُ لَكُمْ مِنْ ظَاهِرِهَا" (¬1)؛ يعني: إن الموت خير لكم حينئذ من الحياة. * تَنْبِيْهٌ: ما ذكرناه في هذا الفصل من الخصال التي وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذويها أنهم خير الناس، أو خيارهم، أو أفضلهم، أو أحبهم إلى الله تعالى ليس بينها تنافر عند العلماء المحققين، ولا تباين عند العلماء الموقنين، بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر عن خيار هذه الأمة وأفاضل الناس مما يليق بالمقام، ويناسب حال السائل أو المخاطب، وكان يخبر عن الخير والأفضل تارة من قبل الأخلاق كما في قوله: "أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِيْنَ أَحَسَنُهُمْ خُلُقاً". وتارة من قبل الأعمال كما في قوله: "خِيَارُكُم ألْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ فِي الصَّلاةِ". ¬
وتارةً من قبل الآداب كما في قوله: "خَيْرُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَاَم ورَدَّ السَّلامَ". وتارة من قبل المروءة كما في قوله: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُم لأَهْلِهِ"، "خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُم قَضَاء"، "خَيْرُ الْجِيْرَانِ خَيْرُهُم لِجَاره" (¬1). وتارة من جهة العراقة في الدين كما في قوله: "أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ بَيْنِ كَرِيْمَيْنِ (¬2) ". رواه الطبراني في "المعجم الكبير" من حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - (¬3). وتارة من جهة كرم الحسب ونزاهة النسب إذا انضم ذلك إلى الإسلام والدين، والفقه ونحوها من الفضائل كما في قوله: "خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوْا". رواه البخاري، وقوله: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ" الحديث. وتارة من قبل النفع وتعديه إلى غيره كما في قوله: "خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ" (¬4). ¬
وقال بكر بن عبد الله المزني: لو انتهيت إلى المسجد وهو ملآن مغص بالرجال فقال لي قائل: أي هؤلاء خير؟ لقلت للسائل: أيهم أنصح لجماعتهم؟ فإذا قال: هذا قلت: هو خيرهم. ولو انتهيت إلى المسجد يوم الجمعة وهو ملآن مغص بالرجال فقال لي قائل: أي هؤلاء شر؟ لقلت: أيهم أغش لجماعتهم؟ فإذا قال: هذا قلت: هو شرهم. وما كنت لأشهد على خيرهم أنه مؤمن مستكمل الإيمان إذاً لشهدت أنه من أهل الجنة، وما كنت لأشهد على شرهم أنه منافق عديم من الإيمان إذاً لشهدت أنه من أهل النار، ولكن أخشى على محسنهم، وأرجو لمسيئهم، فما ظنك بمسيئهم إذا خشيت على محسنهم، وما ظنك بمحسنهم إذا رجوت لمسيئهم (¬1). وفي المعنى قول محمود الوراق رحمه الله: أَخافُ عَلَىْ الْمُحْسِنِ المتَّقِيِّ ... وَأَرْجُوْ لِذِيْ الْهَفَواتِ الْمُسِيْ فَذَلِكَ خَوْفِيْ عَلَىْ مُحْسِنِ ... فَكَيْفَ عَلَىْ الظَّالِمِ الْمُعْتَدِيْ عَلَىْ أَنَّ ذا الزَّيْغِ قَدْ يَسْتَقِيْمُ ... وَيَسْتَأنِفُ الزَّيْغَ قَلْبُ التَّقِيْ وروى أبو نعيم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقبل راكب حتى أناخ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! إني أتيتك من مسيرة تسع، أضنيت راحلتي، وأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري لأسألك عن ¬
خصلتين أسهرتاني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا اسْمُكَ؟ " قال: أنا زيد الخيل، قال: "بَلْ أَنْتَ زَيْدُ الْخَيْرِ، فَاسْأَلْ فَرُبَّ مُعْضِلَةٍ قَدْ سُئِلَ عَنْها"، قال: أسألك عن علامة الله فيمن يريد وعلامته في من لا يريد؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَيْفَ أَصْبَحْت؟ " قال: أصبحت أحب الخير وأهله ومن يعمل به، وإن عملت به أيقنت بثوابه، وإن فاتني منه شيء خشيت الله (¬1)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -. "هَذِهِ عَلامَةُ اللهِ فِيْمَنْ يُرِيْدُ وَعَلامَتُهُ فِي مَنْ لا يُرِيْدُ، وَلَوْ أَرَادَكَ فِي الأُخْرَى هَيَّأَكَ لَهَا، ثُمَّ لا يُبَالِي فِي أَيِّ وَادٍ هَلَكْتَ" (¬2). فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنَّ علامة الله في من يريد - أي: يحب - من عباده أن يوفقهم للرغبة في الخير وأهله والعمل به، وعلامته في من لا يريد أن يمنعه ذلك، ويخذله عنه، أو يبعثه على الشر وفعله والرغبة في أهله. فمن رغب في الشر ورغب [عن] الخير وأعمال أهل الخير وأخلاقهم فهو من الأشرار. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي شيخ قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: يا صاحب العلم! لا تغتر بالله، ولا تغتر بالناس؛ فإن الغرة بالله تركك أمر الله، والغرة بالناس اتباع أهوائهم. احذر من الله ما حذرك من نفسه، واحذر من الناس فتنتهم (¬3)؛ فإن ¬
الأشقياء لا يرغبون فيما سعد به الأخيار قبلهم فيبعدون عن الأمر الذي شقي به من كان قبلهم. واعلم أن العبد لا يكون من خير الناس وهو يشهد الخيرية من نفسه. قال الله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. قال القاضي ناصر الدين في تفسير قوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32]: فلا تثنوا عليها بزكاء العمل وزيادة الخير، أو بالطهارة عن المعاصي والرذائل (¬1). روى مسلم، وغيره عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي بَرَّةَ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة - رضي الله عنها وعن أبويها -: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا الاسم؛ سُمِّيت بَرَّةَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُزكُّوْا أَنْفُسَكُمْ، اللهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ البِرِّ مِنْكُم"، فقالوا: بما نسميها؟ قال: "سَمُّوْهَا زيْنَب" (¬2). قال في "الكشاف": وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب والرياء، فأما من اعتقد أنَّ ما عمله من العمل الصالح من الله وبتوفيقه وتأييده، ولم يقصد به الإعجاب والتمدح، لم يكن من المزكين أنفسهم لأن المسرة في الطاعة طاعة، وذكرها شكر، انتهى (¬3). ¬
وهو حسن، غير أنه جعل النهي راجعاً إلى الإعجاب والرياء، والأولى أن يبقى على ظاهره من أنه نهي عن نفس التزكية. نعم، يستثنى منها ما كان بنية صالحة كأن يعرف فيسأل، أو يقتدى به، أو يظهر نعمة الله لقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11]. وروى الطبراني عن أبي الأسود الدؤلي، وزَاذَانَ الكندي قالا: قلنا لعلي - رضي الله عنه -: حدثنا عن أصحابك، فذكر مناقبهم، قلنا: فحدثنا عن نفسك، قال: مهلا، نهى الله عن التزكية، فقال له رجل: فإن الله يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11]، قال: فإني أحدث بنعمة ربي: كنت والله إذا سئلت أعطيت، وإذا سكت ابتدئت (¬1). قال في "الكشاف": وإنما يجوز مثل هذا إذا قصد به اللطف، وأن يقتدي به غيره، وأمن على نفسه الفتنة، والتنزه أفضل، ولو لم يكن فيه إلا التشبه بأهل الرياء والسمعة لكفى به. انتهى (¬2)، وهو كالتتمة لكلامه السابق. قال القرطبي في قوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32]: أي: لا تمدحوها وتثنوا عليها؛ فإنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الخشوع (¬3). فقد علمت بذلك أنَّ شرط الخيرية في العبد أن لا يعتقد في نفسه الخيرية كما قال يوسف عليه السلام: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ} ¬
{بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]. قال الحسن في قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52]: خشي نبي الله عليه السلام أن يكون زكى نفسه؛ قال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53]. رواه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ (¬1). وروى عبد الرزاق، والإمام أحمد في "الزهد"، وعبد بن حميد، وابن جرير عنه - أيضاً - قال: إنَّ عيسى ويحيى عليهما السلام التقيا فقال يحيى لعيسى: "استغفر لي، أنت خير مني"، فقال له عيسى: "بل أنت خير مني سلم الله عليك، وسلمت على نفسي"، قال: فعرف والله فضلهما (¬2). ذهب بعض المحققين إلى أنه لا يكمل أحد حتى يعنته النقص في نفسه. وقد روى ابن الجوزي في "صفة الصفوة": أنَّ الفضيل بن عياض رحمه الله أخذ بيد سفيان بن عيينة رحمه الله وهما بمكة، فقال له: إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه: أنَّ موسى عليه ¬
[تنبيه هو خاتمة] لهذا الفصل
السلام قال لبني إسرائيل: "ائتوني بخيركم رجلًا"، فأتوه برجل، قال: "أنت خير بني إسرائيل؟ " قال: "كذلك يزعمون"، قال: "اذهب فائتني بشرهم"، قال: فذهب فجاء وليس معه أحد، فقال: "جئني بشرهم"، قال: "أنا ما أعلم من أحد منهم ما أعلم من نفسي"، قال: "أنت خيرهم" (¬1). * [تنبيه هو خاتمة] (¬2) لهذا الفصل: خيار هذه الأمة خير من خيار غيرهم، وأفضل من سوى النبيين لمزية هذه الأمة وفضلها لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله قال: إنَّ خيار هذه الأمة خيار الأولين والآخرين، إنَّ من هذه الأمة رجالاً إن أحدهم ليخر ساجداً لا يرفع رأسه حتى يغفر له، ولمن خلفه فضلاً عليه. وكان كعب يتحرى الصفوف المتأخرة رجاء أن يكون من أولئك (¬3). ¬
فصل
فَصْلٌ إنما سُميَ الصالحون والصديقون أخياراً وخياراً لفعلهم الخير، وإرادتهم إياه، وإيثارهم له على ما سواه. والخير ضد الشر، وحقيقة الخير ما يحبه العبد ويختاره، ويرضاه ويحمده، أو يحب منه، ويحمد من فعله أو صفته. والشر ما يكرهه العبد أو يكره منه. فالخير والشر إما أن يعود أثرهما على المتصف بهما، أو يكون منه لغيره، فطالب الخير لنفسه وموصله إلى غيره من الأخيار لأنه من أهل الخير، وطالب الشر لنفسه أو مريده لغيره أو موصله إليه من الأشرار لأنه من أهل الشر، وأي عبد مات على إحدى المنزلتين فهو من أهلها، إلا أن الناس متفاوتون في الخير والشر على حسب ما قسم لهم وقدر لهم أو عليهم لقوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} [الإسراء: 20]، وقوله {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. وكل إنسان فهو لافي ما قدمه من خير أو شر - قل أو كثر؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]. وكل عبد فلا يخلو من حركة أو سكون، وحركته إما في خير وإما في شر كما قيل: [من الرجز] وإِنَّما النَّاسُ جَمِيْعاً عَمَلَة ... فِيْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيْعاً فَعَلَة (¬1) غير أنَّ الغالب عليهم الشر، والعامل بالخير قليل منهم، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْخَيْرُ كَثِيْرٌ، ومَنْ يَعْمَلْ بِهِ قَلِيْلٌ" (¬2). وفي لفظ: "وَقَلِيْلٌ فَاعِلُهُ" (¬3). رواه باللفظ الأول الطبراني في "الأوسط"، وباللفظ الثاني الخطيب؛ كلاهما عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. وفي لفظ للعسكري: "وفَاعِلُهُ قَلِيْلٌ". وفي لفظ: "ومَنْ يَعْمَلهُ قَلِيْلٌ" (¬4). ¬
ولبعض المتقدمين: [من الخفيف] افْعَلِ الْخَيْرَ ما اسْتَطَعْتَ وَإِنْ كا ... نَ قَلِيْلاً فَلَسْتَ مُدْرِكَ كُلِّهْ وَمَتَىْ تَفْعَلُ الْكَثِيْرَ مِنَ الْخيْـ ... ـــــــــرِ إِذا كُنْتَ تارِكا لأَقَلِّهْ (¬1) وقد أمر الله تعالى بفعل الخير وجعله مما يكون موصلاً للفلاح، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وغيره عن زبيد رحمه الله قال: قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: قولوا خيراً تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله (¬2). وروي عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله - يعني: ابن مسعود - رضي الله عنه -: تعوَّدوا الخير، فإنما الخير بالعادة (¬3). روى ابن ماجه، والطبراني، وأبو نعيم، وغيرهم عن معاوية - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْخَيْرُ عَادَةٌ، وَالشرُ لجاجةٌ، ومَنْ يُرِدِ اللهِ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُ ¬
فِي الدِّيْن" (¬1)؛ أي: يفهمه في الدين. والتفهم أبلغ من الإفهام، وهو يشعر بتكرار الإفهام، وكأن معناه: يجعل الفقه عادته وديدنه. روى بعض السلف: عودوا ألسنتكم خيراً. وقال الشاعر: [من البسيط] عَوِّدْ لِسانَكَ قَوْلَ الْخَيْرِ وَارْضَ بِهِ ... إِنَّ اللِّسانَ لِما عَوَّدْتَ مُعْتادُ مُوَكَّلٌ بِتَقاضِيْ ما سَنَنْتَ لَهُ ... فِيْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَانْظُرْ كَيْفَ تَرْتادُ (¬2) روى ابن أبي الدنيا عن مالك بن أنس - رضي الله عنه - قال: مَرَّ بعيسى بن مريم عليهما السلام خنزير، فقال: "مر بسلام"، فقيل له: "يا روح الله! لهذا الخنزير تقول! " قال: "أكره أن أعود لساني الشر" (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، ومَنْ يَتَحَرَّ ¬
الْخَيْرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشَرَّ يُوْقَهُ" (¬1). والتحري - بالحاء المهملة -: تعمد الخير، وطلبه لكونه أحرى؛ أي: أحق بأن يطلب. وروى ابن المبارك في "الزهد" عن أبي جعفر عبد الله بن مسور الهاشمي رحمه الله مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَرَدْتَ أَمْرًا فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ؛ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَأَمْضِهِ، وإِنْ كَانَ شَرًّا فَانتُهِ" (¬2). وهذا نهي عن الشر مطلقاً - وإن قل -، وإرشاد إلى الخير، وإيذان بأنَّ العبد لا ينبغي أن يقدم على أمر لا يعلم أن عاقبته خير أو شر. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت"، والطبراني - بإسناد حسن - عن أسود بن أصرم - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! أوصني، قال: "تَمْلِكُ يَدَك؟ "، قلت: فماذا أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: "تَمْلِكُ لِسَانَك؟ " قال: قلت: فماذا أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: "لا تَبْسُطْ يَدَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ، ولا تَقُلْ بِلِسَانِكَ إِلا مَعْرُوْفًا" (¬3). وفي حديثي أبي هريرة، وأبي شريح الخزاعي - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُت" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن سفيان الثوري رحمه الله قال: قالوا لعيسى ابن مريم عليهما السلام: "دلنا على عمل ندخل به الجنة"، قال: "لا تنطقوا أبدا"، قالوا: "لا نستطيع ذلك"، قال: "فلا تنطقوا إلا بخير" (¬2). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: يا لسان! قل خيراً تغنم، أو اسكت عن شر تسلم (¬3). وعن خالد بن أبي عمران رحمه الله مرسلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمسك لسانه طويلاً، ثم قال: "رَحِمَ اللهُ عَبْدًا قَالَ خَيْرًا فَغَنِمْ، أَوْ سَكَتَ عَنْ سُوْءٍ فَسَلِمْ" (¬4). وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" كذلك، وأبو الشيخ في "الثواب" عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، ولفظه: "رَحِمَ اللهُ عَبْدًا قَالَ فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ" - بحذف المفعول -. والبيهقي عن أنس، ولفظه: "رَحِمَ اللهُ امْرَأً تَكَلَّمَ فَغَنِمْ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمْ - ثلاث مرات -" (¬5). ¬
وفي كتاب الله: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. وروى البيهقي في "الشعب" عن مكحول: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ - رضي الله عنه - في حديث: "إِنَّكَ بِخَيْرٍ مَا كُنْتَ سَاكِتًا، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ فَلَكَ أَوْ عَلَيْكَ" (¬1). وروى الطبراني في "الصغير"، وأبو الشيخ عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أوصني قال: "عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فَإنَّها جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ، وعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ فَاِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْمُسْلِمِيْنَ، وعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ وتلاوَةِ كِتَابِهِ فَإِنَّهُ نُوْرٌ لَكَ فِي الأَرْضِ، وذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ، واخزُنْ لِسَانَكَ إِلا مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ" (¬2). وقوله: "عليك بِتَقْوى اللهِ فَإِنَّهَا جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ" أي: كل عمل صالح كما فسر به قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]؛ قال ابن زيد: الأعمال الصالحات. رواه ابن جرير (¬3). وروى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وأبو نعيم، والبيهقي في "الشعب" عن عبد الله بن عكيم قال: ¬
خطبنا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة؛ فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] (¬1). يشبه أن يكون استدل أبو بكر - رضي الله عنه - بالآية على جميع ما أوصاهم به من التقوى والثناء، وخلط الرغبة بالرهبة من حيث إنَّ المسارعة إلى الخيرات هي التقوى، أو نتيجة التقوى التي هي جماع كل خير. وقال تعالى ممتناً على إبراهيم وآله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 73] أي: وحي نبوة؛ أي: أرسلناهم لفعل الخيرات والدعوة إليها. ويحتمل أن يكون المراد وحي الإلهام؛ أي: ألهمناهم وألقينا في قلوبهم فعل الخيرات؛ إذ لا يكون فعل الخير إلا بتوفيق من الله تعالى وإلهام، ولذلك أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله فعل الخيرات. وروى الترمذي وصححه، ومحمد بن نصر المروزي في كتاب "الصلاة"، والطبراني، والحاكم عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: احتبس عنَّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، ¬
فخرج سريعاً، فثوب بالصلاة، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما سلم دعا بصوته فقال: "عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ" ثُم انْفَتَلَ إلينَا، ثُم قالَ: "أَمَا إِنيِّ سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُم الْغَدَاةَ: إِنِّي قُمْتُ اللَّيْلَةَ فَتَوَضَّأْتُ وَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي، ونَعِسْتُ فِي صِلاتِي حَتَّى اسْتَثْقَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُوْرَة، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد! قَلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّى، قَالَ: فِيْمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: لا أَدْرِي، قَالَهَا ثَلاثاً، قَالَ: فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَوُجِدَ بَرْدُ أَناَمِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وعَرَفْتُهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّي، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الدَّرَجَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، فَقَالَ: مَا الدَّرَجَاتِ؟ فَقُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وإِفْشَاءُ السَّلامِ، وَالصَّلاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، قَالَ: صَدَقْتَ، فَمَا الكَفَّارَاتُ؟ قُلْتُ: إِسْبَاغُ الوُضُوْءِ فِي السَّبُرَاتِ، وانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعَدَ الصَّلاةِ، ونَقْلُ الأَقْدَامِ إِلى الْجُمُعَاتِ، قَالَ: صدَقْتَ، سَلْ يَا مُحَمَّدْ، قُلْتُ: اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِيْنِ، وأَنْ تَغْفِرَ لِي وتَرْحَمَنِي، وإِذَا أَرَدْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ وأَناَ غَيْرُ مَفْتُوْنٍ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألُكَ حُبَّكَ وحُبَّ مَنْ أَحَبَّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلى حُبِّكَ". قال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَلَّمُوْهُنَّ وادْرُسُوْهُنَّ؛ فَإِنَّهُنَّ حَقٌّ" (¬1). ¬
وروى عبد الرزاق، والترمذي وحسنه، ومحمد بن نصر، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُوْرَةٍ - أَحْسِبُهُ قَالَ: فِي الْمَنَامِ - قَالَ: يَا مُحَمَّدْ هَلْ تَدْرِي فَيْمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: لا - أَيْ: لا أَدْرِي -، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْييَّ - أَوْ فِي نَحْرِيْ - فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَاواتِ ومَا فِي الأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدْ! هَلْ تَدْرِي فِيْمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: نعَمْ، فِي الْكَفَّارَاتِ، والْكَفَّارَاتُ الْمُكْثُ فِيْ الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، والْمَشْيُ عَلَى الأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَات، وإِبْلاغُ الوُضُوْءِ فِي الْمَكَارِهِ، ومَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ، ومَاتَ بِخَيْرٍ، وكَانَ مِنْ خَطِيْئَتِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. وقَلْ يَا مُحَمَّد إِذَا صَلَّيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ الْخَيْرَاتِ، وتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وحُبَّ الْمَسَاكِيْنِ، وإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتَوْنٍ. قَالَ: والدَّرَجَاتُ إِفْشَاءُ السَّلامِ، وإطْعَامُ الطَّعَامِ، والصَّلاةُ بِاللَّيْلِ والنَّاسُ نِيَامٌ" (¬1). وقوله في هذه الرواية: "أَسْأَلُكَ الْخِيْرَاتِ" يحتمل أنه أراد التوفيق ¬
إلى فعل الخيرات؛ أي: الأعمال الموصلة إلى خيرات الآخرة، ويدل عليه رواية معاذ: "فِعْلَ الْخِيْرَاتِ". ويحتمل أنه أراد: أسألك الخيرات من النعم في الدنيا والآخرة؛ فإن نعم الدنيا لا تتيسر إلا بفضل الله وبكرمه، فلا ينبغي لمن يسرت له أن يشهدها، بل يشهد ميسرها وتيسيره إياها، ومن ثم قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. وفد فسر فضل الله بالقرآن، وبالعلم، وبالإسلام. والأولى التعميم، حتى يدخل فيه الفرح بكل نعمة من حيث إنَّها من الله تعالى. وقال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]؛ أي: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة. رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، واللالكائي في "السنة" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬1). أي: اختباراً لقلوبكم قوة وضعفاً، وصبراً وجزعاً، ورضاً وسخطاً، وهل تشهدون النعم والخير من الله تعالى فتشكروه عليها، وهل تشهدون البلاء منه تمحيصاً فتصبروا عليه، أم تُبطركم النعم وتشغلكم عن المنعم ¬
فتكفروها، أم يحملكم الجزع من البلاء على جحد ما سبق من النعم، وسخط قدره الله فيكم، فالخير الدنيوي لا يكون خيراً حقيقةً إلا إذا قاد صاحبه إلى خير الآخرة، وقد سمِّي المال خيراً في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32]، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8] إما باعتبار أنه خير عند أهله، وإما باعتبار ما يؤول إليه من الخير إذا أنفقه في وجوه الخير، وأما باعتبار أنه يلهي ويطغي فلا خير فيه، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}، ثم قال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]. وقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف: 46]. وقد اشتهر تفسير {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} بالأذكار المشهورة، وسيأتي قريباً. والأحسن تعميمها في كل عمل صالح، [قال قتادة] (¬1) كل شيء من طاعة الله فهو من الباقيات الصالحات. وسئل قتادة عن الباقيات الصالحات فقال: كل ما أريد به وجه الله. رواهما ابن أبي حاتم (¬2). ¬
وأخرج هو وغيره معنى الأول عن ابن عباس كما سيأتي. وقال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17]. وقال الله - عز وجل -: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4]. وأخرج الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "دلائل النبوة" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُرِضَ عَلَيَّ مَا هُوَ مَفْتُوْحٌ لأُمَّتِي بَعْدِي فَسَرَّنِي، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4] (¬1). كأنه أشار بالآية إلى أنه لا ينبغي السرور بشيء من الدنيا قل أو جلَّ، لأنها فانية، والآخرة خير منها لأنها باقية. وقال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 32]. خص في هذه الآية خيرية الآخرة بأهل التقوى. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا} ¬
عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 34، 35]. قال الحسن رحمه الله تعالى في قوله - عز وجل -: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف: 33]: لولا أن يكون الناس أجمعون كفاراً فيميلوا إلى الدنيا لجعل الله لهم الذي قال، وقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك، فكيف لو فعل؟ رواه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جرير (¬1). وقال الله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 52 - 56]. قال قتادة رحمه الله: مكر بالقوم في أموالهم وأولادهم، فلا تعتبروا الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبروهم بالإيمان والعمل الصالح. وقال يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى: أجد فيما أنزل الله على موسى عليه السلام: أيفرح عبدي المؤمن أن أبسط له الدنيا وهي أبعد له مني، أو يجزع عبدي المؤمن أن أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني، ثم تلا: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} [المؤمنون: 55]، الآية. رواهما ابن أبي حاتم (¬2). ¬
وقال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79]؛ يعني: قارون. قال قتادة: {فِي زِينَتِهِ}: في حشمه، ذكر لنا أنهم خرجوا على أربعة آلاف دابة عليهم ثياب حمر، منها ألف بغلة بيضاء، وعلى دوابهم قطائف الأرجوان. وقال زيد بن أسلم: خرج في سبعين ألفاً عليهم المعصفرات. وكان ذلك أول يوم في الأرض رُئيت المعصفرات فيها. وقال ابن جريج: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان ومعه ثلاث مئة جارية على بغال شُهُب عليهنَّ ثياب حمر. وقال السدي: خرج في جَوارٍ بيض على سروج من ذهب، عليهن ثياب حمر وحلي ذهب. رواها ابن أبي حاتم (¬1). قال تعالى: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79]. وكانوا أناساً من أهل التوحيد، كما رواه ابن أبي حاتم عن قتادة (¬2)، إلا أنهم كانوا يريدون الدنيا. وفيه دليل على أن إرادة الدنيا لا تنقص التوحيد، إلا أنها تناقض المقال في الآخرة. ¬
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]؛ أي: عن إرادة الدنيا، وطلب نعيمها، وأنتم مؤمنون، وأعمالكم صالحة، فلا ينبغي لكم أن ترغبوا عن ثواب الله الذي آمنتم به وعملتم رغبةً فيه. ثم قال تعالى بعد أن ذكر الخسف بقارون: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص: 82]؛ أي: قضاءً وقدراً، لا لكرامة توجب البسط فيبسط، ولا لهوان يوجب القدر فيقدر، فلا ينبغي للعبد أن يتحرَّ خلف ما اختاره الله تعالى له كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. فقد يختار العبد البسط في الرزق ويكون فيه سوءه، ولذلك قالوا: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 82]، أي: لنعم الله تعالى، أو المكذبون لرسله. قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ}؛ أي: المحمودة وهي عاقبة الخير {لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وهي الانتهاء إلى الجنة. ثم قال تعالى عقب ذلك: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89]؛
أي: أحسن منها، أو خير حاصل له منها - أي: بسببها -، فالخير إنما يحصل لعمال الخير بأعمال الخير. وقد سبق في الحديث أنَّ جماع الخير في التقوى. وقال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. روى الطبراني في "الكبير" عن جرير - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تتَزَوَّدْ فِي الدُّنْيَا - يَعْنِي: مِنَ العَمَلِ الصَّالح والتقْوَى - يَنْفَعْهُ فِي الآخِرَةِ" (¬1). روى الإمام أحمد، والبغوي في "معجمه"، والبيهقي في "سننه" عن رجل من أهل البادية قال: أخذ بيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يعلمني مما علمه الله، فكان فيما حفظت عنه أن قال: "إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئاً اتِّقاءَ اللهِ إِلاَّ أَعْطاكَ خَيْراً مِنْهُ" (¬2). قال السخاوي: رجاله رجال الصحيح (¬3). روى أبو نعيم عن الشعبي قال: ما ترك أحد شيئاً لله في الدنيا، إلا عوضه الله في الآخرة ما هو خير منه (¬4). ¬
وروى هو وابن عساكر عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا تَرَكَ عَبْدٌ شَيْئاً للهِ لا يَتْرُكُهُ إِلا لَهُ، إِلا عَوَّضَهُ اللهُ مِنْهُ مَا هَوَ خَيْرٌ لَهُ فِي دِيْيهِ وَدُنْيَاهُ" (¬1). روى أبو الشيخ في كتاب "الثواب" عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الزَّادِ التَّقْوَى، وَخَيْرُ مَا ألقِيَ فِي القَلْبِ اليَقِيْنُ". وروى أبو نعيم عن عبد الله بن بُسر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ العَمَلِ أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ" (¬2). وروى الترمذي وحسَّنه، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيْرُ الدّعَاءِ [دعاء] يَوْم عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيّوْنَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ" (¬3). وروى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ} [الكهف: 46]، قال: هي ذكر الله: لا إله ¬
إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله، والصلاة، والصيام، والحج، والصدقة، والعتق، والجهاد، والصلة، وجميع أعمال الحسنات، وهن الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها في الجنة (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسْتكْثِرُوْا مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَات"، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: "التكْبِيْرُ، وَالتَّهْلِيْلُ، وَالتَّسْبِيْحُ، وَالتَّحْمِيْدُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ" (¬2). وروى ابن النجار في "تاريخه"، والديلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الكَلامِ أَرْبَعٌ لا يَضُرُّكَ بأَيَّهِنَّ بَدَأْتَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَاللهُ أكبَرُ؛ لا يَضُرُّكَ بِأَيهِنَّ بَدَأْتَ" (¬3). وروى الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي في "شعبه" عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ الذّكْرِ ¬
الْخَفِيُّ، وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي" (¬1). وروى الحاكم في "تاريخ نيسابور" عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ الدُّعَاءِ الاستِغْفَارُ، وَخَيْرُ العِبَادةِ لا إِلَهَ إِلا اللهُ" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ميمون بن سياه رحمه الله قال: إذا أراد الله بعبد خيراً حبَّب إليه ذكره (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن قال: تفكر ساعة خير من قيام الليل (¬4). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن أبي الدرداء، وأبو الشيخ في "العظمة" عن ابن عباس قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ" (¬5). بل في "العظمة" عن أبي هريرة مرفوعاً: "فِكْرَةُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ ¬
سِتيْنَ سَنَةً" (¬1). وروى الحاكم في "المستدرك"، والرافعي في "تاريخ قزوين" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ الأَعْمَالِ وَأَقْرَبُهَا إِلى اللهِ الصَّلاةُ فِي أوَّلِ وَقْتِهَا" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، وأبو يعلى، والحاكم عن بريدة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أُعَلمُكَ كَلِمَاتٍ: مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُعَلمُهُنَّ إِيَّاهُ، ثُمَّ لا يُنْسِيْهِ أَبَدًا؛ قُل: اللَّهُمَّ إنِّى ضَعِيْفٌ فَقَوِّ فِي رِضَاكَ ضَعْفِي، وَخُذْ إِلَى الْخَيْرِ بِنَاصِيتَي، وَاجْعَلِ الإِسْلامَ مُنتْهَى رضَائِي، اللَّهُمَّ إِنِّي ضَعَيْفٌ فَقَوِّني، وَإِنِّي ذَلِيْلٌ فَأَعِزَّنِي، وَإِنِّى فَقَيْرٌ فَارْزُقْنِي" (¬3). وروى البيهقي في "الشعب" عن بعض الصحابة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "العِلْمُ أَفْضَلُ مِنَ العَمَلِ، وَخَيْرُ الأَعْمَالِ أَوْسَاطُهَا، وَدِيْنُ اللهِ بَيْنَ القَاسِيْ وَالغَالِي، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِئتَيْنِ، لا تَنَالُهَا إِلا بِاللهِ، وَشَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ" (¬4). وروى أبو الشيخ عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
"العِلْمُ خَيْرٌ مِنَ العَمَلِ، وَمَلاكُ الدِّيْنِ الوَرَعُ، وَالعَالِمُ مَنْ يَعْمَلُ". ورواه ابن عبد البر في "العلم" من حديث أبي هريرة دون قوله: "وَالعَالِمُ مَنْ يَعْمَل" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَليْلُ العِلْمِ خَيْر مِنْ كَثِيْرِ العِبَادَةِ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ فِقْهًا إِذَا عَبَدَ اللهَ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً إِذَا أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ، وإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلانِ مُؤْمِنٌ وَجَاهِلٌ، فَلا تُؤْذِي الْمُؤْمِنَ، وَلا تُجَاوِرِ الْجَاهِلَ" (¬2). روى الإمام أحمد، والشيخان عن معاوية، والإمام أحمد، والدارمي، والترمذي وصححه عن ابن عباس، وابن ماجه عن أبي هريرة، والطبراني في "الأوسط" عنه وعن عمر - رضي الله عنه - قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقَهْهُ فِي الدِّيْنِ" (¬3). ¬
زاد الإمام أحمد في حديث أبي هريرة: "وإِنَّما أَنا قاسِمٌ وَيُعْطِيْ اللهُ" (¬1). وهذه الزيادة بمعناها في حديث معاوية في رواية لمسلم، وغيره. وروى الطبراني في "الكبير" حديثه، ولفظه: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّيْنِ وُيلْهِمْهُ رُشْدَهُ" (¬2). وبهذا اللفظ رواه أبو نعيم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬3). وروى البزار حديثه، ولفظه: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّيْنِ، وَألهَمَهُ رُشْدَهُ" (¬4). وروى البيهقي في "الشعب" عن محمد بن كعب رحمه الله مرسلاً، وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - رضي الله عنه -: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّيْنِ، وَزَهَّدهُ فِي الدُّنْيَا، وَبَصَّرَهُ عُيُوْبَهُ" (¬5). وروى ابن عبد البر عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ دِيْنكُمْ أَيْسَرَهُ، وَخَيْرُ العِبَادَةِ الفِقْهُ" (¬6). ¬
وصدْرُه أخرجه الإمام أحمد، والبخاري في "تاريخه" عن مِحْجَنٍ ابن الأدرَع، والطبراني في "الكبير" عنه، وعن عمران بن حصين، وفي "الأوسط" عن أنس - رضي الله عنه - (¬1). وحديث أنس رواه الضياء المقدسي في "المختارة" (¬2)، فهو حديث حسن. وروى أبو الشيخ عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ دِينكُمُ الوَرَعُ" (¬3). وورى الإمامان؛ مالك، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أسامة بن شَريك - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ مَا أُعْطِيَ النَّاسُ خُلُق حَسَنٌ" (¬4). ¬
وفي رواية لابن حبان: قالوا: يا رسول الله فما خير ما أُعطي الإنسان؟ قال: "خُلُقٌ حَسَنٌ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن رجل من جُهينة: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ خُلُقٌ حَسَنٌ، وَشَرُّ مَا أُعْطِيَ الرَّجُلُ قَلْبُ سُوْءٍ فِي صُوْرَةٍ حَسَنَةٍ" (¬2). وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه عن جرير ابن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُحْرَمِ الرفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ كُلَّهُ" (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" بزيادة، ولفظه: "الرِّفْقُ بِهِ الزِّيَادَةُ وَالبَرَكَةُ، وَمَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ" (¬4). وروى الإمام أحمد، والبخاري في "التاريخ"، والبيهقي في "الشعب" عن عائشة، والبزار عن جابر - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَرَادَ اللهُ ¬
بِأَهْلِ بِيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ" (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها أخرجه البيهقي في "الشعب" بزيادة، ولفظه: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبِيْدٍ خَيْرًا رَزَقَهُمْ الرِّفْقَ فِي مَعَاشِهِم، وإذَا أَرَادَ بِهِمْ شَرًّا رَزَقَهُم الْخَرْقَ فِي مَعَاشِهِم" (¬2). وروى الدارقطني في "الأفراد" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا فَقَّهَهُمْ فِي الدِّيْنِ، وَوَقَّرَ صَغِيْرُهُم كَبِيْرَهُم، وَرَزَقَهُمُ الرِّفْقَ فِي مَعَيْشَتِهِم، وَالقَصْدَ فِي نَفَقَاتِهِم، وَبَصَّرَهُمْ عُيُوْبَهُم، فَيتُوْبُوا مِنْهَا، وإِذَا أَرَادَ بِهِمْ غَيْرَ ذَلِكَ تَرَكَهُمْ هَمَلاً" (¬3). وروى السِّجزي في "الإبانة" عن حيان (¬4) بن أبي جبلة، والديلمي عن ابن عمر - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ خَيْرًا أَكثَرَ ¬
فُقَهَاءَهُمْ، وَأقلَّ جُهَّالَهُمْ، فَإذَا تَكَلَّمَ الفَقِيْهُ وَجَدَ أَعْوَاناً، وإذَا تَكَلَّمَ الْجَاهِلُ قُهِرَ، وإِذَا أَرَادَ اللهُ بَقَوْمٍ شَرًّا أكْثَرَ جُهَّالَهُم، وَأقلَّ فُقَهَاءَهُمْ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الْجَاهِلُ وَجَدَ أَعْوَاناً، وَإِذَا تَكَلَّمَ الفَقِيْهُ قُهِرَ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والبخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ (¬2) منْهُ" (¬3)؛ أي يستلبه ولداً، أو مالاً، أو منفعة ابتلاء ليصبر، فإذا صبر كان خيراً. وروى الإمام أحمد، ومسلم عن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْس ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ" (¬4). وفي كتاب الله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25]. وقال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]. وروى البيهقي في "السنن" عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "خَيْرُ خِصَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ" (¬1)؛ أي: حيث يكون مطلوباً. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] إلى قوله: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 9 - 11]. قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]. يحتمل أنه إخبار عن خيرية مطلق الصدقة، فإنها من أعمال الخير وخيرها؛ قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272]. ويحتمل - وهو الأقرب - أن يكون المعنى: وأن تصدقوا على المعسر ببراءته مما لكم عليه أو من بعضه خير لكم. وعليه: فخير: أفعل تفضيل؛ أي: خير لكم من الإنظار، ولا يلزم عليه أن لا يكون الإنظار خيراً. وقد روى مسلم، والترمذي عن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلم يُوْجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ إِلا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوْسِرًا، وَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ تتَجَاوَزُوْا عَنِ الْمُعْسِرِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ، تَجَاوَزُوْا عَنْهُ" (¬2). وأما حديث "الصحيحين" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬
"إِنَّ رَجُلاً لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطْ، وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ، وَكَانَ يَقُوْل لِفَتَاهُ: إِذَا أتيْتَ مُعْسِرًا فتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَلَقِيَ اللهَ، فتَجَاوَزَ عَنْهُ" (¬1). فالمراد: أنه لم يعمل خيراً قط في اعتقاد نفسه، أو في اعتقاد الناس فيه، وإلا فإن التجاوز عن المعسر شامل لإنظاره والإعراض عن مطالبته إلى وقت ميسرته، وشامل لترك الحق له، وهو معنى الصدقة عليه التي هي خير بنص القرآن. قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 271]؛ أي: من الإبداء - وإن كان في الإبداء خير - إلا أن الإخفاء أفضل - أي: في صدقة التطوع - وأما في الفرض فالإظهار خير من الإخفاء ليقتدي به غيره، وليعلم الناس أنه يؤدي الزكاة فلا يُطعن عليه بمنعها، فيأثم الطاعن. روى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال في الآية: جعل صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً - قال: - وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها (¬2). وروى الإمام أحمد، والبزار، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الشعب" عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أَدُلُّكَ عَلَى ¬
كَنْزٍ مِنْ كُنُوْزِ الْجَنَّةِ؟ " قلت: بلى يا رسول الله، قال: "لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ؛ فَإِنها كَنْز مِنْ كُنُوْزِ الْجَنَّةِ"، قلت: فالصلاة يا رسول الله؟ قال: "خَيْرٌ مَوْضُوْعٌ؛ فَمَنْ شَاءَ أقلَّ، وَمَنْ شَاءَ أكثَرَ"، قلت: فالصوم يا رسول الله؟ قال: "فَرْضٌ مَجْزِيٌّ"، قلت: فالصدقة يا رسول الله؟ قال: "أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ وَعِنْدَ اللهِ مَزِيْد"، قلت: فأيها أفضل؟ قال: "جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ، وَسِرٌّ إِلَىْ فَقِيْر" (¬1). قال الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]. وقال - عز وجل -: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. وإذا كان الأمر بذلك خير فأولى أن يكون فعله من الخير، فصنائع المعروف كلها خير. روى ابن أبي الدنيا في "الصمت" عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله قال: خصلتان إذا رأيتهما في رجل فاعلم أنَّ وراءهما خيرٌ منهما؛ إذا كان حابساً للسانه، يُحافظ على صلواته (¬2). وروى [عن] عبد الرحمن بن شُريح رحمه الله قال: لو أن عبداً ¬
اختار لنفسه ما اختار شيئاً أفضل من الصمت (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول في خطبته: ليس فيما دون الصدق من الحديث خير، من كذب يفجر، ومن يفجر يهلك (¬2). من الصدق ما استئناه الشرع؛ فإن الكذب فيه ما لم يمكن التعريض، والتورية خير، ففي الصحيح: "لَيْسَ بِالكَذَّابِ الَّذِيْ يُصْبحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُوْلُ خَيْرًا أَوْ يَنْمِي خَيْرًا" (¬3). وروى ابن أبي الدنيا - أيضاً - عن ميمون بن مهران رحمه الله قال - وعنده رجل من قراء أهل الشام -: إن الكذب في بعض المواطن خير، فقال الشامي: لا، الصدق في كل موطن خير، فقال: أرأيت لو رأيت رجلاً يسعى وآخر يتبعه بالسيف، فدخل داراً، فانتهى إليك، فقال: رأيت رجلاً؟ ما كنت قائلاً؟ ، قال: كنتُ أقول: لا، فهو ذاك (¬4). بل قالوا: إنَّ الكذب في مثل ذلك واجب، ولو استحلفه حلف. ¬
وكذلك يستثنى من الصدق ما لا خير فيه؛ كالقذف، والغيبة، والنميمة. روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غَنْم (¬1)، والطبراني في "الكبير" عن عبادة - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خِيَارُ أُمَّتِي الَّذِيْنَ إِذا رُؤُوْا ذُكِرَ اللهُ، وَشِرَارُ أُمَّتِي الْمَشَّاؤُوْنَ بِالنَّمِيْمَةِ، الْمُفَرِّقُوْنَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، البَاغُوْن للبُرَآءَ الْعَنَتَ (¬2) " (¬3). وروى الأصبهاني في "ترغيبه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! عَدْلُ سَاعَةِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّيْنَ سَنَة، قِيَامِ لَيْلِهَا وَصِيَامِ نهارِهَا، وَيا أَبَا هُرَيْرَةَ! جَوْرُ سَاعَةِ فِي حُكْمٍ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللُّهِ مِنْ مَعَاصِي سِتّيْنَ سَنَةً" (¬4). ومن شواهده: ما أخرجه الطبراني في "الكبير" بإسناد حسن، و"الأوسط" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَوْمٌ مِنْ إمَامٍ ¬
عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّيْنَ سَنَةً، وَحَدٌّ يُقَامُ فِي الأَرْضِ بِحَقِّهِ أَزْكَى فِيْهَا مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِيْنَ صَبَاحًا" (¬1). وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ}، أي: طاعة الله، والرسول، وأولي الأمر، ورد الأمر لهم {خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. روى ابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي في "نوادره"، والمفسرون، والحاكم وصححه، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - في قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: هم أولو الفقه وأولو الخير (¬2). روى ابن أبي شيبة، وابن جرير عن أبي العالية رحمه الله قال: هم أهل العلم، ألا ترى أنه يقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] (¬3). وفيه دليل على أن العالم إذا اختلف عليه أمر من أحكام الله تعالى ¬
لم يستطع أن يبلغ الحق فيه بفهمه ينبغي أن يردَّه إلى عالمه، وأنَّ ذلك خيرٌ له من ارتكاب التأويل والتكلف. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]؛ أي: تصديقاً، كما رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي (¬1). وفيه إشارة أنَّ من ألقيت إليه الموعظة فعمل بها كان على خير، وأنه إذا عمل بها كان أشد إيماناً بها وتصديقاً لها. وقال الله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263]. والقول المعروف لإفادة العلم والإرشاد إلى الخير والنصيحة، فالدلالة على الخير وقولك للسائل: يفتح الله عليك. قال الضحاك في قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} قال: ردُّ جميل، يقول: يرحمك الله، يرزقك الله، ولا ينتهره، ولا يغلظ له القول. رواه ابن المنذر (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن دينار رحمه الله مرسلاً قال: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَا مِنْ صَدَقَةٍ أَحَبُّ إِلى اللهِ مِنْ قَوْلٍ؛ أَلمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ ¬
تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} (¬1). روى الحاكم وصححه، عن علي - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] قال: علموا [أنفسكم و] أهليكم الخير (¬2). روى ابن ماجه عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "العَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ شَرِيْكَانِ فِي الْخَيْرِ (¬3)، وَلا خَيْرَ فِي سَائِرِ النَّاسِ" (¬4)؛ أي: بعدهما. وروى الترمذي وصححه، عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوْتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعلِّمِيْ النَّاسِ الْخَيْرَ" (¬5). وروى البزار عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مُعَلِّمُ ¬
الْخَيْر يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءِ حَتَّى الْحِيْتَانُ فِي البَحْرِ" (¬1). شامل لتعليم القرآن، والعلم، وتعليم الحرف، والصنائع التي يكف بها العبد وجهه، ويكفي عياله، وقد تقدم حديث: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْانَ وَعَلَّمَهُ"، وحديث: "فَضْلُ العِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ العِبَادَة"، وغيرهما. وفي كتاب الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. والحكمة القرآن أو علومه، أو الفقه، أو الإصابة في القول، أو غير ذلك، أقوال (¬2). وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقرئ الرجل الآية، ثم يقول: تعلمها؛ فإنها خيرٌ لك مما بين السماء والأرض، حتى يقول ذلك في القرآن كله. رواه ابن أبي شيبة، والطبراني (¬3). وروى البزار عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ البَيْتَ الَّذِي يُقْرَأُ فِيْهِ القُرْآنُ يَكْثُرُ خَيْرُهُ، وإنَّ البَيْتَ الَّذِي لا يُقْرَأُ فِيهِ القُرْآنُ يَقِلُّ خَيْرُهُ" (¬4). ¬
وروى الطبراني عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله في - صلى الله عليه وسلم - "يَسِيْرُ الفِقْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيْرِ العِبَادةِ، وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمْ أَيْسَرُهَا" (¬1). وروى مسلم، وأبو داود، والترمذي عن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -: أنَّ رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحمله، فقال: إنه قد أبدع بي فاحملني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ائْتِ فُلاناً" فأتاه فحمله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ" (¬2). وروى ابن حبان نحوه عن ابن مسعود (¬3). ورواه البزار مختصراً، ولفظه: "الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ" (¬4). ورواه الطبراني بهذا اللفظ عن سهل بن سعد (¬5). ورواه ابن أبي الدنيا، والبزار من حديث أنس، وزاد فيه: "واللهُ يُحِبُّ إِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ" (¬6). ¬
وهو بهذا اللفظ وهذه الزيادة عند الإمام أحمد، وأبي يعلى في "مسنديهما" عن بريدة (¬1). وأورده الضياء المقدسي في "المختارة" (¬2). وروى ابن ماجه وغيره عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ خَزَائِنُ، [و] لِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ، فَطُوْبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ مِغْلاقًا لِلشَّرِّ، وَويلٌ لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللهُ مِفْتَاحًا للشَّرِّ مِغْلاقاً لِلْخَيْرِ" (¬3). وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: سأل رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمسك القوم، ثم إن رجلاً أعطاه فأعطى القوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَنَّ خَيْرًا فَاسْتُنَّ بِهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُوْرِ مَنْ تَبِعَهُ غَيْرَ مُنْتَقِصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ سَنَّ شَرًّا فَاسْتُنَّ بِهِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مُنتقِصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئاً" (¬4). ¬
وأخرج الإمام أحمد، وابن ماجه نحوه من حديث أبي هريرة (¬1). وهو عند الإمامين؛ مالك، وأحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه بمعناه من حديث جرير (¬2). وفي الباب عن واثلة، وأبي جحيفة، وغيرهما (¬3). وروى الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن كعب قال: يؤتى بالرئيس في الخير يوم القيامة فيقال له: أجب ربك، فينطلق إلى ربه لا يحتجب عنه، فيؤمر به إلى الجنة، فيرى منزلته ومنزلة أصحابه الذين كانوا يجامعونه على الخير ويُعينونه عليه، فيقال له: هذه منزلة فلان، وهذه منزلة فلان، فيرى ما أعدَّ الله لهم في الجنة من الكرامة، وَيرى منزله أفضل من منازلهم، ويُكسى حُلَّة من ثياب الجنة، ويُوضع على رأسه تاج، ويغلفه من ريح الجنة، وشرق وجهه حتى يكون مثل القمر، فيخرج فلا يراه أهل ملأ إلا قالوا: اللهم اجعله منهم حتى يأتي أصحابه الذين كانوا يجامعونه على الخير ويُعينونه، فيقول: أبشر يا فلان؛ فإن الله أعد لك في الجنة كذا وكذا، وأبشر يا فلان؛ فإن الله أعدَّ لك في الجنة كذا وكذا، فلا يزال يبشرهم بما أعدَّ الله لهم في الجنة من الكرامة حتى ¬
يعلو وجوههم من البياض مثل ما على وجهه، فيعرفهم الناس [ببياض] وجوههم (¬1). وقال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء: 34، 35]، أي: ذلك المذكور من الإحسان إلى اليتيم، وكف الأذى عنه، والطمع عن ماله، والوفاء بالعهد، وفي الكيل والوزن خير وأحسن تأويلاً؛ أي: عاقبة. ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى أعم من ذلك من التوحيد، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والبراءة من الوأد، والزنا، والقتل بغير حق، والإحسان إلى اليتيم، وما بعده؛ فإنها كلها من الخير. وروى ابن المبارك، والبخاري في "تاريخه"، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِيْنَ بَيْتٌ فِيْهِ يَتيْمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِيْنَ بَيتٌ فِيْهِ يَتِيْمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ، أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيْمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا"، وأشار بالسبابة والوسطى (¬2). وروى أبو نعيم عن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ بُيُوْتيهُمْ بَيْتٌ ¬
فِيْهِ يَتِيْمٌ مُكَرَّمٌ" (¬1). وروى ابن ماجه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْخَيْرُ أَسْرعُ إِلى البَيْتِ الَّذِي يُؤْكَلُ فِيْهِ مِنْ الشَّفْرَةِ إِلَى سَنَامِ البَعِيْرِ" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستُّ خِصَالِ مِنَ الْخَيْرِ؛ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللهِ بِالسَّيْفِ، وَالصَّوْمُ فِي يَوْمِ الصَّيْفِ، وَحُسْنُ الصَّبْرِ عِنْدَ الْمُصِيْبَةِ، وَتَرْكُ الْمِرَاءِ وَأَنْتَ مُحِقُّ، وَتَبْكِيْرُ الصَّلاةِ فِي يَوْمِ الغَيْمِ، وَحُسْنُ الوُضُوْءِ فِي أَيَّامِ الشِّتَاءِ" (¬3). وقول: من الخير؛ أي: من الأفضل في الخير؛ إذ شاركها في الخير ما هو دونها؛ كصوم الشتاء، وحسن الوضوء في الصيف، والتبكير إلى الصلاة في يوم الصحو، إلا أن هذه أفضل. وروى ابن السني، والحاكم وصححه على شرط مسلم، عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذا أَوَىْ إِلَىْ فِراشِهِ ابْتَدَرَهُ مَلَكٌ وَشَيْطانٌ، فَيقُوْلُ الْمَلَكُ: اخْتِمْ بِخَيْرٍ، وَيَقُوْلُ الشَّيْطانُ: اخْتِمْ بِشَرٍّ، فَاِنْ ¬
ذَكَرَ اللهَ باتَ الْمَلَكُ يَكْلَؤُهُ" (¬1)؛ أي: يحفظه ويحرسه. وروى الترمذي، والبيهقي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ حَافِظَيْنِ يَرْفَعَانِ إِلَى اللهِ - عز وجل - مَا حَفِظَا مِنْ لَيْلٍ أَوْ نهَارٍ فَيَجِدُ اللهُ فِي أَوَّلِ الصَّحِيْفَةِ وَفِي آخِرِهَا خَيْراً إِلا قَالَ لِلْمَلائِكَةِ عَلْيِهِمُ السَّلامُ: أُشْهِدُكُمْ أَنَيّ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي مَا بَيْنَ طَرَفِي الصَّحِيفَةِ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" - قال المنذري: وإسناده حسن - عن عبد الله بن بُسر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اسْتَفْتَحَ أَوَّلَ نهَاره بِخَيْرٍ وَخَتَمَهُ بِخَيْرٍ قَالَ اللهُ - عز وجل - لِمَلائِكَتِهِ: لا تَكْتبوْا عَلَيْهِ مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوْبِ" (¬3). وروى الخرائطي في "مكارمه" عن محمد بن واسع رحمه الله تعالى قال: من قال حين يُصبح ثلاث مرات: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} إلى قوله: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 17 - 19] لم يفته خير كان قبله من ¬
الليل، ولم يدركه يومئذٍ شر، ومَنْ قال حين يُمسي: لم يفته خير كان قبله، ولم يدركه ليلته شر. قال: وكان إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام يقولها ثلاث مرات إذا أصبح، وثلاث مرات إذا أمسى (¬1). ما ذكره آخراً ثبت في الحديث المرفوع عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللهُ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلَهُ الَّذِيْ وَفَّى؟ لأَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى قَالَ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17، 18] " (¬2). وقد تقدم أن المؤمنين المطيعين خيار الناس، وبينَّا أن وجه خيريتهم أنهم اتبعوا إبراهيم عليه السلام في الوفاء، وهم إنما يوفون الله تعالى ما وعدوه من أنفسهم أن يُطيعوه، فكل طاعة وفاء بخير، وهذا الذكر من أحسن أنواع الخير، وأحسن ما يكون صباحاً ومساءً، وهو قرآن وذكر، ولا شك أن القرآن خير جميع الكلام. وروى البيهقي في "الشعب" عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أن ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَارَعَ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَمَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ لَهَا عَن الشَّهَوَاتِ، وَمَنْ تَرَقَّبَ الْمُوْتَ هَانَتْ عَلَيْهِ اللَّذَاتِ، وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْهِ الْمُصِيْبَاتِ" (¬1). روى البخاري، وغيره عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث: "إِنّي وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِيْنٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِيْني وَأتيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْر، أَوْ أتيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْر وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِيْني" (¬2). روى الشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن عبد الرحمن ابن سَمُرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ! لا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيْتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وإنْ أُوِتيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينكَ، وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" (¬3). وهذا الحديث والذي قبله دليل على اختيار خير الخيرين إذا تعارضا. وقال أبو حبيب الصفدي في "تائتيه": [من البسيط] ¬
وَاتْرُكِ الْخَيْرَ عَلَيْهِ الشَرُّ يَرْبُوْ وَجِدْ ... خَيْراً سِواهُ فَكَمْ لِلْخَيْرِ وَسْماتُ والخير الذي يتولد منه الشر ويربو عليه - أي: يزيد به - ليس إلا الخير الدنيوي المحض، أو الخير الأُخروي الذي لم تصح فيه النية، وهو دنيوي، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَأتِي الْخَيْرُ إِلا بِالْخَيْرِ" (¬1). ففي "الصحيح" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أكثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ"، قيل: ما بركات الأرض؟ قال: "زَهْرَةُ الدُّنْيَا"، فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أنه ينزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه قال: "أَيْنَ السَّائِلُ؟ " قال: أنا، قال أبو سعيد: لقد حمدنا حين طلع ذلك، قال: "لا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلاَّ بِالْخَيْرِ؛ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإنَّ كُلَّ مَا أَنبَتَ الرَّبِيع يَقْتُلُ حَبَطًا، أَوْ يُلِمُّ، إِلا آكِلَةَ الْخَضِرَةِ تأكُلُ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتُهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَمْسَ فَاجْتَرَّتْ، وَتَلَطَّتْ وَبَالَتْ، ثمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ، وإنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ؛ مَنْ أَخَذهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ، فَنِعْمَ الْمَعُونَة هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَانَ كَالَّذِي يَأكُلُ وَلا يَشْبَعُ" (¬2). وقوله: "لا يأتي الخير إلا بالخير" هو في "الصحيح" مرة. وفي رواية الدارقطني أنه كرره ثلاث مرات، وهو جواب قول ¬
القائل: "هل يأتي الخير بالشر؟ " (¬1). وفي رواية: "إِنَّهُ لا يَأْتِيْ الْخَيْرُ بِالشَّرِّ" (¬2). ووقع في رواية سعيد بن منصور عن سعيد المقبري مرسلاً: "أَوَ خَيْر هُوَ؟ " ثلاث مرات (¬3)، وهو استفهام إنكاري؛ أي: إن المال أو ما هو أعم منه من زهرة الدنيا ليس خيراً حقيقياً - وإن سُمِّيَ خيراً - كما في قوله تعالى حكايةً عن سليمان عليه السلام: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32]، وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]. وإنما يكون خيراً حقيقياً فيما يعرض له من الإنفاق في الحق، كما أنه شر حقيقي فيما يعرض له من البخل به عمن يستحقه، والإمساك عن الحق، أو من الإسراف في إنفاقه فيما لم يشرع. ثم قال: "إِنَّ هَذا الْمالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ". وفي رواية الدارقطني "وَلَكِنَّ هَذا الْمالَ"؛ أي: وغيره من زينة الدنيا، كما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ" إشارة إلى أن سورة الدنيا حسنة مؤنقة للنفوس، لاهية كالبقلة الخضراء الحلوة، لكنها قد يحصل منها الضرر، فالعاقل لا يغتر بحسنها وزخرفها خشْيةً من ضررها وسمِّها، كما أوضح ذلك بقوله: "وإِنَّ ¬
كُلَّ ما يُنْبِتُ الرَّبِيع"، ونسبة الإنبات إلى الربيع مجازي، والمنبت حقيقةً هو الله تعالى اختبار أو ابتلاء. "يَقْتُلُ حَبَطا، أَوْ يُلِمُّ". والحبط - بفتح الحاء المهملة، والباء الموحدة، وبالطاء المهملة -: انتفاخ البطن من كثرة الأكل. مَثَّلَ المنغمس في زهرة الدنيا بالدابة التي أصابت مرعى طيباً فلا زالت تأكل حتى امتلأ بطنها وانتفخ، فماتت، أو قاربَتْ أن تموت، ومع حصول الضرر والمحن من الدنيا لأهلها، كذلك يحصل لأهلها، جيل بعد جيل مزيد الرغبة فيها، وشدة المحبة لها لغلبة الهوى على العقل. وقد قيل: [من الرجز] وَآفَةُ الْعَقْلِ الْهَوَىْ فَمَنْ عَلا ... عَلَىْ هَواهُ عَقْلُهُ نالَ الْعُلا (¬1) (¬2) وهذا قليلٌ في الناس، والأكثرون تغلب أهويتهم على عقولهم، فيميلون مع الدنيا فتميل معهم وبهم، ثم تميل عليهم. ومن ثم قال بعض الحكماء: عجبت ممن يرى الدنيا، ويرى صَنِيْعها بأهلها، ثم يغتر بها. ¬
ولقد أخبر الله تعالى عن شدة تعلق الإنسان بالدنيا وزهرتها بحيث تحول بينه وبين طاعة ربه، وذكره وشكره بقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 6 - 8]؛ الكنود: الكفور. روى ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، ورواه عنهم عبد الرحمن وغيره (¬1)، ورُوِيَ مرفوعاً من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - (¬2). روى سعيد بن منصور، وابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن الحسن رحمه الله تعالى في قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] قال: لكفور يعدد المصيبات وينسى النعم (¬3). وقوله: {وَإِنَّهُ} يعني: الإنسان {عَلَى ذَلِكَ} أي من نفسه {لَشَهِيدٌ} [العاديات: 7]، قال محمد بن كعب: أي شاهد على نفسه. رواه ابن أبي حاتم (¬4). قلت: وشهادته على نفسه ككنوده، أما عند النظر والتحقيق يرى نفسه مقصراً في الشكر ناسياً للنعم، وأمَّا عند المصائب والشدائد يعلم أنه ¬
كان في نعمه لا يشكرها ولا يرعاها، فيعترف بالكُفران، ويُعاتب نفسه على ترك الشكران، ثم يرجع إلى الضراعة ويلوذ بالشفاعة، فإذا رُحِمَ وكُشِفَ عنه البلاء، ثم خول في النعماء عاد إلى الكنادة، وتعرض للنكاية، واغترَّ بالخير، وطلبه لنفسه، وضنَّ به عن أبناء جنسه، ومن ثمَّ قال تعالى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49]. ثم قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51]. وهذا حال من غلب عليه الشر - وهم الأكثرون - بخلاف أهل الخير - وهم أقل قليل - فإنهم في المصائب والنوائب أقرب إلى الله تعالى في المقاصد والمطالب حتى تحصل لهم منه الفوائد والمطالب، وفي الرخاء والنعماء على وَجَلٍ وإشفَاق من أن يكون ذلك مكراً بهم أو نقصاً مما يرجونه من ثواب الله تعالى، لم يغترُّوا بزخرف الدنيا العاجل، ولا بخيرها المتواتر المتواصل، بل علموا أنها وإن اتصلت إلى انفصال، وطالت إلى زوال، وأنَّ الدار الآخرة هي الحيوان، وإليها مرجع كل إنسان، فإن كان قد زرع في الدنيا خيراً حصد خيراً وكرامة، وإن كان قد زرع شراً حصد شراً وندامة كما قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ} [المزمل: 20]. وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]؛ أي: فكانت رأفته سبباً في هذا
التحذير، لم يدعكم غفلاً بلا بشير ولا نذير. قال الحسن رحمه الله تعالى في قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] قال: يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبدًا يكون ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذها. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وسبب مودته أن لا يرى عمله أنه كشف له عن حقيقة قبحه، وأنَّهُ كان شراً محضاً وإن كان يراه خيراً، كما أن سبب استلذاذه لمعصيته موافقتها لهواه فزينها له الهوى، وزخرفتها له الدنيا حتى عمي عن ضررها، وُحُمِيَ بسُكْر شهوته من شررها، فتمادى في طغيانه، وانغمس في خذلانه، وكلما قربت الآخرة من الخلق كما بعدت منها أحوالهم، وطالت في الدنيا آمالهم حين طال عليهم العهد حتى كادوا أن ينكروا، بل نسُوا بالكلية الوعيد والوعد، فقست قلوبهم، وتشابهت أسرارهم، فتوافقت أعمالهم، وتشاكلت أشكالهم، فقل الخير فيهم، وكثر الشر منهم لكلمة سبقت من الله تعالى: أن السَّاعة لا تقوم إلا على شرار الناس (¬2). ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ شَيْءٍ يَنْقُصُ إِلا الشَّرُّ؛ فَإِنَّهُ يُزَادُ فِيْهِ". ¬
رواه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" بإسناد جيد، من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - (¬1). [وقد] (¬2) اتفق لي قديماً مع بعض الوجوه الأكابر، وكنت قد رأيت منه ما شاكل أمثاله وأقرانه، وناسب وقته وزمانه أنه قال لي: يا مولانا! ما أكثر الشر في هذا الزمان! فقلت له: لا تعجب من الشر في هذا الزمان فإنه زمانه، ولكن إذا رأيت أحداً يعمل الخير فتعجب منه، فإنَّ هذا هو العجب، فقال لي: صدقت والله. وقد روي قريباً من هذا المعنى ما رواه أبو نعيم عن المعافى قال: سمعت سفيان يقول: من العجز أن يظنَّ بأهل الشر الخير (¬3). قلت: وهذا يحتمل معنيين: أحدهما: ينايسب مَا قدمناه أن زمان الشر لا يطلب من أهله الخير، فإنه لا يكون منهم إلا على وجه تسخيرهم من قبل الله تعالى لمن يشاء من أوليائه لحكمةٍ باهرة خفية أو ظاهرة. والثاني: أن من كان من عادته الظلم والفسق لا ينبغي أن يُحسن ¬
الظن به ويرجو الخير منه، فإنه إلى الشر أقرب منه إلى الخيرة فإن التمر والعناب لا يجتنيان من العلقم والصاب (¬1)، وإن اعتبرت أكثر أهل هذا الزمان وجدت الشر غالباً عليهم، والسبب ذلك موت الأخيار، وانقطاع الخلف منهم. روى ابن أبي شيبة عن الحسن رحمه الله تعالى قال: من أشراط الساعة، أو من اقتراب الساعة أن يأتي الموت خياركم، فيلقطهم كما يلقط أحدكم أطايب التمر من الطبق (¬2). وحاصل هذا التشبيه: أن الملتقط من الطبق يلتقط خير ما فيه وأجوده، ثم خير ما بقي، ثم خير ما بقي حتى يبقى شره وأرذله، وكذلك الموت يلتقط خير الناس، ثم خير من بقي منهم وإن كان يأخذ غيرهم، فإنه ولو أخذ من الأشرار ألوفاً وممن لا غناء لهم ألوفاً لا يكاد الناس يحسُّون بهم، ولا يفتقدونهم بخلاف الأخيار إذا مات واحدٌ منهم كأنه لم يمت غيره حتى يرى الناس أنه التقط خير الموجودين، ثم خير من بعدهم، حتى قيل: [من المتقارب] والْمَوْتُ نُقادُ عَلَىْ كَفِّهِ ... جَواهِرَ يَخْتارُ مِنْها الْجِيادَ وقد ألمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى وبينه بمثالٍ عظيم منطبق وصفه على وصفه، فمثل اختيار الموت خيار الناس بالمغربل، يختار خيار الحَب، ¬
ثم خياره حتى لا يبقى إلا حفالته ورذله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يَذْهبُ الصَّالِحُوْنَ الأَوَّلُ فَالأوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيْرِ أَو التَّمْرِ لا يُبَالِيْهِمُ اللهُ تَعَالَى بَالَةً". رواه الإمام أحمد، والبخاري عن مِرْداسٍ الأسلمي - رضي الله عنه -، والطبراني في "الكبير" عن المستورد بن شداد - رضي الله عنه - (¬1). وأخرج الرامهرمزي في "أمثاله" حديث مرداس، ولفظه: "يَذْهَبُ الصَّالِحُوْنَ أَسْلافاً الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ حَتَى لا يَبْقَى إِلا حُثَالةٌ كَحُثَالَةِ التَّمْرِ وَالشَّعِيْرِ لا يُبَالِي اللهُ بِهِم" (¬2). المراد بالأسلاف - جمع سلف -: الفَرَط الذي يتقدم القوم لتهيئة مائهم، وذلك أن الصالح والخير إذا مات تاسف الناس عليه وتألموا لفقده، وإنما يقدمه الله تعالى ليكون سلفاً وفرطاً لأهله، أو لأصحابه، أو للمسلمين بعده. وقوله: "الأول فالأول"؛ أي: مرتبين يتقدم الخيِّر ثم الخيِّر، والأصلح ثم الأصلح. وقوله: "حتى لا يبقى" غاية لهذه العادة الجارية والسنة الماضية؛ أي: إنَّ هذه سنة الله تعالى في اصطفاء الأخيار إلى دار القرار حتى لا يبقى ¬
بعدهم من الناس إلا حثالة. وفي "الصحيح": حفالة - كلاهما بالحاء المهملة، وإحداهما بالمثلثة، والأخرى بالفاء -: ما لا خير فيه، أو الردي مما بقي من تمر أو شعير، أو الزؤان (¬1) ونحوه يكون في الطعام. وقوله: "لا يُباليهم الله بالة": فَعْلَة من المبالاة، وهي الاكتراث بالشيء؛ أي: لا يعتني بشأنهم، ولا يكترث بأمرهم، بقوا أو ماتوا. فهذا من طرق تمحض الناس للشر حتى تقوم عليهم الساعة. ومن طرقه: أنَّ العبد يسمع بالخير وأهله، ومقامهم وثوابهم، فيرغب في طريقهم، ويتحرى الخير وأعمال الخير، فبينا هو في سيره إذ عرض له شاغل هوى فألهاه، وهذا حال كثير من الناس بل أكثرهم، ولذلك خاطبهم الله تعالى بقوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، أو مانع منعه عمَّا هو فيه من مرض، أو بلاء، أو حاجة [ .... ] (¬2) ويجزع ويسخط فيهلك، والله تعالى من عادته امتحان عباده بذلك حتى يظهر خالصهم من زيفهم. روى الترمذي، وغيره عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلاهُم، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ" (¬3). أو تأوُّلٌ يتَأَوَّلُ به ما لا يحل بما بقربه، ويحِلُّه ويرخص فيه كالمعتزل ¬
عن شر الناس فيتأول أو يؤول له الدخول على الملوك، أو مخالطة التجار أو معاشرة الفجار، فإذا هو قد مُكِر به، فينقلب خيره شراً، أو يرجع يداه منه صِفراً، ولما كان أعظم وجوه التأويل في معاشرة الأشرار قصد نصحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر رخصَ الشارع - صلى الله عليه وسلم - في ترك ذلك - كان كان في الأصل فرضاً - وذلك من باب ترك ما هو أدون الخيرين لتحصيل أعظمهما وخيرهما كما سبقت الإشارة إليه. روى الإمام أحمد، وابن ماجه، والبيهقي في "الشعب" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قيل: يا رسول الله! متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: "إِذَا ظَهَرَ فِيْكُم مَا ظَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيْلَ قَبْلَكُم"، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "إِذَا كَانَ الادِّهانُ فِي خِيَارِكْم، وَالفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُم (¬1)، وَتَحوَّلَ الْمُلْكُ فِي صِغَارِكُم وَالفِقْهُ - وفي رواية: والعِلْمَ - فِي رِذالِكُمْ" (¬2). وفي معنى حديث أنس - رضي الله عنه - حديث أبي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ رحمه الله قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؛ قلت: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ¬
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألتُ عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدنْيَا مُؤْثَرَةً، وإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيِ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدعْ عَنْكَ العَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ؛ أيَّامَ الصَّبْرِ، الصَابِرُ فِيْهِنَّ مِثْلُ القَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ". رواه ابن ماجه، والترمذي، والحاكم وصححاه، وآخرون (¬1)، وهو حديث ثابت صحيح، من عمل به وفِّق إلى الخير والعمل به. وروى نعيم بن حماد في "الفتن"، وأبو أحمد العسكري في "المواعظ"، وغيرهما عن حذيفة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَزَالُ يَدُ اللهِ عَلَى هَذهِ الأُمَّةِ وَفِي كَنَفِهِ مَا لَمْ يَمِلْ قُرَّاؤُهُم إِلَى أُمَرَائِهِم، وَمَا لَمْ يُوَقِّرْ خِيَارُهُم شِرَارَهُمْ، وَمَا لَمْ يُعَظِّمْ أَبْرَارُهُم فُجَّارَهُم، فَإِذَا فَعَلُوْا ذَلِكَ رَفَعَها عَنْهُم، وَقَذَفَ فِي قُلُوْبِهُمُ الرُّعْبَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الفَاقَةَ، وَسَلَّطَ عَلَيِهِم جَبَابِرَتَهُم فَسَامُوْهُم سَوْءَ العَذَابِ". قال: وقال حذيفة: لا يأتهم أمر يضحكون منه إلَّا رَدِفَهم أمر يشغلهم عن ذلك (¬2). ¬
تتمة
* تَتِمَّةٌ: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70]. أراد بالخير الأول الإيمان والإخلاص، وهما لم يكونا إذ ذاك في قلوب الأسارى، وإنما المراد منه الإيمان وقصده، فإن فيهم من كان يتلجلج الإيمان [في قلبه] (¬1)؛ كالعباس - رضي الله عنه -، فإذا كانت إرادة الكافر للإيمان وقصده إياه مؤثراً في تحصيل الخير، فما ظنك بالمؤمن إذا أراد الخير ونواه؟ [وقد روى] (¬2) ابن جهضم عن عبد الله ابن الإمام أحمد - رضي الله عنه - قال: قلت لأبي يوماً: أوصني يا أبه، فقال: يا بني! اِنْوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويْتَ الخير (¬3). وروى الدينوري عن عبد الله (¬4) بن زبيد - يعني: اليامي - قال: كان أبي يقول: يا بني! انو في كل شيء تريده الخير حتى خروجك إلى الكناسة (¬5). ¬
وأخبرنا والدي رحمه الله تعالى عن مشايخه مشايخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري، وأبي إسحاق البرهان بن أبي شريف، وأبي إسحاق البرهان القلقشندي، والعلامة شهاب الدين القسطلاني، عن شيخ الإسلام أبي الفضل بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: أنه أنشد لنفسه بعد إملاء حديث: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ" في معناه: [من الرمل] إِنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيَّةِ فِيْ ... كُلِّ أَمْرٍ أَمْكَنَتْ فُرْصَتُهُ فَانْوِ خَيْراً وَافْعَلِ الْخَيْرَ فَإِنْ ... لَمْ تُطِقْهُ أَجْزَأَتْ نِيَّتُهُ وفي الحديث: "نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ (¬1) مِنْ عَمَلِهِ". رواه البيهقي في "الشعب" عن أنس - رضي الله عنه - (¬2). وهو عند الطبراني في "الكبير" عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -، إلا أنه زاد فيه: "وَعَمَلُ الْمُنَافِقِ خَيْرٌ مِنْ نِيَّتِهِ، [وكلٌّ يعملُ على نيته] (¬3)، فَإِذَا عَمِلَ الْمُؤْمِنُ نارَ فِي قَلْبِهِ نُوْرٌ" (¬4)؛ أي: بسبب نيته الخير في عمله بخلاف ¬
المنافق فإنه ينوي السوء - وإن عمل الخير ظاهراً - فيظلم قلبه. [وروى] (¬1) ابن أبي الدنيا في "الإخلاص والنية" عن مالك بن دينار رحمه الله قال: إنَّ للمؤمن نية في الخير [هي أمامه] (¬2) لا يبلغها عمله [وإن للكافر] (¬3) نية في الشر [هي أمامه] (¬4) لا يبلغها عمله، والله يبلغ بكل ما نوى. [وعن داود الطائي قال] (¬5): [رأيت الخير كله إنما] (¬6) يجمعه حسن النية، فكفاك به خيراً وإن لم [تنصب] (¬7) (¬8). [وروى أبو نعيم عن إبراهيم النخعي قال: إن الرجل ليتكلم بالكلام على كلامه المقت، ينوي به الخير، فيلقي الله له العذر في قلوب الناس حتى يقولوا: ما أراد بكلامه إلا الخير، وإن الرجل ليتكلم الكلام الحسن لا يريد به إلا الخير، فيلقي الله في قلوب الناس حتى يقولوا: ما أراد بكلامه الخير] (¬9). ¬
وروى الطبراني - بإسنادين أحدهما جيد - عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "يُؤْتَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِصُحُفٍ مَخَتَّمَةٍ، فتنْصَبُ بَيْنَ يَدَي اللهِ تَعَالَى فَيقُوْلُ: ألقُوا هَذهِ وَأَلقُوا (¬1) هَذهِ، فتَقُوْلُ الْمَلائِكَةُ: وَعِزَّيكَ مَا رَأَيْنَا إِلا خَيْرًا، فَيَقُوْلُ اللهُ - عز وجل -: إِنَّ هَذَا كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي وإِنِّي لا أَقْبَلُ [اليومَ مِنَ العملِ] إِلا مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن أبي عمران الجون لي رحمه الله تعالى قال: بلغنا أن الملائكة عليهم السلام تصف لكتبها في السماء الدنيا كل عشية بعد العصر، فينادي الملك: "ألق تلك الصحيفة"، وينادي الملك: "ألق تلك الصحيفة"، قال: فيقولون: "ربَّنا! قالوا خيراً وحفظناه عليهم"، قال: فيقول: "إنهم لم يريدوا به وجهي، وإني لا أقبل إلا ما أُريد به وجهي"، قال: وينادي الملك الآخر: "اكتب لفلان بن فلان كذا وكذا"، قال: فيقول: "يا رب! إنه لم يعمله، يا رب! إنه لم يعمله" قال: فيقول: "إنه نواه، إنه نواه" (¬3). [إن] (¬4) حسن النية يؤول إلى خير في الدنيا كما يؤول إلى خير في ¬
الآخرة، ومن هنا قيل: العبد محمول على نيته، فكثيراً ما ينوي العبد الخير فيرى الخير، وينوي الشر فيرى الشر. [ثم إنَّه] (¬1) يثني عليه بما في نيته فربَّ عامل خير يثنى عليه بشر ثناء لأن نيته السوء، ورب مقصر في أعمال الخير يثنى عليه بخير ثناء لأن نيته (¬2) الخير، فليس كل عمل مقبولاً عند الله ولا مطلقة به ألسنة عباده، ومن ثم قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]؛ أي: فسيرى الله عملكم المقصود منكم، الموافق لحقيقة ما في سرائركم. وقال تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]. قال الحسن: أي: على نيته. رواه هناد بن السري، وابن المنذر (¬3). والمعنى: أنَّ عمل كل عامل على مقدار شاكلته ونيته في جزائه عند الله تعالى فيما يظهره الله تعالى من حاله على ألسنة الناس، وبهذا الطريق يُطلق الله ألسنة الناس بالثناء على العبد. وروى الإمام أحمد، وابن أبي الدنيا، وأبو يعلى، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَو أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ ¬
صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلا كُوَّةٌ لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِناً مَا كَان" (¬1)؛ أَيْ: مِنْ خَيْرٍ أَو شَرٍّ. والكوة - بفتح الكاف وضمها -: الخرق في الحائط، ويقال بغير هاء، أو يختص المذكر بالكبير، والمؤنث بالصغير كما في "القاموس" (¬2). جمع صلى الله عليه وسلم بين الباب والكوة مبالغة في أن لا منفذ لتلك الصخرة الصَّماء التي لو فرض أن الله تعالى خلق فيها آدمياً يعمل ويسَّر عمله لأخرج الله تعالى عمله للناس على ألسنة الناس. وروى ابن أبي الدنيا وغيره عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: ما من عبدٍ يسرُّ سريرةً إلا ردَّاه الله رداءها علانية؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر (¬3). أي: إن كان ما يسره خيراً فرداؤه بين الناس خير، وإن كان ما يسره شراً فرداؤه شر. ¬
استعار الرداء للثناء، والتردية للزوم ذلك الثناء ذلك العبد وسبوغه عليه كما يلزم الثوب لابسه، ويسبغ عليه. [وروى الدينوري عن مسعر - رضي الله عنه -: أنه قال: إذا المرء أخفى الخير مكتتماً له ... فلا بد أن الخير يوماً سيظهر ويكس رداءً بالذي هو عامل ... كما يرفع الثوب الرفيع المشهر] (¬1) وروى الحكيم الترمذي في "نوادره" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُل عَبْدٍ صِيْتٌ؛ فَإِنْ كَانَ صَالِحًا وُضعَ فِي السماء (¬2)، وَإِنْ كَانَ مُسِيْئاً وُضعَ فِي الأَرْضِ" (¬3). والصيت: الذكر الحسن، واقتصر عليه في "القاموس" (¬4). ويحتمل أن يكون في الذكر السيئ أيضاً، والحديث يدلُّ عليه. ويحتمل أنه أُطلق على الذكر السيئ مجازاً على سبيل التهكم. ¬
وكذلك الثناء هو حقيقة في الخير، ومن أهل اللغة من يقول: هو حقيقة في الشر أيضاً، ومنهم من يقول: مجاز فيه. وإنما سُمي الصيت صِيْتاً لأن الأصوات ترفع به في الناس، وفي طبيعة كل إنسان محبة الثناء الحسن وحسن الصيت. وإنما يحسن هذا منه إذا أحبَّ أن يكون الثناء الحسن دليلاً على إرادة الله تعالى الخير فيحمد الله تعالى ويشكره، لا على وجه محبة المحمدة من الناس وطلب الإقبال لنفسه منهم عليه، فإنَّ هذا يدخل في حدود الرياء، وإذا كان هذا مما جُبل عليه الإنسان، وكماله أن يحبه لإخوانه المؤمنين أيضاً. كما يدخل ذلك في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَسْتكمِلُ عَبْدٌ الإِيْمَانَ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيْهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ". رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" عن أبي مليكة الذِّماري - رضي الله عنه - (¬1). فإذا علم من أحدٍ خيرًا، وعلم أن الثناء عليه بما يعلم منه ينفعه أو يدفع عنه شراً، فقد وجب عليه أن يثني عليه ويعرف حقه. روى أبو نعيم في "الحلية" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا أَحْبَبْتُمْ خِيَارَكُم وَعَرَفْتُم لَهُم الْحَقَّ (¬2)؛ ¬
فَإنَّ العَارِفَ بِالْحَقِّ كَالعَامِلِ بِه" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُم"، وهو في "صحيح مسلم"، وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها (¬2). لا يجوز لك أن تثني على أهل الشر بالخير؛ فإنَّ هذا جفاء، وعجز، ومُراءاة، وزُور، ونفاق خصوصاً إذا فضلت أهل الشر، وأظهرت مزيتهم على أهل الخير؛ فإنه مكابرة في الفسوق والنفاق، كما حكى الله تعالى ذلك عن أهل الكتاب بقوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51]. ¬
تذنيب
* تَذْنِيْبٌ: اعلم أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نص على خيرية أمور من الأمور الدنيوية، إما من حيث إنَّ الخيرية فيها بمعنى الصلاحية والنفع، أو من حيث إنَّ تلك الأمور تكون معينة على أمور الآخرة فوصفت بالخيرية لذلك. [فمن ذلك] (¬1): ما رواه أبو داود عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ" (¬2). ورواه الحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "السنن"، ولفظه: "خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ" (¬3). ووجهه أن الصداق إذا كان يسيراً على الزوج وصل إلى المرأة عن طِيْبِ نفسه، فتهنأ به وُيبارك لها فيه، وكذلك إذا كان النكاح يسير المؤنة كان أهنأ، وكانت المرأة عند الزوج أحظى، وبذلك تطيب العِشْرة وتتم المعونة بالنكاح على الدين. [ومن ذلك] (¬4) ما رواه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن سُوَيْدُ بن هُبَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ مَالِ الْمَرْءِ مُهْرَةٌ مَأْمُوْرَةٌ، أَو ¬
سِكَّةٌ مَأْبُوْرَةٌ" (¬1). قال في "القاموس": أي: مهرة كثيرة النتاج والنسل. والأصل مؤمرة، وإنما هو للازدواج (¬2)؛ يعني: مع مأبورة؛ أي: مصلحة. والمهرة: أول ما ينتج من الفرس ومن غيره، أو ولد الفرس (¬3)، والأول أولى. وإنما كان هذا لأن المستنتج والزارع ينتظران رحمة الله تعالى وما يفتح منها، والاستنتاج والزراعة أَلْيق بحال المتوكل من التجارة. ومن ذلك القبيل قوله تعالى حكايةً عن موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]. قال مجاهد: من طعام. رواه ابن أبي شيبة وغيره (¬4). وإنما كان الطعام خيراً لأنه ينتفع به في بقاء البنية، وبها يقوى العبد على الطاعة، ويكون صلاحه دنيا وأُخرى. وإذا كان الطعام بتيسير الله تعالى ومحض منته كان خيراً محضاً، ونفعاً صِرفاً، ولذلك لم يتعرض بالسؤال لغير الله تعالى، بل تولَّى إلى ¬
الظل، وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]؛ أي: ما اخترته لي وأنزلته عليَّ بلا منة مخلوق، ولا سعي، ولم يقل ذلك حتى اضطر إلى ما يقيم صلبه. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ما سأل إلا الطعام. وقال مرة: سأل فلقاً من الخبز يشد بها صلبه من الجوع. وقال أيضاً: لقد قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة، ولقد لصق بطنه بظهره من شدة الجوع. رواهما ابن أبي حاتم. وروى الأول - أيضاً - عنه عبد الله ابن الإمام أحمد، والثاني والثالث ابن المنذر، والثالث سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والضياء في "المختارة" (¬1). وهذا إيماء إلى أن الطعام وغيره مما يحتاج إليه العبد في معاشه لا يكون خيراً إلا إذا كان على قدر الحاجة، وما زاد على الحاجة لا يدل على الكرامة. ثم قد يكون من الخير أن ييسر الله تعالى ما هو الأنفع في قوام البدن حين صحته والأجَلَبُ للشفاء في حال مرضه؛ لأن البدن كلما كان أعدل كان في الطاعة أنشط. [ومن] (¬2) هنا كان أحب الطعام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الثريد من الخبز، ¬
والثريد من الحيس (¬1) كما رواه أبو داود، والحاكم وصححه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬2). ومحبته للثريد إنما كانت من حيث إنه خير من غيره، وأنفع منه، وأغنى في القوت. وروى ابن عدي في "الكامل" عن عائشة: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ طَعَامِكُم [الخبز، وخير] (¬3) فَاكِهَتِكُمُ العِنَب" (¬4). وفي "الصحيح": "وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيْدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ" (¬5). وروى الديلمي من حديثه - أيضاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ طَعَامِكُمُ البَارِدُ الْحُلوُ، وَخَيْرُ شَرَابِكُم البَارِدُ الْحُلْوُ". وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححه، عن عائشة ¬
رضي الله عنها: كان أحب الشراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحلو البارد (¬1). وعنها: كان أحب الشراب إليه العسل (¬2). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان أحب الشراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللبن (¬3). رواهما أبو نعيم في "الطب". وكلٌّ منهما يُوصف بالحلاوة. [وروى أبو نعيم في "الطب" عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير الشراب في الدنيا والآخرة الماء، وصححه الحاكم بنحوه من حديث صهيب - رضي الله عنه -، ولفظه: "ألا إن سيد الشراب في الدنيا والآخرة الماء"] (¬4). وروى ابن قتيبة في "غريب الحديث"، والديلمي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الْمَاءِ الشَّبِمُ، وَخَيْرُ الْمَالِ الغَنَمُ، وَخَيْرُ الْمَرْعَى الأَرَاكُ وَالسَّلَمُ" (¬5). ¬
الشبم - بفتح المعجمة، وكسر الموحدة -: البارد. والشبم - بفتحتين -: البَرد. ومن رواه بالفتح فهو على حذف مضاف؛ أي: ذو الشبم. وصفه بالمصدر مبالغة في برده لأن الماء كما برد لذَّ وأروى، ومن ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ أُصِحَّ جَسَدَكَ وَأَرْوِكَ مِنَ الْمَاءِ البَارِدِ؟ ". رواه الترمذي، وابن حبان، والحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). وقوله: "خَيْرُ الْمَالِ الغَنَمِ" يجمع بينه وبين قوله: "خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأمُوْرَةٌ" بأن الغنم خير المهرة المأمورة؛ أي: المنتجة. وروى البيهقي في "الشعب" عن أنس أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الإِدَامِ اللَّحْمُ، وَهُوَ سَيِّدُ الإِدَامِ" (¬2). [ومن شواهده] (¬3) حديث علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَيِّدُ طَعَامِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّحْمُ". رواه أبو نعيم في "الطب" (¬4). ¬
ولا معارضة بينه ويين حديث أنس: "سَيِّدُ إِدامِكُمُ الْمِلْحُ". رواه ابن ماجه، والحكيم الترمذي (¬1). لأن المراد تسييد الملح مطلقاً؛ لأن اللحم لا يتم تأديمه إلا به، فهو إدام مستقل، ومصلح لكل إدام. أو سيادة الملح من حيث الإصلاح، وسيادة اللحم من حيث الإغناء. وروى الإمام أحمد، والحاكم، وابن السني، وأبو نعيم؛ كلاهما في "الطب" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ مَا تَدَاويتُم بِهِ اللدُوْدُ (¬2) والسَّعُوْطُ (¬3) والْحِجَامَةُ والْمَشِيُّ (¬4) " (¬5). وروى أبو نعيم عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ مَا تَدَاويتُم بِهِ الْحَجْمُ وَالفِصَادُ" (¬6). وروى الديلمي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الغِذَاءِ بَوَاكِرُهُ، وَأَطْيَبُهُ أَوَّلُه" (¬7). ¬
وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ، فِيْهِ طَعَامٌ مِنَ الطُّعْمِ، وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقَمِ" (¬1). وروى الإمامان؛ مالك، وأحمد، والترمذي وصححه، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ الْخَيْلِ الأَقْرَحُ الأَدْهَمُ الأَرثَمُ، ثُمَّ الْمُحَجَّلُ الثَّلاثِ مُطْلَقُ اليَمِيْنِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ أَدْهَمَ فَكُمَيْتٌ عَلَى هَذهِ الشِّيَةِ" (¬2)؛ أي: العلامة. وهذه الخيرية إما من حيث إنه أقوى وأشد وأثبت، وإما من حيث إنه يتيمن به، ويتبارك به. والأقرح: الذي في وجهه قُرحة - بالضم - وهي دون الغرة. وفيه دليل على أن الأقرح خير من الأغر. والمحجل: مبيض القوائم الثلاث. مطلق اليمين شامل لليد والرجل. - والكميت - على مثال المُصَغَّر -: الذي خالط حمرتَه سوادٌ. ¬
وروى العقيلي عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ طِيْبِ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيْحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ، وَخَيْرُ طِيْبِ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَخَفِيَ رِيْحُهُ" (¬1). ووجهه أن الزينة بالنساء أليق. وروى ابن ماجه، والطبراني في "الكبير"، والحاكم وصححه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ ثِيَابِكُمُ البَيَاضُ؛ فَكَفِّنُوْا فيْهَا مَوْتَاكُمْ، وَأَلبِسُوْهَا أَحْيَاءكُم، وَخَيْرُ أَكْحَالِكُمُ الإِثْمِدُ يُنْبِتُ الشَّعْرَ، وَيَجْلو البَصَرَ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير"، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ البِقَاعِ الْمَسَاجِدُ، وَشَرُّ البِقَاعِ الأَسْوَاقُ" (¬3). وروى الإمام أحمد، والبيهقي في "السنن" عن أم سلمة رضي الله ¬
عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ مَسَاجِدِ النِّسَاءِ قَعْرُ بُيُوتهِنَّ" (¬1). وروى الشيخان، وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا طِيرَةَ، وَخَيْرُهَا الفَألَ"، قيل: يا رسول الله! وما الفأل؟ قال: "الكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُم" (¬2). ورويا عن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ، وُيعْجِبُنِي الفَألُ؛ الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، الكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ" (¬3). قال البغوي: الفأل مهموز، وجمعه فُؤُل (¬4)، والفأل قد يكون فيما يحسن ويسوء، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء. قال: وإنَّما أحبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الفأل لأن فيه رجاء الخير والعائدة، ورجاء الخير أحسن بالإنسان من اليأس وقطع الرجاء عن الخير (¬5). وقال صاحب "القاموس": الفأل ضد الطِيرَة؛ كأن يسمع مريض: يا سالم، أو طالب: يا واجد، ويستعمل في الخير والشر، وجمعه فؤول ¬
وأفؤل، انتهى (¬1). قلت: ففي عبارته أنَّ للفأل استعمالين ضد الطِيرَة، فلا يكون إلا في الخير، وبمعنى توقع ما يَسُر أو يسوء، فيكون في الخير والشر، وقد أخذ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول بالاستعمال الأول، وهو الغالب، وبه يكون الفأل محموداً مطلقاً. وروى الدينوري في "المجالسة" عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: كنا عند ابن عمر وعنده ابن عباس - رضي الله عنهم -، فمرَّ غراب يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال ابن عباس: لا خير ولا شر (¬2). أشار إلى كراهية التطير، وأنَّ الغراب وكذا كل ما تشاءم الناس به لا ينسب إليه خير ولا شر، أو لا يكون إلا ما قدره الله تعالى من خير أو شر. وروى البيهقي عن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ خَلِّكُم خَلُّ خَمْرِكُمْ" (¬3)؛ يعني: إنه يكن أزكى طعماً، وأذكى حموضة، وأنفع للأبدان. ¬
وروى الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، وغيرهم، وصححه الحاكم، عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، وأخرجه الحاكم وصححه أيضاً، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ المْجَالِسِ أَوْسَعُهَا" (¬1). وروى الطبراني عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ (¬2) الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ القِبْلَةُ" (¬3). وهذه الخيرية من حيث الفضيلة، وهي في الحديث المتقدم من حيث الرفق، وجمع العيال، وتحضير الأثاث. وروى الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأةُ الصَّالِحَةُ" (¬4). وروى ابن عدي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ ¬
لَهْوِ الْمُؤْمِنِ السِّبَاحَةُ، وَخَيْرُ لَهْوِ الْمَرْأَةِ المِغْزَلُ" (¬1). وإنما كانت السباحة خير لهو المؤمن؛ لأنه تنفعه عند الحاجة إليه، وينبغي أن يكون كذلك لهوه بسهمه وركض فرسه. وروى البزار، والطبراني في "الأوسط" عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَلَيْكُم بِالرَّمْي؛ فَإِنَّهُ مِنْ خَيْرِ لَهْوِكُم" (¬2). وروى أبو عوانة عنه - موقوفاً - قال: "تَعَلَّمُوا الرَّمْيَ؛ فَإِنَّهُ خَيْرُ لَعِبِكُم" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الْخَيْلُ مَعْقُوْدٌ فِي نَوَاصِيْهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ". رواه الإمام مالك، وابن أبي شيبة، والشيخان، والنسائي، وابن ماجه عن ابن عمر. وابن أبي شيبة، والشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن عروة البارقي. ومسلم، وابن أبي شيبة عن أبي هريرة. وهما والنسائي عن جرير. ¬
والنسائي، عن سلمة بن نفيل، - رضي الله عنهم - (¬1). وفي الباب عن غيرهم. وروى الترمذي، وابن ماجه، وضعفه البيهقي، عن أبي أمامة، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن عبادة: قالا - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الأُضْحِيَةِ الكَبْشُ الأَقْرَنُ، وَخَيْرُ الكَفَنِ الْحُلَّةُ" (¬2). وروى أبو يعلى، وابن حبان في "صحيحه" عن جابر - رضي الله عنه - قال: ¬
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ مَا رُكِبَتْ إِلَيْهِ الرَّوَاحِلُ مَسْجِدِي هَذَا وَالبَيْتُ العَتِيْقُ" (¬1). وروى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ"، الحديث (¬2). وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ يَومٍ تَحْتَجِمُوْن فِيْهِ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرُوْنَ"، الحديث (¬3). وروى أبو نعيم عن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَوْمٌ عَلَى عِلْمٍ خَيْرٌ مِنْ صَلاةٍ عَلَى جَهْل" (¬4). وروى الإمام أحمد، وسعيد بن منصور في "سننه" - بسند صحيح كما قال السيوطي (¬5) - عن محمود بن لَبيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اثْنتَانِ ¬
يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ؛ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ مِن الفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ المَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "الموت" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: ما أهدى إلي أخ هدية أحب إليَّ من السلام، ولا بلغني عنه خبر أحب إليَّ من موته (¬2). عن جعفر الأحمر رحمه الله قال: من لم يكن له في الموت خير، فلا خير له في الحياة (¬3). وروى ابن المبارك في "الزهد"، وابن أبي شيبة عن الربيع بن خُثيم رحمه الله تعالى قال: ما من غائبٍ ينتظره المؤمن خير له من الموت (¬4). وروى ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا عن مسروق رحمه الله تعالى: ما من شيء خيرٌ للمؤمن من لحدٍ قد استراح من هموم الدنيا، وأمن من عذاب الله تعالى (¬5). وروى البيهقي في "شعب الإيمان" عن علي - رضي الله عنه - قال: التوفيق خير قائد، وحسن الخلق خير قرين، والعقل خير صاحب، والأدب خير ¬
ميراث، ولا وحشة أشد من العجب (¬1). وروى ابن الجوزي في "الصفوة" عن أبي الحسن بن سمعون رحمه الله قال: الخير كله في هذا الزمان: تركُ ما الناس عليه، ومصُّ النَّوى، وسَفُّ (¬2) الرمل (¬3). وروى أبو بكر بن لال في "مكارم الأخلاق" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الرَّبْعَةِ" (¬4). ووَجهه أَن الرَّبْعَةَ أقرب إلى الاعتِدَالِ من الطَّويْل ومن القصير؛ لأن اعتِدَالَ الْجَسَدِ يَدل على اعتدَالِ الخلقِ والخلق، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رَبعة في الرجال. ولو قيل: إنَّ الألف واللام في الحديث للعهد، وإن المراد بالربعة هو - صلى الله عليه وسلم - لم يبعد. وكذلك ينبغي أن تعلم أن خير ما يكون العبد إذا كان كهلاً في سن الأربعين. ومن هنا تنبأ بها الأنبياء عليهم السلام. وإذا بلغ المرء الأربعين ولم يعتدل، دلَّ ذلك على فساد مزاجه ¬
وسوء خلقه، ومن ثم قيل: إذا بلغ الإنسان الأربعين ولم يغلب خيره على شره فليتجهز إلى النار (¬1). وروى أبو يعلى، والطبراني في "الكبير" عن واثلة، والبيهقي في "الشعب" عن أنس، وعن ابن عباس، وابن عدي في "الكامل" عن ابن مسعود - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ شَبَابِكُم مَنْ تَشَبَّهَ بِكُهُولكُم، وَشَرُّ كُهُولكُم مَنْ تَشَبَّبَ" (¬2). وسيأتي الكلام على ذلك في موضع مبيناً إن شاء الله تعالى. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي المِنهال رحمه الله قال: ما جاور العبد في قبره جارٌ خيرٌ له من استغفار كثير. وروى ابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي قتادة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ مَا يَخْلُفُ الإنْسَانَ مِنْ بَعْدِهِ ثَلاثٌ؛ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، وَصَدَقَةٌ تَجْرِي يَبْلُغُهُ أَجْرُهَا، وَعِلْمٌ يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ بَعْدِهِ" (¬3). ¬
قلت: وهذا الخير المخلف بعده هنا غير الخير المتروك في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180]؛ فإنَّ الخير في الآية هو المال، أو المال الكثير. وقد روى ابن أبي شيبة، والمفسرون، وغيرهم، وصححه الحاكم، عن عروة: أنَّ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - دخل على مولى لهم في الموت وله سبعمئة درهم، أو ستمئة درهم، فقال: ألا أوصي؛ قال: لا، إنَّما قال الله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، وليس لك كثير مال، فدع مالك لورثتك (¬1). ولا تكون الصدقة المتروكة بعده خيراً إلا إذا سلمت من الإثم في جميع ما يتصدق به أولاً، ثم في الإخلاص في التصدق به، ثم في ترك المضاررة لأحد من ورثته من بعده؛ فإنَّ الإضرار في الوصية من الكبائر كما رواه ابن أبي شيبة، والنسائي، وغيرهما عن ابن عباس (¬2)، فلا خير في الوصية إلا إذا سلمت من ذلك. وقد روى الأئمة مالك، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أنه مرض مرضاً أُشفيَ ¬
منه، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقال: يا رسول الله! إن لي مالاً كثيراً، وليس يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بالثلثين؟ قال: "لا"، قال: فالشطر؟ قال: "لا" قال: فالثلث؟ قال: "الثُّلُثُ، وَالثلُثُ كَثِيْرٌ؛ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْر مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ سَبْعِيْنَ سَنَةً، فَإِذَا أَوْصَى حَافَ فِي وَصَيَّتِه، فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بَعَمَلِ أَهْلِ الشَّر سَبْعِيْنَ سَنَةً، فَيَعْدِلُ في وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ له بِخَيْرِ عَمَلِهِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ" (¬2). وقال الدينوري: حدثنا إبراهيم الحربي، قال: كتب يعقوب بن داود إلى بعض العباد بالقدوم عليه، فأتى محمد بن النضر الحارثي رحمه الله فاستشاره، وقال: لعل الله أن يقضي ديني، فقال له: لا تفعل؛ لأن تلقى الله تعالى وعليك دينٌ ولك دِيْن، خيرٌ من أن تلقاه وقد قضيت ¬
تذييل
دَيْنك، وذهب دِيْنك (¬1). ومن لطائف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما أخرجه الدينوري - أيضاً - أنه قال: من اتَّجر في شيء ثلاث مرات فلم يصب فيه، فليتحرر منه إلى غيره (¬2). قال: وقال لرجلٍ: إذا اشتريت بعيراً فاشتره عظيم الخلق، فإن أخطأك خيره لم يخطئك سوقُه (¬3). وهو معنى قول الناس: اشتر لنفسك وللسوق (¬4). * تَذْيِيْلٌ: قد يطلق على أحد الشرين أنَّهُ خير من الآخر؛ بمعنى أنه أهون منه وأخف ضرراً، فإذا كان لابد من ارتكاب أحدهما فارتكاب الأخف خير - أي: أولى - من ارتكاب الآخر. وبالجملة: فإطلاق الخير على الأخف مجاز ظاهر، وقد وقع من ذلك كثير في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. فمن ذلك حديث المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "ما تَقُوْلُوْنَ فِي الزِّنَا؟ " قالوا: حرام، حرَّمه الله ورسوله، فهو ¬
حرام إلى يوم القيامة، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزْنِي بِحَلِيْلةِ جَارِهِ". رواه البخاري في "تاريخه"، والإمام أحمد - ورواته ثقات -، والطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" (¬1). وفي رواية: "أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِه" (¬2). وهي مفسِّرة لمعنى الخيرية في الرواية؛ إذ لا خيرية في الزنا أصلاً. وكذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُم عَلَى جَمْرَةٍ، فَتَحْرِقَ ثِيَابَهُ، فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ". رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه (¬3). فإنَّ الجلوس على الجمر لا خير فيه عقلاً ولا شرعاً من حيث إنه يعرض لإتلاف ماله وجسده، وقد يؤدي إلى قتل نفسه، إلا أنه أراد أن يُعظم أمر انتهاك حرمة القبر إشارة إلى أن حرمة المسلم ميتاً كحرمته حيًّا، فلا تنتهك حرمته. ¬
وكذلك حديث عبد الله بن مغفَّل - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُم بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيْدٍ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ". رواه الطبراني في "الكبير" (¬1). وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يَجْعَلَ أَحَدُكُم فِي فِيْهِ تُرَابًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِي فِيْهِ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ". رواه البيهقي في "الشعب" (¬2). وحديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " [قال داود النبي عليه السلام: ] إِدْخَالُكَ يَدَكَ فِي فَمِ التِّنِّيْن إِلَى أَنْ تَبْلُغَ الْمِرْفَقَ فَيَقْضِمَهَا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَسْأَلَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ كانَ". رواه أبو نعيم (¬3). وحديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ الرَّجُلِ قَيْحًا حتى يَرِيَهُ، خَيْرٌ له من أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا". رواه الإمام أحمد، والستة إلا النسائي (¬4) (¬5). ¬
وقوله: "حتى يريه"؛ أي: يفسده، يقال: ورى القيح جوفه: أفسده؛ كذا في "القاموس" بفتح أوله (¬1). وهذا يحتمل أن يكون من قبيل ما تقدم. والمعنى: أنَّ فساد الجوف بالمرض المحسوس في الدنيا أهون من أن يمتلئ شعراً فيُعاقب عليه في الآخرة. ويحتمل أن يكون المعنى: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً - أي: يتناوله - خيرٌ - أي: أهون وأخف إثماً - من أن يمتلئ شِعْراً. والمراد به الشعر المذموم بدليل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الشعراء: 227]؛ فإنه مستثنى من قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْراً، وَإِنَّ مِنَ الشعْرِ حُكْماً". رواه الإمام أحمد، وأبو داود من حديث ابن عباس (¬2). وهو عند ابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - نحوه (¬3). والجملة الأخيرة عنده من حديث بريدة - رضي الله عنه - (¬4). ¬
وروى ابن عدي عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ الرَّجُلِ قَيْحًا أوْ دَمًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا مِمَا هَجَيْتَ بِهِ" (¬1). وروى الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يَأْكُلَ أَحَدُكُم مِنْ جِيْفَةٍ حَتَّى يَشْبَعَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيْهِ الْمُسْلِم" (¬2). وروى هو وابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد"، والبخاري في "الأدب" عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أنه مرَّ على بغل ميت وهو في نفر من أصحابه، فقال: والله لأن يأكل أحدكم من هذا حتى يملأ بطنه خير له من أن يأكل من لم رجل مسلم (¬3). وتمثيل الغيبة بأكل لحم الميت وقع في قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12]. ولقد عجبت من كثير من العلماء يقولون: إنَّ أكل لحم الميتة لغير المضطر كبيرة، ثم يتوقف في أن الغيبة كبيرة أو يقول: هي صغيرة، وقد ساوى الله تعالى في كتابه بينهما، ولا يفهم من الآية كون أكل الميتة أخف ¬
من الغيبة، وإنما هو منصوص عليه في الحديث والأثر. ووجهه أن لم ميتة يُباح للمضطر بخلاف الغيبة؛ فإنَّ أكل لحم الميتة ذنب بين العبد وبين الله تعالى، فهو من ظلم النفس الذي يُرجى أن يغفر، والغيبة بين العبد وبين أخيه فهو من المظلمة التي لا تترك. ومن وجه من جعلها صغيرة لكثرة دورانها على الألسنة وتنازع ألسنة الناس إليها. يرد عليه أنَّ الناس قد تنازعت ألسنتهم إلى التقاذف والفتن، ولا قائل بأنَّ ذلك صغيرة، ولا بأنَّ ذلك يصير بالتهافت فيه صغيرة (¬1). وروى عبد الرزاق، والطبراني في "الكبير" عن نوفل بن معاوية، عن أبيه - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأَنْ يُوتَرَ أَحَدُكُم أهلَهُ وَمَالَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَفُوتَهُ وَقْتُ صَلاةِ العَصْرِ" (¬2)؛ أي: ولم يُصَلِّها. ويقال: وتره ماله - بالمثناة -: إن نقصه إياه. والمعنى: إنَّ نقصان مال المرء وأهله خير له من فوات الصلاة؛ لأنَّ في نقصان المال والأهل ثواب الصبر، واحتمال مشقة البلاء، ثم قد يجمع شمله بهم في الآخرة بخلاف فوات الصلاة؛ فإنَّ فيه فوات ثوابها ولا عوض منه. ¬
وروى الإمام أحمد، والشيخان عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ الْجَبَلَ فَيَجِيءَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيْعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بَهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوْهُ" (¬1). والمعنى: إن ارتكاب مشقة الاحتطاب والاكتساب أخف من ارتكاب ذل السؤال. أو المعنى: إن الاكتساب بالاحتطاب ونحوه خير من الاكتساب بالسؤال؛ لأنَّ السؤال خطر العاقبة من حيث إنه قد تكون المسألة مأثمة، بل الاكتساب بالنية الصالحة خير وإن كان مع الغنى، أما السؤال مع الغنى فإنه حرام. وروى الإمام أحمد عن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأَنْ يَلْبَسَ أَحَدُكُم ثَوْبًا مِنْ رِقَاعٍ شَتَّى خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ بِأَمَانتِهِ مَا لَيْسَ عِنْدَه" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب"، ولفظه: "لأَنْ يَلْبَسَ الرَّجُلُ مِنْ أَلوَانٍ شَتَّى - أَيْ: مُخْتَلِفَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ - خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْتَدِيْنَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ قَضَاؤُهُ" (¬3). ¬
ومعناه: إن احتمال مشقة النفس وانقباضها من الثوب الخَلِقِ المرقع ترقيع ضرورة واحتياج أخفُّ وأحمدُ عاقبة من احتمال المنن وارتكاب الديون؛ فإنَّ الأيام تنقضي بالخلق، وينقضي انقباض النفس له بانقضائها، بخلاف الدين، فإنَّ صاحبه سيطلبه، وقد لا يتيسر له وفاؤه، أو يتأخر عن وقت حُلُولهِ، فيطلبه صاحبه فيخجل المدين لطلبه، وربما شدد عليه فيحصل له مشقة وذل. وقد جاء في الحكمة: إن الدَّين همٌّ بالليل مذلَّةٌ بالنهار (¬1). وقد يموت ولا يوفيه فيتعلق بذمته، فلو اكتفى بالخَلِقِ لكان خيراً مما فعل بنفسه في العافية. وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، والدارمي، وغيرهم عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأَنْ يَقُوْمَ أَحَدُكُم أَرْبَعِيْنَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي" (¬2). ووجه الخيرية أنَّ قيامه لا إثم فيه، ولا تخشى عاقبته، بخلاف المرور بين يدي المصلي فإنه يأثم بن وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ¬
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الأَرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِ الأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرْوا أَرْبَعِيْنَ صَبَاحًا" (¬1). وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، ولفظه: "حَدٌّ يُقَامُ فِي الأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِيْنَ صَبَاحًا" (¬2). ووجه خيرية الحد: أنه يردع عن مواقعة الحدود، فتحفظ النفوس والأموال والأعراض، فأما المطر أربعين صباحاً فإنه قد يستغنى عنه بمطرٍ غيره، أو نفعه في عام وإذا لم يكن فقد لا يؤثر عدمه ضرراً، وقد يكون ضرره ارتفاع سعر، أو قلة النبت في موضع دون موضع فيستغنى عمَّا فات منه بالاجتلاب من موضع الخصب، أو بزيادة في السعر. وفي الحديث ترغيب في إقامة الحدود، وأنها من خير أنواع الخير وأنفعها في الدنيا والآخرة. ¬
خاتمة
خَاتمَة طلب الخير والرغبة فيه هو المقصود بخلق المخلوقات، وإنما خلق الله الشر ليكمل لأهل الخير خيرهم باجتنابه، وليتمَّ لأهل الشر شرهم باستبقاء الشر أو اجتناب الخير. وبالشر يكمل ظهور أسماء الله تعالى في مظاهرها؛ كالحليم، والصبور، والمنتقم، ألا ترى أنَّ في خلق الشيطان - وهو أبو الشر - إظهار حكم اسم الله التواب الرحيم في آدم عليه السلام، وإظهار لعنة الله تعالى في إبليس، وكل ملعون التي هي [ .... ] (¬1) أسمائه الملك، والحكم، والعدل، والمقسط، والعزيز، وغيرها إلى غير ذلك. ومما يُشير إلى هذه الحقيقة قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]؛ أي: على الحق، أو [إرادة] (¬2) الخير {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118]؛ أي: فبعضهم على الحق، وبعضهم على الباطل، وبعضهم يُريد الخير ويفعله، وبعضهم يريد الشر ويفعله، {إِلَّا مَنْ ¬
رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]، ولولا اختلافهم لم تتم هذه الكلمة؛ إذ لو كانوا كلهم على الحق والخير لم يدخل جهنم أحد منهم فضلاً عن أن تمتلئ منهم. وعليه: فقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] إشارة للاختلاف. قال الحسن: خلق هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، وهؤلاء لرحمته، وهؤلاء لعذابه رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وقال آخرون: إشارة للرحمة؛ أي: ولرحمته خلقهم (¬2). وعليه: فالضمير ضمير الجماعة عائدٌ إلى (من) كما يشير إليه ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه قال في قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] قال: أهل الحق وأهل الباطل. {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119] قال: أهل الحق. قال: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119]، قال: للرحمة (¬3). ¬
ولا شك أنَّ أهل الباطل الذين يموتون عليه مشركين لم يخلقوا للرحمة، إنما خُلقوا للعذاب إلا أن يراد رحمة الدنيا فإنها شاملة للرزق، والأجل المشترك فيه المؤمن والكافر. فإذا علمت أنَّ طلب الخير لهذه المثابة فقد روى البيهقي في "الأسماء والصفات"، وغيره عن أنس - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُم كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوْا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ للهَ - عز وجل - نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيْبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوْا اللهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُم، وُيؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُم" (¬1). وقد أخرجه في "الشعب" من حديثه، ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنهما -. وحديث أنس أخرجه - أيضاً - ابن أبي الدنيا في "الفرج"، والحكيم الترمذي في "نوادره" وأبو نعيم (¬2). وقوله: "اطلبوا الخير"؛ أي: فتشوا عنه، فإن وجدتموه ¬
فاتبعوه واعملوا به. أو المعنى: اطلبوا تيسيره من الله تعالى، وحصوله منه ودوامه. وهذا الطلب إما أن يكون بالطاعة والشكر لقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]؛ أي: لطرق الخير، وقوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]؛ أي: من الخير والنعمة. وليس للخير تقييد أحسن من الطاعة والكف عن المعصية وهما حقيقة الشكر. ومن ثم قال شعيب عليه السلام: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84]. وفي قوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}؛ أي: سعة في الرزق، ورخص في السعر إشارة إلى أن من كان في خير لا يعرضه بالمعصية للزوال، بل يطلب بقاءه بالطاعة. وإن كان في المعصية استزاده من جنس ذلك الخير كالتطفيف، واختلاس أموال الناس وغصبها، فإنه استزادة في الحس ونقصان في المعنى، أو استزادة في الحال ونقص في المال، ولذلك قال لهم: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود: 86]؛ أي: ما يبقيه في أيديكم من ذلك على وجه الإباحة خير لكم مما تجمعونه أنتم. وإما أن يكون بالدعاء والسؤال من الله تعالى، سواء في ذلك خير
الدنيا كما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، وخير الآخرة. بل قد أمرنا بالدعاء، والدعاء لا ينبغي أن يكون إلا بالخير بدليل قوله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11]؛ عاب على من يطلب من الله الشر كما يطلب منه الخير. ومن ثم قد يُستجاب لمن دعا على ولده أو ماله بالشر عقوبة لطيشه وعجلته، وليس ذلك من باب الإحسان والفضل. ومن هنا تفهم معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستفتاح المروي في "صحيح مسلم" وغيره: "وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالْشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ" (¬1)؛ أي: ليس ينبغي أن يكون متوجهاً طلبه إليك؛ أي: لا ينبغي أن يُطلب منك. ويكون تقديره: ليس مطلوباً إليك؛ فإنهم يقولون: طلبت إليك؛ أي: رغبت. ومنه قول أبي الأسود الدؤلي رحمه الله: [من الكامل] وَإِذا طَلَبْتَ إِلَىْ لَئِيْمٍ (¬2) حاجَةً ... فَلِقاؤُهُ يَكْفِيْكَ وَالتَّسْلِيْمُ وعندي أنَّ هذا أحسن ما يؤول به الحديث. ¬
وقد حكى النووي في "شرحي مسلم والمهذب" بعد أن قال: إنه مما يجب تأويله، خمسه أقوال ليس هذا منها. أحدها: لا يتقرب به إليك. والثاني: لا يضاف إليك على انفراده؛ لا يقال: خالق القردة، بل خالق كل شيء. والثالث: لا يصعد إليك. والرابع: والشر ليس شراً بالنسبة إليك. والخامس: إنه كقولك: فلان إلى بني فلان؛ أي: عداده فيهم (¬1). وأما قوله تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [ال عمران: 26]؛ أي: والشر، كما في قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]؛ أي: والبرد، فحذف الشر للعلم إيثاراً للأدب، ولأن المحل محل رغبة وطلب؛ أي: بيدك الخير الذي نحن بصدد طلبه لا بيد غيرك، فلا يقدر عليه أحد غيرك، فلا يُطلب إلا منك (¬2). وفي "معجم الطبراني الكبير": عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ حَيِيٌ كَرِيْمٌ يَسْتَحْيِي أَنْ يَرْفَعَ العَبْدُ يَدَيْهِ فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا لا خَيْرَ فِيهِمَا، فَإِذَا رَفَعَ أَحَدُكُم يَدَيْهِ فَلْيَقُل: يَا حَيُّ يَا قَيُّوْمُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ - ثَلاثَ مَرَّاتٍ -، ثُمَّ إِذَا رَدَّ يَدَيْهِ فَلْيُفْرِغْ [ذلك] ¬
الْخَيْرَ عَلَى وَجْهِهِ" (¬1)؛ أي: الخير المتوقع حصوله من الله تعالى برفع يديه وطلبه من الله تعالى؛ إذ لا يطلب منه إلا الخير، ولا يتوقع منه إلا الخير. ففي رد يديه إلى وجهه ومسحه بهما تفاؤل بأن الخير قد أفرغ على وجهه. ويجوز أن يكون إفراغاً حقيقياً؛ فإن الصادق الصدوق - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الله تعالى يجعل الخير في يدي عبده إذا رفعهما إليه. وقد وقع في حديث أنس - رضي الله عنه -: "إِنَّ ربَّكُم حَيِيٌّ كَرِيْمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ العَبْدُ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا حَتَّى يَجْعَلَ فِيْهِمَا خَيْرًا". رواه عبد الرزاق، والحاكم وصححه (¬2). وفي حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: "إِنَّ اللهَ حَيِىٌّ كَرِيْمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِليْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا". وفي لفظ: "يَسْتَحْيِي أَنْ يَبْسُطَ العَبْدُ إِليْهِ يَدَيْهِ فَيَرُدَّهُمَا خَائِبَتَيْنِ". رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه (¬3). ¬
ثم إن كل ما تسأل الله تعالى من نعمة في الدنيا والآخرة، أو دفع بلاء فإنه خير، إلا أنه قد جاءت أحاديث بالتنصيص على طلب الخير بلفظه حتى في كل صباح ومساء. فروى أبو داود عن أبي مالك الأشجعي - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُل: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْن، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ خَيْرَ هَذَا اليَوْمِ؛ فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ، وَنُوْرَهُ وَبَرَكتَهُ وَهُدَاهُ, وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيْهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ, ثُمَّ إِذَا أَمْسَى فَلْيقُل مِثْلَ ذَلِكَ" (¬1). وروى ابن السني في "عمل اليوم والليلة" عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهذه الدعوة إذا أصبح وإذا أمسى: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ مِنْ فُجَاءَةِ الْخَيْرِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ فُجاءَةِ الشَرِّ" (¬2). وروى مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَمْسَى قال: "أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، لا إِلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، له الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وهو على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ، رَبِّ أَسْألكَ خَيْرَ ما في هذه اللَّيْلَةِ وَخَيْرَ ما بَعْدَهَا، وَأَعُوذُ بِكَ من شَرِّ ما في هذه اللَّيْلَةِ وَشَرِّ ما بَعْدَهَا، رَبِّ أَعُوذُ بِكَ من الْكَسَلِ وَسُوءِ الْكِبَرِ، رَبِّ أَعُوذُ بِكَ من عَذَابٍ ¬
في النَّارِ وَعَذَابٍ في الْقَبْرِ"، وإذا أَصْبَحَ قال ذلك أَيْضًا: "أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن كعب - وهو من رواية الصحابة عن التابعين - قال: أجد في التوراة من قال حين يصبحُ: اللهمَّ إني أعوذُ باسمِكَ وبكلمَاتِكَ التَّامَّةِ مِنَ الشَيْطَانِ الرَّجِيْمِ (¬2)، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِاسْمِكَ وَبِكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ مِنْ عَذَابِكَ وَشَرِّ عِبَادِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ بِاسْمِكَ وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ مِنْ خَيْرِ مَا تُسْأَل، وَمِنْ خَيْرِ مَا تُعْطِيْ، وَمِنْ خَيْرِ مَا تُبْدِيْ، وَمِنْ خَيْرِ مَا تُخْفِيْ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِاسْمِكَ وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا تُجَلِّي بِهِ النَّهَارَ، لَمْ تَطُفْ (¬3) بِهِ الشَّيَاطِيْنُ وَلا شَيْءٌ (¬4) يَكْرَهُهُ، وَإِذَا قَالَهُنَّ إِذَا أَمْسَى مِثْلَ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ يَقُوْلُ: مِنْ شَرِّ مَا دَجَى بِهِ اللَّيْلُ (¬5). وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى الهلال قال: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ للهِ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الشَّهْرِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ القَدَرِ، وَأَعُوْذُ ¬
بِكَ مِنْ شَرِّ يَوْمِ الْحَشْرِ (¬1). وروى هو وأبو داود عن قتادة رحمه الله مرسلاً: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال قال: "هِلالُ خَيْر وَرُشْدٍ، هِلالُ رَشُدٍ وَخَيْرٍ، هِلالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ - ثَلاثاً -، الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ هلال كَذَا وَكَذَا، وَجَاءَ بِهِلالِ كَذَا وَكَذَا" (¬2). ورواه ابن السني عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (¬3). [وروى أبو داود عن أبي مالك الأشعريِّ رضي الله تعالى عنه [قال]: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وَلَجَ الرجلُ بيتَه فليقُلْ: اللهمَّ إنِّي أسألكَ خيرَ المُوْلَجِ، وخيرَ المَخْرَجَ، بسم الله وَلَجْنَا، وبسمِ اللهِ خَرَجْنَا، وعلى اللهِ توكَّلْنا، ثمَّ يُسَلِّمُ على أهْلِ بيتِهِ" (¬4). وروى أبو داود، والترمذيُّ وحسَّنه، والنسائيُّ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استجدَّ ثوباً سمَّاه باسمه عمامةً أو قميصاً، أو رداء ثم يقول: "اللهمَّ لكَ الحمدُ أنتَ كَسَوتَنِيهِ، أسألكَ خيرَهُ وخَيرَ ما صُنِعَ له، وأعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وشَرِّ ¬
ما صُنِعَ له" (¬1). قال النوويُّ في "الأذكار": صحيح (¬2). وروى الحاكم عن بُريدةَ رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل السوقَ قال: "بسمِ اللهِ، اللهمَّ إنِّي أسألك خيرَ هذه السوقِ وخيرَ ما فيها، وأعوذ بكَ مِنْ شَرِّها وشرِّ ما فيها، اللهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ أَنْ أُصيبَ فيها يميناً فَاجِرَةً، أو صَفقةً خاسِرَةً" (¬3)] (¬4). وروى الترمذي وحسنه، عن أنس - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إني أريد سفرًا فزودني، فقال: "زَوَّدَكَ اللهُ التَّقْوَى"، قال: زودني، قال: "وَغَفَرَ ذَنْبَكَ"، قال: زودني، قال: "وَيسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ" (¬5). وروى النسائي وأبو داود عن صهيب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: "اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَالأَرَضِيْنَ السَّبْع وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِيْنِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرينَ! أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ القَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وَنَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ ¬
أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيْهَا" (¬1). وروى أبو داود، والترمذي وحسنه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعاماً - ورواه ابن السني ولفظه: مَنْ أَطْعَمَهُ اللهُ طَعاماً - فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا فِيْهِ وَأَطْعِمْنا خَيْرًا منه، وإذا سُقِيَ لَبَنًا، فَلْيَقُلْ: اللهمَّ بَارِكْ لنا فيه، وَزِدْنَا منه؛ فإنه ليس شَيْءٌ يُجْزِئُ من الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلا اللَّبَنُ" (¬2). وروى أبو داود والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم بأسانيد صحيحة (¬3)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رَفَّأَ الإِنْسَانَ، إذا تَزَوَّجَ، قال: "بَارَكَ الله لكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا في خَيْرٍ" (¬4). وقوله: "رَفَّأَ" أي هنأ إنساناً، وأصله الترفيه - بالفاء -؛ أن تقول للمتزوج: بالرفاء والبنين، ثم أطلق على التهنئة. والرِفاء - بالكسر -: الالتحام والاتفاق. وروى أبو داود، وابن ماجه وابن السني بأسانيد صحيحة (¬5)، ¬
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُم امرَأة أَو اشْتَرَى خَادِمًا فَلْيقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَها وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيْرًا فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ وَلْيَقُل مِثْلَ ذَلِكَ" (¬1). وينبغي أن يقول ذلك إذا ملك فرساً أو غيره من الدواب، وكذلك إذا ملك داراً، وإذا كان الخادم ذكراً ذكر الضمائر. وروى الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه"، وابن السني، والدارقطني في "الأفراد"، والبيهقي في "الشعب" عن أسامة ابن زيد - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوْفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ" (¬2). قلت: ووجه تضمن كلامه الثناء أنه حيث طلب له المجازاة بالخير فقد شهد له بالخير. وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عصفَت الريح قال: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيْهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ ¬
بِهِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيْهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ" (¬1). وروى الترمذي وصححه، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا الرِّيحَ؛ فَإِنْ رَأَيْتُم مَا تَكْرَهُوْنَ فَقُوْلُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيْحِ وَخَيْرِ مَا فِيْهَا وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرّيْحِ وَشَرِّ مَا فِيْهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ" (¬2). وروى أبو داود، وابن ماجه بإسناد حسن (¬3)، [عن أبي هريرة] قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الرِّيْحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالعَذَابِ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمُوْهَا فَلا تَسُبُّوْهَا". وفي لفظ: "لا تَسُبُّوْا الرِّيْحَ؛ فَإِنَّهَا مِنْ رَوْحِ اللهِ تَعَالَى تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالعَذَابِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوْهَا فَلا تَسُبُّوَها، وَاسْأَلُوْا اللهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيْذُوْا بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا" (¬4). وأخرجه النسائي، والحاكم وصححه، من حديث أُبيٍّ بنحوه (¬5). ¬
والروح - بفتح الراء - فسَّره النووي نقلاً عن العلماء برحمة الله بالعباد (¬1). ويظهر أنه أعم لقوله: "تَأْتِيْ بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِيْ بِالْعَذابِ". وفسره في "القاموس" بالراحة والرحمة ونسيم الريح (¬2). فلو حمل الحديث على المعنى الأخير، وقد فسَّر في "القاموس" النسيم بنَفَسِ الريح؛ أي تنفسها؛ أي الريح من النفس والنسيم الذي خلقه الله وخزنه عنده ليكون جنداً من جنوده يروحه حيث يشاء، فيكون على قوم رحمة ويكون على قوم عقاباً. وروى ابن أبي شيبة عن زيد العَمِّي قال: لما رأى يوسف عليه السلام عزيز مصر قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بقوتك من شره (¬3). وعن ثابت البُناني رحمه الله قال: كنَّا في مكان لا تنفذه الدواب، فقمت وأنا أقرأ هؤلاء الآيات: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 3]، قال: فمرَّ بي شيخ على بغلة شهباء، قال: قل: يا غافر الذنب اغفر ذنبي، يا قابل التوب اقبل توبتي، يا شديد العقاب اعف عني عقابي، يا ذا الطَّوْل طُل علىَّ بخير، قال: فقلتها، ¬
ثم نظرتُ فلم أره (¬1). ورواه ابن أبي الدنيا في "الهواتف" بنحوه (¬2). وروى فيه عن هُشيم رحمه الله تعالى قال: كنت يوماً في منزلي، فدخل عليَّ رجلٌ فقال: الحمد لله على كل نعمة، وأستغفر الله من كل ذنب، وأسأل الله من كل خير، وأعوذ بالله من كل شر، ثم خرج فطلب فلم يُوجد، فكنا نراه الخضر عليه السلام (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه كان إذا نعق الغراب قال: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك (¬4). وعن نافع بن جبير قال: قال كعب لعبد الله بن عمرو: هل تَطَيَّرُ؟ قال: نعم، قال: فما تقول؛ قال: أقول: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا رب [لنا] غيرك. فقال: أنت أفقه العرب (¬5). وروى الطبراني في "الأوسط" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
"مَا خَابَ مَن اسْتَخَارَ، وَلا نَدِمَ مَن اسْتَشَارَ، وَلا عَالَ مَن اقْتَصَدَ" (¬1). وهو - وإن كان ضعيفاً - يُعمل به في فضائل الأعمال. وروى ابن السُّنِّي - بسند ضعيف - عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَنسَ! إِذَا هَمَمْتَ بأَمْرٍ فَاسْتَخِرْ رَبَّكَ فِيْهِ سَبع مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْظُر إِلى الَّذِي سَبَقَ إِلَى قَلْبِكَ؛ فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيْه" (¬2). قوله: "فَاسْتَخِر رَبَّكَ"؛ أي: اطلب منه الخير فيه. وروى الترمذي وضعفه، عن أبي بكر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد الأمر قال: "اللَّهُمَّ خِرْهُ لِي وَاخْتَرْهُ لَهُ" (¬3)؛ أي: اجعله خيراً. وفي لفظ: "خِرْ لي، وَاخْتَر لِي" (¬4). قال في "القاموس": خار الله لك في الأمر: جعل لك فيه الخير (¬5). وروى البخاري، والأربعة عن جابر - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يُعلمنا السورة من القرآن، يقول: ¬
"إِذَا هَمَّ أَحَدُكُم بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَع رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيْضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيْرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْألكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيْمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوْبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِيْنِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَاجِلِهِ - فَاقْدُرْه لِي وَيسِّرُه لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيْهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِيْنِي وَمَعَاشِي وعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَاجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُر لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ، قَالَ: وُيسَمِّي حَاجَتَهُ" (¬1). قال النووي: الاستخارة مستحبة في جميع الأمور كما صرَّح به نص هذا الحديث الصحيح. قال: وإذا استخار مضى بعدها لما ينشرح له صدرُه. قال: ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]. قال: ولو تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء. قال: ويستحب افتتاح الدعاء المذكور بالحمد لله والصلاة والتسليم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انتهى (¬2). ¬
قلت: وينبغي إذا استخار الله في أمر أن يرضى بما قدره له فيه، ويعتقد أنَّ الخير فيه. قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]. وروى الحاكم وصححه، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ إِلَى اللهِ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللهِ" (¬1). وروي أن موسى عليه السلام قال: "يا رب! مَنْ أبغض خلقك إليك؟ " قال: "من يتهمني"، قال: "ومن يتهمك يا رب؟ " قال: "عبدٌ استخارني في أمر، فإذا أعطيته ما فيه خير دينه ودنياه اتهمني، فظن أني منعته ما سألني بخلاً" (¬2). وأنشدوا: [من البسيط] الْحَمْدُ لِلَّهِ نِعْمَ الْقادِرُ اللهُ ... وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيْما يَحْكُمُ اللهُ ¬
لِلَّهِ فِيْ الْخَلْقِ ما اخْتارَتْ مَشِيْئَتُهُ ... ما الْخَيْرُ إِلاَّ الَّذِيْ قَدْ خارَهُ اللهُ وقال أبو العتاهية: [من الطويل] تَوَكَّلْ عَلَىْ الرَّحْمَنِ فِيْ كُلِّ حاجةٍ ... أَرَدْتَ فَإِنَّ اللهَ يَقْضِيْ وَيقْدُرُ مَتَىْ ما يُرِدْ ذُوْ الْعَرْشِ أَمْراً بِعَبْدِهِ ... يُصِبْهُ وَما لِلْعَبْدِ ما يَتَخَيَّرُ وَقَدْ يَهْلِكُ الإِنْسانُ مِنْ وَجْهِ أَمْنِهِ ... وَينْجُوْ لَعَمْرُ اللهِ مِنْ حَيْثُ يَحْذَرُ (¬1) وروى الشيخان عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُم الْمَوْتَ لِضُرٍّ نزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لابُدَّ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي" (¬2). وروى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: "اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِيَ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِح لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيْهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِح لِي آخِرَتِي الَّتِي فَيْهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لي فِي ¬
كُلِّ خَيْرٍ، واجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كْلِّ شَرٍّ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! قُلْ: اللَّهُمَّ اجْعَل سَرِيْرَتِي خَيْرًا مِنْ عَلانِيَتِي، وَاجْعَل عَلانِيَتِي صَالِحَةً" (¬2). وروى الحاكم وصححه، والأصبهاني عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يدعو يقول: "اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لِي فِيْهِ، وَاخْلُف عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ" (¬3). وروى الحاكم وصححه، وغيره عن بُريدة الأسلمي - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يَا بُرَيْدَةُ! أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ مَنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا عَلَّمَهُ إِيَّاهُنَّ، ثُمَّ لَمْ يُنْسِهِ إيَّاهُنَّ أَبَدًا؟ " قلت: بلى يا رسول الله، قال: "قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ضَعِيْفٌ فَقَوِّ فِي رِضَاكَ ضَعْفِي، وَخُذْ إِلَى الْخَيْرِ بِنَاصِيَتِي، وَاجْعَلِ الإِسْلامَ مُنْتَهَى رِضَاي، اللَّهُمَّ إِنِّي ضَعِيْفٌ فَقَوِّنِي، وَإِنِّي ذَلِيْلٌ فَأَعِزَّنِي، وَإِنِّي فَقِيْرٌ فَأَغْنِنِي" (¬4). ¬
وروى ابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي في "الدعوات" عن هاشم بن عبد الله بن الزبير: أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أصابته مصيبة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشكى إليه ذلك، وسأله أن يأمر له بوسْقٍ من تمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنْ شِئْتَ أَمَرْتُ لَكَ بِوسْقٍ، وإنْ شِئْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَاتٍ هِيَ خَيْر لَكَ مِنْه"، قال: علمنيهن، ومُرْ لي بوسق [فإنيِّ ذو حاجة إليه]، قال: "أَفْعَلُ"، قال: "فَقُلْ: اللهُمَّ احْفَظْنِي بالإِسْلامِ قَاعِدًا، وَاحْفَظْنِي بِالإِسْلامِ رَاقِدًا، وَلا تُطِعْ فِيَّ عَدُوًّا وَلا حَاسِدًا، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيتهِ، وَأَسْألكَ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي بِيَدِكَ كُلّهِ" (¬1). وروى الحاكم وصححه على شرط مسلم، والبيهقي في "الدعوات" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: "اللهُمَّ احْفَظْنِي بِالإِسْلامِ قَائِمًا، وَاحْفَظْنِي بِالإِسْلامِ قَاعِدًا، وَاحْفَظْنِي بِالإِسْلامِ رَاقِدًا، وَلا تُشَمِّتْ بِي عَدُوًّا وَلا حَاسِدًا، اللهُمَّ إِنِّي أَسْألكُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرِّ خَزَائِنُهُ بِيَدِك" (¬2). وروى أبو داود الطيالسي، والطبراني في "الكبير" عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ ¬
مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَم، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنَ الشَّر كُلهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَم" (¬1). وروى الترمذي واللفظ له، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وقال: على شرط مسلم، عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا أن نقول: "اللَّهُمَّ إِني أَسْألكَ الثبَاتَ في الأَمْر، وَأَسْألكَ عَزِيْمَةَ الرَّشَدِ، وَأَسْألكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْألكَ لِسَانًا صَادِقًا وَقَلْبًا سَليْمًا، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْألكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَا تَعْلَمُ، إِنكَ أَنْتَ عَلامُ الغُيُوْبِ". زاد الحاكم فيه: "وَخُلُقًا مُسْتَقِيْمًا" (¬2). وروى ابن ماجه واللفظ له، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّمها هذا الدعاء: "اللَّهُمَّ إِني أَسْألكَ مِن الْخَيْرِ كُلهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنَ الشَّر كُلهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَألكَ عَبْدُكَ وَنبِيكَ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَر مَا عَاذَ بِه عَبْدُكَ وَنبِيكَ، اللهُمَّ إِني أَسْألكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنَ ¬
النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْألكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا" (¬1). وروى الحاكم وصححه، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: هذا ما سأل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل: "اللهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ خَيْرَ الْمَسْألةِ وَخَيْرَ الدُّعَاءِ، وَخَيْرَ النَّجَاحِ وَخَيْرَ العَمَلِ وَخَيْرَ الثَّوَابِ، وَخَيْرَ الْحَيَاةِ وَخَيْرَ الْمَمَاتِ، وَثَبتنِي وَثَقِّل مَوَازيني، وَحَقِّقْ إِيْمَانِي وَارْفَعْ درَجَتِي، وَتَقَبَّلْ صَلاتِيْ وَاغْفِرْ خَطِيْئَتِي، وَأَسْألكَ الدَّرَجَاتِ العُلَى مِنَ الْجَنَّةِ؟ آمِيْنَ. اللهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ، وَالدَّرَجَاتِ العُلَى مِنَ الْجَنَّةِ؛ آمِين. اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ خَيْرَ مَا آتِي، وَخَيْرَ مَا أَفْعَلُ، وَخَيْرَ مَا أَعْمَلُ، وَخَيْرَ مَا بَطَنَ وَخَيْرَ مَا ظَهَرَ، وَالدَّرَجَاتِ العُلَى مِن الْجَنَّةِ؛ آمين"، الحديث (¬2). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: بلغني أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - كان يقول في دعائه: اللهم إني أسألك الخير في عافية، اللهم اجعل آخر ما تعطيني الخير ورضوانك، والدرجات العُلى من جنات النعيم (¬3). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن المطلب بن عبد الله: أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - كان يقول: اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك. قال: وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: اللهم اعصمني بحبلك، وارزقني من فضلك، واجعلني أحفظ أمرك (¬1). وروى الأصفهاني في "الترغيب" عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قلَّ ما صلى أبو بكر - رضي الله عنه - إلا وأنا بين أذنيه، وكان إذا سلم قال: اللهم اجعل خير عمري آخره، اللهم اجعل خواتيم عملي رضوانك، اللهم اجعل خير أيامي يوم ألقاك (¬2). وروى أبو نعيم عن وهب قال: لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض استوحش لفقد أصوات الملائكة عليهم السلام، فهبط عليه جبريل فقال: "يا آدم! هذا أُعلِّمك شيئًا تنتفع به في الدنيا والآخرة؟ " قال: "بلى، قال: "قل: اللهم أَدِمْ لي النعمة حتى تهنئني المعيشة، اللهم اختم لي بخير حتى لا يضرني هوى، اللهم اكفني مؤنة الدنيا وكل هول في ¬
القيامة حتى تدخلني الجنة" (¬1). وروى ابن عساكر في "تاريخه" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهُمَّ عَافِنِي في قُدْرتكَ، وَأَدْخِلنِي في رَحْمَتِكَ، وَاقْضِ أَجَلِي في طَاعَتِكَ، وَاخْتِم لِي بِخَيْرِ عَمَلي، وَاجْعَل ثَوَابَهُ الْجَنَّةَ" (¬2). أخبرنا أبي رحمه الله تعالى عن مشايخه شيوخ الإِسلام؛ زكريا، والقلقشندي، وابن أبي شريف، والقسطلاني، عن حافظ الإِسلام أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمهم الله تعالى أنه أنشدهم لنفسه: [من الطويل] ثَلاثٌ مِنَ الدُّنْيا إِذا هِيَ حُصِّلَتْ ... لِشَخْصٍ فَلا يَخْشَى مِنَ الضُّرِّ وَالضَّيْرِ غِنًى عَنْ بَنِيْها وَالسَّلامَةُ مِنْهُمُ ... وَصِحَّةُ جِسْمٍ ثُمَّ خاتِمَةُ الْخَيْرِ (¬3) وأخبرنا والدي رحمه الله تعالى قال: أخبرني شيخنا شيخ الإِسلام تقي الدين الزرعي -يعني: ابن قاضي عجلون - أنا الشيخ المسند أبو الحسن علي بن إسماعيل بن بردس البعلي، أنا أبو حفص بن أميلة، أنا ¬
الفخر بن البخاري، ثنا الموفق بن طبرزذ، أنا أبو الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الكَرُوخي، أنا المشايخ الثلاثة أبو عامر الأزدي، وأبو نصر الترياقي، وأبو بكر الغُورَجِي، قالوا: أنا أبو محمَّد عبد الجبار بن محمَّد الجرَّاحي، أنا أبو العباس محمَّد بن أحمد المحبوبي، أنا الإِمام أبو عيسى الترمذي، ثنا عمر بن حفص، أنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث، عن درَّاجٍ، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ يَشْبَعَ الْمُؤْمِنُ مِنْ خَيْرٍ يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُوْنَ مُنْتَهَاهُ الْجَنَّةَ". قال الترمذي: "حسنٌ غريب". وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1). وقلت في معناه: [من السريع] لَنْ يَشْبَعَ الْمُؤْمِنُ مِنْ خَيْرٍ ... يَسْمَعُهُ ما دامَ فِيْ يسَيْرِ حَتَّىْ إِلَى دارِ الرضَا يَنتهِيْ ... مِنْ دُوْن ما بُؤْسٍ وَلا ضَيْرِ مشاهدة للهِ سُبْحانهُ ... لَيْسَ بِمُحْتاجٍ إِلَى غَيْرِ ومن الفوائد المتممة لما سبق: ما رواه الإِمام أحمد في "الزهد" عن حوشب رحمه الله مرسلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنْ دنيَا تَمْنَعُ خَيْرَ الآخِرَةِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ أَمَل يَمْنَعُ خَيْرَ العَمَلِ، ¬
وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ حَيَاةٍ تَمْنعُ خَيْرَ الْمَمَاتِ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، عن الأسود بن يزيد قال: قرأ عبد الله -يعني: ابن مسعود -: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87]؛ قال: إن الله يقول يوم القيامة: من كان له عندي عهد فلْيَقُم، فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا؛ قولوا - وفي رواية: قالوا: يا أبا عبد الرحمن علمنا قال: قولوا -: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة! إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنَّك إن تكِلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعله لي عندك عهداً تؤديه إلى يوم القيامة؛ إنَّك لا تُخلف الميعاد (¬2). وروى الحكيم الترمذي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ في دُبُرِ الصَّلاةِ بَعَدَ مَا سَلَّمَ هَؤُلاءِ الكَلِمَاتِ كَتَبَهُ ¬
لَهَا ملكٌ في رِقٍّ فَخَتَمَ بِخَاتَمٍ ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَإِذَا بَعَثَ اللهُ العَبْدَ مِنْ قَبْرِهِ جَاءَ الْمَلَكُ وَمَعَهُ الكِتَابُ يُنَادِي: أَيْنَ أَهْلُ العُهُوْدِ حَتَّى تُدْفَعَ إِلَيْهِم، وَالكَلِمَاتُ أَنْ تَقُوْلَ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادةِ الرَّحْمَنَ الرَّحِيْمَ، إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ في هَذه الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نفسِي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ، وَتُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لا أَثِقُ إِلا بِرَحْمَتِكَ، فَاجْعَل رَحْمَتَكَ لِي عَهْدًا عِنْدَكَ تُؤَدِّيْهِ إِلَيَّ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيْعَاد" (¬1). وعن طاوس أنه أمر بهذه الكلمات فكتبت في كفنه (¬2). وروى الطبراني بسند صحيح، عن الأعمش، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -قيل: ولم يدركه - موقوفًا: والذي لا إله غيره، لا يُحسن عبدٌ بالله الظن إلا أعطاه الله ظنه، وذلك لأن الخير في يده (¬3). قلت: [من الرمل] إِنْ تُحَسِّنْ بِإِلَهِ الْعَرْشِ ظَنًّا ... يُعْطِكَ الْمَظُنْونَ إِحْساناً وَمَنَّا في يديه الخير يُعْطِيْ ما يَشاءُ ... قَدْ رَويناهُ صَحِيْحاً فَارْوِ عَنَّا ¬
لا تُرَجِّي الْخَيْرَ إِلا مِنْ إِلَهٍ ... يَقْبَلُ الأَعْمالَ بِالإِحْسانِ مِنَّا بَدَأَ الْعَبْدَ بِإِنْعامٍ كَثِيْرٍ ... قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ ثُمَّ ثنَّى ثُمَّ قَدْ أَرْشَدَنا نَسْأَلُ مِنْهُ ... فَنَنالُ بِالسُّؤلِ ما نتَمَنَّى (¬1) وروى الطبراني في "الأوسط"، والخطيب في "الجامع" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا تَنَازَعْتُم إِلَى الْخَيْرِ فَامْشُوْا حُفَاةً؛ فَإِنَّ الله يُضَاعِفُ أَجْرَهُ عَلَى المُنْتَعِلِ" (¬2). وهذا يحتمل أن يكون من باب الكرامة. وفي كتاب الله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12]. قال عكرمة: كي تمس قدميك الأرض الطيبة. وقال ابن أبي نجيح في قوله: {طُوًى}: طَأِ الأرض حافياً كما تدخل الكعبة حافيًا؛ يقول: من بركة الوادي. قال: وهذا قول سعيد بن جبير. رواهما عبد بن حميد، وابن أبي حاتم (¬3). ¬
وكأنه فسَّر طوى أنه اسم عبراني بمعنى: اطوِ الأرض، وطأها بقدميك حافيين. وقيل: [من الطويل] وَنَمْشِي حُفاةً في ثَراها تَأَدُّبًا ... نرى أَنَّنَا نَمْشِي بِوادٍ مُقَدَّسِ ويحتمل -وهو الأظهر- أن المعنى في الحديث: إن في نزع النعل والحفاء راحة للقدمين، فيكون أبلغ في التسارع؛ بمعنى: أنكم لا تمهلوا حتى تنتعلوا بل بادروا حفاةً. والمراد به تمثيل المبالغة في الإسراع إلى الخير، وهو أولى من حمله على ظاهره؛ فإن الانتعال قد يكون أحفظ للقدمين فيكون أمتن في المشي. وروى الإمامان ابن المبارك وأحمد؛ كلاهما في "الزهد" عن حكيم ابن عمير مرسلاً، قال رحمه الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ فُتِحَ لَهُ بَاب مِنَ الْخَيْرِ فَلْيَنْتَهِزْهُ؛ فَإِنّهُ لا يَدْرِي مَتَى يُغْلَقُ عَنْهُ" (¬1). وروى ابن جرير في "تهذيبه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ فتحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ مَسْألةِ فتحَ اللهُ لَهُ بَابَ فَقْرٍ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ فتحَ بَابَ عَطِيَّةِ ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، أَعْطَاهُ اللهُ خَيْرَ ¬
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ" (¬1). فأما الجملة الأولى فروى الإِمام أحمد، والترمذي وصححه، وابن ماجه عن أبي كبشة - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ثَلاثٌ أُقْسِمَ عَلَيْهِنَّ: ما نقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقةٍ، وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَة صَبَرَ عَلَيْهَا إِلا زَادَهُ اللهُ بِهَا عِزًّا، وَلا فتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْألةٍ إِلا فتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ" (¬2). وروى الإِمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاثٌ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ إِنْ كُنْتُ لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ: لا يَنْقُصُ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ فتَصَدَّقُوْا، وَلا يَعْفُو عَبْدٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ إِلا زَادهُ اللهُ بِهَا عِزًّا، وَلا يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَة إِلا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ" (¬3). وإنما كانت المسألة عقوبتها الحرمان والفقر لأنَّه لا ينبغي أن نسأل الخير إلا لمَنْ بيده الخير ويملكه، ولا يملك الخير حقيقة إلا الله، فمسألة ثوابها حصول الخير المطلوب أو ما يقوم مقامه، ومسألة غيره عقابها عدم الحصول بالكلية أو حصول ما شاء الله أن يحصل منه إما منتقصاً بمَنٍّ، وإما مَشُوباً بشرٍّ، وإما غير مُبارك فيه. ¬
فأمَّا ما يأتي العبد من أخيه بغير مسألة ولا شبهة فقد ترى النفوس القوية أنَّ فيه ذُلًا فتأنَفُ عن قبوله، وترى أن التنزه عنه خيرٌ من أخذه، وليس كذلك بل في قبوله تنفيذ لحصول غرض أخيه وإدخال للسرور على قلبه، ومعونة له على الطاعة، ثم إن شاء كافأه عليه. فقد روى مالك - رضي الله عنه -، عن عطاء بن يسار رحمه الله: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعطاء فردَّه عمر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِمَ رَدَدتَهُ؟ " فقال: يا رسول الله! أليس أخبرتنا أن خيراً لأحدنا أن لا يأخذ من أحدٍ شيئًا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنما ذَلِكَ عَلَى الْمَسْألةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ عنْ غَيْرِ مَسْأَلةٍ فَإنما هُوَ رِزْقٌ يَرْزُقُكَهُ الله"، فقال عمر: والذي نفسي بيده لا أسأل أحدًا شيئًا، ولا يأتيني شيء من عبد مسلم إلا أخذته (¬1). وفي "الصحيحين" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء، فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، قال: فقال: "خُذْهُ؛ إِذَا جَاءَكَ مِنَ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأنتَ غَيْرَ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ، فَإِنْ شِئْتَ كُلْهُ وَإِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْ بِهِ، وما لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ" (¬2). قال سالم بن عبد الله: فلأجل ذلك كان عبد الله لا يسأل أحدًا شيئًا، ولا يردُّ شيئًا أعطيه (¬3). ¬
وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح، وأبو يعلى، والطبراني، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن خالد بن عدي الجهني - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ بَلَغَهُ عَنْ أَخِيْهِ مَعْرُوْفٌ مِنْ غَيْرِ مَسْألةٍ وَلا إِشْرَافِ نَفْسٍ فَلْيَقْبَلْهُ وَلا يَرُدَّهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْق سَاقَهُ اللهُ إِلَيْهِ" (¬1). وأما الجملة الثانية فقد قال الله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272]. وقال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273]. قال قتادة في الآية: محفوظٌ ذلك عند الله عالمٌ به شاكرٌ له، وأنه لا شيء أشكر من الله، ولا أجزى لخير من الله. رواه ابن أبي حاتم (¬2). قلت: في قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] إشارة إلى أن النفقة لا تكون خيراً إلا إذا كانت لوجه الله تعالى، وما كان لوجه الباقي ينبغي أن يكون باقيًا، فلذلك كان ثواب من أعطى لوجه الله تعالى خير الدنيا والآخرة، وحقيقته مقابلته بالخير الدائم في مقابلة الإنفاق للوجه الدائم. ¬
وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110]. ومن تتمات ما تقدم -أيضًا- أن التقرب إلى الله تعالى بالخير لا ينبغي أن يكون على سبيل النذر والتحريج عن النفس؛ فإنه قد يفضي إلى الضيق وعدم الوفاء، وقد ذمَّ الله تعالى من ابتدع الرهبانية من أمة عيسى عليه السلام وما رعوها حق رعايتها. ولذلك جزم النووي في "المجموع" بأن النذر مكروه (¬1)؛ أي: وإن كان يُصَيِّرُ التطوع فريضة فيعظم به الثواب، ونقله عن نص الشافعي في البويطي لصحة النهي عنه في "صحيح مسلم" وغيره عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن النذر، وقال: "إِنه لا يَأتِي بِخَيْر، وَإنَّما يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِن البَخِيْل" (¬2). وقوله: "لا يأتي بخير" يحتمل وجهين: الأول: أنَّ النذر لا يأتي بخير لم يقدره الله تعالى؛ إذ لا يأتي بالخير حقيقةً إلا الله كما تدل عليه الرواية الأخرى: "النَّذْرُ لا يُقَدمُ شَيْئًا وَلا يُؤَخِّرُهُ، وَإِنَّما يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيْلِ"، وهو في "البخاري" بنحو هذا اللفظ (¬3). ¬
والثاني: أن يكون معناه التنفير عن النذر، وأنه قد يكون سبباً لسوء العبد وشره من حيث إنه إذا التزم الطاعة التي لم تُفرض عليه بالنذر، فلم يأتِ بها عصى كما يعصي بترك الفريضة، وقد كان لو تركها قبل النذر لم يعص. ويشبه أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم - في النذر: "إِنَّهُ لا يَأتِي بَخَيْرٍ" على الضد من قوله - صلى الله عليه وسلم -. "الْحَيَاءُ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ"، وهو في "الصحيحين" من حديث عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ - رضي الله عنهما -. وفي رواية لمسلم: "الْحَيَاءُ خَيْر كُلُّهُ" (¬1). وفي معناه قول الشاعر: [من الوافر] فَلا وَاللهِ ما فِيْ الْعَيْشِ خَيرٌ ... وَلا الدُّنْيا إِذا ذَهَبَ الْحَياءُ (¬2) ولا يَرِدُ عليه أن الحياء قد يمنع من طلب العلم، ولذلك قيل: لا ينال العلم مُستحي (¬3). وقد يمنع الحياء من طلب الخير الذي لا يأذن الشارع في تركه لأنا نقول: إنَّ هذا ليس من الحياء، بل هو من باب الجبن وإن سُمي حياءً ¬
باعتبار أصل الإطلاق اللغوي، فإن حقيقة الحياء: الحِشْمة المتولدة من رؤية الآلاء ورؤية التقصير المانعة من اتباع الهوى فيما لا يُرضي، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُبُوَّةِ الأُوْلَى: إِذَا لَم تَستَحي فَاصْنع مَا شِئْتَ" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن اسْتَحْيَى مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَليَحْفَظِ البَطْنَ وَمَا حَوى، وَلَيْذْكُرِ الْمَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيىَ مِنَ الله حَقَّ الْحَيَاءِ"، كما رواه الإِمام أحمد، والترمذي وغيرهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬2). *** ¬
فصل
فَصْلٌ من الأخيار الصديقين الأبدال، ولا يكونون أبدالاً حتى يكونوا صديقين لأنهم بُدلاء عن الأنبياء عليهم السلام، فدلَّ ذلك أنَّ مرتبتهم بعد مرتبة الأنبياء، وهي مرتبه الصديقين كما عرفت، وليس كل صديق بدلًا، ولكنه قابل للبدلية. واختلفوا في سبب تسميتهم أبدالًا (¬1): فقيل: لأنهم بدلاء عن الأنبياء كما علمت. وقيل: لأنهم يتبدلون في صور ومظاهر، ويتصرفون في أبدال متعددة (¬2). ¬
وهذا غير منكر لأنه ممكن، وقد اتفق نظيره في الملائكة فإنهم يتمثلون، فكذلك كُمَّل الصديقين، ولا يتوقف في الإيمان بذلك إلا الذي يتوقف في كرامات الأولياء. وقيل: سموا أبدالاً؛ لأن أخلاقهم تبدلت اعتبارًا بقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]. فأحوال الأبدال معتبرة بهذه الآية فأرضُ نفوسهم مُنْدَكَّةٌ مبدلة من الأَمَّارِّيةِ إلى اللَّوَّامِيَّة إلى الطَّمَأنِينة، وكذلك سماء قلوبهم مُبدلة من القلبية إلى الروحية إلى السرية، فنفوسهم مطمئنة لأوامر الله تعالى، زاكية تحت أحكامه، وأسرارهم مشغوفة بمحبة الله تعالى، مشغولة بخدمته ليس فيها بقية لما سواه. وكان أبو العباس المرسي رحمه الله ينشد: [من الكامل] لَوْ شاهَدَتْ عَيْناكَ يَوْمَ تَزَلْزَلَت ... أَرْضُ النُّفُوْسِ وَدُكَّتِ الأَجْبالُ لَرَأَيْتَ شَمْسَ الْحَقِّ يَسْطَعُ ضَوْؤُها ... حِيْنَ التَزَلْزُلِ وَالرِّجالُ رِجالُ وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري في جزء له جمع فيه من كلام أستاذه أبي علي الدقاق رحمه الله، وسمعته يقول: إن أردتَ أن تكون من جملة الأبدال فعليك بتبديل الأحوال، وتبديل الأحوال أن تبدل
ما كان من أحوالك من أحوال الأبرار بحال أشرف منه وأكمل من أحوال الأخيار، أما تبديل الأحوال القبيحة بالأحوال الحسنة، فإنه مشروط في أصل التوبة وأعمال البر. ومما يؤيد القول الأول من هذه الأقوال الثلاثة: ما رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: إنَّ الأنبياء عليهم السلام كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قال لهم الأبدال، لم يَفْضُلوا الناس بكثرة صومٍ ولا صلاةٍ ولا تسبيح، ولكن بحسن الخلق وبصدق الورع، وحسن النية وسلامة قلوبهم لجميع المسلمين (¬1). قلت: في كلام أبي الدرداء - رضي الله عنه - إيماء إلى القول الثالث -أيضًا- فإن حسن الخلق بدل عن سوء الخلق، وصدق الورع بدل عن ارتكاب الشُّبَهِ، والتخليط وحسن النية بدل عن العمل بلا قصد أو بالقصد السوء، وسلامة القلوب عن الحقد وإضمار السوء، فإن الاتصاف بهذه الأخلاق تدل عن الانفكاك عن أضدادها. ويجوز أن تكون تسميتهم أبدالاً للوجهين بل للثلاثة المَحْكِيَّة في الأقوال الثلاثة. وفي كلام أبي الدرداء -أيضًا- أن الأوتاد هم الأبدال. واشتهر في عرف الصوفية أن الأوتاد من الأبرار وهم ثلاث مئة، ¬
وأن الأبدال من المقربين وهم أربعون، وقيل في عدتهم غير ذلك، والله الموفق. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن أبي الزناد رحمه الله تعالى قال: لما ذهبت النبوة، وكانوا -يعني: الأنبياء عليهم السلام - أوتادَ الأرض، أَخْلَف الله مكانهم أربعين رجلًا من أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يُقال لهم الأبدال، لا يموت الرجل منهم حتى يُنشئ الله مكانه آخر يَخْلُفه، وهم أوتاد الأرض، قلوب ثلاثين منهم على مثل يقين إبراهيم عليه السلام، لم يفضلوا الناس بكثرة الصلاة ولا بكثرة الصيام، ولا بحسن التخشع ولا بحسن "الحلية" ولكن بصدق الورع وحسن النية، وسلامة القلوب والنصيحة لجميع المسلمين ابتغاء مرضاة الله تعالى بصبرٍ وخير ولبٍّ حليم، وتواضع في غير مذلَّة ... إلى آخر كلامه، وسيأتي (¬1). وقد جاء التصريح بأنَّ الأبدال من الصديقين فيما رواه ابن عساكر عن الحسن البصري قال: لن تخلوا الأرض من سبعين صديقًا وهم الأبدال، لا يهلك منهم رجل إلا أخلف الله مكانه مثله؛ أربعون بالشام وثلاثون في سائر الأرضين (¬2). وروى الخلال في "كرامات الأولياء"، وابن عساكر عن خالد بن معدان رحمه الله قال: قالت الأرض: كيف تدعني وليس عليَّ نبي؟ ¬
قال: سوف أفرغ عليكِ أربعين صديقًا بالشام (¬1). وهي أنا قد بينا أنَّ الأبدال سموا بذلك لأنهم بُدلاء عن الأنبياء وخلف منهم، ولذلك كان مسكنهم الشام لأنها بلاد الأنبياء عليهم السلام إلا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإنه حجازي مكي، وهو قطب الأنبياء عليهم السلام، ولذلك كان مركز قلب القطب بمكة المشرفة وإن كان ساكناً في غيرها. وقد قيل: إنه لا يصلي الصلوات الخمس إلا بها. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن عبد الله بن صفوان قال: قال رجلٌ يوم صفين: اللهم العن أهل الشام، فقال علي - رضي الله عنه -: لا تسب أهل الشام جماً غفيراً؛ فإنَّ بها الأبدال، فإنَّ بها الأبدال، فإنَّ بها الأبدال (¬2). وروى الإِمام أحمد وسنده حسن، عن علي - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الأَبْدَالُ [يكونون] بِالشَّامِ وَهُمْ أَرْبَعُوْنَ رَجُلاً، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانه رَجُلاً؟ يُسْقَى بِهِمُ الغَيْثُ، وَيُنْصَرُ لَهُم عَلَى الأَعْدَاءِ، وَيُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ بِهِمُ العَذَابُ" (¬3). ¬
وروى الخلال في "كرامات الأولياء"، والديلمي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأَبْدَالُ أَرْبَعُوْنَ رَجُلًا وَأَرْبَعُوْن امْرَأَةً، كُلَّمَا مَاتَ رَجُل أَبْدَلَ اللهُ مَكَانهُ رَجُلاً، وَكُلَّمَا مَاتَت اِمْرَأة أَبْدَلَ اللهُ مَكَانهَا اِمْرَأة" (¬1). وهذا الحديث فيه أنَّ في النساء أبدالاً، ولا يصح كونهن أبدالاً عن الأنبياء؛ لأن النساء لا نبيَّةَ فيهنَّ على الأصح، وإنما أبدالهن من تبدلت أخلاقهن الحسنة عن أخلاقهن السيئة. ولا يعارض هذا حديث: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيْر وَلَمْ يَكْمُل مِنَ النِّسَاءِ إِلا أَرْبَع" (¬2)؛ فإنَّ أبدال النسوة باعتبار ما يليق بحالهن، ولا يَبْلُغن من الكمال ما بلغ الرجال إلا قليلاً لغلبة الشهوة والهوى عليهن أكثر من غلبته على الرجال. وروى الطبراني في "الكبير" عن عوف بن مالك - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
أنه قال: "الأَبْدَالُ في أَهْلِ الشَّامِ، وَبِهِم يُنصَرُوْنَ وَبِهِم يُرْزَقُوْنَ" (¬1)؛ أي: أهل الشام هم مظنة الأبدال. ومن شواهد هذا المعنى حديث عبد الله بن حوالة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "عَلَيْكَ بِالشَّامِ؟ فَإِنَّهَا خِيْرَةُ اللهِ مِنْ أَرْضِهِ، يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ". الحديث رواه أبو داود، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه (¬2). وقد روى البزار نحوه من حديث أبي الدرداء، والطبراني من حديثه، ومن حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -، وإسناداهما حسنان جيدان (¬3). وروى الخطيب في "تاريخه" عن أبي بكر الكتاني رحمه الله تعالى قال: "النقباء ثلاث مئة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعُمُدُ أربعة، والمغيث واحد، فمسكن النقباء المغرب، ¬
ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سائحون في الأرض، والعُمُدُ في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء، ثم النجباء، ثم الأبدال، ثم الأخيار، ثم العُمُدُ، فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث، فلا تتم مسألته حتى تُجاب دعوته" (¬1). والنقباء جمع نقيب، وهو التعريف والشاهد، وكأنه أطلق النقباء على الأوتاد، وقد سبق أنهم من الأبرار، ويحتمل أن منهم شهداء. والنجباء جمع نجيب، وهو الكريم؛ سُمَّوا نُجباء لكرمهم وتقدمهم، وهم فوق الأوتاد إلا أنهم لم يبلغوا رتبة الأبدال. واعلم أنه كما يطلب التشبه بالأنبياء والصديقين، فكذلك يطلب التشبه بالأبدال لأنهم خيار الصديقين كما علمت، وقد تقدم في كلام أبي الدرداء وأبي الزناد جملة من أخلاقهم التي يحسن التشبه بهم فيها مثل: حسن الخلق، وصدق الورع، وحسن النية، وسلامة القلب، والنصيحة للمسلمين ابتغاء مرضاة الله تعالى، ويدخل فيها الدعاء والتوسل إلى الله تعالى في أمورهم كما يشير إليه كلام الكتاني. وقال أبو الزناد في بقية كلامه السابق في أوصافهم: وعلم ذلك أنهم لا يلعنون أحدًا، ولا يؤذون أحدًا، ولا يتطاولون على أحد تحتهم ولا يحتقرونه، ولا يحسدون أحدًا فوقهم، ليسوا بمتخشعين ولا متهاونين ولا معجبين، لا يحبون الدنيا, ولا يحبون للدنيا, وليسوا اليوم في ¬
وحشة وغداً في غفلة (¬1). وروى ابن أبي الدنيا، والحكيم الترمذي عن الحسن رحمه الله مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ بُدَلاءَ أُمَّتِي لَم يَدْخُلُوْا الْجَنَّةَ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَصَلاةٍ، وَلَكِنْ دَخَلُوْهَا بِرَحْمَةِ اللهِ، وَسَلامَةِ الصُّدُوْرِ، وَسَخَاوَةِ الأَنْفُسِ، وَالرَّحْمَةِ لِجَمِيع الْمُسْلِمِيْنَ" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا، والخلال عن علي - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأبدال فقال: "هُم ستُّوْنَ رَجُلاً"، فقلت: يا رسول الله! حلهم لي، قال: "لَيْسُوْا بِالْمُتَنَطّعِيْنَ ولا بِالْمُبْتَدِعِيْنَ وَلا بِالْمُتَعَجبيْنَ - وقال: الخلال عوض قوله: بالمتعمقين: ولا بِالْمُعْجَبِيْنَ - لَمْ يَنَالُوْا مَا ناَلُوْا بِكَثرةِ صَلاةٍ وَلا صِيَامٍ وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنْ بِسَخَاوَةِ الأَنفسِ وَسَلامَةِ القُلُوْبِ، وَالنَّصِيْحَةِ لأُمَّتِهِم؛ إِنهم يَا عَلِيُّ في أُمَّتِي أقلَّ مِنَ الكَبْرِيْتِ الأَحْمَرِ" (¬3). وروى ابن عساكر عن الحارث بن رزين رحمه الله أن الأبدال لا يكون منهم متهاون ولا طعَّان (¬4). ¬
وروى أبو نعيم، وابن عساكر عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال -وذكر الأبدال- فقال: "بِهِم يُحْيِي وُيمِيْتُ، وُيمْطِرُ وَيُنْبِتُ وَيَدْفَعُ البَلاءَ" (¬1). قيل لعبد الله: كيف بهم يُحيي وُيميت؟ قال: لأنهم يسألون الله تعالى إكثار الأمم فيكثرون، ويدعون على الجبابرة فيقصمون، ويستسقون فيسقون، ويسألون فتنبت لهم الأرض، ويدعون فيدفع بهم أنواع البلاء. وروى ابن عساكر عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ دعاةَ أمتي عَصَبُ اليمنِ، وأبدالُ الشَّامِ، وهم أربعونَ رجلًا، كلَّما هلكَ رجل أبدلَ اللهُ مكانَه رجلًا، ليسوا بالمتماوتينَ ولا المُتَهالِكينَ ولا المُتَبارِينَ، لم يبلغوا ما بلغوا بكثرةِ صَومٍ ولا صَلاةٍ، وإنَّما بَلَغُوا ذاكَ بالسَّخَاء وصِحَّةِ القُلُوبِ، والنَّصيحةِ لجميعِ المُسْلمينَ" (¬2). وروى هو والطبراني وأبو نعيم، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيارُ أُمَّتي في كلِّ قَرْنٍ خمسُ مئةٍ، والأبدالُ أربعونَ، فلا الخمسُ مئةٍ ينقصونَ، ولا الأربعون، كلَّما ماتَ رجلٌ أبدلَ اللهُ مكانَه آخرَ! قالوا: يا رسول الله! دلنا على أعمالهم، ¬
قال: "يعفُونَ عمَّنْ ظَلَمَهُم، ويُحْسِنونَ إلى مَنْ أَسَاءَ إِليهِمْ، ويتواسُون فيما آتاهمُ الله" (¬1). وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "سنن الصوفية" والديلمي، عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث مَنْ كُنَّ فيه فهو مِنَ الأبدالِ الذين بهم قَوَامُ الدُّنْيا وأهلُها: الرّضا بالقضاءِ، والصَّبرُ عَنْ مَحارِمِ الله، والغضبُ في ذَاتِ اللهِ" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن بكر بن خُنيس رحمه الله تعالى مرسلاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "علامةُ الأبدالِ أنّهَم لا يلعنونَ شَيئاً" (¬3). وهذا معلوم مما تقدم: أن الصدِّيق لا يكون لعانًا، والأبدال من الصديقين. وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن حكيم بن حِزام رضي الله تعالى عنه قال: كان أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه مضجعًا بين إخوانه وقد غطَّى وجهَه، فمر عليهم قِسٌّ سمين، فقالوا: اللهم العنه فما أغلظ رقبته، فقال أبو الدرداء: من هذا الذي لعنتم آنفاً، فأخبروه، فقال: لا تلعنوا أحدًا، لا ينبغي للَّعَّان أن يكون عند الله صدِّيقًا (¬4). ¬
وروى أبو نعيم عن داود بن يحيى بن يمان رحمه الله تعالى قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فقلت: يا رسول الله من الأبدال؟ قال: الذين لا يضربون بأيديهم شيئًا، وإنَّ وكيع بن الجراح منهم (¬1). وعن أحمد بن أبي الحواري رحمه الله تعالى قال: سمعت أبا سليمان -يعني الداراني- رضي الله تعالى عنه يقول: لم يبلغ الأبدال ما بلغوا بصوم ولا صلاة، ولكن بالسخاء وشجاعة القلب وسلامة الصدر وذمِّهم أنفسهم عند أنفسهم (¬2). وعن بشر بن الحارث رحمه الله تعالى: أنه سُئل عن التوكل فقال: اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب، ثم فسره فقال: اضطراب بلا سكون: رجل ساكن إلى الله بلا حركة وهذا (¬3) عزيز، وهو صفة الأبدال (¬4). وعن معروف الكرخي رحمه الله تعالى قال: من قال في كل يوم عشر مرات: اللهم أصلح أمة محمَّد، اللهم فرِّج عن أمة محمَّد، اللهم ارحم أمة محمَّد، كُتِبَ من الأبدال (¬5). وروى الطبراني في "الكبير" عن عبادة بن الصامت (¬6) - رضي الله عنه - قال: ¬
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلمُؤْمِنِيْنَ والْمُؤْمِنَاتِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعًا وَعِشْرِيْنَ مَرَّةً أَوْ خَمْسًا وَعِشْرِيْنَ مَرَّةً -أَحَدَ العَدَدينِ- كَانَ مِن الَّذِيْنَ يُسْتَجَابُ لَهُم وُيرْزَقُ بِهِم أَهْلُ الأَرْضِ" (¬1). وهذه صفة الأبدال كما علم مما سبق. وروى الشيخ نصر المقدسي في كتاب "الحجة" عن أحمد بن حنبل رحمه الله: أنه سُئِلَ: هل في الأرض أبدال؟ قال: نعم، قيل: مَنْ هم؟ قال: إن لم يكن أصحاب الحديث هم الأبدال ما أعرف لله أبدالاً (¬2). وروى الخطيب في كتاب "شرف أصحاب الحديث" عن صالح ابن محمَّد الرازي أنه قال -وسأله رجل-: إذا لم يكن أصحاب الحديث هم الأبدال فلا أدري من الأبدال. وقال: هذا كلام يزيد بن هارون ذكره عن سفيان الثوري (¬3). ¬
وقال الدينوري في "المجالسة": ثنا الحارث بن أبي أسامة قال: سُئِلَ يزيد بن هارون وأنا أسمع، فقيل له: مَنْ الأبدال؟ قال: أهل العلم (¬1). وروى ابن أبي الدنيا، وأبو نعيم عن أبي عبد الله النباجي رحمه الله تعالى قال: إذا أحببتم أن تكونوا أبدالاً فأحبوا ما شاء الله، ومن أحبَّ ما شاء الله لم يترك من مقادير الله شيئًا إلا أحبه (¬2). زاد في رواية: وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: ما استحثني أحدٌ لحاجة بمثل قوله: ما شاء الله (¬3). ويشهد لما حدث به عن موسى عليه السلام: ما رواه عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن يحيى بن سليم الطائفي، عن من ذكره قال: طلب موسى عليه السلام من ربه تبارك وتعالى حاجة فأبطأت عليه وأكدت، فقال: "ما شاء الله" فإذا حاجته بين يديه؛ قال: "يا رب! أنا أطلب حاجتي منذ كذا وكذا، أعطيتنيها الآن؟ " قال: فأوحى الله إليه: "يا موسى! أما علمت أن قولك: ما شاء الله أنجح ما طلبت به الحوائج؟ " وقال: الكلمة التي تزجر بها الملائكة الشياطين حين يَسْتَرِقون السمع: ما شاء الله (¬4). ¬
وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله قال: ما سأل رجلٌ مسألة أنجح من أن يقول: ما شاء الله. وعن عمرو بن مرة رحمه الله قال: إنَّ من أفضل الدعاء قول الرجل: ما شاء الله (¬1). وقد علمت أن الدعاء من أخص أحوال الأبدال، ولهم بهذه الكلمة مزيد خصوصية لأنهم يتشبهون بالملائكة في التبدل والتشكل على قول. ولهذه الكلمة خصوصية في تصرف الملائكة. وللأبدال من أُولي العزم من الرسل مواريث، وهذه الكلمة من ميراثهم من موسى عليه السلام. وروى أبو نعيم، وابن الجوزي في "الصفوة" عن أبي سعيد بن عطاء: أن الجنيد - رضي الله عنه - رأى فيما يرى النائم قومًا من الأبدال، فسأل: هل ببغداد أحد من الأولياء أو من الأبدال؟ فقالوا: نعم، أبو العباس ابن مسروق، قال: فقلت متعجبًا: أبو العباس بن مسروق؟ فقالوا: نعم، أبو العباس بن مسروق من أهل الأنس بالله (¬2). وفيه إشارة أن الأنس بالله تعالى من أحوال الأبدال. وروى الإِمام أحمد في "الزهد"، وابن أبي الدنيا، وأبو ¬
نعيم، والبيهقي، وابن عساكر عن جليس وهب بن منبه (¬1) قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله! أين بُدلاء أمتك؟ فأومَأ بيده نحو الشام، قلت: يا رسول الله! أما بالعراق منهم أحد؟ قال: بلى، محمَّد بن واسع، وحسان بن أبي شيبان، ومالك بن دينار الذي يمشي في الناس بزهد أبي ذر (¬2). وفيه إشارة إلى أن الزهد من أحوالهم أيضًا. وقال حجة الإِسلام في "الإحياء": إنَّ بعضهم قال لبعض العلماء: من كل عمل قد أعطاني الله نصيبًا - حتى ذكر الحج والجهاد وغيرها -، فقال له: أين أنت من عمل الأبدال؟ قال: ما هو؟ قال: كسب الحلال والنفقة على العيال (¬3). ونقل أبو طالب المكي في "القوت" عن بعضهم أنه قال في وصف الأبدال: أكْلُهم فاقة، وكلامهم ضرورة، ونومهم غلبة (¬4). ونقلاً عن سهل بن عبد الله التستري - رضي الله عنه - أنه قال: صارت الأبدال أبدالاً بأربعة؛ قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام، واعتزال الأنام (¬5). ¬
تنبيه
وتكلم الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله على هذه الأربعة في "فتوحاته"، ثم أفرد الكلام عليها في مؤلف لطيف سمَّاه "حلية الأبدال"، وحكى فيه وفي "الفتوحات" عن صاحبٍ له كان بمراشانة الزيتون ببلاد الأندلس اسمه عبد المجيد بن سلمة، وكان فقيهًا ورعاً، أنَّه اجتمع برجل من الأبدال في قصة طويلة، وسمَّاه ابن العربي معاذ بن الأشرس، قال عبد المجيد: فقلت: يا سيدي! بماذا تصير الأبدال أبدالاً؟ فقال لي: بالأربعة التي ذكرها أبو طالب المالكي في "القوت": الصمت, والعزلة، والجوع، والسهر، انتهى (¬1). وقال شيخ الإِسلام الجد في منظومته المسماة بِـ: "الدرر اللوامع": [من الرجز] وَحِلْيَةُ الأَبْدالِ مِثْلُ ما اشْتَهَرْ ... صَمْتٌ وَعُزْلَةٌ وَجُوْعٌ وَسَهَرْ * تنبِيْهٌ: قال سهل التستري: الخليفة إذا كان صالحًا فهو من الأبدال. وبعضهم ينقل عنه أنه قال: السلطان إن كان جائراً فهو من الأبدال، وإن كان عادلاً فهو القطب (¬2). قال أبو طالب المكي: قوله: "من الأبدال" يعني: أبدال ¬
المسلك (¬1) كما حدثنا عن جعفر الصادق رحمه الله قال: أبدال الدنيا سبعة على مقاديرهم يكون الناس [في كل زمان] (¬2) من العلماء، والعباد، والتجار، والخليفة، والوزير، وأمير الجيش، وصاحب الشرطة، والقاضي وشاهداه (¬3)، انتهى (¬4). [وقسم] (¬5) من ذلك -مع ما تقدم - الأبدال على قسمين: - أبدال عن الأنبياء: وهم أبدال الملكوت، ولا يكونون إلا صديقين مقربين عارفين بالله. - وأبدال الملك: وهم أبدال الدنيا لا تقوم عمارة الدنيا إلا بهم ولا بدَّ للناس منهم؛ سُمُّوا أبدالاً لأنهم كلما فقد واحد منهم أبدل مكانه غيره، ثم عيَّن جعفر الصادق مراتبهم، وسماهم الخليفة والوزير، وأمير الجيش وصاحب الشرطة، والقاضي وشاهداه، والعلماء يشترطون في هؤلاء الكمال كل واحد بما يليق به، وهو بالرحمة والعدل والشجاعة. ثم لكل واحد منهم أوصاف وآداب تليق به، فالكمالُ مشروطٌ فيهم، لكن يكفيهم منه أن يكونوا أبرارًا وإن لم يبلغوا درجة الصديقين. ثم إن كانوا -أو أحدهم- بخلاف ذلك نفذت أحكامهم للضرورة، ¬
وانقادت الناس لهم خيفة من تفرق الكلمة، فالرعية مأمورون بالطاعة وهم مأزورون بالجور والخروج عن حد الاعتدال في الدين. وهذا بخلاف القسم الأول -أعني: الأبدال عن الأنبياء-؛ فإنهم لا يكونون إلا صديقين، وعدتهم أربعون كما سبق، وهؤلاء عدتهم سبعة. ومن ثم نفهم معنى قول أبي يزيد البسطامي حين قيل له: أنت من الأبدال السبعة؟ فقال: أنا كل الأبدال السبعة (¬1)؛ لأنَّ الصديق قد استوفى جميع أخلاق الأبرار، والسبعة المشار إليهم قد يتمحضون أبراراً، فالصديق واحد يقوم مقامهم بل يفوق عليهم. فقوله: "أنا كلُّ السبعة"؛ أي: أنا قائم مقام السبعة، وهذا منه من باب التحديث بالنعمة (¬2). ¬
تنبيه
وأيضًا، فإن العبد إذا قام في مقام الصديقية استغنى عن هؤلاء السبعة؛ لأن من أخلاقه الإنصاف من نفسه، فقد قام منه في كل مقام من الإنصاف ما أغناه عن الاحتياج إلى الخليفة فمن دونه من هؤلاء السبعة؛ لأنَّ هؤلاء السبعة إنما كانوا للتوصل إلى الإنصاف، فقد قام له في كل مقام من إنصافه ما أغناه عن مراجعة أحد من هؤلاء السبعة فيما بينه وبين الخلق، فإنه ينصف من نفسه ويعفو عن حقوقه ويُسامح بها، فلا يحتاج هو ولا من يخالطه إلى أحد من هؤلاء الأبدال، فقد قام مقام السبعة وأغنى نفسه وغيره عنهم كلهم، فبهذا الاعتبار قال أبو يزيد: أنا كل الأبدال السبعة. * تنبِيْهٌ: ما تقدم في الأخبار أن الأبدال لم ينالوا ما نالوا لكثرة صلاة ولا كثرة صيام ولا كثرة صدقة، ولكن بالسخاء وسلامة الصدور والنصيحة والرحمة، هذا فيه إشارة إلى أن أعمالهم قلبية وهممهم عليَّة، وإن لم يكن لهم كثير عمل ولا مزيد اجتهاد، وأن نقصان العمل بعد تأدية الفرائض لا يضرُّهم ولا يحط من مرتبتهم. ويؤيده ما اشتهر حتى كاد أن يكون مجمعًا عليه عند المحققين من الصوفية: أن العارف لا يَضرُّه قلة العمل إذ يكون سره قلبيًا وإلا لم يكن متحققًا بالمعرفة، والأبدال رؤوس العارفين. وقال الجد - رضي الله عنه - في "الدرر اللوامع": [من الرجز]
وَصاحِبُ الْعِرْفانِ لا يُبالِي ... إِذا ابْتُلِيْ بِقِلَّةِ الأَعْمالِ قلت: وقد ظفرت لذلك بدليلٍ من الحديث، وهو ما رواه الطبراني في "الكبير" رحمه الله تعالى عن عبد اللُّه بن مسعود - رضي الله عنه - قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا ابْنَ مَسْعُوْدٍ! أَيُّ عُرَى الإِيْمَانِ أَوْثَقُ؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: لا أَوْثَقُ عُرَى الإِيْمَان الوِلايَةُ للهِ، وَالْحُبُّ في اللهِ، وَالبُغْضُ في اللهِ". ثم قال: "يا ابْنَ مَسْعُوْدٍ! "، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "أتدري أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فَإنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ أَفْضَلُهُم عَمَلاً إِذَا فَقهُوْا في دِيْنهِم". ثم قال: "يَا ابْنَ مَسْعُوْدٍ! "، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "أتدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُم بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ وإنْ كَانَ مُقَصِّرًا في عَمَلِهِ، وإنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ زَحْفًا"، الحديث (¬1). وقد أخرجه جماعة غير الطبراني؛ منهم عبد بن حميد في "تفسيره"، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، وأبو يعلى في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه" وصححه، والبيهقي في "شعبه"، وابن عساكر ¬
في "تاريخه" (¬1). وهو حديث حسن، وله طرق يعضد بعضها بعضًا. وقلت في المعنى: [من الخفيف] أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُ النَّاسِ بِالْحَقِّ ... إِذا ما رَأَيْتَ فِيْ النَّاسِ خُلْفا ذاكَ ما ضَرَّهُ كَما قَدْ رَوينا ... نَقْصُ أَعْمالِهِ وَلَوْ سارَ زَحْفا ومن أتمِّ ما وصف به الأبدال: ما أخبرنا شيخ الإِسلام الوالد عن أبي يحيى الأنصاري، عن العز بن الفرات الحنفي، عن أبي حفص عمر ابن الحسن المراغي، وجماعة قالوا: أنا الفخر أبو الحسن علي بن أحمد ابن عبد الواحد المقدسي -عُرف بابن البخاري- عن أبي المكارم أحمد ابن محمَّد اللبان، وأبي الحسن مسعود بن محمَّد (¬2) بن أبي منصور الكمال (¬3) قالا: أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد، أنا أبو ¬
نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني الحافظ، أنا أبو الحسن أحمد بن محمَّد ابن مقسم، نا العباس بن يوسف الشكلي، حدثني محمَّد بن عبد الملك قال: قال عبد الباري: قلت لذي النون رحمه الله تعالى: صف لي الأبدال، قال: إنك لتسألني عن دياجي الظلم لأكشفها لك، عبد الباري! ؛ هم قومٌ ذكروا الله بقلوبهم تعظيماً له لمعرفتهم بجلاله، فهم حجج الله على خلقه، ألبسهم النور الساطع من محبته، ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته، وأفرغ عليهم الصبر عن مخالفته، وطهر أدرانهم بمراقبته، وطيبهم بطيب أهل معاملته (¬1)، وكساهم حُلَلًا من نسج مودته، ووضع على رؤوسهم تيجان مسرته، ثم أودعَ القلبَ من ذخائر الغيوب فهي معلقة بمواصلته، فهمومهم إليه ثائرة، وأعينهم إليه بالغيب ناظرة، وقد أعانهم على باب النظر من قُربه، وأحلهم على كراسي أطباء أهل معرفته، ثم قال: إن أتاكم عليلٌ من فقدي فداووه أو مريضٌ من فرقي (¬2) فعالجوه، أو خائفٌ مني فأمنوه، أو آمنٌ مني فحذروه، أو راغبٌ في مواصلتي فهنؤوه، أو راحلٌ نحوي فزودوه، أو جبانٌ في متاجرتي فشجعوه، أو آيسٌ من فضلي فعِدُوه، أو راجٍ لإحساني فبشروه، أو حَسَنُ ظن فيَّ (¬3) فباسطوه، أو محب لي فواظبوه، أو معظم لقدري فعظموه، أو مستوصفكم نحوي فأرشدوه، أو مسيءٌ بعد إحسانٍ فعاتبوه، ومن واصلكم فيَّ فواصلوه، ومن غاب عنكم ¬
فافتقدوه، ومن ألزمكم جنايةً فاحتملوه، ومن قصر في واجبِ حقي فاتركوه، ومن أخطأ خطيئةً فناصحوه، ومن مرض من أوليائي فعودوه، ومن حزن فبشروه، وإن استجار بكم ملهوفٌ فأجيروه. يا أوليائي! لكم عاتبت، وفيَّ إياكم رغبت، ومنكم الوفاء طلبت، ولكم اصطفيت وانتخبت، ولكم استخدمت واختصصت لأني لا أحب استخدام الجبارين، ولا مواصلة المتكبرين، ولا مصافاة المخلطين، ولا محاورة (¬1) المخادعين، ولا قرب المعجبين، ولا مجالسة البطالين، ولا موالاة الشرهين. يا أوليائي! جزائي لكم أفضل الجزاء، وعطائي لكم أجزل العطاء، وبذلي لكم أفضل البذل، وفضلي عليكم أفضل الفضل، ومعاملتي لكم أوفى المعاملة، ومطالبتي لكم أشد المطالبة، أنا مُحيي (¬2) القلوب، وأنا علاَّم الغيوب، أنا مُراقب الحركات، أنا ملاحظ اللحظات، أنا المشرف على الخواطر، أنا العالم بمجال الفكر، فكونوا دُعاة إليَّ لا يفزعنكم دون سلطاني سواي (¬3)، فمن عاداكم عاديته، ومن والاكم واليته، ومن آذاكم أهلكته، ومن أحسن إليكم جازيته، ومن هجركم قَلَيته (¬4). • • • ¬
(6) باب التشبه بالنبيين صلوات الله عليهم وسلامه عليهم أجمعين
(6) باب التشبه بالنبيين صلوات الله عليهم وسلامه عليهم أجمعين
(6) باب التشبه بالنبيين صلوات الله عليهم وسلامه عليهم أجمعين اعلم أن الله تعالى ذكر في سورة الأنعام ثمانية عشر نبيًا، ثم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وفي "صحيح البخاري" عن مجاهد قال: قلت لابن عباس - رضي الله عنهما -: أسجد في ص؟ فقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] حتى أتى إلى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 84 - 90] فقال ابن عباس: نبيُّكم ممن أُمر أن يقتدى بهم (¬1)، وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. وقد تقدم الكلام على ذلك. ومن المعلوم أنَّ جميع ما ذكرناه من خصال الخير إنما هو مأخُوذٌ من الأنبياء عليهم السلام إما فِعْلاً، وإما قولًا، أمراً، أو إرشاداً، ولا خفاء أن جميع أخلاق الصالحين والشهداء والصديقين مندرجة ¬
تحت أخلاق الأنبياء عليهم السلام، وجميع أخلاق النبيين مندرجة في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - كما علمت ذلك مما تقدم. وقد أثنى الله تعالى على خلقه - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وروى مسلم عن سعيد بن هشام، قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان خلقُه القرآن (¬1). وقد ظهر بذلك أنَّ من عمل بالقرآن العظيم وتَخَلق بما فيه كان متشبهاً بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وقد روى وكيع في "تفسيره": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حَفِظَ القُرْآنَ فَقَد أُدْرِجَتِ النُبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنه لا يُوْحَى إِلَيْهِ" (¬2). ورواه الطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي من حديث عبد الله ابن عمرو - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَقَدْ اسْتَدْرَجَ النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يُوْحَى إِلَيْهِ، وَمَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَرَأَى أَنَّ أَحَدًا أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَا أُعْطِيَ فَقَدْ عَظمَ مَا صَغَرَ اللهُ وَصَغَرَ مَا عَظَّمَ اللهُ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ القُرْآنِ أَنْ يَجِدَّ مَعَ مَنْ جَدَّ، وَلا يَجْهَلَ مَعَ مَنْ جَهِلَ وَفِي جَوْفِهِ كَلامُ اللهِ" (¬3). ¬
وقوله: "من قرأ القرآن" أي: حقَّ قراءته كما قال تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121] لا مجرد إدارته على اللسان مع العمل بخلافه؛ فإنَّ هذا يستوي فيه البر والفاجر. روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، وغيرهما عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يأخذون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل؛ قال: فتعلمنا العلم والعمل (¬1). وبهذا فسرت الحكمة في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. وقوله في رواية وكيع: "من حفظ القرآن" المراد ضبط حدوده، وحلاله وحرامه، والعمل بما فيه، وهذا حقيقة الحكمة. وقال تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1 - 2] فسمَّى الله تعالى القرآن حكيما لاشتماله على الحكمة المشار إليها في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: الحكمة علم القرآن، وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثال ذلك. ¬
أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وروى الثاني عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - في الآية قال: قراءة القرآن والفكر فيه (¬2). وروى ابن جرير عن أبي العالية، وعن إبراهيم قالا: الكتاب والفهم فيه. وعن ابن عباس قال: الفقه في القرآن (¬3). وروى عبد بن حميد عن مجاهد قال: الحكمة الإصابة في القول (¬4). ومضمونه أن الإصابة لا تعدو أحكام القرآن. وروى ابن أبي الدنيا عن الحسن في الآية قال: الحكمة الورع (¬5). والورع مما جاء به القرآن العظيم. ¬
وروى ابن أبي حاتم عن مالك - رضي الله عنه - قال: قال زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى: إنَّ الحكمة العقل. قال مالك: وإنه ليقع في قلبي أنَّ الحكمة الفقه في دين الله، وأمرٌ يُدخله الله القلوب من رحمته وفضله، ومما يبين ذلك أنك ترى الرجل عاقلاً في أمر الدنيا إذا نظر فيها، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه، عالمًا بأمر دينه، بصيراً به، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا، فالحكمة الفقه في دين الله (¬1). وروى الشيخان، والنسائي، وابن ماجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَسَدَ إِلا في اثْنتَينِ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ في الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا ويُعَلَمُهَا" (¬2). وفيه تلويحٌ أن الحكمة بمعنى الحكم بالحق، ولذلك فسَّرها في "القاموس" بالعدل (¬3). وروى ابن أبي حاتم عن مطر الوراق رحمه الله قال: بلغنا أنَّ الحكمة خشية الله والعلم به (¬4)؛ أي: المعرفة. ¬
وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن خالد بن ثابت الربعي قال: وجدت فاتحة زبور داود: أنَّ رأس الحكمة خشية الرب (¬1). وروى ابن المنذر عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: الخشية حكمة؛ من خشي الله فقد أصاب أفضل الحكمة (¬2). وروى الحكيم الترمذي في "نوادره"، وابن لال في "مكارمه" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الله" (¬3). وروى القرطبي عن مالك: أن الحكمة السُّنَّة (¬4). ولا شك أن السُّنة أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله، والعمل بالسُّنة عين التشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه يندرج التشبه بالأنبياء عليهم السلام كما تقدم. وروى ابن المنذر عن عروة بن الزبير قال: كان يُقال: الرفق رأس الحكمة (¬5). وروى أبو نعيم عن يونس بن ميسرة رحمه الله قال: قالت ¬
الحكمة: يا ابن آدم تلتمسني وأنت تجدني في حرفين؛ تعمل بخير ما تعلم، وتدع شر ما تعلم؟ (¬1) وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان: 12]؛ ففسر الحكمة بالشكر، والشكر هو الطاعة، والأنبياء عليهم السلام أطوع البشر لله تعالى، فالمطيع كلما ازداد طاعةً لله تعالى كلما كان متشبهًا بالنبيين عليهم السلام مقتديًا بهم. وروى الإِمام أحمد في "الزهد"، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] قال: العقل والفهم، والإصابة في القول في غير نبوة (¬2). وعليه: فقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} على حذف حرف الجر؛ أي: بأن اشكر لله. وروى ابن عدي وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحِكْمَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ؛ تِسْعَةٌ مِنْهَا في العُزْلَةِ، وَوَاحِدٌ في الصَّمْتِ" (¬3). وروى الحاكم، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ لقمان كان عند داود عليهما السلام وهو يسرد الدرع، فجعل يفتله هكذا بيده، فجعل لقمان يتعجب ويريدُ أن يسأله وتمنعه حكمته أن ¬
يسأله, فلما فرغ منها صبها على نفسه وقال: نعم درع الحرب هذه، فقال لقمان: الصمت من الحكمة وقليلٌ فاعله، كنت أردت أن أسألك، فسكتُّ حتى لقيتني (¬1). ولا شك أن الحكمة ممدوحة وهي علوم القرآن أو داخلة في علومه، ولا ينالها العبد إلا بالطاعة والإخلاص فيها، والزهد في الدنيا مع ملازمة الخوف، والعزلة عما لا ينبغي، والصمت عما لا يعني، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا رَأَيْتُم الرجلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْدًا في الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَاقْتَرِبُوْا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ". رواه ابن ماجه عن أبي خلاد - رضي الله عنه - (¬2). ورواه أبو نعيم، والبيهقي في "الشعب" من حديثه، ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَخْلَصَ للهِ أَرْبَعِيْنَ صَبَاحًا تَفْجرَت يَنَابِيع الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانه". رواه الإِمام أحمد في "الزهد" عن مكحول مرسلاً، ووصله في "الحلية" عنه، عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - (¬4). ¬
وما ذكرناه كله عين ما جاءت به الأنبياء عليهم السلام، فمن أولى الحكمة لم يفته من مقامات الأنبياء عليهم السلام إلا مفاجأة الملك بالوحي والتشريع والتحدي بالمعجزات، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: "إِلا أَنَّهُ لا يُوْحَى إِلَيْهِ"، وهذا ممنوع منه العبد، فختم النبوة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يبقَ له إلا الاقتداء بالأنبياء عليهم السلام، والتشبه بهم فيما عدا ذلك ما لم يكن منسوخًا من شرائع الأنبياء، فذلك هو الحكمة المحمودة التي من جاء بها كان متشبهاً بالأنبياء وبالحكماء أيضًا. ومن خالف ما لم ينسخ من الشرائع فليس بحكيم، فإنما هو متفسق أو متزندق، أو شيطان رجيم، فإن اتفق أنَّه سمعتَ منه كلمة الحكمة الموافقة للكتاب والسنة كتبت عنه معِ التبري فيما عداها عنه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِن، فحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا". رواه ابن ماجه، والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وابن عساكر من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (¬1). ¬
وروى العسكري في "أمثاله" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: خذوا الحكمة ممن سمعتموها، فإنه قد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير رامٍ (¬1). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: أن الصلاة حضرته وإلى جانبه امرأة ترعى غنمًا لها، فأخذ أبو الدرداء مكاناً يُصلي فيه، قالت له المرأة: يا عبد الله! أذهب بك شيء؟ قال: لا والله، قالت: أراك تلتمس، قال: ألتمس مكانًا نقيًا أُصلي فيه، قالت: يا عبد الله! والله إن كان قلبك نقياً لا تبالي حيثما صليت، قال أبو الدرداء: خذها أبا الدرداء من غير فقيه (¬2). ولا يكون المتكلم بالكلمة الواحدة والكلمتين من الحكماء، ولا ينال الفاسق مقام الحكيم. روى أبو نعيم عن وهب بن منبه قال: لا يكون البطال من الحكماء، ولا يرث الزناة من ملكوت السماء (¬3). ثم إنَّه ليس كل حكيم يخرج من عهدة العمل بمقتضى الحكمة إلا أن حكمته تظهر وعليها النور بقدر عمله بها وإخلاصه فيها وفيه وصدقه فيهما. ¬
وقد روى ابن جهضم عن حسين القزاز (¬1) قال: أربعة أشياء عزيزة في الخلق؛ عالم مستعمل لعلمه، وحكيم ينطق عن فعله (¬2)، وواعظ ليس له طمع، ومتعبد ليس له علاقة (¬3). وروى ابن النجار في "تاريخه" عن المهاجر بن حبيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله تَعَالَى يَقُوْلُ: إِنِّي لَسْتُ عَلَى كُلِّ كَلامِ الْحَكِيْمِ أُقْبِلُ، وَلَكِن أُقْبِلُ عَلَى هَمِّهِ وَهَوَاهُ، فَإِنْ كَانَ هَمُّهُ وَهَوَاهُ فيِ مَا يُحِبُّ اللهُ وَيرْضَى، جَعَلْتُ صَمْتَهُ حَمْدًا للهِ وَوَقَارًا وإنْ لَمْ يتكلَّمْ" (¬4). وروى ابن جهضم عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: إن الله يحب العالم المتواضع، ويبغض العالم الجبار، ومن تواضع لله أورثه الله الحكمة (¬5). يُشير إلى أن التكبر حجاب لقلوب العلماء عن الحكمة والنطق بها. ويدلُّ عليه قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] الآية. ¬
وروى أبو الشيخ في "الثواب" عن أبي بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَوَاضَعُوْا لِمَنْ تَعَلَّمُوْنَ مِنْهُ، وَتَوَاضَعُوْا لِمَنْ تُعَلِّمُوْن، وَلا تَكُوْنُوْا مِنْ جَبَابِرَةِ العُلَمَاءِ يَغْلِبُ جَهْلُكُم عِلْمَكُم" (¬1). وأين الحكمة مع غلبة الجهل، وإنما يغلب الجهل على العالم إذا تكبر أو تجبر، وكذلك إذا عاشر من لا تليق به عشرته من المبتدعة والفسقة. كما السلمي في "طبقاته" عن فضيل بن عياض رحمه الله قال: من جلس مع صاحب بدعة لم يُؤتَ الحكمة (¬2). ومن هنا كان أبعد الناس عن الحكمة والنطق بها الملوك لتجبرهم وكثرة مخالطتهم للفساق، فتجدهم بما هم عليه عن الحكمة معرضين، ولها غير متعرضين. وقد روى الإمامان ابن المبارك وابن حنبل؛ كلاهما في "الزهد" عن خلف (¬3) بن حوشب رحمه الله قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام للحواريين: كما ترك لكم الملوك الحكمة فلذلك دعوا لهم الدنيا (¬4). وروى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: أنه ذكر لقمان الحكيم ¬
فقال: ما أوتي ما أوتي من أهل ومال، ولا حسب ولا جمال، ولكنه كان رجلاً صمصامة سكِّيتًا، طويل التفكر عميق النظر، لم ينم نهارًا قط، ولم يره أحد يبزق، ولا يبول ولا يتغوط، ولا يغتسل، ولا يعبث ولا يضحك، وكان لا يُعيد منطقًا نطق به إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه، وكان قد تزوج وولد له أولاد فماتوا فلم يبكِ عليهم، وكان يغشى السلطان ويأتي الحكماء لينظر ويتفكر ويعتبر، فبذلك أُوتي ما أوتي (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "الصمت"، وابن جرير عن عمرو بن قيس قال: مر رجلٌ بلقمان والناس عنده فقال: ألست عبد بني فلان؟ قال: بلى، قال: ألست الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: فما الذي بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السكوت عما لا يعنيني (¬2). وروى ابن جهضم عن أبي بكر بن أبي داود قال: إذا جالست العلماء والجهال فأنصت لهم؛ فإنَّ في إنصاتك للعلماء زيادة في علمك، وفي إنصاتك للجّهال سلامة، والزم الصمت تعد حكيمًا، عالمًا كنت أو جاهلًا. وروى أبو القاسم القشيري في "رسالته" عن مِمْشاذُ الدينوري ¬
قال: الحكماء ورثوا الحكمة بالصمت والتفكر (¬1). وروى أبو نعيم عن الحسن قال: إنَّ أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر، وبالفكر على الذكر حتى استيقظت قلوبهم فنطقت بالحكمة (¬2). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد"، والبيهقي عن سيار أبي الحكم قال: قيل للقمان: ما حكمتك؟ قال: لا أسأل عما قد كفيت، ولا أتكلف ما لا يعنيني (¬3). وروى إسحاق الختلي في "الديباج" عن محمَّد بن جُحادة قال: أُتيَ لقمان في فائدة قالها، فقيل له: هل لك في أن تكون خليفة؟ قال: إن تُجبرني فسمعًا وطاعة، وإن تُخبرني أَخْتار العافية، فقيل له: وما عليك أن تكون خليفة فتعمل بالحق؟ قال: وإن أعمل بالحق فبالحري أن أنجو، وإن أخطئ الحق أُخطِئْ طريق الجنة، وإنّه من يبع الآخرة بالدنيا يخسرهما جميعًا، وأن أعيش ذليلاً حقيراً أحبَّ إليَّ من أن أعيش قوياً عزيزاً، فشكَرَ الله مقالتَه فغطَّه في الحكمة غطَّةً فأصبح وهو أحكم الناس، وكان يعتاده داود عليه السلام لحكمته، وكان يقول: انظروا إلى رجلٍ أوتي الحكمة ووقيَ الفتنة. ¬
وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول بها عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لُقْمَانَ كَانَ عَبْداً كَثِيْرَ التَّفَكُّرِ، حَسَنَ الظَّنِّ، كَثِيْرَ الصَّمْتِ، أَحَبَّ الله فَأَحَبَّهُ اللهُ فَمَنَّ عَلَيْهِ بِالْحِكْمَةِ، نُوْديَ بِالْخِلافَةِ قَبْلَ داوُدَ عليه السلام فَقِيْلَ لَهُ: يَا لُقْمَانُ! هَلْ لَكَ أَنْ يَجْعَلَكَ اللهُ خَلِيفَةً في الأَرْضِ، تَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ؟ قَالَ لُقْمَانُ: إِن أَجْبَرَنِي رَبِّي قَبِلْتُ، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِي أَعَاننِي وَعَلَّمَنِي وَعَصَمَنِي، وَإِنْ خَيَّرَنِي رَبِّي قَبِلْتُ العَافِيَةَ وَلَمْ أَسْأَلِ البَلاءَ فَقَالتِ الْمَلائِكَةُ [بصوتٍ لا يَراهم] (¬1): يَا لُقْمَانُ لِمَ؟ قَالَ: لأَنَّ الْحَاكِمَ بَأَشَدِّ الْمَنَازِلِ وَأكدَرِهَا يَغْشَاهُم الظّلْمُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُخْذَلُ أَوْ يُعَان، فَإِنْ أَصَابَ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْجُوَ، وَإِنْ أَخْطَأَ أَخْطَأَ طَرِيْقَ الْجَنَّةِ، وَمَنْ يَكُوْنُ في الدُّنْيَا ذَلِيْلًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكْوْنَ شَرِيْفًا ضَائِعًا، وَمَن يَخْتَارُ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ فاتَتْهُ الدُّنْيَا وَلا يَصِيْرُ إِلَى مُلْكِ الآخِرَةِ، فَعَجِبَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ حُسْنِ مَنْطِقِهِ، فَنَامَ نَوْمَةً فَغطَّ بِالْحِكْمَةِ غَطًّا فَانتبهَ فتكَلَّمَ بِهَا، ثمَّ نُوْدِيَ داوُدُ عليه السلام بَعْدَهُ بِالْخِلافَةِ فَقَبِلَهَا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ شَرْطَ لُقْمَان، فَأَهْوَى في الْخَطِيْئَةِ فَصَفَحَ اللهُ عَنْهُ وَتَجَاوَزَ، وَكَانَ لُقْمَانُ يُؤَازِرُهُ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَقَالَ داودُ: طُوْبى لَكَ يَا لُقْمَانُ، أُوْتيْتَ الْحِكْمَةَ فَصُرِفَتْ عَنْكَ البَلِيّةُ، وَأُوْتي داودُ الْخِلافَةَ فَابْتُليَ بِالذَّنْبِ (¬2) وَالْفِتْنَةِ" (¬3). ¬
وروى الختلي عن الفضيل قال: من عامل الله بالصدق ورثه الله الحكمة (¬1). وقال الختلي: ثنا أبو عبد الله مردويه الصائغ قال: قال لي عبد الله ابن المبارك رحمه الله: إنَّ الفضيل بن عياض صدق الله، فأجرى الحكمة على لسانه، والفضيل ممن نفعه علمه (¬2). وروى ابن جهضم عن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله قال: مثل الحكيم بمنزلة الصياد يصيد العباد من أفواه الشياطين، فالدنيا بحره، والحكمة شبكته، والناس صيده، فلو لم يصِدْ في عمره إلا واحدًا لكان قد أتى خيراً كثيرًا (¬3). وفي حديث "الصحيح": "لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ" (¬4). وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد"، وأبو نعيم عن شُمَيْطِ بن عَجْلاَنَ قال: إنَّ الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: إنك إن استنقذت هالكاً من هَلَكَتِه سميتُكَ جِهْبِذاً (¬5). ¬
قال في "القاموس": الجهبذ -بالكسر-: النقَّاد الخبير (¬1). وروى ابن جهضم عن أبي حمزة البغدادي أنه قال: [من المتقارب] كَلامُ الْحَكِيْمِ شِفاءُ الْقُلُوْبِ ... طَوِيْلُ السَّخاءِ غِياثُ الأُمَم بِنُطْقِ الْحَكِيْمِ يُداوَى السَّقِيْمُ ... وَصَمْتُ الْحَكِيْمِ وِعاءُ الْحِكَم حَياةُ الْحَكِيْمِ كَضَوْءِ الشُّمُوْسِ ... وَمَوْتُ الْحَكِيْمِ بَعِيْدُ الظُّلَم وروى الأستاذ أبو القاسم في "الرسالة" عن رويم رحمه الله قال: من حكم الحكيم أن يوسع على إخوانه في الأحكام ويضيق على نفسه؛ فإن التوسعة عليهم اتباع للعلم، والتضييق على نفسه من حكم الورع (¬2). وعن سهل بن عبد الله التستري رحمه الله قال: لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية والجهل، وجعل في الجوع العلم والحكمة (¬3). وروى أبو نعيم عن منصور بن عمار رحمه الله قال: إنَّ الحكمة تنطق في قلوب العارفين بلسان التصديق، وفي قلوب الزاهدين بلسان ¬
التفضل (¬1)، وفي قلوب العباد بلسان التوفيق، وفي قلوب المريدين بلسان التفكر (¬2)، وفي قلوب العلماء بلسان التذكير. قال: ومن جَزِعَ من مصائب الدنيا تحولت مصيبته في دينه (¬3). وروى ابن جهضم عن إبراهيم الخواص رحمه الله قال: إنَّ الحكمة تنزل من السماء فلا تسكن قلبا فيه أربعة أشياء؛ الرُّكون إلى الدنيا، وهمُّ غدٍ، وحب فضول الدنيا، وحسد أخ (¬4). وعن أبي عبد الله بن الجلاء رحمه الله قال: إنَّ الله ينطق بالحكمة في كل زمان بما شاكل أعمال ذلك الزمان. وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن محمَّد بن جحادة رحمه الله قال: قال لقمان: يأتي على الناس زمان لا تقرُّ فيه عين حكيم (¬5). وروى أبو نعيم عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عُلَمَاؤُهَا فِتْنه (¬6) وَحُكَمَاؤُهَا فِتْنةٌ (¬7)، ¬
تَكْثُرُ الْمَسَاجِدُ وَتَقِلُّ (¬1) القُرَّاءُ حَتَّى لا يَجِدُوْنَ عَالِمَا إِلا الرَّجُلَ بَعْدَ الرَّجُلِ" (¬2). ولعل المراد بالحكماء في هذا الحديث من يتظاهرون بالنطق بالحكمة، أو الحكماء حقيقة، إلا أنهم قد تقتضي الحكمة أن يظهر منهم ما يُوجب الافتتان بهم لفساد الزمان كأن يروا منكرًا فيسكتون عنه لعذر، فيحسبهم بعض من يراهم أنهم أقروه أو يدخلوا في شيء من الرُّخص لحكمة، فيغترَّ بهم من يراهم فيقتدي بهم ولم يعرف طريق القدوة، أو يُعاشر أحدهم بالمعروف من لا بد له من معاشرته، فيظن بعض من يراهم أنَّ ذلك تساهل في الدين أو تهاون في الأمر. وقد روى الحاكم في "تاريخه"، وأبو الشيخ عن ابن المبارك معضلاً، [عن أبي فَاطِمَةَ الإِياديِّ] قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ بِحَكِيْمٍ مَنْ لَمْ يُعَاشِرْ بِالْمَعْرُوْفِ مَنْ لا يَجِدُ مِنْ مُعَاشَرَتهِ بُدًّا حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَخْرَجًا" (¬3). ¬
وأخرجه أبو نعيم، والديلمي من قول محمَّد بن الحنفية رحمه الله تعالى (¬1). وقال الشيخ عبد القادر بن حبيب الصفدي رحمه الله في "تائيته": [من البسيط] إِنَّ الْحَكِيْمَ الَّذِيْ يُعْطِيْ لِكُل مَقا ... مِ ما يَلِيْقُ بِهِ مِنْ غَيْرِ خَلْطاتِ وروى الحاكم في "المستدرك" وصححه، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَكِيْمَ إِلا ذُو تَجْرِبَةٍ، وَلا حَلِيْمَ إِلا ذُو عَثْرَةٍ" (¬2). وهذا من حيث الغالب، وقد يكون الله تعالى على عبدٍ بالنطق بالحكمة والعمل بها من غير تجربة، ألا ترى أن الله تعالى قال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، والمراد بالحُكم الحكمة؟ وروى أبو نعيم، وابن مردويه، والديلمي عن ابن عباس -رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] قال: "أُعْطِيَ الفَهْمَ وَالعِبَادَةَ وَهُوَ ابنُ سَبع سِنِيْنَ" (¬3). ¬
وروى الإِمام أحمد في "الزهد" وغيره عن معمر بن راشد رحمه الله قال: بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى بن زكريا عليهما السلام: اذهب بنا نلعب، قال: ما للعب خُلقت (¬1)، فهو قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] (¬2). وروى عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة (¬3) قال: جاء الغلمان ليحيى ابن زكريا فقالوا: اخرج بنا نلعب، فقال: ما للعب خُلِقْت، قال: فأنزل الله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] (¬4). ورواه ابن عساكر عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه - مرفوعًا (¬5). وروى الحاكم في "تاريخه" عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ الغِلْمَانُ لِيَحْيى بنِ زَكَرِيَّا: اذهب بِنَا نَلعَبْ، فَقَالَ يَحْيىَ: أَلِلَّعِبِ خُلقْنَا؟ اذهبُوْا نُصَلِّي؛ فَهُوَ قَوْلُه تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] " (¬6). وروى ابن أبي حاتم عنه موقوفًا، والبيهقي في "شعبه" مرفوعًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ فَهُوَ مِمَنْ أُوتيَ ¬
الْحُكْمَ صَبِيًّا" (¬1). وروى البخاري وغيره عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ضمَّني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره وقال: "اللهُمَّ عَلمْهُ الْحِكْمَةَ" (¬2). وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عبد الوهاب ابن غيث (¬3) المكي قال: قال لقمان لابنه: يا بُنَي! جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإن الله ليحيي [القلوب] (¬4) بنور الحكمة كما يحيى الأرض الميتة بوابل السماء (¬5). وروى الطبراني عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ لُقْمَانَ قَالَ لابْنِهِ: يَا بُنَي! عَلَيْكَ بِمُجَالَسَةِ العُلَمَاءِ وَاسْتَمعْ كَلامَ الْحُكَمَاءِ؛ فَإِنَّ الله يُحْيِي القَلْبَ الْمَيِّتَ بِنُوْرِ الْحِكْمَةِ كَمَا يُحْيي الأَرْضَ الْمَيِّتةَ بِوَابِلِ الْمَطَرِ (¬6). وروى أبو نعيم عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحِكْمَةُ ¬
تَزِيْدُ الشَّرِيْفَ شَرَفًا، وَتَرْفَعُ العَبْدَ الْمَمْلُوْكَ حَتَّى تُجْلِسَهُ مَجَالِسَ الْمُلُوْكِ" (¬1). ورواه آخرون من كلام لقمان. وقال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]. فكما أنَّ العبد ينبغي له أن يتلبس بالحكمة ينبغي له أن يدعو بها لأنها أحكم في اجتلاب النفوس إلى طاعة القدوس، وأبلغ في جذب الأرواح إلى جناب الفتاح، والدعاء إلى الله تعالى بالحكمة خلق من أخلاق الله تعالى. وقد قالت الملائكة عليهم السلام: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]. وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]. وقال تعالى حكايةً عن عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]. وفي قرنه -سبحانه - بين العزيز والحكيم إشارة إلى أن الحكمة يعزُّ ذووها، أو من شأن الحكمة أن يكون صاحبها عزيزاً كما يُشير إليه -أيضا - حديث أنس المذكور آنفًا. وكما أنَّ إلقاء الحكمة خلق رباني فتلقيها وقبولها والاستماع إليها ¬
خلق نبوي، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] وليس من كلام الله تعالى إلا حكيم، وسبق في الحديث "الكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالةُ الْمُؤْمِنِ". وكلما كان قلب المؤمن قابلاً لتلقي الحكمة كان أقرب لوراثة الحكمة النبوية، وكلما كانت القلوب أصفى كانت للحكم أصغى كما قال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: إنَّ الطبيعة الطيبة التقية هي التي تكفيها من العظة رائحتها، ومن الحكمة إشارتها، فأما القلوب القاسية فإنَّهَا عن قبول الحكمة قاصية، كما أنَّ الأرض السبخة لا تحفظ الماء، ولا تنبت الكلأ. كما قيل: [من البسيط] إِذا قَسا الْقَلْبُ لَمْ تَنْفَعْهُ مَوْعِظَةٌ ... كَالأَرْضِ إِنْ سَبِخَتْ لَمْ يَنْفَعِ الْمَطَرُ (¬1) وأقبح ممن يسمع الحكمة ولا يقبلها من يسمع كلام الحكيم فلا يحفظ عنه إلا شر ما يسمع منه، وقد مثله - صلى الله عليه وسلم - بمثالٍ عجيب، فقال: "مَثَلُ الَّذِي يَجْلِسُ يَسْمَعُ الْحِكْمَةَ وَلا يحدث عَنْ صِاحِبِهِ إِلا شَرَّ مَا يَسْمَعُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أتى رَاعِيَا فَقَالَ: يَا رَاعِي اجْزُرْ لِي بشَاةٍ مِنْ غَنَمِكَ، قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ بِأُذُنِ خَيْرِهَا شَاةً، فَذهبَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الغَنَمِ". رواه الإِمام أحمد، وابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬2). ¬
وعلى من يعلِّم الحكمة أن لا يلقنها إلى غير أهلها كما روى الإِمام أحمد في "الزهد" عن عكرمة قال: قال عيسى بن مريم للحواريين: يا معشر الحواريين! لا تُلْقُوا اللؤلؤ للخنزير فإنه لا يصنع به شيئًا، ولا تعطوا الحكمة من لا يُريدها فإنَّ الحكمة أحسن من اللؤلؤ، ومن لا يريدها شر من الخنزير (¬1). وعلى من يعلِّمها ويمليها ومن يسمعها ويستمليها أن لا يقصدا غير وجه الله تعالى، ولا يتطلعا لغرض نفساني ولا غرض دنياوي. وروى أبو نعيم عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41] قال: لا تأخذ على ما علمت أجرًا؛ فإنَّما أجر العلماء والحكماء على الله. قال: وهم يجدونه مكتوبًا عندهم: يا ابن آدم علم مجانًا كما عُلمت مجاناً (¬2). وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عمران الكوفي قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام للحواريين: لا تأخذوا من الناس على ما تعلمون إلا مثل ما أعطيتموني (¬3). وروى الديلمي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
"الْهَدِيَّةُ تُعْوِرُ عَيْنَ الْحَكِيْمِ" (¬1). والمعنى أنها تعور عين بصيرته، فتبرز حكمته كاسفة. وقد انتهى الكلام على الحكمة والتشبه بالحكماء، وقد علمت أنه داخل في التشبه بالأنبياء عليهم السلام. وقد استغنينا بذلك عن عقد باب أو فصل للتشبه بالحكماء. واعلم أن التشبه بالأنبياء والحكماء والصديقين والشهداء في هذا الزمان في غاية العزة والقلة لا يكاد يتفق أصلًا، وإن اتفق وقوعه في كل قرن أو قريب منه من أحد فإنه يكون غريبا. وعلى كل حال فالخير في هذه الأمة لا ينقطع ببركة نبيها - صلى الله عليه وسلم - وإن أكثر الخبث، ولكن يتضاعف أجر التمسك بالدين في هذه الأحايين أضعافًا كثيرة. وقد روى الترمذي، وابن ماجه، وغيرهما عن أبي أمية الشَّعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال: قلت: يا أبا ثعلبة! كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]؟ " قال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ائتمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَر حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مَطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدنْيَا مُؤْثَرَةً، وإِعْجَابَ كُلِّ في رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ وَدع عَنْكَ العَوَامَّ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَبْر، الصَّبْرُ فِيْهِنَّ مِثْلُ القَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلعَامِلِ فِيْهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ ¬
خَمْسِيْنَ رَجُلاً يَعْمَلُوْنَ مِثْلَ عَمَلِهِ" (¬1). وزاد أبو داود في روايته: قيل: يا رسول الله! أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: "بَلْ أَجْرُ خَمْسِيْنَ مِنْكُم" (¬2). وروى الخطيب من حديث سعيد بن زيد -وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة - رضي الله عنهم - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبل على أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -. ورواه الحارث بن أبي أسامة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَقْرَبُ النَّاسِ مِنَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ طَالَ جُوْعُهُ وَعَطَشُهُ وَحُزْنُهُ في الدُّنْيَا، الأَخْفِيَاءُ الأتقِيَاءُ الَّذِيْنَ إِنْ شَهِدُوا لَمْ يُعْرَفُوْا، وإنْ غَابُوْا لَمْ يُفْتَقَدُوا، تَعْرِفُهُم بِقَاعُ الأَرْضِ، وَتَحُفُّ بِهِم مَلائِكَةُ السَّمَاءِ، نَعِمَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا، وَنَعِمُوا بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، افْتَرَشَ النَّاسُ الفُرُشَ وافْتَرَشُوْا الْجِباهَ وَالرُّكَبَ، ضَيَّعَ النَّاسُ صُنع النَبِيِّيْنَ وَأَخْلاقَهُم وَحَفِظُوْا هم، تَبْكِي الأَرْضُ إِذَا فَقَدَتْهُم، وَيسْخَطُ اللهُ عَلَى كُلِّ بَلْدةٍ لَيْسَ فِيْهَا مِنْهُم أَحَدٌ، لَمْ يتكَالَبُوْا عَلَى الدُّنْيَا تَكَالُبَ الكِلابِ عَلَى الْجِيَفِ، أكَلُوْا الفِلَقَ وَلَبِسُوْا الْخِرَقَ، شُعْثا غُبْرًا، يَرَاهُمُ النَّاسُ يَظُنُّوْنَ بِهِم دَاءً وَمَا بِهِم دَاء، يُقَالُ: قَدْ خُوْلطُوْا وَذَهَبَتْ عُقُوْلُهُم، وَلَكِنْ نَظَرَ القَوْمُ بِقُلُوْبِهِم إِلَى أَمْرٍ أَذْهَب عَنْهُمُ الدُّنيا، فَهُم عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا يَمْشُوْن بِلا عُقُوْلٍ، عَقَلَوْا حَيْثُ ذهبَتْ عُقُوْلُ ¬
1 - فمنها: العلم وطلبه، والرحلة في طلبه والاستزادة منه.
النَّاسِ، لَهُمُ الشَّرَفُ في الآخِرَةِ، يَا أَسَامَةُ! إِذَا رَأَيْتَهُم في بَلْدةٍ فَاعْلَم أَنَّهم أَمَانٌ لِتِلْكَ البَلْدَةِ، لا يُعَذِّبُ اللهُ تَعَالَى قَوْمَا هُمْ فِيْهِم، عَسَى أَنْ تنجُو بِهِم، إِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَأتِيَكَ الْمَوْتُ وَبَطْنُكَ جَائِعٌ وَكَبِدُكَ ظَمْآنٌ فَإِنَّكَ تُدْرِكُ بِذَلِكَ شَرَفَ الْمَنَازِلِ، وَتَحُلُّ مَعَ النَّبِييْنَ، وَتَفْرَحُ بِقُدُوْمِ رُوْحِكَ الْمَلائِكَةُ، وَيُصَلي عَلَيْكَ الجبارُ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: عليكم بالسبيل والسنة؛ فإنه ليس عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشيته فمسته النار أبدًا، وليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الله فاقشعرَّ جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة يبس ورقها فهي كذلك إذ أصابتها ريح، فتحاتَّت ورقها عنها إلا تحاتت خطاياه كما يتحاتُّ عن هذه الشجرة ورقها، وإن اقتصاداً في سنَّة وسبيل خيرٌ من اجتهاد في غير سنة وسبيل، فانظروا أعمالكم فإن كانت اقتصاداً واجتهاداً أن تكونوا على منهاج الأنبياء وسنتهم (¬2). 1 - فمنها: العلم وطلبه، والرحلة في طلبه والاستزادة منه. قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]. ¬
وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. وقال: {عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]. وقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]. وقال في الخضر عليه السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]. وقال في داود عليه السلام: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: 251]. وقال فيه وفي أبيه داود عليهما السلام: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]. وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 15، 16]. وقال تعالى حكايته عن موسى والخضر عليهما السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]. وقال تعالى حكايةً عن يوسف عليه السلام: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37]. وجميع الأنبياء عليهم السلام علماء بأحكام الله تعالى، عارفون بصفاته تعالى، وعنهم يُورث العلم ويؤخذ. وفي الحديث المتقدم: "إنَّ العُلَمَاءَ وَرثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوْا دِيْنَارًا وَلا دِرْهَمًا، وإنَّمَا وَرَّثُوْا العِلْمَ" (¬1). ¬
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن سليمان عليه السلام خُيِّر بين العلم والمال والملك، فاختار العلم، فأعطي المال والملك (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" من حديثه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ جَاءَهُ أَجَلُهُ وَهُوَ يَطْلُبُ العِلْمَ لَقِيَ اللهَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّيْنَ إِلا دَرَجُةُ النّبُوَّةِ" (¬2). وروى الدينوري في "المجالسة" عن معن بن بجير رحمه الله قال: أوحى الله إلى داود عليه السلام: "يا داود! اتخذ نعلين من حديد وعصا من حديد، واطلب العلم حتى تنخرق نعلاك وتنكسر عصاك" (¬3). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ دَرَجَةِ النُّبُوَةِ أَهْلُ العِلْمِ وَأَهْلُ الْجِهَادِ، أَمَّا أَهْلُ العِلْمِ فَدَلوا النَّاسَ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْجِهَادِ فَجَاهَدُوا بِأسْيَافِهِم عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُل". رواه ¬
أبو نعيم في "فضل العالم العفيف" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬1). وأورده أبو طالب المكي في كتاب "القوت" من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - (¬2). ومن لطائف النكت: ما رواه الخطيب عن أبي صالح بن محمَّد البغدادي قال: كان ببغداد شاعران أحدهما صاحب حديث والآخر معتزلي، فاجتاز بي المعتزلي يومًا فقال لي: يا بني! كم تكتب يذهب بصرك، ويحدودب ظهرك، ويزداد فقرك؟ ثم أخذ كتابي وكتب عليه: [من مجزوء الكامل المرفل] إِنَّ الْقِراءَةَ وَالتَّفَقْـ ... ـهَ وَالتَّشاغُلَ بِالْعُلُوْمِ أَصْلُ الْمَذَلَّةِ وَالإِضا ... قَةِ وَالْمَهانَةِ وَالْهُمُوْمِ قال: ثم ذهب وجاء الآخر، فقرأ هذين البيتين، فقال: كذب عدو نفسه، بل يرتفع ذكرك، وينتشر علمك، ويبقى اسمك مع اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، ثم كتب هذين البيتين: [من مجزوء الكامل المرفل] إِنَّ التَّشاغُلَ بِالدَّفا ... تِرِ وَالْكِتابَةِ وَالدِّراسَة أَصْلُ التَّفَقُّهِ وَالتَّزَهْ ... هُدِ وَالرِّئاسَةِ وَالسِّياسَة (¬3) ¬
2 - ومنها: تعليم العلم وإفادته، وإرشاد الناس إلى الخير.
2 - ومنها: تعليم العلم وإفادته، وإرشاد الناس إلى الخير. روى الدينوري وأبو نعيم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: إنَّ معاذاً كان أمة قانتًا، فقال رجلٌ: يا أبا عبد الرحمن ما الأمة؟ قال: الذي يعلم الناس الخير، فقال: وما القانت؟ قال: الذي يطيع الله. ثم قال ابن مسعود للرجل: إنا كنا نشبِّهه بإبراهيم عليه السلام (¬1). ورواه أبو نعيم عن فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - كان أمةً قانتاً لله حنيفاً، فقيل: إنَّ إبراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً، فقال: هل تدري ما الأمة وما القانت؟ فقلت: الله أعلم، قال: الأمة الذي يُعلم الخير، والقانت المطيع لله ولرسوله، وكان معاذ بن جبل يُعلم الناس الخير، وكان مطيعاً لله ولرسوله (¬2). وروى الإِمام أحمد في "الزهد"، والبيهقي عن عبد العزيز بن ظبيان رحمه الله قال: قال المسيح عليه السلام: من تعلَّم وعمل وعلَّم فذاك يُدعى عظيمًا في ملكوت السماء (¬3). ¬
3 - ومنها: النطق بالحكمة.
3 - ومنها: النطق بالحكمة. قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]. وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81]. اللام في قوله: "لما آتيتكم" توطئة للقسم؛ لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف كأنه استحلفهم بما آتاهم من الكتاب والحكمة أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وينصروه إن بُعِثَ وهم أحياء. ففي الإقسام بالحكمة على هذا الأمر العظيم تفخيم لأمر الحكمة، وجميع الأنبياء ينطقون بالحكمة، ولم يكن لقمان نبيًا ولكن كان حكيمًا، فأثنى الله عليه باسمه في القرآن العظيم كما أثنى على الأنبياء عليهم السلام بأسمائهم، ولقد قال: ألا إنَّ يد الله على أفواه الحكماء، لا يتكلم أحدهم إلا ما هيَّأَ الله له. رواه الإِمام أحمد في "الزهد" عن عبد الله بن زيد قال: قال لقمان؛ فذكره (¬1). وقد أشبعنا الكلام في الحكمة في صدر هذا الباب. 4 - ومنها: النصيحة. قال الله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف: 62]. ¬
وعن هود عليه السلام: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 68]. وعن صالح وشعيب عليهما السلام: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 79] و [الأعراف: 93]. وفي الحديث الصحيح: "الدِّيْنُ النَّصِيْحَة" (¬1)، وهي كلمة جامعة لجملة إرادة الخير. وروى عبد الله بن المبارك، ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَحَبُّ مَا يَعْبُدُنِي بِهِ عَبْدِي النُّصْحُ لِي" (¬2). وروى أبو الحسن بن جهضم عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله: أنه ساح في بداية أمره، فلقيه [رجل] حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فقال له: يا غلام! من أين وإلى أين؟ قال إبراهيم: من الدنيا إلى الآخرة، قال له: يا غلام أنت جائع؟ قال: نعم، فقال لي الشيخ: فصلى ركعتين خفيفتين وسلم، فإذا عن يمينه طعام وعن شماله ماء، قال: فقال: كُلْ، فأكلت بقدر شبعي، وشربت بقدر ربي، فقال لي الشيخ: اعقل وافهم، لا تحزن ولا تستعجل؛ فإنَّ العجلة من الشيطان، وإيّاك والتمرد على الله تعالى؛ فإنَّ العبد إذا تمرَّد على الله ¬
أورث الله قلبه الظلمة والضلالة مع حرمان الرزق، ولا يبالي الله في أي وادٍ هلك، يا غلام! إنَّ الله تعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً جعل له في قلبه سراجاً يفرق به بين الحق والباطل والناس فيهما متشابهون، يا غلام! إني معلمك اسم الله الأكبر -أو قال: الأعظم-، فإذا أنت جُعْمتَ فادع الله حتى يُشبعك، وإذا عطشت فادع الله حتى يرويك، وإذا جالست الأخيار فكن لهم أرضا يطؤونك؛ فإن الله يغضب لغضبهم ويرضى لرضاهم، يا غلام! خذ كذا حتى آخذ كذا، قال إبراهيم: فلم أبرح، فقال الشيخ: اللهم احجبني عنه واحجبه عني، فلم أدرِ أين ذهب، فأخذت في طريقي ذلك، وذكرت الاسم الذي علمني، فلقيني رجل حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب، فأخذ بحجزتي وقال: حاجتك ومن لقيت في سفرك هذا؟ قلت: شيخاً من صفته كذا وكذا، وعلمني كذا وكذا، فبكى، فقلت: أقسمت عليك بالله مَنْ ذاك الشيخ؟ فقال: ذاك إلياس عليه السلام أرسله الله إليك ليعلمك أمر دينك، فقلت له: فأنت يرحمك الله مَنْ أنت؟ قال: أنا الخضر (¬1). وهذه الحكاية من لطائف نصائح الأنبياء عليهم السلام، وفيها إشارة إلى حياة إلياس والخضر (¬2) عليهما السلام. ¬
والذي عليه المحققون أنَّ أربعة من الأنبياء أحياء إلى قيام الساعة؛ اثنان في السماء وهما إدريس وعيسى عليهما السلام، واثنان في الأرض وهما إلياس والخضر عليهما السلام (¬1). وقد روى أبو حفص بن شاهين عن خصيف رحمه الله قال: أربعة من الأنبياء أحياء؛ اثنان في السماء: عيسى وإدريس، واثنان في الأرض: الخضر وإلياس، فأما الخضر فإنه في البحر، وأما صاحبه فإنَّه في البر (¬2). ¬
5 - ومنها -وهو من أخص أعمالهم وأغلب أحوالهم-: الدعاء إلى الله والإرشاد إليه.
5 - ومنها -وهو من أخص أعمالهم وأغلب أحوالهم-: الدعاء إلى الله والإرشاد إليه. قال الله تعالى حكايةً عن نوح عليه السلام {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: 5]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 33]. وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. وقال تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب: 46]. والآيات في ذلك كثيرة. وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن العوام بن حوشب رحمه الله قال: ما أشبه الحسن -يعني: البصري- إلا بنبي أقام في قومه ثلاثين عامًا يدعوهم إلى الله عز وجل (¬1). 6 - ومنها: التوحيد، والإِسلام، والإيمان، والإحسان. وهذا هو الدين الواحد الذي أجمع عليه الأنبياء عليهم السلام، وهو المشار إليه في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "إِنَّا نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أَوْلادُ عَلاَّت، أُمَّهَاتُهُم شَتَّى وَدِيْنُهُم وَاحِدٌ" (¬2)؛ يعني: التوحيد والإيمان. ¬
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "خَيْرُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنا وَالنَّبِيِّوْنَ قَبْلِي: لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيْرٌ" (¬1). وقال الله تعالى في إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} إلى قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 130 - 131]. وقال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]. وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285]. وروى الدينوري وأبو نعيم عن سفيان الثوري رحمه الله قال: لما جاء البشير إلى يعقوب عليه السلام قال: على أي دينٍ تركت يوسف عليه السلام؟ قال: على الإِسلام، فقال: الآن تمت النعمة (¬2). ¬
7 - ومنها: شهود الأفعال من الله تعالى على وجه الحكمة.
7 - ومنها: شهود الأفعال من الله تعالى على وجه الحكمة. روى الدينوري عن أبي سليمان الداراني رحمه الله قال: بينما عيسى عليه السلام يمشي في يومٍ صائف وقد مسَّه حرُّ الشمس والعطش، فجلس في ظل خيمة، فخرج إليه صاحب الخيمة فقال: يا عبدُ! قم من ظلنا، فقام عيسى فجلس في الشمس، وقال: ليس أنت الذي أقمتني، إنما أقامني الذي لم يُرد أن أُصيب من الدنيا شيئًا (¬1). وروى ابن أبي حاتم، وأبو نعيم، وابن عساكر عن يزيد بن ميسرة رحمه الله قال: لما ابتلى الله تعالى أيوب عليه السلام بذهاب المال والأهل والولد فلم يبقَ له شيء أحسنَ الذكرَ والحمدَ لله رب العالمين، ثم قال: أحمدك رب الذي أحسنت إلي، قد أعطيتني المال والولد فلم يبقَ من قلبي، شعبة إلا قد دخلها ذلك، فأخذت ذلك كله مني وفرغت قلبي، فليس يحوله بيني وبينك شيء، لو يعلم عدوي إبليس الذي صنعت إليَّ حَسَدني، فلقي إبليس من هذا شيئًا منكرًا (¬2). 8 - ومنها: القيام بالحقوق وتأدية الأمانات. قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72]؛ يعني: آدم ¬
تنبيه
عليه السلام كما قال ابن عباس، وأبو العالية، وأبو حازم، وابن جريج، ومجاهد، وقتادة، وعامة المفسرين مع تفسيرهم الأمانة بالدين وتأدية الفرائض (¬1). وروى إسحاق الختلي، ومن طريقه الأصفهاني في "الترغيب" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَدَاءُ الْحُقُوْقِ وَحِفْظُ الأَمَاناَتِ دِيْني وَدِيْنُ النَّبِيِّيْنَ مِنْ قَبْلِي"، الحديث (¬2). * تنبِيْهٌ: الأنبياء عليهم السلام معصومون لا يجوز في حقهم منع الحقوق ولا الخيانة أصلًا، بل يحرم عليهم خائنة الأعين زيادةً في إكرامهم، ومبالغة في تحققهم بالعدل والإنصاف. وقد روى أبو داود، والنسائي، وغيرهما، وصححه الحاكم - قال ابن حجر: وإسناده صالح - عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - حديثاً فيه قصة الذين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم يوم فتح مكة، وأن منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأنَّ عثمان - رضي الله عنه - استأمن له النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبى أن يبايعه ثلاثًا ثم بايعه، ثم قال لأصحابه: "أَمَا كَانَ فِيْكُم رَجُلٌ رَشِيْدٌ ¬
يَقوْمُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدَي عَنْهُ فَيَقْتُلَهُ"، قالوا: وما يُدرينا ما في نفسك يا رسول الله، هلاَّ أومأتَ إلينا بعينك، قال: "إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ" (¬1). وفي حديث آخر أخرجه أبو داود، والترمذي عن أنس - رضي الله عنه - في قصة رجل من الكفار كان نذر بعض الصحابة أن يضرب عنقه، ثم جاء الرجل تائبًا، فأمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبايعه، وتوقف الذي كان نذر عن قتله، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يفعل شيئًا بايعه، فقال الرجل: نذري؟ فقال: "إِنِّي لَمْ أُمْسِكْ عَنْهُ مِنْذُ اليَوْم إِلا لِتُوْفِي بِنَذْرِكَ"، فقال: يا رسول الله! ألا أومضت إلي؟ فقال: "إِنَّهُ لَيَسَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُومِضَ" (¬2). وفي حديث أخرجه ابن سعد عن سعيد بن المسيب - مرسلاً - في قصة ابن أبي سرح وتوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مبايعته ليقتله أنصاري كان نذر أن يقتله، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأنصاري: "فَهَلا وَفَّيْتَ بِنَذْرِكَ"، قال: يا رسول الله! انتظرتك فلم تُومض لي، فقال: "الإِيْمَاءُ خِيَانةٌ، وَلَيْسَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُوْمِئَ" (¬3). يقال: أومض الرجل: أشار إشارةً خفية كما في "القاموس" (¬4). ¬
9 - ومنها: القضاء بالحق.
9 - ومنها: القضاء بالحق. قال الله تعالى في داود عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]؛ أي: علم القضاء؛ قاله السُّدِّي، وغيره. وقال قتادة: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. رواهما ابن جرير (¬1). وقال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. وقال: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78]. وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة: 44]. وإنما يحصل التشبه في ذلك بالأنبياء عليهم السلام بالعدل والحكم بالحق عن علم، والتجنب عن الجور والميل إلى أحد المتخاصمين مع كف النفس عن أموالهما، وما ينجر إليه من قبل أحد منهما من هدية أو مساعدة في أمر، أو إعارة جاء، أو مزيد إكرام، ومع عدم الخوف والخشية من أحدهما أو ممن يتجوه به أحدهما أو ينتسب إليه، ولا بد للقاضي من قطع طمعه عن الدنيا في قضائه بالكلية مع ملازمة الآداب ¬
والحذر مما يحذر. وهذا في زماننا هذا ضالة لا توجد، ويكفيك أن ابن عمر - رضي الله عنه - قد امتنع عن تولية القضاء، والعازم عليه فيه عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، والمقضي بينهم الصدر الأول والسلف الصالح لثقل أعباء القضاء كما سيأتي إن شاء الله تعالى في التشبه بأهل الكتاب. وقد روى أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ وُلِّيَ القَضَاءَ أَوْ جُعِلَ قَاضِيًا بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبحَ بِغَيْرِ سِكِّيْنٍ" (¬1). قال المنذري: ومعنى قوله: "فقد ذبح بغير سكين": أن الذبح بالسكين يحصل به راحة الذبيحة بتعجيل إزهاق روحها، فإذا ذُبحت بغير سكين كان فيه تعذيب لها. وقيل: إن الذبح لما كان في ظاهر العُرف وغالب العادة بالسكين دلَّ عدول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ظاهر العُرف والعادة إلى غير ذلك ليعلم أنَّ مراده - صلى الله عليه وسلم - بهذا القول ما يخاف عليه من هلاك دينه دون هلاك بدنه؛ ذكره الخطابي (¬2). وقلت: وظهر لي في قوله - صلى الله عليه وسلم -. "مَنْ وُلِّي القَضَاءَ فَقَدْ ذُبحَ بِغَيْرِ سِكِّيْنٍ" أنَّه مذبوح بالألسنة وإن عدل، وجرح اللسان كجرح اليد؛ فإنَّ ¬
10 - ومن أعمال الأنبياء عليهم السلام: مصابرة العبادة.
قوله: "من ولي القضاء" شامل لمن وليّه فعدل، ومن وليّه فلم يعدل، فأما ذبح القاضي غير العادل فظاهر؛ لأن الناس يطلقون ألسنتهم فيه، ومن ورائه عذاب الله تعالى وهو أهلٌ لذلك لجوره وظلمه، وأما العادل فإنه مذبوح بلسان المحكوم عليه؛ لأن المنقادين إلى الحق والرجاعين إليه قليل، فقلَّ من يحكم عليه قاضٍ إلا قال: جار عليَّ القاضي ووقع فيه، فهذا وجه ذبحه، على أن العدل الآن مع العلم في غاية العِزَّة. ومما اتفق في زماننا: أن رجلًا دخل جامع دمشق، فذبح نفسه بسكين عظيمة كانت في يده ووقع ميتًا، فوقف الناس عليه ينظرون إليه وفيهم قاضٍ كان أول ما ولي القضاء، فجعل يتعجب من الرجل كيف ذبح نفسه، فقال له بعض الظرفاء: يا مولانا! ليس العجب من هذا فقد ذبح نفسه بسكين، إنما العجب ممن ذبح نفسه بغير سكين. 10 - ومن أعمال الأنبياء عليهم السلام: مصابرة العبادة. قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]. قال ابن عباس: الأيدي: القوة في العبادة، والأبصار: الفقه في الدين. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). ¬
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن كعب قال: كان لإبراهيم عليه السلام بيت يتعبَّد فيه (¬1). وقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13]. قال ثابت البناني رحمه الله تعالى: بلغنا أن داود عليه السلام جزَّأ الصلاة على بيُوته على نسائه وولده، فلم يكن يأتي ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان قائم من آل داود يُصلي، فعمتهم هذه الآية: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] (¬2). وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]. {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8]. وقال تعالى لموسى عليه السلام: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. وروى ابن أبي حاتم والديلمي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ظلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائمًا ثم طوى (¬3)، ثم ظلَّ صائمًا ثم طوى، ثم ظل صائمًا، قال: "يَا عَائِشَةُ! إِنَّ الدُّنْيَاَ لا تَنْبَغِي لِمُحَمَّدٍ وَلا لآلِ مُحَمَّدٍ، يَا عَائِشَةُ! إِنَّ الله لَمْ يَرْضَ مِنْ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ إِلا بِالصَّبْرِ عَلَى ¬
11 - ومنها: إقامة الصلاة، والمحافظة عليها وعدم التهاون بها.
مَكَرُوْهِهَا، والصَّبْرِ عَنْ مَحْبُوْبِهَا، ثُمَّ لَمْ يَرْضَ مِنِّي إِلا أَنْ يُكَلِّفَنِي مَا كَلَّفَهُم، فَقَالَ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، والَّذِي نَفْسِي بِيَده لأَصْبِرنَّ كَمَا صَبَرُوا جُهْدِي، وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ" (¬1). 11 - ومنها: إقامة الصلاة، والمحافظة عليها وعدم التهاون بها. قال تعالى لموسى عليه السلام: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. وقال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 39]؛ يعني: زكريا عليه السلام. روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد"، وأبو نعيم عن كعب رحمه الله قال: إنَّ إبراهيم عليه السلام قال: يا رب! إنه ليحزنني أني لا أرى أحدًا في الأرض يعبدك غيري، فأنزل الله عز وجل إليه ملائكةً يصلون معه (¬2). وروى أبو نعيم عن وهب رحمه الله قال: قرأت في بعض الكتب التي نزلت من السماء: أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: "أتدري لم اتخذتك خليلاً؟ " قال: "لا يا رب"، قال: "لذل مقامك بين يدي في الصلاة" (¬3). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن شهر بن حوشب رحمه الله ¬
تنبيه
قال: خرج داود عليه السلام إلى البحر في ساعة يصلي فيها، فنادته ضفدعة فقالت: يا داود! إنك حدَّثت نفسك أنك قدست في ساعة ليس يذكر الله فيها غيرك، وإني في سبعين ألف ضفدع كلها قائمة على رجل تُسبح الله تعالى وتقدسه (¬1). * تنبِيْهٌ: روى ابن أبي شيبة عن أبي العالية رحمه الله: أنه سُئِلَ: بأي شيءٍ كان الأنبياء عليهم السلام يستفتحون الصلاة؟ قال: بالتوحيد والتسبيح والتهليل (¬2). وروى عبد الرزاق عن أبان قال: لم يُعْطَ التكبير أحد إلا هذه الأمة (¬3). وروى ابن مردويه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قلنا: يا رسول الله! كيف نقول إذا دخلنا الصلاة؟ فأنزل الله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3]، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نفتتح الصلاة بالتكبير (¬4). * فائِدَةٌ: الصلوات الخمس على هذا الأسلوب الذي كلفت به هذه الأمة خاصة بها، وصلاة العشاء على الخصوص خاصة بهذه الأمة؛ بدليل ¬
فائدة أخرى
ما رواه الطبراني في "معاجمه الثلاثة" عن المنكدر - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات ليلة وقد أخر صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هنيهة أو ساعة، والناس ينتظرون في المسجد، فقال: "ما تنتظِرُوْنَ؟ " قالوا: ننتظر الصلاة، قال: "أَما إِنَّكمْ لَنْ تَزالُوْا فِيْ صَلاةٍ ما انتُظَرْتُمُوْها"، ثم قال: "أمَا إِنَّها صَلاةٌ لَمْ يُصَلها أَحَدٌ مِمَنْ كانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ". وذكر الحديث (¬1). وأول من صلَّى آدم عليه السلام، ثم أول من أنزل عليه الأمر بالصلاة ذات الأفعال وبالخشوع فيها والمداومة عليها، كما سيأتي في القسم الثاني من الكتاب. وروى ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]؛ قال: البُكرة صلاة الفجر، وعشياً صلاة العصر (¬2). وقد تواردت الآثار بأن الأمم -أو أكثرهم- كانوا يصلون أول النهار وآخره، إلا أنها ليست مشتملة على جميع ما اشتملت عليه صلاة هذه الأمة بجميع أركانها المعروفة، وشروطها المحفوظة، وأبعاضها المذكورة، وهيئاتها المعروفة. * فائِدَةٌ أخرى: روى عبد الرزاق عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: ¬
خرجت في عين (¬1) آدم شأفةٌ -يعني: بثرة -، فصلَّى صلاة فانحدرت إلى صدره، ثم صلى صلاةً فانحدرت إلى الحقو، ثم صلى صلاةً فانحدرت إلى الكف، ثم صلى صلاةً فانحدرت إلى الإبهام، ثم صلى صلاة فذهبت (¬2). وروى الإِمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن عبد الله بن عمرو -أيضًا- قال: إن آدم عليه السلام خرجت به شأفة في إبهام رجله، ثم ارتفعت إلى أصل قدميه، ثم ارتفعت إلى ركبتيه، ثم ارتفعت إلى حقويه، ثم ارتفعت إلى أصل عنقه، فقام فصلى فنزلَتْ إلى منكبيه، ثم صلى فنزلت إلى حقويه، ثم صلَّى فنزلت إلى ركبتيه، ثم صلى فنزلت إلى قدميه، ثم صلَّى فذهبت (¬3). قال في "القاموس": الشأفة: قرحة تخرج في أصل القدم، فتُكوى فتذهب، وإذا قُطعت مات صاحبها (¬4). وعليه: فتكون الشأفة في العين مستعارة من الشأفة التي في القدم، سُميت باسمها لتشابههما. والمراد بها البثرة كما فسرها الراوي في أثر عبد الرزاق، ويجمع ¬
12 - ومنها: الفزع عند الأمور المهمة إلى الصلاة، وطلب الرزق والحاجة بها.
بينه (¬1) وبين أثر ابن المبارك بانهما واقعتان اتفقنا لآدم فحدَّث عبد الله بن عمرو تارة بقصة البثرة التي خرجت في عين آدم، وتارة بقصة الشأفة التي خرجت له في إبهام رجله، وفي الواقعتين استشفى آدم عليه السلام بالصلاة. وفيه: أنَّ الصلاة تدفع البلاء، وتشفي من السَّقم، وتبُرئ العاهات، وأنَّ التداوي بالصلاة عادة نبوية. 12 - ومنها: الفزع عند الأمور المهمة إلى الصلاة، وطلب الرزق والحاجة بها. روى الإِمام أحمد في "الزهد"، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ثابت -هو البناني- مرسلاً قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أصاب أهله خصاصة نادى أهله بالصلاة: "صَلُّوْا صَلُّوْا" (¬2). قال ثابت: وكانت الأنبياء عليهم السلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة (¬3). قلت: ومما يدلُ على ما ذكره ثابت ما ذكرناه آنفاً عن آدم في ¬
الاستشفاء بالصلاة من الشأفة. وروى سعيد بن منصور، والطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم، والبيهقي في "الشعب" بسند صحيح، عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة، وتلا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] (¬1). قلت: لعل الحكمة في ذلك أنَّ الصلاة معراج المؤمنين إلى الله تعالى، وهي طريقهم للدخول عليه عز وجل، والقُرب منه كما في الحديث: "الصَّلاةُ قُرْبانٌ" (¬2)، بل قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، فالصلاة وسيلة العبد إلى الله تعالى بلا واسطة، لا يحتاج معها إلى ترجمان ولا إلى شفيع. وإنما قال: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]؛ لأنَّ من طلب حاجة من ملك احتاج إلى الصبر لا لضيق خزانة الملك، ولا لعدم نفوذ أمره فيها لكن لمهابة الملك ورعاية الأدب، فكيف بملك الملوك لا هيبة ولا جلالة ولا عظمة إلا له عز وجل، والعبد أحرى بسلوك الأدب معه -سبحانه - منه مع غيره، ومن ثم قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 153]. ¬
13 - ومنها: الطهارة للصلاة.
13 - ومنها: الطهارة للصلاة. بل مطلق الطهارة والنظافة خلق نبوي، والأنبياء أولى بها من غيرهم، وكان الأولى تقديم الطهارة على ذكر الصلاة لأنها مقدمتها وشرطها إلا أنه كذلك اتفق الإملاء. وفي "الصحيح": حديث اغتسال موسى عليه السلام مستتراً (¬1). وروى أبو نعيم عن سباع الموصلي رحمه الله تعالى قال: قال داود عليه السلام: إلهي! أمرتني أن أُطهر لكَ يديَّ ورجليَّ بالماء لصلاتي، فبماذا أُطهر لك قلبي؟ قال: فأوحى الله إليه: "بالغموم والهموم" (¬2). 14 - ومنها: وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. روى ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: من أخلاق النبيين وضع اليمين على الشمال في الصلاة (¬3). وعن الحسن رحمه الله مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَحْبَارِ بَنِيْ إسْرَائِيْلَ وَاضِعِيْ أَيْمَانِهِمْ عَلَىْ شَمَائِلِهِمْ فِيْ الصَّلاَةِ" (¬4). ¬
15 - ومنها: صلاة الضحى.
15 - ومنها: صلاة الضحى. روى الديلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَتْ صَلاَةُ الضُّحَىْ أكثَرَ صَلاَةِ دَاوُد". وروى الطبراني عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنت أمرُّ بهذه الآية {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18] فما أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوم الفتح، فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلَّى الضحى، ثم قال: "يَا أُمَّ هَانِيء! هَذه صَلاَةُ الإِشْرَاقِ" (¬1). 16 - ومنها: الصلاة عند زوال الشمس. روى البزار عن ثوبان - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحب أن يُصلي بعد نصف النهار، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إني أراك تحب الصلاة هذه الساعة؟ قال: "تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَينْظُرُ اللهُ تَعَالَىْ بِالرَّحْمَةِ إِلَىْ خَلْقِهِ، وَهِيَ صَلاَةٌ كَانَ يُحافِظُ عَلَيْهَا آدَمُ وَنُوْحٌ وإبرَاهِيْمُ وَمُوْسَىْ وَعِيْسَىْ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ" (¬2). قلت: ويحتمل أن تسبيح داود بالعشي كان في هذه السَّاعة لأن العشي والعشية ما بعد الزوال إلى آخر النهار. ¬
17 - ومنها: تعظيم يوم الجمعة.
17 - ومنها: تعظيم يوم الجمعة. روى الحلبي في "فوائده"، وأبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى قال: كان داود النبي عليه السلام يصوم يوما ويفطر يومًا، فإذا وافق صومه يوم الجمعة أعظم فيه الصدقة ويقول: إنَّ صيامه يعدل خمسين ألف سنة كطول يوم القيامة، وكذلك سائر الأعمال تُضاعف فيه (¬1). 18 - ومنها: قيام الليل. وتقدم في الحديث: "عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ دأبُ الصَّالِحِيْنَ قَبْلَكُمْ" (¬2)، والأنبياء أفاضل الصَّالحِين. وروى الشيخان، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن عبد الله ابن عمرو - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَحَبَّ الصَّلاَةِ إِلَىْ اللهِ صَلاَةُ دَاوُدَ، وَأَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَىْ اللهِ تَعَالَى صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللِّيلِ وَيَقُوْمُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُوْمُ يَوْمَا وَيُفْطِرُ يَوْمًا" (¬3). وروى ابن أبي الدنيا، والبيهقي في "البعث" عن مِسعر بن كدام رحمه الله قال: لما قيل لآل داود: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] لم تأتِ عليهم ساعة إلا وفيهم مُصلي (¬4). ¬
وروى الفريابي، وابن أبي حاتم عن مجاهد رحمه الله قال: قال داود لسليمان: قد ذكر الله الشكر فاكفني قيام النهار أكفك قيام الليل، قال: لا أستطيع، قال: فاكفني إلى صلاة الظهر، فكفاه (¬1). وفيه إشارة إلى أنَّ داود عليه السلام وكان شيخاً كان يقوم الليل وبقية النهار، فهو أقوى على الطاعة من سليمان وهو شاب، وكان مقتضى قوة الشباب وجَلَدِه أن يكون سليمان أقوى إلا أن هذا جاء على أن الشيخ ينبغي أن يكون أقوى يقينًا وأقصر أملًا وأرغب في الطاعة، فبذلك يأتي من العبادة بما لم يأتِ به الشاب. وقد روى ابن ماجه، وابن أبي الدنيا، والبيهقي في "الشعب" عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ: يَا بُنَيَّ! لاَ تُكْثِرِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَإِنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ باللَّيْلِ تَدَعُ الرَّجُلَ فَقِيْرًا يَوْمَ القِيَامة" (¬2). وقد قيل: [من الهزج] تَعَوَّدْ سَهَرَ اللَّيْلِ ... فَإِنَّ النَّوْمَ خُسْرانُ وقال آخر: [من الخفيف] يا طَوِيْلَ الرُّقادِ وَالْغَفَلاتِ ... كَثْرَةُ النَّوْمِ تُوْرِثُ الْحَسَراتِ ¬
إِنَّ فِيْ الْقَبْرِ إِنْ نزَلْتَ إِلَيْهِ ... لَرُقاداً يَطُوْلُ بَعْدَ الْمَماتِ وَمِهاداً مُمَهداً لَكَ فِيْهِ ... بِذُنُوْبٍ عَمِلْتَ أَوْ جَنَّاتِ أأمِنْتَ الْبَياتَ مِنْ مَلَكِ الْمَوْ ... تِ وَكَمْ نالَ آمِناً بِبَياتِ (¬1) وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن ثابت -يعني: البناني رحمه الله تعالى قال: كان داود النبي عليه السلام يُطيل الصلاة من الليل، فيركع الركعة ثم يرفع رأسه إلى أديم السماء، ثم يقول: إليك رفعتُ رأسي يا عامر السماء نظرَ العبيدِ إلى أربابها (¬2). وروى أبو نعيم عن سفيان بن عيينة قال: رأيت منصور بن المعتمر -يعني: في المنام- فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: كدت أن ألقى الله بعمل نبي، قال سفيان: إن منصوراً أقام ستين سنة يقوم ليلها ويصوم نهارها (¬3). وروى الدينوري عن أحمد بن أبي الحواري، عن علي بن أبي الحسن قال: شبع يحيى بن زكريا عليهما السلام ليلةً شبعة من خبز الشعير، فنام عن جزئه حتى أصبح، فأوحى الله إليه: يا يحيى! هل وجدت دارًا خيراً لك من داري، وجواراً خيراً لك من جواري؟ لو ¬
19 - ومنها: الصدقة، والخروج عما يشغل عن طاعة الله تعالى لوجه الله تعالى.
اطلعت في الفردوس اطلاعةً لذاب جسمك، وذهبت نفسك اشتياقاً، ولو اطلعت إلى جهنم اطلاعةً لبكيت الصديد بعد الدموع، ولبست الحديد بعد المسوح (¬1). 19 - ومنها: الصدقة، والخروج عما يشغل عن طاعة الله تعالى لوجه الله تعالى. قال الله عز وجل حكايته عن إخوة يوسف عليهم السلام: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88]. وروى أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي في كتاب "شرف الفقراء" عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتذى نعلاً فأعجبه حسنها، فسجد وقال: "تَواضَعْتُ لِرَبِّي كَيْلًا يَمْقُتَنِي"، ثم خرج بها فدفعها إلى أول سائل لقيه، ثم أمر عليًّا أن يشتري نعلين سبتيتين حمراوين (¬2) (¬3). وقال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 30، 31]؛ يعني الخيل، وكانت ألف فرس ورثها من أبيه أو غنمها، وقيل: عشرين ألفًا، ¬
{قَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32]؛ يعني: المال عن {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32]؛ يعني: عن الصلاة (¬1). قال علي - رضي الله عنه -: الصلاة التي فرط فيها سليمان صلاة العصر (¬2). {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]؛ يعني: الشمس كما دلَّ عليها قوله: بالعشي {بِالْحِجَابِ} [ص: 32]؛ يعني: غربت، {رُدُّوهَا} [ص: 33]؛ يعني: الخيل {عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33]. روى الطبراني، وابن مردويه بإسناد حسن، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الآية: "قَطَعَ سُوْقَهَا وَأَعَنَاقَهَا بِالسَّيْفِ" (¬3). قال العلماء: فعل ذلك تقربًا إلى الله تعالى، وكان ذلك مباحًا في شريعته كما أُبيحت لنا بهيمة الأنعام. قال الحسن وغيره: فعوضه الله خيراً من الخيل الريح غُدوها شهرٌ ورواحها شهرٌ تجري بأمره رُخاءً حيث أصاب (¬4). وفي "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
20 - ومنها: تلاوة كتاب الله تعالى.
كان عليه خميصة معلَّمة، فصلَّى وهي عليه، فلما فرغ من صلاته نزعها وقال: "أَلْهَتْنِي"؛ يعني: عن الصلاة (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ عمر خرج إلى حائط له، فرجع وقد صلَّى الناس العصر، فقال: إنما خرجت إلى حائطي فرجعت وقد صلَّى الناس، حائطي على المساكين صدقة. قال ليث رحمه الله تعالى: إنما فاتته في الجماعة؛ أي: لم تفته بالكلية، إنما فاتته الجماعة فيها كما يدل عليه سياق الحديث. 20 - ومنها: تلاوة كتاب الله تعالى. وما من نبي أُنزل عليه كتاب أو أُوحيَ إليه بما في كتاب إلا قام بتلاوته، وأخبار داود عليه السلام في تلاوة الزبور على بني إسرائيل مشهورة. وفي حديث: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَقَدْ اسْتُدْرِجَتِ النُّبُوْةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُوْحَىْ إِلَيْهِ". رواه الطبراني من حديث ابن عمرو (¬2). وروى الإمام أحمد عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ كُتِبَ مَعَ الصِّدِّيْقِيْنَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ، وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيْقًا" (¬3). ¬
21 - ومنها: الصيام.
21 - ومنها: الصيام. قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. قيل: أول من كُتب عليه الصيامُ آدم عليه السلام. قال في "عوارف المعارف": وروي أنَ آدم عليه السلام لما أُهبط إلى الأرض اسودَّ جسده من أثر المعصية، فلما تاب الله عليه أمره أن يصوم أيام البيض، فابيضَّ ثلث جسده بكل يوم صام حتى ابيضَّ جميع جسده بصيام أيام البيض (¬1). وروى الطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" بإسناد حسن، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَامَ نُوْحٌ الدَّهْرَ إِلاَ يَوْمَ الفِطْرِ وَالأَضْحَىْ، وَصَامَ دَاودُ نِصْفَ الدَّهْرِ، وَصَامَ إِبْرَاهِيْمُ ثَلاَثَةَ أَيَّامِ مِنْ كُل شَهْرِ، صَامَ الدَّهْرَ وَافْطَرَ الدَّهْرَ" (¬2)؛ أي: كُتب له ثواب صيام الدهر لأنَّ كل ثلاثة أيام بثلاثين يومًا في الثواب، وأفطر الدهر؛ أي: أفطر معظم الدهر. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صُوْمُوْا يَوْمَ عَاشُوْرَاءَ، يَوْم كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهُمُ السَّلاَمُ تَصُوْمُهُ فَصُوْمُوْه" (¬1). وروى الترمذي وقال: حسنٌ صحيح، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، عن الحارث الأشعري -رضي الله عنه- وليس له في الكتب الستة سوى هذا الحديث -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ تَعَالَىْ أَمَرَ يَحْيَىْ بنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيأْمُرَ بَنِيْ إسْرَائِيْلَ أَنْ يَعْمَلُوْا بِهَا، وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا، قَالَ عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلاَم: إِنَّ اللهَ أَمَرَكَ بخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا، وَتأْمُرَ بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ أَنْ يَعْمَلُوْا بِهَا، فَإِمَّا أَنْ تآْمُرَهُم وَإِمَّا أَنْ آمُرَهُمْ، فَقَالَ يَحْيَىْ: أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِيْ بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِيْ أَوْ أُعَذَّبَ. فَجَمَعَ النَّاسَ فِيْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَامْتَلأَ وَقَعَدُوْا (¬2) عَلَىْ الشُّرَفِ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ أَمَرَنِيْ بِخْمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوْا بِهِنَّ: أَولُهُنَّ: أنْ تَعْبُدُوْا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوْا بِهِ شَيْئاً، وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَىْ عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، فَقَالَ: هَذِهِ دَارِيْ وَهَذَا عَمَلِيْ فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ، فَكَانَ يَعْمَلُ وُيؤدِّي إِلَىْ غَيْرِ سَيِّدِهِ، فأيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُوْنَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ. ¬
وَإِنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلاَ تَلْتَفِتُوْا؛ فَإِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِيْ صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ. وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ؛ فَإِنَّ مَثَل ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُل فِيْ عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيْهَا مِسْكٌ، فَكُلُّهُمْ يَعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ ريحُهَا، وَإِنَّ رِيْحَ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيْحِ الْمِسْكِ. وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ العَدُوُّ، فَأَوْثَقُوْا يَدَهُ إِلَىْ عُنُقِهِ وَقَدَّمُوُهُ لِيَضْرِبُوْا عُنُقَهُ، فَقَالَ: أَنَا أَفْدِيْ نَفْسِيَ مِنْكُمْ بِالقَلِيْلِ وَالكَثِيْرِ، فَفَدَىْ نفسَهُ مِنْهُمْ. وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوْا اللهَ؛ فَإِنَّ مَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِيْ أثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّىْ أَتَىْ عَلَى حِصْنٍ حَصِيْنٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لاَ يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلاَ بِذِكْرِ اللهِ". قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ أَمَرَنِيْ اللهُ تَعَالَى بِهِنَّ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، وَالجِهَادُ، وَالهِجْرَةُ، وَالْحَجُّ (¬1)، وَالجَمَاعَةُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدَ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ إِلاَّ أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنِ ادَّعَىْ دَعْوَى الجَّاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَاءِ (¬2) جَهَنَّمَ". فقال رجل: يا رسول الله! وإن صلَّى وصام؟ فقال: "وَإِنْ صَلَّىْ ¬
22 - ومنها: تعجيل الفطر وتأخير السحور.
وَصَامَ، فَادْعُوْا بِدَعْوَىْ اللهِ الَّذي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِيْنَ الْمُؤْمِنِيْنَ عِبَادَ اللهِ" (¬1). و"جثاء جهنم" بالجيم والمثلثة: جمع جُثوة -بالضم -، وهو الشيء المجموع، كما في "النهاية" (¬2)؛ أي: من جماعات جهنم. 22 - ومنها: تعجيل الفطر وتأخير السحور. روى الطبراني في "الأوسط" بسند صحيح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُعَجِّلَ فِطْرَناَ وَأَنَّ نُؤَخِّرَ سُحُوْرَنَا، وَأَنْ نَضَعَ أَيْمَاننًا عَلَىْ شَمَائِلِنَا فِيْ الصَّلاَةِ" (¬3). وأخرجه في "الأوسط"، و "الصغير" من حديث ابن عمر نحوه، لكن بسند ضعيف (¬4). وفي موطأ الإمام مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق، قال: من ¬
23 - ومنها: إيثار الجوع.
عمل النبوة تعجيل الإفطار، والاستيناء بالسحور (¬1)؛ يعني: تأخيره. 23 - ومنها: إيثار الجوع. ومن زعم من أحوال الأنبياء عليهم السلام خلاف ذلك فقد افترى. وقد كان عبد الواحد بن زيد رحمه الله تعالى يقسم بالله تعالى: أن الله تعالى ما صان (¬2) أحداً إلا بالجوع، ولا مشوا على الماء إلا بالجوع، ولا طُويت لهم الأرض إلا بالجوع، ولا والاهم الله تعالى إلا بالجوع (¬3). وروى الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْبِسُوْا الصُّوْفَ، وَكُلُوْا فِيُ أنْصَافِ البُطُوْنِ؛ فإِنَّهُ جُزْء مِنَ النُّبُوَّة" (¬4). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "التهجد" عن عون رحمه الله قال: كان لبني إسرائيل قيِّم يقوم عليهم، فيقول: لا تأكلوا كثيراً؛ فإنكم إذا أكلتم كثيرًا نِمْتُم كثيرًا، وإذا نمتم كثيرًا صليتم قليلًا (¬5). ولم يكن ذلك في بني إسرائيل إلا أخذاً من سيرة أنبيائهم عليهم السلام. ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب رحمه الله تعالى قال: إنَّ إبليس أتى إلى يحيى بن زكريا عليهما السلام قال: إني أُريد أن أُصادقك، قال: أعوذ بالله منك ما تستطيع مني؟ قال: أشهيك الطعام والشراب، قال يحيى: فإن الشبع من الطعام، والري من الشراب عليَّ حرام حتى ألقى الله عز وجل. وعن ثابت البناني رحمه الله تعالى قال: إنَّ إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام، فرأى عليه معاليق من كل شيء، فقال له: ما هذه المعاليق التي أراها عليك؟ قال: هذه الشهوات التي أُصيب بها بني آدم، فقال له يحيى عليه السلام: هل لي فيها شيء؟ قال: لا، قال: فهل تُصيب مني شيئاً؟ قال: ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة والذكر، قال: هل غير ذا؟ قال: لا، قال: لا جرم والله لا أشبع أبدًا (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "التهجد" عن علي بن أبي الحر (¬2): أنَّ يحيى عليه السلام شبع ليلةً شبعةً من خبز شعير، فنام عن جزئه حتى أصبح، فأوحى الله عز وجل إليه: "يا يحيى! هل وجدت داراً خيراً لك من داري، أو جِواراً خيراً لك من جواري وعزتي؟ يا يحيى! لو اطلعت إلى الفردوس اطلاعةً لذاب جسمك وزهقت نفسك اشتياقاً، ولو اطلعت إلى جهنم اطلاعةً لبكيت الصديد بعد الدموع، ¬
وللبست الحديد بعد المسوح" (¬1). وروى الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْبَسُوْا الصُّوْفَ وَكُلُوْا فِيْ أنصَافِ البُطُوْنِ، فَإنَّهُ جُزْء مِنَ النُّبُوَّةِ" (¬2). وقال القرطبي، وغيره: يروى أن يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعامٍ في سِنِي القحط، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: "أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع" (¬3). وقد أخرجه البيهقي في "الشعب" عن الحسن البصري رحمه الله (¬4). وروى الخطيب في "رواة مالك" عن جابر - رضي الله عنه - قال: كان يوسف عليه السلام لا يشبع، فقيل له: "ما لك لا تشبع وبيدك خزائن الأرض؟ " فقال: "إني أخاف أن أشبع فأنسى الجائع" (¬5). [وقد ذكر] (¬6) الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في "الإحياء" ¬
ما في الجوع من الفوائد، وما في الشبع من الآفات (¬1). [وأوصل] (¬2) شيخ الإسلام الجد آفات الشبع إلى خمسين آفة نظمها في قصيدة له ذكرتها في كتاب "منبر التوحيد". و[نظمت] (¬3) في بعض فوائد الجوع: [من الكامل] فِيْ الْجُوْعِ عَدُّ فَوائِدٍ عَنْ حَصْرِها ... عَجَزَ الْبَيانُ وَباءَ بِالتَّقْصِيْرِ مِنْ بَعْضِها كَسْرُ الْهَوَى وبكسْرِهِ ... فَوْزُ الْفَتَىْ بِعَوارِفِ التحبيرِ وَصَفا الْقُلُوْبِ وَحِفْظُها فِيْ سِرِّها ... مِنْ عِلَّةِ التَّكْدِيْرِ وَالتَّأْثِيْرِ وَإِدامَةُ السَّهَرِ الَّذِيْ هُوَ مَقْصِدٌ ... فِيْ شَرع أَهْلِ الْجِدِّ وَالتَّشْمِيْرِ وَسَلامَةُ الْجَسَدِ الَّذِيْ هُوَ مَرْكَبٌ ... لِلْقَصْدِ مِنْ عِلَلٍ وَمِنْ تَغْيِيْرِ ¬
24 - ومن أعمال الأنبياء عليهم السلام: فطر يوم الفطر ويوم الأضحى.
وَهُوَ الْمُذَكِّرُ بِالْفَقِيْرِ وَحالِهِ ... وَلَرُبَّ خَيْرٍ جاءَ فِيْ التَّذْكِيْرِ وَبِهِ عَلَى الإيْثارِ تَحْصُلُ مُكْنَةٌ ... تَبْدُوْ لَطائِفُها لِكُلِّ بَصِيْرِ وَعَلَىْ الْعِبادَةِ أَيُّ عَوْنِ لِلْفَتَى ... فِيْ ضِمْنِهِ بَلْ أَيُّما تَيْسِيْرِ وَبِهِ انْحِسامُ مَوادِ كُلِّ ضَرُوْرَةٍ ... تَأْتِيْ مِنَ الشَّيْطانِ لِلتَّغْرِيْر وَالْمَرْءُ فِيْ مُؤَنِ وَفِيْ تَقْلِيْلِهِ ... طَرْحٌ لِما يَدْعُوْ إِلَىْ التَّكْثِيْر فارْجِعْ فُؤادَكَ لِلْوَفا مُتَعَرِّضًا ... فَاسْلُكْ سَبِيْلَ مُحَقِّقِ وَخَبِيْرِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْجُوْعَ فِيْ شَرْعِ الْوَلا ... مِفْتاحُ بابِ الْخَيْرِ عَنْ تَحْرِيْرِ 24 - ومن أعمال الأنبياء عليهم السلام: فطر يوم الفطر ويوم الأضحى. وهو واجبٌ في شريعتنا. روى ابن ماجه، والطبراني، والبيهقي عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -
25 - ومنها: التضحية وإهداء الهدي.
قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "صَامَ نُوْحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ الدَّهْرَ إِلاَ يَوْمَ الفِطْرِ وَالأَضْحَى" (¬1). 25 - ومنها: التضحية وإهداء الهدي. روى الإمام أحمد، وابن ماجه، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي، والأصبهاني عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قلنا -وفي رواية قالوا-: يا رسول الله! ما هذه الأضاحي؟ قال: "سُنَّةُ أَبِيْكُمْ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ"، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: "بِكُلِّ شَعْرةٍ حَسَنةٌ"، قالوا: والصوف؟ قال: "بِكلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوْفِ حسَنةٌ" (¬2). وروى الأصبهاني عن محمود بن عمرو: أن النعمان بن أبي فاطمة - رضي الله عنه - اشترى كبشاً أعين أقرن، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه فقال: "كَأَنَّ هَذَا الكَبَشَ الَّذِيْ ذَبَحَ إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ"، فعمد معاذ بن عفراء - رضي الله عنه - فاشترى كبشًا أعين أقرن، فأهداه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضحَّى به (¬3). ¬
26 - ومنها: الاعتكاف في البيت الحرام وغيره من المساجد.
والأعين: الواسع العين. 26 - ومنها: الاعتكاف في البيت الحرام وغيره من المساجد. قال الله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]. وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان ويقول: "هَذَا دَأبُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ" (¬1). 27 - ومنها: الحج إلى البيت الحرام، وتأدية مناسكه كما هو مقرر في الشريعة. روى الأزرقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه كان يقول: حج آدم عليه السلام يقضي المناسك، فلما حجَّ قال: يا رب! إنَّ لكل عاملٍ أجراً، قال الله تعالى: "أما أنت يا آدم فقد غفرت لك، وأما ذريتك فمن جاء منهم هذا البيت فباء بذنبه غفرت له" (¬2). وعن عثمان بن ساج قال: أخبرني سعيد: أنَّ آدم عليه السلام حجَّ على رجليه سبعين حجة ماشيًا، وأن الملائكة لقيته بالمأزمين (¬3)، ¬
فقالوا: "بر حجك يا آدم، قد حججنا قبلك بألفي عام" (¬1). وقال تعالى لإبراهيم عليه السلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. وروى الأزرقي عن محمد بن إسحاق قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت الحرام جاء جبريل عليه السلام فقال: "طُفْ به سبعاً"، فطاف به سبعاً هو وإسماعيل عليهما السلام يستلمان الأركان كلها في كل طواف، فلما أكملا سبعاً صلَّيا خلف المقام ركعتين، قال: فقام معه جبريل، وأراه المناسك كلها؛ الصفا والمروة، ومنى، ومزدلفة، وعرفة، قال: فلما دخل منى وهبط من العقبة برز له إبليس، فقال له جبريل: "ارمه"، فرماه بسبع حصيَّات، فغاب عنه إبليس، ثم برز له عند الجمرة الوسطى، فقال له جبريل: "ارمه"، فرماه بسبع حصيات، فغاب عنه إبليس، ثم برز له عند الجمرة السفلى، فقال له جبريل: "ارمه"، فرماه بسبع حصيات مثل حصى الخذف، فغاب عنه إبليس، ثم مضى إبراهيم في حجه وجبريل يُوقفه على المواقف وُيعلمه المناسك حتى انتهى إلى عرفة، فلما انتهى إليها قال له جبريل ¬
عليه السلام: "أعرفت مناسكك؟ " قال إبراهيم عليه السلام: "نعم". قال: فسميت عرفات بذلك لقوله: "أعرفت مناسكك؟ ". قال: ثم أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: "يا رب! ما يبلغ صوتي؟ " قال الله تعالى: "أذِّن وعليَّ البلاغ". قال: فعلا على المقام وأشرف به حتى صار أرفع من الجبال وأطول منها، فجمعت له الأرض يومئذٍ سهلها وجبلها، وبرَّها وبحرها، وجنها وإنسها حتى أسمعهم جميعا، فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يَمَنًا وشَامًا، وشرقًا وغربًا، وبدأ بشق الأيمن فقال: "أيها الناس! كُتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فأجيبوا ربكم"، فأجابوه من تحت البحور السبعة، ومن المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أقطار الأرض كلها: "لبيك اللهم لبيك". قال: وكانت الحجارة على ما هي اليوم -يعني: من الصلابة واليبس- إلا أنَّ الله أراد أن يجعل المقام آية، وكان أثر قدميه -يعني: إبراهيم- في المقام إلى اليوم. قال: أفلا تراهم اليوم يقولون: لبيك اللهم لبيك. قال: فكلُّ من حجَّ إلى اليوم فهم ممن أجاب إبراهيم عليه السلام، وإنما حجهم على قدر إجابتهم يومئذ، فمن حجَّ حجتين فقد كان أجاب مرتين أو ثلاثا فثلاثا على هذا. قال: وإنَّ قدمي إبراهيم عليه السلام آية، وذلك قوله تعالى:
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [الآية: 97] الآية. وقال: بلغني أنَّ آدم عليه السلام كان استلم الأركان كلها قبل إبراهيم. قال: وحجَّه إسحاق وسارة من الشام. قال: وكان إبراهيم يحجه كل سنة على البُراق. قال: وحجت بعد ذلك الأنبياء عليهم السلام والأمم (¬1). وروى ابن أبي شيبة، وابن جرير عن مجاهد رحمه الله: أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجَّا وهما ماشيان (¬2). وروى عبد بن حميد عنه قال: قيل لإبراهيم عليه السلام: "أذن في الناس بالحج"، قال: "يا رب! كيف أقول؟ " قال: "قل: لبيك اللهم لبيك"، فكان إبراهيم أول من لبى (¬3). وروى الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن زياد بن مربع - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُوْنُوْا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ هَذِهِ؛ فَإِنَّكَمُ اليَوْمَ عَلَى أَدَبٍ مِنْ أَدَبِ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ" (¬4). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن عامر بن واثلة قال: سألت ابن عباس - رضي الله عنه - عن السعي بين الصفا والمروة، فقال: فعله إبراهيم عليه السلام (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - رضي الله عنه - قال: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَىْ مُوْسَىْ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِيْ هَذَا الوَادِيْ مُحْرِماً بَيْنَ قَطْوَانتَيْنِ (¬2) " (¬3). وروى أبو يعلى عن أنس، وهو والطبراني عن أبي موسى - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدَ مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ (¬4) سَبْعُوْنَ نبِيًّا -مِنْهُمْ نبَيُّ اللهِ مُوْسَى - حُفَاةً عَلَيْهِمُ العبَاءُ، يَؤُمُّوْنَ بَيْتَ اللهِ العَتيْقَ" (¬5). ¬
وروى الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلَّى فِيْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعوُنَ نبِيًّا؛ مِنْهُمْ مُوسى، كَأَنِّيْ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ عَبَاءَتَانِ قَطْوانتَانِ (¬1) وَهُو مُحْرِم عَلَىْ بَعِيْرٍ مِنْ إِبِلِ شَنُوْءَةَ مَخْطُوْمٍ بِخِطَامِ لِيْفٍ لَهُ ضَفِيْرَتَانِ" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بوادي الأزرق فقال: "أيُّ وادٍ هذا؟ " قالوا: هذا وادي الأزرق، قال: "كَأَنِّيْ أَنْظُرُ إلى مُوْسَىْ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَهُوَ هَابِط مِنْ الثَّنِيَّةِ وَلَهُ جُؤارٌ"، ثم أتى على هرشى (¬3) قال: "أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذه؟ " قال: ثَنِيَّة هرشى، قال: "كَأَنِّيْ أَنْظُرُ إِلَىْ يُوْنُسُ بْنِ مَتَّىْ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ عَلَىْ نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَة عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوْفٍ خِطَامُ ناَقَتِهِ خلبةٌ وَهُوَ يُلَبِّيْ"؛ قال هشيم: يعني ليف (¬4). وعنه أيضًا قال: لمَّا مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بوادي عسفان (¬5) حين حج قال: "يا أَبا بَكْرٍ أَيُّ وادٍ هَذا؟ " قال: وادي عسفان، قال: "لَقَدْ مَرَّ بِهِ هُوْدٌ وَصَالِحُ عَلَيْهِمَا السَلاَمُ عَلَى بَكَرَاتٍ (¬6) حُمْرٍ خُطْمُهَا اللِّيْفُ، أُزُرُهُمُ ¬
العبَاءُ، وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ (¬1)، يُلَبُّوْنَ يَحُجُّوْنَ البَيْتَ" (¬2). وروى الأزرقي عن وهب بن منبه رحمه الله قال: خطب صالح عليه السلام الذين آمنوا معه فقال: إنَّ هذه دار سَخِطَ الله عليها وعلى أهلها فاظعنوا منها؛ فإنها ليست لكم بدار، قالوا: رأينا لك تبع، فمُرنا نفعل، قال: تلحقون بحرم الله وأمنه، لا أرى لكم دونه، فأهلُّوا من ساعتهم بالحج، ثم أحرموا في العباء، وارتحلوا قلصًا حمراء مخطمة بحبال الليف، ثم انطلقوا آمِّين البيت الحرام حتى وردوا مكة، فلم يزالو بها حتى ماتوا، فتلك قبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وباب بني هاشم. قال: وكذلك فعل هود ومن آمن معه، وشعيب ومن آمن معه (¬3). وعن عطاء بن السائب رحمه الله: أنَّ إبراهيم عليه السلام رأى رجلًا يطوف بالبيت فأنكره، فسأله: من أنت؟ قال: من أصحاب ذي القرنين، قال: وأين هو؟ قال: هو ذا بالأبطح، فتلقاه إبراهيم واعتنقه، فقيل لذي القرنين: لم لا تركب؟ قال: لم أكن لأركب وهذا يمشي"، فحجَّ ماشياً (¬4). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عطاء -يعني: ابن أبي رباح- قال: طاف موسى بالبيت وبين الصفا والمروة وهو يقول: "لبيك"، فأجابه ربه تبارك وتعالى: "لبيك يا موسى، ها أنا ذا لديك"، قال: وعليه جبة قطوانية، وفي رواية: وهو في عباءة قطوانية (¬1). وتقدم في التشبه بالملائكة عليهم السلام: أنَّ آدم وإبراهيم عليهما السلام كانا يقولان في طوافهما: "الباقيات الصالحات" (¬2). وروى الأزرقي عن عثمان بن ساج معضلاً، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَقَدْ مَرَّ بِفَج الرَّوْحَاءِ سَبْعُوْنَ نبِيًّا عَلَىْ نُوْقٍ حُمْرٍ خُطُمُهَا اللِّيْفُ، لَبُوْسُهُمْ العبَاءُ، وَتَلْبِيَتُهُمْ شَتَّىْ؛ مِنْهُمْ يُوْنسٌ بنُ مَتَّىْ، قَالَ: فَكَانَ يُوْنسٌ يَقُوْلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَبَّيْكَ فَرَّاجَ الكُرَبِ، وَكَانَ مُوْسَىْ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُوْلُ: لَبَّيْكَ أَنَا عَبْدُكَ لَدَيْكَ لَبَّيْكَ، قَالَ: وَتَلْبِيَةُ عيسى: لَبَّيْكَ أَنَا عَبْدُكَ ابْنُ أَمَتِكَ بِنْتِ عَبْدَيْكَ لَبَّيْكَ" (¬3). وروى المزكي في "جزئه" وغيره عن ابن عباس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَلْتَقِي الخضرُ وَإليَاسُ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فِيْ كُلِّ عَامٍ فِيْ الْمَوْسِمِ، فَيَحْلِقُ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمْ رَأْسَ صَاحِبِهِ، وَيتَفَرَّقَانِ عَنْ هَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ: ¬
بِسْمِ اللهِ مَا شَاءَ اللهُ، لاَ يَسُوْقُ الْخَيْرَ إِلاَّ اللهُ، مَا شَاءَ اللهُ لاَ يَدْفَعُ الشَّرَّ إِلاَّ اللهُ، مَا شَاءَ اللهُ مَا كَانَ مِنْ نعمةِ فَمِنَ اللهِ، مَا شَاءَ اللهُ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ". قال ابن عباس: من قالهنَّ حين يُصبح وحين يُمسي ثلاث مرات أمَّنه الله من الغرق والحرق والسَّرق. قال عطاء: وأحسبه قال: ومن الشيطان والسلطان والحية والعقرب (¬1). قال السيوطي: وورد اجتماع الخضر وإلياس عليهما السلام في كل عام في الموسم عن أنس - رضي الله عنه -. أورده الحارث بن أبي أسامة في مسنده بسند ضعيف، انتهى (¬2). وذكر ابن الجوزي في "مثير الغرام الساكن" عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: يجتمع في كل يوم عرفة بعرفة جبريل وميكائيل وإسرافيل والخضر عليهم السلام، فيقول جبريل: ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، فيرد عليه ميكائيل: ما شاء الله كل نعمة من الله، فيرد عليهما إسرافيل: ما شاء الله الخير كله من الله، فيرد عليهم الخضر: ما شاء الله لا يدفع السوء إلا الله، ثم يفترقون فلا يجتمعون إلى قابل ¬
في مثل ذلك اليوم (¬1). وروى إسحاق الختلي في "ديباجه" عن داود بن يحيى مولى عوف الطَّفَاوي، عن رجل كان مرابطاً في بيت المقدس وبعسقلان قال: بينا أنا أسير بوادي الأردن إذا أنا برجل في ناحية الوادي قائم يُصلي، وإذا سحابة تظلُّه من الشمس، فوقع في قلبي أنه إلياس النبي عليه السلام، قال: فسلمت عليه وانفتل من صلاته فردَّ عليَّ السلام، فقلت: مَنْ أنت رحمك الله؟ قال: فلم يردَّ عليَّ شيئاً، فأعدتُ القول مرَّتين فقال: أنا إلياس النبي، قال: فأخذتني رعدة شديدة وخِفْتُ على عقلي أن يذهب، فقلت: إن رأيت رحمك الله أن تدعو لي حتى يُذهب الله عني ما أجد حتى أفهم، فدعا لي بثمان دعوات: يا بر يا رحيم، يا حيُّ يا قيوم، يا حنَّان يا منان، يا هيا شرا هيا، قال: فذهب عني ما كنت أجد، فقلت: إلى مَنْ بُعِثْت؟ قال: إلى أهل بعلبك، قال: فهل يُوحى إليك اليوم؟ قال: منذ بُعثَ محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين فلا، قلت: كم من الأنبياء في الحياة؟ قال: أربعة؛ أنا والخضر في الأرض، وإدريس وعيسى في السماء، قلت: فهل تلتقي أنت والخضر؟ قال: نعم، كل عام بعرفات، قلت: فما حديثكما؟ قال: يأخذ من شعري، وآخذ من شعره، قلت: فكم الأبدال؟ قال: هم ستون رجلاً؛ خمسون ¬
تنبيه لطيف
ما بين عريش مصر إلى شاطئ الفرات، ورجلان بالمصيص، ورجل بأنطاكية، وسبعةٌ في سائر الأمصار، بهم تسقون الغيث، وبهم تنصرون على العدو، وبهم يقيم الله أمر الدنيا حتى إذا أراد أن يهلك -يعني: الدنيا- أماتهم جميعاً (¬1). * تَنْبِيْهٌ لَطِيْفٌ: روى الخطيب في "تاريخه" بسند ضعيف، عن يحيى بن أكثم: أنه قال في مجلس الواثق: من حلق رأس آدم عليه السلام؟ فتعايا الفقهاء عن الجواب، فقال الواثق: أنا أحضر من يُنبئكم عن الخبر، فبعث إلى علي بن محمد بن جعفر بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعن آبائه، فسأله، فقال: حدثني أبي عن جدي، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرَ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنْ يَنْزِلَ بِيَاقُوْتَةِ مِنَ الْجَنَّةِ، فَهَبَطَ بِهَا فَمَسَحَ رَأَسَ آدَمَ، فَتَنَاثَرَ الشَّعْرُ عَنْهُ، فَحَيْثُ بَلَغَ نُوْرُهَا صَارَ حَرَمًا" (¬2). 28 - ومن أخلاق الأنبياء عليهم السلام وأعمالهم: التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. روى الحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَمَّا اقْتَرَفَ ¬
آدَمُ الْخَطِيْئَةَ قَالَ: يَا رَبِّ! أَسْألُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَمَا غَفْرَتَ لَي، فَقَالَ اللهُ: يَا آدَمُ! وَكَيْفَ عَرَفْتَ مُحَمَّداً وَلَمْ أَخْلُقْهُ؟ قَالَ: يَا رَبِّ لَمَّا خَلَقْتَنِيْ بِيَدِكَ، وَنفخْتَ فِيَّ مِنْ رُوْحِكَ، رَفَعْتُ رَأسِيَ فَرَأَيْتُ عَلَىْ قَوَائِمِ العَرْشِ مَكْتُوْبًا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّكَ لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِكَ إِلاَّ أَحَبَّ الخَلْقِ إِلَيْكَ، فَقَالَ اللهُ: صَدَقْتَ يَا آدَمُ، إِنَّهُ لأَحَبُّ الخَلْقِ إِلَيَّ؛ إِذْ سَأَلْتَنِيْ بِحَقِّهِ فَقَدَ غَفَرْتُ لَكَ، وَلَوْلاَ مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ" (¬1). وقال طائفة من المفسرين: إن الكلمات التي تلقاهن آدم عليه ¬
29 - ومنها: بر الوالدين.
السلام عن ربه فتاب عليه هي قوله: يا رب! أسألك بحق محمد لما غفرت لي (¬1). 29 - ومنها: بر الوالدين. قال تعالى في يحيى عليه السلام: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} [مريم: 14]. وقال حكاية عن عيسى عليه السلام: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم: 32]. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه رحمه الله: أنَّ موسى عليه السلام سأل ربه عز وجل فقال: "يا رب! بمَ تأمرني؟ " قال: "بأن لا تشرك بي شيئا"، قال: "وبمه؟ " قال: "بر والدتك"، قال: "وبمه؟ " قال: "وبر والدتك"، قال وهب: البر بالوالد يزيد العمر، والبر بالوالدة يثبت الأجل (¬2). وعن عمرو بن ميمون قال: رأى موسى عليه السلام رجلاً عند العرش، فغبطه بمكانه فسأل عنه، فقالوا: "نخبرك بعمله؛ لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يمشي بالنميمة، ولا يعقُّ والديه"، قال: "أي رب! ومن يعقُّ والديه؟ " قال: "يستسب لهما حتى يُسبَّا" (¬3). ¬
وروى الدينوري عن وهب قال: بلغني أن الله تعالى قال للعزيز عليه السلام: "بر والديك؛ فإنَّ من برَّ والديه رضيتُ عنه، وإذا رضيت باركت، وإذا باركت بلغت الرابعة من النسل" (¬1). وروى الأصبهاني في "الترغيب" عنه -أيضاً - قال: إنَّ في الألواح التي كتب الله عز وجل لموسى عليه السلام: "يا موسى! وقر والديك، فإنَّ من وقَّر والديه مددت في عمره ووهبت له ولداً يبرُّه، ومن عقَّ والديه قصَّرت من عمره ووهبت له ولداً يعُقه" (¬2). قلت: وجاءت أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن البر والصلة يزيدان في العمر (¬3). قال المحققون من العلماء: ومعنى زيادة العمر ومده بذلك أنَّ الله تعالى يُبارك في عمر البار والواصل بأن يوفقه لصرفه في الطاعة وعدم التكدير بالمعاصي والهموم والمصائب، كما أنَّ معنى نقص العمر وتقصيره بالعقوق والقطيعة بأن يخذله فيصرف عمره في المعاصي وفيما لا يُجديه، أو يبتليه بالمصائب والهموم من غير تلق منه لها بالرضا والصبر، وإلا فإنَّ الآجال مقسومة (¬4)، والله الموفق. ¬
30 - ومنها: العفو والاحتمال، ومقابلة السيئة بالحسنة.
30 - ومنها: العفو والاحتمال، ومقابلة السيئة بالحسنة. قال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]. وروى الخرائطي، وأبو نعيم عن عكرمة رحمه الله قال: قال الله تعالى: "يا يوسف! بعفوك عن إخوتك رفعت لك ذكرك في الذاكرين" (¬1). وروى ابن مردويه عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة صعد المنبر فحمد الله وأثنى، ثم قال: "يَا أَهْلَ مَكَّةَ! مَاذَا تَظُنُوْنَ؟ مَاذَا تَقُوْلُوْنَ؟ " قالوا: نظن خيراً ونقول خيراً في ابن عم كريم قد قدرت، قال: "فَإِنِّيْ أَقُوْلُ كَمَا قَالَ أَخِيْ يُوْسُفُ: لاَ تَثْرِيْبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ"، فخرجوا كأنما نُشروا من القبور، فدخلوا في الإسلام (¬2). وروى الخرائطي عن الوليد بن مسلم قال: قال يوسف بن يعقوب عليهما السلام لإخوته الأسباط لمَّا حضرته الوفاة: "يا إخوتاه! إني لم أنتصف لنفسي من مظلمةٍ ظلمتها في الدنيا، وإن كنت أُظهر الحسنة وأرضى بالسيئة فذلك زادني في الدنيا، يا إخوتي! إني شاركت ¬
آبائي في صالح أعمالهم فأشركوني في قبورهم" (¬1). وروى الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحكي نبياً من الأنبياء، ضربه قومه فهو ينضح، وفي رواية: فهو يمسح الدم عن جبينه، ويقول: "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" (¬2). وعن عبيد بن عمير رحمه الله تعالى قال: كان قوم نوح عليه السلام يضربونه حتى يُغشى عليه فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون (¬3). وروى الدينوري عن ابن المبارك قال: بلغني أنَّ عيسى بن مريم عليهما السلام مرَّ بقومٍ فشتموه، فقال خيراً، ومر بآخرين فشتموه وزادوا، فزادهم خيراً، فقال رجلٌ من الحواريين: كلما زادوك شراً زدتهم خيراً كأنك تغريهم بنفسك؟ فقال عيسى عليه السلام: كل إنسان يُعطي ما عنده (¬4). وهذا في معناه المثل السائد: وكل وعاءٍ بالذي فيه ينضح. ¬
31 - ومنها: الحلم وحسن الخلق
وقلت: [من الطويل] وَكَمْ قائِلٍ ما لِيْ أَرَى الْقَوْمَ تَقْدَحُ ... عَلَيْكَ وَتُثْنِيْ أَنْتَ خَيْراً وَتَمْدَحُ فَقُلْتُ لَهُمْ عَنِّيْ فَإِنَّ سَلِيْقَتِيْ ... أَبَتْ كُلَّ خُلْقٍ بِالأَناسِيِّ يَقْبُحُ وَكُلُّ فَتًى يُبْدِيْ الَّذِيْ فِيْهِ مُنْطَوٍ ... وَكُلُّ إِناءٍ بِالَّذِيْ فِيْهِ يَنْضَحُ 31 - ومنها: الحلم وحسن الخلق قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]. وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] قال القاضي ناصر الدين البيضاوي: وقلما نعت الله نبيًا بالحلم لعزةٍ وجوده غير إبراهيم وابنه عليهما السلام (¬1). وقوله: نعت -بالنون أوله، والمثناة فوق آخره- أي: وصف. وعبارة "الكشاف": وقيل: ما نعت الله الأنبياء عليهم السلام بأقل مما نعتهم بالحلم، وذلك لعزة وجوده (¬2). وروى العسكري في "أمثاله" عن الحسن قال: هو والله أحسن ¬
منك رداء وإن كان رداؤك حبرة رجل رداه الله الحلم، فإن لم يكن حلم -لا أبا لك- فتحلم؛ فإنه من تشبه بقوم لحق بهم (¬1). وفي وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة: سبق حلمه جهله، ولا يزيده شده الجهل عليه إلا حلماً (¬2). رواه ابن حبان، والطبراني، والحاكم، وغيرهم عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -. وتقدم عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه. وروى أبو نعيم عن محمد بن جحادة قال: كان الشعبي من أولع الناس بهذا البيت: [من الرمل] لَيْسَتِ الأَحْلامُ فِيْ حالِ الرِّضَا ... إِنَّما الأَحْلامُ فِيْ حالِ الْغَضَبْ (¬3) وروى الخطيب عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَادَ الحَلِيْمُ أَنْ يَكُوْنَ نبِيًّا" (¬4). ¬
32 - ومنها: العود على النفس باللائمة إذا جهل أحد عليهم.
وروى الطبراني عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَوْحَىْ اللهُ إِلَىْ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يَا خَلِيْلِي! حَسِّن خُلُقَكَ وَلَوْ مَعَ الكُفَّارِ تَدْخُلْ مَعَ الأَبْرَارِ، وَإِنَّ كَلِمَتِيْ سَبَقَتْ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ أَنْ أُظِلَّهُ تَحْتَ عَرْشِيَ، وَأَنْ أَسْقِيَهُ مِنْ حَظِيْرَةِ القُدْسِ، وَأَنْ أُدْنِيْهُ مِنْ جِوَارِيْ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "العقل"، عن شراحبيل أبي عثمان، عن حماد رجل من أهل مكة قال: لمَّا أُهبط آدم عليه السلام إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام بثلاثة أشياء؛ بالدين، والعقل، وحسن الخلق، فقال: إن الله مخيرك واحداً من الثلاثة، فقال: يا جبريل! ما رأيت أحسن من هؤلاء [إلا] في الجنة؟ فمدَّ يده إلى العقل فضمَّه إليه، فقال لذينك: اصعدا، فقالا: لا نفعل، قال: أتعصياني؟ قالا: "لا نعصيك، ولكنا أمرنا أن نكون مع العقل [حيثما كان] "، فصارت الثلاثة إلى آدم عليه السلام (¬2). 32 - ومنها: العود على النفس باللائمة إذا جهل أحدٌ عليهم. علمًا منهم أنَّ المؤمن لا يُصاب بشيء يكرهه إلا بذنب وما يعفو لله أكثر، وهم وإن كانوا معصومين من الذنوب إلا أنهم قد يعدون على أنفسهم خلاف الأولى ذنباً، أو يعد عليهم ذلك ونحوه ذنباً لعلو مقامهم. ¬
33 - ومنها: السخاء.
روى أبو نعيم عن سعيد الجريري قال: بينا داود عليه السلام على باب مجلسه جالس ومعه جليس له من بني إسرائيل إذ مرَّ به رجل فاستطال عليه، فغضب له جليسه الإسرائيلي، فقال له داود: لا تغضب؛ فإني قد علمت من أين أتيت، إني قد علمت أني قد أحدثت فيما بيني وبين ربي حدثاً، فسلَّط عليَّ هذا، فدعني حتى أدخل وأتصل إلى ربي من الحدث الذي كان مني حتى يعود هذا فيُقبِّل أسفل قدمي، قال: فدخل فصلى ركعتين، واعتذر إلى ربه من الحدث الذي كان منه، ثم عاد إلى مجلسه، وعاد الرجل نادماً، فأكبَّ يُقَبل رِجْلَ داود، وقال: يا نبي الله! اغفر لي، فقال داود: اذهب فقد علمت من أين أتيت (¬1). 33 - ومنها: السَّخاء. روى أبو الشيخ في كتاب "الثواب" عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ تَعَالَىْ بَعَثَ حَبِيْبِي جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَىْ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيْمُ! إنيِّ لَمْ أتَّخِذْكَ خَلِيْلًا عَلَىْ أَنَّكَ أَعْبَدُ عِبَادِيْ، وَلَكِنِّي اطَّلَعْتُ عَلَىْ قُلُوْبِ الْمُؤْمِنِيْنَ فَلَمْ أَجِدْ قَلْبًا أَسْخَىْ مِنْ قَلْبِكَ" (¬2). ¬
34 - ومنها: الضيافة وإكرام الضيف.
وروى ابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير - رضي الله عنه - قال: كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس، فخرج يلتمس إنساناً يضيفه فلم يجد أحداً يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلاً قائما، فقال: يا عبد الله! مَنْ أدخلك داري؟ قال: دخلتها بإذن ربها، قال: ومَنْ أنت؟ قال: ملك الموت، أرسلني ربي إلى عبدٍ من عباده أُبشره بأنَّ الله تعالى قد اتخذه خليلاً، قال: فمن هو؟ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينه ثم لا أبرح له جاراً حتى يفرق بيننا الموت، قال: ذلك العبد أنت، قال: أنا؟ قال: نعم، قال: فلم اتخذني خليلاً؟ قال: إنك تُعطي الناس ولا تسألهم (¬1). 34 - ومنها: الضيافة وإكرام الضيف. وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على إبراهيم ولوط عليهما السلام بإكرام الضيف ورعاية حقه. روى ابن أبي الدنيا في كتاب "قِرى الضيف" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ أَوَّلُ مَنْ أَضَافَ الضَّيْفَ إِبْرَاهِيْمَ" (¬2). وروى الأصبهاني في "الترغيب" من طريقه، وأبو نعيم عن عكرمة رحمه الله قال: كان إبراهيم عليه السلام يُكنى أبا الضيفان، وكان لقصره ¬
فائدة
أربعة أبواب، زاد في رواية: لئلاً يفوته أحد (¬1). وروى ابن عساكر عن أبي حازم رحمه الله قال: لما دخل موسى على شعيب عليهما السلام إذا هو بالعشاء [مهيأ] فقال له شعيب: كُل، قال موسى: أعوذ بالله، قال: ولمَ، ألست بجائع؟ قال: بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئاً من عمل الآخرة على الأرض ذهباً، قال: لا والله ولكنها عادتي وعادة آبائي؛ نُقري الضيف ونطعم الطعام، فجلس موسى وأكل (¬2). * فائِدَةٌ: روى ابن أبي شيبة عن السدي رحمه الله قال: أول من ثرد الثريد إبراهيم عليه السلام (¬3). وروى ابن سعد عن الكلبي قال: إبراهيم عليه السلام أول من أضاف الضيف، وأول من ثرد الثريد، وأول من رأى الشيب، وكان قد وسع عليه في المال والخدم (¬4). وروى الديلمي عن نبيط بن شريط - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ¬
تنبيه
"أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ الخُبْزَ المُبَلْقَس إِبْرِاهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ" (¬1). * تَنْبِيْهٌ: روى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الزنباع رحمه الله قال: كان شاب يمشي مع الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى، فمرَّ بمنزله فعرَّض عليه الشاب، فقال: يا ابن أخي! لعلك من العارضين؟ قال: يا أبا بحر! وما العارضون؟ قال: الذين يُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، يا ابن أخي! إذا عرض لك الحق فاقصد، والْهَ عما سوى ذلك (¬2). فينبغي أن يحذر الإنسان من هذه الخصلة أن يعرض الدعوة على أخيه وهو في نفسه لا يقصد أن يضيفه حقيقة؛ فإن هذا ليس من أخلاق الكرام فضلاً عن أخلاق النبوة، وهذا يتفق كثيراً من جهلاء الناس ويسمونه التجمل، وليس هذا من التجمل في شيء بل هو رياء وتصنع، وليس من أخلاق الأنبياء الرياء ولا التصنع أصلاً ولا من أخلاق الصالحين. ¬
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ «وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ» تَألِيف العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة 977 هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة 1061 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى تَحقِيقَ وَدِرَاسَة لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ بِإِشْرَافِ نُورِ الدِّين طَالِب المُجَلَّد الخَامِسُ دَارُ النَّوادِرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ في التَّشَبُّهِ (5)
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 7 - 84 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
تَابِع (6) بَابُ التَّشَبُّه بِالنَّبِيِيْنَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِم أَجْمَعِيْنَ
35 - ومنها: التواضع.
تَابع (6) بَابُ التَّشَبُّه بِالنَّبِيِيْنَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ 35 - ومنها: التواضع. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان الأنبياء عليهم السلام يحلبون الشاء، ويركبون الحمر، ويلبسون الصوف (¬1). وأخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولفظه: "كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهُمُ السَّلاَمُ يَسْتَحِبُّوْنَ أَنْ يَلْبَسُوْا الصُّوْفَ، وَيَحْلِبُوْا الغَنَمَ، وَيرْكَبُوْا الْحَمِيْرَ" (¬2)؛ يعني: إيثاراً للتواضع وهضم النفس. وروى الإمام أحمد في "الزهد" -أيضًا - عن يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى قال: كان عيسى بن مريم عليهما السلام يقول: ما لي لا أرى فيكم أفضل العبادة؟ قالوا: وما أفضل العبادة يا روح الله؟ قال: التواضع لله عز وجل (¬3). ¬
36 - ومنها: أكل الحلال، وتجنب الحرام في المآكل والمشارب، والملابس، وسائر الأمور.
وروى ابنه في "زوائده" عن أبي كعب الأزدي رحمه الله قال: قال عيسى عليه السلام للحواريين: إني أريد أن أوضئكم، قالوا: يا روح الله! أنت توضئنا؟ قال: نعم، فوضأهم من عند آخرهم، قال: ثم قال: أتدرون لم فعلت هذا بكم؟ ستُتَّخَذُون بعدي رؤوساً، فإذا اتُّخِذْتم رؤوساً فكونوا أذناباً؛ تواضعوا. وروى أبوه، عن أبي السليل رحمه الله قال: كان داود النبي عليه السلام يدخل المسجد فينظر أغمض حلقة من بني إسرائيل فيجلس إليهم، ثم يقول: مسكين بين ظهراني مساكين (¬1). وروى الترمذي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَانَ عَلَى مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَوْمَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ كِسَاءُ صُوْفٍ وَجُبَّهُ صُوْفٍ [وكمة (¬2) صوف] وَسَرَاوِيْلُ صوفٍ، وَكَانَتْ نَعْلاَهُ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ" (¬3). 36 - ومنها: أكل الحلال، وتجنب الحرام في المآكل والمشارب، والملابس، وسائر الأمور. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]. ¬
روى الإمام أحمد في "الزهد" وغيره، وصححه الحاكم، عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس رضي الله عنها وعن أخيها: أنها بعثت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح لبن عند فطره وهو صائم، فردَّ إليها رسولها: "أَنَّى لَكِ هَذا اللَّبَنُ؟ " قالت: من شاةٍ لي، فردَّ إليها رسولها: "أَنَّى لَكِ الشَّاةُ؟ " فقالت: اشتريتها من مالي، فشرب منه، فلما كان الغد أتته أم عبد الله فقالت: يا رسول الله! بعثت إليك بلبن، فرددت إليّ الرسول فقال لها: "بِذَلِكَ أُمِرَتِ الرُّسُلُ [قبلي] أَنْ لاَ تَأْكُلَ إِلاَّ طَيِّبًا، وَلاَ تَعْمَلَ إِلاَّ صَالِحًا". والطيب هو الحلال على أرجح الأقوال. وبه فسر سعيد بن جبير الطيبات في الآية كما رواه ابن أبي حاتم، وروي عن غيره أيضاً (¬1). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي ميسرة عمرو بن شُرَحْبِيل رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] قال: كان عيسى بن مريم عليهما السلام يأكل من غزل أمه (¬2). وروى البيهقي عن ثابت رضي الله قال: أمسى داود عليه السلام ¬
37 - ومنها: الاهتمام بأمور الآخرة، والتفرغ عن أمور الدنيا إلا ما لابد منه.
صائمًا، فلما كان عند إفطاره أتى بشربة لبن، فقال: من أين لكم هذا اللبن؟ قالوا: من شاتنا، قال: ومن أين ثمنها؟ قالوا: يا نبي الله! من أين تسأل؟ قال: إنَّا معاشرَ الرسل أُمرنا أن نأكل طيباً ونعمل صالحاً (¬1). وفي "صحيح مسلم"، و "مسند الإمام أحمد"، و"جامع الترمذي" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ وَلاَ يَقْبَلُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِيْنَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِيْنَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَىْ السَّمَاءِ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ، أَشْعَثَ أَغْبَر (¬2)، مَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّىْ يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" (¬3). 37 - ومنها: الاهتمام بأمور الآخرة، والتفرغ عن أمور الدنيا إلا ما لابُدَّ منه. قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 45 - 46]. روى ابن أبي الدنيا في "كتاب الحزن" عن قتادة رحمه الله في ¬
قوله: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [صَ: 46]؛ قال: بِهَمِّ الآخرة (¬1). وروى ابن جرير عن مجاهد رحمه الله تعالى قال في الآية: بذكر الآخرة ليس لهم همٌّ ولا ذكرٌ غيرها (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "النية والإخلاص" عن بعض الحكماء قال: ما رأيت عاقلاً قط إلا والآخرة أكثر همه (¬3). وروى هو في كتاب "الحزن"، وابن ماجه عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَعْظَمُ النَّاسُ هَمًّا الْمُؤْمِنُ؛ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ دُنْيَاهُ وَأَمْرِ آخِرِتهِ" (¬4). وروى ابن أبي الدنيا عن الربيع بن خثيم رحمه الله تعالى قال: ما أجد في الدنيا أشدَّ همًّا من المؤمن؛ شارك أهل الدنيا في همِّ المعاش، وتفرَّد بهمِّ آخرته (¬5). وروى الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِيْ قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأتَتَهُ الدُّنْيَا وَهِيَ ¬
رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدنيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ" (¬1). وروي نحوه عن زيد بن ثابت، وأبي الدرداء - رضي الله عنهما - (¬2). وروى ابن ماجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ جَعَلَ الْهُمُوْمَ هَمًّا وَاحِدًا -هَمَّ الْمَعَادِ- كَفَاهُ اللهُ تَعَالَى هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُوْمُ [في] أَحْوَالَ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللهُ فِيْ أَيِّ أَوْدِيَتِهِ (¬3) هَلَكَ" (¬4). وفي المعنى قيل: [من مجزوء الخفيف] لَذَّ قَوْمٌ فَأَسْرَفُوا ... وَرِجالٌ تَخَوَّفُوا (¬5) جَعَلُوا الْهَمَّ واحِداً ... وَمَضَوْا ما تَخَلَّفُوا يا لفِتِيْانِ جَنَّةٍ (¬6) ... آثَرُوْها فَأَسْعَفُوا (¬7) ¬
38 - ومنها: الرجاء والطمع في رحمة الله تعالى.
وروى ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن أبي خالد رحمه الله قال: حدثني رجل قبل الجماجم من أهل المساجد قال: أخبرت أنَّ عيسى عليه السلام كان يقول: اللهم أصبحت لا أملك لنفسي ما أرجو، ولا أستطيع عنها دفع ما أكره، وأصبح الخير بيد غيري، وأصبحت مرتهناً بما كسبت، فلا فقير أفقر مني، فلا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تجعل الدنيا أكبر همي، ولا تُسلِّط عليَّ من لا يرحمني (¬1). وروى الترمذي، والحاكم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قلَّ ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: "اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُوْلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيْكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، ومِنَ اليَقِيْنِ مَا تُهَوِّنُ عَلَيْنَا مُصِيْبَاتِ الدُّنْيِا، وَمَتِّعْنَا بأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِناَ وَقُوَّتنَا مَا أَحْيَيْتَنا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثأَرَنَا عَلَىْ مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْناَ عَلَىْ مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا ولا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطَ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا" (¬2). 38 - ومنها: الرجاء والطمع في رحمة الله تعالى. قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] ¬
39 - ومنها: الخوف والخشية، والهيبة والحياء
وقال حكاية عن زكريا ويحيى وأمهما، أو عن الأنبياء المذكورين في سورة الأنبياء: {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]. وروى ابن أبي شيبة والمفسرون والحاكم وصححه، وأبو نعيم في "الحلية" والبيهقي في "الشعب" عن عبد الله بن عكيم قال: خطبنا أبو بكر - رضي الله عنه -، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، فإن الله أثنى على زكريا وعلى أهل بيته، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء"90] (¬1). 39 - ومنها: الخوف والخشية، والهيبة والحياء: قال الله تعالى بعد أن ذكر موسى، وهارون، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ولوطًا، ونوحًا، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذا الكفل، وذا النون، وزكريا، ويحيى عليهم السلام: {إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]. وروى ابن عساكر عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
"كانَ النَّاسُ يَعُوْدُوْنَ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَيَظنّوْنَ أَنَّ بِهِ مَرَضاً، وَما بِهِ إِلاَّ شِدَّةُ الْخَوْفِ مِنَ اللهِ تَعالَىْ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن سفيان بن عيينة قال: كان عيسى عليه السلام إذا ذكرت عنده الساعة يصيح كما تصيح المرأة (¬2). وعن الشعبي قال: كان عيسى عليه السلام إذا ذُكرت عنده الساعة صاح، وقال: لا ينبغي لابن مريم أن تذكر عنده الساعة فيسكت (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الخوف" عن أبي عمر الضرير قال: بلغني أن عيسى عليه السلام كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دماً (¬4). وعن خالد بن دركل رحمه الله قال: لقي داود لقمان عليهما السلام فقال داود: كيف أصبحت يا لقمان؟ قال: أصبحت في يد غيري، ففكر فيها داود فصعق. وروى أبو نعيم عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانَ النَّاسُ يَعُوْدُوْنَ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَظُنُّوْنَ بِهِ مَرَضاً، وَما بِهِ شَيْء إِلاَّ الْخَوْفُ مِنَ اللهِ وَالْحَياءُ" (¬5). ¬
والمروي عن الأنبياء عليهم السلام في ذلك كثير، وإنما كان هذا حالهم وهم معصومون؛ زيادةً في شرف مقامهم، وتوفيراً لحظهم من الرضا والسرور والخير في دار البقاء، وتشريعًا للأمم، وتنبيهاً لمن اقترف الكبائر ليخاف مما اجترم. وقد قيل: [من مجزوء الكامل] الْخَوْفُ أَوْلَىْ بِالْمُسِيْ ... ءِ وَإِذا تَأَلَّهَ وَالْحَزَنْ وَالْحُبُّ يجملُ بالتَّقي ... وَبِالنَّقِيِّ مِنَ الدَّرَنْ (¬1) فينبغي التشبه بالأنبياء الكرام عليهم السلام في الخوف والخشية للملك العلام، ومن خاف طار منامه، وطال في طاعة الله مقامه، وقلَّ فيما لا يعنيه كلامه. ولقد أحسن ابن المبارك في قوله -وقد ذكر الْعُبَّاد- كما رواه ابن أبي الدنيا وغيره: [من الطويل] وما فُرْشُهُمْ إِلا أَيامِنُ أُزْرِهِم ... وما وُسْدُهُمْ إِلا ملاءٌ وَأَذْرُعُ وما لَيْلُهم فِيْهِنَّ إلا تَحَزُّنٌ ... وما نوْمُهم إلا غِشَاشٌ مُرَوَّعُ ¬
40 - ومنها: الخشوع، وخصوصا في الصلاة والدعاء
وَألْوانُهم صُفْر كأنَّ وُجُوْهَهم ... علَيْها جسادٌ عُلَّ بِالْوَرْسِ مُشْبَعُ نَواحِلُ قَدْ أَزْرَى لَها الجَهْدُ وَالسُّرى ... إِلَى اللهِ فِي الظَّلْماء وَالناسُ هُجَّعُ وَيَبْكُوْنَ أَحْياناً كأَنَّ عَجِيْجَهُم ... إِذا نَوَّمَ الناسَ الْحَنِيْنُ الْمُرَجَّعُ وَمَجْلِسُ ذِكْرٍ فِيْهِمُ قَدْ شَهِدْتُهُ ... وَأَعْيُنُهُمْ مِنْ رَهْبَةِ الله تَدْمَعُ (¬1) 40 - ومنها: الخشوع، وخصوصاً في الصلاة والدعاء: قال الله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90]؛ أي: أذلاء كما قال قتادة، والضحاك. وقال علي - رضي الله عنه -: الخشوع في القلب. رواه الحاكم وغيره، وصححه (¬2). قال في "القاموس": الخشوع: الخضوع: كالاختشاع، والفعل: كمنع، أو قريب من الخضوع، أو هو في البدن، والخشوع في الصوت ¬
والبصر، والسكون والتذلل. ثم قال: خضع كمنع خضوعًا: تطامن، وتواضع كاختضع وسكن، انتهى (¬1). وكل هذه المعاني جائزة هنا. وروى الحكم الترمذي في "نوادره" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته، فقال: "لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا خَشَعَتْ جَوَارِحُهُ" (¬2). وهذا الحديث فيه دليل على أن الخشوع يكون في القلب ويكون في الجوارح، لكنه إنما ينشأ في الجوارح عن القلب، فليس التماوت من الخشوع في شيء. وقال وهب بن منبه رحمه الله: قرأت في بعض الكتب المنزلة من السماء أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام: "أتدري لم اتخذتك خليلاً؟ " قال: "لا يا رب"، قال: "لذلِّ مقامك بين يدي في الصلاة" (¬3). ¬
41 - ومنها: الاستعاذة من النار، والتأوه عند ذكرها أو التأوه مطلقا.
41 - ومنها: الاستعاذة من النار، والتأوُّه عند ذكرها أو التأوه مطلقًا. روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "الزهد"، والمفسرون، والبيهقي في "الشعب" عن كعب رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)} [هود: 75]، قال: كان إذا ذكر النار قال: أوَّه أوَّه من النار (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن صفوان بن محرز رحمه الله قال: كان نبي الله داود عليه السلام إذا ذكر عذاب الله تخلعت أوصاله ما يمسكها إلا الأسر، فإذا ذكر رحمة الله رجعت (¬2). وعنه - أيضًا - قال: كان داود عليه السلام يقول: أوه من عذاب الله، أوه أوه من قبل أن لا ينفع أوه (¬3). وروى الطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن أبي موسى - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ وَصُنِعَتْ لَهُ ¬
النُّوَرَةُ (¬1) سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَ السَّلاَمُ، فَلَمَا دَخَلَهُ وَجَدَ حَرَّهُ وَغَمَّهُ فَقَالَ: أوه مِنْ عَذَابِ اللهِ، أوه قَبْلَ أَنْ لاَ يكُوْنُ أوه" (¬2). وروى أبو الشيخ عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى قال: كان إبراهيم عليه السلام يُسمَّى الأواه لرقته ورحمته (¬3). وروى ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهم عن أبي العبيدين قال: سألت عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن الأوَّاه فقال: هو الرحيم (¬4). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: الأوَّاه: الموقن (¬5). وروى ابن جرير عن عطاء، وعن الضحاك قالا: الأواه: ¬
الموقن بلسان الحبشة (¬1). ورواه ابن أبي حاتم عن مجاهد (¬2)، ورويا عن مجاهد - أيضًا - قال: الأواه: الفقيه الموقن (¬3). وروى ابن جرير، وأبو الشيخ عن عقبه بن عامر - رضي الله عنه - قال: الأواه: المكثر ذكرَ الله (¬4). وروى ابن مردويه عن جابر - رضي الله عنه -: أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر فقال رجل: لو أنَّ هذا خفض صوته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْهُ فَإِنَّهُ أَوَاهٌ" (¬5). وروى هو وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عبد الله بن شداد بن الهاد - رضي الله عنه - قال: قال رجل: يا رسول الله! ما الأوَّاه؟ قال: "الْخَاشِعُ الْمُتَضَرَّعُ فِي الدُّعَاءِ" (¬6). ¬
وروى أبو الشيخ عن زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى قال: الأوَّاه: الدعاء المستكين إلى الله كهيئة المريض المتأوه من مرضه (¬1). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأواه: المؤمن التواب (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن أبي أيوب منه قال: الأوَّاه: الذي إذا ذَكَر خطاياه استغفر منها (¬3). وعن الشعبي قال: الأوَّاه: المسبح (¬4). ورواه ابن المنذر عن أبي ميسرة، وعن سعيد بن جبير (¬5). وروى أبو الشيخ عن مجاهد قال: الأوَّاه: المنيب الفقير (¬6). وروى البخاري في "تاريخه" عن الحسن رحمه الله قال: الأوَّاه: الذي قلبه معلق عند الله (¬7). قلت: وجميع ما ذكر في الأوَّاه فإنَّه من أخلاق الأنبياء عليهم السلام. ¬
42 - ومنها: البكاء من خشية الله تعالى، وأسفا من الذنوب.
42 - ومنها: البكاء من خشية الله تعالى، وأسفاً من الذنوب. قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)} [مريم: 58]. وقال سبحانه: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]. والأنبياء أفاضل من أوتي العلم من قبلهم. وفي هذه الآية والتي قبلها أن من أعمال الأنبياء عليهم السلام السجود للتلاوة، وهو مخصوص في شريعتنا بآيات معروفة من القرآن العظيم. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الرقة والبكاء" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: بكى آدم عليه السلام حين أُهبط من الجنة ثلاث مئة عام حتى جرت أودية بسرنديب من دموعه (¬1). وروى ابن عساكر عن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ أَنَّ بُكَاءَ دَاوُدَ وَبُكَاءَ جَمِيع أَهْلِ الأَرْضِ يُعْدَلُ بِبُكَاءِ آدَمَ مَا عَدَلَهُ" (¬2). ¬
وروى الإمام أحمد، ومن طريقه ابن أبي الدنيا عن وهيب بن الورد رحمه الله تعالى قال: لمَّا عاتب الله نوحاً عليه السلام في ابنه، فأنزل عليه: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} [هود: 46] بكى ثلاث مئة عام حتى صار تحت عينيه أمثال الجداول من البكاء (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن ابن سابط رحمه الله تعالى قال: لو عدل بكاء داود ببكاء أهل الأرض بعد آدم، لعدل بكاء داود عليه السلام ببكاء أهل الأرض (¬2). وعن ابن المبارك، عن الأوزاعي معضلاً رحمه الله تعالى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مَثَلَ عَيْنَيْ دَاوُدَ كَالقِرْبَتَيْنِ تَنْطِفَانِ مَاءً، وَلَقَدْ كَانَتِ الدُّمُوْعُ خَدَّدَتْ فِي وَجْهِهِ كَأُخْدُوْدِ الْمَاءِ فِيْ الأَرْضِ" (¬3). ¬
43 - ومنها: الحزن.
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: كان يحيى بن زكريا عليهما السلام يبكي حتى بدت أضراسه، فقالت له أمه: لو أذنت لي يابني حتى أعد لك قطعتين من لبود فأواري بهما أضراسك عن الناظرين، قال: أنت وذاك يا أمه، قال: فاتخذت له قطعتين من لبود فألصقتهما على خديه، وكان يبكي فتنتقع من الدموع، فتجيء أمه فتعصرهما، فتَسِيْل دموعه حتى تَبُلَّ ذراعها (¬1). وعن وهيب بن الورد رحمه الله قال: كان يحيى بن زكريا عليهما السلام له خطان في خديه من البكاء، فقال له أبوه زكريا: إني إنمَّا سألت ولداً تقرُّ به عيني، فقال له: يا أبه! إنَّ جبريل عليه السلام أخبرني أنَّ بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلاَّ كلُّ بكَّاء (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن مجاهد رحمه الله قال: كان طعام يحيى بن زكريا عليهما السلام العشب، وإن كان ليبكي من خشيه الله تعالى ما لو كان القارُ على عينيه لحرقه، ولقد كانت الدموع اتخذت مجرىً في وجهه (¬3). 43 - ومنها: الحزن. قال الله تعالى في يعقوب عليه السلام: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ¬
الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)} [يوسف: 84]. روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الحزن" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: كان بين خروج يوسف عليه السلام من عند يعقوب عليه السلام إلى أن رجع ثمانين سنة، فما فارق الحزن قلبه، وما زال يبكي حتى ذهب بصره، قال: والله إن كان على الأرض يومئذ [بشر] أكرم على الله من يعقوب (¬1). وروى ابن جرير عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه سُئِلَ ما بلغ وَجْدُ يعقوب على ابنه عليهما السلام؟ قال: وَجْدَ سَبْعِيْنَ ثَكْلَىْ، قيل: فما له من الأجر؟ قال: أَجْرُ مِئَةِ شَهِيْدٍ، وَمَا سَاءَ ظَنُّهُ بِاللهِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ وَلاَ نهارٍ (¬2). وروى ابن المبارك، وعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {فَهُوَ كَظِيمٌ (84)} [يوسف: 84] قال: كظم الحزن، فلم يقل إلا خيرًا. وفي رواية: يردد حزنه في جوفه، ولم يتكلم بسوء (¬3). وروى ابن أبي حاتم عن الأحنف بن قيس رحمه الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ داوُدَ عَلَيَّه السَّلاَمُ قَالَ: يَا رَبِّ! إنَّ بَنِيْ إِسْرَائِيلَ يَسْأَلُوْنَكَ ¬
بِإبْرَاهِيْم وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوْبَ فَاجْعَلْنِي لَهُمْ رَابِعًا، فَأَوْحَىْ اللهُ إلِيَهْ أَنَّ إِبْرَاهِيْمَ أُلقِيَ فِيْ النَّارِ بِسَبَبِيْ فَصَبَرَ، وَتلْكَ بَلِيَّةٌ لَمْ تَنَلْكَ، وَأنَّ إِسْحَاقَ بَذَلَ مُهْجَةَ دَمِهِ فِيْ سَبَبِي فَصَبَرَ، وَتلْكَ بَلِيَّهٌ لَمْ تَنَلْكَ، وَأنَّ يَعْقُوْبَ أَخَذْتُ مِنْهُ حَبِيْبَهُ حَتَّىْ ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَصَبَرَ، وَتلْكَ بَلِيَّةٌ لَمْ تَنَلْكَ" (¬1). ومن هنا يُعلم أنَّ الحزن لا يكون فضيلة كاملة ورتبة عالية إلا إذا قُرِنَ بالصبر وبحسن الظن بالله تعالى، وعدم الضجر، وترك التكلم بما يُشعر بالجزع، والتبرم لقَضاء الله تعالى. فأما إذا كان الحزن مقرونًا بالجزع أو سوء الظن بالله تعالى، فإنه مذموم. وعليه يحمل استعاذة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الهم والحزن، أو على الحزن على ما فات من الدنيا والهمِّ بأمورها ما عدا الهم بالمعيشة والعيال، فإنه ليس من هم الدنيا المذموم. وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم - "إنَّ مِنَ الذُّنُوْبِ ذُنُوْبًا لاَ يُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَلاَ الْحَجُّ وَلاَ العُمْرَةُ؛ يُكَفِّرُهَا الْهُمُوْمُ فِيْ طَلَبِ الْمَعِيْشَةِ". رواه أبو ¬
نعيم، وابن عساكر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الحزن" عن مكحول قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام أن اغسل قلبك، قال: يا رب بأي شيء؟ قال: اغسله بالغم والهم. وفي رواية: بالهم والحزن (¬2). وعن صالح أبي شعيب رحمه الله قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى ابن مريم عليهما السلام: كحل عينيك بمملول الحزن إذا ضحك البطالون (¬3). والمملول: من مل السهم أو القوس في النار: أدخله فيها. أو من مل الخبز: أدخله في الملة - بفتح الميم - وهو الرماد الحار. أي: أكحل عينيك بالحزن ولو كان حاراً كالميل المحمَّى بالنار أو بالملة. وروى ابن أبي الدنيا - أيضًا - عن فتح الموصلي رحمه الله تعالى ¬
44 - ومنها: الرجاء والطمع في رحمة الله، والرغبة فيما عنده.
قال: قال آدم عليه السلام: كنا نسلاً من نسل الجنة فسبانا إبليس بالمعصية إلى الدنيا، فليس لنا فيها إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي خرجنا منها (¬1). وقال: حدثني عمر بن بكير النحري عن شيخ من قريش قال: كان إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام لا يرفع طرفه إلى السماء إلا اختلاسًا، ويقول: اللهم نَعِّم عيشي في الدنيا بطول الحزن فيها (¬2). وروى هو والطبراني، والحاكم في "المستدرك" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِيْنٍ" (¬3). 44 - ومنها: الرجاء والطمع في رحمة الله، والرغبة فيما عنده (¬4). قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا (90)} [الأنبياء: 90]. قال ابن زيد رحمه الله: أي: طمعًا وخوفًا، وليس ينبغي لأحدهما ¬
أن يفارق الآخر. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). ورويا عن ابن جريج رحمه الله تعالى: أنه قال في الآية: رغبةً في رحمه الله، ورهبةً من عذاب الله (¬2). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن ثابت البناني رحمه الله تعالى قال: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه كانا سواء. وروى نحوه عن مطرف وغيره (¬3). وروى ابن أبي شيبة، والحاكم وصححه، وأبو نعيم، والبيهقي عن عبد الله بن عكيم رحمه الله قال: خطبنا أبو بكر - رضي الله عنه - فقال: أما بعد! فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهل، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة؛ فإنَّ الله تعالى أثنى على زكريا وعلى أهل بيته عليهم السلام فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90]. ثم اعلموا عباد الله أنَّ الله تعالى قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه، ولا يُطفأ نوره، فصدقوا بقوله، وانتصحوا كتابه، واستبصروا فيه ليوم الظلمة؛ فإنما خلقكم للعبادة، ¬
45 - ومنها: المسارعة إلى الخيرات، والمسابقة إلى الأعمال الصالحات.
ووكل بكم الكرام الكاتبين، يعلمون ما تفعلون. ئم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجلٍ قد غُيبَ عنكم علمه، فإن استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم في عملٍ لله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم فيردَّكم إلى أسوء أعمالكم؛ فإن أقوامًا جعلوا آجالهم لغيرهم ونسوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم، فالوَحَاءَ الوَحَاءَ، والنجاء النجاء؛ فإنَّ وراءكم طالباً حثيثاً مَرُّهُ سريع (¬1). فقد جعل أبو بكر - رضي الله عنه - قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ (90)} [الأنبياء: 90] الآية، راجعاً إلى زكريا وأهله، وجعله غيرُه عائداً على كل الأنبياء المذكورين قبل كما سبق. وعلى كل قول فإنَّ الأنبياء عليهم السلام جميعهم متخلقون بهذه الأخلاق الكريمة. 45 - ومنها: المسارعة إلى الخيرات، والمسابقة إلى الأعمال الصالحات. قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ (90)} [الأنبياء: 90]، والخيرات شاملة لكل طاعة وأدب صالح وخلق كريم. وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} [طه: 84]. ¬
وروى أبو الشيخ في كتاب "العقيقة" عن موسى بن علي بن رباح، عن أبيه رحمهما الله: أنَّ إبراهيم عليه السلام أُمِرَ أن يختتن وهو ابن ثمانين سنة، فعجل واختتن بالقدوم، فاشتدَّ عليه الوجع، فدعا ربه، فأوحى إليه أنك عجلت قبل أن نأمرك بآلته، قال: يا رب! كرهت أن أُؤخر أمرك (¬1). وقال تعالى لهذه الأمة: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا (148)} [البقرة: 148]. وفسَّر أبو العالية الاستباق في الآية بالمسارعة (¬2). وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ (133)} [آل عمران: 133]؛ أي: إلى ما يؤدي إليها. أمر سبحانه هذه الأمة بما مدح به النبيين. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عمر - رضي الله عنه - قال: التؤدة في كل شيء خيرٌ إلا ما كان من أمر الآخرة (¬3)؛ أي: فإنَّ المسارعة فيه خير. وأخرجه أبو داود من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬
46 - ومنها: التوبة والاستغفار.
وقال حاتم الأصم: العجلة من الشيطان إلا في خمسة فإنهَّا من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إطعام الطعام، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب (¬1). قلت: وكذلك الصلاة في أول وقتها، والزكاة إذا حال الحَوْل على النصاب، والحج إذا حصلت الاستطاعة، وإمضاء ما خطر ببالك من صدقة أو نفع مسلم، ويجمع ذلك أمر الآخرة المذكور في الحديث المذكور آنفاً. 46 - ومنها: التوبة والاستغفار. وتوبة الأنبياء عليهم السلام مما هو خلاف الأولى، أو من خطيئة لعلها وقعت، أو من القعود في كل لحظة عن الترقي في مقامات الدين، أو نحو ذلك كما تقدم نظيره في الملائكة عليهم السلام. قال الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ (37)} [البقرة: 37]. وقال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 122]. وقال تعالى: {قَالَ (47)} [هود: 47] نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 47]. وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء: 82]. وقال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ ¬
مِنَّا (127)} [البقرة: 127] إلى قوله: {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} [البقرة: 128]. وقال تعالى عن موسى عليه السلام: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)} [الأعراف: 143]. وقال تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)} [ص: 24]. إلى غير ذلك. وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن الأغر بن يسار المزني - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّهُ لَيُغَانَ عَلَىْ قَلْبِيْ، وَإِنِّيْ لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِيْ اليَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ" (¬1). وروى الإمام مالك، والإمام أحمد، ومسلم عنه [عن ابن عمر]: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا أيُّهَا النَّاسُ! تُوْبُوْا إِلَىْ رَبّكُمْ؛ فَوَاللهِ إِنَّي لأتُوْبُ إِلَىْ اللهِ فِيْ اليَوْمِ مِئةَ مَرَّةٍ" (¬2). ورواه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن رجل من المهاجرين، والحكيم الترمذي عن الأغر، ولفظهما: "يّاَ أَيُّهَا النَّاسُ! اسْتَغْفِرُوْا اللهَ وَتُوْبُوْا إِلَيْهِ؛ فَإِنِّيْ أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأتوْبُ إِلَيْهِ فِيْ الْيَوْمِ - أَوْ: كُلَّ يَوْمِ - مِئَةَ ¬
مَرَّةٍ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِئَةِ مَرَّةٍ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "التوبة"، ومن طريقه الأصبهاني في "ترغيبه" عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَجُلاً طِوَلاً كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ (¬2) كَثِيْرُ شَعْرِ الرَّأسِ، لاَ تُرَىْ عَوْرَتُهُ، فَلَمَّا ذَاقَ الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ رِياشُهُ فَكَانَ أَوَّلُ شَيءٍ بَدَا لَهُ مِنْ جَسَدِهِ أَنْ رَأَىْ عَوْرَتَهُ، فَلَمَّا رَآهَا انْطَلَقَ يَشْتَدُّ فِيْ الجنَّةِ، فَمَرَّ بِشَجَرَةٍ فَأَخَذَتْ بِشَعْرِ رَأسِهِ، فَذَهَبَ يُنَازِعُهَا، وَناَدَاهُ الرَّحْمَنُ عز وجل: يَا آدَمُ! أَمِنِّيْ تَفِرُّ؟ فَلَمَّا سَمعَ كَلاَمَ الرَّحْمَنِ قَالَ: لَسْتُ أَفِرُّ مَنْكَ وَلَكِنِّيْ أَسْتَحْيي مِنْكَ يَا رَبِّ، قَالَ: إِنْ أنَا تُبْتُ وَرَاجَعْتُ أَتَتُوْبَ عَلَيَّ؟ قَالَ: نعمْ يَا آدَمُ، قَالَ: فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيْمُ" (¬3). وقال الخرائطي في "اعتلال القلوب": أنشدنا أبو جعفر العدوي: [من المتقارب] ¬
ظَلمْتُ فَإِنْ قُلْتُ لا بَلْ ظُلِمْتُ ... فَإِنِّي أَنا الْقاطِعُ الظَّالِمُ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ زَلَّتِي ... فَإِنيِّ مِنْ خَوْفِها واجِمُ يَزِلُّ الْحَلِيْمُ وَيَكْبُوْ الْجَوادُ ... وَينْبُوْ عَنِ الضَّرْبَةِ الصَّارِمُ عَصَيْتُ وَتُبْتُ كَما قَدْ عَصَىْ ... وَتابَ إِلَى رَبَّهِ آدَمُ (¬1) وأحسن منه قولي: يا عائبًا لِيْ بِالذُّنُوْبْ ... أَيُّنا لَمْ يُذْنِبِ لَكِنْ عَصَيْتُ ثُمَّ تُبْـ ... ـتُ مِثْلَما تابَ أَبِيْ فإن التمثل بآدم عليه السلام في التوبة دون التصريح في حقه بالمعصية وهو أولى. وروى ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما المسيح عليه السلام في رهطٍ من الحواريين بين نهرٍ جارٍ وحمأة (¬2) منتنة، أقبل طائر حسن اللون يتلون كما هو الذهب، فوقع قريبا فانتفض، فسلخ منه مسكه - بفتح الميم؛ أي: جلده - فإذا هو أقبح شيء حين سلخ عنه مسكه، أقيرع أحيمش، فانطلق يدبُّ إلى الحمأة (¬3) المنتنة، فتمعك فيها وتلطخ بنتنها، فازداد قبوحًا إلى قبوحه ونتَناً إلى نتَنِهِ، ثم انطلق يَدُبُّ إلى نهر إلى جنبه ضَحضاح صاف، فاغتسل فيه حتى رجع كأنه بيضة مقشرة، قال: ¬
47 - ومنها: الورع، والحذر من الشبهات.
فكذلك مثل عامل الخطيئة حين يكون في الخطأ (¬1)، وكذلك مثل التوبة كمثل اغتساله من النتن في النهر الضحضاح، ثم راجع دينه حتى تدرع مسكه. والأقيرع تصغير الأقرع؛ أي: لا شعر على جلده. والأحيمش تصغير الأحمش - بالحاء المهملة، والشين المعجمة -: وهو دقيق الساقين. والضحضاح: الماء الذي لا يغرق. ولعلنا نختم الكتاب بخاتمة لطيفة في المتاب. 47 - ومنها: الورع، والحذر من الشبهات. روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الورع"، وفي كتاب "البكاء" (¬2) عن سعيد بن عبد العزيز رحمه الله: أن يحيى بن زكريا عليهما السلام كان لا يأكل شيئًا مما في أيدي الناس مخافة أن يكون دخله ظلم، وإنما يأكل من نبات الأرض، ويلبس من مَسوك الطير. وفي "كتاب الورع" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: مرَّ عيسى عليه السلام برائحة منتنة، فوضع القوم أيديهم على آنافهم، ولم يفعل ذلك عيسى، ثم مروا برائحة طيبة، فكشفوا أيديهم عن آنفهم ووضع عيسى عليه السلام يده على أنفه، فقيل له في ذلك، فقال: إنَّ الرائحة ¬
الطيبة نعمة فخِفْتُ أن لا أقوم بشكرها، والرائحة المنتنة بلاء فأحببت الصبر على البلاء (¬1). واعلم أن الورع لا يختص بالمأكل والمشرب، بل يكون في سائر المباحات كالمشموم، والمنظور، والمسموع، والمنطوق، وكلما دقق الإنسان على نفسه في الورع كلما نجا من الحساب، ولا ينبغي التهاون بشيء أصلاً. قال القشيري رحمه الله: كان رجل يكتب رقعة وهو في بيت بكِراء، فأراد أن يترب الكتاب من جدار البيت، فخطر بباله أن البيت بالكراء، ثم خطر بباله لا حظر (¬2) لهذا، فترب الكتاب، فسمع هاتفًا يقول: سيعلم المستخف بالتراب ما يلقى غدًا من سوء الحساب (¬3). وذكر في "الإحياء" نحو هذه القصة عن علي بن معبد، وذكر عنه أنه نام فرأى في منامه شخصاً يقول له: يا علي! سيعلم غداً الذين يقولون: وما قدر تراب من حائط (¬4)؟ وقال الأستاذ أبو عثمان الخيري رحمه الله تعالى: ثواب الورع ¬
48 - ومنها: الصيانة مع حسن الوجه وجمال الصورة.
خفة الحساب (¬1). وإن كان ثواب الورع ذلك؛ لأنَّ الجزاء من جنس العمل، والورع من لازمه محاسبة النفس. قال يونس بن عبيد رحمه الله تعالى: الورع الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس مع كل طَرفة (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَوْحَىْ اللهُ عز وجل إِلَىْ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يَا مُوْسَىْ! إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَلْقَانِيْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ ناَقَشْتُهُ الْحِسَابَ، وَفتَّشْتُهُ عَمَّا كَانَ فِيْ يَدَيْهَ إِلاَّ الوَرِعِيْنَ؛ فَإِنِّيْ أسْتَحْيِيْهِمْ وَأُجِلُّهُمْ، وَأُكْرِمُهُمْ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (¬3). 48 - ومنها: الصيانة مع حسن الوجه وجمال الصورة. وليس في الأنبياء عليهم السلام إلا حسن الصورة، وكلهم معصومون. وفي الحديث الصحيح: "إِنَّ يُوْسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أُعْطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ، وَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ خَلَقَهُ الرَّحْمَنُ عَلَىْ صُوْرَتهِ" (¬4). ¬
وقال وهب رحمه الله تعالى: كان نوح عليه السلام من أجمل أهل زمانه، وكان يلبس البرقع، قال: فأصابتهم مجاعة في السفينة، فكان نوح إذا تجلى لهم بوجهه شبعوا. رواه أبو نعيم (¬1). وروى البيهقي في "الشعب"، وابن عساكر عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ آتَاهُ اللهُ وَجْهًا حَسَنًا، وَاسْمًا حَسَنًا، وَجَعَلَهُ فِيْ مَوْضعٍ غَيْرِ شَائِنٍ، كَانَ مِنْ خُلاَصةِ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ" (¬2). قلت: والذي استقرأته وتحققته أنه لم يكن ذو جمال وصورة حسنة، فصين جماله عن الامتهان بالفسق، واتَّزر هو بالعفة وارتدى بالصيانة إلا بقي جماله وحسن طلعته في كبره إلى وفاته وبعد موته، ومن امتهن جماله بالفجور لم يلبث جماله أن يقبح شيئًا فشيئاً خصوصاً عند نبات وجهه. وكذلك عرض على الجمال والبهاء في هذه الأعصار أكل المكيفات المسكرة والمسطلة، والمخدرات المؤثرات في نضارة الأجساد وماء ¬
49 - ومنها: ذم الدنيا وتحقيرها.
الوجوه ما انتقل به أهلها إلى قبح الصورة وبشاعة المنظر حتى حمل بعض العلماء المسخ الذي يكون في بعض هذه الأمة في آخر الزمان على هذا، والله سبحانه أعلم. 49 - ومنها: ذم الدنيا وتحقيرها. قال الله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ (77)} [النساء: 77]. أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بتقليل الدنيا وذمها، وذلك مما أجمع عليه أنبياء الله تعالى. وروى أبو الحسن بن جهضم عن السري السقطي رحمه الله تعالى قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: الدنيا مزرعة إبليس، وأنتم - أي: معاشرَ المشتغلين بها المكبين عليها - عمَّارُها؛ أي: مستخدموه في عمارتها وحراستها (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن الحسن رحمه الله مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُبُّ الدُّنْيَا رَأسُ كُلِّ خَطِيْئَةٍ" (¬2). ¬
50 - ومنها: الزهد والتقلل من الدنيا، وإيثار الخشن من الثياب والعيش.
ورواه الإمام أحمد في "الزهد" من كلام عيسى عليه السلام (¬1). وفي كتاب الله عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)} [الأعلى: 16 - 19]. قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا} [الأعلى: 18]؛ أي: ذم الدنيا وذم إيثارها، وكون الآخرة خيرًا منها هو في الصحف الأولى بمعنى في كتب الله كلها. روى ابن أبي حاتم عن الحسن، وروى هو وابن جرير عن قتادة رحمه الله تعالى: أنه قال في الآية: تتابعت كتب الله كما تسمعون أن الآخرة خيرٌ من الدنيا (¬2). 50 - ومنها: الزهد والتقلل من الدنيا، وإيثار الخشن من الثياب والعيش. روى الطبراني عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ ناَجَىْ مُوْسَىْ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِمِئَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِيْنَ أَلْفَ كَلِمَةٍ فِيْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَلَمَّا سَمعَ مُوْسَىْ كَلاَمَ الآدَمِيينَ مَقَتَهُمَ لِمَا وَقَعَ فِيْ مَسَامِعِهِ مِنْ كَلاَمِ الرَّبِّ عز وجل، فَكَانَ فِيْمَا نَاجَاهُ اللهُ أَنْ قَالَ: يَا مُوْسَىْ! إِنَّهُ لَمْ تتَصَنَّعْ فِيَّ الْمُتَصَنِّعُونَ بِمِثْلِ الزُّهْدِ فِيْ الدُّنْيَا، وَلَمْ تتَقَرَّبْ إِلَيَّ الْمُتَقَرُّبوْنَ بِمِثْلِ الوَرَعِ عَمَّا حَرَّمْتُ ¬
عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَعَبَّدِ الْمُتَعَبِّدُوْنَ بِمِثْلِ البُّكَاءِ مِنْ خَشْيَتِيْ، قَالَ مُوْسَىْ: يَا رَبَّ البَرِيَّةِ كُلِّهَا، أَوْ: يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّيْنِ، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ! مَا أَعْدَدْتَ لَهُمْ؟ وَمَاذَا جَزَيْتَهُمْ؟ قَالَ: أَمَّا الزُّهَادُ فِيْ الدُّنْيَا فَإِنِّيْ أَبَحْتُهُمْ جَنَّتِيْ يتبوأون مِنْهَا حَيْثُ شَاؤُوْا، وَأَمَّا الوَرِعُوْنَ الْمُتَوَرِّعُوْنَ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ لَمْ يَبْقَ عَبْدٌ إِلاَّ ناَقَشْتُهُ وَفتَّشْتُهُ إِلاَّ الوَرِعِيْنَ فَإِنَّيْ أَسْتَحْيِيهِمْ وَأُجِلُّهُمْ وَأُكْرِمُهُمْ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِغيْرِ حِسَابٍ، وَأَمَّا البَكَّاؤُوْنَ مِنْ خَشْيَتِيْ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الرَّفِيْقُ الأَعْلَى لاَ يُشَارَكُوْنَ فِيْهِ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن خيثمة رحمه الله تعالى قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام: جربنا العيش - لينه وشديده - فوجدناه يكفي منه أدناه (¬2). وعن فرقد السبخي رحمه الله قال: كان سليمان عليه السلام يأكل خبز الشعير [بالنوى]، ويُطعم الناس الخبز الجواري (¬3). وذكر الثعلبي في تفسير قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ (26)} [آل عمران: 26] عن أبي بكر الوراق رحمه الله قال: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ (26)} [آل عمران: 26]؛ يعني: ملك النفس حتى يغلب هواه كما آتى سليمان عليه السلام؛ كان يأكل خبز الشعير ويُطعم الجواري، وكان ¬
يلبس المرقعة، ولم ينظر إلى السماء أربعين سنة تخشعاً، وكان يدخل المسجد فيرى فقيراً يقعد إلى جنبه ويقول: مسكين جالسَ مسكيناً (¬1). وروى الإمامان أبو بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل عن ثابت البناني رحمه الله تعالى قال: قال رجل لعيسى بن مريم عليهما السلام: لو اتخذت حماراً تركبه لحاجتك؟ قال: أنا أكرم على الله أن يجعل لي شيئًا يشغلني عنه (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن عبيد بن عمير رحمه الله قال: كان عيسى ابن مريم عليهما السلام لا يرفع غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء، وكان يقول: إنَّ مع كل يومٍ رزقه، وكان يلبس الشعر، ويأكل من الشجر، وينام حيث أمسى (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: كان عيسى بن مريم عليهما السلام يلبس الشعر، ويأكل من الشجر، ولا يُخبأ اليوم لغد، وَيبْيتُ حيث أتاه الليل، ولم يكن له ولد يموت ولا بيت يخرب (¬4). ¬
وروى ابنه في "زوائده" عن ضمرة بن شوذب قال: قال عيسى عليه السلام: جودة الثياب من خيلاء القلب (¬1). وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: إني كببتُ الدنيا بوجهها وقعدت على ظهرها، فليس لي ولد فيموت ولا بيت فيخرب، فقالوا له: أفلا تتخذ لك بيتًا، قال: ابنوا لي على طريق السيل بيتًا، قالوا: لا يثبت، قالوا: أفلا نتخذ لك زوجة؟ قال: ما أصنع بزوجة تموت؟ (¬2) وروى الدينوري في "المجالسة" عن المعتمر بن سليمان التيمي رحمهما الله قال: خرج عيسى عليه السلام على أصحابه وعليه جُبَّة من صوف، وكساء، وتُبان حافيًا باكياً شَعِثًا، مُصْفر اللون من الجوع، يابس الشفتين من العطش، فقال: السلام عليكم يابني إسرائيل، أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن الله ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين بيتي؟ قالوا: أين بيتك يا روح الله؟ قال: بيتي المساجد، وطيبي الماء، وإدامي الجوع، وسراجي القمر بالليل، وصلاتي [في الشتاء مشارق] الشمس، وريحاني بقول الأرض، ولباسي الصوف، وشعاري خوف رب العزَّة، وجلسائي الزَّمنى والمساكين، أُصبح وليس لي شيء، وأُمْسِي وليس لي شيء، وأنا طيب النفس، غني مكثر، فمن أغنى مني وأربح؟ (¬3) ¬
تنبيه
واعلم أنَّ المروي من زهد الأنبياء عليهم السلام ومواعظهم في ذلك خصوصًا عن سيدنا عيسى عليه السلام لا يمكن حصره لكثرته، وفي هذا القدر كفاية لمن أنعم الله عليه بالهداية. * تَنْبِيْهٌ: قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ (77)} [النساء: 77]. وفي الحديث: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوْضَةٍ مَا سَقَىْ كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ" (¬1). ولمَّا تحقق الأنبياء عليهم السلام والصالحون قلةَ الدنيا وحقارتها عند الله وفناءها، دعاهم ذلك إلى الزهد فيها، والرغبة فيما عند الله تعالى. قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ (96)} [النحل: 96] وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "ذم الدنيا" عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء ملك الموت إلى نوح عليهما السلام فقال: يا أطول النبيين عمراً! كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: كرجل دخل بيتًا له بابان، فقال وسطَ البيت هنيهة، ثم خرج من الباب الآخر (¬2). ولأبي العتاهية: [من مجزوء الرمل] نُحْ عَلى نَفْسِكَ يا مِسْـ ... ـكِيْنُ إِنْ كُنْتَ تَنُوْحُ لتمُوْتَنَّ وَإِنْ عُمْـ ... ـمِرْتَ ما عُمِّرَ نُوْحُ ¬
تنبيه آخر
* تَنْبِيْهٌ آخَرُ: روى أبو نعيم عن أحمد بن أبي الحواري قال: ثنا هشام بن عمرو قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى وعيسى عليهما السلام: يا موسى، ويا عيسى! من أجل دنيا دنية وشهوة ردية تفرطان في طلب الآخرة؟ يا موسى، وعيسى! حتى متى أُطيل النسيئة وأحسن الطلب؟ (¬1) قلت: هذا من باب الرواية بالمعنى؛ إذ أوحى الله ذلك إلى كل واحد منهما في زمانه. وقوله: "من أجل دنيا دنيئة وشهوة ردية تفرطان في طلب الآخرة" معناه: أيليق ذلك فلا تفعلانه، ولا يلزم من ذلك أن يكونا قد طلبا الدنيا أو أخذتهما الشهوة حتى منعتاهما طلب الآخرة لأنهما معصومان، والمشهور من زهدهما لا يخفى، والمراد بذلك تقريع من يعمل ذلك من أمتهما. قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت بذلك أبا سليمان رحمه الله تعالى فقال لي: إذا كان موسى وعيسى معاتبين، فأي شيء يقال لمثلي ومثلك؟ وأي شيء أصابا من الدنيا؛ جبة صوف وكسرة؟ (¬2) قلت: ومخاطبتهما بذلك أبلغ من مخاطبة أمتيهما في ردع الأمم، ¬
ومن أخلاق الأنبياء عليهم السلام
ومثله قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (65)} [الزمر: 65] وأمثاله من مخاطبات الأنبياء، والمراد أممهم. وفي المعنى المثل السائر: إيَّاك أعني واسمعي يا جارة. ومن أخلاق الأنبياء عليهم السلام: 51 - اليقين. قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61 - 62]. وروى ابن أبي الدنيا عن بكر بن عبد الله قال: فقد الحواريون عيسى عليه السلام، فقيل لهم: توجه نحو البحر، فانطلقوا يطلبونه إذا هو قد أقبل يمشي على الماء، فقال له بعضهم: ألا أجيء إليك يا نبي الله؟ قال: بلى، فوضع إحدى رجليه ثم ذهب ليضع الأخرى فقال: آه، غرقت يا نبي الله، فقال: أرني يدك يا قصير الإيمان، لو أنَّ لابن آدم من اليقين قدر شعيرة مشى على الماء (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: يقول بعضهم: اجلس في بيتك وأغلق عليك بابك فانظر، هل يأتيك رزقك؟ نعم لو كان مثل يقين مريم وإبراهيم عليهما السلام، وأغلق عليه بابه، وأرخَى عليه ستره (¬2). ¬
52 - ومنها: التوكل والتفويض والتسليم.
وروى ابن أبي الدنيا عن الفضيل رحمه الله تعالى قال: قيل لعيسى عليه السلام: بأي شيء تمشي على الماء؟ قال: بالإيمان واليقين، قالوا: إنّاَ آمنَّا كما آمنت، وأيقنا كما أيقنت، قال: فامشوا إذاً، فمشوا معه، فجاء الموج فغرقوا، فقال لهم عيسى: ما لكم؟ قالوا: خفنا الموج، قال: ألا خفتم رب الموج، قال: فأخرجهم، ثم ضرب بيده إلى الأرض فقبض بها ثم بسطهما، فإذا في إحدى يديه ذهب، وفي الأخرى مدر (¬1) أو حصى، فقال: أيهما أجلُّ في قلوبكم؛ قالوا: هذا الذهب، قال: فإنهما عندي سواء (¬2). وروى أبو الشيخ عن أبي الخير البصري رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: تزعم أنك تحبني وتُسيء بي الظن صباحًا ومساءً، أما كانت لك عبرة أن شققت سبع أرضين فأريتك ذرة في فِيها برة ما نسيتها (¬3). قلت: وهذا في كتاب الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. 52 - ومنها: التوكل والتفويض والتسليم. قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} [الصافات: 103]. وقال تعالى يحكي عن هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي ¬
وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]. وقال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود: 88]. وقال تعالى حكاية عنه مترجِمًا عن نفسه وعن المؤمنين من قومه: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [الأعراف: 89]. وقال تعالى: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)} [الشعراء: 61]. وهذا يدل على أنه كان في أعلى طبقات التوكل والثقة بحفظ الله تعالى؛ لأنه قاله وهو بين البحر، وبين العدو، والعدو أضعاف أضعافهم، وهم في غاية الحَنَق والغيظ عليهم، فلما كان بهذه المثابة من اليقين والتوكل على الله تعالى فَرَقَ له البحر. وقال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)} [يوسف: 67]. وقال تعالى حكاية عن الرسل عليهم السلام: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا (12)} [إبراهيم: 12]. وروى ابن النجار في "تاريخه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِيْ النَّارِ قَالَ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ، فَمَا احْتَرَقَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضعُ الكِتَابِ". وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: حسبنا الله ونعم
الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران: 173] (¬1). وروى ابن أبي شيبة، وابن حنبل في "الزهد" عن سالم بن أبي الجعد رحمه الله تعالى قال: قال عيسى عليه السلام: اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم، انظروا إلى هذه الطير تغدو وتروح، لا تحرث ولا تحصد، الله يرزقها، فإن قُلتم نحن أعظم بطونًا من الطير فانظروا إلى هذه الأباقر والحمر تغدو وتروح، ولا تحرث ولا تحصد، الله يرزقها، اتقوا فضول الدنيا؛ فإنَّ فضول الدنيا رجز (¬2)؛ أي: عذاب. وهذا كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: الدنيا حلالها حساب، وحرامها عقاب، وفي رواية: عذاب. رواه ابن أبي الدنيا (¬3). وأخرجه بعضهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. وإنما أطلق عيسى عليه السلام على فضول الدنيا أنها رجز؛ إما باعتبار شريعته، وإما باعتبار أن الفضول إن كان حرامًا فذاك، وإن كان حلالاً كان حساباً، والحساب عذاب أيضًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نُوْقِشَ الحِسابَ عُذِّبَ". رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها (¬4). ¬
53 - ومنها: الاكتساب والأكل من كد اليمين وعرق الجبين
وروينا عن مسلم بن ميمون العابد - رضي الله عنه - قال: [الوافر] أَرَىْ الدُّنْيا لِمَنْ هِيَ فِيْ يَدَيْه ... عَذاباً كُلَّما كَثُرَتْ لَدَيْهِ تُهِيْنُ الْمُكْرِمِيْنَ لَها بِصُغْرٍ ... وَتُكْرِمُ كُلَّ مَنْ هانَتْ عَلَيْه فَدَعْ مِنْها الفُضُوْلَ تَعِشْ حَمِيْداً ... وَخُذْ ما أَنْتَ مُحْتاجٌ إِلَيْهِ (¬1) 53 - ومنها: الاكتساب والأكل من كد اليمين وعرق الجبين، والقيام على العيال، وتعاطي الأشغال من غير اعتماد عليها ولا اتكال، بل على الكبير المتعال. ولا مناقضة بين ذلك وبين التوكل؛ لأنَّ التوكل عبارة عن الثقة بالله والاعتماد عليه والافتقار إليه من غير ملاحظة تأثير للكسب وغيره من سائر الأسباب في شيء أصلاً. وقد حررت هذه المسألة في كتاب "منبر التوحيد"، وفصلتها تفصيلاً. قال الله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ (27)} [المؤمنون: 27]. الآية. ¬
وقال تعالى حكاية عن داود عليه السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ (80)} [الأنبياء: 80]. الآية وقال تعالى لآدم عليه السلام: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه: 117]. أشار سبحانه إلى أن رزق الدنيا لا ينال إلا بالشقاء؛ أي: بالتعب والحركة. روى الدينوري في "المجالسة" عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: لما أُهبط آدم عليه السلام قال: يا رب أطعمني، قال: أما والله دون أن تعمل عملاً يعرق منه جبينك فلا (¬1). وعن قتادة قال: لمَّا أُهبط آدم قيل له: لن تأكل الخبز بالزيت حتى تعمل عملاً مثل الموت. وروى أبو نعيم عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: أهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه، قال: وهو الذي قال الله تعالى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه: 117]، وكان ذلك شقاء (¬2). وعن إسحاق بن يسار رحمه الله: أنه كان يمر بالبزازين، فقال: الزموا تجارتكم؛ فإن أباكم إبراهيم عليه السلام كان بزازًا (¬3). ¬
وروى الإمام أحمد، وابن ماجه عن عتبة بن النّدّر (¬1) - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ آجَرَ نَفْسَهُ ثَمَانِيَ سِنِيْنَ أَوْ عَشْرًا عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والبخاري عن المقدام - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأَكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ لاَ يَأكُلُ إِلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ" (¬3). وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ نبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كَانَ لاَ يَأْكُلُ إِلاَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ" (¬4). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عروة رحمه الله قال: كان داود عليه السلام يصنع القفة من الخوص وهو على المنبر، ثم يبعث بها إلى السوق فيبيعها ويأكل ثمنها (¬5). وعن الحسن رحمه الله قال: قال داود عليه السلام: إلهي! أي رزقٍ أطيب؟ قال: ثمرة يدك يا داود. وروى هو في "المسند"، ومسلم، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ¬
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ نَجَّارًا" (¬1). وروى الدينوري عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57]؛ قال: "كانَ إِدْريْسُ خَيَّاطًا، وَزَكَرِيَّا نَجَّاراً" (¬2). وروى الحاكم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ آدم كان حرَّاثًا وكذلك إبراهيم، وكان نوح نجاراً، وإدريس خياطاً، وداود زرادًا (¬3)، وموسى راعيًا وكذلك شعيب، وكان صالح تاجراً، عليهم الصلاة والسلام (¬4). وروى ابن عساكر عنه نحوه إلا أنه قال: وكان هود تاجراً - ولم يذكر صالحًا -، وكان إبراهيم راعيًا، وكان سليمان خواصًا (¬5)، وكان موسى أجيراً، وكان عيسى سياحًا، وكان محمد - صلى الله عليه وسلم - شجاعًا، جعل رزقه تحت ظل رمحه (¬6). وروى الديلمي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ مَنْ حَاكَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ" (¬7). ¬
وروى ابن عساكر بسند ضعيف، عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَبَطَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عَرْيَانينِ عَلَيْهِمَا وَرَقُ الْجَّنَةِ، فَأَصَابَهُ الْحَرُّ حَتَّى قَعَدَ يَبْكِيْ وَيقُوْلُ لَهَا: يَا حَوْاءُ قَدْ آذَانِيَ الْحَرٌّ، فَجَاءَهُ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِقُطْنٍ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَغْزِلَ وَعَلَّمَهَا، وَأَمَرَ آدَمَ بِالْحِيَاكَةِ وَعَلَّمَهُ" (¬1). وروى ابن سعد عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن الله تعالى لما رأى عري آدم وحواء أمره أن يذبح كبشا من الضأن من الثمانية أزواج التي أنزل الله تعالى من الجنة - وهي: الإبل والبقر، والضان والمعز - فأخذ آدم كبشًا فذبحه، ثم أخذ صوفه فغزلته حواء ونسجه هو [وحواء]، فنسج آدم جُبة لنفسه، وجعل لحواء درعًا وخمارًا (¬2). قلت: يجمع بين هذا والذي قبله أن القطن غزلته ونسجه قميصين لما يلي البدن، والصوف دِثارًا فوق ذلك. ولقد أحسن من قال مشيرًا إلى الحركة والسبب: [من الطويل] ألمْ تَرَ أَنَّ اللهَ قالَ لِمَرْيَمٍ ... إِلَيْكِ فَهُزِّيْ الْجِذْعَ يَسَّاقطِ الرُّطَبْ وَلَوْ شاءَ أَنْ تَجْنِيهُ مِنْ غَيْرِ هَزِّها ... لَكانَ وَلَكِنْ كُلّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبْ (¬3) ¬
تنبيه
* تَنْبِيْهٌ: روى سعيد بن منصور في "سننه"، والحاكم في "تاريخه"، وغيرهما عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُوْنَ مِنَ التَّاجِرِيْنَ، وَلَكِنْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِيْنَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىْ يَأْتِيَكَ اليَقِيْنُ" (¬1). وهذا ليس ذمًّا لمطلق التجارة حتى يكون هذا شغلاً مع أن هوداً وصالحاً وإبراهيم عليهم السلام كانوا تجارًا، وقد ثبتت التجارة ورعاية الغنم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل التبرؤ، ولم يَنْهَ التجار من أصحابه عن التجارة كابن عوف وغيره، - رضي الله عنهم -. نعم إذا كانت التجارة للتكاثر ونحوه من الأغراض الفاسدة كانت مذمومة، وعليه يُحمل حديث أبي مسلم، ولذلك جمع بين التبرؤ منها وجمع المال. ويؤيده رواية ابن مردويه، والديلمي عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَكُوْنَ تَاجِرًا، وَلاَ أَجْمَعَ الْمَالَ تَكَاثُرًا، وَلَكِنْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِيْنَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىْ يَأْتِيَكَ اليَقِيْنُ" (¬2). وفي ذلك أن التجارة بالنية الصالحة، ومراعاة الشريعة فيها واجتناب المحظور خلق نبوي وكسب طيب. ¬
وقد روى أبو نعيم عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: وقف سائل على باب داود عليه السلام فقال: يا أهل بيت النبوة، ويا معدن الرسالة! تصدقوا علينا بشيء رزقكم الله رزق التاجر المقيم في أهله، فقال داود: أعطوه فوالذي نفسي بيده إنها لفي الزبور (¬1). قلت: يحتمل أنه أراد الدعاء لهم بأن يرزقهم الله رزق التاجر المقيم في أهله بأن يتعاطوا التجارة مع الإقامة والراحة فيربحون؛ وعليه: فإقرار داود عليه السلام لهذا الدعاء دليل على استحسان التجارة مع الإقامة بدون معاناة سفر ومُقاساة حل وترحال، كيف وقد أكد ذلك بأنه في الزبور مع الإقسام على ذلك. ويحتمل أنه أراد الدعاء بحصول مطلق الرزق مع الراحة والإقامة كراحة التاجر المقيم في أهله وربحه، أو بحصوله شيئًا فشيئاً في كل يوم رزق جديد مع الراحة وعدم الكلفة وعدم تحمل للأسفار والضرب في البلاد، وهذا رفق عظيم. ويروى لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: [من الرجز] أَفْلَحَ مَنْ كانَ لَهُ قَوْصَرَّة ... يَأْكُلُ مِنْها كُلَّ يَوْمٍ تَمْرة (¬2) ¬
تنبيه أيضا
* تَنْبِيْهٌ أَيْضاً: ليس الاكتساب والطلب لإغناء النفس وكفاية العيال من طلب الدنيا، فيكون بهذه النية مذموماً. قال الماوردي في "أدب الدين والدنيا": حكى مقاتل أن إبراهيم عليه السلام قال: يا رب! [حتى] متى أتردد في طلب الدنيا؟ فقيل له: أمسك عن هذا، فليس طلب المعاش من طلب الدنيا، انتهى (¬1). وروى عبد بن حميد، وابن مردويه، وابن عساكر عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! كم أنزل الله من كتاب؟ قال: "مِئَةُ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةُ كُتُبٍ، أَنْزَلَ عَلَىْ شيث خَمْسِيْنَ صَحِيْفَةً، وَعَلَىْ إِدْريسَ ثَلاَثِيْنَ صَحِيْفَةً، وَعَلَىْ إِبْرَاهِيْمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَعَلَىْ مُوْسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيْلَ وَالزَّبُوْرَ وَالفُرْقَانَ". قلت: يا رسول الله! فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: "أَمْثَالٌ كُلُّهَا؛ أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَىْ الْمَغْرُررُ، لَمْ أَبْعَثْكَ لِجَمْع الدُّنْيَا بَعْضِهَا إِلَىْ بَعْضٍ، وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّيْ دَعْوَةَ الْمَظْلُوْمِ؛ فَإِنَّيْ لاَ أَرُدُّهَا وَلَوْ كَانت مِنْ كَافِرٍ. وَعَلَى العَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوْبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ ثَلاَثُ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ يُنَاجيْ فيْهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيْهَا نَفْسَهُ وَيَتَفْكَّرُ فِيْمَا ¬
54 - ومنها: الاستشارة.
صَنَعَ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيْهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ الحَلاَلِ؛ فَإِنَّ فِيْ هَذِهِ السَّاعَةِ عَوْناً لِتِلْكَ السَّاعَاتِ وَاسْتِجْمَاعَا لِلْقَلْبِ وَتَفْرِيْغًا لَهَا. وَعَلَىْ العَاقِلِ أَنْ يَكُوْنَ بَصِيْرًا بِزَمَانِهِ، مُقْبِلاً عَلَى شَانِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ؛ فإِنَّ مَنْ حَسَبَ كَلاَمَهُ مِنْ عَمَلِهِ أقلَّ الكَلاَمَ إِلاَّ فِيْمَا يَعْنِيْهِ. وَعَلَىْ العَاقِلِ أَنْ يَكُوْنَ طَالِبًا لِثَلاَثٍ: مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ، أَوْ تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ، أَوْ تَلَذُّذٍ مِنْ غَيْرِ مُحَرَّمٍ". قلت: يا رسول الله! فما كانت صحف موسى؟ قال: "كَانَتْ عِبَراً كُلُّها؛ عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالمَوْتِ ثُمَّ يَفْرَحُ، وَلِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَضْحَكُ، وَلِمَنْ يَرَىْ الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، وَلِمَنْ أَيْقَنَ بِالقَدَرِ ثُمَّ يَنْصَبُ، ولِمَنْ أَيْقَنَ بِالحِسَابِ ثُمَّ لا يَعْمَلُ". قلت: يا رسول الله! هل أنزل الله عليك شيئًا مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: "يا أَبا ذَرٍّ! نعَمْ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)} [الأعلى: 14 - 19] " (¬1). 54 - ومنها: الاستشارة. والظاهر أن الاستخارة كذلك؛ لأن الأنبياء عليهم السلام أحق ¬
تنبيه
بها، وحديث الاستخارة وتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها في "صحيح البخاري" و"سنن الأربعة" رحمهم الله تعالى، وهما قرينتان (¬1). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلاَ نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ، ولاَ عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ". رواه الطبراني في "الكبير" عن أنس - رضي الله عنه - (¬2). وروى ابن أبي شيبة، والبيهقي عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى قال: قال سليمان بن داود لابنه عليهم السلام: يابني! لا تقطع أمرًا حتى تؤامر مرشداً؛ فإنك إذا فعلت لم تحزن عليه (¬3). وقال الحسن رحمه الله: ما تشاور قومٌ إلا هدوا لأرشد أمرهم (¬4). * تَنْبِيْهٌ: لا يلزم أن يكون المستشار أفضل من المستشير ولا أعلم منه، بل يستشيره وإن كان دونه؛ ألا ترى أن الله تعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يستشير أصحابه وهم دونه؟ وروى ابن عساكر عن محمد ابن الإمام عبد الرحمن الأوزاعي رحمهما الله: أنه سمع أباه يقول: ما من أحدٍ يشاور من هو دونه في ¬
العلم والرأي والعقل تواضعًا له واستكانة إلا عزم الله له بأرشد أموره. قال محمد: فلقد رأيت أبي وهو يشاور الخادم (¬1). نعم، العاقل العارف أولى بالمشاورة، وإذا تعارضت إشارته وإشارة من دونه فإشارته أولى بالاتباع. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: استشر في أمرك الذين يخشون الله؛ فإنَّ الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (28)} [فاطر: 28]. رواه الحاكم في "تاريخه"، والخطيب في "المتفق والمفترق" (¬2). ويرجع كلام عمر إلى أنَّ الأولى بأن يستشار أهل العلم العاملون لأنهم الذين يخشون الله تعالى؛ فإن الخشية تدعوهم إلى العمل، والعمل بالعلم ينتج النطق بالحكمة وإملاء الصواب، وهم الألباء أصحاب العقول السديدة والآراء الحميدة. ولقد أحسن أبو الفتح البستي الكاتب الأديب في قوله: [من الوافر] خَصائِصُ مَنْ تُشاوِرُهُ ثَلاثٌ ... فَخُذْ مِنْها جَمِيْعاً بِالْوَثيْقَةْ وِدادٌ خالِصٌ وَوُفُورُ عَقْلٍ ... وَمَعْرِفَةٌ بِحالِكَ فِيْ الْحَقِيْقَةْ ¬
55 - ومنها: مداراة الناس ومخالقتهم بأخلاقهم من غير إثم إذا احتيج إلى مخالقتهم، وخصوصا لأجل تعليمهم وإرشادهم؛ فإن ذلك أيضا من أخلاق الأنبياء عليهم السلام.
فَمَنْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِي الْمَعانِي ... فَتابِعْ رَأْيَهُ وَالْزَمْ طَرِيْقَه 55 - ومنها: مداراة الناس ومخالقتهم بأخلاقهم من غير إثم إذا احتيج إلى مخالقتهم، وخصوصاً لأجل تعليمهم وإرشادهم؛ فإن ذلك أيضًا من أخلاق الأنبياء عليهم السلام. روى ابن أبي الدنيا في كتاب "المداراة" عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي قال: جلس داود عليه السلام خاليًا فقال الله عز وجل: ما لي أراك خاليًا؟ قال: هجرتُ الناس فيك يا رب العالمين، قال: يا داود! ألا أدلُّك على ما يستثني وجوه الناس إليك وتبلغ به رضائي؟ خالق الناس بأخلاقهم، واحتجز الإيمان بيني وبينك (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن الأوزاعي رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود! ألا أعلمك علمين إذا عملتهما ألقيت بهما وجوه الناس إليك، وبلغت بهما رضائي؟ قال: بلى يا رب، قال: احتجز فيما بيني وبينك بالورع، وخالط الناس بأخلاقهم (¬2). وروى والده عن الحسن رحمه الله قال: سأل موسى عليه السلام جماعًا - يعني: من القول -، فأوحى الله إليه: انظر الذي تحب أن ¬
تنبيه
يصاحبك به الناس فصاحب به الناس (¬1). وعن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: كان عيسى ويحيى عليهما السلام يأتيان القرية، فيسأل عيسى عليه السلام عن شرار أهلها، ويسأل يحيى عن خيار أهلها، فقال له: لِمَ تنزل على شرار الخلق؟ قال: إنما أنا طبيب أداوي المرضى (¬2). وروى ابن أبي الدنيا، والديلمي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ أَمَرَنِيْ بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِيْ بِإِقَامَةِ الفَرَائِضِ" (¬3). * تَنْبِيْهٌ: المداراة والمخالقة يفرق بينهما وبين الرياء بأنه طلب محمدة الناس بفعل أو ترك، أو طلب شيء من الدنيا بالطاعة، وأما المداراة والمخالقة فإنها طلب صلاح الناس أو سلامته من شرورهم بحسن خطابهم أو بالتواضع معهم والتلطف بهم مع ملاحظة الورع فيما بينه وبين الله تعالى، وطمأنينة قلبه بذكر الله تعالى، والتعلق به في كل نفع ودفع. ومن شرطهما أن لا يتجاوز إلى معصية الله تعالى في مداراتهم؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ¬
ويكفيك في هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبعِ السَيَّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بَخُلُقٍ حَسنٍ". رواه الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، من حديث أبي ذر، ومن حديث معاذ، وابنُ عساكر من حديث أنس - رضي الله عنه - (¬1). ولوالدي رحمه الله تعالى في عقد الحديث: [من الرمل] اتَّقِ اللهَ تَعالَىْ حَيْثُ كُنْـ ... ـتَ وَأتْبعْ سَيَّئَاتٍ حَسَنَةْ خالِقِ النَّاسَ بِخُلْقٍ حَسَنٍ ... وَالْحَدِيْثُ التِّرْمِذِيْ قَدْ حَسَّنَه وفي قوله: "أتبع سيئات حسنة" نكته لطيفة، وهي الإشارة بجمع سيئات وإفراد حسنة إلى أن الحسنة الواحدة تُكفر عدة من السيئات وهي عشر، ولا يفهم هذا من لفظ الحديث وإنما هو مأخوذ من نص آخر، وقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (114)} [هود: 114] يتناوله. وقد قلت (¬2): [من الرمل] ¬
56 - ومنها: الصبر على جور الحكام،
مِنْ وَصايا الْمُصْطَفى خَيْرِ الْوَرَى ... سَيِّدِ الرُّسْلِ إِمامِ الْمُتَّقِيَن لَمْ يَزَلْ تَهْمِيْ عَلَيْهِ دائِمًا ... صَلَواتٌ وَسَلامٌ كُلَّ حِيْنِ اتَّقِ اللهَ تَعالى حَيْثُما ... كُنْتَ، فَالتَّقْوَى لَنا نِعْمَ الْقَرِيْن ثُمَّ أَتْبعْ سَيَّئاتٍ حَسَناتْ ... فَهْوُ يَمْحُوْهُنَّ بِالنَّصِّ الْمُبِيْن خالِقِ النَّاسَ بِخُلْقٍ حَسَنٍ ... تَكْسِبِ الْحُبَّ وَتُفْدَى بِالأبين 56 - ومنها: الصبر على جور الحكام، ووقاية النفس والعرض بما يدفع إليهم من المكوس وغيرها من غير اختيار لذلك ولا إعراض عن إنكاره مع التسليم لقضاء الله تعالى، وكلة الأمر إليه واللجاء إليه. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عبد الله الداراني رحمه الله قال: مرَّ عيسى عليه السلام ومعه صاحب له على ماكس، فقال: أرجو ألاَّ يمر به أحد إلا أخذ من رأسه دينارًا، فقال عيسى لصاحبه: اذهب إلى مكان كذا من ساحل البحر، فسترى حوتًا في فِيْه دنانير ولا تزد على دينارين، فذهب حيث أمره عيسى فإذا حوت في فِيْه
57 - ومنها: النصيحة للخلق، ووعظهم وتذكيرهم، ووصيتهم بالتقوى وقبول النصيحة والوصية.
دنانير، فأخذ من فِيْه دينارين، فقال: أعطهما إياه، فقال: جوزا، فلما جازا قيل للماكس: تدري من هذا الذي مرَّ بك؟ قال: لا، قالوا: عيسى ابن مريم عليهما السلام، فتبعه يسعى حتى لحقه فقال: يا رسول الله! لم أعرفك، وجعل يتضرع إليه وخاف دعاءه، فقال عيسى: يؤخذ الماكس والبزاز يوم القيامة، فيُقرنان في حبل ثم يُقذفان في النار. وقوله: والبزاز: هو الجبار الذي يغلب الناس على متاعهم، من قولهم: بزَّه: إذا غلبه وقهره، وفي المثل: مَنْ عزَّ بز؛ أي: غلب، وليس هو بائع البُز. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن سعيد بن عبد العزيز عن أشياخه: أنَّ عيسى عليه السلام مرَّ بعقبه أَفْيق ومعه رجل من حوارييه، فاعترضهما رجل فمنعهما الطريق وقال: لا أترككما تجوزان حتى ألطم كل واحد منكما لطمة، فادَّارآه فأبى إلا ذلك، فقال عيسى عليه السلام: أما خدِّي فالطمه، قال: فلطمه فخلَّى سبيله، وقال للحواري: لا أدعك تجوز حتى ألطمك، فتَمَنَّع، فلما رأى عيسى عليه السلام ذلك أعطاه خده الآخر فلطمه، فخلَّى سبيلهما، فقال عيسى عليه السلام: اللهم إن كان لك رضى فبلغني رضاك، وإن كان سخطاً فأنت أولى بالغيرة (¬1). 57 - ومنها: النصيحة للخلق، ووعظهم وتذكيرهم، ووصيتهم بالتقوى وقبول النصيحة والوصية. قال الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: 132]. ¬
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: وصَّاهم بالإسلام ووصَّى يعقوب بنيه بمثل ذلك. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). ووصية الخضر لموسى عليهما السلام معروفة، والإشارة إليها في كتاب الله تعالى. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الهذيل رحمه الله تعالى قال: لقي عيسى يحيى عليهما السلام فقال: أوصني، قال: لا تغضب قال: لا أستطيع، قال: لا تقتنِ مالاً، قال: أمَّا هذه فلعله (¬2). وعن عبد الله بن الحارث رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى داود: يا داود! أحبني، وأحب عبادي، وحببني إلى عبادي، قال: يا رب! هذا أحبك وأحب عبادك، فكيف أحببك إلى عبادك؟ قال: تذكرني عندهم؛ فينهم لا يذكرون مني إلا الحسن (¬3). وعن أبي عبد الله الجدلي رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود! أحبني، وأحب من يحبني، وحببني إلى عبادي، قال: يا رب كيف؟ هذا أحبك وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى عبادك؟ قال: اذكرني فلا تذكر إلا حسناً (¬4). ¬
58 - ومنها: العزلة والانفراد عن الناس إلا في حال الدعوة والتعليم، والاختلاء بالله على كل حال.
58 - ومنها: العزلة والانفراد عن الناس إلا في حال الدعوة والتعليم، والاختلاء بالله على كل حال. قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)} [مريم: 48، 49]. في الآية إشارة بأنَّ العبد إذا اعتزل الناس في ذات الله تعالى عوَّضه عنهم من يؤنسه فيه وتقر به عينه. وروى الدينوري، وغيره عن وهب رحمه الله تعالى قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: إذا أردت أن تسكن غداً معي في حظيرة القدس فكن في الدنيا وحيداً فريداً، مهموماً محزوناً كالطائر الوحداني يظلُّ في رياض الفلاة، وَيرِدُ أطراف العيون، ويأكل أطراف الشجر، فإذا جنَّ عليه الليل آوى وحده استيحاشاً من الطير، واستئناساً بربه (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: إنَّ أحبَّ شيء إلى الله الغرباء، قيل: وما الغرباء؟ قال: الفرارون بدينهم، يجمعون إلى عيسى عليه السلام يوم القيامة (¬2). ¬
59 - ومنها: الصمت إلا عن خير.
وعن أبي إدريس الخولاني رحمه الله تعالى قال: ألا أخبركم من كان أطيب الناس طعاماً؟ فلما رأى الناس قد نظروا إليه قال: إنَّ يحيى بن زكريا عليهما السلام كان أطيب الناس طعاماً، إنما كان يأكل مع الوحش كراهية أن يُخالط الناس في معاشهم (¬1). 59 - ومنها: الصمت إلا عن خير. روى ابن أبي الدنيا في "الصمت" عن سفيان قال: قالوا لعيسى عليه السلام: دُلَّنا على عمل ندخل به الجنة؟ قال: لا تنطقوا أبداً، قالوا: لا نستطيع ذلك، قال: فلا تنطقوا إلا بخير (¬2). وعن عبد العزيز بن أبي رواد رحمه الله تعالى قال: قال رجل لسليمان عليه السلام: أوصني، قال: لا تتكلم، قال: وكيف يصبر رجل على أن لا يتكلم؟ قال: فإن كنت لا تصبر عن الكلام، قال: فلا تتكلم إلا بخير أو اصْمُتْ (¬3). وروى هو والأصبهاني في "الترغيب" عن الأوزاعي رحمه الله قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام: إنْ كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب (¬4). ¬
وروى أبو نعيم عن عكرمة رحمه الله قال: قال لقمان لابنه عليهما السلام: قد ذقت المرار فليس شيءٌ أمرَّ من الفقر، وحملتَ الحِمْل الثقيل فليس شيء أثقل من جار السوء، ولو أن الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب (¬1). ولقمان ليس بنبي على الأصح، وإنما أشرنا بكلامه إلى توارده هو وسليمان عليه السلام على هذه الحكمة، أو أن سليمان سمعها من لقمان فقررها؛ لأنَّ لقمان كان من أقران أبيه داود عليه السلام. وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله في المعنى، كما رواه عنه ابن أبي الدنيا وغيره: [من المنسرح] جَرَّبْتُ نَفْسِيْ فَما وَجَدْتُ لَها ... [من] بَعْد تَقْوَى الإِلَهِ مِنْ أَدَبِ فِيْ كُلِّ حالاتِها وَإِنْ كَرِهَتْ ... أَفْضَلَ مِنْ صَمْتِها عَنِ الْكَذِبِ وَغِيْبَةِ النَّاسِ إِنَّ غِيْبَتَهُمْ ... حَرَّمَها ذُو الْجَلالِ فِيْ الْكُتُبِ قُلْتُ لَها طائِعاً وَأُكْرِهُها ... الْحِلْمُ وَالْعِلْمُ زَيْنُ ذِيْ الأَدَبِ ¬
60 - ومنها: التنزه عن خائنة الأعين.
إِنْ كانَ مِنْ فِضَّةِ كَلامُكِ يا ... نَفْسُ فَإِنَّ السُّكُوْتَ مِنْ ذَهَبِ (¬1) 60 - ومنها: التنزه عن خائنة الأعين. روى أبو داود، والنسائي، والحاكم وصححه، عن سعد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُوْنَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنْ" (¬2). والمراد بخائنة الأعين: الإيماء إلى أحد أن يفعل شيئاً لم يأمر به صريحاً. وروى الإمام أحمد، وأبو داود، عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِيْ لِنَبِىٍّ أَنْ يُوْمِضَ - أَيْ: يُوْمِئَ - بِيَدِهِ أَوْ عَيْنْهِ إِلَىْ مَا لاَ يَأْمُرُ بِهِ وَلاَ يَفْعَلُهُ" (¬3). وروى أبو نعيم عن سفيان رحمه الله تعالى: أنه سُئِلَ عن قوله - عز وجل -: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19]؛ قال: الرجل يكون في المجلس يسرق النظر في القوم إلى المرأة تمر بهم، فإن رأوه ينظر إليها اتقاهم فلم ينظر، وإن غفلوا عنه نظر، قال: وما تُخفي الصدور: ¬
ما يجد في نفسه من الشهوة (¬1). قلت: ومن خائنة الأعين مُسارقة النظر في القوم إلى الأمرد الجميل يكون حاضراً. روى أبو نعيم عن أبي الحسين النوري رحمه الله تعالى قال: رأيت غلاماً جميلاً ببغداد فنظرتُ إليه، ثم أردتُ أن أُردد النظر فقلت له: تلبسون النعال الصرارة وتمشون في الطرقات؟ قال: أحسنت، أتجمش بالعلم، ثم أنشأه يقول: [من الطويل] تَأَمَّلْ بِعَيْنِ الْحَقِّ إِنْ كُنْتَ ناظِرا ... إِلَىْ صِفَةٍ فِيْها بَدائِعُ فاطِرِ وَلا تُعْطِ حَظَّ النَّفْسِ مِنْها لِما بِها ... وَكُنْ ناظِراً بِالْحَقِّ قُدْرَةَ قادِرِ (¬2) قوله: أتجمش - بفتح الهمزة والمثناة، وإسكان الجيم، وضم الميم، وبالمعجمة، أو بضم المثناة فوق، وفتح الجيم، وكسر الميم مشددة -: من الجمش والجميش: وهما المغازلة والملاعبة. ويقال: رجل جماش: متعرض للنساء كأنه يطلب الركب الجميش؛ أي: المحلوق، وهو بفتح الراء والكاف: العانة أو منبتها، أو الفرج أو ظاهره. ¬
61 - ومنها: الحب في الله تعالى، والبغض في الله، والاجتماع على الله، والهجرة في الله سبحانه وتعالى.
وأراد الغلام أن يُعَرِّف أبا الحسين بأنه أظهر له الإنكار والنصيحة وهو يريد مغازلته ومداعبته وذلك عين خائنة الأعين، وكأن الغلام صاحب كشف وإشراف على حال أبي الحسين، ولذلك اعترف أبو الحسين بحقيقة ما وقع له معه، وأراد بهذه الحكاية الإخبار عن مقام الغلام والشهادة له والإشارة إلى من حاله التزهد والانقطاع إلى الله تعالى لا ينبغي التعرض لمثل ذلك ولا الاسترسال مع هوى نفسه، فربما يكشف حاله ويفضح من حيث لا يحتسب. ومن هنا قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِيْ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُوْنَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ"؛ لأن مقام الأنبياء منزه عن التنزل إلى الرخص بخائنة الأعين، والتسفل إلى حضيض متابعة هوى النفس ولو فيما يتسامح فيه في حق غيرهم، وكذلك من كان من أهل وراثة الأنبياء السالك على محجة الأصفياء والأولياء ينبغي له التصاون عن ذلك وأمثاله، فافهم. 61 - ومنها: الحب في الله تعالى، والبغض في الله، والاجتماع على الله، والهجرة في الله سبحانه وتعالى. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن محمد بن النضر الحارثي قال: أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران عليه السلام: كن يقظاناً مُرتاداً لنفسك أخداناً، فكل خَدَن لا يواتيك على مسرتي فهو لك عدو وهو يقسِّي قلبك (¬1). ¬
وروى الدينوري عن الفضيل بن عياض رحمه الله قال: أوحى الله إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام: أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت الراحة، وأما انقطاعك إليَّ فقد تعززت بي، ولكن هل عاديْتَ فيَّ عدواً أو واليْتَ فيَّ وليًّا (¬1). ورواه أبو نعيم، والخطيب في "تاريخه" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولفظه: "أَوْحَىْ اللهُ إِلَىْ نبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ أَنْ قُلْ لِفُلاَنٍ العَابِدِ: أَمَّا زُهْدُكَ فِيْ الدُّنْيَا فَتَعَجَّلْتَ الرَّاحَةَ، وَأَمَّا انْقِطَاعُكَ إِليَّ فَتَعَزَّزْتَ بِيْ، فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيْمَا لِيْ عَلَيْكَ، قَالَ: يَا رَبِّ! وَمَا لَكَ عَلَيَّ؟ قَالَ: هَلْ عَادَيْتَ فِيَّ عَدُوًّا؟ وَهَلْ وَالَيْتَ فِيَّ وَلِيًّا؟ " (¬2). وروى أبو الحسن بن جهضم عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: أنه لمَّا خرج سائحاً لَقِيَه رجلٌ حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فقال له: يا غلام! من أين وإلى أين؟ قال إبراهيم: من الدنيا إلى الآخرة، فقال له: يا غلام! أنت جائع؟ قال: نعم، قال: فقام الشيخ فصلى ركعتين خفيفتين وسلم، فإذا عن يمينه طعام، وعن يساره ماء فقال لي: كُل، فأكلت بقدر شبعي، وشربْتُ بقدر رِبي، فقال لي الشيخ: اعقل وافهم؛ لا تحزن، ولا تستعجل؛ فإنَّ العجلة من الشيطان. وإياك والتمرد على الله؛ فإنَّ العبد إذا تمرَّد على الله أورث الله قلبه ¬
62 - ومنها: الرحمة والشفقة على خلق الله تعالى، وخصوصا الضعفاء كاليتيم والمسكين والأرملة والخادم.
الظلمة والضلالة مع حرمان الرزق، ولا يُبالي الله في أي وادٍ هلك. يا غلام! إنَّ الله إذا أراد بعبدٍ خيراً جعل في قلبه سراجاً يفرق به بين الحق والباطل، والناس فيهما متشابهون. يا غلام! إني معلمك اسم الله الأكبر - أو قال: الأعظم - فإذا أنت جعت فادع الله حتى يُشبعك، وإذا عَطِشْت فادع الله حتى يرويك، فإذا جالست الأخيار فكن لهم أرضاً يطؤونك؛ فإن الله يغضب لغضبهم ويرضى لرضاهم. يا غلام! خذ كذا حتى آخذ كذا. قال إبراهيم: فلم أبرح، فقال الشيخ: اللهم احجبني عنه واحجبه عني، فلم أدرِ أين ذهب، فأخذتُ في طريقي ذلك وذكرت الاسم الذي علمني، فلقيني رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فأخذ بحجزتي وقال لي: حاجتك ومن لقيتَ في سفرك هذا؟ قلت: شيخاً من صفته كذا وكذا، وعلَّمني كذا وكذا، فبكى، فقلت: أقسمتُ عليك بالله مَنْ هذا الشيخ؟ قال: ذاك إلياس عليه السلام، أرسله الله إليك ليُعلمك أمر دينك، قلتُ له: فأنت يرحمك الله من أنت؟ قال: أنا الخضر عليه السلام (¬1). 62 - ومنها: الرحمة والشفقة على خلق الله تعالى، وخصوصاً الضعفاء كاليتيم والمسكين والأرملة والخادم. قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ¬
مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: الرضا عن الله تعالى والرحمة للخلق درجة المرسلين. رواه أبو نعيم (¬1). وروى هو وغيره عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] قال: الأواه: الرحيم (¬2). وعن قسامة بن زهير رحمه الله تعالى قال: بلغني أنَّ إبراهيم عليه السلام حدث نفسه أنه أرحم الخلق، قال: فرفعه الله حتى أشرف على أهل الأرض وأبصر أعمالهم، فلمَّا رآهم وما يفعلون قال: يا رب! دمر عليهم، فقال له ربه - عز وجل -: أنا أرحم بعبادي منك يا إبراهيم، فاهبط فلعلهم يتوبون ويرجعون (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عبد الرحمن بن أبزى - رضي الله عنه - قال: قال داود لسليمان عليهما السلام: كن لليتيم كالأب الرحيم، واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد (¬4). وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن كعب رحمه الله قال: قال الله تعالى: يا موسى! أتريدُ أن أملأ مسامعك يوم القيامة بما يسرُّك؟ ارحم ¬
63 - ومنها: العدل والقضاء بالحق.
الصغير كما ترحم ولدك، وارحم الكبير كما ترحم الصغير، وارحم الغني كما ترحم الفقير، وارحم المُعافى كما ترحم المبتلى، وارحم القوي كما ترحم الضعيف، وارحم الجاهل كما ترحم الحليم (¬1). قلت: ومعنى رحمة الكبير والغني والمعافى والقوي والحليم كما ترحم أضدادهم أنْ تنظر إليهم من حيث إنهم خلقٌ عاجزون تنقذ فيهم أحكام الله تعالى، فهم ضعفاء فقراء محتاجون إلى الله تعالى في عين قوتهم وغناهم وعافيتهم، فتطلبُ لهم من الله المعونة والتوفيق والهداية إلى الخير في حركاتهم وسكناتهم، وكذلك حال الأنبياء عليهم السلام مع الخلق كافة، وهي الحال المعبر عنها بقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] الآية. 63 - ومنها: العدل والقضاء بالحق. قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ} [ص: 26]. وفي "الصحيح": "مَنْ يَعْدِلُ إِذا لَمْ أَعْدِلْ" (¬2). وروى الحكيم الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاَث مَنْ أُوْتيَهُنَّ فَقَدْ أُؤْتِيَ مِثلَ مَا أُوْتِيَ آلُ دَاوُد؛ العَدْلُ فِيْ ¬
64 - ومنها: قول الحق عند من يخاف أو يرجى بحيث لا تأخذهم في الله لومة لائم.
الغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالقَصْدُ فِيْ الفَقْرِ وَالغِنَىْ، وَخَشْيَةُ اللهِ فِيْ السِّرِّ وَالعَلاَنِيَةِ" (¬1). 64 - ومنها: قول الحق عند من يخاف أو يُرجى بحيث لا تأخذهم في الله لومة لائم. وقد قُتِلَ يحيى وأبوه زكريا وأنبياء كثيرون في ذات الله تعالى وهم مصممون على الحق، وضايق اليهود عيسى عليه السلام حتى رفعه الله إليه، وصمم إبراهيم عليه السلام على الحق حتى أُلقي في النار وكانت عليه بَرْداً وسلاماً. وروى أبو نعيم عن بشر بن الحارث رحمه الله: أنه قيل له: لو تكلمت أيام ضُرِبَ أحمد بن حنبل رحمه الله فقال بشر: أتأمروني أن أقوم مقام الأنبياء؟ إنَّ أحمد بن حنبل قام مقام الأنبياء عليهم السلام (¬2). 65 - ومنها: القوة في دين الله تعالى، وأعمال الخير والأمانة والعفة. قال تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل: 36]. وقال تعالى حكاية عن بنت شعيب في حق موسى عليهم السلام: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]. ¬
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: قال - يعني: شعيب لابنته -: وما رأيت من قوته؟ قالت: جاء إلى البئر وعليها صخرة لا يقلها كذا وكذا فرفعها، قال: وما رأيتِ من أمانته؟ قالت: كنت [أمشي] أمامه فجعلني خلفه. رواه الطبراني (¬1). وروى الإمام أحمد، وابن ماجه عن عتبة بن النُّدَّر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إِنَّ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ آجَرَ نَفْسَهُ عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ" (¬2). وروى الإمام الشافعي رحمه الله في "مسنده" عن محمد بن علي ابن حسين، عن مولى لعثمان بن عفان قال: بينا أنا مع عثمان - رضي الله عنه - في مالٍ له بالعالية في يومٍ صائف إذ رأى رجلاً يسوق بكرين وعلى الأرض مثل الفراش من الحر، فقال عثمان: ما على هذا لو أقام بالمدينة حتى يبرد ثم يروح، ثم دنا الرجل فقال: انظر من هذا، فنظرت فقلت: أرى رجلاً متعمماً بردائه يسوق بَكرين، ثم دنا الرجل فقال: انظر، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقلت: هذا أمير المؤمنين، فقام عثمان فأخرج رأسه من الباب فإذا لفح السموم، فأعاد رأسه حتى إذا حاذاه فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ قال: أخرجني بكران من إبل الصدقة قد تخلفا، وقد مضى بإبل الصدقة فأردت أن ألحقهما بالحِمَى خشيتُ أن يَضِيْعا فيسألني الله عنهما، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين! هلمَّ إلى ¬
66 - ومنها: الغضب لله وعدم الغضب للنفس.
الماء والظل ونكفيك، قال: عُد إلى ظلك، فقلت: عندنا مَنْ يكفيك، قال: عُد إلى ظلك، ومضى فقال عثمان: من أحبَّ أن ينظر إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا (¬1). 66 - ومنها: الغضب لله وعدم الغضب للنفس. وهذا شأن الأنبياء والمرسلين بأسرهم صلوات الله وسلامه عليهم، ألا ترى إلى غضب نوح عليه السلام على قومه بسبب تماديهم في الكفر وإصرارهم عليه حتى قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وغضب إبراهيم عليه السلام حتى هجر أباه وقومه، واعتزلهم وما يعبدون من دون الله، وغضب موسى عليه السلام حتى أخذ برأس أخيه يجرُّه إليه. وقال القشيري رحمه الله تعالى في "جزئه" الذي جمع فيه كلام أبي علي الدقاق رحمه الله تعالى: وسمعته يقول: سمع سليمان عليه السلام من الهدهد قوله: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} فلم يؤثِّر فيه، ثم قال: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} فلم يلتفت سليمان عليه الصلاة والسلام إليه، فلما قال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 23 - 24] حَرَد سليمان وتأهبَ للخروج لمحاربتها؛ لم يغضب سليمان لأجل ما هو نصيب النفس، وغضب لما هو حق الحق. ¬
67 - ومنها: النكاح، خصوصا للمرأة الصالحة، والإنكاح، خصوصا للرجل الكامل الصالح.
67 - ومنها: النكاح، خصوصاً للمرأة الصالحة، والإنكاح، خصوصاً للرجل الكامل الصالح. قال الله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام يُخاطب موسى عليه السلام: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27]. وتقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مُوْسَى آجَرَ نَفْسَهُ ثَمَانِيَ سِنِيْنَ أَوْ عَشْراً عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ"، الحديث (¬1). وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، عن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِيْنَ: الْحِنَّاءُ، وَالتَعَطُّرُ، وَالسِّوَاكُ، وَالنِّكَاحُ" (¬2). وقال بعض الرواة: "الحياء" - بالياء المثناة تحت - (¬3). وقالت جماعة من المفسرين في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)} [النساء: 54]: إنَّ المراد بالملك العظيم ما أوتيه سليمان من الملك وكثرة النساء، وإنَّ الآية نزلت تكذيباً لليهود وردًّا عليهم في قولهم: لو كان نبياً ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك، فأخبر الله سبحانه عن ما كان لداود وسليمان عليهما السلام، ووبخهم ¬
فأقروا بأنَّه اجتمع عند سليمان ألف امرأة فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألفُ امْرَأَةٍ" قالوا: نعم، مئة مَهْرِيَّة، وتسع مئة سَرِية، وعند داود مئة امرأة، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَلْفٌ عِنْد رَجُلٍ وَمِئَهٌ عِنْدَ رَجُلٍ أَكْثَرُ أَوْ تِسْعُ نِسْوَةٍ؟ " فسكتوا، وكان له يومئذٍ تسع (¬1). ونقل حجة الإسلام في "الإحياء" عن سفيان بن عيينة رحمه الله: أنه قال: كثرة النساء ليست من الدنيا؛ لأن علياً - رضي الله عنه - كان أزهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان له أربع نسوة وسبع عشرة سرية. قال: فالنكاح سنة ماضية وخلق من أخلاق الأنبياء عليهم السلام (¬2). وقوله: "إن كثرة النساء ليست من الدنيا": أراد الدنيا المذمومة، فلا مُنافاة بينه وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطّيْبُ" (¬3). وبذلك أجاب شيخ الإسلام الوالد رحمه الله عما نقله عن الأوزاعي رحمه الله: أنَّ حب النساء ليس من حب الدنيا، فقال في كتابه "فصل الخطاب": [من الرجز] وَقالَ الأَوْزاعِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنْ ... هُوَ ابْنُ عَمْرٍو لَيْسَ حُبُّ النِّسْوانْ ¬
مِنْ حُبِّ دُنْيَا وَالْمُرادُ ما يُذَمْ ... مِنْ حُبِّها أَوْ هُوَ مِنْها وَاتَّسَمْ بِكَوْنِهِ مِنْ عَمَلِ الأُخْرى لِما ... فِيْهِ مِنَ الْعَوْنِ عَلَيْها فَهْوَ ما نافَى الْحَدِيْثَ الْمارَّ بَلْ وَنُقِلا ... أَرْبَعةٌ هِيَ مِنَ الدُّنْيا وَلا يَكُوْنُ مِنْها كِسْرَةٌ لِجَوْعَتِهْ ... سَرَتْ وَخِرْقَةٌ لِسَتْرِ عَوْرَتِهْ وَلِلْمَصِيْفِ وَالشِّتاءِ مَسْكَنُ ... وَزَوْجَةٌ لَها يَصُوْنُ يَسْكُنُ وَهْوَ حَدِيْثٌ رَفَعُوْهُ مُسْندا ... إِلَىْ النَّبِيِّ الْهاشِمِيِّ أَحْمَدا وأراد بالحديث المار حديث: "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيْبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِيْ فِي الصَّلاَةِ"؛ فإنه عقده في نظمه قبل ذلك. وقد رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم، والبيهقي عن أنس - رضي الله عنه - (¬1). ¬
وإنما خصت الأنبياء عليهم السلام بكثرة النساء والنكاح لما استودعه الله تعالى في النكاح من الفوائد والأسرار التي الأنبياء بها أحرى
قال القاضي عياض رحمه الله: أمَّا النكاح فمتفقٌ عليه شرعاً وعادة، فإنه دليل الكمال وصحة الذكورية، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة والتمادح به سيرة ماضية، وأما في الشرع فسنة مأثورة. وقد روى ابن عباس - رضي الله عنه -: أفضل هذه الأمة أكثرها نساء (¬1). مشيراً إليه - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال: حتى لم يره العلماء مما يقدح في الزهد. قال سهل بن عبد الله رحمه الله: قد حُببن إلى سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يُزهد فيهن؟ ، قال: ونحوه لابن عيينة، انتهى (¬2). * وإنما خُصت الأنبياء عليهم السلام بكثرة النساء والنكاح لما استودعه الله تعالى في النكاح من الفوائد والأسرار التي الأنبياء بها أحرى: الأولى: طلب الولد الصالح موافقة لمحبة الله تعالى لبقاء جنس الإنسان بالتناسل، ورغبة في دعاء الولد الصالح لأبيه بعد موته، وبقاء آثاره به، ووراثته لعلمه وخلقه إن تقدمت وفاة الوالد على الولد، أو في احتساب مُصيبة الوالد بالولد إن تأخرت وفاة الوالد عنه، وأنت خبير بما قاساه الخليل عليه السلام في الابتلاء بذبح الولد، وما قاساه نافلته يعقوب عليه السلام في مفارقة يوسف وأخيه وحزنه عليهما فأُعْطِيَ على ذلك ثواب مئة شهيد كما سبق. ¬
وروى أبو نعيم عن عبد الأعلى التميمي رحمه الله قال: لمَّا لقي يوسف أخاه عليهما السلام قال: أتزوجت بعدي؟ قال له: نعم، قال له: أما منعك الحزن عليَّ، قال: قال لي أبي: تزوج لعلَّ الله - عز وجل - يذرأ منك ذرية يثقلون الأرض بالتسبيح في آخر الزمان (¬1). الفائدة الثانية: التحصن من الشيطان؛ فإنَّ الأنبياء عليهم السلام وإن كانوا معصومين فإنَّ الشيطان فيهم أطمع، وعلى تغريرهم أحرص، وهم أولى بالتحصن منه من غيرهم. وقد قال الضحاك رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]: جرى الشيطان فيما بينهما، وضرب بيده إلى جِيْد يوسف وبيده الأُخرى إلى جِيْد المرأة حتى جمع بينهما (¬2). ولا عبرة بمن أنكر هذا القول؛ فإنَّ المتقدمين حملوا الهم في القرآن على ظاهره، فقال ابن عباس - رضي الله عنه -: حلَّ الهِميان (¬3) (¬4). وقال مجاهد رحمه الله: حلَّ سراويله وجعل يعالج ثيابه (¬5). ¬
وقال سعيد بن جبير رحمه الله: أطلق تكة سراويله (¬1). وهؤلاء أعلم بالله تعالى وبتأويل كتابه، وأشد تعظيماً للأنبياء عليهم السلام أن يقولوا فيهم بغير علم كما قال القاسم بن سلام، وعليه المحققون من المتأخرين (¬2). على أن الهم لا مؤاخذة فيه كما في الحديث، وما ذكره الله تعالى في القرآن العظيم عن الأنبياء عليهم السلام من مثل ذلك لم يكن تعييراً لهم كما قاله الحسن البصري رحمه الله، ولكن لئلا ييئس غيرهم من التوبة، وليكمل للأنبياء مقام التوبة والافتقار إلى الله تعالى في قبولها (¬3). ¬
وعلى كل تقدير، فإنَّ للشيطان طمعاً كلياً في الأنبياء والصالحين من حيث الشهوة، فالنكاح يحسم عنهم هذه المواد. الفائدة الثالثة: كسر التوقان، ودفع غوائل الشهوة، وغض البصر، وحفظ الفرج منه ومن الزوجة، ألا ترى كيف أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى في قوله: "إِنَّ مُوْسَىْ عَلَيْهِ السَّلامُ آجَرَ نَفْسَهُ ثَمانِيَ سِنِيْنَ أَوْ عَشْراً عَلَىْ عِفَّةِ فَرْجِهِ" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَليَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ". الحديث رواه الإمام أحمد، والأئمة الستة رحمهم الله تعالى عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬2). وروى الحاكم وصححه، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25]، قال: كانت (¬3) تجيء وهي خراجة ولاجة واضعة يديها على وجهها، فقام معها موسى ¬
وقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق وأنا أمشي أمامك؛ فإنَّا لا ننظر في أدبار النساء، قال ثم قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] لما رأت من قوته وقوله لها ما قال، فزاده ذلك فيه رغبة (¬1). ونظير ذلك ما رواه ابن الجوزي في كتاب "ذم الهوى": أنَّ وفد عبد القيس لمَّا وفدوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - كان فيهم غلام أمرد، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - إن يجلس وراء ظهره (¬2). وذلك من النبي وموسى عليهما الصلاة والسلام مبالغة في غض البصر، ولا يُساعد على غض البصر شيء كالنكاح، ولقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من رأى امرأة فأعجبته أن يأتيَ أهلَه، كما روى مسلم، والترمذي عن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأة فدخل على زينب رضي الله عنها فقضى حاجته وخرج وقال: "إِنَّ المَرْأَةَ تُقْبِلُ فِيْ صُوْرَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا رَأَىْ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ مَعَهَا مِثْلَ الذِيْ مَعَهَا" (¬3). وروى الإمام أحمد بسند جيد، عن أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - قال: مرَّت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - نسوة، فوقع في قلبه شهوة النساء، فدخل فأتى بعض ¬
زوجاته وقال: "فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوْا؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَمَاثِلِ أَعْمَالِكُمْ إِتْيَانُ الحَلاَلِ" (¬1). وقال شيخ الإسلام والدي عاقداً لحديث جابر - رضي الله عنه -: [من البسيط] عَنِ النَّبِيِّ أَتانا مَنْ رَأَى امْرَأةً ... أَحَلَّ فِيْ قَلْبِهِ لِلْحُسْنِ مَوْقِعها فَلْيَأْتِ زَوْجَتَهُ فَلْيَقْضِ حاجَتَهُ ... فَإِنَّما مَعَها مِثْلُ الَّذِيْ مَعَها وقلت في معنى حديث أبي كبشة - رضي الله عنه -، وحاملاً له على المعنى الأعم: مَنْ سَرَّهُ مِنَ الْحَرامِ مِثْلُ ... ما لَهُ مِنَ الْحَلالِ وَالْمُباحِ فَفِيْ الْحَلالِ غُنْيَةٌ عَنْهُ لَه ... وَلَيْسَ فِيْ الْمُباحِ مِنْ جُناحِ الفائدة الرابعة: ترويح النفس وإيناسها بالنظر والمجالسة والملاعبة؛ فإن ذلك يُنشط العبد للعبادة ويحيد به عن الملل والسآم. ولقد قال الله تعالى: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، ولا خفاء أنَّ الأنبياء عليهم السلام أولى بصفاء الفكر وراحة القلب لأجل تأدية ¬
الدعوة وتبليغ الرسالة. وأيضاً فإن أرواح الأنبياء عليهم السلام سارحة في مطالعة العالم العلوي، طائرة إلى مشاهدة الملكوت الحقيقي، منجذبة مع تجلياتها مَأخُوذة في تملياتها وتروحاتها، ثم هم مطالبون بتبليغ ما يوحى به إليهم إلى البشر، ولا يمكنهم ذلك إلا بالتخلق بأخلاق البشر، ومن ثم لم تكن الملائكة رسلاً إلى عموم البشر؛ قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9]. وأما الأنبياء عليهم السلام ففيهم روحانية كاملة بها صلحوا للتلقي عن الملائكة عليهم السلام وعن الله تعالى بلا واسطة تارة أخرى، وفيهم إنسانية كاملة بها خالقوا سائر البشر وبها صلح البشر للتلقي عنهم للمجانسة والازدواج الذي بينهم، ولا نشك أن من تمام تخلق الأنبياء عليهم السلام بأخلاق البشر المناكحة التي تحصل بين الزوجين. وإذا تأملت وجدت أنه كان في كثرة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تكميلاً للدين؛ إذ حُمل عنهنَّ من الأحكام ما لا يحمل عن غيرهن مما يحتاج إليه العبد في تمام دينه من معاشرة أهله. الفائدة الخامسة: تفريغ القلب عن تدبير المنزل، وإصلاح أمر المأكل، وتهيئة سائر أسباب المعيشة، والإعانة على قِرى الضيف ونظم المروءة. ولقد قيل: ما أعان على نظم مروءات الرجال كالنساء الصوالح (¬1). ¬
والأنبياء عليهم السلام أحق الناس بنظم المروءة. الفائدة السادسة: الاجتهاد على الكسب من الحلال والكد على العيال. وقد تقدم أنَّ من عمل الأبدال كسب الحلال والنفقة على العيال، وهم إنما سموا أبدالاً لأنهم بُدلاء عن الأنبياء عليهم السلام، كما تقدم. الفائدة السابعة: إنذار الأهل وتعليمهم وتأديبهم. الفائدة الثامنة: تربية الأولاد والإحسان إليهم، خصوصاً البنات، والصبر عليهن، والإحسان إليهن، والرفق بهن كما أحسن شعيب عليه السلام (¬1) إلى ابنتيه في التربية والتأديب حتى وصف الله عفافهما وتحجبهما عن مخالطة الرجال وحياءهما بقوله تعالى: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23]، قالا ذلك اعتذارا عن خروجهن للسقيا بأنْ لا رجالَ لهنَّ إلا أبا شيخًا كبيراً. وقال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25]. وما أحسنَ قولَ منصور الفقيه رحمه الله تعالى: [من المتقارب] ¬
أُحِبُّ الْبَناتَ وَحُبُّ الْبَنا ... تِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ كَرِيْمةْ لأَنَّ شُعَيْباً مِنْ اَجْلِ الْبَنا ... تِ أَخْدَمَهُ اللهُ مُوْسى كَلِيْمَه (¬1) الفائدة التاسعة: تحسين الأخلاق مع الأهل والأولاد، والتنزُّل إلى عقولهم، والترحم لهم والشفقة عليهم، ومعونتهم، وتفريحهم وإدخال السرور عليهم، ألا ترى كيف كانت سيرة موسى عليه السلام في الشفقة على صفراء بنت شعيب عليهم السلام، وقد سار بها من مدين إلى مصر وأدركها الطَّلْق في ليلة باردة شاتية مظلمة {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10]. وما كان إلا في مصلحة أهله، ففجأه الله بالوحي وآتاه من فضله، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَسُنَتْ صَلاَتُهُ وَكَثُرَتْ عِيَالُهُ وَقَلَّ مَالُهُ وَلَمْ يَغْتَبِ الْمُسْلِمِيْنَ كَانَ مَعِي فِيْ الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ". رواه أبو يعلى (¬2). وهذه كلها أخلاق نبوية، ولذلك كان المتخلق بها مع الأنبياء عليهم السلام، ولا يتيسر اجتماعها إلا في المتزوج. ¬
وهذه الأخلاق - وإن كانت مطلوبة منهم وممن على قدمهم مع سائر الناس - إلا أن هذه الأخلاق يتخلق بها العبد مع الأهل لسهولة ما جُبِلَتْ النفوس عليه من الميل إلى الأهل والمودة بينهم، فالرجل تدعوه محبة الأهل إلى مخالقتهم بالأخلاق الكريمة اللطيفة لأنه يحب لهم الرفق بهم، وإلى تعليمهم وتأديبهم لأنه يحب لهم الكمال، وإلى مواساتهم والإنفاق عليهم لأنه يحب لهم الرَّوح والراحة والسعة، ثم يصير ذلك عادة له فيعامل به سائر الخلق، ولذلك قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]. وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]. وقال: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُوْلُ" (¬1). فإذا عامل أهله بما ذكر، ثم عامل به سائر الخلق كمل وكملت له أخلاق المرسلين، فهو يُعامل الناس بالنصيحة والإحسان والتعليم والتأديب والتكميل مع صون النفس عن أموالهم وقطع الأطماع عنهم، فهو يُعطيهم ولا يسألهم، وينفعهم ولا ينتفع منهم، وينصفهم وإن لم يُنصفوه، إذ كذلك يُعامل العاقل أهله. ثم يتعرف أن الإيمان لا يستكمله إلا من أحب لإخوانه من البِشر ما يحب لنفسه كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ". رواه البخاري في "تاريخه"، وأبو يعلى، والطبراني في "الكبير"، والحاكم ¬
وصححه، والبيهقي من حديث يزيد بن أسد - رضي الله عنه - (¬1). بل في "الصحيحين" من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّىْ يُحِبَّ لأَخِيْهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (¬2)، فيعامل سائر الناس بما يُعامل به أهله من محاسن الأخلاق لأنه يراهم كأهله، ألا ترى أنه وإياهم من أب واحد وأم واحدة، وكأنه أنزل أهله منزله نفسه، ثم أنزل إخوانه من الناس منزلة أهله، ومن ثم لم يطلب الأنبياء عليهم السلام أجراً من أممهم وتبرؤوا من طلب الأجر واستدلوا بذلك على صدق نصيحتهم، ولا يتم النصح والإحسان إلا بذلك، وإلا كان من ينصح الناس ويعلمهم ويرفق بهم لعوض أو غرض مؤثِراً لنفسه عليهم محباً لنفسه ما لا يحب لهم عاملاً لنفسه لا لهم، ناظراً إلى نفسه لا إليهم؛ فافهم! ومن ثم أُلحق العالم المنزه عن الطمع المخلص في التعليم بالمرسلين، والعالم المتطلع إلى طمع والمتعرض لغرض بالمجرمين في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عُلَمَاءُ هَذِهِ الأُمَّةِ رَجُلاَنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا فَبَذَلَهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ طَمَعًا وَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ ثَمَنًا، فَذَلِكَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ حِيْتَانُ اليَمِّ، وَدَوَابُّ البَرِّ، وَالطَّيْرُ فِيْ جَوِّ السَّمَاءِ، وَيَقْدُمُ عَلَى اللهِ سَيِّداً شَرِيْفًا حَتَّى يُرَافِقَ الْمُرْسَلِيْنَ. ¬
وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمَا فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا، وَاشْتَرَىْ بِهِ ثَمَنًا، فَذَلِكَ يُلْجَمُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ، وَيُنَادِيْ مُنَادٍ: هَذَا الَّذِيْ آتَاهُ عِلْمَا فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللهِ وَأَخَذ عَلَيْهِ طَمَعًا وَاشْتَرَىْ بِهِ ثَمَنًا، وَذَلِكَ حَتَّى يَفْرغُ مِنْ الحِسَابِ" (¬1). الفائدة العاشرة: الصبر على أخلاق النساء، واحتمال الأذى منهن، وفي ذلك تمرين النفس على احتمال الأذى من عامة الناس، وذلك من أخص أخلاق الأنبياء عليهم السلام. وقد قصَّ الله تعالى علينا خيانة امرأة نوح وامرأة لوط بهما، ولم تكن خيانتهما لهما زنا، إنما كانت من حيث الأذى لهما (¬2)، فصبرا حتى كفاهما إياهما الله تعالى. وقد صبر زكريا عليه السلام على خُلق امرأته حتى أصلحها الله تعالى له، كما قال - عز وجل -: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] روى الحاكم وصححه، عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنه قال في الآية: ¬
كان في لسان امرأة زكريا عليه السلام طول، فأصلحه الله تعالى (¬1). وقيل: كانت حردة (¬2). وروى الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله في كتاب "البر والصلة": أن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - جاء إلى عمر - رضي الله عنه -، فشكى إليه ما يلقى من النساء، فقال عمر: إنا لنجد ذلك، إني لأريد الحاجة فتقول لي: ما تذهب إلا إلى فتيات بني فلان تنظر إليهن، فقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: أما بلغك أنَّ إبراهيم عليه السلام شكى ذَرَب (¬3) خلق سارة إلى الله تعالى فقال له: إنما خلقت من الضلع فالبسها على ما كان فيها ما لم تر عليها خِزية في دينها؟ فقال له عمر: لقد حشا الله بين أضلاعك علماً كثيراً (¬4). قال في "الإحياء": وفي أخبار الأنبياء عليهم السلام: أنَّ قوماً دخلوا على يونس عليه السلام فأضافهم، وكان يدخل ويخرج إلى ¬
تنبيهان
منزله فتؤذيه امرأته، وتستطيل عليه وهو ساكت، فعجبوا من ذلك، فقال: لا تعجبوا؛ فإني سألت الله وقلت: ما أنت معاقب لي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا (¬1)، فقال لي: إنَّ عقوبتك بنت فلان تزوج بها، قال: وأنا صابر على ما ترون منها (¬2). * تنبِيْهانِ: الأَوَّلُ: هذه الفوائد التي أشرنا إليها كلها أُخروية، ولمن قصدها بالنكاح أجور سَنِيَّة، وينبغي لمن أراد التزوج أن ينويها عند الإرادة وعند الخطبة وعند العقد، وكذلك عند الجماع ينبغي أن ينوي التحصن والتعفف عن الزنا واللواط، والنظر إلى ما لا يحل له، والفكر في مسارح الشهوة، وترويح النفس، وحصول ولد صالح يذكر الله تعالى ويعبده، ويُكاثر به النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، ويدعو له إذا بقي بعده، أو يحتسبه إذا مات قبله. وليعلم أنَّ ذلك كله وأكثر كان مقصود الأنبياء عليهم السلام بإتيان أهليهم، ولا يكون أعجز من عصفور كان في عهد سليمان، ¬
ولا يبعد أن يكون ذلك موجوداً في سائر البهائم الآن إلا أنه لا يُطالعه إلا من شاء الله من أهل العرفان. وكان من شأنه ما رواه الدينوري في "المجالسة" عن أبي فديك رحمه الله قال: بلغني عن سليمان عليه السلام أنه كان جالساً فرأى عصفوراً يُراود زوجته على السِّفاد وهي تمنَّع، فضرب منقاره على الأرض، ثم رفعه إلى السماء، فقال سليمان عليه السلام: هل تدرون ما قال لها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال لها: ورب السماء والأرض ما أُريد سفاد لذة، ولكن أردت أن يكون من نسلي [ونسلك] من يُسبح الله في الأرض (¬1). قلت: ولعل الله تعالى لم يُرِدْ بذلك إلا تعليم سليمان ومَنْ حوله آداب المناكحة، وكذلك من عادة الله أن يُؤدب بعض أنبيائه بضعاف الخليقة وأدانيها كما في قصة الهدهد مع سليمان أيضاً، فأراد سليمان عليه السلام أن يترقى عن مقام الطير في طلب الولد المسبح الموحد، فطلب مئة من البنين وأن يكونوا فرساناً مجاهدين، غير أنَّ شدة غَيرته على هذا المقام منعته عن استيفاء آداب ذلك المرام، فعزم على نفسه وأقسم، وأشار إلى تحقيق وجود ما أم، ففاته أدب التعليق بالمشيئة، فلم يظفر من ذلك بالأمنية. روى الإمام أحمد، والشيخان، والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَالَ سُلَيْمَان عليه السلام: لأَطُوْفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَىْ مِئَةِ امْرَأة ¬
كُلُّهُنَّ تَأْتِيْ بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ إِنْسَانِ، وَالَّذِيْ نَفْسُ مُحَمَّدِ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ"، وفي رواية: "لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوْا فِيْ سَبِيْلِ اللهِ رُكْبَانًا أَجْمَعُوْنَ" (¬1). التَّنْبِيْهُ الثَّانِيْ: قد يستشكل على ما ذكرناه من فضل النكاح وكونه من أعمال الأنبياء عليهم السلام أمر ابني الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام؛ فإنَّ يحيى كان حَصُوراً - أي: لا يأتي النساء -، وعيسى لم يتزوج. فالجواب عن ذلك: أما أنَّ يحيى عليه السلام فقد قال الله تعالى فيه: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] فاختلف المفسرون في الحصور على قولين: الأول: أنه الذي لا يأتي النساء. رواه عبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن ابن عباس (¬2)، وابنُ جرير، والبيهقي في "سننه" عن ابن مسعود، ولفظه: الذي لا يقرب النساء (¬3). ¬
ورواه ابن المنذر عنه، وقال: العنِّين (¬1). وروى ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال: لا يشتهي النساء (¬2). وروى ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر يحيى، فقرأ: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39]، ثم أهوى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قَذَاة من الأرض فأخذها وقال: "كَانَ ذَكَرُهُ مِثْلَ هَذِهِ القَذَاة" (¬3). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد"، والمفسرون عن ابن عباس قال: الحصور الذي لا يُنزل الماء (¬4)، وعلى هذا يتأتَّى الإشكال. والجواب عنه: أنَّ سعيد بن جبير ممن يقول بهذا القول، وقد قال: إنَّ يحيى عليه السلام مع اتصافه بما ذُكر تزوج ليكون أغض لبصره. ¬
والقول الثاني: أنَّ ما ذكر نقص في الخلقة، والأولى حمل حال الأنبياء على الكمال، فمعنى الحصور أنه كان معصوماً من الذنوب؛ أي: لا يأتيها كأنه حصر عنها. وقيل: بل كان مانعاً نفسه من الشهوات، وهذا اختاره القاضي عياض رحمه الله، ونسبه إلى حذَّاق المفسرين ونقاد العلماء (¬1). قلت: لكن الأول هو المأثور عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما، إلا أن هذا ينشرح له الصدر أكثر. وعليه: فالمعنى أنَّ يحيى عليه السلام إنما كان تاركاً للنكاح زهداً لا عجزاً ولا ضعفاً، وكذلك كان حال عيسى عليه السلام كما تقدم أنه قيل له: ألا تتزوج؟ قال: أتزوج امرأة تموت؟ (¬2). فعيسى ويحيى عليهما السلام أخذا بالحزم، فاحتاطا بترك النكاح، وغيرهما أخذ بالقوة، وكلا الفريقين كان أمره منوطاً بالوحي الإلهي مؤيداً بالأمر الربوبي. وقد كان من تزوج من الأنبياء عليهم السلام قدوة لمن تزوج من صالحي الأمم، ومن لم يتزوج منهم قدوة لمن لم يتزوج من صالحي الأمم، وكل عمل بمقتضى حاله فلا اعتراض. قال حجة الإسلام رحمه الله تعالى: ومهما كانت الأحوال ¬
منقسمة حتى يكون النكاح في بعضها أفضل وتركه في بعضها أفضل، فحقنا أن ننزل أفعال الأنبياء عليهم السلام على الأفضل في كل حال (¬1) انتهى، وهو بديع. وقد قيل: إنَّ عيسى عليه السلام إذا نزل إلى الأرض في آخر الزمان ينكح ويُولد له (¬2)، فإن صحَّ هذا مع ما نقلناه آنفاً عن سعيد بن جبير رحمه الله فقد زال الإشكال من أصله، والله سبحانه أعلم. وإنما أطلت في هذا المقام وأشبعت فيه الكلام لأنه مهم جداً. وقد أسفر ما ذكرناه هنا عن أمور هي من أخلاق الأنبياء عليهم السلام: كطلب الولد الصالح، والرغبة في دعائه، ووراثته لعلم الله وفضله، وإرادة بقاء النسل، واحتساب الولد إذا مات، والتحصن من الشيطان، وإعفاف الفرج، وغض البصر، وإعفاف الحليلة، وإتيان الأهل إذا فَجَأَتْه النظرة، وترويح النفس، وتفريغ القلب للطاعة، وتعليم الأهل والأولاد، والشفقة على البنات والإحسان إليهن، والصبر على سوء خلق المرأة، وتحسين النية عند النكاح، وحفظ آداب المجامعة. ¬
- ومن أخلاقهم أيضا
- ومن أخلاقهم أيضاً: 68 - المحافظة على سائر الآداب في سائر الأمور؛ كآداب الطهارة، والصلاة، والسفر، والجهاد، والحج، والأكل والشرب، واللباس، والنوم، وغير ذلك. قال الله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} [النجم: 17]؛ وصفه بحسن الأدب في الحضرة. وقال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]؛ وهذا من آداب الركوب في السفينة. وروى ابن المنذر عن عمرو بن دينار رحمه الله تعالى قال: لما تضيفت الملائكة إبراهيم عليه السلام فقدَّم لهم العجل، فقالوا: لا نأكله إلا بثمن، قال: فكلوا وأدُّوا ثمنه، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تسمون الله إذا أكلتم، وتحمدونه إذا فرغتم، قال: فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: لهذا اتخذه الله خليلاً (¬1). وفي "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للحافظ المزي رحمه الله تعالى: عن خالد بن معدان رحمه الله قال: كان إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام إذا أتي بقطف من العنب أكل حبة حبة، وذكر الله عند كل حبة (¬2). ¬
69 - ومنها: التعطر واستعمال الطيب.
وروى الطبراني بسند ضعيف، عن ابن عباس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الوُضُوْءُ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ -[مما ينفي الفقر]- لمِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِيْنَ" (¬1). والمراد بالوضوء غسل اليدين، والأظهر من مذهب الشافعي استحبابه قبل الطعام إلا أن يتيقن نظافة اليدين من النجاسة والوسخ فيباح، وبعده إلا إذا لم يبق أثره لكونه يابساً أو لم يمسه بيده فيباح. ونقل القاضي عياض، والنووي عن مالك رحمهم الله: أنه لا يستحب إلا أن يكون على اليدين قذر قبل الأكل أو يبقى عليهما رائحة بعده (¬2). 69 - ومنها: التعطر واستعمال الطيب. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِيْن" (¬3)، وذكر منها التعطر كما سبىَ. وروى عبد الرزاق عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْخِتَانُ وَالسِّوَاكُ وَالتَّعَطُّرُ وَالنِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِيْ" (¬4). وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي مرسلاً قال: كان ¬
70 - ومنها: الاكتحال وسائر أنواع الزينة الشرعية.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف بريح الطيب إذا أقبل (¬1). 70 - ومنها: الاكتحال وسائر أنواع الزينة الشرعية. روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن العلاء بن نجيح رحمه الله قال: كان موسى عليه السلام يكتحل بالإثمد ويلبس الكتان. وروى أبو داود عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له سكة يتطيب منها (¬2). وروى الترمذي، وابن ماجه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له مكحلة يكتحل منها كل ليلة ثلاثة في هذه، وثلاثة في هذه (¬3). وروى البيهقي في "الشعب" عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر القناع، ويكثر دهن رأسه، ويُسَرِّح لحيته [بالماء] (¬4). 71 - ومنها: المحافظة على خصال الفطرة. وهي: الختان، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، وفَرْق الشعر، والسواك، والمضمضة والاستنشاق، وغسل البراجم، وتنظيف الرواجب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتفاص الماء؛ أعني: الاستنجاء. قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]. ¬
روى عبد الرزاق، والمفسرون، والحاكم - وقال: صحيح على شرطهما - عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: في الآية: ابتلاه بالطهارة؛ خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل مكان الغائطِ والبولِ بالماء (¬1). وروى الأئمة الستة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الفِطْرَةُ خَمْسٌ: أَوْ خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ: الخِتَانُ، وَالاسْتِحُدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيْمُ الأَظْفَارِ، وَنتْفُ الإِبْطِ" (¬2). وروى مسلم، والأربعة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَالاسْتِثْشَاقُ بِالْمَاءِ، وَقَصُّ الأَظْفَارِ، وَغَسْلُ البَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَحَلْقُ العَانَةِ، وَانْتِفَاصُ المَاءِ؛ يَعْنِيْ: الاسْتِنْجَاء بِالمَاءِ". قال مصعب أحد رواته: نسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة (¬3). ¬
وروى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ السلاَمُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيْنَ سَنَةٍ بِالقَدُّوْمِ (¬1) " (¬2). وروى أبو الشيخ في كتاب "العقيقة" عن موسى بن علي بن رباح، عن أبيه رحمهما الله: أنَّ إبراهيم عليه السلام أُمر أن يختتن وهو حينئذٍ ابن ثمانين سنة، فعجل واختتن بالقدوم، فاشتدَّ عليه الوجع، فأوحى الله إليه: أنَّك عجلت قبل أن نأمرك بآلته، قال: يا رب! كرهت أن أُؤخر أمرك (¬3). وروى البيهقي عنه: أنَّ إبراهيم ختن إسحاق عليهما السلام لسبعة أيام، وختن إسماعيل عليه السلام لبلوغه (¬4) (¬5). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن حيى بن عبد الله رحمه الله قال: ¬
بلغني أنَّ إسماعيل عليه السلام اختتن وهو ابن ثلاث عشرة سنة (¬1). قلت: ويجمع بينهما بأنَّ معنى قول ابن رياح: "وختن إسماعيل": أمره بالختان، وقول حيي معناه: امتثل أمر أبيه فاختتن، وفيه أنَّ إسماعيل كان بلوغه في ثلاث عشرة، والله أعلم. وتقدم في حديث أبي أيوب: أن السواك من سنن المرسلين. وروى الترمذي الحكيم في "نوادره" عن فليح بن عبد الله الخطمي عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسٌ مِنْ سُنَنِ المُرْسَلِيْنَ: الْحَيَاءُ، وَالحِلْمُ، والحِجَامَةُ، وَالسِّوَاكُ، وَالتَعَطُّرُ" (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن عطاء رحمه الله مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ فِطْرَةِ إبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ السِّوَاكُ" (¬3). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن عمار بن ياسر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مِنَ الفِطْرَةِ المَضْمَضَةُ، والاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَتَقْلِيْمُ الأَظْفَارِ، وَنتفُ الإِبْطِ، والاسْتِحْدَادُ، وَغَسْلُ البَرَاجِمِ، وَالانْتِضَاحٌ، وَالاخْتِتَانُ" (¬4). ¬
وروى الترمذي وحسنه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقص أو يأخذ من شاربه، وكان إبراهيم خليل الرحمن يفعله (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد رحمه الله قال: من فطرة إبراهيم عليه السلام غسل الذَّكَرِ والبراجم (¬2). وروى الإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قيل: يا رسول الله! لقد أبطأ عنك جبريل عليه السلام، قال: "وَلِمَ لا يُبْطِئُ عَنِّيْ وَأَنَتُمْ حَوْليْ لاَ تَسْتَنُّوْنَ - أَيْ: لاَ تَسْتَاكُوْنَ -، وَلاَ تُقَلّمُوْنَ، وَلاَ تَقُصُّوْنَ شَوَارِبَكُمْ، وَلاَ تُنَقُّونَ رَوَاجبَكُمْ؟ " (¬3). وهذا الحديث فيه دليل على أنَّ الأنبياء عليهم السلام أحق بهذه الخصال؛ لمخالطتهم جبريل عليه السلام. وفيه دليل على أنَّ الجليس إذا كان متقذراً غير متنظف ضرَّ جليسه بحرمانه مخالطة الملائكة عليهم السلام، بل يضره بتكثيف روحانيته حتى إنه قد يبلغ به إلى أن يحول بين الروح وإدراك العلوم الروحانية والفهوم العرفانية كما يدل على ذلك ما رواه البيهقي في "الشعب" عن قيس بن حازم - رضي الله عنه - قال: صلى - صلى الله عليه وسلم - صلاةً فأوهم فيها، فَسُئِل فقال: "مَا ¬
72 - الاستغفار عند الخروج من الخلاء، وحمد الله على إذهاب الأذى.
لِيْ لاَ أُوْهِمُ وَرُفْغُ أَحَدِكُمْ بَيْنَ ظُفْرِهِ وَأُنْمُلَتِهِ" (¬1). وأخرجه البزار من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - بنحوه (¬2). والرُّفغ - بضم الراء، وإسكان الفاء، وبالمعجمة -: الوسخ الذي يكون تحت الظفر. والرواجب: رؤوس الأنامل، وهي بين البراجم التي هي معاطف ظهور الأنامل. وقيل: الرواجب ما تحت الأظافر من الوسخ، وهي جمع راجبة. وقال في "ديوان الأدب": هي مفاصل الأصابع، ثم فسر بها البراجم، وهي جمع برجمة - بضم الموحدة والجيم -. - ومن آداب الأنبياء عليهم السلام وأخلاقهم: 72 - الاستغفار عند الخروج من الخلاء، وحمد الله على إذهاب الأذى. روى عبد الرزاق عن سعيد المقبري رحمه الله: أنَّ موسى عليه السلام قال: يا رب! ماذا أقول إذا ذهبت إلى الغائط؟ قال: قل: ¬
73 - ومنها: بقية آداب قضاء الحاجة؛ كالاستتار، والإبعاد، وقعود القرفصاء.
غفرانك فجنبني الأذى (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم التيمي رحمه الله: أنَّ نوحاً عليه السلام كان إذا خرج من الغائط قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني (¬2). وعن العوام رحمه الله قال: حُدِّثت أنَّ نوحاً عليه السلام كان يقول - يعني: عند الفراغ من قضاء الحاجة -: الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيَّ منفعته، وأذهب عني أذاه (¬3). 73 - ومنها: بقية آداب قضاء الحاجة؛ كالاستتار، والإبعاد، وقعود القرفصاء. قال الله تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22]. روى عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن عساكر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم عليه السلام وزوجه السنبلة، فلما أكلا منها بَدَتْ لهما سوءاتهما، وكان الذي وارى عنهما من سواءاتهما أظفارهما، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22] ورق التين يلزقان بعضه إلى بعض، فانطلق آدم مولياً في الجنة، ¬
74 - ومنها: الاغتسال من الجنابة، والتستر عند الاغتسال وعند قضاء الحاجة حياء، والحياء في سائر الأحوال، بل كذلك الاستتار مطلقا، وحفظ العورة، والوضوء والتثليث فيه والمحافظة عليه، والخضاب في محله بالصفرة والحمرة.
فأخذت برأسه شجرة من شجر الجنة، فناداه ربه: أمني تفر؟ قال: لا، ولكني أستحييك يا رب (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الرقة والبكاء" عن علي بن أبي طلحة رحمه الله قال: أول شيء كله آدم حين أُهبط - إلى الأرض الكُمَّثرى، وإنه لما أراد أن يتغوط أخذه من ذلك كما يأخذ المرأة عند الولادة، فذهب شرقاً وغرباً لا يدري كيف يصنع، حتى نزل إليه جبريل عليه السلام فأقعى آدم، فخرج ذلك منه، فلما وجد ريحه مكث يبكي سبعين سنة (¬2). وسيأتي وصف موسى عليه السلام بالحياء والتستر قريباً. 74 - ومنها: الاغتسال من الجنابة، والتستر عند الاغتسال وعند قضاء الحاجة حياءً، والحياء في سائر الأحوال، بل كذلك الاستتار مطلقاً، وحفظ العورة، والوضوء والتثليث فيه والمحافظة عليه، والخضاب في محله بالصفرة والحمرة. روى البخاري، والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ رَجُلاً حَييِّاً سِتِّيرًا، لاَ يُرَىْ مِنَ جِلْدِهِ شَيء اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فآدَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِيْ إسْرَائِيلَ، فَقَالَ: مَا يَتَسَتَّرُ هَذَا ¬
التَسَتُّرُ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ؛ إِمَّا بَرَصٍ، وَإِمَّا أُدْرَةٍ (¬1)، وَإِمَّا آفَةٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَىْ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوْا، فَخَلا يَوْمًا وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَىْ الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَىْ ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا وَإِنْ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوبِهِ، فَأَخَذَ مُوْسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثُوْبِي حَجَرُ، حَتَّىْ انتهَىْ إِلَىْ مَلأٍ مِنْ بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَاناً أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُوْلُوْنَ، وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ وَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنُدَبَا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلاَثاً أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا، فَذَلِكَ قُوْلُهُ تَعَالَىْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] " (¬2). وروى الإمام أحمد، وابن ماجه بإسناد حسن، عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا بماءٍ فتوضأ مرة مرة فقال: "هَذَا وَظِيْفَةُ الوُضُوْءِ"، أو قال: "هَذَا وُضُوْء، مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْهُ لَمْ يَقْبَلِ اللهُ لَهُ صَلاَةً"، ثم توضأ مرتين مرتين ثم قال: "هَذَا وُضُوْءٌ، مَنْ تَوَضَّأَهُ أَعْطَاهُ اللهُ كِفْلَيْنِ مِنَ الأَجْر"، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: "هَذَا وُضُوْئِي وَوُضُوْءُ الْمُرْسَلِيْنَ قَبْلِي" (¬3). وروى ابن ماجه بسند ضعيف، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: توضأ ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة واحدة فقال: "هَذَا وُضُوْءُ مَنْ لاَ يَقْبَلُ الله لَهُ صَلاَةً إِلاَّ بِهِ"، ثم توضأ ثنتين فقال: "هَذَا وُضُوْءُ العَدْلِ مِنَ الوُضُوْءِ"، وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: "هَذَا أَسْبَغُ الوُضُوْءِ، وَهُوُ وُضُوْئي وَوُضُوْءُ خَلِيْلِ اللهِ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَمَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا ثُمَّ قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ فَتَحَ اللهُ لَهُ ثَمَانِيَةَ أَبْوابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن يزيد بن بشر، عن بعض أهل الكتاب: أنَّ الله - عز وجل - أوحى إلى موسى عليه السلام: يا موسى! إن جاءك الموت وأنت على غير وضوء فلا تلومنَّ إلا نفسك (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن يزيد بن بشر رحمه الله أيضاً: أنَّ الله - عز وجل - أوحى إلى موسى عليه السلام: أن توضأ؛ فإن لم تفعل فأصابتك مصيبة فلا تلومن إلا نفسك (¬3). وفيه إشارة إلى أن الطهارة وقاية من السوء والمصائب، وهذا من الأسرار الخفية. وروى الديلمي، وابن النجار في "تاريخه" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ مَنْ خَضَبَ بِالحِنَّاءِ وَالكَتْمِ إبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ ¬
75 - ومنها: لبس القميص، والسراويل، والكساء، والجبة، والقلنسوة، والنعل، وسائر أنواع اللباس مما لا يكون فيه إسراف ولا مخيلة.
السَّلاَمُ، وَأَوَّلُ مَنْ اخْتَضَبَ بِالسَّوَادِ فِرْعَونُ" (¬1). 75 - ومنها: لبس القميص، والسراويل، والكساء، والجبة، والقَلَنْسُوَة، والنعل، وسائر أنواع اللباس مما لا يكون فيه إسراف ولا مَخِيلة. قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26]. أحق الناس بالعمل بهذه الآية الأنبياء عليهم السلام ومن على آثارهم، وأول من عمل بها آدم عليه السلام، ثم أمر الله تعالى بنيه (¬2) أن يتخلقوا بما تخلق به من ذلك. وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18]. وقال تعالى حكاية عنه: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} [يوسف: 93]. وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي رهُم السَّمَعِيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث: "وإِنَّ مِنْ لبسَةِ الأَنْبِيَاءِ القَمِيْصَ قَبْلَ السَّرَاوِيْلِ" (¬3). ¬
وروى الترمذي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَانَ عَلَىْ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَوْمَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ كِسَاءُ صُوْفٍ وَجُبَّةُ صُوْفٍ، وَكمةُ صُوْفٍ، وَسَرَاوِيلة صُوْفٍ، وَكَانَتْ نَعْلاَهُ مِنْ جِلدِ حِمارٍ مَيْتٍ" (¬1). قال الترمذي: والكمة: القَلَنْسُوَة الصغيرة. وقال الجوهري: المدورة، وأطلق صاحب "المحكم": أنها القَلَنْسُوَة (¬2). قال القاضي أبو بكر بن العربي: القَلَنْسُوَة من لباس الأنبياء والصالحين، تصون الرأس وتمكن العمامة، وهي من السنة. وروى أبو نعيم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَوَّلَ مَنْ لَبِسَ السَّراوِيلَ إِبْراهِيْمُ عَلَيهِ السَّلامُ". قيل: وهذا هو السبب في أنه أول من يُكسى يوم القيامة، كما ثبت في "الصحيحين" من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬3)؛ لأن السراويل من أشد الملابس للعورة (¬4). وروى وكيع في "الغرر" عن واصل مولى أبي عيينة رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام: يا إبراهيم! إنَّكَ ¬
أكرم أهل الأرض عليَّ، فإذا سجدت فلا تُرِي الأرض عورتك؛ قال: فاتَّخَذ سراويل (¬1). قلت: وفيه إشارة إلى أنَّ للأرض إدراكًا بحيث ينبغي للعاقل أن يستحي منها، فيستر عنها عورته، كيف لا وقد ثبت أنها تشهد على العبد يوم القيامة بما يعمل عليها. وقد قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] قال: "أتدْرُونَ ما أَخْبارُها؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فَإِنَّ أَخْبارَها أَنْ تَشْهَدَ على كُلِّ عَبدٍ أو أمة بِما عَمِلَ على ظَهْرِها، تَقُولُ: عَمِلَ كَذا وَكَذا فِي يَوْمِ كَذا وَكَذا، فَهَذهِ أَخْبارُها". رواه الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، والحاكم، وصححاه (¬2). وقال مجاهد رحمه الله في الآية: تُخبر الناس بما عملوا عليها. رواه الفريابي، والمفسرون (¬3). ¬
76 - ومن أخلاق الأنبياء عليهم السلام: التؤدة والتأني إلا في أمور الآخرة، والاقتصاد في المعيشة، والسمت الحسن.
ولا شك أن الشهادة فرع عن المشاهدة والتعقل، وقد أخبر السمع بمثل ذلك وهو ممكن، فإنَّ الذي خلق من تراب بشراً سَوياً حياً قادراً مُريداً سميعاً بصيراً متكلماً، قادر على أن يخلق في الأرض وما فيها من الجمادات إدراكاً وتعقلاً تشهد يوم القيامة على موجبه وتخبر بما شاهدت وعقلت، فالمناسب لأفاضل العقلاء أن يتحرزوا عن كل ما لا يستحسن أن يطلعوا عليهم خلقاً وهم متلبسون به خشية الشهادة عليهم كما أمر الله تعالى خليله عليه السلام: أن لا يُري الأرض عورته؛ لكرامته على الله تعالى، فكيف بالعورات المعنوية والقاذورات الاعتبارية؛ فافهم! . 76 - ومن أخلاق الأنبياء عليهم السلام: التؤدة والتأني إلا في أمور الآخرة، والاقتصاد في المعيشة، والسَّمْت الحسن. روى الترمذي عن عبد الله بن سَرْجس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "التُّؤَدَةُ وَالاقْتِصادُ وَالسَّمْتُ الحَسَنُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِيْنَ جُزْءًا مِنَ النّبُوَّةِ" (¬1). وروى الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السَّمْتُ الحَسَنُ والتّؤَدَةُ وَالاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِيْنَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" (¬2). ¬
تنبيه
وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: كان يُقال: من أخلاق الأنبياء [و] لأصفياء الخيار، الطاهرةِ قلوبُهم خلائقُ ثلاث؛ الحلم، والأناة، وحظ من قيام الليل (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الهَدْيَ الصَّالح وَالسَّمْتَ الصَّالح جُزْءٌ مِنْ سَبْعِيْنَ جُزْءًا مِنَ النّبُوّةِ" (¬2). والفرق بين السمت والهدي: أنَّ السمت عبارة عن الهيئة، والهدي عبارة عن الطريقة والمذهب فهو أشمل من السمت وأعم منه. وإنما كان حسن السمت في الحديثين السابقين جزءاً من أربعة وعشرين جزءاً من حيث انضمامُه إلى التؤدة والاقتصاد، وأما من حيث انفرادُه وانضيافُه إلى الهدي الصالح فهو جزء من سبعين جزءاً من النبوة؛ فافهم! * تنبِيْهٌ: أما العجلة في أمور الآخرة والمسارعة إليها فإنها من أخلاق الأنبياء عليهم السلام، كما تقدم بيانه. قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90]. ¬
وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]؛ أي: شوقاً إليك. أجاب موسى بذلك ربه لما مسألة عن سبب عجلته بقوله: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ} [طه: 83] وذلك أنَّ موسى عليه السلام اختار من قومه سبعين رجلاً ليذهبوا معه إلى الطُّور ليأخذوا التوراة، فسار بهم ثم عجل موسى من بينهم شوقاً إلى ربه وخلف السبعين، وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل، فقال الله تعالى له: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ} [طه: 83] الآية. وهذا يدل أنَّ من أخلاق النبيين عليهم السلام الشوق والمحبة لأنها مستلزمة له. وروى ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ من طريق ابن جريج رحمه الله تعالى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} إلى قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]؛ قال: اشتاق إلى لقاء الله تعالى وأحب أن يلحق بآبائه، فدعا الله أن يتوفاه وأن يلحقه بهم. قال ابن عباس: ولم يسأل نبي قط الموت غير يوسف فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف: 101] الآية. قال ابن جريج: وأنا أقول في بعض القراءة: من قال من الأنبياء: توفني (¬1). ¬
وهنا لطيفتان
وروى الترمذي، والحاكم في "المستدرك" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانَ دَاوُدُ عَلَيهِ السَّلامُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إَنِّيْ أَسْألُكَ حُبَّكَ وَحبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَالعَمَلَ الَّذِيْ يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي وَمِنَ المَاءِ البَارِد" (¬1). وهنا لَطِيفَتانِ: * الأُوْلَى: لا مانع لأهل المحبة والشوق إلى لقاء الله تعالى أن يشتاقوا إلى أودَّائهم فيه وأقربائهم المتوافقين معهم عليه؛ فإنَّ في هذا الفرق جمعا، وأَكْرِمْ بمحبة الله ثمَّ محبة أوليائه أصلاً وفرعاً وحقيقة وشرعاً. قال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: لمَّا أُوتي يوسف عليه السلام من الملك ما أُوتيه تاقت نفسه إلى آبائه فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} إلى قوله {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]؛ قال: بآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام. رواه ابن أبي حاتم (¬2). وروى هو وابن جرير عن قتادة رحمه الله تعالى قال: لمَّا قدم على يوسف أبواه وإخوته، وجمع الله شمله وأقرَّ عينه وهو يومئذٍ مغموس في بيت نعيم من الدنيا، اشتاق إلى آبائه الصالحين إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام فسأل الله القبض، ولم يتمن أحد ¬
اللطيفة الثانية
الموت قط نبي ولا غيره إلا يوسف؛ يعني: لم يتمنَ الموت أحد شوقاً إلا يوسف (¬1). * اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: ينبغي للمحب المشتاق أن يطلب اللحاق، فإن أجيب من المحبوب بخلاف المطلوب فليرض من الحبيب بما يرضى منه ويجيب؛ فإنَّ الخيرة فيه والعبودية تقتضيه. روى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي الأعيس قال: لما قال يوسف {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] شكر الله له ذلك فزاد في عمره ثمانين عاماً (¬2). ثم إنَّ لله تعالى في أوليائه ما شاء من قبض أو إرجاء إلى وقتٍ - طلبوا ذلك أم كرهوه - غير أنه لا يُعاملهم في كل حال إلا بما فيه الخيرة لهم نظراً لهم لأنه أولى بهم من أنفسهم وأعلم بمصالحهم منهم بها، فإن طلبوا لقاءه أحب لقاءهم، إلا أنهم إذا طلبوه فقد يجيبهم وقد يُؤخرهم، وإذا علم كراهتهم للموت لطف بهم كان كره مساءتهم؛ إذ لابُدَّ لهم من لقائه. وروى البيهقي في "الشعب" عن دكين الفزاري: أنَّ ملك الموت ¬
77 - ومن أخلاق الأنبياء عليهم السلام: الرضا بقضاء الله تعالى.
عليه السلام جاء إلى إبراهيم عليه السلام لقبض روحه، فقال إبراهيم: يا ملك الموت! هل رأيت خليلاً يقبض روح خليله؟ فعرج ملك الموت إلى ربه فقال: قل له: هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله؟ فرجع، قال: فاقبض روحي الساعة (¬1). خاف إبراهيم عليه السلام أن يكون في قبضه فواتاً لما كان يتنعم به من الخُلَّة والتلذذ بالمناجاة والعبادة والخدمة، فعرَّفه أن القبض ليس فيه انفصال عن الخُلَّة والأُنْس بل زيادة في الاتصال، فهيَّج منه الشوق إلى لقائه، وحرَّك منه طلب الانتقال إلى مشاهدته. 77 - ومن أخلاق الأنبياء عليهم السلام: الرضا بقضاء الله تعالى. قال الله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5، 6]. وهو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: راضياً، أو بمعنى مفعول؛ أي: مرضياً، ولا يكون مرضياً حتى يكون مؤمناً صالحاً، وكمال ذلك بالرضا. وروى أبو نعيم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَوْحَىْ اللهُ إِلَىْ مُوْسَىْ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّكَ لَنْ تتقرَّبَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الرِّضَا بِقَضَائِي، وَلَمْ تَعْمَلْ عَمَلاً أَحْبَطَ لِحَسَنَاتِكَ مِنَ الكِبْرِيَاءِ، مُوْسَى! ¬
78 - ومنها: إيثار محبة الفقراء والصحبة معهم على صحبة الأغنياء لهذا الحديث المذكور.
لاَ تَضَرَّعْ لأَهْلِ الدُّنْيَا فَأَسْخَطَ عَلَيْكَ، وَلاَ تَخف بِدِيْنِكَ لِدنْياهمْ فَأُغْلِقَ عَنْكَ أَبْوَابَ رَحْمَتِي، يَا مُوْسَى! قُلْ لِلْمُذْنِبيْنَ النَّادِمِيْنَ: أَبْشِرُوْا، وَقُلْ لِلعَامِلِيْنَ المُعْجَبِيْنَ: اخْسَرُوا" (¬1). وذكر أبو طالب المكي في "قوته": أن في أخبار موسى عليه السلام: أنه قال: يا رب، أي الأشياء أحب إليك، وأيها أبغض؟ فقال: أحب الأشياء إليَّ الرضا بقضائي، وأبغضها إليَّ أن تطْري نفسك (¬2). 78 - ومنها: إيثار محبة الفقراء والصحبة معهم على صحبة الأغنياء لهذا الحديث المذكور. وقال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]. وروى الديلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مَعْشَرَ الفُقَرَاءِ! إِنَّ اللهَ تَعَالَى رَضِيَ أَنْ أَتَأسَّىْ بِمُجَالَسَتِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف: 28] فَإِنهَا مَجَالِسُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلَكُمْ" (¬3). وفي الحديث: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول للفقراء بعد نزول هذه ¬
الآية: "مَعَكُمُ الْمَحْيَا وَمَعَكُمُ المَمَاتُ" (¬1). وذكر في "الإحياء" عن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى: أنه قال: حبُّك للفقراء من أخلاق المرسلين، وإيثارك مجالستَهم من أعمال الصالحين، وفرارك من محبتهم من علامات المنافقين (¬2). وفي "الصحيحين": أن هرقل عظيم الروم لمَّا سأل أبا سفيان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. الحديث؛ وفيه قول هرقل: وهم أتباع الرسل (¬3). وقال الله تعالى حكاية عن قوم نوح: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27]. وروى الإمام ابن الإمام؛ عبد الله بن أحمد بن حنبل في "زوائد الزهد" عن عبد الله بن رباح الأنصاري قال: كان داود عليه السلام ينظر أغمص مجلس من مجالس بني إسرائيل، فيجلس بين ظهرانيهم، ويقول: يا ربِّ! مسكين بين ظهراني مساكين (¬4). وروى والده عن سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه ما من كلمة كانت تقال لعيسى بن مريم عليهما السلام أحب إليه من أن يُقال: كان ¬
79 - وكذلك من أعمالهم: تشييع الجنائز، وتعزية الحي بالميت.
هذا المسكين (¬1). وعن وهب بن منبه رحمه الله قال: أوحى الله إلى عيسى عليه السلام: إني وَهَبْتُ لك حب المساكين ورحمتهم؛ تحبهم ويحبونك، ويرضون بك إماماً وقائداً، وترضى بهم صحابة وتبعاً، وهما خُلُقانِ، اعلم أن من لقيني بهما لقيني بأزكى الأعمال وأحبها إلي (¬2). وقال القشيري في "الرسالة": قيل: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: تريد أن يكون لك يوم القيامة مثل حسنات الخلق أجمع؟ قال: نعم، قال: عُدِ المريضَ، وكن لثياب الفقراء فالياً، فجعل موسى على نفسه في كل شهر سبعة أيام يطوف على الفقراء يفلِّي ثيابهم ويعود المريض (¬3). وفي ذلك إشارة أن من أعمال الأنبياء عليهم السلام عيادة المرضى. 79 - وكذلك من أعمالهم: تشييع الجنائز، وتعزية الحي بالميت. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي عثمان الجعد قال: بلغنا أن داود عليه السلام قال: إلهي! ما جزاء مَنْ عزَّى حزيناً لا يُريد به إلا وجهك؟ ¬
80 - ومنها: مساعدة الضعفاء وقضاء حوائج المسلمين.
قال: جزاؤه أن أُلبسه لباس التقوى. قال: إلهي! ما جزاء من شيع جنازة لا يُريد بها إلا وجهك؟ قال: جزاؤه أن تشيعه ملائكتي إذا مات، وأن أُصلي على روحه في الأرواح. قال: إلهي! ما جزاء من أسند يتيماً أو أرملة لا يُريد إلا وجهك؟ قال: جزاؤه أن أُظله في ظل عرشي يوم لا ظلَّ إلَّا ظلي. قال: إلهي! ما جزاء من فاضت عيناه من خشيتك؟ قال: جزاؤه أن أُؤمنه يوم الفزع الأكبر، وأن أقي وجهه فيح جهنم (¬1). 80 - ومنها: مساعدة الضعفاء وقضاء حوائج المسلمين. قال الله تعالى في موسى عليه السلام: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} إلى قوله: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص: 23 - 24]. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في "الصحيحين": "مَنْ كانَ فِيْ حاجَةِ أَخِيْهِ كانَ اللهُ فِيْ حاجَتِهِ" (¬2). ¬
81 - ومنها: أن الأنبياء عليهم السلام لا يتطلعون في عمل صالح إلى عرض من الدنيا - قل أو جل - سواء في ذلك التبليغ وغيره.
وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ مَشَى فِيْ حَاجَةِ أَخِيْهِ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنِ اعْتِكَافِ عَشْرِ سِنِيْنَ، وَمَنِ اعْتَكَفَ يَوْمَاً ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ ثَلاَثَةَ خَنَادِقَ؛ كُلُّ خَنْدَقٍ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ الخَافِقَيْنِ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "قضاء الحوائج" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَضَىْ لأَخِيْهِ حَاجَةً كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خَدَمَ اللهَ عُمُرَهُ" (¬2). قلت: ووجه ذلك: أنَّ من قضى لأخيه حاجة يقضيها وهو محتاج إليها والله تعالى غني عن عبادته وعن عبادة غيره؛ فإن الحاجة لا تمسه سبحانه وتعالى، وحيث كان قضاء الحوائج بهذه المثابة من الفضل فهو حري بأن يكون من أخص أعمال الأنبياء عليهم السلام. 81 - ومنها: أنَّ الأنبياء عليهم السلام لا يتطلعون في عمل صالح إلى عرض من الدنيا - قلَّ أو جَلَّ - سواء في ذلك التبليغ وغيره. قال الله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا ¬
أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]. أغنى المرأتين بسقي مواشيهما، واستغنى عنهما، وافتقر إلى الله تعالى، وأنزل به حاجته دون غيره وهو محتاج حال؛ أي: لما يسد جوعته. وقال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72]. وقال تعالى حكاية عنه أيضاً: {وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود: 29]. وحكاية عن هود عليه السلام: {يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} [هود: 51]. وقال تعالى حكاية عنهما، وعن صالح، وعن لوط، وعن شعيب عليهم السلام: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 127]. وروى ابن عساكر عن أبي حازم رحمه الله قال: لمَّا دخل موسى على شعيب عليهما السلام إذا هو بالعشاء، فقال له شعيب: كُلْ، قال موسى: أعوذ بالله، قال: ولمَ؟ ألست بجائع؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما، وأنا من أهل بيتٍ لا نبيع شيئاً من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً، قال: لا والله، ولكنها عادتي وعادة آبائي؛ نُقري الضيف ونطعم الطعام، فجلس موسى فأكل (¬1). ¬
روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: إنما أعلمكم لتعلموا ليس لتعجبوا، يا ملح الأرض! لا تفسدوا؛ فإنَّ الشيء إذا فسد إنما يصلح بالملح، وإن الملح إذا فسد لم يصلح بشيء، ولا تأخذوا ممن تعلمون من الأجر إلا مثل الذي أخذتُ منكم (¬1). وفي بعض الآثار: علموا مجاناً كما عُلِّمتم مجاناً (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُلَمَاءُ هَذهِ الأُمَّةِ رَجُلاَنِ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا فَبَذَلَهُ لِلنَّاسِ، وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ طَمَعًا - وفي لفظ: طَعْمًا -، وَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ ثَمَناً، فَذَلِكَ تَسْتَغْفِرُ لَهُ حِيْتَانُ اليَمِّ وَدَوَابُّ البَرِّ وألطَّيْرُ فَيْ جَوِّ السَّمَاءِ، وَيَقْدُمُ عَلَى اللهِ سَيِّدًا شَرِيْفًا حَتَّىْ يُرَافِقَ المُرْسَلِيْنَ. وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا، وَاشْتَرَى بِهِ ثَمنًا، فَذَلِكَ يُلْجَمُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ". قال: "وَيُنَادِي مُنَادٍ: هَذَا الَّذِيْ آتَاهُ اللهُ عِلْماً فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا، وَاشْتَرَى بِهِ ثَمَناً؛ وَذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الحِسَابِ" (¬3). ¬
82 - ومنها: أنهم حيث لا يريدون بأعمالهم إلا وجه الله تبارك وتعالى فلا يتقربون من كل نوع من أنواع القربات إليه إلا بأحسنها وأحبها إليه، ولا يؤثرون أنفسهم عليه بشيء لأن رغبتهم إليه وحرصهم عليه؛ فإنهم أخيار الأبرار.
82 - ومنها: أنهم حيث لا يريدون بأعمالهم إلا وجه الله تبارك وتعالى فلا يتقربون من كل نوع من أنواع القربات إليه إلا بأحسنها وأحبها إليه، ولا يؤثرون أنفسهم عليه بشيء لأنَّ رغبتهم إليه وحرصهم عليه؛ فإنَّهم أخيار الأبرار. وقد قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. وقد روى الإمام أحمد في "الزهد"، ومن طريقه: أبو نعيم عن يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى قال: كان إبراهيم عليه السلام يُطعم الناس والمساكين أسمنَ ما يكون في غنمه، ويذبح لأهله المهزول والرَّديء منها، فكان أهله يقولون له: تذبح للناس والمساكين السمين من غنمك وتطعمنا المهزول؟ فقال إبراهيم: بئس مالي إن ألتمسْ خيرَ ما عند ربي بشرِّ مالٍ (¬1). وقد كان لولا ضرورة العبد واحتياجه إلى ما به قوامه من شرط عبوديته أن يخرج عن كل ما سوى محبوبه الذي هو معبوده إلا أن الله تعالى رضي من العبد وأتم تبرره بأن يخرج عن بعض محابِّه، وكان من شرط المقربين أن البعض الذي يخرجون عنه من المحاب ما سوى قدر ضرورته، ومن هنا شرط عيسى بن مريم عليه السلام على من طلب اللحاق به أن يخرج عن ماله كما روى الإمام أحمد في "الزهد" عن خيثمة رحمه الله قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام لرجل: تصدق ¬
83 - ومنها: البداءة بالسلام ورده.
بمالك، والحقني، قال: فنكس، فقال عيسى عليه السلام بشدة: ما يدخل الغني الجنة (¬1). وبيانه أن الغني متعلق القلب بماله وذلك حجابه عن ربه، فأمره بقطع هذه العلاقة ليتصل بربه، فمن كان غناه بربه لم يضره بقاء صورة المال بيده، ألا ترى أنه يستعد به لجهاد أو حج أو بر أو صلة أو صدقة ويدلُّ على صدقه في ذلك أن يستوي عنده وجوده بيده وخروجه من يده، وهذا شأن الأنبياء كما قال الأعرابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن محمَّدًا يعطي عطاء من لا يخشى فاقة (¬2). 83 - ومنها: البداءة بالسلام ورده. وأول من بدأ بالسلام آدم عليه السلام، وأول من ردَّ السلام الملائكة عليهم السلام. قال الله تعالى حكاية عن الملائكة وإبراهيم عليهم السلام: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [الذاريات: 25]. وروى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَلَقَ اللهُ آدمَ عَلى صُوْرتهِ - أي: على سورة آدم المخصوصة المعروفة به - وَطُوْلُهُ سِتُّوْنَ ذِراعاً ثُمَّ قالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلى أُوْلَئِكَ النَّفَرِ - وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ جُلُوسٌ - فَاسْتَمعْ ما يُجِيبُوْنَكَ ¬
84 - ومنها: مصافحة الأخ والقريب عند اللقاء، ومعانقته وإظهار البشاشة والبشر والهشاشة.
بِهِ؛ فَإِنَّها تَحِيَّتُكُ وَتَحِيَّةُ ذُرَّيَّتِكِ، فَذهبَ فَقالَ: السَّلامُ عَلَيْكُم، فَقالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ فَزادُوْهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلى صُوْرَةِ آدَمَ فِيْ طُوْلهِ سِتُّوْنَ ذراعاً، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدَهُ حَتَّى الآنَ" (¬1). 84 - ومنها: مصافحة الأخ والقريب عند اللقاء، ومعانقته وإظهار البشاشة والبشر والهشاشة. روى الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب "آداب الصحبة" عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مِنْ أَخْلاَقِ النَّبِيِّيْنَ وَالصِّدِّيْقِيْنَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ البَشَاشَةُ إِذَا تَزَاوَرُوا، وَالمُصَافَحَةُ وَالتَّرْحِيْبُ إِذَا الْتَقَوا" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان"، والخطيب في "تاريخه"، والغسولي في "جزئه" عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن معانقة الرجل أخاه إذا هو لقيه، قال: "كَانَتْ تَحِيَّةَ الأُمَمِ". وفي لفظ: "تَحِيَّةَ أَهْلِ الإِيْمَانِ وَخَالِصَ وِدِّهِم، وَأَولُ مَنْ عَانَقَ إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ". ¬
وفي لفظ: "فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ عَانَقَ خَلِيْلُ الرحمن عَلَيْهِ السَّلاَمُ؛ فَإِنَّهُ خَرَجَ يوماً يَرْتَادُ لِمَاشِيَتِهِ فِيْ جِبَلٍ مِنْ جِبَالِ بَيْتِ المَقْدِسِ إِذْ سَمعَ صَوْتَ مُقَدِّسٍ يُقَدِّسُ اللهَ تَعَالَى، فَذَهَلَ عَمَّا كَانَ يَطْلُبُ، فَقَصَدَ قَصْدَ الصَّوْتِ، فَإِذَا هُوَ بِشَيْخٍ طُوْلُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، أَهْلَبَ يُوَحِّدُ اللهَ تعالى، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيْمُ: يَا شَيْخُ! مَنْ رَبُّكَ؟ قالَ: الَّذِيْ فِي السَّمَاءِ. قالَ: مَن رَبُّ الأَرْضِ؟ قالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قالَ: أَفِيها رَبٌّ غَيْرُهُ؟ قالَ: ما فِيها رَبٌّ غَيْرُهُ، لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَحْدَهُ. قالَ إِبْراهِيْمُ: فَأَيْنَ قِبْلَتُكَ؟ قالَ: الكَعْبَةُ. فَسَأَلَهُ عَنْ طَعَامِهِ، قالَ: أَجْمَعُ مِنْ هَذا التَّمْرِ فِي الصَّيْفِ، فآكُلُهُ فِي الشِّتاءِ. قالَ: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِكَ؟ قالَ: لا. قالَ: أَيْنَ مَنْزِلُكَ؟ قالَ: تِلْكَ المَغَارَةُ. قالَ: اعْبُرْ بِنا إلى بَيْتِكَ.
قالَ: بَينِي وَبَينَهُ وادٍ لا يُخاضُ. قالَ: فَكَيفَ تَعْبُرُهُ؟ قالَ: أَمْشِي عَلَيهِ ذاهِباً وَأَمْشِي عَلَيهِ جائِياً. قالَ: انْطَلِقْ بِنا فَلَعَلَّ الَّذِي ذَلَّلَهُ لَكَ يُذَلِّلُهُ لَنا. فَانْطَلَقا حَتَّى انتُهَيا فَمَشَيا جَمِيعاً عَلَيهِ كُل واحِدٍ مِنْهُما يَعْجَبُ مِن صاحِبِهِ، فَلَمَّا دَخَلا المغارَةَ فَإِذا بِقبْلَتِهِ قِبْلَةِ إِبْراهِيْمَ قَالَ لَهُ إِبْراهِيمُ: أَيُّ يَوْمٍ خَلَقَ اللهُ - عز وجل - أَشَدُّ؟ قالَ الشَّيْخُ: ذَاكَ اليَوْمُ الَّذِيْ يَضَعُ كُرْسيِّهُ لِلْحِسابِ، يَوْمَ تُسَعَّرُ جَهَنَّمُ لاَ يَبْقَى مَلكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلا خَرَّ تُهِمُّهُ نَفْسُهُ. قالَ لَهُ إِبراهِيمُ: ادْعُ اللهَ يَا شَيْخُ أَنْ يُؤَمِّنَنِي وَإِيَّاكَ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ اليَوْمِ. قالَ الشَّيْخُ: وَمَا تَصْنَعُ بِدُعَائِي وَلِي فِي السَّماءِ دَعْوَةٌ مَحْبُوْسَةٌ مُنْذُ ثَلاَثِ سِنِيْنَ؟ قالَ إِبْرَاهِيْمُ: أَلا أُخْبِرُكَ ما حَبَسَ دُعَاءك؟ قالَ: بَلَى. قالَ إِنَّ اللهَ - عز وجل - إِذا أَحَبَّ عَبْداً احْتَبَسَ مَسْأَلتهُ يُحِبُّ صَوْتَهُ، ثُمَّ جَعَلَ على كُلِّ مَسأَلَةٍ ذُخْراً لا يَخْطُرُ على قَلْبِ بَشَرٍ، وإِذَا أَبْغَضَ اللهُ عَبْداً عَجَّلَ لَهُ حَاجَتَهُ، أو ألقَى الإِياسَ فِي صدره لِيَقْبِضَ صَوْتَهُ، فَمَا دَعْوَتُكَ الَّتِي هِيَ فِي السَّمَاء مَحْبُوْسَةٌ؟ قالَ: مَرَّ بِي هاهنا شَابٌّ فِي رَأْسِهِ ذؤابةٌ مُنْذُ ثَلاَثِ سِنِيْنَ وَمَعَهُ
غَنَمٌ، قُلْتُ: لِمَنْ هَذهِ؟ قالَ: لإِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلِ اللهِ. قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ لَكَ فِي الأَرْضِ خَلِيْلٌ فَأَرِييْهُ قَبْلَ خُرُوْجِيَ مِنَ الدُّنْيَا. قالَ لَهُ إِبْرَاهِيْمُ: قَدْ أُجِيْبَتْ دَعْوَتُكَ. ثُمَّ اعْتَنَقا، فَيَوْمَئِذٍ كانَ أَصْلُ المُعَانَقَةِ، وَكانَ قَبَلَ ذَلِكَ السُّجُوْدُ؛ هذا لِهذا وَهذا لِهذا، ثُمَّ جاءَ الصفاحُ - أَي: المُصَافَحَة - مَعَ الإِسْلامِ، فَلَمْ يُسْجَدْ وَلَمْ يُعَانَقْ وَلَنْ تَفْتَرِقَ الأَصَابعُ حَتَّى يُغْفَرَ لِكُلِّ مُصَافحٍ" (¬1). قلت: وقوله: "ولم يُعانَقْ" هذا محمول على غير حالة القدوم من سفر وغيره، وعلى غير الطفل، فإنَّ المعانقة وتقبيل الوجه في سوى ما ذُكر مكروهان، كما في "شرح المهذب" (¬2). أما عند القدوم من سفر ونحوه فسُنَّة. حَسَّنَ الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، فأتى فقرع الباب، فقام إليه ¬
85 - ومنها: التبسم في محله من غير قهقهة ولا رفع صوت.
النبي - صلى الله عليه وسلم - فجرَّ ثوبه، فاعتنقه وقبله (¬1). وكذلك تقبيل الطفل الصغير سنة؛ ففي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: تقبلون صبيانكم؟ فقال: "نَعَم". قالوا: لكنا لا نقبل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَأَمْلِكُ أَنَّ اللهَ قَدْ نزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ؟ " (¬2). وكذلك تقبيل المحارم عند اللقاء، وتقبيل يد الصالح والعالم. فأما تقبيل الغلام الأمرد والجميل، ومصافحته واعتناقه فحرام؛ إلا الولد ونحوه من المحارم على سبيل الشفقة. 85 - ومنها: التبسم في محله من غير قهقهة ولا رفع صوت. قال الله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 19]. قال جماعة من العلماء: كان غالب ضحك الأنبياء عليهم السلام التبسم. وروى أبو الشيخ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: هبط آدم عليه السلام من الجنة بياقوتة بيضاء يمسح بها دموعه. قال: وبكى آدم على الجنة أربعين عاماً، فقال له جبريل عليه ¬
السلام: يا آدم! ما يُبكيك؟ إن الله بعثني إليك مُعزياً، فضحك آدم، فذلك قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]، فضحك آدم وضحكت ذريته، وبكى آدم وبكيت ذريته (¬1). وهذا يدل على أن الضحك والبكاء جِبِلَّةٌ في بني آدم، وهو كذلك. وإنما الممدوح من الضحك ما كان عن عجب من غير إفراط، أو عن سرور بنعمة الله، أو بشارة بخير، أو بشاشة لمسلم، أو على وجه المداراة. ومن البكاء ما كان عن حزن بفوات خير أُخروي، أو تقصير في طاعة، أو خوفاً من الله وخشية له، وما كان كذلك فهو من أخلاق النبوة وصفات الصلاح. روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان" عن ابن الأعرابي قال: لقي يحيى بن زكريا عيسى بن مريم عليهم السلام، ويحيى متبشرٌ متهلِّلُ الوجه، وعيسى قاطبٌ متعَبِّسُ الوجه، فقال عيسى ليحيى: أتضحك كأنك آمن؟ فقال يحيى لعيسى: أتعبس كأنك آيس؟ فأوحى الله إليهما أنَّ ما فعله يحيى أحب إلينا (¬2). واعلم أنه يقع في الأحاديث وكلام السلف إطلاق ذم الضحك كثيراً، وهو محمول على الضحك غفلة أو عبثاً، أو المبالغة فيه والاستغراب والاسترسال إلى القهقهة، أو كثرته، وذلك مذموم. ¬
روى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "القَهْقَهَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالتَبَسُّمُ مِنَ اللهِ تَعَالَى" (¬1). وروى هناد عن الحسن رحمه الله مرسلاً، وله شواهد، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الضَّحِكُ ضَحِكَانِ: ضَحِكٌ يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى، وَضَحكٌ يَمْقُتُهُ اللهُ تَعَالَىْ؛ أَمَّا الضَّحِكُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ فَالرَّجُلُ يُكَشِّرُ فِيْ وَجْهِ أَخِيْهِ حَدَاثَة عَهْدٍ بهِ وَشَوْقاً إِلَى رُؤيَتِهِ، وَأَمَّا الضحِكُ الَّذِي يَمْقُتُ اللهَ عَلَيْهِ فَالرَّجُلُ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْجَفاءِ وَالبَاطِلِ لِيُضْحِكَ أَوْ يَضْحَكَ يَهْوِي بِها فِي جَهَنَّمَ سَبْعِينَ خَرِيْفاً" (¬2). وروى ابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أَبَا هُرَيْرَةَ! كُنْ وَرِعاً تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ". وفيه: "إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِك؛ فَإِن كَثْرَةَ الضَّحِكِ فَسَادُ القَلْبِ" (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهيب رحمه الله تعالى قال: قال الخضر لموسى عليهما السلام حين لقيه: يا موسى بن عمران! انزع عن اللجاجة، ولا تمش بغير حاجة، ولا تضحك من غير عجب، والزم بيتك، وابكِ على خطيئتك (¬4). ¬
وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن يحيى بن كثير قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام لابنه: يا بني! لا تُكثر الغيرة على أهلك؛ فترمى بالشر من أجلك وإن كانت بريئة، ولا تُكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك تستخف فؤاد الرجل الحكيم. قال: وعليك بخشية الله؛ فإنها غلبت كل شيء (¬1). وفي حديث أنس - رضي الله عنه - المروي في "مسند الإمام أحمد"، والكتب الستة إلا "سنن أبي داود": أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ تَعْلَمُوْنَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلَيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيْرًا" (¬2). وروى الأصبهاني عن عبد الله بن المبارك رحمه الله: أنه كان ينشد: [من الوافر] وَكَيْفَ تُحِبُّ أَنْ تُدْعَىْ حَكِيْماً ... وَأَنْتَ لِكُلِّ ما تَهْوَىْ رَكُوْبُ وَتَضْحَكُ دائِباً ظَهْراً لِبَطْنٍ ... وَتَذْكُرُ ما عَمِلْتَ فَلا تَذُوْبُ ¬
فائدة زائدة
* فائِدَةٌ زائِدةٌ: ذكر القرطبي في "تفسيره" عن عائشة رضي الله عنها قالت: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوم من أصحابه وهم يضحكون، فقال: "لَوْ تَعْلَمُوْنَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلَيْلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيْرًا"، فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! إن الله تعالى يقول لك: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]، فرجع إليهم فقال: "مَا خَطَوْتُ أَرْبَعِيْنَ خُطَوَةً حَتَّى أتانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقال: ائْتِ هَؤلاءِ فَقُلْ لَهُمْ: إَنَّ اللهَ يَقُولُ: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] (¬1)؛ أي: قضى أسباب الضحك. قال: وقيل لعمر - رضي الله عنه -: هل كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي، انتهى (¬2). 86 - ومنها: الخطبة، والتذكير والتحذير من الدجال والفتن والأمور المحذورة. وهذا شأن الأنبياء ومن على وراثتهم من العلماء. قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71]. وروى ابن أبي شيبة، والبزار عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه قال: ¬
أول من خطب على المنبر إبراهيم خليل الله عليه السلام (¬1). وروى أبو الشيخ عن سفيان رحمه الله: أن شعيباً عليه السلام كان يُقال له: خطيب الأنبياء عليهم السلام (¬2). والآثار في خطب الأنبياء ومواعظهم كثيرة. وروى الشيخان، وأبو داود، والترمذي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، فذكر الدجال فقال: "إِنِّي لأُنْذِرُكُمُوْهُ، وَما مِنْ نبِيٍّ إِلاَّ قَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنذَرَهُ نَوْحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي سَأَقُوْلُ لَكُمْ فِيْهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نبِيٌّ لِقَوْمِهِ: إنَّهُ أَعْوَرٌ وإِنَّ اللهَ لَيْسَ بِأَعْوَرٍ" (¬3). ومن ثم ينبغي ذكر الدجال وفتنته وغيرها من الفتن والملاحم للاعتبار، وليحفظها الناس كابراً عن كابر، فيحذر المؤمن الذي وقعت في زمانه غوائلها، ولا يدعوك إلى ترك ذكرها إعراض الناس عنها. فقد روى ابن قانع في "معجمه" عن الصَّعْبِ بن جَثَّامَةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لاَ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ حَتَّى يَذْهَلَ النَّاسُ عَنْ ذِكْرِهِ، ¬
87 - ومنها: اتخاذ المنبر والعصا.
وَحَتَّى تَتْرُكَ الأَئِمَّةُ ذِكْرَهُ عَلى المَنَابِرِ" (¬1). 87 - ومنها: اتخاذ المنبر والعصا. وقد علمت آنفا أثر سعد بن إبراهيم في المنبر (¬2). وقدمنا في التشبه بالملائكة عليهم السلام أثراً: أن الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام عصياً بعدد الأنبياء عليهم السلام. وقال الله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 17، 18]. قال البغوي وغيره: وأراد بالمآرب: ما تُستعمل فيه العصا في السفر، فكان يحمل بها الزاد، ويشد بها الحبل، ويستقي الماء من البئر، ويقتل بها الحيات ويحارب بها السباع، ويستظل بها إذا قعد، وغير ذلك، انتهى (¬3). وروى البزار، والطبراني في "الكبير" عن معاذ - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنْ أتَّخِذْ مِنْبَرًا فَقَدِ اتَّخَذَهُ إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وإنْ أتَّخِذِ العَصا، فَقَدِ اتَّخَذها إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ" (¬4). ¬
88 - ومنها: اتخاذ الكلب للحراسة ونحوها.
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن صفوان بن عمر قال: سُئِلَ أبو المثنى الأُملُوكي عن مشي الأنبياء عليهم السلام بالعصا، فقال: ذلٌّ وتواضعٌ لربهم - عز وجل -. وروى أبو نعيم عن يزيد بن ميسرة رحمه الله قال: كانت أحبار بني إسرائيل - الصغير منهم والكبير - لا تمشي إلا بالعصا مخافةَ أن يختال في مشيته إذا مشى (¬1). 88 - ومنها: اتخاذ الكلب للحراسة ونحوها. وهو جائز، ولغير ذلك لا يجوز. روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أول من اتخذ الكلب نوح عليه السلام قال: يا رب! أمرتني أن أصنع الفلك، فأنا في صناعته أصنع أياماً، فيجيئون بالليل فيفسدون كل ما عملت، فمتى يلتئم لي ما أمرتني به، قد طال علي أمري؟ فأوحى الله إليه: يا نوح! اتخذ كلباً يحرسْك. فاتخذ نوح عليه السلام كلبا، وكان يعمل بالنهار وينام الليل، فإذا جاء قومه ليفسدوا ما عمل نبحهم الكلب، فينتبه نوح عليه السلام فيأخذ الهراوة ويثبُ إليهم فيهربون، فالتأم له ما أراد (¬2). 89 - ومنها: اتخاذ القَذَّافة. وهي المقلاع لدفع الصائل ومحاربة العدو، وطرد الذباب عن الماشية، ونحو ذلك. ¬
90 - ومنها: اتخاذ القوس، والرمي عنها بالسهام، وتعلم الرماية للحرب.
وفي قصة طالوت: أن داود عليه السلام قتل جالوت بقذافته. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ثابت البناني رحمه الله تعالى قال: ما ترك عيسى بن مريم عليهما السلام - يعني: حين رُفع - إلَّا مِدْرَعة صوف، وقَفْشَيْنِ - يعني: خفين -، ومِحْذَفة (¬1). 90 - ومنها: اتخاذ القوس، والرمي عنها بالسهام، وتعلم الرماية للحرب. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الرمي" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أول من عمل القِسِيَّ إبراهيم عليه السلام (¬2). وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفر من أسلم يتناضلون، فقال: "ارْمُوْا بَنِيْ إِسْمَاعِيْلَ؛ فَإِنَّ أَبَاكُم كانَ رَامِيًا، ارْمُوْا وَأَنَا مَعَ بَنِيْ فُلاَنٍ". فمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لَكُمْ لاَ تَرْمُوْنَ؟ " قالوا: يا رسول اللهِ! كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: "ارْمُوْا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ" (¬3). وروى الترمذي، وابن ماجه، وصححه الحاكم، عن عقبة بن ¬
91 - ومنها: ارتباط الخيل في سبيل الله، وركوبها لذلك، وإعدادها للحرب.
عامر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ ابْنُ آدَمَ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلاَّ ثَلاَثاً: رَمْيُهُ عَنْ قَوْسِهِ، وَتَأدِيْبُهُ فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَتُهُ أَهْلَهُ؛ فَإِنَّهنَّ مِنَ الحَقِّ، مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَهِيَ نِعْمَةٌ كَفَرَهَا" (¬1). 91 - ومنها: ارتباط الخيل في سبيل الله، وركوبها لذلك، وإعدادها للحرب. قال الله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31]؛ يعني: سليمان عليه السلام عُرضت عليه الخيل الصافنات. وروى الزبير بن بكار في "الأنساب" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانت الخيل وحوشاً لا تُركب، فأول من ركبها إسماعيل عليه السلام، فلذلك سميت العراب (¬2). وروى ابن أبي شيبة، والشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن عروة البارقي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخيْلُ مَعْقُودٌ بِنَواصِيْها الخَيْرُ إِلَىْ يَوْمِ القِيَامةِ"، قيل: يا رسول الله! وما ذلك؟ قال: "الأَجْرُ وَالغَنِيْمَةُ" (¬3). ¬
92 - ومنها: الجهاد في مجيل الله تعالى.
وقد ألف العلماء في فضل الخيل وارتباطها مؤلفات. 92 - ومنها: الجهاد في مجيل الله تعالى. قال الله - عز وجل -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} [البقرة: 251]. وهو داود بن إيشا أبو سليمان عليهما السلام. والنبي المذكور في أول القصة هو يوشع بن نون. وقيل: شمعون. وقيل: أشمويل عليهم السلام. روى الأول ابن جرير عن مجاهد (¬1)، والثاني هو، وابن أبي حاتم عن السدي (¬2)، والثالث ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود (¬3). وروى ابن عساكر عن جابر - رضي الله عنه - قال: أول من قاتل في سبيل الله إبراهيم عليه السلام حين أسر لوط واستأسرته الروم، فغزاهم إبراهيم حتى استنقذه من الروم (¬4). ¬
93 - ومنها: التفكر والاعتبار، والمسافرة لذلك، والضرب في الأرض لمطالعة آيات الله والتماس رزقه، وتنفيذ أقضيته وأحكامه.
وعن حسان بن عطية رحمه الله قال: أول من رتَّب العسكر في الحرب ميمنة وميسرة وقلباً إبراهيمُ لمَّا سار لقتال الذين أسروا لوطاً (¬1). وروى أبو الحسن علي بن محمد الربعي في "فضائل الشام" عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: أغار ملك نبط على لوط عليه السلام فسباه وأهلَه، فبلغ إبراهيم خليل الله عليه السلام ذلك، فأقبل في طلبه في عدة أهل بدر ثلاث مئة وثلاثة عشرة، فالتقى هو وملك الجبل في صحراء يعفور، فعبأ إبراهيم الحرب ميمنة وميسرة وقلباً - وكان أول من عبأ الحرب هكذا - فاقتتلوا، فهزمه إبراهيم عليه السلام، واستنقذ لوطاً وأهله، فأتى هذا الموضع الذي في برزة، فصلَّى فيه واتخذه مسجداً (¬2). وعن يزيد بن أبي يزيد: أن أول من عقد الألوية إبراهيم عليه السلام؛ بلغه أن قوماً أغاروا على لوط عليه السلام فسبوه، فعقد لواء وسارَ إليهم بعبيده ومواليه حتى أدركهم، فاستنقذه وأهلَه (¬3). 93 - ومنها: التفكر والاعتبار، والمسافرة لذلك، والضرب في الأرض لمطالعة آيات الله والتماس رزقه، وتنفيذ أقضيته وأحكامه. روى الإمام أحمد في "الزهد"، وابن أبي الدنيا في "التفكر" عن مالك بن دينار رحمه الله قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: ¬
94 - ومنها: المهاجرة خوفا من الفتنة في الدين.
يا موسى! اتخذ نعلين من حديد وعصا، ثم سُحْ في الأرض، فاطلب الآثار والعبر حتى تنكسر العصا وتنخرق النعلان (¬1). 94 - ومنها: المهاجرة خوفاً من الفتنة في الدين. سبق عن ابن منبه رحمه الله: أنَّ هوداً وصالحًا وشعيباً هاجروا من بلادهم إلى مكة المشرفة. قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]. قال النخعي، وقتادة: وقال؛ يعني: إبراهيم: إني مهاجر؛ قال قتادة: هاجر من كوثى (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن كعب في قوله: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26] قال: إلى حرَّان (¬3). وروى ابن عساكر عن قتادة في الآية قال: إلى الشام كان مهاجَرُهُ (¬4). وكوثى: قرية من سواد الكوفة هاجر منها إبراهيم عليه السلام ¬
إلى حران، ثم إلى الشام، ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارة (¬1). وقال الكلبي: هاجر من أرض حران إلى فلسطين، وهو أول من هاجر من أرض الكفر (¬2). وقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]. قال أكثر المفسرين: إنها الشام (¬3). وفي أثر حسان بن عطية السابق: إشارة إلى أنَّ إبراهيم عليه السلام دخل دمشق مهاجراً. وروى ابن عساكر عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَتَهاجَرُ خِيَارُ أَهْلِ الأَرْضِ هِجْرَةً بَعْدَ هِجْرَةٍ إلَى مُهاجَرِ إبْرِاهِيمَ" (¬4). وقد روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سَتكُوْنُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ؛ فَخِيَارُ أَهْلِ الأَرْضِ ألزَمُهُمْ مُهاجَرَ إبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَيبْقَى فِيْ الأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا، وَتَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُمْ، وَتَقْذِرُهُمْ نَفْسُ اللهِ، ¬
وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ القِرَدَةِ [والخنازير] " (¬1). وقوله: نفس الله؛ أي: ذاته سبحانه الموصوفةُ بأن ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهذا من أحاديث الصفات. وقد قلت متحدثاً بنعمة الله تعالى على أن جعلني من أهل الشام ولاسيما دمشق حرسها الله: [من الطويل] مُهاجَرُ إِبْراهِيْمَ دارِيْ وَمَوْلدِيْ ... وَمَنْشَأُ آبائِي الْكِرامِ وَمَحْتِدِيْ دِمَشْقُ الَّتِيْ قَدْ بُورِكَتْ وَتَقَدَّسَت ... بِمُجْتَمَع لِلصَّالِحِيْنَ وَمَشْهَدِ لَها البُدَلاءُ الأَوْلِياءُ إِذا دُعُوْا ... لِغَوْثٍ أَجابُوا بَيْنَ مُنْجٍ وَمُنْجِدِ بِهِمْ يُمْطِرُ اللهُ البِلادَ وَيرْحَمُ الـ ... ــــــعِبادَ فَأَنْعِمْ بِالْكِرامِ وَأَسْعِدِ لَهُمْ فِيْ حِمَىْ مَوْلاهُمُ كُلُّ سَجْدَةٍ ... يُؤَمِّلُ أَنْ لَوْ قالَها كُلُّ مَسْجِدِ يَؤُمُّوْنَ أَرْضَ الشَّامِ مُسْتَكْمِلِيْنَ فِيْ ... ذُراها لِمَجْدٍ مُسْتَفادٍ وَسُؤْدَدِ ¬
بِلادٌ تَسَامت فِيْ الْمُقامِ وَبُوْرِكَتْ ... بِكُلِّ مَزارٍ أَوْ مَقام وَمَعْبَدِ لَقَدْ عَمَّنِيْ فَضْلُ الْجَوادِ بِهَذهِ الْبِلا ... دِ وَأَوْلانِيْ بِها كُلَّ مَقْصِدِيْ فَدارِيْ جِوارَ الْجامِع الأُمَوِيِّ فِيْ ... ظِلالِ حُماةٍ لا تُطاوَلُ بِالْيَد وَمَجْلِسُ دَرْسٍ فِيْهِ فِيْ خَيْرِ مَوْطِنٍ ... بِقُرْبِ نبِيِّ اللهِ يَحْيَىْ الْمُسَيَّدِ ولي مِنْ إمامِ الأنبياءِ وراثةٌ ... تُطَمّعُنِيْ مِنْهُ الشَّفاعَةُ فِيْ غَدِ عُلُوْمٌ تَسامَىْ أَمْرُها عَنْ مُقائِسٍ ... بِأُفْقِ سَماكَ فِيْ السَّماءِ وَفَرْقَدِ تَجَلَّتْ لَنا مِنْها الْمَعانِيْ كَأَنَّها ... أَوانِسُ عِيْنٌ مَعْ نَواعِسَ خُرَّدِ نَواطِقُ أَنَّ اللهَ لا رَبَّ غَيْرُهُ ... مَتَى شاءَ مِنْ أَمْرٍ هُنالِكُ يَنْفَذِ حَقائِقُ لا تَخْفَى عَلى كُلِّ عارِفٍ ... دقائِقُ لا تَبْدُو لِغَيْرِ مُوَحِّدِ
95 - سكنى الشام.
تَنَزَّهَ عَنْ لَوْثِ الشَّوائِبِ سِرُّهُ ... وَعَنْ قَوْلِ أفاكِ الْمَقالَةِ مُلْحِد وتبين بما ذكرناه: أنَّ من خصال الأنبياء عليهم السلام: 95 - سكنى الشام. ولذلك كانت مواطن الأبدال لأنهم بُدلاء عنهم، ولأنَّ قلوبهم على قلب إبراهيم عليه السلام وهو شامي، وكان مركز القطب بمكة المسرَّفة لأن قلبه على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد قدمنا هذا المعنى. وفي حديث عبد الله بن حوالة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "عَلَيْكَ بِالشَّامِ؛ فَإِنَّهَا خِيْرَةُ اللهِ مِنْ أَرْضِهِ، يِجْتَبِيْ إِلَيْهَا خِيْرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ". رواه أبو داود وغيره، وصححه ابن حبان، والحاكم (¬1). وروى الطبراني من طريقين أحدهما جيد، عنه أنَّه قال: يا رسول الله! خِرْ لي بلداً أكون فيه، فلو أعلم أنك تبقى لم أختر عن قريتك شيئاً؟ فقال: "عَلَيْكَ بِالشَّامِ" قال: فلما رأى كراهيتي للشام قال: "أتَدْرِي ما يَقُوْلُ اللهُ فِيْ الشَّامِ؟ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُوْلُ: يَا شَامُ! أَنْتِ صَفْوَتِي مِنْ بِلادي، أُدْخِلُ فِيْكِ خِيْرَتِي مِنْ عِبَادي، إِنَّ اللهَ تَكَفَّلَ لَي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ" (¬2). ¬
روى ابن أبي حاتم من حديثه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَيْتُ لِيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَمُوْدًا أَبْيِضَ كَأَنَّهُ لُؤْلُؤْةٌ، تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ، قُلْتُ: ما تَحْمِلُوْنَ؟ قَالوا: عَمُوْدَ الإِسْلاَمِ، أُمِرْناَ أَنْ نَضَعَهُ بِالشَّامِ" (¬1). وسبق في التشبه بالملائكة عليهم السلام: "طُوْبَى لِلشَّامِ لأَنَّ مَلاَئِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهَا" (¬2). وفي رواية أخرجها الطبراني في "الكبير": "طُوْبَى لِلشَّامِ، إِنَّ الرَّحْمَنَ لَبَاسِطٌ رَحْمَتَهُ عَلَيْهِ" (¬3). وروى هو فيه، والحاكم وصححه، عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشَّامُ صَفْوَةُ اللهِ مِنْ بِلاَدِهِ، إِلَيْهَا يِجْتَبِيْ صَفْوَتَهُ من عِبَاده، فَمَنْ خَرَجَ مِنَ الشَّامِ إِلَىْ غَيْرِهَا فَبِسُخْطِهِ، وَمَنْ دَخَلَهَا مِنْ غَيْرِهَا فَبِرَحْمَتِهِ" (¬4). وهو يريد بقوله: "من غيرها"، و"إلى غيرها" ما عدا مكة والمدينة؛ لأنهما أفضل من سائر الأرَضين. وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فُسْطَاطُ المُسْلِمِيْنَ يَوْمَ المَلْحَمَةِ الكُبْرَىْ بِأرْضٍ يُقَالُ لَها: الغُوْطَةُ، ¬
فَيْها (¬1) مَدِيْنةٌ يُقَالُ لَهَا: دمَشْقُ؛ خَيْرُ مَنَازِلِ المُسْلِمِيْنَ يَوْمَئذٍ (¬2) " (¬3). وروى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر بسند صحيح، عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا} يعني: عيسى وأمه عليهما السلام {إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50]: إنها دمشق. وفي لفظ: أُنبئنا أنها دمشق (¬4). ورواه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب، وعن الحسن البصري (¬5). وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد: أنها الغوطة وما حولها (¬6). وروى ابن ناصر الدين حافظ دمشق في جزء له ألَّفه في الربوة بسندٍ له متصل، عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنها شعب النيرب. ¬
والذي عليه الجمهور من المفسرين (¬1)، واعتمده الإمام فخر الدين الرازي، ورجَّحه شيخ الإسلام الوالد ما سبق: أن الربوة هي دمشق (¬2). وهو المروي عن جماعة آخرين؛ منهم: خالد بن معدان، وقتادة، ويزيد بن سخبرة، ويحيى بن سعيد، ويزيد بن سخبرة صحابي - رضي الله عنه -، ولفظه: دمشق هي الربوة المباركة. أخرجه ابن عساكر (¬3). وعنده بسند ضعيف عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تلا هذه الآية: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50]، قال: "هَلْ تَدْرُوْنَ أَيْنَ هِيَ؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هِيَ بِالشَّامِ بِأَرْضٍ يُقالُ لهَا: الغُوْطَة، مَدِيْنةٌ يُقَالُ لهَا: دِمَشْقُ، هِيَ خَيْرُ مَدَائِنِ الشَّامِ" (¬4). وأخبرنا شيخ الإسلام والدي رحمه الله عن شيخ الإسلام التقوى ابن قاضي عجلون، عن ابن ناصر الدين: أنه أنشد لنفسه: [من الطويل] إِذا ذُكِرَتْ أَمْصارُ أَرْضٍ بِمَفْخَرٍ ... سِوَى طَيْبَةٍ وَالْقُدْسِ أَيْضاً وَمَكَّةِ ¬
96 - ومنها: المجاورة بمكة المشرفة.
أَجابَ لِسانُ الْحالِ ذاكِرَ فَخْرِها ... أَلا إِنَّ فَخْرَ الشَّامِ أَعْلا بِرَبْوَةِ وللعلامة ابن الوردي: [من الرجز] دِمَشْقُ فِي أَرْجائِها موَاضِعُ ... يَحارُ فِيها ناظِرٌ وَسامعُ رَبْوَتُها وَقَصْرُها وَالْجامعُ ... هُنَّ ثلاثٌ ما لَهُنَّ رابِعُ 96 - ومنها: المجاورة بمكة المشرفة. روى الأزرقي عن محمد بن سابط، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانَ النَّبِيُّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ إِذا هَلَكَتْ أُمَّتُهُ لَحِقَ بِمَكَّةَ، فَيَتَعَبَّدُ اللهَ فِيْها النَّبِيُّ وَقَومُهُ حَتَّى يَمُوْتَ". قال: "فَماتَ بِها نُوْحٌ، وَهُوْدٌ، وَصَالحٌ، وَشُعَيْبُ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، وَقُبُوْرُهُمْ بَيْنَ زَمْزَمَ وَالْحِجْرِ" (¬1). وروى هو، والبيهقي عن عبد الله بن ضمرة السلولي قال: ما بين المقام إلى الركن إلى زمزم إلى الحِجْر قبر سبعة وسبعين (¬2) نبياً، جاؤوا ¬
حاجين فماتوا فقُبروا هنالك (¬1). وروى الأزرقي، والجندي عن عبد الرحمن بن سابط قال: كان النبي من الأنبياء إذا هلك قومه فنجا هو والصالحون معه أتى مكة بمن معه، فيعبدون الله حتى يموتوا فيها، وإنَّ قبر نوح، وهود، وشعيب، وصالح بين زمزم والركن والمقام (¬2). وروى الجندي عن محمد بن سابط: أنَّ قبر إسماعيل - أيضا - ثَمَّ. ومُقامه هو وأبوه إبراهيم، ومجاورتهما بها معلومة من كتاب الله تعالى. واعلم أنَّ كثيراً من العلماء استحبوا المجاورة بمكة لفضلها وتضعيف الحسنات بها، ورغبة في الموت بها. قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: من قُبر بمكة مسلماً بُعث آمناً يوم القيامة. أخرجه الجندي (¬3). وروى البيهقي في "الشعب" عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
97 - ومنها: زيارة بيت المقدس.
"مَنْ ماتَ فِي أحَدِ الحَرَمَيْنِ بُعِثَ آمِناً" (¬1)؛ يعني: من مات من المسلمين. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ماتَ فِي أَحَدِ الحَرَمَيْنِ بُعِثَ مِنَ الآمِنِيْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَنْ زارَني مُحْتَسِبًا إِلى المَدِيْنَةِ كانَ فِي جِوَارِي يَوْمَ القِيَامةِ" (¬2). 97 - ومنها: زيارة بيت المقدس. ولذلك أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الأقصى. وفي "صحيح مسلم" عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُتِيْتُ بِالبُرَاقِ وَهُوَ دابَّةٌ أَبْيَضُ طَويلٌ فَوْقَ الحِمَارِ وَدُوْنَ البَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنتهَى طَرْفهِ، فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالحَلَقَةِ التِي تَرْبِطُ بِها الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ "، وذكر حديث الإسراء (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن خالد بن معدان رحمه الله قال: كتبت إلى الخليفة أُحَوِّل اسمي إلى فلسطين، قيل له: ولم ذاك؟ قال: إنه لم يبق نبي إلا وقد هاجر إلى بيت المقدس، فأُريد أن أُهاجر إليها. وروى هو في "المسند"، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، ¬
فائدة لطيفة
والبيهقي في "الشعب" عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنها قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمَّا بَنَى بَيْتَ المَقْدِسِ سَأَلَ رَبَّهُ خِلالاً ثَلاَثًا، فَأَعْطاهُ اللهُ اثْنتَيْنِ وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ أَعْطاهُ الثالِثَةَ؛ سَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ: أيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ مِن بَيْتِهِ لاَ يُرِيْدُ إِلاَّ الصَّلاةَ فِيْ هَذَا الْمَسْجِدِ - يَعْنِي: بَيْتَ المَقْدِسِ - خَرَجَ مِنْ ذُنُوْبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَنَحْنُ نَرْجُوْ أَنْ يَكُوْنَ اللهَ أَعْطاهُ ذَلِكَ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه عن أبي سعيد - واللفظ له -، وابن أبي شيبة، ومسلم، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنهما - قال أبو سعيد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تُشَدُّ الرِّحالُ إِلاَّ إِلى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ؛ المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذا، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى" (¬2). * فائِدَة لَطِيْفَةٌ: روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن أبي عمران ¬
98 - ومنها: بناء المساجد.
الأنصاري قال: كنت أقود بدابة أم الدرداء فيما بين بيت المقدس ودمشق، فكانت إذا مرَّت بالجبال قالت: يا أبا سليمان! أَسْمعِ الجبال ما وعدها الله - عز وجل -، فأرفع صوتي بهذه الآيات: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47] (¬1). 98 - ومنها: بناء المساجد. قال الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]. وقال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127]. والمساجد الثلاثة أعظم المساجد كل واحد منها بناه نبي؛ المسجد الحرام بناه إبراهيم وإسماعيل، والمسجد الأقصى بناه سليمان، ومسجد المدينة بناه محمد - رضي الله عنه -. ولقد سبق إبراهيم آدم إلى بناء البيت، ثم بوأ الله مكانه لإبراهيم عليه السلام فبناه، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96]. روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والشيخان عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! أي مسجد وُضِعَ أول؟ قال: "الْمَسْجِدُ الْحَرامُ"، قلت: ثم أي؟ قال: "الْمَسْجِدُ الأَقْصَى"، قلت: كم بينهما؟ ¬
قال: "أَرْبَعُوْنَ سَنةً" (¬1). قلت: أراد - والله أعلم - أنَّ المسجد الحرام أول مسجد وُضع؛ أي: خُلق ووُضع مكانه كما قال السدي: إنه كان يوم كانت الأرض ماء ربوة على الأرض، فلما خلق الله الأرض خلق البيت معها، فهو أول بيت وُضع في الأرض. رواه ابن جرير (¬2). وإلا فإنَّ بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى أكثر من أربعين سنة، سواءًا عتبرنا بناء آدم أو بناء إبراهيم. وروى عبد الرزاق، والطبري، والطبراني، وغيرهم عن عطاء رحمه الله قال: قال آدم عليه السلام: أي رب! ما لي لا أسمع أصوات الملائكة عليهم السلام؟ قال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض فابْنِ لي بيتاً، ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بيتي الذي في السماء. فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل (¬3). وروى البيهقي في "دلائله" نحوه عن ابن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَعَثَ اللهُ جِبْرِيْلَ إِلى آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَقالَ لَهُما: ابْنِيا لِي بَيْتاً، فَخَطَّ لَهُما جِبْرِيْلُ، فَجَعَلَ آدَمُ يَحْفِرُ وَحَوَّاءُ تَنْقُلُ حَتَّىْ أَجَابَهُ ¬
المَاءُ، فَنُوْديَ مِنْ تَحْتِهِ: حَسْبُكَ يَا آدَمُ، فَلَمَّا بَنَيَاهُ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنْ يَطُوْفَ بِهِ، وَقِيْلَ لَهُ: أَنْتَ أَوَّلُ النَّاسِ، وَهَذَا أَوَّلُ بَيْتٍ، ثُمَّ تَناسَخَتِ القُرُوْنُ حَتَّى حَجَّهُ نُوْحٌ، ثُمَّ تَنَاسَخَتِ القُرُوْنُ حَتَّىْ رَفَعَ إبْرَاهِيْمُ القَوَاعِدَ مِنْهُ" (¬1). وروى الأزرقي، وأبو الشيخ في "العظمة"، وابن عساكر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لمَّا أهبط الله آدم إلى الأرض من الجنة كان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض وهو مثل الفلك من رعدته، فطاطأ الله منه إلى ستين ذراعاً، فقال: يا رب! ما لي لا أسمع أصوات الملائكة ولا حِسَّهم؟ قال: خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فابن لي بيتاً فطُفْ به، واذكُرني حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي. فأقبل آدم يتخطى، فطُويت له الأرض، وقيض الله له المفازة، فصارت كل مفازة يمرُّ بها خطوة، وقبض الله ما كان فيها من مخاض أو بكر فجعله له خطوة، ولم تقع قدمه على شيء من الأرض إلا صار عمراناً وبركة، حتى انتهى إلى مكة فبنى البيت الحرام. وإنَّ جبريل عليه السلام ضرب بجناحه الأرض، فأبرز عن أُسٍّ ثابت على الأرض السابعة، فقذفت فيه الملائكة الصخر ما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلًا، وإنه بناه من خمسة أجبل؛ من لسان، وطور زثنا، وطور سيناء، والجودي، وحراء حتى استوى على وجه ¬
الأرض، فكان أول من أسس البيت. وصلَّى فيه وطاف به آدم عليه السلام حتى بعث الله الطوفان وكان غضباً ورجساً، فحيث ما انتهى الطوفان ذهب ريح آدم، ولم يقرب الطوفان أرض السند والهند، فدرس موضع البيت في الطوفان حتى بعث الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فرفعا قواعده وأعلامه، ثم بَنَتْهُ قريش بعد ذلك، وهو بحذاء البيت المعمورة لو سقطَ ما سقط إلَّا عليه (¬1). وروى الإمام أحمد، والبخاري، والمفسرون عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ إبراهيم قال: يا إسماعيل! إنَّ الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك، قال: وتُعينني؟ قال: وأُعينك، قال: فإنَّ الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً - وأشار أكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها -، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له وقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] (¬2). وروى أبو بكر الواسطي في "فضائل بيت المقدس" عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كانت الأرض ماءً، فبعث الله تعالى ريحاً فمسحت الماء مسحاً، فظهرت على الأرض زبدة، فقسمها أربع قطع؛ خلق من قطعة ¬
مكة، ومن الثانية المدينة، والثالثة بيت المقدس، والرابعة الكوفة (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والطبراني، وغيرهما عن رافع بن عمير - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قالَ اللهُ تَعالى لِداوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الأَرْضِ، فَبَنَى داوُدُ بَيْتًا لِنَفْسِهِ قَبْلَ البَيْتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: يا داوُدُ! نَصَبْتَ بَيْتَكَ قَبْلَ بَيْتِي؟ قالَ: يا رَبِّ! هكذا قُلْتَ: مَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ، ثُمَّ أَخَذَ فِي بِناءِ المَسجِدِ، فَلَمَّا تَمَّ السُّورُ سَقَطَ ثَلاثًا، فَشَكَى ذَلِكَ إِلَى اللهِ، فَأَوْحَىْ اللهُ إِلَيْهِ: إِنَّكَ لاَ تَصْلُحُ أَنْ تَبْنِيَ لِي بَيْتًا، قالَ: وَلِمَ يَا رَبِّ؟ قالَ: لِمَا جَرَى عَلَى يَدَيْكَ مِنَ الدِّماء، قالَ: يَا رَبِّ! أَوَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَيْ هَوَاكَ وَمَحَبَّتِكَ؟ قالَ: بَلَى، وَلَكِنَّهُمْ عِبَادي وَأَنَا أَرْحَمُهُم، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: لاَ تَحْزَنْ؛ فَإِنِّي سَأَقْضِي بِنَاءَهُ عَلَى يَدَي ابْنكَ سُلَيْمَانَ، فَلَمَّا ماتَ داوُدُ أَخَذَ سُلَيْمانُ فِي بِنَائِهِ، فَلَمَّا تَمَّ قَرَّبَّ القَرابِينَ وَذَبَحَ الذَبَائِحَ وَجَمَعَ بَنِي إسْرَائِيْلَ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: قَدْ أَرَىْ سُرُوْرَكَ بِبُنْيَانِ بَيتِي، فَاسْألنِي أُعْطِكَ، قالَ: أَسْألكَ ثَلاَثَ خِصَالٍ: حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَكَ، وَمُلْكًا لاَ يَنْبَغِيْ لأَحَدٍ مِنْ بِعْدِي، وَمَنْ أتَى هذا البَيْتَ لاَ يُرِيْدُ إِلاَ الصَّلاةَ فِيهِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوْبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا اثْنتَيْنِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ ¬
قَدْ أُعطِيَ الثَّالِثَةَ" (¬1). وقد سبق ذكر هذه الجملة الأخيرة في حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - (¬2). وروى الطبراني، والضياء المقدسي فى "المختارة" عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن المسجد الذي أُسس على التقوى فقال: "هُوَ مَسْجِدِي هَذا" (¬3). وثبت بمعناه في "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (¬4). قال الحسن رحمه الله تعالى: لما أسس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد الذي أسسه على التقوى كان كلما رفع لَبِنَةً قال: "اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الآخِرَةِ"، ثم يُناولها أخاه، فيقول ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تنتهي اللَّبِنَةُ منتهاها، ثم يرفع أخرى فيقول: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلأَنْصارِ وَالْمُهاجِرَةِ"، ثم يُناولها أخاه، فيقول ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تنتهي اللَّبِنَةُ منتهاها. رواه أَبو الشيخ (¬5). ولا شك أنَّ بناء المساجد من الأعمال الصالحة المرغوب فيها. ¬
وقد روى ابن ماجه عن علي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِداً بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ" (¬1). ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - ولفظه: "مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِداً وَلَوْ مِفْحَصَ قَطاةٍ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتا فِي الْجَنَّةِ" (¬2). إلا أن البناء شرطه أن يكون في أرض مُباحة أو مملوكة من مال حلال، وإلا فلا يكون مقبولاً. وقد روى ابن سعد في "طبقاته" عن سالم أبي النضر رحمه الله قال: لمَّا كثر المسلمون في عهد عمر - رضي الله عنه - وضاق بهم المسجد، فاشترى عمر ما حول المسجد من الدُّور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحُجَرَ أمهات المؤمنين، فقال عمر للعباس - رضي الله عنهما -: يا أبا الفضل! إنَّ مسجد المسلمين قد ضاق بهم، وقد ابتعت ما حوله من المنازل يوسع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارَك وحُجَرَ أمهات المؤمنين، فأما حُجَرُ أمهات المسلمين فلا سبيل إليها، وأما دارُك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين، وإما أخطُّك حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين، وإما أن تتصدق بها على المسلمين فتوسع بها في مسجدهم. فقال: لا، ولا واحد منها. فقال عمر: اجعل بيني وبينك من شئت. ¬
قال: أُبَيُّ بن كعب. فانطلقا إلى أُبَيٍّ فقصَّا عليه القصة، فقال أُبَيُّ: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالا: حدثنا. فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ اللهَ تَعالى أَوْحى إِلى داوُدَ أَنِ ابْنِ لِي بَيْتاً أُذْكَرْ فِيْهِ، فَخَطَّ لَهُ هَذِهِ الخُطَّةَ خُطَّةَ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَإِذا تَرْبِيْعُها يَزْوِيْهِ بَيْتُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرائِيْلَ، فَسَأَلَهُ داوُدُ أَنْ يَبِيْعَهُ إِيَّاهُ فَأَبَى، فَحَدَّثَ داوُدُ نَفْسَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنْ يا داوُدُ! أَمَرْتُكَ أَنْ تَبْنِيَ لِي بَيْتاً أُذْكَرُ فِيْهِ، فَأَرَدْتَ أَنْ تُدْخِلَ فِي بَيْتِيَ الْغَصْبَ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِيَ الْغَصْبُ، وَإِنَّ عُقُوْبَتَكَ أَنْ لا تَبْنِيَهُ، قالَ: يا رَبِّ! فَمِنْ وَلَدِي؟ قالَ: مِنْ وَلَدكَ". قال: فأخذ عمر بمجامع ثوب أُبَي بن كعب فقال: جئتك بشيء فجئت بما هو أشد منه، لتخرجن مما قلت، فجاء يقوده حتى أدخله المسجد، فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم أَبو ذر - رضي الله عنه - فقال: إني نشدتُ الله رجلاً سَمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر حديث بيت المقدس حيث أمر الله داود أن يبنيه إلاَّ ذكره. فقال أَبو ذر: أنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلْ أُبيًّا. فأقبل أُبَي على عمر فقال: يا عمر! أتتهمني على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عمر: لا والله يا أبا المنذر لمَّا أتهمك، ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً.
99 - ملازمة المساجد للصلاة والعلم والتعليم والخير.
قال: وقال عمر للعباس: اذهب فلا أعرض لك في دارك. فقال العباس: أمَّا إذا فعلت هذا فإني قد تصدقت بها على المسلمين أُوَسِّع بها عليهم في مسجدهم، فأمَّا وأنت تخاصمني فلا. فخط عمر له داره التي هي له اليوم وبناها من بيت مال المسلمين (¬1). - ومن أعمال الأنبياء عليهم السلام: 99 - ملازمة المساجد للصلاة والعلم والتعليم والخير. قال الله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 39]. وروى الدينوري عن المعتمر بن سليمان رحمهما الله: أنَّ الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام: أين بيتك يا روح الله؟ قال: المساجد (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان عيسى بن مريم عليهما السلام يقول: يا معشر الحواريين! اتخذوا بيوتكم منازل، واتخذوا المساجد مساكن، وكلوا من بقل البرية، واخرجوا من الدنيا بسلام (¬3). ¬
تنبيه
وروى ابن ماجه عن الحكم بن عمير - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُونُوا فِي الدُّنْيا أَضْيافاً، وَاتَّخِذُوا الْمَساجِدَ بُيُوتاً"، الحديث (¬1). وروى الطبراني في "الكبير"، والبزار - وحسنه هو والمنذري (¬2) - عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَتَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ كانَ الْمَسْجِدُ بَيْتَهُ بِالرَّوْحِ وَالرَّحْمَةِ وَالْجَوازِ عَلى الصِّراطِ إِلى رِضْوانِ اللهِ إِلى الْجَنَّةِ" (¬3). ولا شك أن الأنبياء هم خيار الأتقياء. قال القرطبي: وكتب أَبو صادق الأزدي إلى شعيب بن الحبحاب: أنْ عَلَيْكَ بالمساجد؛ فإنه بلغني أنها كانت مجالس الأنبياء (¬4). * تَنْبِيْهٌ: لابد أن تعلم أن الملازم للمسجد لابدَّ أن يكون على نعت الأدب مخلصاً في قعوده، ناوياً لكل خير، منزهاً للمسجد عن اللغط، والبيع والشراء، ونُشْدانِ الضالة، وإنشاد الشعر إلا شعراً فيه ذكر الله تعالى، أو من جنس ما كان ينشد في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين يديه. ¬
100 - ومنها: تعظيم المساجد وتجهيزها وتنظيفها.
وليحافظ على جميع آداب المسجد، ولا يجعل المسجد مجلساً له لأمور دنياه، ولا يُكثر فيه من ذكر الدنيا. روي أن عيسى بن مريم عليهما السلام أتى على قوم يبتاعون في المسجد، فجعل رداءه مخرافاً، ثم جعل يسعى عليهم ضرباً ويقول: يا أبناء الأفاعي! اتخذتم مساجد الله أسواقاً؟ هذا سوق الآخرة (¬1). وعن نبينا - صلى الله عليه وسلم -: "سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمانِ رِجالٌ يَأْتُونَ الْمَساجِدَ، فَيَقْعُدُونَ حِلَقاً حِلَقاً ذِكْرُهُمُ الدُّنْيا وَحُبُّها، فَلا تُجالِسُوهُمْ؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ بِهِمْ حاجَةٌ". نقله القرطبي في تفسير سورة النور (¬2). 100 - ومنها: تعظيم المساجد وتجهيزها وتنظيفها. روى ابن أبي شيبة عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: كان هارون عليه السلام هو الذي يجمِّر الكنائس (¬3). قلت: ومن هنا كانت سدانة بيت المقدس في ولد هارون كما دلَّ عليه الأثر الذي رواه ابن جرير، وابن المنذر عن عكرمة: أنَّ أم مريم لما وضعتها خرجت بها تحملها في خرقة إلى بني الكاهن بن هارون ¬
101 - ومنها: السفر للحج، والجهاد، والهجرة، والزيارة، وطلب الصالحين والعلماء، وطلب العلم، وإعداد الزاد، وحسن النية، وصحبة الرفيق، واتباع الطريق، وحفظ الأوقات وسائر آداب السفر.
أخي موسى عليهما السلام - قال: وهم يومئذٍ يَلُوْنَ من بيت المقدس ما يلي الحَجَبَةُ من الكعبة - فقالت لهم: دونَكم هذه النذيرة؛ فإني حررتها وهي ابنتي ولا تدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي، فقالوا: هذه ابنة إمامنا - وكان عمران يؤمهم في الصلاة - فقال زكريا: ادفعوها إليَّ فإن خالتها تحتي، فقالوا: لا تطيب أنفسنا. فذلك حين اقترعوا عليها بالأقلام التي يكتبون بها التوراة، فقرعهم زكريا فكفلها (¬1). 101 - ومنها: السفر للحج، والجهاد، والهجرة، والزيارة، وطلب الصالحين والعلماء، وطلب العلم، وإعداد الزاد، وحسن النية، وصُحبة الرفيق، واتباع الطريق، وحفظ الأوقات وسائر آداب السفر. وأدلة هذا الباب واسعة جداً، ولنقتصر هنا على الإشارة إلى قصة موسى والخضر عليهما السلام. قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} إلى قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} [الكهف: 60 - 65]؛ يعني: الخضر عليه السلام، وقصتهما مذكورة في "الصحيحين" معروفة في مَحالِّها، وقد اشتملت على لطائف من أعمال الأنبياء وأخلاقهم عليهم الصلاة والسلام. ¬
102 - ومنها: قراءة القرآن، وتحسين الصوت به، والتخشع والتحزن عند قراءته.
102 - ومنها: قراءة القرآن، وتحسين الصوت به، والتخشع والتحزن عند قراءته. روى الإمام أحمد، والستة إلا الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أَذَنَ اللهُ لِشَيْءٍ ما أَذَنَ لِنَبِىٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرآنِ وَيَجْهَرُ بِهِ" (¬1). وقوله: "ما أذن"؛ أي: ما سمع. وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُفِّفَ عَلى داوُدَ الْقُرآنُ وَكانَ يَأْمُرُ بِدَوابِّهِ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوابُّهُ، وَلا يَأْكُلُ إِلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في "كتاب البكاء" عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: كان داود عليه السلام إذا قرأ تصرعت الطير حوله، ووقفت المياه لحُسن صوته، وكان يبكي حتى يُنبت العشب حوله (¬3). وعنه - أيضاً - قال: كان داود إذا رفع صوته بالزبور لم يسمعه شيء إلا حجل؛ أي: رقص (¬4). وروى الرافعي في "تاريخ قزوين" عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
103 - ومنها: صلاة الضحى، والمحافظة على الذكر في الصباح والمساء.
أنه قال: "إِذا قَرَأَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ وَاحْتَشَى مِنْ أَحادِيْثِ رَسُوْلِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَكانَتْ هُناكَ غَرِيْزَةٌ، كانَ خَلِيْفَةً مِنْ خُلَفاءِ الأَنْبِياءِ" (¬1). وروى ابن النجار في "تاريخه"، وغيره عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَدِّبُوا أَوْلادكُمْ عَلى ثَلاثِ خِصالٍ، حُبِّ نبِيِّكُمْ، وَحُبِّ أَهْل بَيْتِهِ، وَقِراءَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ فِي ظِلِّ اللهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ مَعَ أَنْبِيائِهِ وَأَصْفِيائِهِ" (¬2). 103 - ومنها: صلاة الضحى، والمحافظة على الذكر في الصباح والمساء. روى الديلمي، وغيره عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - رضي الله عنه - أنه قال في قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]: "وَفَّى عَمَلَ يَوْمِهِ بِأَرْبَعِ رَكَعاتٍ فِيْ أَوَّلِ النَّهارِ" (¬3). وروى الإمام أحمد، وغيره عن سهل بن معاذ بن أنس التابعي، عن أبيه معاذ بن أنس الصحابي - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللهُ خَلِيْلَهُ إِبْراهِيْمَ: الَّذِي وَفَّى؟ لأَنَّهُ كانَ يَقُوْلُ كُلَّما ¬
أَصْبَحَ وَأَمْسَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] الآية" (¬1). وروى الثعلبي عن كعب رحمه الله قال: من قال حين يُصبح: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] لم يفته خير كان في يومه، ولم يدركه شر كان فيه، ومن قالها حين يُمسي لم يُدركه شر كان في ليلته، ولم يفته خير كان فيها. قال: وكان إبراهيم خليل الله عليه السلام يقولها كل يوم وليلة ست مرات (¬2). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد" عن جعفر بن برقان رحمه الله قال: كان عيسى عليه السلام يقول: اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره، ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبح الأمر بيد غيري، وأصبحت مرتهناً بعملي، فلا فقير أفقر مني، فلا تُشمت بي عدوي، ولا تسؤني في صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تُسلط عليَّ من لا يرحمني (¬3). ¬
104 - ومنها: كثرة الذكر على كل حال وفي كل حين والجلوس في مجالس الذكر.
104 - ومنها: كثرة الذكر على كل حال وفي كل حين والجلوس في مجالس الذكر. قال الله تعالى لموسى عليه السلام: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. وقال تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144]؛ يعني: يونس عليه السلام. وقال تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]. قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى: إنَّ نوحاً عليه السلام كان إذا أكل قال: الحمد لله، وإذا شرب قال: الحمد لله، وإذا لبس قال: الحمد لله، وإذا ركب قال: الحمد لله، فسمَّاه الله عبداً شكوراً. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" (¬1). وروى أبوه عن عطاء بن يسار رحمه الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "قالَ نُوْحٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لابْنِهِ: يا بُنَيَّ! إِنِّي مُوْصِيْكَ بِوَصِيَّةٍ وَقاصِرُها عَلَيْكَ حَتَّى لا تَنْساها، أُوْصِيْكَ بِاثْنتَيْنِ وَأَنْهاكَ عَنِ اثْنتَيْنِ؛ فَأَمَّا اللَّتانِ أُوْصِيْكَ بِهِما فَإِنِّي رَأَيْتُهُما يُكْثِرانِ الْوُلُوْجَ عَلى اللهِ، وَرَأَيْتُ اللهَ يَسْتَبْشِرُ بِهِما وَصالِحِ خَلْقِهِ؛ قَوْلُ: سُبْحانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ؛ فَإِنَّها صَلاةُ الْخَلْقِ وَبِها يُرْزَقُ الْخَلْقُ، وَقَوْلُ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ؛ ¬
فَإِنَّ السَّماواتِ وَالأَرْضَ لَوْ كُنَّ حَلَقَةً لَقَمَّتْهُنَّ، وَلَوْ كُنَّ فِيْ كِفَّةٍ لَرَجَحَتْ بِهِنَّ، وَأَمَّا اللَّتانِ أَنْهاكَ عَنْهُما فَالشِّرْكُ وَالْكِبْرُ" (¬1). وروى عبد الرزاق، والإمام أحمد في "الزهد" عن كعب رحمه الله تعالى قال: قال موسى عليه الصلاة والسلام: يا رب! أقريبٌ أنت فأُناجيك، أم بعيدٌ فأُناديك؟ قال: يا موسى! أنا جليس من ذكرني. قال: يا رب! فإنَّا نكون من الحال على الحال، نجلك ونعظمك أن نذكرك؟ قال: وما هي؟ قال: الجنابة والغائط. قال: يا موسى! اذكرني على كل حال (¬2). قلت: يكفي في مثل الحال الذي ذكره موسى عليه السلام ذكر القلب ويكون بذلك ذاكراً، والمراد بالذكر في الأحوال المذكورة ذكر اسم الله عند مقاربتها، وحمده بعد الخروج من الخلاء. ويشهد للأول: ما رواه عبد الرزاق عن الأعرج أنَّ الله تعالى قال لموسى عليه السلام: اذكرني في نفسك إذا كنت على الخلاء (¬3). ¬
وللثاني: ما رواه عبد الرزاق - أيضاً - عن سعيد المقبري رحمه الله تعالى: أنَّ موسى عليه السلام قال: يا رب! أخبرني بأحب العمل إليك. قال: يا موسى! اذكرني كثيراً. قال: يا رب! أُجلك أن أذكرك في مواطن. قال: ما هي؟ قال: عند الغائط. قال: يا موسى! اذكرني كثيراً. قال: يا رب! ماذا أقول إذا ذهبت إلى الغائط؟ قال: قُل: غفرانك، فجنبني الأذى (¬1). وروى عبد الرزاق - أيضاً - عن يزيد بن أبي منصور رحمه الله قال: قال داود النبي: ألا ذاكرٌ الله فأذكرَ معه؟ ألا مذكرٌ فأذكرَ معه؟ ولوددت إذا جزت قوماً يذكرون الله عز وجل فأنفدهم إلى غيرهم أنَّ الرِّجْل التي تليهم تتكسر (¬2). وعن أبي الجلد رحمه الله قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: أن يا موسى! إذا دعوتني فاجعل لسانك من وراء قلبك، وكن ¬
105 - ومنها: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -
عند ذكري خاشعاً مطمئناً، وإذا قمت بين يدي فقم مقام الحقير الذليل، وذُمَّ نفسك فهي أولى بالذم، وناجِني حين تناجيني بقلبٍ وَجِلٍ ولسانٍ صادق (¬1). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم عن محمد بن كعب القرظي قال: لو رخص الله لأحدٍ في ترك الذكر لرخص لزكريا حيث قال: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41]، ولو رخص لأحدٍ في ترك الذكر لرخص للذين يُقاتلون في سبيل الله؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45] (¬2). 105 - ومنها: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: روى الأصبهاني في "الترغيب" عن كعب رحمه الله: أنَّ الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: يا موسى! أتحبُّ أن لا ينالك من عطش يوم القيامة؟ قال: إلهي نعم. قال: فأكثر من الصلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬
106 - ومنها: تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به وبما جاء به.
106 - ومنها: تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به وبما جاء به. وهو داخل في الإيمان الذي هو من أخص أحوال الأنبياء عليهم السلام. قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]. روى ابن جرير عن علي - رضي الله عنه - قال: لم يبعث الله نبياً - آدم فمن بعده - إلا أخذ عليه العهد في محمد - صلى الله عليه وسلم -: لئن بُعِثَ وهو حي ليؤمنن به وليُنصرنه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه، ثم تلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] (¬1). وعن الحسن رحمه الله في الآية قال: أخذ الله ميثاق النبيين ليبلغن اَخركم أولكم ولا تختلفوا (¬2). 107 - ومنها: كتابة العلم. روى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن معاوية بن الحكم - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانَ نبِيٌّ مِنَ الأَنْبِياءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وافَقَ ¬
خَطَّهَ فَذاكَ (¬1) " (¬2). وهو يحتمل أن يكون أراد بالخط الخط في الرمل وهو الأقرب. وفيه أن من أُلْهِمَ من الخط مثل ما ألهمه ذلك النبي كان له العمل به وإلا فلا، وإن كان اعتماده على الحدس. ويحتمل أن يكون أراد الكتابة. وروى الحكيم الترمذي عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَوَّلُ الرُّسُلِ آدَمُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَأَوَّلُ أَنْبِياءِ بَنِيْ إِسْرائِيْلَ مُوْسى وَآخِرُهُمْ عِيْسَى، وَأَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ إِدْرِيْسُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ" (¬3). ¬
تنبيه
* تَنْبِيْهٌ: الكتابة من الكمالات، غير أنَّ الله تعالى جعل محمداً - صلى الله عليه وسلم - كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَحْسُبُ وَلا نَكْتُبُ" (¬1). وإنما كان الأمر كذلك كما قيل: [من الطويل] لِئَلاَّ يَخُوْضَ الْمُبْطِلُوْنَ بِقَوْلهِمْ ... أَساطِيْرُهُمْ تُتْلَىْ عَلَيْهِ وَتُكْتَبُ ولذلك لم يجعله الله تعالى شاعراً يقول الشعر وينشئه، مع أن الشعر من كمالات العرب، وهو من سلائق فصحائها لئلا يُقال: شاعر. قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]. ومع ذلك قالوا: شاعر، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5]، وكان ذلك منهم مُكابرة وعناداً. * فائِدَةٌ: لم يثبت عن أحد من الأنبياء عليهم السلام أنه قال الشعر إلا ما رُوي عن مقاتل بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما قتل قابيل هابيل، وآدم عليه السلام بمكة اشتاك الشجر، وتغيرت الأطعمة، وحمضت الفواكه، وأَمَرَّ الماء، واغبرت الأرض، فقال آدم: قد حدث في الأرض حادث، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل، فأنشأ آدم يقول: [من الوافر] ¬
تَغَيَّرَتِ الْبِلادُ وَمَنْ عَلَيْها ... وَوَجْهُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيْحُ تَغَيَّرُ كُلُّ ذِيْ طَعْمِ وَلَوْنٍ ... وَقَلَّ بَشاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيْحُ وَما لِي لا أَجُوْدُ بِسَكْبِ دَمْعِيْ ... وَهابِيْلٌ تَضَمَّنَهُ الضَّرِيْحُ أَرَى طُوْلَ الْحَياةِ عَلَيَّ غَمًّا ... فَهَلْ أَنا مِنْ حَياتِي مُسْتَرِيْح (¬1) فإن صحَّ هذا كان دليلاً على جواز الشعر في حق الأنبياء عليهم السلام إلا محمداً - صلى الله عليه وسلم -؛ فكان من خصائصه أن الشعر لا ينبغي له. وذكر أَبو نصر القشيري في "تفسيره"، وغيره رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال: كذب من قال: إن آدم قال شعراً، إنَّ محمداً والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قُتل هابيل رثاه آدم عليهما السلام بالسريانية، ثم توارثه الناس حتى وصل إلى يعرب بن قحطان (¬2)، فعربه وجعله شعراً (¬3). ¬
ثم رأيت المعافى بن زكريا أخرج في كتاب "الأنيس والجليس" عن أبي المودع أنه قال: أول من قال بيت شعر يعقوب عليه السلام لما جاؤوا فأخبروه عن يوسف عليه السلام بالذي أخبروه به، فقال: [من الطويل] فَصَبْرٌ جَمِيلٌ بِالَّذِي جِئْتُمُ بِهِ ... وَحَسْبِي إِلَهِي فِي الْمُهِمَّاتِ كافِيا قال القاضي أَبو الفرج المعافى: وقد روي لنا أنَّ أول من قال الشعر آدم عليه السلام حين قتل قابيل أخاه هابيل، وأنَّ إبليس - لعنه الله - أجاب آدم عن شعره ذلك، قال: وهي رواية معروفة، انتهى (¬1). واعلم أنَّ الذي استقرَّ عليه الأمر في الشعر أنه لا يليق ذمه مطلقاً لأنه قد أُنشد بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه كثير، وكان ربما تمثل بالشعر، ولا يليق مدحه مطلقاً لأنه قد يَشْتمل على ما هو مذموم وقد يستجر صاحبه إلى الكذب والهَيَمان في واد. وإنما القول السديد فيه ما قاله الشافعي رحمه الله، بل رواه الطبراني في "الأوسط" عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، وأبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشِّعْرِ بمْنزلَةِ الكَلاَمِ؛ فَحَسَنُهُ كَحَسَنِ الكَلام، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الكَلامِ" (¬2). ¬
والمعنى أن الشعر لا يُكره لذاته، وإنما يُكره لمضمناته كما يحسن لمضمناته أيضاً. ومن ثم قال المحققون من العلماء: قد يكون الشعر مستحباً: وهو ما تضمن ذكر الله والثناء عليه، أو ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومدحه أو مدح أصحابه، أو الانتصار للدين، أو التقرير لأحكامه والتقييد لشوارده. فالأول: كقول لبيد: [من الطويل] أَلا كُلُّ شَيْءٍ ما خَلا اللهَ باطِلُ ففي "الصحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهَا أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قالَها شَاعِرٌ" (¬1). والثاني: كقول العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - فيما أخرجه الحاكم وغيره عن خريم بن أويس - رضي الله عنه - قال: سمعت العباس يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يا رسول الله! إني أريد أن أمتدحك. قال "قُلْ لاَ يَفْضُضِ اللهُ فاكَ" فقال العباس - رضي الله عنه -: [من المنسرح] مِنْ قَبْلِها طِبْتَ فِيْ الظِّلالِ وَفِي ... مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلادَ لا بَشَرٌ ... أَنْتَ وَلا مُضْغَةٌ وَلا عَلَقُ ¬
بَلْ نُطْفَة تَرْكَبُ السَّفِيْن وَقَدْ ... أَلْجمَ نَسْراً وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ وَرَدْتَ نارَ الْخَلِيْلِ مُكْتتماً ... تَجُولُ فِيها وَلَسْتَ تَحْتَرِقُ تُنْقَلُ مِن صالِبٍ إِلى رَحِمٍ ... إِذا مَضى عالَمٌ بَدا طَبَقُ حَتَّى احتوى بيتَكَ المهيمنُ من ... خَنْدَقِ عُلْيا زانها النَّطَق وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الـ ... أَرْضُ وَضاءَتْ بِنُوْرِكَ الأُفُقُ فَنَحْنُ فِيْ ذَلِكَ الضِّياءِ وَفِي ... النُّوْرِ وَسُبْلِ الرَّشَادِ نحترقُ (¬1) والثالث: كما كان يتمثل به ابن عباس من قول حسان - رضي الله عنه -، وقد تقدم: [من البسيط] ¬
إِذا تَذَكَّرْتَ شَجْواً مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخاكَ أَبا بَكْرٍ بِما فَعلا الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُوْدَ سِيْرَتُهُ ... وَأَوَّلَ النَّاس مَرْءاً صَدَّقَ الرُّسُلا أَزْكَى الْبَرِيَّةِ أَوْلاها وَأَفْضَلَها ... إِلَّا النَّبِيَّ وَأَوْفاها بِما حَمَلا (¬1) والرابع: كقول كعب بن مالك - رضي الله عنه -: [من الكامل] جاءَتْ مُزَيْنَةُ (¬2) كَيْ تُغالِبَ رَبَّها ... وَلَيُغْلَبَنَ مُغالِبُ الْغَلاَّبِ روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لكعب حين قال ذلك: "لَقَدْ مَدَحَكَ اللهُ يَا كَعْبُ فِيْ قَوْلكَ هَذَا". وفي رواية: "ذلك" (¬3). ¬
قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح: "إِنَّ المُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَبِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ" (¬1). وفي "الصحيح" أيضاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لحسان: "اهْجُهُمْ - يعني: الكفار - وَجِبْرِيْلُ مَعَكَ" (¬2). وعندي أنَّ قول الشعر في هجاء الكفار حينئذٍ كان واجباً على حسان، وذلك صورة واضحة لأن الشعر قد يكون واجباً أيضاً. وقد يكون الشعر مُباحاً: وهو ما خلا عمَّا تقدم ذكره، وعما يأتي في المكروه والمحرَّم كقول كعب بن زهير - رضي الله عنه -: [من البسيط] بانَتْ سُعادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرها لَم يُفْدَ مَكْبُوْلُ وَما سُعادُ غَداةَ الْبَيْنِ إِذْ رَحَلُوا ... إِلاَّ أَغنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُوْلُ (¬3) ¬
وقد يكون محرماً: وهو ما اشتمل على غيبة مسلم غير معلن بفسق ولا متشكٍ من ظلمه، ولا مطلوب منه بيان حاله، أو على هجر مسلم، أو سخف، أو مجون يخل بالمروءة، أو قذف أو شتم لمعين، أو تحسين قبيح في الشرع كشرب الخمر والزنا واللواط، أو على كذب لغير مصلحة، أو على تشبيب بامرأة أجنبية أو زوجة معينة أو أمرد جميل، وما فيه استدعاء الشهوة إلى ما لا يحل له، أو على مدح ظالم أو الدعاء له؛ فإنَّ ذلك كله حرام. ومن الورع أن لا نورد لهذا النوع مثالاً ولا نتلفظ به، ولعل معظم الأشعار التي يتعاطاها أهل هذه الأعصار لا تخلو من ذلك أو من شيء منه. وكذلك لا يرغب المنسوب منهم إلى الفضل إلا في العلوم المتلاشية الداعية إلى المباهاة والمباراة والأغراض الفانية، فعلوم الدين قلَّ أو ذهب راغبوها، وعلوم الدنيا واللهو واللعب كثير بل غلب طالبوها. ومما شاهدنا أن كتب الفقه والورع تدور بها السماسرة فلا يجدون لها طالباً، وكتب الشعر والهزل والغزل والتعمق في الإلحاد والزيغ لا تُعرض على أحد من غالب الناس إلا كان فيها راغباً، وقد قلت في المعنى: [من الخفيف] كُتُبُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيْثِ وَما لَمْ ... تَكُ وَفْقَ الْهَوى مِنَ الإِنْسانِ
108 - ومن خصال الأنبياء عليهم السلام: الشكر.
أَصْبَحَتْ فِي زَمانِنا لَيْسَ تُشْرَى ... بِسِوَى الْبَخْسِ أَوْ بِلا أَثْمانِ لا تَرَى غَيْرَ زاهِد العلم فِيها ... إِن شَراها شَكَى مِنَ الْخُسرانِ وَإِذا جِئْتَهُ بِدِيْوانِ شِعْرٍ ... مِنْ دَواوِيْنِ حِلْيَةِ الْعِصْيانِ يَتَلَقَّاها بِالْقَبُوْلِ سَرِيْعاً ... بادِراً قَطْعَ عُقْدَةِ الْهِمْيانِ لمَ يَرُجْ عِنْدَهُ سِوَى اللَّهْوِ سُوقاً ... لَيْسَ هَذا إِلاَّ مِنْ الْخُذْلانِ 108 - ومن خصال الأنبياء عليهم السلام: الشكر. وهو أعم أعمالهم لأنه شامل لسائر الأخلاق والأعمال؛ فإن معناه يرجع إلى الطاعة - سواء كانت باللسان أو بالجوارح أو بالقلب - فهو شامل للذكر، والتسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، وكل قول في خير، وشامل للصلاة والصدقة والصوم، وكل عمل صالح، والصدق، والإخلاص وحسن النية، وعدم رؤية النفس وتزكيتها، وكل قصد صالح.
قال الله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]. وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 121 - 123]؛ أي: المذكورة من التوحيد والقنوت والإخلاص والشكر. وقال الله تعالى: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144]. وقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -: أنَّ موسى عليه السلام قال: يا رب! ما الشكر الذي ينبغي لك؟ قال: يا موسى! لا يزال لسانك رطبا من ذكري (¬1). ورواه ابن أبي شيبة وزاد فيه: قال: يا رب! إني أكون على حال أُجلك أن أذكرك من الجنابة والغائط وإراقة الماء وعلى غير وضوء؟ قال: بلى. قال: كيف أقول؟ ¬
قال: قل: سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت فاجنبني الأذى، سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت فقني الأذى (¬1). وصحح الحاكم عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: كان نوح عليه السلام إذا أكل طعاماً أو لبس ثوباً حمد الله، فسمي عبداً شكوراً (¬2). وروى ابن المبارك عن مجاهد قال عن نوحٍ عليه السلام: لم يأكل شيئاً قط إلا حمد الله عليه، ولم يشرب شراباً قط إلا حمد الله عليه، ولم يمش مشياً قط إلا حمد الله عليه، ولم يبطش بشيء قط إلا حمد الله عليه، فأثنى الله عليه أنه كان عبداً شكوراً (¬3). وروى هو، وعبد الله ابن الإمام أحمد عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله قال: إنَّ نوحاً عليه السلام كان إذا أكل قال: الحمد لله، وإذا شرب قال: الحمد لله، وإذا ركب قال: الحمد لله، فسمَّاه الله عز وجل عبداً شكوراً (¬4). وروى الديلمي عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نُوْحٌ كَبِيْرُ الأَنْبِياءِ، لَمْ يَخْرُجْ مِنْ خَلائِهِ قَطُّ إِلا قالَ: الحَمْدُ للهِ الذِي أَذاقَنِي طَعْمَهُ، وَأَبْقَى مَنْفَعَتَهُ فِي جَسَدِي، وَأَخْرَجَ مِنِّي أَذاه" (¬5). ¬
وروى ابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَّا نُفِخَ فِيْ آدَمَ الرُّوْحُ مَارت وَطارَت، وَصارَت فِي رَأْسِهِ، [فعطس] فَقالَ: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِيْنَ، فَقالَ اللهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "التهجد" عن مسعر رحمه الله قال: لمَّا قيل لهم؛ أي: لآل داود: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] لم يأت عليهم ساعة إلا ومنهم مُصلٍّ (¬2). وروى الشيخان عن المغيرة - رضي الله عنه - قال: قام النبي حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: "أَفَلا أَكُوْنُ عَبْدًا شَكُوْرًا" (¬3). وروى الحكيم الترمذي عن الحسن رحمه الله تعالى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قالَ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا رَبِّ! كَيْفَ شَكَرَكَ آدَمُ؟ قالَ: عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنِّي فَذَلِكَ شُكْرُهُ" (¬4)؛ أي: علم أن ذلك الشكر مني وبتوفيقي. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن المغيرة، عن عقبة قال: قال ¬
داود عليه السلام: يا رب! هل يأتِ أحد من خلقك الليلة أطول ذكراً لك مني؟ فأوحى الله عز وجل إليه نعم: الضفدع. قال: وأنزل الله تعالى عليه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبا: 13] قال: يا رب! كيف أطيق شكرك وأنت الذي تُنعم علي ثم ترزقني على النعمة الشكر، ثم تزيدني نعمة بعد نعمة، فالنعم منك يا رب والشكر منك، وكيف أطيق شكرك؟ قال: الآن عرفتني يا داود حقَّ معرفتي (¬1). وعن أبي الجلد رحمه الله قال: قال موسى عليه السلام: إلهي! كيف شكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يُجاريها عملي كله؟ قال: فأوحى الله إليه أن يا موسى! الآن شكرتني (¬2). وعنه أيضاً: أن داود عليه السلام قال في مسألته: إلهي! كيف بي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك؟ فأوحى الله عز وجل إليه: يا داود! ألست تعلم أنَّ الذي بك من النعمة مني؟ ¬
قال: بلى أي رب. قال: فإني أرضى بذلك منك شكراً (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن وهب بن منبه رحمه الله قال: قال داود عليه السلام: يا رب! ابن آدم ليس له شعرة إلا تحتها منك نعمة، وفوقها منك نعمة، فمن أين يُكافئك بما أعطيته؟ قال: فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! إني أُعطي الكثير وأرضى باليسير، وأداء شكر ذلك لي أن يعلم أنَّ ما به من نعمة مني (¬2). وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الحارث رحمه الله قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود! أحبني، وأحب عبادي، وحببني إلى عبادي. قال: يا رب! هذا أحبك وأحب عبادك، فكيف أحببك إلى عبادك؟ قال: تذكرني عندهم؛ فإنهم لا يذكرون مني إلا الحسن (¬3). وروى ابنه عن سعيد بن عبد العزيز، أو عن غيره قال: كان من دعاء داود عليه السلام: سبحان مستخرج الشكر بالعطاء، ومستخرج الدعاء بالبلاء (¬4). ¬
109 - ومن خصال الأنبياء عليهم السلام: الصبر بأقسامه الثلاثة.
109 - ومن خصال الأنبياء عليهم السلام: الصبر بأقسامه الثلاثة. - الصبر على طاعة الله تعالى: وهذا الصبر مشروط في كل طاعة وخلق حسن، ولذلك أخرت الصبر إلى هنا. - القسم الثاني: الصبر عن معصية الله تعالى. - والقسم الثالث: الصبر على بلاء الله تعالى. ويشمل الأقسام الثلاثة قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. وقال: {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} [الأنعام: 34]. وقال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 83]. وقال تعالى في أيوب عليه السلام: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]. وروى الحكيم الترمذي عن ابن أبزي رحمه الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) قال: "كانَ أَيُّوْبُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَعْلَمَ النَّاسِ، وَأَصْبَرَ النَّاسِ، وَأَكْظَمَهُمْ لِلغَيْظِ" (¬2). وروى أَبو نعيم عن يزيد بن ميسرة - قال: لما ابتلى الله تعالى ¬
أيوب عليه السلام بذهاب المال والأهل والولد، فلم يبقَ له شيء، أحْسَنَ الذكر والحمد لله رب العالمين، ثم قال: أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إليَّ، أعطيتني المال والولد فلم يبقَ شعبةٌ من قلبي إلا قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله وفرَّغت قلبي، فليس يحول بيني وبينك شيء، فمن ذا يُعطيه المال والولد فلا يشغله حب المال والولد عن ذكرك؛ لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت إليَّ حسدني. قال: فلقي إبليس من هذه شيئا منكراً (¬1). وعن عوسجة العقيلي رحمه الله قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى ابن مريم عليهما السلام: يا عيسى بن مريم! أنزلني من نفسك كَهَمِّك، واجعلني ذخراً لك في معادك، وتقرب إليَّ بالنوافل أُدْنِكَ، وتوكل عليَّ أَكْفِكَ، ولا تولِّ غيري فأخذلك، واصبر على بلائي، وارض بالقضاء وكن كمسرتي فيك؛ فإنَّ مسرَّتي فيك أن أُطاع فلا أُعصى، وكُن مني قريباً، وأَحْيِ لي ذكراً بلسانك، ولتكن مودتي في صدرك تيقظ لي من ساعات الغفلة، وأحكم لي لطف الفطنة، وكُن لي راغباً وراهباً، وأَمِتْ قلبك بالخشية لي، وراعِ الليل بتحزي مسرتي، وأظمئ لي نهارك لليوم الذي عندي، نافس في الخيرات جهدك، ولتعرف بالخير أينما توجهت، واحكم في عبادي بالنصيحة، وأقم في الخلائق بعدلي، فقد أنزلت عليك شفاءً من وساوس الصدور، ومن مرض الشيطان، وجلاءً للأبصار ومن عشا الكلال، ولاتكُ كأنك ¬
حِلْسٌ مقبور وأنت حي تتنفس. يا عيسى بن مريم! حقاً أقول: ما آمنت فيَّ خليقة إلا خشعت، ولا تخشعت إلا رجت نوالي، وأُشهدك أنها آمنة من عقابي ما لم تبدل أو تغير سُنني. يا عيسى بن مريم ابن البكر البتول! ابك على نفسك أيام الحياة بكاء من قد ودع الأهل وقَلا الدنيا وترك اللذات لأهلها من بعده، وارتفعت رغبته فيما عند إلهه، وكن على ذلك تُلين الكلام وتُفشي السلام، وكُن يقظان إذا نامت عيون الأبرار، حذراً لما هو آت من أمر المعاد وزلازل الأهوال حيث لا ينفع مال ولا ولد ولا أهل، وأكحل عينك بملمول الحزن إذا ضحك البطَّالون، وابكِ بكاء من قد علم أنه مودع العلم النازل من عند الله الذي هو أقرب إليك من حبل الوريد، وكن في ذلك صابراً محتسباً، فطُوبى لك إن نالك ما وعدتُ الصابرين، فَرُحْ من الدنيا بالله فيوما، وذق مذاقة ما قد هرب منك أين طعمه، وما لم يأتك كيف لذته. حقاً ما أقول لك: ما أنت إلا بساعتك ويومك فرح ما أخذت وكيف أرتعت، فاعمل على حساب فإنك مسؤول. لو رأت عيناك ما أعددت لعبادي الصالحين لذاب قلبك وزهقت نفسك اشتياقاً إليه (¬1). ومن أحسن ما قيل في الصبر قول الحسين بن الحسن الصوفي ¬
تنبيه
التكريتي: [من الطويل] تَبارَكَ مَنْ لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ ... وَشُكْراً عَلى ما قَدْ قَضاهُ وَما حَكَمْ إِذا كانَ رَبِّيْ عالِما بِسَرِيْرَتِي ... وَكُنْتُ بَرِيْئاً عِنْدَهُ غَيْرَ مُتَّهَمْ فَقُلْ لِظَلُوْمٍ ساءَنِيْ سُوْءُ فِعْلِهِ ... سَيَنْتَصِفُ الْمَظْلُوْمُ مِنْ كُلِّ مَنْ ظَلَمْ فَيا نَفْسُ لِي فِي يُوْسُفٍ خَيْرُ أُسْوَةٍ ... فَصَبْراً فَإِنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ مِنَ النَّدَمْ * تَنْبِيْهٌ: روى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب قال: قرأت في كتاب رجل من الحواريين: إذا سلك بك طريق أو سبيل أهل البلاء فطب نفساً؛ فقد سلك بك طريق الأنبياء والصالحين، وإذا سلك بك طريق أهل الرخاء فقد خُولف بك طريق الأنبياء والصالحين (¬1). وفي الحديث الصحيح: "أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الأمْثَلُ فَالأَمْثَل"، وقد سبق (¬2). ¬
110 - ومن أعمال الأنبياء عليهم السلام: الدعاء.
واعلم أن بلاء الأنبياء ومن على طريقتهم مقرون بالصبر والسلامة من الفتنة، وبهذا يفرق بين بلائهم وبلاء من سواهم. 110 - ومن أعمال الأنبياء عليهم السلام: الدعاء. قال الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]. وقال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]. وقال تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4]. وقال تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء: 76]. وقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 83 - 90]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} إلى قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 35 - 41]. وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. وقال تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]. إلى غير ذلك من أدعية الأنبياء التي اشتمل عليها القرآن العظيم. وروى ابن المنذر عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وابن جرير عن قتادة ومجاهد والحسن رحمهم الله: أنهم قالوا في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37]: هي قوله {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية قال: ¬
الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملتُ سوءاً وظلمتُ نفسي فتُبْ عليَّ إنك أنت التواب الرحيم (¬1). ونحوه عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى (¬2). وروى البيهقي عن أنس - رضي الله عنه -: أن الكلمات التي تلقاها آدم هي: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمتُ نفسي فاغفر لي؛ إنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت (¬3). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد" عن سلمان - رضي الله عنه - قال: لمَّا خلق الله تعالى آدم عليه السلام قال: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك؛ فأما التي لي: تعبدني ولا تُشرك بي شيئاً. وأما التي لك: فما عملت من شيء جزيتك لك وأنا أغفر وأنا غفورٌ رحيم. وأما التي بينك وبيني: فمنك المسألة والدعاء، وعليَّ الإجابة والعطاء (¬4). وروى الطبراني في "الأوسط" عن عائشة رضي الله عنها، عن ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لمَّا أَهْبَطَ اللهُ آدَمَ إِلَى الأَرْضِ قامَ وِجاهَ الكَعْبَةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَلْهَمَهُ اللهُ تَعالَى هَذا الدُّعاءَ: اللَّهُمَّ! إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرِّي وَعَلانِيتِي، فَاقْبَلْ مَعْذِرَتِي، وَتَعْلَمُ حاجَتِي فَأَعْطِنِي سُؤْلي، وَتَعْلمُ ما فِي نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي، اللَّهُمَّ! إِنَّي أَسْأَلُكَ إِيْمَاناً يُبَاشِرُ قَلْبِي، وَيَقِيْنًا صَادِقًا حتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لاَ يُصِيْبُنِي إِلاَّ مَا كَتَبْتَ لِي، وَرَضِّنِي بِما قَسَمْتَ لِي. قالَ: فَأَوْحَى اللهُ تَعالى إِلَيه: يا آدَمُ! قَدْ قَبِلْتُ تَوْبَتَكَ، وَغَفَرْتُ لَكَ ذَنْبَكَ، وَلَنْ يَدْعُوَنِي أَحَدٌ بِهذا الدُّعاءِ إِلاَّ غَفَرْتُ لَهُ ذَنْبَهُ، وَكَفَيْتُهُ الهَمَّ مِنْ أَمْرِهِ، وَزَجَرْتُ عَنْهُ الشَّيَاطِيْنَ، وَاتَّجَرْتُ لَهُ مِنْ وراء كُلِّ تاجِرٍ، وَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ الدُّنْيا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وإِنْ لَمْ يُرِدْها" (¬1). وأخرجه الأزرقي في "تاريخ مكة"، والطبراني في "الأوسط" أيضا، والبيهقي في "الدعوات"، وابن عساكر بسند لا بأس به، من حديث بريدة - رضي الله عنه - بنحوه، وقال فيه: "وَتَعْلَمُ مَا عِنْدِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوْبِي". وقال: "حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيْبَنِي إِلاَّ مَا كتَبْتَ لِي، وَرَضِّنِي بِقَضائِكَ" (¬2). ¬
وروى أَبو نعيم عن كعب رحمه الله: أن جبريل أتى آدم عليهما السلام فقال: إنَّ الله تعالى يقول لك: إنه ولدك عن أكل الشهوات؛ فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها محجوبة عني. قال آدم: فما أقول يا روح القدس؟ قال: قل: اللهم اكفني مؤنة الدنيا وأهوال يوم القيامة، وأدخلني الجنة التي قدرت على الخروج منها. فقالها آدم، فقال جبريل: وجبت. ثم قال: قل يا آدم. قال: ما أقول يا روح القدس؟ قال: قل: اللهم ألبسني العافية حتى تُهنئني المعيشة. فقالها آدم، فقال جبريل: وجبت. ثم قال: قل يا آدم. قال: ما أقول يا روح القدس؟ قال: قل: اللهم اختم لنا بالمغفرة حتى لا تضرنا الذنوب. فقالها آدم، فقال جبريل: وجبت (¬1). وروى الديلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما سَبَّحْتُ وَلاَ سَبَّحَتِ الأَنْبِياءُ قَبْلِي بِأَفْضَلَ مِن: سُبْحانَ اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ" (¬2). ¬
وإنما أدخلنا هذه الكلمات في أدعية الأنبياء من حيث إنها ثناء وفيه تعرض لمراده كما قيل في الحديث: "أَفْضَلُ الدُّعاءِ الحَمْدُ للهِ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الذكر" عن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا تَوَضَّأَ العَبْدُ لِصَلاَة مَكْتُوْبَةٍ فَأَسْبَغَ الوُضُوْءَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بابِ دارِهِ وَهُوَ يُرِيْدُ المَسْجِدَ، فَقالَ: بسمِ اللهِ {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] هَداهُ اللهُ لِلصَّواب. {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] أَطْعَمَهُ اللهُ مِنْ طَعامِ الجَنَّةِ، وَسَقاهُ مِنْ شَرابِ الجَنَّةِ. {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] جَعَلَ اللهُ مَرَضَهُ كَفَّارَةً لِذُنُوْبِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهُ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] أَمَاتَهُ اللهُ مَوْتَةَ الشُّهَدَاءِ، وَأَحْيَاهُ حَياةَ السُّعَداءِ. {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] غَفَرَ اللهُ لَهُ خَطَاياهُ كُلَّهَا وَإِنْ كانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ البَحْرِ. {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83] ألْحَقَهُ اللهُ بِصَالِحِ مِنْ مَضَى وَمَنْ بَقِيَ. {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] جَعَلَ اللهُ لَهُ لِسانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِيْنَ، وَكتَبَ فِي وَرَقَةٍ بَيْضَاءَ: إِنَّ فُلانَ بْنَ فُلانٍ مِنَ ¬
الصَّادِقِيْنَ، ثُمَّ يُوَفِّقُهُ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلصِّدْقِ وَالصَّوابِ. {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 85] أَعْطَاهُ اللهُ القُصُورَ وَالمَنازِلَ فِي الجَنَّةِ" (¬1). وهذه الكلمات المذكورة في الحديث محكية في كتاب الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وروى الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، عن الحسن قال: قال سمرة بن جندبِ - رضي الله عنه -: ألا أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مراراً، ومن أبي بكر - رضي الله عنه - مراراً، ومن عمر - رضي الله عنه - مراراً؟ قلت: بلى، قال: "مَنْ قالَ إِذا أَصْبَحَ وَإِذا أَمْسَى: اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنْتَ تَهْدِيْنِي، وَأَنْتَ تُطْعِمُنِي وَأَنْتَ تَسْقِيْنْي، وَأَنْتَ تُمِيْتُنِي وَأَنْتَ تُحْييْنِي، لَمْ يَسْأَلِ اللهَ شَيْئًا إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ". قال: فلقيت عبد الله بن سلام فقلت: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مراراً، ومن أبي بكر - رضي الله عنه - مراراً، ومن عمر - رضي الله عنه - مراراً؟ قال: بلى، قال: فحدثته بهذا الحديث، فقال - رضي الله عنه -: بأبي وأمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هؤلاء الكلمات كان الله تعالى قد أعطاهنَّ موسى عليه السلام، فكان يدعو بهنَّ كل يوم سبع مرات، فلا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه (¬2). ¬
وروى البيهقي في "الشعب" عن عتبة بن الوليد قال: حدثني بعض الرهابين قال: سمع جبريل إبراهيم عليهما السلام وهو يقول: يا كريم العفو، فقال له جبريل: وتدري ما كريم العفو؟ قال: لا يا جبريل، قال: أن يعفو عن السيئة ويكتبها حسنة (¬1). وقرأت ما نصه: دعاء سيدنا الخليل إبراهيم أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا أصبح وإذا أمسى: اللهم هذا خلق جديد فافتحه لي بطاعتك، واختمه لي بمغفرتك ورضوانك، وارزقني فيه حسنةً اقبلها مني وزكِّها وضَعِّفها، وما عملت فيه من سيئةٍ فاغفرها لي فإنك غفورٌ ودود. قال: مَنْ دعا به فقد أدى شكر يومه (¬2). وروى الطبراني بسند جيد، عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -! قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللهُ إِبَرَاهِيْمَ خَلَيْلَهُ: الَّذِي وَفَّى؟ لأَنَّهُ كانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] " حتى ختم الآية (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن عمار - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعوذ الحسين والحسن - رضي الله عنهما - بهذه الكلمات: "أُعِيْذُكُما بِكَلِماتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ ¬
شَرِّ كُلِّ شَيْطان وَهامَّة، وَشَرِّ كُلِّ عِيْنٍ لامَّةٍ". قال: "وَكاَنَ إِبْرَاهِيْمُ يَعَوِّذُ بِهِما إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ" (¬1). وروى أَبو الشيخ عن مجاهد رحمه الله قال: لمَّا ركب نوح في السفينة فجرت به خاف، فجعل يُنادي: إلاها أتقن؟ قال: يا الله أحسن (¬2). وروى ابن جرير عن الضحاك رحمه الله قال: كان إذا أراد أن ترسي قال: بسم الله فأرسَتْ، وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله فجرت (¬3). وروى أَبو يعلى، والطبراني، وابن السني، وغيرهم عن الحسين ابن علي - رضي الله عنهما - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَانٌ لأُمَّتِي مِنَ الغَرَقِ إِذَا رَكِبُوا الفُلْكَ أَن يَقُولُوا: بِسْمِ اللهِ المَلِكِ الرَّحْمَنِ، {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41]، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] " (¬4). وروى أَبو الشيخ في كتاب "العظمة" عن عتبة بن الوليد: أن إبراهيم عليه السلام قال يوماً: يا كريم العفو، فقال له جبريل: تدري ما تفسير ¬
كريم العفو؟ هو إن عفا عن السيئات برحمته، ثم أبدلها حسنات بكرمه (¬1) وفي بعض ذلك قدوة بنوح عليه الصلاة والسلام. وروى ابن مردويه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَّا أُلقِيَ يُوْسُفُ فِيْ الجُبِّ أَتاهُ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِمَا السَّلامُ فَقالَ لَهُ: يا غُلامُ! مَنْ أَلْقاكَ فِي الجُبِّ؟ قالَ: إِخْوَتِي. قالَ: وَلِمَ؟ قالَ: لِمَوَدَّةِ أَبِي إِيَّايَ حَسَدُوْنِي. قالَ: تُرِيْدُ الخُرُوْجَ مِنْ هَاهُنَا؟ قالَ: ذاكَ إِلَى إِلَهِ يَعْقُوْب. قالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إِني أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ المَكْنُونِ المَخْزُونِ، يا بَدِيْعَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ، يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ أَن تَغْفِر لِي وَتَرْحَمَنِي، وَأَنْ تَجْعَلَ لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَأَنْ تَرْزُقَنْي مِنْ حَيْثُ لاَ أَحْتَسِبُ. فَقالَها، فَجَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَرَزَقَه مُلْكَ مِصْرَ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَلِظُّوا بِهَؤُلاءِ الكَلِماتِ؟ فَإِنَّهُنَّ دُعاءُ المُصْطَفَيْنَ وَالأَخْيَارِ" (¬2). ¬
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الفرج" عن يحيى بن سليم: أنه بلغه أنَّ ملك الموت عليه السلام استأذن ربه أن يسلم على يعقوب عليه السلام، فأذن له، فأتاه فسلَّم عليه فقال له: بالذي خلقك هل قبضت روح يوسف عليه السلام؟ قال: لا. ثم قال: أفلا أعلمك كلمات لا تسأل الله بها شيئاً إلا أعطاك؟ قال: بلى. قال: فقل: يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يُحصيه غيره. قال: فما طلع الفجر حتى أتي بقميص يوسف عليه السلام (¬1). وعن إبراهيم بن خلاد قال: نزل جبريل على يعقوب عليهما السلام، فسلَّم عليه، فشكى إليه ما هو فيه، فقال له جبريل: ألا أعلمك دعاء إذا أنت دعوتَ به فرَّج الله عنك؟ قال: بلى. قال: قل: يا من لا يعلم كيف هو إلا هو، ويا من لا يبلغ كُنه قدرته غيره! فرج عني. قال: فأتاه البشير (¬2). وعن مدلج، عن عبد العزيز، عن شيخ من قريش: أن جبريل ¬
عليه السلام هبط على يعقوب عليه السلام فقال: يا يعقوب! تملق إلى ربك؟ فقال: يا جبريل! كيف أقول؟ قال: قُل: يا كثير الخير، يا دائم المعروف. فأوحى الله إليه: لقد دعوتني بدعاء لو كان ابناك ميتين لنشرتهما لك (¬1). وعن أبي سعيد مؤذن الطائف: أنَّ جبريل أتى يوسف عليهما السلام فقال: يا يوسف! اشتدَّ عليك الحبس؟ قال: نعم. قال: [قل]: اللهم اجعل لي من كل ما أهمني وأكربني من أمر دنياي وآخرتي فرجاً ومخرجاً، وارزقني من حيث لا أحتسب، واغفر في ذنبي، وثبت رجاءك في قلبي، واقطعه عن من سواك حتى لا أرجو أحداً غيرك (¬2). ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"، وقال: عن أبي عبد الله مؤذن الطائف (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في "الفرج" - أيضا - عن بعضهم: أنَّ جبريل ¬
عليه السلام حين دخل على يوسف السجن قال له: قل: اللهم يا شاهداً غير غائب، ويا قريباً غير بعيد، ويا غالباً غير مغلوب! اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، وارزقني من حيث لا أحتسب (¬1). وروى ابن أبي شيبة والطبراني في "الدعاء" عن زيد العَمَّي رحمه الله قال: لمَّا رأى يوسف عليه السلام عزيز مصر قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بقوتك من شره. وفي رواية ابن المنذر: وأعوذ بعزتك من شره (¬2). وروى الطبراني في "الدعاء" عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم رحمه الله تعالى قال: بلغني أن يوسف عليه السلام حين دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بك من شره، وشر غيره، فأعطاه الله عز وجل من الذي أعطاه (¬3). وروى أَبو نعيم في "الحلية" عن وهب قال: لما دعي يوسف عليه السلام إلى الملك، وقف بالباب فقال: حسبي ديني من دنياي، وحسبي ربي من خلقه، عزَّ جاره، وجلَّ ثناؤه، ولا إله غيره، ثم دخل، فلما أن نظر إليه الملك نزل عن سريره، وخرَّ له ساجداً، ثم أقعده معه على السرير، فقال: إنك اليوم لدينا مكين أمين، قال ¬
يوسف عليه السلام: اجعلني على خزائن الأرض وإني حفيظ لهذه السنين وما استودعته، عليم بلغة من يأتيني (¬1) وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي المليح رحمه الله قال: كان من دعاء يوسف عليه السلام: اللهم إن كان خَلقَ وجهي عندك فإني أتقربُ إليك بوجه يعقوب أن تجعل لي فرجاً ومخرجاً ويُسراً، وترزقني من حيث لا أحتسب (¬2). ومن هذا الباب - أعني: التوسل بصالحي الأسلاف - قول بعضهم: [من مجزوء الرجز] لِي سادَةٌ مِنْ عِزِّهِمْ ... أَقْدامُهُمْ فَوْقَ الْجِباه إِنْ لَمْ أَكُنْ مِنْهُم فَلِي ... فِيْ حُبِّهِمْ عِزٌّ وَجاه وروى أَبو الشيخ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما تِيْبَ على ولد يعقوب عليهم السلام إلا بعد عشرين سنة، وكان أبوهم بين أيديهم فما تِيْبَ عليهم حتى نزل جبريل عليه السلام فعلمه بهذا الدعاء: يا رجاء المؤمنين لا تقطع رجاءنا، يا غياث المؤمنين أغثنا، يا مانع المؤمنين امنعنا، يا محب التوابين تُب علينا. قال: فأخَّره إلى السحر فدعا به، فتِيْبَ عليهم (¬3). ¬
وروى ابن أبي حاتم عن الليث بن سعد رحمه الله قال: أقاموا عشرين سنة يطلبون فيما عمل إخوة يوسف بيوسف لا تُقبل منهم حتى أتى جبريل يعقوب، فعلمه هذا الدعاء: يا رجاء المؤمنين لا تخيب رجائي، ويا غوث المؤمنين أغثني، ويا عون المؤمنين أعني، يا حبيب التوابين تُبْ علي، فاستجيب لهم (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله قال: كان أيوب عليه السلام كلَّما أصابته مصيبة قال: اللهم أنت أخذت وأنت أعطيت، مهما تبق نفسي أحمدك على حسن بلائك (¬2). وقد حكى الله عنه أنه قال في دعائه: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]. وقد روى الحاكم في "مستدركه" عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ للهِ مَلَكًا مُوكَّلاً بِمَنَ يَقُوْلُ: يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين، فَمَنْ قالَهَا ثَلاثًا قالَ لَهُ المَلَكُ: إِنَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ قَدْ أقْبَلَ عَلَيْكَ فَقُلْ حاجَتَكَ" (¬3). ولهذا الاسم خاصية في دفع البلاء إذا استحكم وضاق الأمر وعَظُمَ الخطيب، ألا ترى كيف أُلْهِمَهُ سيدنا أيوب عليه السلام وهو في ¬
مثل هذه الحالة، فليس للمضطر في استحكام البلاء أنفع منه. وروى ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قول أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، أنه لمَّا مسَّه الضر أنساه الله الدعاء أن يدعوه، فيكشف ما به من الضر غير أنه كان يذكر الله كثيراً، فلا يزيده البلاء في الله إلا رغبة وحسن إيقان، فلما انتهى الأجل وقضى الله أنه كاشف ما به من ضُر أَذِنَ له في الدعاء ويسره له، وكان قبل ذلك يقول تبارك وتعالى: لا ينبغي لعبدي أيوب أن يدعوني ثم لا أستجيب له، فلما استجاب له وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفين رد الله أهله ومثلهم معهم، وأثنى عليه فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط"، و"الصغير"، والخرائطي في "كتاب الشكر" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أَلا أُعْلِّمُكَ الكَلماتِ التَي تَكَلمَ بِها مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ حِيْنَ جاوَزَ البَحْرَ بِبَنِي إِسْرائِيْلَ؟ " فقلت: بلى يا رسول الله، قال: "قُوْلُوا: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ وَإِلَيْكَ المُشْتكى وَأَنْتَ المُسْتَعانُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللِه العلِيِّ العَظِيمِ". قال عبد الله: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال شقيق: فما تركتهن منذ سمعتهن من عبد الله. ¬
قال الأعمش: فما تركتهن منذ سمعتهن من شقيق. قال الأعمش: فأتاني آتٍ في منامي فقال في: يا سليمان! زد في هذه الكلمات: ونستعينك على فسادٍ فينا، ونسألك صلاح أمرنا كله (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: لمَّا بعث الله موسى عليه السلام إلى فرعون قال: يا رب! أي شيء أقول؟ قال: قل: هيا شرا هيا. قال الأعمش: تفسير ذلك: الحي قبل كل حي، والحي بعد كل شيء (¬2). وعن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قال إذا أصبح وإذا أمسى: اللهم أنت خلقتني، وأنت تهديني، وأنت تطعمني، وأنت تسقيني، وتميتني وتحييني، لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه". قال: فحدثت به عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه فقال: هؤلاء الكلمات أعطاهن الله موسى بن عمران عليه السلام، كان يدعو بهن في كل يوم سبع مرات (¬3). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن كعب الأحبار رحمه الله تعالى: أن موسى عليه السلام كان يقول في دعائه: اللهم لين قلبي بالتوبة، ولا تجعل قلبي قاسياً كالحجر (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن يحيى بن سليم الطائفي، عن من ذكره قال: طلب موسى عليه السلام من ربه عز وجل حاجة، فأبطأت عليه وأكدت فقال: ما شاء الله، فإذا حاجته بين يديه. قال: يا رب! أنا أطلب منك حاجتي كذا وكذا أعطيتها الآن؟ قال: فأوحى الله إليه يا موسى! أما علمت أنَّ قولك: ما شاء الله أنجح ما طلبت به الحوائج (¬2). وروى النسائي، وابن حبان، والحاكم - وصححاه - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قالَ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يا رَبِّ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدَعُوْكَ بِهِ. قالَ: قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ. قالَ: يا رَبِّ! كُل عِبادِكَ يَقُوْلُ هذَا. قالَ: قُلْ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. قالَ: إِنَّما أُريدُ شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ. قالَ: يا مُوْسَى! لَوْ أَنَّ السَّماواتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِيْنَ السَّبع فِي ¬
كِفَّةٍ، وَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ فِي كِفَّةٍ مَالَت بِهِنَّ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن كعب رحمه الله قال: قال موسى عليه السلام: يا رب! دلني على عمل إذا عملته كان شُكراً لك فيما اصطنعت إلي. قال: يا موسى! قل: لا إله إلا الله، أو قال: قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. قال: فكان موسى أراد من العمل ما هو أنهك لجسمه مما أمر به قال: فقال له: يا موسى! لو أنَّ السماوات السبع والأرضين السبع وُضعت في كفة، ووُضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن (¬2). وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَكْثَرُ دُعائِي وَدُعاءِ الأَنْبِياءِ مِن قَبْلِي بِعَرَفَةَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيْرٌ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُوْرًا وَفِي سَمْعِي نُوْرًا وَفِي بَصَرِي نُوْرًا، اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِيْ أَمْرِي، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ وَسْواسِ الصُّدُوْرِ وَشَتاتِ الأَمْرِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما يَلِجُ فِي اللَّيْلِ، وَشَرِّ ما يَلِجُ فِي النَّهارِ، وَشَرِّ ما ¬
تَهُبُّ بِهِ الرِّياحُ" (¬1). وروى أَبو بكر بن مردويه، وأبو بكر الخطيب، وأبو القاسم ابن عساكر عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإزاء ثبير وهو يقول: "أَشْرِقْ ثُبَيْرُ، أَشْرِقْ ثُبَيْرُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُك بِما سَأَلَكَ أَخِي مُوْسَى أَنْ تَشْرَحَ لِي صَدْرِي، وَأَنْ تُيَسِّرَ لِي أَمْرِي، وَأَنْ تَحُلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يفْقَهْ قَولِي، فَاجْعَلْ لِي وَزِيْرًا مِنْ أَهْلِي، عَلِيًّا اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيْرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيْرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيْرًا" (¬2). وروى البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" عن الضحاك رحمه الله قال: كان دعاء موسى عليه السلام حين توجه إلى فرعون، ودعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، ودعاء كل مكروب: كنت وتكون، وأنت حي لا تموت، تنام العيون، وتنكدر النجوم، وأنت حي لا تأخذك سنة ولا نوم، يا حي يا قيوم (¬3). وروى الترمذي، والنسائي، وغيرهما، وصححه الحاكم، عن ¬
سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْوَةُ ذِيْ النُّوْنِ عَلَيْهِ السَّلامُ إِذْ دَعا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوْتِ: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِيْنَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ" (¬1). ورواه الحاكم أيضاً، ولفظه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى اسْم اللهِ الأَعْظم الَّذِي إِذا سُئِلَ بِهِ أَعْطى، وَإِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ؟ الدَّعْوَةُ الَّتِي دَعا بِها يُوْنُسٌ حَيْثُ نَادَى فِي الظُّلُماتِ الثلاثِ: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِيْنَ". فقال رجل: يا رسول الله! هل كانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا تَسْمَعُ إِلَىْ قَوْلهِ عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبباء: 88] " (¬2). وفي لفط له: "هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى اسْمِ اللهِ الأَعْظَمِ؟ دُعَاءُ يُوْنُسَ: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِيْنَ، فَأَيُّ مُسْلِمٍ دَعا بِها فِيْ مَرَضِهِ أَرْبَعِيْنَ مَرَّةً، فَماتَ فِيْ مَرَضِهِ ذَلِكَ أُعْطِيَ أَجْرَ شَهِيْدٍ، وَإِنَ بَرَأَ بَرَأَ مَغْفُوْرًا لَهُ" (¬3). ¬
وروى بن مردويه في "تفسيره"، والديلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هذه الآية مفزع الأنبياء عليهم السلام، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، نادى بها يونس عليه السلام في ظلمة بطن الحوت" (¬1). وروى الترمذي وحسنه واللفظ له، والحاكم في "صحيحه" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كانَ مِنْ دُعاءِ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِيَ وَأَهْلِيَ وَمِنَ المَاءِ البارِدِ". قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر داود يحدث عنه قال: "كانَ أَعْبَدَ البَشَرِ" (¬2). وروى الطبراني عن صهيب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو يقول: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ لَسْتَ إِلَهاً اسْتَحْدَثْناهُ، وَلا بِرَبٍّ ابْتَدَعْناهُ، وَلاَ كانَ لَنا قَبْلَكَ من إِلَهٍ نَلْجَأُ إِلَيْهِ وَنَذَرُكَ، وَلا أَعانكَ عَلَى خَلْقِنَا أَحَدٌ فَنُشْرِكَهُ فِيْكَ تَبارَكْتَ وَتَعالَيْتَ". قال كعب: وهكذا كان نبي الله داود عليه السلام يدعو (¬3). ¬
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عبد الرحمن ابن جبير بن نفير رحمه الله: أنَّ داود عليه السلام كان يقول بعد فتنته: اللهم ما كتبت في هذا اليوم من فتنة فخلِّصني منها، ثلاث مرات، وما أنزلت من خير فآتني منه نصيباً ثلاث مرات، وإذا أمسى قال مثل ذلك، فلم يَر بعد ذلك مكروهاً (¬1). وروى والده عن عمر بن عبد الرحمن بن دربه قال: بلغني أنه كان من دعاء داود عليه السلام: إلهي لا تُفقرني فأنسى، ولا تغنني فأطغى (¬2). وعن علي الأزدي رحمه الله قال: كان داود عليه السلام يقول: اللهم إني أعوذ بك من غنىً يُطغي، وفقرٍ يُنسِي، وهوىً يردي، وعملٍ يخزي (¬3). وروى العسكري في "المواعظ" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال موسى عليه السلام: يا رب! لا مرض يُضنيني، ولا صحة تنسيني، ولكن بين ذلك (¬4). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن كعب رحمه الله تعالى: أنه كان إذا أفطر استقبل القبلة وقال: اللهم خلصني من كل مصيبة أنزلت الليلة من السماء - ثلاثاً -، وإذا طلع حاجب الشمس قال: اللهم اجعل لي سهماً في كل حسنة نزلت الليلة من السماء إلى الأرض - ثلاثاً -، فقيل له، فقال: دعوة داود؛ فلينوا بها ألسنتكم، وأشعروها قلوبكم (¬1). وعن بريدة - رضي الله عنه -: أنَّ داود عليه السلام كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من عملٍ يُخزي، وهوىً يُردي، وفقر يُنسي، وغنىً يُطغي (¬2). وعن عباس القَمِّيِّ قال: بلغني أن داود عليه السلام كان يقول في دعاءه: سبحانك اللهم أنت ربي، تعاليت فوق عرشك، وجعلت خشيتك على من في السماوات والأرض، فأقرب خلقك منك منزلة، أشدهم لك خشية، وما علم من لم يخشك، وما حكمة من لم يطع أمرك (¬3). وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان من دعاء داود النبي: اللهم إني أعوذ بك من مالٍ يكون عليَّ فتنة، ومن ولدٍ يكون علىَّ وبالاً، ومن امرأة السوء تقرب الشيب من قبل المشيب، وأعوذ بك من جار السوء ترعاني عيناه وتسمعني أذناه، إن رأى حسنةً دفنها، وإن رأى سيئة أذاعها. ¬
قال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جارُ السُّوْءِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ فِيْ دَارِ المُقَامَةِ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله قال: كان داود عليه السلام يقول: اللهم لا مرضاً يضنيني، ولا صحة تُنسيني، ولكن بين ذلك، اللهم إني أسألك من الأصحاب والإخوان والجيران والجلساء مَنْ إن نسيت ذكرني، وإذا ذكرتُ أعانني، وأعوذ بك من الأصحاب والإخوان والجيران والجلساء من إن نسيت لم يذكِّرْني، وإن ذكرت لم يعني (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن العطاف بن خالد المخزومي قال: غدا سليمان بن داود عليهما السلام إلى بيت المقدس ليفتحه، فأعياه القفل أن ينفتح، فدعا له الإنس والجن وأعياهم، فمرَّ به شيخ من جلساء داود عليه السلام فقال له: يا نبي الله! ما في أراك مهموماً؟ قال: أعيى علي القفل فلم ينفتح وعلى الجن والإنس. فقال له الشيخ: ألا أدلُّك على كلمات كان داود إذا أهمَّه أمر دعا بهن، فيفرج الله عنه؟ قال: نعم. ¬
قال: قل: اللهم بنورك اهتديت، وبفضلك استغنيت، وبنعمتك أصبحت وأمسيت، هدي ونومي بين يديك، أستغفرك وأتوب إليك. فقالها سليمان ففتح عليه (¬1). وروى الدينوري في "المجالسة" عن الأحوص بن حكيم رحمه الله قال: كان من دعاء داود النبي: يا رازق النَّعَّابِ في عُشِّه. قال: وذلك أنَّ الغراب إذا فقس عن فرخه فيخرج بيضاً، فإذا رآها كذلك نفر عنها فتفتح أفواهها، فيرسل الله تعالى لها ذباباً فتدخل في أجوافها، فيكون ذلك غذاء حتى تسود، فإذا اسودت عادَ الغراب فغذاها ورفع الله الذباب عنها (¬2). والنعاب - بالنون والعين المهملة، وبالموحدة آخره -: الغراب. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الشكر"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: أتى بختنصر بدانيال النبي عليه الصلاة والسلام، فأمر به فحبس وضرى عليه أسدين، ثم فتح عليه بعد خمسة أيام فوجد دانيال قائماً يُصلي والأسدين في ناحية الجب لم يعرضا له، فقال بختنصر: أخبرني بما قلت فدفع عنك. قال: قلت: الحمد لله الذي لا يكل من توكل عليه إلى غيره، والحمد لله الذي هو ثقتنا حين تنقطع الحيل، والحمد لله الذي هو ¬
رجاؤنا يوم يسوء ظننا بأعمالنا، الحمد لله الذي يكشف حزننا عند كربتنا، الحمد لله الذي يُجزي بالإحسان إحساناً، الحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة (¬1). وروى الإمام أحمد عن جعفر بن برقان الجزري: أنَّ عيسى بن مريم عليهما السلام كان يقول: اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره، ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبح الأمر بيد غيري، وأصبحت مرتهناً بعملي، لا فقير أفقر مني، لا تُشمت بي عدواً، ولا تَسُؤْ بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تسلط عليَّ من لا يرحمني (¬2). وروى ابن أبي شيبة من طريق آخر بنحوه، وزاد فيه: ولا تجعل الدنيا أكبر همي (¬3). وروى الدينوري في "المجالسة" عن وهب بن منبه قال: كان دعاء عيسى عليه السلام الذي يدعو به للمرضى والزَّمْنَى والعميان والمجانين وغيرهم: اللهم أنت إله من في السماء، وإله من في الأرض، لا إله فيهما غيرك، وأنت جبار من في السماء، وجبار من في الأرض، لا جبار فيهما غيرك، قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء، وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء، أسألك باسمك ¬
الكريم ووجهك المنير وملكك القديم، إنك على كل شيءٍ قدير. قال وهب: هذا للفزع والجنون: تُقرأ عليه، وتُكتب له، ويُسقى ماءه فيشفى إن شاء الله تعالى (¬1). وروى ابن جرير عن وهب زعم أنه ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفاً، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى فمشى إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله (¬2). وروى البزار، والحاكم وصححه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ أَبو بكر - رضي الله عنه - فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "دُعاءٌ عَلَّمَنِيْهُ جبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ" قلت: ما هو؟ قال: "كانَ عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يُعَلِّمُ أَصْحابَهُ قالَ: لَوْ كانَ عَلَى أَحَدِكُمْ جَبَلُ ذَهَبٍ دَيْناً، فَدَعا بِذَلِكَ لقَضاهُ اللهُ عَنْه: اللَّهُمَّ فارِجَ الهَمِّ وَكاشِفَ الغَمِّ، مُجِيبَ دَعْوَةِ المُضْطَرِّيْنَ، رَحمنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَرَحِيْمَهُمَا، أَنْتَ تَرْحَمُنِي فَارْحَمْنِي بِرَحْمَةٍ تُغْنِينِي بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِواكَ" (¬3). ¬
وفي الحديث أن أبا بكر وعائشة - رضي الله عنها - جرَّباه، فقُضِيَتْ عنهما ديونها. وروى ابن أبي الدنيا عن معروف الكرخي رحمه الله قال: اجتمعت اليهود على قتل عيسى عليه السلام بزعمهم، فأهبط الله عز وجل جبريل عليه السلام في باطن جناحه مكتوب: اللهم إني أسألك باسمك الأجل الأعز، وأدعوك باسمك اللهم الأحد الصمد، وأدعوك باسمك اللهم العظيم الوتر، وأدعوك اللهم باسمك الكبير المتعال الذي ملأ الأركان كلها أن تكشف عني ضر ما أمسيت وأصبحت فيه. فأوحى الله إلى جبريل أن ارفع عبدي إلي (¬1). وروى أَبو نعيم عن سعيد الجريري رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: تزعم أنك لا تسألني شيئاً، فإذا قلت: ما شاء الله فقد سألتني كل شيء (¬2)؛ أي: كل شيء فيه الخيرة لأن قولك: ما شاء الله تفويض لمشيئتي، ومن فوَّض إليَّ مشيئتي فما أشاؤه خيرٌ له مما يشاؤه لنفسه. وقوله: تزعم أنك لا تسألني شيئاً؛ أي: شيئاً أنت في طلبه بنفسك حتى تطلب مني بي، وإلا فقد كان عليه السلام يسأل الله تعالى. وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "الزهد" عن وهب رحمه ¬
الله تعالى قال: قال المسيح عليه السلام: أكثروا ذكر الله وحمده وتقديسه، وأطيعوه؛ فإنما يكفي أحدكم من الدعاء إذا كان الله تبارك وتعالى راضياً عنه أن يقول: اللهم اغفر لي خطيئتي، وأصلح لي معيشتي، وعافني من المكاره يا إلهي" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن أبي خالد رحمه الله قال: ذكر عن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: أنه قال: اللهم لا تكلفني طلب ما لم تقدره لي، وما قدرت لي به من رزقٍ فأتني به في يُسرٍ منك وعافية، وأصلحني بما أصلحت به الصالحين، فإنما أصلح الصالحين أنت (¬2). وعن عثمان بن عبد الله بن أويس رحمه الله قال: كان نبي من الأنبياء عليهم السلام يقول: اللهم احفظني بما تحفظ به الصبي (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في "الهواتف"، والخطيب، والأصبهاني في "الترغيب" عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: بينا أنا أطوف بالكعبة إذا رجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: يا من لا يشغله سمعٌ عن سمع، يا من لا تغلطه المسائل، يا من لا يبرمه إِلْحَاحُ الملحين، أذقني بَرْد عفوك، وحلاوة رحمتك. فقال علي: أعد عليَّ هذا الكلام يا عبد الله. ¬
قال: أسمعته؟ قال: نعم. قال: والذي نفس الخضر بيده - وكان هو الخضر عليه السلام - ما من عبدٍ يقولهنَّ في دبر كل صلاة مكتوبة إلا غُفرت له ذنوبه ولو كانت مثل رمل عالج، أو مثل زبد البحر، أو ورق الشجر (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه كان جالساً في ظل الكعبة إذ سمع رجلاً يدعو: يا الله يا الله - خمساً أو سبعاً - الذي لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا إلحاح الملحين! أذقني بَرْدَ عفوك وحلاوة مغفرتك. فقال عمر لأصحابه: قوموا لعلنا نُرحم بدعائه، فكلَّمه عمر، فكلُّهم يرى أنه الخضر عليه السلام (¬2). وعن هشيم رحمه الله قال: كنت يوماً في منزلي فدخل عليَّ رجل فقال: قل: الحمد لله على كل نعمة، وأستغفر الله من كل ذنب، وأسأل الله من كل خير، وأعوذ بالله من كل شر، ثم خرج فطلبه فلم يُوجد، وكنا نراه الخضر عليه السلام (¬3). وروى ابن عساكر عن يوسف بن أسباط رحمه الله قال: بلغني أنَّ ¬
فائدة
موسى قال للخضر عليه السلام: ادعُ لي، فقال الخضر: يسَّر الله عليك طاعته (¬1). وروى الدارقطني في "الأفراد"، وابن عساكر عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَلْتَقِي الخَضِرُ وَإِلْياسُ عَلَيْهِمَا السَّلامُ فِي كُلِّ عامٍ فِي الْمَوْسِمِ، فَيَحْلِقُ كُل واحِدٍ مِنْهُمْ رَأسَ صَاحِبِهِ، وَيَفَرَّقانِ عَنْ هَؤُلاءِ الكَلِماتِ: بِسْمِ اللهِ ما شاءَ اللهُ، لا يَسُوْقُ الْخَيْرَ إِلاَّ اللهُ، ما شاءَ اللهُ لاَ يَدْفَعُ الشَّرَ إِلاَّ اللهُ، ما شاءَ اللهُ ما كانَ مِنْ نعمةٍ فَمِنَ اللهِ، ما شاءَ اللهُ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ". قال ابن عباس: من قالهن حين يصبح وحين يُمسي ثلاث مرات آمنه الله من الغرق والحرق والسرق، ومن الشيطان والسلطان، ومن الحية والعقرب (¬2). * فائِدَةٌ: روى الأصبهاني في "الترغيب" عن محمد بن نشر - بالنون - الهمداني قال: أرسلني محمد بن الحنفية رحمه الله إلى الحجاج فقال: قل له: يقول لك محمد: ما لنا وما لك؟ أما تتقي الله؟ قال: قلت: أخاف أن يقتلني. ¬
فائدة أخرى
قال: إذا وقعت عيناك عليه فقل: اللهم إني أسألك بما سألك ملائكتك المقربون، وأنبياؤك المرسلون، وعبادك الصالحون أن تصرف عني شره. قال: فلما وقعت عيناي عليه دعوتُ بها، ثم دنوت منه فأبلغته الرسالة، فقال: أو إنك لتقول ذا؟ ثم قال: إنما أنت رسول فانصرف. * فائِدَةٌ أُخْرَى: روى أَبو نعيم عن يوسف بن الحسين رحمه الله قال: سمعت ذا النون المصري رحمه الله يوما وقال له رجل: أوصني، فقال: بمَ أوصيك؟ إن كنت ممن أيدت منه في علم الغيب بصدق التوحيد فقد سبق لك قبل أن تخلق إلى يومنا هذا دعاء النبيين والمرسلين والصّديقين، وذلك خيرٌ لك من وصيتي لك. وإن يكن غير ذلك فلن ينفعك ابتداء (¬1). قلت: كلامه إشارة إلى أنَّ من أخلاق الأنبياء والصديقين رحمة الخلق والدعاء لهم، وهو كذلك. * تَنْبِيْهٌ: أكثر أدعية الأنبياء عليهم السلام طلب المغفرة، وهي جماع كل مطلوب. ¬
قال تعالى حكاية عن آدم وحواء عليهما السلام: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]. وقال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]. وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]. وقال تعالى حكاية عن داود عليه السلام: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]. وعن ولده سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص: 35]. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الجلد: أنَّ داود عليه السلام أمر منادياً يُنادي: الصلاة جامعة، فخرج الناس وهم يرون أنه سيكون منه يومئذٍ موعظة وتأديب ودعاء، فلما وافى مكانه قال: اللهم اغفر لنا، وانصرف، فاستقبل آخر الناس أوائلهم قالوا: ما لكم؟ قالوا: إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام إنما دعا بدعوةٍ واحدة، ثم انصرف. قالوا: سبحان الله! كنا نرجو أن يكون هذا اليوم يوم عبادة ودعاء وموعظة وتأديب، فما دعا إلا بدعوة واحدة؟ فأوحى الله إليه أن أبلغ عني قومك؛ فإنهم قد استقلوا دعاءك أنَّ مَنْ أغفر له أُصْلِحُ له أمر آخرته ودنياه (¬1). ¬
111 - ترصد أوقات الإجابة، والأحوال الشريفة، والأمكنة العظيمة للدعاء، والمحافظة على آداب الدعاء
وعن مالك بن دينار قال: قيل لناحية من الأرض: إنَّ عيسى بن مريم عليهما السلام مارٌّ بكم، فنزلوا من الغيران والحدائر، وأظلة الأشجار ورؤوس الجبال قال: فمرَّ بهم، فقال: اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا - ثلاثاً -. قالوا: يا روح الله! إنا رجونا أن نسمع منك اليوم موعظةً، ونسمع اليوم منك شيئاً لم نسمعه فيما مضى. قال: فأوحى الله إلى عيسى أن قل لهم: إني من أغفر له مغفرةً واحدة أُصْلِحُ له بها دنياه وآخرته. وروى ابنه في "زوائده" عن عبيد بن عمير رحمه الله: أنَّ داود عليه السلام نبت حوله روضة من دموعه، فأوحى الله إليه: يا داود! تريوإن أزيدك في ملكك وولدك؟ قال: أي رب! أريد أن تغفر لي (¬1). - ومن أخلاق الأنبياء عليهم السلام: 111 - ترصد أوقات الإجابة، والأحوال الشريفة، والأمكنة العظيمة للدعاء، والمحافظة على آداب الدعاء. قال الله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام لأولاده: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98]. وروى الترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بينما نحن عند ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: بأبي أنت وأمي! تفلَّت هذا القرآن من صدري فما أجدني أقدر عليه. قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ، وَينْتَفِعُ بِهِنَّ مَنْ عَلَّمْتَهُ، وَيَثْبُتُ ما تَعَلَّمْتَ فِي صَدْرِكَ؟ " قال: أجل يا رسول الله. قال: "إِذا كانَ لَيْلَةُ الجُمُعَةِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَقُومَ فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الآخِرِ؛ فَإِنَّها سَاعَةٌ مَشْهُوْدَةٌ وَالدُّعَاءُ فِيْهَا مُسْتَجَابٌ، وَقَدْ قالَ أَخِي يَعْقُوْبُ لِبَنِيْهِ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى، قالَ: يَقُوْلُ: حَتَّىْ تَأْتِيَ لَيْلَةُ الجُمُعَةِ". وذكر الحديث في الدعاء لحفظ القرآن (¬1). وعن محارب بن دثار عن عمه قال: كنت آتي المسجد في السَّحَرِ فأمرُّ بدار ابن مسعود - رضي الله عنه -، فأسمعه يقول: اللهم إنك أمرتني فاطلعت، ودعوتني فأجبت، وهذا سَحَرٌ فاغفر لي، قال: فلقيت ابن مسعود فقلت له: كلمات أسمعك تقولها في السحر؟ فقال: إنَّ يعقوب أخر بنيه إلى السَّحَر بقوله: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98] (¬2). ¬
112 - ومن آدابهم: رفع اليدين وبسطهما في الدعاء.
ورواه أيوب السختياني عن سعيد بن جبير قال: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98] في الليالي البيض؛ أي: في الثلاث عشرة والأربع عشرة والخمس عشرة؛ فإنَّ الدعاء فيها مستجاب (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن خالد الحذَّاء رحمه الله قال: كان عيسى بن مريم إذا سرح رسله يُحيون الموتى، يقول لهم: قولوا كذا، قولوا كذا، فإذا وجدتم قشعريرة ودمعة فادعوا عند ذلك (¬2). وعن أبي الجلد قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام أن يا موسى! إذا دعوتني فاجعل لسانك من وراء قلبك، وكن عند ذكري خاشعاً مطمئناً، وإذا قمت بين يدي فقم مقام الحقير الذليل، وذُمَّ نفسك فهي أولى بالذم، وناجني حين تُناجيني بقلب وَجِلٍ ولسانٍ صادق (¬3). 112 - ومن آدابهم: رفع اليدين وبسطهما في الدعاء. روى أَبو بكر بن مردويه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] قال: "رَغَبًا هَكَذَا وَرَهَبًا هَكَذَا"؛ وبسط كفيه (¬4). وفي "سنن أبي داود": عن مالك بن يسار السَّكُونِيِّ الْعَوْفِيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا سَأَلْتُمُ اللهَ تَعالَى فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ، ¬
113 - ومن آدابهم: تصدير الدعاء باسم من أسماء الله تعالى يليق بالترحم والتلطف، أو بما يوافق الدعاء المدعو به.
وَلا تَسْأَلُوْهُ بِظُهُورِها" (¬1). قال الإمام أَبو بكر بن محمد الطرطوشي في كتاب "الأدعية" في آداب الدعاء: فمن أدبه أن يعلم أنَّ سنن الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين إذا أرادوا استقضاء حاجة عند مولاهم أن يُبادروا قبل السؤال، فيقوموا بين يدي ربهم، فيصفوا أقدامهم، ويبسطوا أكفهم، وُيرسلوا دموعهم على خدودهم، ويبدؤوا بالتوبة من معاصيهم، والتنصل من مخالفاتهم، ويستبطئوا الخشوع في قلوبهم، ويتباءسوا ويتمسكنوا ويستقيموا بين يدي من وقفوا ولمناجاة من تعرضوا، انتهى. 113 - ومن آدابهم: تصدير الدعاء باسم من أسماء الله تعالى يليق بالترحم والتلطف، أو بما يوافق الدعاء المدعو به. ولذلك قال بعض العلماء: إنَّ الاسم الأعظم هو أن يدعو بالاسم الموافق للمطلوب كتصدير طلب الرزق بالكريم والجواد، وطلب النجاة من عدو أو ظالم بالواحد والأحد والقهار. ولما كان الاسم الجليل الله جامعاً لجميع معاني الأسماء الحسنى كان لائقاً لأن يصدر به كل دعاء. وفي ندائه طريقان: أن يُقال: يا الله. وأن يقال: اللهم؛ بالتعويض عن حرف النداء بالميم المشددة. ¬
114 - ومن آدابهم: الإشارة إلى الحاجة دون التصريح في الدعاء إلا أن يكون الحال يقتضى الانبساط إلى الله تعالى، كما في قول أيوب عليه السلام: {مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83].
وقد قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] الآية. ولمَّا كان الاسم: الرَّبُّ من الأسماء الجامعة لمعاني الرحمة والعطف والجود والكرم؛ لأنه بمعنى المالك أو القائم بمصالح العبد المتولي لتربيته، أو بمعنى السيد، كان معظم أدعية الأنبياء عليهم السلام بلفظ: يا رب، أو: أي رب، أو: رب، أو: ربنا. وإذا نظرت في أدعية الأنبياء عليهم السلام الواردة في القرآن وجدتُها مصدرة به. وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الدعاء" عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا قالَ العَبْدُ: يا رَبِّ! يا رَبِّ! قالَ اللهُ تَعالى: لَبَّيْكَ عَبْدِي، سَلْ تُعْطَهْ" (¬1). وروى أَبو نعيم عن ابن وهب رحمه الله قال سُئِلَ مالك بن أنس - رضي الله عنه -، عن رجلٍ يدعو يقول: يا سيدي، فقال: يُعجبني أن يدعو بدعاء الأنبياء: ربنا ربنا (¬2). 114 - ومن آدابهم: الإشارة إلى الحاجة دون التصريح في الدعاء إلا أن يكون الحال يقتضى الانبساط إلى الله تعالى، كما في قول أيوب عليه السلام: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]. ¬
وقول موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]. وقوله: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]. وقول إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]. وقول يونس عليه السلام: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]. وذلك لأن الثناء على الغني من المحتاج دليل الطلب. وقد روى الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَفْضَلُ الذِّكْرِ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعاءِ الحَمْدُ للهِ" (¬1). وما أحسن ما قيل: [من الوافر] أَأَذْكُرُ حاجَتِي أَمْ قَدْ كَفانِي ... حَياؤُكَ إِنَّ شِيْمَتَكَ الْحَياءُ إِذا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْماً ... كَفاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّناءُ (¬2) ¬
115 - ومن آدابهم: الاختصار في الدعاء والاختيار لجوامعه، وأدعية الأنبياء عليهم السلام في القرآن كلها جوامع.
ولقد علمت قول الله تعالى لعيسى عليه السلام: تزعم أنك لا تسألني شيئا، فإذا قلت: ما شاء الله فقد سألتني كل شيء (¬1). وقوله لموسى عليه السلام: أما علمت أن قولك: ما شاء الله أنجحُ ما طلبت به الحوائج (¬2). وبيانه: أنَّ في التفويض إليه إلقاءه باليد في باحة العبودية، وإسلاماً للنفس إلى يد الجبروتية، وأرضى ما يكون السادة من العبيد إذا سلَّموا، وبالرضا تنال المُنى، ويحصل الهنا والغنى، بل مهما كان العبد بذكر مولاه مشغولاً كان المولى على العبد مُقبلاً وله كافياً حاجةً وسؤلاً. يقول الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين (¬3). 115 - ومن آدابهم: الاختصار في الدعاء والاختيار لجوامعه، وأدعية الأنبياء عليهم السلام في القرآن كلها جوامع. وقد روى الإمام أحمد في "الزهد" عن بشر الدمشقي رحمه الله قال: قيل لناحية من الأرض: إنَّ عيسى بن مريم عليهما السلام مارٌّ ¬
116 - ومن آدابهم: تكرار الدعاء ثلاثا كما في هذا الأثر.
بكم، فنزلوا من الغيران والحدائر، وأظلة الأشجار ورؤوس الجبال، فمرَّ بهم فقال: اللهم اغفر لنا - ثلاثاً -. قالوا: يا روح الله! إنا رجونا أن نسمع منك اليوم موعظةً، ونسمع منك شيئاً لم نسمعه فيما مضى. فأوحى الله عز وجل إلى عيسى عليه السلام: قل لهم: إني من أغفر له مغفرةً واحدة أُصْلحُ له بها دنياه وآخرته (¬1). 116 - ومن آدابهم: تكرار الدعاء ثلاثاً كما في هذا الأثر. وكما تقدم عن داود عليه السلام: أنه كان يُكرر دعاءه في الصباح والمساء ثلاثاً (¬2). ولا بأس بالزيادة على الثلاث مرات لأنَّ الإلحاح في الدعاء مطلوب من غير اعتداء. لكن ذكر أَبو طالب المكي في "قوته": أنه استقصى أدعية القرآن فلم يجدها تزيد على سبعة، قال: فأستحب أن لا يزيد الدعاء على سبع مرات. 117 - ومن آدابهم: أنهم يسألون الحاجات عند الاضطرار. روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لقد قال موسى عليه ¬
118 - ومن آدابهم: الإسرار في الدعاء والتملق إلى الله تعالى بضعف الحال، والتقرب إلى الله تعالى في الدعاء بما له عليهم من سوابق.
السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، وهو أكرم خلقه عليه، ولقد كان افتقر إلى شق تمرة، ولقد أصابه الجوع حتى لصق بطنه بظهره (¬1). 118 - ومن آدابهم: الإسرار في الدعاء والتملق إلى الله تعالى بضعف الحال، والتقرب إلى الله تعالى في الدعاء بما له عليهم من سوابق. قال الله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} إلى قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 2 - 4]؛ أي: لم أزل أدعوك فتستجيب لي، فلذلك قوي رجائي أن تُجيب دعائي كما عودتني. وقد حكي أن رجلاً جاء إلى حاتم الطائي يلتمس منه شيئاً، فقال: إني جئتك في وقت كذا فأحسنت إليَّ، فقال: مرحباً بمن توسل بنا إلينا (¬2). 119 - ومن آدابهم: التوسل إلى الله تعالى بصالح أعمالهم إذا كان الوقت يقتضي الادلال والانبساط: روى الإمام أحمد في "الزهد" عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب عليه السلام أخوان فأتيا ذات يومٍ فوجدا ريحاً، فقالا: لو كان الله عز وجل علم من أيوب خيراً ما بلغ به كل هذا، قال: فما سمع شيئاً ¬
120 - ومن آدابهم: البداءة في الدعاء بنفس الداعي، وتعميم الدعاء للمؤمنين.
كان أشد عليه من ذلك، فقال: اللهم! إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعاناً وأنا أعلم مكان جائع فصدقني، قال: فصدق وهما يسمعان، ثم قال: اللهم! إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصاً قط وأنا أعلم مكان عارٍ فصدقني، قال: فصدق وهما يسمعان، ثم خرَّ ساجداً ثم قال: اللهم! إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي، فكشف الله عز وجل ما به (¬1). 120 - ومن آدابهم: البداءة في الدعاء بنفس الداعي، وتعميم الدعاء للمؤمنين. قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]. وقال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28] 121 - ومن آدابهم: التأمين على الدعاء. وقد كان ذلك للأنبياء دون الأمم حتى كانت هذه الأمة فآتاهم الله تعالى ذلك. وقد روى الحكيم الترمذي في "نوادره"، وابن مردويه في "تفسيره" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُعْطِيْتُ ثَلاثَ خِصالٍ: أُعْطِيتُ صَلاَةً فِي الصُّفُوْفِ، وَأُعْطِيْتُ السَّلامَ وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَأُعْطِيْتُ آمِيْنَ وَلَمْ يُعْطَها أَحَدٌ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ اللهُ تَعالى أَعْطاها ¬
تنبيه لطيف
هارُوْنَ؛ فإنَّ مُوْسَى كانَ يَدْعُو وُيؤَمِّنُ هارُوْنُ" (¬1). وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه ينبغي أن يقدم بالدعاء الأفضل والأكمل والأقرب إلى الله تعالى، ويؤمن من دونه، ولو كان عكس ذلك جاز، لكن ينبغي أن لا يدعو مع وجود من هو أولى منه إلا بإذنه أو بإشارته؛ لأنَّ الأدب مطلوب في كل مقام. وقد روى النسائي، والحاكم وصححه، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أنه كان هو وأبو هريرة ورجل آخر في المسجد يدعون، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلس إليهم، فسكتوا فقال: "عُوْدُوا لِلَّذِي كُنْتُمْ فِيْهِ". قال زيد: فدعوتُ أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمن على دعائنا. قال: ثم دعا أَبو هريرة فقال: اللهم! إني أسألك مثل الذي سأل صاحباي هذان، وأسألك علماً لا يُنسى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "آمِين"، فقلنا: يا رسول الله! ونحن نسألُ الله علماً لا يُنسى، فقال: "سَبَقَكُما بِهَا الدَّوْسِيُّ" (¬2). * تَنْبِيْهٌ لَطِيْفٌ: ذكر القرطبي في "تفسيره" عن شهر بن حوشب، عن عبادة بن ¬
الصامت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أُعْطِيَتْ أُمَّتِي ثَلاَثاً لَمْ يُعْطَهَا إِلاَّ الأَنْبِياءُ: كانَ اللهُ إِذَا بَعَثَ النَّبِيَّ قالَ لَهُ: ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ، وَقالَ لِهَذِهِ الأُمَّة: ادْعُوْنِي أسْتَجِبْ لَكُمْ. وَكانَ اللهُ إِذا بَعَثَ النَّبِيَّ قالَ لَهُ: ما جَعَلَ عَلَيْكَ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ، وَقالَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ. وَكانَ اللهُ إِذا بَعَثَ النَّبِيَّ جَعَلَهُ شَهِيْدًا عَلَى قَوْمِهِ، وَجَعَلَ هَذِهِ الأُمَّةَ شُهَداءَ عَلَىْ النَّاسِ" (¬1). وروى الفريابي عن كعب رحمه الله قال: أُعطيت هذه الأمة ثلاث خصال لم تعطها إلا الأنبياء: كان النبي يُقال له: بلغ ولا حرج، وأنت شهيد على قومك، وادعُ أُجبك. وقال لهذه الأمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، وقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] (¬2). وروى النسائي، والحاكم، وأبو نعيم، والبيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46] قال: نودوا: يا أمة محمد! استجبت لكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم ¬
122 - ومن خصال الأنبياء عليهم السلام: الاستمطار والاستسقاء لكافة الخلق.
قبل أن تسألوني (¬1). قال العلماء: لا يحول بين هذه الأمة وبين استجابة الدعاء إلا إخلال بشرط من شروط الدعاء أو أدب من آدابه، أو يدخر الله لهم مسألتهم، أو يكتب لهم بالدعوة حسنة، أو يرفع لهم درجة، أو يحطّ عنهم خطيئة. وليس هذا محل استيفاء الكلام على الدعاء؛ فإنه يحتمل الإفراد بالتأليف. 122 - ومن خصال الأنبياء عليهم السلام: الاستمطار والاستسقاء لكافة الخلق. قال الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 60] الآية. وروى الدارقطني، والحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَرَجَ نبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَسْتَسْقِي فَإِذَا هُوَ بِنَمْلَةٍ رافِعَةً بَعْضَ قَوَائِمِهَا إلى السَّمَاءِ، فَقَالَ: ارْجِعُوْا فَقَدِ اسْتُجِيْبَ لَكُمْ مِنْ أَجْلِ شَأْنِ النَّمْلَةِ" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الصِّدِّيق الناجي قال: خرج سليمان بن داود عليهما السلام بالناس يستسقي، فمرَّ على نملةٍ ¬
مُستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم! إنا خلقٌ من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك، فإما أن تسقينا وإما أن تُهلكنا، فقال سليمان للناس: ارجعوا فقد سُقيتم بدعوة غيركم. وفي رواية: ارجعوا فقد كُفيتم بغيركم (¬1). وعن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب رحمه الله قال: خرج داود يستسقي، فبينما هو في مسيره - أو قال: على سريره - إذا هو بنملة رافعة يديها تقول: اللهم! إنا خلقٌ من خلقك، لا غنى بنا عن رزقك، فلا تؤاخذنا بذنوب بني آدم، فقال داود: ارجعوا فقد سُقيتم. قلت: المشهور أن المستسقي سليمان، ويحتمل أنهما واقعتان متفقتان؛ إحداهما له، والأخرى لأبيه. وروى عبد الرزاق عن شهر بن حوشب رحمه الله: أنَّ عيسى بن مريم عليهما السلام خرج يستسقي فخرج بالناس ثم قال: من كان منكم أذنب ذنباً فليرجع، فجعل الناس يرجعون حتى لم يبقَ منهم معه إلا رجل أعور، فقال له عيسى: ما أذنبت قط، قال: نظرت بعيني هذه مرة واحدة إلى ما لا يحل في ففقأتها، فقال له عيسى: فأنت، ثم قال له عيسى: ادعُ وأنا أُؤمن، فدعا وأمن عيسى، فسقاهم الله تعالى (¬2). ¬
123 - ومنها: الاستسقاء بالصالحين كما تقدم قريبا عن عيسى عليه السلام.
123 - ومنها: الاستسقاء بالصالحين كما تقدم قريباً عن عيسى عليه السلام. وذكر حجة الإسلام في "الإحياء": أنَّ بني إسرائيل قحطوا سبع سنين، فخرج موسى عليه السلام ليستسقي لهم في سبعين ألفاً، فأوحى الله إليه: كيف أستجيب لهم وقد أظلمت عليهم ذنوبهم، سرائرهم خبيثة، يدعونني على غير يقين ويأمَنون مكري، ارجع إلى عبدٍ من عبادي يُقال له: برخ، فقل له يخرج حتى أستجيب له، فسأل عنه موسى عليه السلام فلم يعرف، فبينا موسى ذات يوم يمشي في طريق إذا بعبدٍ أسود قد استعلاه بين عينيه تراب من أثر السجود في شملة قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى بنور الله تعالى فسلَّم عليه وقال: ما اسمك؟ فقال: اسمي برخ. قال: فأنت طلبنا منذ حين، أخرج فاستسقِ لنا. فخرج فقال في كلامه: ما هذا من فعالك، ولا هذا من حلمك، وما الذي بدا لك أَنَقُصتْ عليك غيوثك؟ أم عاندت الرياح عن طاعتك؟ أم نفد ما عندك؟ اشتد غضبك على المذنبين؟ ألست كنت غفاراً قبل خلقك الخطائين؟ خلقت الرحمة وأمرت بالعطف أم ترينا أنك تمتنع؟ أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة؟ قال: فما برح حتى اخضلت بنو إسرائيل بالقطر (¬1). ¬
وذكر في "الإحياء" أيضاً: عن يحيى الغساني قال: أصاب الناس قحط على عهد داود عليه السلام، فاختاروا ثلاثة من علمائهم، فخرجوا يستسقون لهم فقال أحدهم: اللهم! أنزلتَ في توراتك أنْ نعفو عن من ظلمنا، اللهم! إنا قد ظلمنا أنفسنا فاعف عنا. وقال الثاني: [اللهم! إنك أنزلت في توراتك أن نعتق أرقاءنا، اللهم! إنا أرقاؤك فاعتقنا. وقال الثالث] (¬1): اللهم! إنك أنزلت في توراتك ألا تردوا المساكين إذا وقفوا بأبوابكم، اللهم! إنا مساكينك وقفنا ببابك فلا تردَّ دعائنا. قال: فسقوا (¬2). وفي "صحيح البخاري": أن عمر استسقى بالعباس - رضي الله عنهما - (¬3). وروى الإمام أحمد: أن معاوية استسقى بأبي مسلم الخولاني - رضي الله عنهما - (¬4). وروى أَبو زرعة الدمشقي في "تاريخه" بإسناد صحيح، واللالكائي في "كرامات الأولياء": أنَّ معاوية استسقى بيزيد بن الأسود رحمه الله تعالى (¬5). ¬
124 - ومن أخلاق الأنبياء عليهم السلام: ترك التداوي ثقة بالله تعالى، واعتمادا عليه، وفعل التداوي تنفيذا لحكم الله تعالى، وإظهارا لما استودعه في الأدوية من المنافع من غير اعتماد عليها ولا على من يشير بها من طبيب ونحوه.
124 - ومن أخلاق الأنبياء عليهم السلام: ترك التداوي ثقةً بالله تعالى، واعتماداً عليه، وفعل التداوي تنفيذاً لحكم الله تعالى، وإظهاراً لما استودعه في الأدوية من المنافع من غير اعتماد عليها ولا على من يشير بها من طبيب ونحوه. فالأول: حال أيوب عليه السلام؛ مَكَث في البلاء سبع سنوات والدواب ترعى في جسده، ولم يُرو عنه أنه تداوى. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن امرأة أيوب عليهما السلام قالت له ذات يوم: يا أيوب! قد والله نزل بي من الجهد والفاقة ما بعت قرناً من قروني برغيف فأطعمتك، فادعُ ربك عز وجل فليشفك. قال: ويحَكِ! كنا في النعماء سبعين عاماً فاصبري حتى نكون في الضراء سبعين عاماً. قال: وكان في البلاء سبع سنين (¬1). قال: وقعد الشيطان في الطريق فأخذ تابوتاً يتطيب، فأتته امرأة أيوب فقالت له: يا عبد الله! إنَّ هاهنا إنساناً مُبتلى، فهل لك أن تداويه؟ قال: إن شاء فعلت على أن يقول لي كلمة واحدة إذا بَرَأَ؛ يقول: أنت شفيتني. قال: فأتته فقالت: يا أيوب! إنَّ هاهنا رجلاً يزعم أنه يداويك ¬
على أن تقول كلمة واحدة: أنت شفيتني. قال: ويلك! ذاك الشيطان، لله عليَّ إن شفاني الله عز وجل أن أجلدك مئة جلدة، فبينما هم كذلك إذ جاء جبريل عليه السلام فأخذ بيده فقال: قم. قال: فقال له: اركض برجلك، فركض، فنبعت عين، فقال: اشرب، فشرب. قال: يقول الله: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]؛ أي: فشفاه الله تعالى. والخبر فيه طول (¬1). والثاني: حال يعقوب عليه السلام وآخرين من الأنبياء. قال الله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]. روى الترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: فأخبرنا عمَّا حرَّم إسرائيل على نفسه؟ قال: "سَكَنَ الْبَدْوَ فَاشْتَكَى عِرْقَ النِّسا، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئاً يُداوِيْهِ إِلاَّ لُحُوْمَ الإِبِلِ وَأَلْبانهَا، فَلِذَلِكَ حَرَّمَها"، قالوا: صدقت (¬2). ¬
وروى غيره عن ابن عباس قال: لما أصاب يعقوب عليه السلام عرق النسا وصف له الأطباء أن يجتنب لحوم الإبل، فحرَّمها على نفسه، فقالت اليهود: إنما حرَّمنا على أنفسنا لحوم الإبل أنَّ يعقوب حرَّمها، وأنزل الله تحريمها في التوراة، فأنزل الله هذه الآية (¬1). وروى البزار، والطبراني، وابن السني، وأبو نعيم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أَنَّ نبِيَّ اللهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي رَأَىْ شَجَرَةً نَابِتَة بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُوْلُ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ فتقُوْلُ: كَذَا، فَيَقُوْلُ: لأَيِّ شَيءٍ أَنْتِ؟ فتقَوْلُ: لِكَذَا، فَإِنْ كَانَتَ لِدَوَاءٍ كتبت، وَإِنْ كَانَتْ لِغِرَاسٍ غرست" (¬2). وروى الطبراني من حديثه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسٌ مِنْ سُنَنِ المُرْسَلِيْنَ: الحَيَاءُ، وَالحِلْمُ، وَالحِجَامَةُ، وَالتَّعَطُّرُ، وَالنِّكَاحُ" (¬3). وتقدَّم في الباب حديثا أبي أيوب وحصين الخطمي. وذكر أَبو طالب المكي عن بعض العلماء: أن موسى عليه السلام اعتل علة، فدخل عليه بنو إسرائيل فعزموا عليه فقالوا: لو تداويت بكذا لبرئت، فقال: لا أتداوى حتى يُعافيني من غير دواء، فطالت عليه ¬
فقالوا له: إنَّ دواء هذه العلة معروفٌ مجرَّب، وإنَّا نتداوى به فنبرأ، فقال: لا أتداوى، فدامَتْ عليه، فأوحى الله إليه: وعزتي لا أبرأتك حتى تتداوى بما ذكروه، فقال لهم: داووني بما ذكرتم، فداووه فبرأ، فأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى الله إليه: أردت أن تبطل حكمتي بتوكلك علي؟ من أودع العقاقير منافع الأشياء غيري. قال أَبو طالب: وروينا في بعض الأخبار: شكى نبي من الأنبياء إلى الله علَّة يجدها، فأوحى الله إليه: كُلِ اللحم باللبن. قال: وفي خبر آخر: أنَّ نبياً شكا إليه الضعف، فأوحى الله إليه: كُل اللحم باللبن؛ ففيهما القوة. أحسبه الضعف عن الجماع (¬1). قال: وذكر وهب بن منبه: أنَّ ملكاً من الملوك اعتل علَّة وكان حسن السيرة في رعيته، فأوحى الله إلى شعياء النبي - صلى الله عليه وسلم -: قل له: اشرب ماء اللبن؛ فإنه شفاء من علتك. قال: وقد روينا أعجب من ذلك: أنَّ قوماً شكوا إلى نبي قبح أولادهم، فأوحى الله إليه: مُرْهم أن يُطعموا النساء الحُبالى السَّفرجل؛ فإنه يحسن الولد (¬2). ونقل ذلك حجة الإسلام الغزالي في "الإحياء"، وقال: يُروى ¬
تنبيه
عن موسى عليه السلام أنه قال: يا رب! ممن الدواء والشفاء؟ فقال تعالى: مِنِّي. قال: فما يصنع الأطباء؟ قال: يأكلون أرزاقهم، وُيطيبون نفوس عبادي حتى يأتي شفائي أو قبضي (¬1). وإلى هذا المعنى أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أَبو داود، وابن السني، وأبو نعيم عن أبي رِمْثَةَ قال: انطلقت مع أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له أبي: أرني الذي بظهرك؛ فإني رجلٌ طبيب، قال: "اللهُ الطَّبِيْبُ، بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ رَفِيْقٌ" (¬2). * تَنْبِيْهٌ: قال قوم: إنَّ شيث عليه السلام أظهر الطب، وإنه ورثه من أبيه آدم عليه السلام. وقال أبقراط وغيره: إنه إلهام من الله تعالى. وقيل: إنه حصل من التجارب. وقيل: بالقياس. وقيل: إنه مأخوذ عن سليمان عليه السلام، واستدلَّ له بحديث ابن عباس المتقدم، ولذلك أرشد العلماء إلى تعلم الطب لأنه من السنة. ¬
125 - ومن أخلاق الأنبياء عليهم السلام: ترك التضجر والتأوه في المرض.
وقال الشافعي رحمه الله: العلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان (¬1). وقال - رضي الله عنه -: لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب (¬2). وكان - رضي الله عنه - من أبصر الناس بالطب. 125 - ومن أخلاق الأنبياء عليهم السلام: ترك التضجر والتأوه في المرض. ولا بأس بالأنين والشكاية إلى الله تعالى لا إلى العُوَّادِ كما قال الله تعالى حكاية عن أيوب عليه السلام: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 41 - 42]؛ شكى إلى الله فشكاه وأزال بلواه. وقال تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن نَوف البِكالي رحمه الله قال: مر نفر من بني إسرائيل بأيوب عليه السلام فقالوا: ما أصابه ما أصابه إلا بذنبٍ عظيم أصابه. قال: فسمعها أيوب فعند ذلك قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 3]، قال: وكان قبل ذلك لا يدعو (¬3). ¬
126 - ومنها: قصر الأمل، وتوقع الموت خصوصا للمريض.
وروى ابنه في "زوائده" عن طلحة قال: قال إبليس: ما أصبت من أيوب عليه السلام شيئاً قط كنت أفرح به إلا أني كنت إذا سمعت أنينه عرفت أني قد أوجعته (¬1). 126 - ومنها: قصر الأمل، وتوقع الموت خصوصاً للمريض. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن خيثمة رحمه الله قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام: جربنا العيش؛ لينه وشديده، فوجدناه يكفي منه أدناه (¬2). وعن خالد بن معدان رحمه الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أبا الدرداء ومعاذاً وهما يمسحان المسجد بقصبة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خَشَبَاتٌ وَشَيْءٌ مِن ثُمَام، وظُلَّةٌ كَظُلَّةِ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ" (¬3). 127 - ومنها: الوصية عند الموت للأولاد والأهل بالمحافظة على الدين. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} إلى قوله: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130 - 132]. ¬
رُوِيَ أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألست تعلم أنَّ يعقوب عليه السلام أوصى بنيه باليهودية يوم مات، فأنزل تعالى في الرد عليهم: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة: 133] الآية (¬1). قال عطاء رحمه الله: إنَّ الله تعالى لم يقبض نبياً حتى خيره بين الموت والحياة، فلمَّا خيَّر يعقوب قال: أَنْظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم، ففعل الله ذلك به، فجمع ولده وولد ولده، وقال لهم: قد حضر أجلٌ فما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبدُ إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون (¬2). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن أبي عمران الجَوني رحمه الله تعالى قال: إنَّ موسى بن عمران عليه السلام لمَّا نزل به الموت جزع، ثم قال: أما إني لست أجزع من الموت ولكن أجزع أن ييس لساني عن ذكر الله عز وجل عند الموت. قال: وكان لموسى ثلاث بنات فقال: يا بناتي! إنَّ بني إسرائيل سيعرضون عليكم الدنيا فلا تقبَلْنَها، والقُطْنَ هذا السنبل فافركْنَهُ وكُلْنَهُ وتَبَلَّغْنَ به إلى الجنة (¬3). ¬
128 - ومنها: الحذر من الموت على غرة، والدعاء بتهوين سكرات الموت.
وروى الدارقطني عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: هذا ما أوصى به فلان ابن فلان أنه شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنَّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعثُ من في القبور، وأوصى من ترك بعده من أهله أن يتقوا الله حقَّ تقاته، وأن يُصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] (¬1). 128 - ومنها: الحذر من الموت على غرَّة، والدعاء بتهوين سكرات الموت. روى أَبو نعيم عن وهيب رحمه الله قال: مرَّت بنوح عليه السلام خمس مئة سنة لم يقرب النساء حذراً من الموت (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن علي بن الحسن الصنعاني قال: بلغنا أنَّ عيسى بن مريم عليهما السلام قال: يا معشر الحواريين! ادعوا الله يُخفِّفْ عني هذه السكرة؛ يعني: الموت. ثم قال عيسى: لقد خفتُ الموت خوفاً أوقفني مخافتي من الموت على الموت (¬3). ¬
129 - ومنها: إخراج ما عسى أن يكون عندهم من أمتعة الدنيا قبل الموت، وخصوصا عند الموت.
129 - ومنها: إخراج ما عسى أن يكون عندهم من أمتعة الدنيا قبل الموت، وخصوصاً عند الموت. روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن أبي عمران الجوني رحمه الله تعالى قال: كان نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام يُطعم المجذومين والأيتام النقي، ويأكل الشعير، ولم يَدَع سليمان بن داود يوم مات ديناراً ولا درهماً (¬1). 130 - ومنها: تفريغ القلب لمُلاقاة الله من كل ما سواه من زوجة وولد ومال وسائر أمور الدنيا. روى ابن أبي الدنيا عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَبَاكُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ طوالاً مِثْلَ النَّخْلَةِ السَّحُوْقِ سِتُّون ذِرَاعًا، وَكَانَ طَوِيْلَ الشَّعْرِ مُوَارِي العَوْرَةِ، فَلمَّا أَصَابَ الخَطِيْئَةَ بَدَتْ لَهُ سَوْءَتُهُ فَخَرَجَ هَارِبًا فِيْ الجَنَّةِ، فَلَقِيَتْهُ شَجَرَةٌ فَأَخَذَتْ بِنَاصِيَتِهِ، فَأَوْحَى الله عز وجل إِلَيْهِ: يَا آدَمُ! أَفِرَارًا مِنِّي؟ قَالَ: لا يَارَبِّ، وَلَكِنْ حَيَاءً مِمَّا جَنَيْتُ بِهِ. قَالَ: فَأَهْبَطَهُ اللهُ عز وجل إِلَىْ الأَرْضِ، فَلَمَّا حَضَرَتْ وَفَاتُهُ بَعَثَ اللهُ عز وجل بِكَفَنِهِ وَحَنُوْطِهِ مِنَ الجَنَّةِ، فَلَمَّا رَأَتْ حَوَّاءُ المَلائِكَةَ ذَهَبَتْ لِتَدْخُلَ دُوْنَهُمْ، فَقَالَ: خَلِّي بَيْنِي وَيَيْنَ رُسُلِ رَبِّى عز وجل فَمَا لَقَيْتُ مَا لَقَيْتُ إِلاَّ مِنْ قِبَلِكِ، وَمَا أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلاَّ فِيْكِ. ¬
قَالَ: فَغَسَّلَتْهُ المِلائِكَة بِالمَاءِ وَالسِّدْرِ وِتْرًا، وَكَفَّنُوْهُ فِيْ وِتْرٍ مِنَ الثِّيَابِ وَألْحَدُوْا لَهُ وَدَفَنُوْهُ وَقَالُوْا: هَذَهِ سُنَّةُ وَلَدِ آدَمَ مِنْ بَعْدِهِ" (¬1). وقوله هذا يجوز أن يكون إشارة إلى ما فعلوه به من التغسيل والتكفين والدفن، فيكون ذلك مشروعاً في سائر الملل منذ عهد آدم عليه السلام. ويجوز أن يكون إشارة إلى الموت؛ والمعنى: كما أن الموت نزل بآدم عليه السلام، فهو سنة باقية في أولاده لابدَّ من استقصائهم بالموت، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35]. وما أحسن قول كعب بن زهير - رضي الله عنه -: [من البسيط] كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طالَتْ سَلامَتُهُ ... يَوْماً عَلى آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمُولُ (¬2) وروى الدينوري في "المجالسة" عن أبي عمرو بن العلاء قال: أول شعر قيل في ذم الدنيا قول يزيد بن حذَّاق بن عبد القيس: [من البسيط] هَلْ لِلْفَتى مِنْ مَساةِ الدَّهْرِ مِنْ راقِ ... أَمْ هَلْ لَهُ مِنْ حِمامِ الْمَوْتِ مِنْ واقِ ¬
فائدة
قَدْ رَجَّلُونِي وَما بِالشَّعْرِ مِنْ شَعَثٍ ... وَأَلْبَسُونِي ثِياباً غَيْرَ أَخْلاقِ فَطَيَّبُونِي وَقالُوا أَيُّما رَجُلٍ ... وَأَدْرَجُونِي كَأَنِّي طَيُّ مِخْراقِ وَأَرْسَلُوا فِتْيةً مِنْ خَيْرِهِمْ حَسَباً ... وَأَسْنَدُوا فِيْ ضَرِيْحِ التُّرْبِ أَطْباقِي وَقَسَّمُوا الْمالَ وَارْفَضَّتْ عَوائِدُهُمْ ... وَقالَ قائِلُهُمْ ماتَ ابْنُ حذَّاقِ هَوِّنْ عَلَيْكَ وَلا تُوْلَعْ بِإِشْفاقٍ ... فإنَّما مالَنا لِلْوارِثِ الْباقِي (¬1) * فائِدَةٌ: روى الدينوري عن معاذ بن رفاعة رحمه الله قال: مرَّ يحيى بن زكريا عليهما السلام بقبر دانيال النبي عليه السلام، فسمع صوتاً من القبر يقول: سبحان من تعزز بالقدرة، وقهر العباد بالموت، [فإذا هو بصوت من السماء: أنا الذي تعززت بالقدرة، وقهرت العباد بالموت]، (¬2) مَنْ قالهنَّ استغفرت له السماوات السبع والأرضون، ومن فيهن (¬3). ¬
هذه نبذة صالحة من أخلاق الأنبياء عليهم السلام، ولم أستوفِ جميع ما ورد في كل مقام، فينبغي لكل مؤمن أن لا يرغب عن الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم إلا فيما نسخ من الشرائع بشريعة نبينا الخاتم الشافع - صلى الله عليه وسلم - وشرفه الله تعالى ومجد وعظم. وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]. وهذه الآية كافية في الزجر والرَّدع عما يقع عن بعض الجهلاء ويتفق من بعض الأغبياء من قولهم: ما يوصلنا إلى مقام الأنبياء، أو إلى مقام الصحابة النبلاء، أو إلى مقام الأولياء الكملاء؟ إذا قيل لهم: افعلوا كذا فقد كان فلان النبي أو الصحابي أو الولي يعمل به، وربما نسب الكثير من أهل عصرنا من يأمر باتباع السلف في الاجتهاد والطاعة والورع والتقشف والقناعة إلى الجنون والرقاعة، وعللوا ذلك بتأخر الزمان واقتراب الساعة. وهذا مكرٌ من الله تعالى وخذلان، وموافقة منهم لأهواء الشيطان، وطالما قيل لي: إذا دققت في الإرشاد وحمل الناس على السداد لقد حاولت محالاً، وادعيت تقريب ما هو أبعد من الثُّريا منالاً، وأنا أحتج بأدلةٍ سواطع وحجج قواطع. - منها: إنَّ اليأس من رَوح الله باعتبار تأخر الزمان من جملة أخلاق أهل الغبن والخسران. - ومنها: أحاديث صحت أسانيدها، وكثر على ألسنة العلماء
وهنا تنبيهات
ترديدها؛ كحديث المغيرة - رضي الله عنه - في "الصحيحين": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِيْ ظَاهِرِيْنَ عَلَىْ الحقِّ حتى يَأَتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُون" (¬1). وروى الحاكم وصححه، عن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِيْ ظَاهِرِيْنَ عَلَىْ الحقِّ حَتىْ تَقُوْمَ السَّاعَة" (¬2). وروى الإمام أحمد عن عمار، وهو والترمذي وصححه، عن أنس، وأبو يعلى عن علي، والطبراني في "الكبير" عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهم - قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ أُمَّتِيْ مَثَلُ المَطَرِ؛ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ" (¬3). إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار. * وهنا تَنْبِيْهاتٌ: الأول: قال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]. قيل: وفَّى بذبح ولده. وقيل: وفَّى بالبلاغ. وقيل: بالطاعة. وقيل: بصلاة الضحى (¬4). ¬
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: سهام الإسلام ثلاثون سهماً لم يتمها أحد قبل إبراهيم؟ قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]. صححه الحاكم (¬1). وجاء بيان السهام المذكورة في رواية ابن مردويه: عشرة في براءة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] الآيات كلها. وعشرة في الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآيات كلها. وستة في: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] من أولها الآيات كلها. وأربع في: {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج: 1]، {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المعارج: 26 - 27] الآيات كلها. فتلك ثلاثون سهماً؛ من وافى الله بسهمٍ منها فقد وافاه بسهم من سهام الإسلام، ولم يُوافه أحد بسهام الإسلام كلها قبل إبراهيم (¬2)، وقد قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4]، ثم قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة: 6]. ¬
الثاني
قلت: ومن استتم هذه الأخلاق الخليلية والملل الإبراهيمية فهو من الأقطاب، فقد قيل: إن قلب القطب على قلب إبراهيم؛ أي: من حيث جمعُه لمحامد الخصال. التَّنْبِيْهُ الثانِيْ: روى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا تتَرَاءَونَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ مِنَ الأُفُقِ مِنَ المَشْرِقِ أَوْ المَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ". قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء عليهم السلام لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بَلَى وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِيْنَ" (¬1)؛ أي: رجال غير أنبياء. وفيه إشارة إلى أنَّ من أولياء الله تعالى من يُرفع إلى منازل الأنبياء عليهم السلام لأنهم لما قالوا: تلك منازل الأنبياء، لم ينكر عليهم أنها منازلهم، ولكنه بيَّن أنه قد ينالها غير الأنبياء ممن آمن بالله وصدَّق المرسلين، ولا يلزم من ذلك المساواة بين الأنبياء وبين غيرهم، بل المنازل التي نالها الأنبياء بالإيمان والتصديق وحُسن الخُلق ونحو ذلك يشاركهم فيها من خلق بها ممن سواهم، وإنما يختص الأنبياء بما ¬
الثالث
يُعطونه من الثواب زائداً على ذلك في مقابلة النبوة وتلقي الوحي، وقد تبين أنَّ من تشبه بالأنبياء في مقام من مقاماتهم شاركهم في ثواب ذلك المقام؛ فافهم! التَّنْبِيْهُ الثَّالِثُ: ينبغي ويتأكد في حق من وفَّقه الله تعالى إلى أعمال الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين أن يحذر من العجب والغرور، ولا يزكي نفسه، ويتهمها، ويلازم الخوف والخشية؛ فإن قليلاً من ذلك يُفسد كثيراً من عمل الخير. روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن كعب رحمه الله تعالى قال: لو أنَّ رجلاً كان له مثل عمل سبعين نبياً لخشي أن لا ينجو من شر يوم القيامة (¬1). التَّنْبِيْهُ الرَّابعُ: قال أَبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار": سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد يقول: قال أَبو محمد سهل - يعني: ابن عبد الله التستري -: أصولنا سبعة وفروعنا خمسة، فمن تمسك بذلك كان الله دليله، والأنبياء أئمته، والملائكة أعوانه، والصديقون شركاءه، والمؤمنون إخوانه في أي حال تقلب فيه، ومن لم يكن فيه هذه السبعة أصله وهذه الخمسة فرعه فإنَّ إبليس وليه، والشياطين أئمته، والسحرة أعوانه، والكفار شركاؤه، والمنافقين إخوانه. ¬
فالأصول السَّبعة أولها: التمسك بكتاب الله. والاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وأكل الحلال. وكف الأذى عن الخلق. وأداء الحقوق. واجتناب الآثام. والسابع: التوبة من التقصير في هذه الستة. وأما الخمسة فهي التي بُني الإسلام عليها. ثم قال سهل: توزن حسنات العباد يوم القيامة إذا لم يكن معهم شيء من هذه: الشك والبدعة والمظالم والكبائر والرياء (¬1). *** ¬
وهذه خاتمة لطيفة لهذا الكتاب
وهَذِه خَاتِمَةٌ لَطِيفَةٌ لِهَذَا الكِتَاب من الجاري على ألسنة الناس ما ذكره بعضهم حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "عُلَمَاءُ أُمَّتِيْ كَأَنْبِيَاءِ بَنيْ إسْرَائِيلَ" (¬1). وممن نقله جازما به أنه حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإمام فخر الدين الرازي، والشيخ موفق الدين بن قدامة، والإسنوي، والبارزي، واليافعي. وأشار إلى الأخذ بمعناه الإمام سعد الدين التفتازاني، والشيخ فتح الدين الشهيد، والشيخ العارف بالله سيدي أَبو بكر الموصلي، والحافظ المسند الشيخ جلال الدين السيوطي في "الخصائص الكبرى". وقال الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله الإسكندري في "لطائف المنن" بعد أن أورد الحديث جازماً به: أي: إن علماء أمتي يأتون مقررين ومؤكدين وآمرين بما جئت به، لا أنهم يأتون بشرع جديد؛ فأشار بذلك إلى وجه التشبيه بين علماء هذه الأمة وأنبياء بني إسرائيل. قلت: ومن وجه التشبيه أيضاً: أنَّ هذه الأمة شهداء على الناس، ¬
كما أنَّ الأنبياء شهداء على قومهم، وأن الله تعالى لم يجعل على هذه الأمة في الدين من حرج، وأنَّ دعوتهم مستجابة كدعوة الأنبياء عليهم السلام. وقد قدمت حديثاً في ثبوت ذلك لعموم الأمة، وإنما يكون ذلك لخواصهم، وعامتهم فيه تَبَع. وللشبه وجوهٌ أخر ستعرف بعضاً كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ولا يلزم من كون علماء هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل أن يكونوا مثلهم في كل وصف هو لهم. وكذلك لا يلزم منه أن يكونوا أفضل من الأنبياء كما فهمه الشيخ برهان الدين الناجي رحمه الله فألجأه ذلك إلى تأليف جزء ردَّ فيه على من قال: إنَّه حديث، وأشار إلى تخطئة من ذكرناهم آنفا محتجاً بأنه لم يُوجد في كتب الحديث المعتبرة، وبأنه يلزم منه تسوية علماء الأمة بالأنبياء، وقد وقع الإجماع من أهل السنة على أنَّ الأولياء لا يبلغون درجة الأنبياء. وقد علمت أنه لا يلزم من اللفظ التسوية المذكورة، وقد أطبق البلغاء والعقلاء على أن المشبه لا يفضل المشبه به في وجه التشبيه المشترك بينهما، فإذا قلت: زيد كالأسد، لا يلزم منه تفضيل زيد في الشجاعة على الأسد، بل مفهومه أن الأسد أبلغ منه في الشجاعة. فقوله - صلى الله عليه وسلم - - إنْ صحَّ عنه -: "عُلُماءُ أُمَّتِي كَأَنْبِياءِ بَنِي إِسْرائِيْلَ"؛ أي: في تقرير الشرائع وفهم الأحكام، لا في النبوة؛ لأن ذلك غير لازم. ثم إنَّ الأنبياء فيما ذُكر أتم حالاً وأبلغ أمراً من علماء هذه الأمة، كما يفهم من صيغة التشبيه، فهذا اللفظ معناه صحيح. وأما من حيث النقلُ فإنَّ العلماء الذين نقلوه حديثاً ثقات،
فالأولى حمل أمرهم على أنهم ظَفِروا به مسنداً، ولم نظفر نحن به (¬1). على أن لهذا الحديث شواهد سنوردها قريباً - إن شاء الله تعالى -. ¬
وإذا تقرر لك أن المشبَّه به أفضل من المشبه في العادة، فأي مانع من تشبيه المفضول بالفاضل لتشبه بعض الصحابة ببعض الأنبياء في السمت. وقد روى أَبو يعلى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سرَّه أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تَواضُعِ عيسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمَسِيْحِ عِيْسَى بْنِ مَرْيَمَ؛ إِلَى بِرِّهِ وَصِدْقِهِ وَجِدِّهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححاه، عن عقبة ابن عامر - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ كانَ بَعْدِيْ نبِيٌّ لَكانَ عُمَرَ ابْنَ الْخَطَّابِ" (¬3). وروى ابن عساكر عن مسلم بن يسار رحمه الله مرسلاً، قال: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فقال: "شَبِيهُ إبْراهِيمَ، وإنَّ الملائكةَ لَتَسْتَحْيي مِنْهُ" (¬4). وروى الطبراني بأسانيد رجال بعضها رجال الصحيح، وصححه الحاكم وغيره، عن مسروق قال: قال عبد الله - يعني: ابن مسعود - رضي الله عنه -: ¬
إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً، ولم يكُ من المشركين، فقال فروة - رجل من أشجع -: نسي أن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً، فقال: ومن نسي؟ إنا كنا نشبه معاذاً - رضي الله عنه - بإبراهيم. قال: وسُئِلَ - يعني: ابن مسعود - عن الأمة، قال: معلم الخير، وسئل عن القانت فقال: مطيع الله ورسوله (¬1). وروى ابن المبارك عن معقل بن يسار - رضي الله عنه -: أن الناس كانوا يقولون عن عامر بن عبد قيس رحمه الله: إنه مثل إبراهيم عليه السلام (¬2). وروى الديلمي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ نَبِيٍّ قَطُّ إِلاَّ وَلَهُ نظِيْرٌ فِيْ أُمَّتِي؛ أَبُو بَكْرٍ نَظِيْرُ إِبْراهِيْمَ، وَعُمَرُ نَظِيْرُ مُوسَى، وَعُثْمانُ نَظِيْرُ هارُونَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طالِبٍ نَظِيْرِي، وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عِيْسَى بْنِ مَرْيَمَ فَلْيَنْظُرْ إِلى أَبِي ذَرٍّ" (¬3). وعن أبي الحمراء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَرادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلى آدَمَ فِيْ وَقارِهِ، وَإِلى مُوْسَى فِيْ شِدَّةِ بَطْشِهِ، وَإِلَى عِيْسَى فِيْ زُهْدِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذا الْمُقْبِلِ"، فأقبل علي - رضي الله عنه - (¬4). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن الماجشون بن أبي سلمة رحمه الله قال: قال سعد بن معاذ - رضي الله عنه -: ثلاث أنا فيما سواهنَّ ضعيف؛ ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول قولاً إلا علمت أنه حق من الله تبارك وتعالى، ولا صليت صلاةً قط فألهاني عنها غيرها حتى أنصرف عنها، ولا سمعت جنازة قط فحدثت نفسي بغيرها هي قائلة أو مقول لها. قال: فحدثت بذلك الزهري قال: إن كان لمأموناً على ما قال، وما كنتُ أرى أنَّ أحداً من الناس يكون هكذا إلا نبي (¬1). وفي "سنن أبي داود": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي - رضي الله عنه -: "أَنْتَ مِنِّىْ وَأَنا مِنْكَ". وقال لجعفر - رضي الله عنه -: "أَشْبَهْتَ خَلْقِيَ وَخُلُقِي". وقال لزيد بن حارثة - رضي الله عنه -: "أَنْتَ أَخُونا وَمَوْلانا" (¬2). وروى أَبو نعيم عن ابن وهب قال: سمعت مالك بن أنس - رضي الله عنه - يقول: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: تأتي أمة محمد علماء حكماء كأنَّهم من الفقه أنبياء. قال مالك: أراهم صدور هذه الأمة (¬3). ¬
قلت: إنما قال مالك هذا لأنَّ الصدر الأول مظنة هذه الأخلاق ما كادوا يخرجون عنها، فأراد أن يرى رأياً يسلمه له كل أحد، وإلا فإنا نعد بعد الصدر الأول خلائق كانوا متخلقين بهذه الخلائق، وناهيك بالأئمة الأربعة وأقرانهم وأصحابهم، وبأبي الحسن الأشعري وأقرانه من أهل السنة، وبالإمام أبي إسحاق الشيرازي، وإمام الحرمين، والشيخ نصر المقدسي، والقشيري، والغزالي، والنووي، والطحاوي، والكرخي، والقاضي عياض، والشيخ أبي عمر بن قدامة، وأخيه الموفق، وأمثالهم مما لا يُعد كثرة. وروى أَبو نعيم عن سعيد بن هارون البرجمي رحمه الله قال: رأيت في المنام كأني في موضع علمتُ أنه ليس من الدنيا، فإذا أنا برجل لم أر قط أجمل منه، فقلت: مَنْ أنت يرحمك الله؟ قال: أنا يوسف بن يعقوب. فقلت: قد كنت أحبُّ أن ألقى مثلك فأسأله. قال: سَلْ. فقلت: ما الرافضة؟ قال: يهود. وقلت: والإباضية؟ قال: يهود. قلت: فقوم عندنا نصحبهم. قال: من هم؟
قلت: سفيان الثوري وأصحابه. قال: أولئك يُبعثون على ما بعثنا الله عليه معاشرَ الأنبياء (¬1). وروى أَبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن سهل التستري رحمه الله قال: من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء عليهم السلام فلينظر إلى مجالس العلماء، يجيء الرجل فيقول: يا فلان! إيش تقول في رجل حلف على امرأته في كذا وكذا؟ فيقول: طلقت امرأته، ويجيئه آخر فيقول: ما تقول في رجُل حلف على امرأته في كذا وكذا؟ فيقول: ليس يحنث بهذا القول، وليس هذا إلا لنبي أو لعالم، فاعرفوا لهم ذلك (¬2). وروى ابن المبارك في "الزهد" عن محمود بن الربيع قال: كنا عند عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - فاشتكى، فأقبل الصُّنَابِحِيُّ، فقال عبادة: من سرَّه أن ينظر إلى رجل كأنما رقي به من فوق سبع سماوات فعمل ما عمل على ما رأى فلينظر إلى هذا، فلما انتهى الصنابحي إليه قال عباده: لئن سُئِلْتُ عنك لأشهدنَ لك، ولئن شفعت لأشفعنَّ لك، ولئن استطعت لأنفعنك (¬3). فتأمل في شهادة عبادة للصنابحي؛ واسمه عبد الرحمن بن عُسَيْلَةَ ¬
من كبار التابعين وعبادهم، قدم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمس ليال، وكان عبد الملك يجلسه معه على السرير، شهد له عبادة بأن يقينه كيقين أولي العزم من المرسلين. وروى أَبو نعيم عن الأعمش قال: ما زال الحسن البصري يعي الحكمة حتى نطق بها. قال: وكان إذا ذُكر عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن قال: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن العوام بن حوشب رحمه الله تعالى قال: ما أشبه الحسن إلا بنبي أقام في قومه ثلاثين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل. وأخرجه أَبو أحمد العسكري، ولفظه: أقام في قومه ستين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل (¬2). وروى العسكري عن مجاهد رحمه الله قال: سمعت عائشة رضي الله عنها كلام الحسن، فقالت: من هذا الذي يُشبه كلامه كلام الأنبياء عليهم السلام (¬3)؟ وروى أَبو نعيم عن سفيان بن عُيينة قال: رأيتُ منصور بن المعتمر - يعني: في المنام -، فقلت: ما فعل الله بك؟ ¬
قال: كدتُ أن ألقى الله بعمل نبي. قال سفيان: إن منصوراً رحمه الله صام ستين سنة يقوم ليلها ولصوم نهارها (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد، ومن طريقه أَبو نعيم عن أبي يحيى القتات رحمه الله قال: قدمت مع حبيب بن أبي ثابت الطائف وكأنما قدم عليهم نبي (¬2). وقال اليافعي في "الإرشاد": وقد بلغنا عن بعض الأولياء الأكابر والعلماء الجامعين بين الباطن والظاهر أنه قال: لو كان نبي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان الغزالي، وكان يجعل ثبوت معجزاته ببعض مصنفاته. قلت: ولعل هذا لا يختص بالغزالي - رضي الله عنه -، ولعل كل من خرقت له عادة من علماء هذه الأمة في تصنيف أو إملاء أو حفظ، فإن تلك الخارقة صالحة لأن تكون معجزة لو كان باب النبوة منفتحاً، وهو مسدود الآن لختمه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بنص الكتاب والسنة. وقال بعض فضلاء القاهرة في شيخ الإسلام والدي - رضي الله عنه - وأقره عليه ولم يُنكره: [من البسيط] مَوْلًى هُوَ النَّاسِ وَالدُّنْيا بِما رَحُبَتْ ... فَضْلاً وَعِلْماً فَكَيْفَ النَّاسُ تَعْدِلُهُ ¬
لَوْ يُرْسِلُ اللهُ بَعْدَ الْمُصْطَفى أَحَداً ... لَكانَ فِيْ أَهْلِ هَذا الْعَصْرِ يُرْسِلُهُ وروى ابن السمعاني: أنَّ إمام الحرمين ناظر فيلسوفاً في مسألة خلق القرآن، فقذف بالحق على باطله ودمغه دمغاً، ودحض شبهته دحضاً، وأوضح كلامه في المسألة حتى اعترف الموافق والمخالف له بالغلبة، فقال الأستاذ أَبو القاسم القشيري: لو ادعى إمام الحرمين النبوة لاستغنى بكلامه هذا عن إظهار المعجزة (¬1). وما ذكره الإمام مالك عن عيسى عليه السلام رواه ابن عساكر وغيره بزيادة فيه عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه: أنَّ عيسى ابن مريم عليهما السلام قال: يا رب! أنبئني عن هذه الأمة المرحومة، فقال: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - علماء حنفاء حكماء كأنهم أنبياء، يرضون مني بالقليل من العطاء، وأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله. يا عيسى! هم أكثر سكان الجنة لأنه لم تذل ألسنة قوم قط بلا إله إلا الله كما ذلت ألسنتهم، ولم تذل رقاب قومٍ قط بالسجود كما ذلت رقابهم (¬2). وروى أَبو نعيم عن أبي سليمان الداراني رحمه الله قال: حدثني ¬
شيخ بساحل الشام يقال له: علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي قال: حدثني أبي عن جدي سويد بن الحارث - رضي الله عنه - قال: وفدتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابع سبعة من قومي، فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سمتنا وزيتا، فقال: "ما أَنْتُمْ؟ " قلنا: مؤمنون. فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "إِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيْقَةً، فَمَا حَقِيْقَةُ قَوْلِكُمْ وَإِيْمَانِكُمْ؟ " قال سويد: قلنا: خمس عشرة خصلة؛ خمس منها أمرتْنَا رسلُك أن نؤمن بها، وخمس منها أمرتنا رسلك أن نعمل بها، وخمس منها تخلَّقنا بها في الجاهلية فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئاً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَمَا الخَمْسُ الَّتِيْ أَمَرَتْكُمْ رُسُلِيْ أَنْ تُؤْمِنُوْا بِهَا؟ " قلنا: أمرتنا رسلك أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت. قال: "وَمَا الخَمْسُ الَّتِيْ أَمَرَتْكُمْ أَنْ تَعْمَلُوْا بِهَا؟ " قلنا: أمرتنا رسلك أن نقول: لا إله إلا الله، ونُقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت من استطاع إليه سبيلاً. قال: "وَمَا الخَمْسُ الّتِيْ تَخَلَّقْتُمْ بِهَا أَنْتُمْ فِيْ الجَاهِلِيَّةِ؟ " قلنا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والصدق عند اللقاء، والرضا بمرِّ القضاء، والصبر عند شماتة الأعداء.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَادُوْا مِنْ صِدْقِهِمْ أَنْ يَكُوْنُوْا أَنْبِيَاءَ" (¬1). وروى الديلمي عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - في حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -! قال: "كَادَ حَمَلَةُ القُرْآنِ أَنْ يَكُوْنُوا أَنْبِيَاء" (¬2). وروى أَبو عمر بن عبد البر، والهروي في "ذم الكلام" عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَىْ خُلَفَائِي رَحْمَةُ اللهِ"، قيل: ومن خلفاؤك؟ قال: "الَّذِيْنَ يُحْيُوْنَ سُنَّتِيْ وَيُعَلِّمُوْنها عِبَادَ اللهِ" (¬3). قيل: الحسن المذكور هو ابن علي - رضي الله عنهما -. وقيل: البصري، فيكون الحديث مرسلاً. لكن يؤيد الأول: أن الحديث رواه ابن السني، وأبو نعيم في "رياض المتعلمين" من حديث علي - رضي الله عنه - (¬4). وروى أَبو نعيم في "فضل العالم العفيف" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ¬
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ أَهْلُ العِلْمِ وَالجِهَادِ" (¬1). بل قال الله تعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]. وقوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 68] معناه: إن أحق الناس بنصرته واتباعه، أو أقربهم شبهاً به؛ فإنَّ الآية نزلت رداً على أهل الكتاب القائلين: إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، فقال تعالى مبرئاً له عن ذلك {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]، والنبي والمؤمنون حنفاء مسلمون، فهم أولى به ممن سواهم. وروى أَبو نعيم عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيْثَاقَهُ يَوْمَ أَخَذَ مِيْثَاقَ النَّبِيِّيَن يَدْفَعُ عَنْه مَسَاوِئَ عَمَلِهِ بِمَحَاسِنَ عمله (¬2) إِلاَّ أَنَّهُ لا يُوْحَىْ إِلَيْهِ" (¬3). وروى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأَبْدَالُ فِيْ هَذِهِ الأُمَّةِ ثَلاَثُوْنَ مِثْلُ إِبْرَاهِيمِ خَلِيْلِ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ ¬
السَّلامُ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ رَجُلاً" (¬1). وروى الطبراني عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ تَخْلُوَ الأَرَضُ مِنْ أَرْبَعِيْنَ رَجُلاً مِثْلَ خَلِيْلِ الرَّحْمنِ، فَبِهِمْ تُسْقَوْن وَبِهِمْ تُنْصَرُوْنَ، مَا مَاتَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ آخَرَ" (¬2). وروى أَبو نعيم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ للهِ فِيْ الخَلْقِ ثَلاَثَ مِئَةٍ قُلُوْبُهُمْ عَلَى قَلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وللهِ فِيْ الخَلْقِ أَرْبَعُوْنَ قُلُوْبُهُمْ عَلَىْ قَلْبِ مُوْسَىْ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَللهِ فِي الخَلْقِ سَبْعَةٌ قُلُوْبُهُمْ عَلَىْ قَلْبِ إبْراهِيْم عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَللهِ فِيْ الخَلْقِ خَمْسَةٌ قُلُوْبُهُم عَلَىْ قَلْبِ جِبْرِيل عَلَيْه السَّلام، وللهِ فِيْ الخَلْقِ ثَلاَثةٌ قُلُوبُهُم عَلَىْ قَلْبِ مِيْكَائِيْلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَللهِ فِيْ الخَلْقِ وَاحِدٌ قَلْبُهُ عَلَىْ قَلْبِ إِسْرَافِيْلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، بِهِمْ يُحْيِي وُيمِيْتُ وَيُمْطِرُ وُينْبِتُ وَيرْفَعُ البَلاءَ" (¬3). فلا يقال: يلزم من كون الأبدال مثل إبراهيم أو قلوبهم على قلبه أن يكونوا في رتبته في الفضل، وإنما جعل الله تعالى هؤلاء أبدالاً عن الأنبياء وخلفاء عنهم بطريق النيابة والوراثة، والأنبياء مفضلون عليهم بالنبوة ¬
والدرجة الرفيعة، وكذلك من كان من أولياء الله تعالى على قلب آدم أو موسى لا يكون في رتبتهما، وإنما ينوبان عنهما في النصيحة والمنفعة. وروى أَبو نعيم، والبيهقي عن كعب الأحبار رحمه الله تعالى: أنه سمع رجلاً يقول: رأيت في المنام كأنَّ الناس جُمعوا للحساب، فَدُعِيَ الأنبياء، فجاء مع كل نبي أمته، ورأى لكل نبي نورين، ولكل من اتبعه نوراً يمشي به، فدعي محمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا لكل شعرة من رأسه ووجهه نور على حدة يثبته من نظر إليه، ولكل من اتبعه نوران يمشي بهما كنور الأنبياء، فقال كعب: والله الذي لا إله إلا هو! لقد رأيتُ هذا في منامك؟ قال: نعم. قال: والذي نفسي بيده إنها لصفة محمد - صلى الله عليه وسلم - في التوراة (¬1). وروى أَبو نعيم عن كعب رحمه الله قال: قال موسى عليه السلام: إني لأجد في الألواح صفة قومٍ على قلوبهم من النور مثل الجبال الرواسي، تكاد الجبال والرمال أن تخرَّ لهم سجداً من النور، فسأل ربه وقال: اجعلهم من أمتي، قال الله تعالى: يا موسى! إني اخترت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وجعلتهم أئمة الهدى، وهؤلاء طوائف من أمته. قال: يا رب! فبمَ بلغ هؤلاء حتى آمر بني إسرائيل يعملوا مثل عملهم وأبلغ نعتهم؟ قال: يا موسى! إنَّ الأنبياء كادوا يعجزون عمَّا أعطيت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬
يا موسى! بلغوا أنهم تركوا الطعام الذي أحللت لهم رغبةً فيما عندي، وكان عيشهم في الفلق من الخبز، والخلِقِ من الثياب، أيسوا من الدنيا وأيست الدنيا منهم، أقربهم مني وأحبهم إلي أشدهم جوعاً وأشدهم عطشاً (¬1). وروى البيهقي عن وهب بن منبه رحمه الله قال: إن الله أوحى في الزبور: يا داود! إنه سيأتي بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقاً نبياً، لا أغضب عليه أبداً، ولا يغضبني أبداً، وقد غفرتُ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته أمة مرحومة، أعطيهم من النوافل مثلما أعطيت الأنبياء، وأفترض عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا في كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغُسل من الجنابة كما أمرتُ الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الأنبياء قبلهم. يا داود! إني فضلت محمداً وأمته على الأمم كلهم، أعطيتهم ست خصال لم أُعطها غيرهم من الأمم، لا أُؤاخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنبٍ ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته، وما قدموه لإخوتهم من شيءٍ طيبةً به أنفسهم عجلت لهم أضعافاً مضاعفة، ولهم عندي أضعاف مضاعفة، وأفضل من ذلك أعطيهم على المصائب والبلايا إذا ¬
فائدتان
صبروا وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، وإن دعوني استجبت لهم؛ فإما أن يروه عاجلاً، وإما أن أصرف عنهم سوءاً، وإما أن أدخره لهم في الآخرة (¬1). وفي هذا القدر من هذا النوع كفاية، والله ولي الهداية. * فائِدَتانِ: الأُوْلَى: قال ابن عطاء الأدوي رحمه الله: من تأدب بآداب الصالحين فإنه يصلح لبساط الكرامة، ومن تأدب بآداب الصديقين فإنه يصلح لبساط المشاهدة، ومن تأدب بآداب الأنبياء فإنه يصلح لبساط الأنس والانبساط. رواه السلمي في "طبقاته" (¬2). والكلام على الكرامة والمشاهدة والأنس والانبساط مستوفى في كتابنا "منبر التوحيد". الفائِدَةُ الثَّانِيَةُ: كانت الأنبياء في بني إسرائيل كثيرين، وروى ابن أبي الدنيا، ومن طريقه الدينوري في "المجالسة" عن فَرقد السَّبخي رحمه الله تعالى قال: إنَّما كان يولد لبني إسرائيل الأنبياء لأنهم كانوا يجعلون مهور نسائهم من أطيب كسبهم (¬3). قلت: وينبغي للمستولد أن يستطيب مهر الزوجة أو ثمن السرية، ¬
تتمة
ثم يستطيب نفقته عليها وعلى أولاده لعلهم يكونون صالحين علماء وارثين، ولمَّا كثر الخبث في الناس وفي أموالهم حتى لم يبالوا من أين بذلوا مهور الأزواج وأثمان الإماء لو لم يكن إلا الأموال التي لم تزكَّ، فضلاً عن مال اليتيم والربا والرشا والمكوس والغصب، كثرت أخلاق السوء والجهالة والفجور في أولادهم؛ ولا قوة إلا بالله. * تَتِمَّةٌ: ما ذكرناه في التشبه بالصالحين من اشتراط موافقتهم في السرائر والظواهر هو أولى بالاعتبار هنا، فعلى العاقل أن يجتهد في الاقتداء بالأنبياء والتشبه بهم في البواطن كثير من الاجتهاد في الاقتداء بهم في الظواهر. وقد روى العقيلي، والديلمي عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَبْغَضُ الْعِبادِ إِلَى اللهِ مَنْ كانَ ثَوْباهُ خَيْراً مِنْ عَمَلِهِ؛ أَنْ تَكُوْنَ ثِيابُهُ ثِيابَ الأَنْبِياءِ وَعَمَلُهُ عَمَلَ الْجَبَّارِيْنَ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد" عن محمد بن واسع رحمه الله تعالى قال: كان لقمان يقول لابنه: يا بني! اتق الله، ولا تُرِ الناس أنك تخشى الله لِيُكْرِمُوك بذلك وقلبك فاجر (¬2). *** ¬
(7) باب ذكر أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(7) بَابُ ذِكْرِ أَخْلاقِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
(7) بَابُ ذِكْرِ أَخْلاقِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. روى الإمام مالك، والستة غير أبي داود عن سعيد بن يسار قال: كنت مع ابن عمر - رضي الله عنه - بطريق مكة، فلما خشيتُ الصبح نزلت فأوترت، فقال ابن عمر: أليس لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة؟ قلت: بلى، قال: فإنه كان يُوتر على البعير (¬1). وروى الإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ عمر - رضي الله عنه - أكبَّ على الركن فقال: إني لأعلم أنك حجر، ولو لم أرَ أن حِبِّيَ - صلى الله عليه وسلم - قبَّلك واستلمك، ما استلمتك ولا قبلتك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [الأحزاب: 21] (¬2). ¬
وروى عبد الرزاق عن قتادة رحمه الله قال: همَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن ينهى عن الحِبَرَة (¬1) من صباغ البول، فقال له رجل: أليس قد رأيتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبسها؟ قال عمر: بلى، قال الرجل: ألم يَقُلْ الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [الأحزاب: 21]؟ فتركها عمر (¬2). وروى أَبو بكر بن مردويه، والخطيب في "رواة مالك"، وابن عساكر عن ابن عمر - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [الأحزاب: 21]؛ قال: في جوع رسول الله (¬3). والحق أن الأسوة الحسنة فيه عامة في كل أحواله قولاً أو عملاً، أو نية، فعلاً أو تركاً. قال محمد بن علي الترمذي رحمه الله: الأسوة الحسنة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاقتداء به، والاتباع لسنته، وترك مخالفته في قول أو فعل (¬4). وروى الخطابي في "الغريب" عن عبيد بن خالد - رضي الله عنه - قال: كنت رجلاً شاباً بالمدينة، فخرجت في بردين وأنا مُسبلهما، فطعنني رجل من خلفي إما بإصبعه وإما بقضيب كان معه، فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فقلت: إنما هي ملحاء، قال: "وَإِنْ كَانَتْ مَلْحَاءَ، أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ؟ " (¬5). ¬
والمعنى أن عبيد بن خالد - رضي الله عنه - فهم أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد به الإنكار عليه إذ أَسبل البردين، فقال: إنما هي ملحاء - يعني: الحلة -، والعرب تسمي الثوبين حلة، والملحاء: بردة صفيقة فيها خطوط من بياض وسواد، ويعني: إن حلتي صفيقة لا خيلاء فيها، فقال: "وَإِنْ كَانَتْ مَلْحَاءَ"؛ أي: إن الخيلاء في الإسبال وإن كان الثوب صفيقاً. وقوله: "أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ؟ " أي: إني لا أسبل فاقتدِ بي فعلاً وتركاً. وفي "صحيح البخاري"، وغيره عن أبي وائل قال: جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة، فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر - رضي الله عنه - فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته، قلت: إنَّ صاحبيك لم يفعلا، قال: هما المرآن أقتدي بهما (¬1). يعني بصاحبيه: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر - رضي الله عنه -. وفيه عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان إذا دخل الكعبة مشى قِبَلَ الوجه حين يدخل، يجعل الباب قِبَلَ الظَّهْر، يمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قِبَلَ وجهه قريب من ثلاثة أذرع، فيصلي يتوخى المكان الذي أخبره بلال - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى فيه، وليس على أحدٍ بأس أن يصلي في أي نواحي البيت شاء (¬2). وفي "صحيح مسلم" عن أنس - رضي الله عنه - قال: لما قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ¬
أَبو بكر لعمر - رضي الله عنهما -: انطلق بنا نزور أم أيمن كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزورها، قال: فانطلقا إليها، الحديث (¬1). وروى البزار، والطبراني - بإسناد حسن - عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: كتب أَبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاور في أمر الحرب فعليك به (¬2). وذكر السلمي في "الحقائق" عن أبي عثمان الحيري رحمه الله قال: من أمَّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] (¬3). وروى عبد بن حميد عن الحسن رحمه الله مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"، ثم تلا هذه الآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] الآية (¬4). وروى أَبو نعيم عن الأوزاعي رحمه الله قال: رأيتُ رب العزة جلَّ وعلا في المنام فقال في: يا عبد الرحمن! أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قلت: بفضلك يا رب. ¬
قال: فقلت: يا رب! أمتني على الإسلام، فقال: وعلى السنة (¬1). والسنة هي أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله، وأخلاقه، وشمائله المأخوذة عنه التي حملها الصحابة - رضي الله عنه -، ثم حملها عنهم التابعون لهم بإحسان، ثم من بعدهم من ثقات العلماء طبقة بعد طبقة، وجيلاً بعد جيل حتى وصلت إلينا، فعلينا الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - فيها. قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. ولا يزكو العبد ويرتفع قدره ويكمل ويتم نبله إلا باتباعه آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان إذا رآه أحد ظنَّ أنَّ به شيئاً من تتبعه آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وعن نافع: أن ابن عمر كان في طريق مكة يقود برأس راحلته يثنيها ويقول: لعلَّ خُفًّا يقع على خُف؛ يعني: خف راحلة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وقد كان السلف لا يُنكرون شيئاً أشد مما يُنكرون ترك اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به. ¬
وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه - على المنبر: والله ما رأيتُ قوماً قط أرغب فيما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزهد فيه منكم، والله ما مرَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث إلا والذي عليه أكثر من الذي له. صححه الحاكم، وأخرجه الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه" بنحوه (¬1). واعلم أنه لا يتأتى لنا في هذا الكتاب الاتساع في تفاصيل طرائق الاقتداء والاتباع؛ فكان ذلك موضوعه كتب الشرع الشريف من تفسير، أو حديث، أو فقه. وإنما غرضنا الآن التنبيه على نبذة من أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - حملاً لمن يُريد الاقتداء به عليها، وندباً لمن يُحب التشبه به إليها. قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. روى مسلم عن سعيد بن هشام قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان خُلقه القرآن (¬2). وقال الحسن: كان خُلقه آداب القرآن (¬3). وقال الجنيد رحمه الله: إنما سمي خلقه عظيماً لأنه لم يكن له ¬
همة سوى الله تعالى (¬1). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديد الاهتمام بمكارم الأخلاق لأنه - صلى الله عليه وسلم - بُعثَ ليتممها وتتم به كما تقدم عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - مع ما وصف به من الخلق العظيم يقول في افتتاح صلاته: "اللَّهُمَّ اهْدِنِيْ لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِيْ لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّيْ سَيِّءَ الأَخْلاَقِ لاَ يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ". رواه مسلم من حديث علي - رضي الله عنه - (¬2). وروى الإمام أحمد بسند جيد، عن عائشة رضي الله عنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِيَ فَحَسِّنْ خُلُقِي" (¬3). وروى هو وابن حبان في "صحيحه" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللَّهُمَّ حَسَّنْتَ خَلْقِيَ فَحَسِّنْ خُلُقِي" (¬4). وروى الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّكَ امْرُؤٌ قَدْ حَسَّنَ اللهُ خَلْقَكَ، فَأَحْسِنْ خُلُقَكَ" (¬5). وفي هذا الحديث إشارة إلى أن تحسين الخُلق يدخل تحت ¬
اختيار العبد، وذلك بالتخلق وحمل النفس على الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة مع سؤال الله تعالى التوفيق لذلك والمعونة عليه، وكلما حسَّن العبد أخلاقه قرب سمته وهديه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْرَبُكُمْ مِنِّيْ مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحْسَنكُمْ خُلُقًا". رواه ابن النجار في "تاريخه" من حديث علي - رضي الله عنه - (¬1). فقرب العبد من نبيه - صلى الله عليه وسلم - يكون على حسب قربه منه في الخلق، واتباعه له فيه وفي غيره من الأعمال. قال أنس - رضي الله عنه -: خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثماني حجج، فقال لي: "يَا أَنَسُ وَقِّرِ الكَبِيْرَ، وَارْحَمِ الصَّغِيْرَ تُرَافِقْنِي يَوْمَ القِيَامَةِ". رواه الخرائطي (¬2). وفي "صحيح البخاري"، وغيره عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيْمِ فَيْ الجَنَّةِ هَكَذَا"؛ وأشار بالسبابة والوسطى (¬3). وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ولفظه: "كَافِلُ اليَتِيْمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِيْ الجَنَّةِ"؛ وأشار بالسبابة والوسطى (¬4). ¬
تنبيه
وروى أَبو يعلى من حديثه - وحسنه المنذري - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَفْتَحُ بَابَ الجَنَّةِ إِلاَّ أنِّي أَرَىْ امْرَأَةً تُبَادِرُنِيْ، فَأَقُوْلُ لَهَا: مَا لَكِ؟ وَمَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُوْلُ: أَنَا امْرَأَةٌ قَعَدَتْ عَلَىْ أَيْتَامٍ لِيْ" (¬1). * تَنْبِيْهٌ: روى البزار، والطبراني، والبيهقي بإسناد ضعيف، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قالت أم حبيبة رضي الله عنها: يا رسول الله! رأيت المرأة مهما يكون لها زوجان في الدنيا، فتموت ويموتان، ويدخلان الجنة لأيهما هي، قال: "لأَحْسَنِهِمَا خُلُقًا كَانَ عِنْدَهَا فِيْ الدُّنْيَا، يَا أُمَّ حَبِيْبَةَ! ذَهَبَ حُسنُ الخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَة" (¬2). قلت: وهذا مخالف لما ذكرناه سابقاً عن أبي بكر - رضي الله عنه -: أن المرأة لآخر أزواجها، وهو الراجح لما رواه الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - والخطيب عن عائشة رضي الله عنها قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المَرْأَةُ لآخِرِ أَزْوَاجِهَا" (¬3). ¬
ومن هنا نذكر أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -
ولو صحَّ حديث أنس لكان محمولاً على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن المرأة لأحسن أزواجها خلقاً، ثم أعلم بأنها لآخرهما. وروى أَبو نعيم عن عروة بن رويم رحمه الله قال: قالت الصفراء امرأة موسى عليهما السلام لموسى: بأبي أنت وأمي! أنا أيم منك منذ كلمك ربك. قال: فكأن موسى لن يأتي النساء منذ كلمه ربه، وكان قد ألبس على وجهه حريرة أو برقعاً، وكان أحد لا ينظر إليه إلا مات، فكشف لها عن وجهه فأخذها من حسنه مثل شعاع الشمس، فوضعت يدها على وجهها وخرَّت له ساجدة، فقالت: ادعُ الله أن يجعلني زوجتك في الجنة، فقال: ذاك إن لم تزوجي بعدي؛ فإنَّ المرأة لآخر أزواجها. قالت: فأوصني، قال: لا تسألي الناس شيئاً (¬1). ومن هنا نذكر أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11]. ¬
روى البخاري في "الأدب"، والنسائي، وصححه الحاكم، عن يزيد بن بَابَنُوسَ قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: كيف كان خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: كان خُلُقُه القرآن، ثم قالت: تقرأ سورة المؤمنين؟ فقرأ حتى بلغ العشر، فقالت: هكذا كان خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وروى الحاكم عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: أنَّ الله تعالى أنزل على إبراهيم عليه السلام مما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112]، و {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11]، {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية، والتي في: {سَأَلَ} [المعارج: 1] {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]، إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 33] فلم يَفِ بهذه السهام إلا إبراهيم، ومحمد صلى الله عليهما وسلم (¬2). وقال البراء بن عازب - رضي الله عنهما -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً. رواه الخرائطي بسند حسن (¬3). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وجهاً. رواه ¬
مسلم، وأبو داود (¬1). وقال بريدة - رضي الله عنه -: كنا إذا قعدنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم نرفع رؤوسنا إليه إعظاماً له (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد لم يرفع أحد منا إليه رأسه غير أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فإنهما كانا يبتسمان إليه ويبتسم إليهما (¬3). وقال البراء - رضي الله عنه -: جلس رسول الله وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير (¬4). وقال أسامة بن شريك - رضي الله عنه -: أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنده كأن على رؤوسهم الطير. رواه الحاكم (¬5). وقال أنس - رضي الله عنه -: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال في أفٍ قط، وما قال لشيءٍ صنعته: لِمَ صنعته، ولا لشيءٍ تركته: لِمَ تركته، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقاً، ولا مسَسْتُ خزاً قط ولا حريراً قط ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شممتُ ¬
مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عَرَقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وعنه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عنده رجل به أثر صُفرة، قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكاد يواجه أحداً بشيء يكرهه، فلما قام قال للقوم: "لَوْ قُلْتُمْ لَهُ يَدَعُ هَذِهِ الصُّفْرَة". رواهما الترمذي في "الشمائل" (¬2). وقال - رضي الله عنه -: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبَّاباً، ولا لَعَّاناً، ولا فَحَّاشاً، كان يقول لأَحدِنا عند المَعْتَبَة: "مَا لَهُ تَرِبَ جَبِيْنُهُ؟ ". رواه الإمام أحمد (¬3). وقال: إن كانت الوليدة من ولائد المدينة تجيء فتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت. رواه أَبو الشيخ بن حيان (¬4). وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لقي الرجل فكلمه لم يصرف وجهه حتى يكون هو المنصرف. رواه ابن ماجه (¬5). وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لقيه الرجل فصافحه لا ينزع يده من ¬
يده حتى يكون الرجل يدع. رواه الترمذي (¬1). وقال: ما رأيت رجلاً التقم أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي يدع أذنه. رواه أَبو داود (¬2). وقالت عائشة رضي الله عنها: ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال: "لَبَّيْكَ"، فلذلك أنزل الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. رواه أَبو الشيخ (¬3). وقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. رواه الإمام أحمد، والترمذي (¬4). وقالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب بيده امرأة قط ولا خادماً. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "المداراة" (¬5). وقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبرَّ الناس، وأكرم الناس، ضحَّاكاً ¬
بسَّاماً. رواه أَبو الشيخ (¬1). وقالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سترني بردائه وأنا انظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا أسأم فأقعد؛ فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن. رواه الشيخان (¬2). وقال جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طويل الصمت، قليل الضحك، وكان أصحابه يذكرون عنده الشِّعر وأشياء من أمورهم فيضحكون ويبتسم. رواه الإمام أحمد (¬3). وقال أنس - رضي الله عنه -: كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك؟ فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء. رواه البخاري (¬4). وقالت عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خادماً له قط، ولا ضرب بيده إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء فانتقمه من صاحبه إلا أن تُنْتهك محارم الله فينتقم لله عز وجل، وما عُرض عليه أمران، أحدهما أيسر من الآخر إلا أخذ بأيْسرهما إلا أن ¬
يكون مأثماً، فإن كان مأثماً كان أبعد الناس منه. رواه الإمام أحمد هكذا مجموعاً، ومسلم مفرقاً (¬1). وقالت له - صلى الله عليه وسلم -: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحد؟ قال: "قَدْ لَقِيْتُ مِنْ قَوْمِكِ [ما لقيت]، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيْتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى [ابن عبد ياليل] بْنِ عَبْدِ كُلاَل، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، [فَانْطَلَقْتُ وأنا مَهْمُومٌ على وَجْهِي فلم أَسْتَفِقْ إلا وأنا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ] فَرَفَعْتُ رَأسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيْهَا جِبْرِيْلُ عَلَيِهِ السَّلاَمُ فَنَادَانِي: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوْا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيْهِمْ، فَنَادَانِيْ مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلىَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! ذَلِكَ كَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ، قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِن أَصْلاَبِهِم مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً. رواه البخاري (¬2). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لما كان يوم حُنين آثر النبي - صلى الله عليه وسلم - أُناساً في القِسْمة .. الحديث، فقال رجلٌ: والله إنَّ هذه لقسمة ما عُدِلَ فيها وما أُريد بها وجه الله، فقلت: والله لأُخبرنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته فأخبرته فقال: "مَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ يَعْدِلِ اللهُ وَرَسُوْلُهُ؟ رَحِمَ اللهُ مُوسَى قَدْ أُوْذِيَ ¬
بَأَكْثَر مِنْ هَذَا فَصَبَرَ". رواه البخاري (¬1). وقال أَبو هريرة - رضي الله عنه -: قيل: يا رسول الله! ادعُ على المشركين، فقال: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لعَّاناً، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً، وَلَمْ أُبْعَثْ عَذَابًا" (¬2). وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّما أَنا رَحْمةٌ مُهْداةٌ". رواه الحاكم، وصححه (¬3). وقال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعينه في شيء، فأعطاه شيئاً ثم قال: "أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ؟ " قال: لا، ولا أجملت، قال: فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفوا، ثم قام فدخل منزله، ثم أرسل إلى الأعرابي فدعاه إلى البيت؛ يعني: فأعطاه فَرضِي، فقال: "إِنَّكَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا فَأَعْطَيْنَاكَ، فَقُلْتَ مَا قُلْتَ وَفِيْ أَنْفُسِ المُسْلِمِيْنَ شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَقُلْ بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ مَا قُلْتَهُ بَينَ يَدَيَّ حَتَّى يَذْهَبَ مِنْ صُدُوْرِهِمْ مِا فِيْهَا عَلَيْكَ"، قال: نعم، فلما كان الغداء أو العشاء جاء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا كانَ جَائِعًا، فَسَأَلَنَا فَأَعْطَيْنَاهُ فَقالَ ما قالَ، وَإِنَّا دَعَوْناَهُ إِلَى البَيْتِ فَأَعْطَيْنَاهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ، أَكَذَلِكَ؟ "، قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. ¬
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ هَذا الأَعْرابِيِّ كَمَثَلِ رَجُلٍ كانَتْ لَهُ ناقَةٌ فَشَردَتْ عَلَيْهِ، فَاتَّبَعَها النَّاسُ فَلَمْ يَزِيْدُوها إِلاَّ نُفُوراً، فَناداهُمْ صاحِبُ النَّاقَةِ: خَلُّوا بَيْني وَبَيْنَ ناقَتِي فَأَنا أَرْفَقُ بِها، فَتَوَجَّهَ لَها صاحِبُ النَّاقَةِ بَيْنَ يَدَيْها، فَأَخَذَ لَها مِنْ قُمامِ الأَرْضِ فَجاءَتْ فَاسْتَأْنَسَتْ، فَشَدَّ عَلَيْها رَحْلَها فَاسْتَوَى عَلَيْها، وَإِنيِّ لَوْ تَرَكْتُكُمْ حِيْن قالَ ما قالَ فَقَتَلْتُمُوْهُ دَخَلَ النَّارَ". رواه أَبو الشيخ (¬1). وروى أيضاً عن عبد الرحمن بن أبزى رحمه الله - مرسلاً - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أَحْلم الناس، وأَصْبرهم، وأكظمهم للغيظ (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: كُسِرَت رَباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد، فجعل يسيل الدم على وجهه وهو يمسح الدم ويقول: "كَيْفَ يُفْلحُ قَوْمٌ خَضَبُوْا وَجْهَ نَبِيِّهِم بِالدَّمِ وَيدْعُوْهُم إِلَى اللهِ؟ " فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] رواه مسلم، وعلقه البخاري (¬3). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُبلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا؛ فَإِنِّىْ أُحِبُّ أَنْ لا أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ إِلاَّ وَأَنَا سَلِيْمُ ¬
الصدرِ". رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي (¬1). وقال أنس - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّيْ لأَدْخُلُ فِيْ الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيْدُ أُنْ أُطِيْلَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِيْ صَلاَتِيْ مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ [شدة] وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ". رواه الإمام أحمد، والشيخان (¬2). وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيماً بالعيال. رواه الطيالسي، وابن أبي الدنيا في "المداراة"، ولفظه: ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيماً، وكان لا يأتيه أحد إلا وعَدَه وأنجز له إن كان عنده. رواه البخاري في "الأدب" (¬4). وقال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي - صلى الله عليه وسلم - عندها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: "غارَتْ أُمُّكُم"، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع ¬
الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت. رواه البخاري (¬1). وقال أَبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه. رواه الشيخان (¬2). وقال سهل بن سعد - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُسْأَلُ شيئاً إلا أعطى. رواه أَبو الشيخ (¬3). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج فصلَّى. رواه البخاري (¬4). وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفل ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. رواه أَبو نعيم (¬5). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك على خبز ¬
الشعير. صححه الحاكم (¬1). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يردف خلفه، ويضع طعامه على الأرض، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار. صححه أيضاً (¬2). وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويأتي دعوة المملوك، ويركب الحمار، ولقد رأيته يوماً على حمار عليه خطامه ليف. رواه ابن الجوزي في "الوفا" (¬3). وقال أَبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ دُعِيْتُ إِلَىْ ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَو أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لقَبِلْتُ". رواه الإمام أحمد، والبخاري (¬4). وروى ابن شاهين عن قيس بن أبي حازم رحمه الله مرسلاً: أنَّ رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قام بين يديه استقبلته رعدة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬
"هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّيْ لَسْتُ مَلِكًا، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ القَدِيْدَ (¬1) " (¬2). وأخرجه الحاكم وصححه البيهقي، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود - رضي الله عنه -: أن رجلاً كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، فأخذته الرعدة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّما أَنا ابْنُ امْرَأَةٍ كانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيْدَ" (¬3). ثم أخرجه البيهقي عن قيس - مرسلاً - بنحو لفظ ابن شاهين، وقال: المرسل هو المحفوظ (¬4). وقالت عائشة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله! كُلْ - جعلني الله فداك - مُتكئاً؛ فإنه أَهْون عليك، قال: "لا، آكُلُ كَمَا يَأكُلُ العَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ العَبْدُ". رواه أَبو الشيخ (¬5). وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - يحدث أن الله تعالى أرسل إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ملكاً من الملائكة معه جبريل عليهم السلام، فقال الملك: يا رسول الله! ¬
إنَّ الله خيرك بين أن تكون عبداً نبيًّا وبين أن تكون مَلكاً نبيًّا، فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريل كالمستشير، فأشار جبريل بيده أن تواضع، فقال: "لا، بَلْ أَكُوْنُ عَبْداً نَبِيًّا". رواه الحسن بن سفيان (¬1). وقال عكرمة: قال العباس - رضي الله عنه -: لأعلمن ما بقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا، فقلت: يا رسول الله! لو اتخذت عرشاً فكلمت الناس؛ فإنهم قد آذوك، قال: "لا أَزَالُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يَطَؤونَ عَقِبِي، وَيَتَنَازَعُوْنِي رِدَائِي، وَيُصِيْبُنِي غُبَارُهُمْ، حَتَّى يَكُوْنَ اللهَ يُرِيْحُنِي مِنْهُم". رواه ابن أبي شيبة (¬2). وقال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: ما رؤي - أو قال: ما رأيت - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مادًّا رجليه بين أصحابه. رواه أَبو نعيم من طريق ابن خزيمة؛ وإسناده صحيح (¬3). وقال أَبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اللَّهُمَّ إِنِّيْ أتَخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَمْ تُخْلِفْنِيْهُ، إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَأَيُّ المُؤْمِنِيْنَ آذَيْتُهُ، أَو شَتَمْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، أَوْ لَعَنْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلاَةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ القِيَامَةِ". رواه الشيخان (¬4). ¬
وقال - صلى الله عليه وسلم - لأم سليم رضي الله عنها: "يَا أُمَّ سُلَيْمٍ! أَمَا تَعْلَمِيْنَ أَنَّ شَرْطِي عَلَىْ رَبِّي أَنِّيْ اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَىْ كَمَا يَرْضَىْ البَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ البَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بَأَهْلٍ أَن يَجْعَلَهَا لَهُ طُهُوْرًا وَزَكَاةً وَقُرْباً تُقُرِّبُهُ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ". رواه مسلم عن أنس - رضي الله عنه - (¬1). وقال جابر - رضي الله عنه -: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فقال: لا. رواه الإمام أحمد، والشيخان (¬2). ورووا أيضاً عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان. الحديث (¬3). وقال جبير بن مطعم - رضي الله عنه -: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه أُناس مَقْفَلَهُ من حنين عَلِقَه الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة، فاختطف رداؤه، فوقف - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ردُّوا عليَّ رِدَائِي أَتَخْشَوْنَ عَلَيَّ البُخْلَ؟ فَلَوْ كَانَ لِي عَدَدَ هَذِهِ العِضاه (¬4) نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدَوْنِيْ بَخِيْلاً وَلا كَذَّابًا وَلا جَبَاناً" (¬5). ¬
وقال عمر - رضي الله عنه -: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يُعطيه فقال: "مَا عِنْدِيْ شَيْءٌ، وَلَكِنِ ابْتَعْ عَلَيَّ، فَإِذَا جَاءَنِي شَيْءٌ قَضَيْتُهُ". فقال عمر: يا رسول الله! قد أعطيته وما يكلفك الله ما لا تقدر، فَكَرِه النبي - صلى الله عليه وسلم - قول عمر، فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله! أَنْفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعُرِف البِشر في وجهه لقول الأنصاري، ثم قال: "بِهَذَا أُمِرْتُ". رواهما الترمذي (¬1). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس. رواه الشيخان، والترمذي، وابن ماجه (¬2). وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: ما رأيت أحداً أنجد، ولا أجود، ولا أشجع، ولا أوضأ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه الدارمي (¬3). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إنَّا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، وكان علي بن أبي طالب وأبو لبابة زميلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كانت عقبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالا: يا رسول الله! اركب حتى نمشي عنك، فقال: "مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّيْ، وَلا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا". رواه أَبو نعيم (¬4). ¬
وقال علي - رضي الله عنه -: لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذُ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس بأساً. رواه أَبو الشيخ (¬1). وقال رجل من قيس للبراء بن عازب - رضي الله عنهما -: فررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! يوم حنين، فقال: لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر، كانت هوازن ناساً رماة، وإنَّا لمَّا حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم، فاستقبلوا بالسهام، ولقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته البيضاء، وإنَّ أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها وهو يقول: "أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ". رواه الإمام أحمد، والشيخان (¬2). وقال عبد الله بن أبي الحَمْسَاء - رضي الله عنه -: بايعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيع قبل أن يُبعث، فبقيَتْ له بقية فوعدته آتيه بها في مكانه ذلك، فنسيتُ يومي والغد، فأتيته اليوم الثالث وهو في مكانه، فقال: يا فتى! لقد شققتَ عليَّ إني هاهنا منذ ثلاث. رواه أَبو داود (¬3). وما أحسن ما قيل فيه - صلى الله عليه وسلم -: [من الطويل] فَما حَمَلَتْ مِنْ ناقَةٍ فَوْقَ رَحْلِها ... أَتَمَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ (¬4) ¬
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلع لسانه للحسن بن علي - رضي الله عنه -، فيرى الصبي حُمرة لسانه فيهش (¬1) إليه. رواه ابن أبي شيبة (¬2). وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: كانت في النبي - صلى الله عليه وسلم - دعابة (¬3). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أفكه الناس (¬4). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مزَّاحاً، وكان يقول: "إِنَّ اللهَ لا يُؤَاخِذ المَزَّاحَ الصَّادِقَ فِي مُزَاحِهِ" (¬5). روى الثلاثة ابن الجوزي (¬6). وقالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّي لأَمْزَحُ وَلا أقوْلُ إِلا حَقًّا". رواه أبو الشيخ (¬7). ¬
وهو عند الطبراني في "الكبير" عن ابن عمر، وعند الخطيب عن أنس - رضي الله عنه - (¬1). وقال أبو أمامة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أضحك الناس سناً، وأطيبهم نفساً. رواه ابن أبي الدنيا في "المداراة" (¬2). وقال جرير - رضي الله عنه -: ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمتُ، ولا رآني إلا تبسم في وجهي. رواه الترمذي (¬3). وقال عبد الله بن الحارث بن جَزْء - رضي الله عنه -: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه هو، والإمام أحمد (¬4). وقال صهيب - رضي الله عنه -: ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بَدَتْ نواجذه. رواه الإمام أحمد، والشيخان (¬5). ¬
وقال عكرمة رحمه الله: عن ابن عباس - رضي الله عنه -: كان عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - مضطجعاً إلى جنب امرأته، فقام إلى جاريةٍ له في ناحية الحجرة فوقع عليها، وفزعت امرأته فلم تجده في مضجعها، فقامت فخرجت، فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت، وفرغ فقام، فلقيها تحمل الشفرة، فقال: مَهْيم، قالت: لو أدْركتكَ حين رأيتك لوجأتُ بين كتفيكَ بهذه الشفرة، قال: وأين رأيتني؟ قالت: رأيتك على الجارية، قال: ما رأيتني وقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جُنب، قالت: فاقرأ، فقال: [من الطّويل] أَتانا رَسُوْلُ اللهِ يَتْلُو كِتابَه ... كَما لاحَ مَشْهُورٌ مِنَ الْفَجْرِ ساطِعُ أَتَى بِالْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوْبُنا ... بِهِ مُوْقِنَاتٌ أنَّ ما قالَ واقِعُ يَبِيْتُ يُجافِي جَنْبَهُ عَنْ فِراشِهِ ... إِذا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِيْنَ الْمَضاجِعُ فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر. ثم غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فضحك حتى بَدَتْ نواجذه. رواه الدَّارقطني (¬1). ¬
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لما نزلت هذه الآية: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} [النجم: 59 - 60] ما رُؤِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدها ضاحكاً حتى ذهب من الدُّنيا. رواه ابن مردويه (¬1). والمراد أنه ما ضحك ضحكاً له صوت، كما يدل عليه ما رواه ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد"، وغيرهما عن صالح أبي الخليل قال: لمَّا نزلت هذه الآية ما ضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتبسم (¬2). وقال علي - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ما يكره قال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلى كُل حالٍ"، وإذا رأى ما يسرُّه قال: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتِ". رواه أبو الشَّيخ (¬3). وروى ابن ماجه عن عائشة نحوه (¬4)، وزاد بعد: "الحَمْدُ للهِ عَلَىْ كُلِّ حَالٍ، رَبِّ أَعُوْذُ بِكَ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ" (¬5). وقال ابن مسعود، وأم سلمة - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا غضب احمرَّتْ وجنتاه. رواهما الطَّبراني في "الكبير" (¬6). ¬
وقال البراء - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا غضب رُؤِيَ لوجهه ظلال. رواه أبو الشيخ (¬1). وقال جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - طويل الصَّمت، قليل الضَّحك. رواه الإمام أحمد (¬2). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كلاماً فَصْلاً يفهمه كل مَنْ يسمعه (¬3). وقال أبو طيبة رحمه الله: إن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قام يوماً وقام رجل فأكثر القول، فقال عمرو: لو قصد في قوله لكان خيراً له، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَقَدْ رَأَيْتُ - أَوْ أُمِرْتُ - أَنْ أتجَوَّزَ فِيْ القَوْلِ؛ فَإِنَّ الجَوَازَ هُوَ خَيْرٌ". رواهما أبو داود (¬4). وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ بِجَوَامعِ الكَلِم". رواه الشيخان (¬5). وقال أبو سعيد - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا أَعْرَبُ العَرَبِ". رواه الطبراني (¬6). ¬
وقال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: كان في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ترتيل أو ترسيل. رواه أبو داود (¬1). وله عن ابن عمرو - رضي الله عنهما - قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: تكتب كل شيء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكتُ عن الكتابة، وذكرتُ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأومأ بأصبعه إلى فِيْه وقال: "اكْتُبْ؛ فَوَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ" (¬2). وقيل لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيءٍ من الشعر؟ قالت: كان يتمثل بشعر ابن رواحة، ويتمثل بقوله: "وَيأْتِيْكَ بِالأَخْبارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ". رواه الترمذي (¬3). وقال جندب بن سفيان البجلي - رضي الله عنه -: أصاب حجر أصبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدميَتْ، فقال: "هَلْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبَعٌ دَمِيَتِ وَفِيْ سَبِيْلِ اللهِ مَا لَقِيْتِ". رواه الشيخان، والترمذي (¬4). وقال النابغة - رضي الله عنه -: أنشدتُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: [من الطّويل] ¬
بَلَغْنا السَّماءَ مَجْدُنا وَجُدُودُنا ... وإِنَّا لنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرا فقال: "أَيْنَ الْمَظْهَرُ يا أَبا لَيْلَى؟ " قلت: الجنة، قال: "إِنْ شاءَ اللهُ"، ثم قلت: وَلا خَيْرَ فِيْ حِلْيم إِذا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... بَوادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرا وَلا خَيْرَ فِيْ جَهْلٍ إِذا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... حَلِيْمٌ إِذا ما أُوْرِدَ الأَمْرُ أَصْدَرا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَجَدْتَ؛ لا يَفْضُضِ اللهُ فَاكَ"، مرَّتين. رواه أبو القاسم البغوي (¬1). والأحاديث التي تشهد بإنشاد الشعر بين يديه - صلى الله عليه وسلم - كثيرة. وقالت حفصة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجعل يمينَه لأكله وشربه، ووضوئه، وثيابه، وأخذه وعطائه، وشمالَه لما سوى ذلك. رواه الإمام أحمد (¬2). ¬
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ التيامن ما استطاع في طهوره، وتنعله، وترجله، وفي شأنه كله. رواه الأئمة الستة (¬1). وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتختم في يمينه. رواه البخاري، والترمذي (¬2). وهو عند مسلم، والنسائي عن أنس - رضي الله عنه -، وعند الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه عن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - (¬3). وقال عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفضة. رواه الطبراني في "الكبير" (¬4). وقال أنس، وابن عمر - رضي الله عنهم -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجعل مما يلي كفه. رواهما ابن ماجه (¬5). ¬
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عَطَسَ وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض بها صوته. رواه أبو داود، والترمذي، والحاكم، وصححه (¬1). وقال أبو سعيد - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في المجلس (¬2) احتبى بيديه. رواه الترمذي (¬3). وله عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئاً على يساره (¬4). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مشى كأنه يتوكأ. رواه أبو الشيخ (¬5). وقد قدمنا شيئاً من وصف مَشْيه في التشبه بالصالحين - صلى الله عليه وسلم -. وقال أنس - رضي الله عنه -: كان يُعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته أن يسمع يا راشد يا نجيح. رواه الترمذي (¬6). ¬
وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتفاءل ولا يتطير، وكان الاسم الحسن. رواه الإمام أحمد (¬1). وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمة فأعجبته، فقال: "أَخَذْنا فَأْلَكَ مِنْ فِيْكَ". رواه أبو الشيخ (¬2). وهو عند أبي داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬3). وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُغير الاسم القبيح إلى الاسم الحسن. رواه أبو الشيخ (¬4). وهو عند الترمذي عن عائشة رضي الله عنها (¬5). وقالت رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويُثيب عليها. رواه الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي (¬6). ¬
وقال أبو هريرة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أُتي بطعام يسأل عنه: "أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ " فإن قيل: صدقة قال لأصحابه: "كُلُوا"، ولم يأكل، وإنْ قيل هدية ضربَ بيده فأكل معهم. رواه الشيخان (¬1). وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلاً أكثر استشارة للرجال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه أبو الشيخ (¬2). وله عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكشف عن رأسه في أول مطر يكون من السماء في ذلك الغمام، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هُوَ أَحْدَثُ عَهْداً بِرَبِّنَا، وَأَعْظَمُهُ بَرَكَةً" (¬3). وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتي بباكورة التمر (¬4) وضعها على عينيه ثم على شفتيه، وقال: "اللَّهُمَّ كَما أَرَيْتَنا أَوَّلَهُ فَأَرِنا آخِرَهُ"، ثم يُعطيه من يكون عنده من الصبيان. رواه ابن السني (¬5). وهو عند الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس، وعند الحكيم الترمذي عن أنس - رضي الله عنهما - (¬6). ¬
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتي بلبن قال: "بَرَكَة". رواه الحاكم، وصححه (¬1). وقال أنس - رضي الله عنه -: ما أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خِوان (¬2)، ولا في سُكُرُّجَةٍ (¬3)، ولا خُبِزَ له مُرَقَّقٌ. رواه البخاري (¬4). وسُئِلَ سهل بن سعد - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل النقي؟ قال: لا والله ما رُؤِيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل النقي حتى لقيَ الله. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" (¬5). وقال عبد الله بن بُسر - رضي الله عنه -: كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - قصعة يقال لها: الغراء، يحملها أربعة رجال. رواه أبو الشيخ (¬6). وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعات طاوياً وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير (¬7). وقال أبو أمامة - رضي الله عنه -: ما كان يفضل عن بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبز ¬
الشعير. رواهما الترمذي (¬1). وقال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: دُعِيَ أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - وأنا معه، فرأى صفرة وخضرة فقال: أما تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تغدى لم يتعش، وإذا تعشى لم يتغد. رواه أبو نعيم (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل لَعَقَ أصابعه الثلاث. رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي (¬3). وقال كعب بن مالك - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بثلاث أصابع، ويَلْعق يده قبل أن يمسحها. رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود (¬4). وقال: كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يلعق أصابعه ثلاثاً. رواه الترمذي (¬5). وقال عامر بن ربيعة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بثلاث أصابع، ويستعين بالرابعة. رواه الطَّبراني في "الكبير" (¬6). ¬
وقال عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أكل لم تَعْدُ يده ما بين يديه. رواه أبو الشيخ (¬1). ورُوِيَ من طُرق أخرى. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل الطعام مما يليه حتى إذا جاء التمر جالت يده. رواه أبو الشيخ (¬2). وقال أبو جحيفة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا أَنَا فَلا آكُلُ مُتَّكِئاً (¬3) ". رواه البخاري، والترمذي (¬4). ¬
وقال ابن عمرو - رضي الله عنهما -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل متكئاً، ولا يطأ عقبه رجلان (¬1). رواه الإمام أحمد (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل وحده، ولا يطأ عقبه رجلان. رواه الإمام أحمد. وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل وحده. رواه الخرائطي بسند ضعيف (¬3). وقال أبو جحيفة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل تمراً، فإذا مرَّت حشفة أمسكها في يده، فقال له قائل: أعطني هذا الذي بقيته، قال: "أَرْضَى لَكُم مَا أَسْخَطُهُ لِنَفْسِي؟ " رواه أبو نعيم (¬4). وقالت أم سلمة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعيب مأكولاً؛ إن أعجبه أكله، وإلاَّ تركه. رواه الشيخان. ولهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ما عابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاماً قط إذا أُتيَ به؛ إنْ اشتهاه كله، وإلا تركه (¬5). وقالت أم هانئ رضي الله عنها: دخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ¬
"أَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ " فقلت: لا إلا خبز يابس وخَلٌّ، فقال: "هَاتِ؛ مَا افْتَقَرَ بَيْتٌ مِنْ أُدُمٍ فِيْهِ خَلٌ". رواه الترمذي (¬1). وهو عند مسلم عن جابر بنحوه، وقال فيه: "هَاتُوْهُ؛ فَنِعْمَ الأدَامُ الخَلُّ". قال جابر - رضي الله عنه -: فالخل يُعجبني منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه ما يقول (¬2). وقالت أم سعد رضي الله عنها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ الإِدامُ الخَلُّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي الخَلِّ؛ فَإِنَّهُ كانَ إِدَامَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، وَلَمْ يَفْتَقِرْ بَيْتٌ فِيْهِ خَلٌّ". رواه ابن ماجه (¬3). وقال الحسن البصري رحمه الله: ما رُفِعَتْ مائدة النبي - صلى الله عليه وسلم - قط وعليها شيء. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" (¬4). وقال يزيد بن عبد الله بن قسيط - رضي الله عنه -: أتي رسول الله بسويق من سويق اللوز، فلما خيض قال: "ما هذا؟ " قالوا: سويق اللوز، قال: "أَخِّرُوْهُ عَنِّيْ، هَذَا شَرَابُ المُتْرَفيْنَ". رواه أبوه في "الزهد" (¬5). ¬
وقال مَنْ خدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثماني سنين: إنه كان يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرب إليه طعام يقول: "بِسْمِ اللهِ". رواه النسائي (¬1). وقال أبو أيُّوب - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل أو شرب يقول: "الحَمْدُ للهِ الَّذِيْ أَطْعَمَ وَسَقَىْ، وَسَوَّغَهُ، وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا". رواه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان (¬2). وقال أبو سعيد - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من طعامه قال: "الحَمْدُ اللهِ الَّذِيْ أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَجَعَلَنَا مُسْلِمِيْنَ". رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن (¬3). وقال رجل من سليم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من طعامه قال: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَطْعَمْتَ وَسَقَيْتَ، فَأَشْبَعْتَ وَأَرْويتَ، فَلَكَ الحَمْدُ غَيْرَ مَكْفُوْفٍ وَلا مَوَدَّعٍ وَلا مُسْتَغْنى عَنْكَ". رواه الإمام أحمد (¬4). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا شرب في الإناء ¬
تنفس ثلاثاً، يُسمي عند نفس، ويشكر في آخرهن. رواه ابن السني، والطبراني في "الكبير" (¬1). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسقي أصحابه، قالوا: يا رسول الله! لو شربت، فقال: "سَاقِي القَوْمِ آخِرُهُمْ". رواه أبو الشيخ (¬2). وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: من سره أن ينظر إلى هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود - رضي الله عنه - (¬3). رواه الإمام أحمد بإسناد جيد. قال عمرو: لا ألبس مشهوراً أبداً، ولا أنام على دِثار أبداً، ولا أركب على مأثور أبداً، ولا أملأ جوفي من طعام أبداً (¬4). وقال أبو بردة: أخرجت لنا عائشة رضي الله عنها كساءً ملبداً، وإزاراً غليظاً، فقالت: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذين. رواه الشيخان وأبو داود والترمذي وغيرهم (¬5). ¬
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبس قميصاً فوق الكعبين مستوي الكُمين بأطراف أصابعه. رواه ابن عساكر (¬1). وقالت عائشة رضي الله عنها: لبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردة سوداء. رواه ابن أبي شيبة (¬2). وقال الأشعث بن سليم: سمعت عمتي تحدث عن عمها - رضي الله عنه - قال: بينا أنا أمشي إذا إنسان خلفي يقول: "ارْفَعْ إِزَارَكَ؛ فَإِنَّهُ أَبْقَى وَأَنْقَىْ"، وإذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: يا رسول الله! إنما هي بردة ملحاء، قال: "أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ؟ " فنظرتُ فإذا إزاره إلى نصف ساقيه. رواه الترمذي (¬3)، وتقدم من رواية الخطابي. وقال بديل العقيلي - رضي الله عنه -: كان كُم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرسغ (¬4). وأخرج نحوه عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها (¬5). وقال جابر - رضي الله عنه -: ما رأيت أحسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمراء. رواه الطبراني، وغيره (¬6). ¬
وقال: كان - صلى الله عليه وسلم - يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة. رواه البيهقي في "سننه" (¬1). وقالت أم سلمة رضي الله عنها: كان أحب الثياب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القميص. رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي (¬2). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث قلنس؛ قَلَنْسُوة بيضاء مضربة، وقَلَنْسوة برد حبرة، وقَلَنْسوة ذات آذان يلبسها في الحرب (¬3). رواه أبو الشيخ (¬4). وقال جابر - رضي الله عنه -: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء. رواه الترمذي (¬5). وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتمَّ أسدل عمامته بين كتفيه. قال نافع: وكان ابن عمر يفعل ذلك. رواه الترمذي وحسنه، وأبو الشيخ (¬6). ¬
وقال أنس - رضي الله عنه -: لبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصوف، واحتذى المخصوف، ولبس خشناً، وكل بشعا، فسُئِلَ الحسن: ما البشع؟ قال: غليظ الشعير ما كان يسيغه إلا بجرعة ماء. رواه الحاكم وصححه، وأبو الشيخ (¬1). ودخل الصلت بن راشد على محمد بن سيرين رحمهم الله وعليه جبة صوف، وإزار صوف، وعمامة صوف، فاشمأزَّ منه محمد وقال: أظنُّ أنَّ أقواماً يلبسون الصوف يقولون: قد لبسه عيسى بن مريم عليهما السلام، وقد حدثني من لا أتهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد لبس الكتان، والقطن، واليمنية، وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استجد ثوباً لبسه يوم الجمعة. رواه أبو الشيخ، والخطيب (¬3). وقال أبو سعيد - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استجدَّ ثوباً - سمَّاه باسمه: عمامة، أو قميصاً، أو رداء - يقول: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ كَمَا كَسَوْتَنِيْهُ، أَسْألكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ". وفي لفظ: "لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيْه". رواه الإمام أحمد، وأبو ¬
داود، والترمذي، والحاكم، وصححه (¬1). وقال سهل بن سعد - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثر القناع (¬2)، ويُكثر دهن الرأس، ويُسرح لحيته [بالماء]. رواه البيهقي في "الشعب" (¬3). وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نظر وجهه في المرآة قال: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي حَسَّن خَلْقِي وَخُلُقِي، وَزَانَ مِنَّي مَا شَانَ مِنْ غَيْرِي". وإذا اكتحل جعل في كل عين اثنتين وواحدة بينهما. وكان إذا لبس نعليه بدأ باليمين، وإذا خلع خلع اليسرى. وكان إذا دخل المسجد أدخل رجله اليمنى، وكان يحب التيمن في كل شيء أخذ وأعطى. رواه أبو يعلى، والطبراني في "الكبير" (¬4). وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لبس شيئاً من الثياب بدأ بالأيمن، وإذا نزع بدأ بالأيسر. رواه أبو الشيخ، وسنده ضعيف (¬5). ¬
وقال أبو عبد الله الأغر - صلى الله عليه وسلم -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقص شاربه، ويأخذ من أظفاره قبل أن يروح إلى الجمعة. رواه أبو الشيخ (¬1). وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَلم أظفاره، ويقص شاربه يوم الجمعة قبل أن يروح إلى الصلاة. رواه البيهقي في "الشعب" (¬2). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتحل كل ليلة، ويحتجم كل شهر، ويشرب الدواء كل سنة. رواه ابن عدي (¬3). وقال حذيفة - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل شاص فاه بالسواك. رواه الأئمة إلا الترمذي (¬4). وقال البراء - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نام وضع يده اليمنى تحت خده وقال: "اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ". رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه (¬5). ¬
وهو عند أحمد، والترمذي عن حذيفة، وعند أحمد، وابن ماجه عن ابن مسعود - رضي الله عنهما - (¬1). وأدعية النوم والاستيقاظ، والصباح والمساء الواردة عنه كثيرة جداً؛ ذكرنا أكثرها في كتاب "منبر التوحيد". وقال الحسين - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين. رواه الخطيب (¬2). والابتهال: الاجتهاد في الدعاء، وإخلاصه؛ قاله في "القاموس" (¬3). وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا جعل باطن كفيه إلى وجهه. رواه الطبراني في "الكبير" (¬4). وقال بريدة - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهه بيديه. رواه أبو داود (¬5). ¬
وقال أبو أيوب - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا بدأ بنفسه. رواه الطبراني في "الكبير" (¬1). وقال أُبَيٌّ - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أحداً بدعائه بدأ بنفسه. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ وصححه ابن حبان، والحاكم (¬2). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه. رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه (¬3). وقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب الجوامع من الدعاء، ويدعُ ما سوى ذلك. رواه أبو داود، وصححه الحاكم (¬4). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ثلاثاً، ويستغفر ثلاثا. رواه البيهقي في "الدعوات" (¬5). ¬
وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم، وإذا أتى على قوم سلم عليهم يُسلم عليهم ثلاثاً. رواه الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي (¬1). وقالت عائشة رضي الله عنها: إنما كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي ينام عليه من أدم حشوه ليف. وفي رواية: كان وساد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يتكئ عليه من أدم حشوه ليف. رواه الشيخان، وغيرهما (¬2). وقالت: صنعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - فراشين، فأبى أن يضطجع إلا على واحد (¬3). وقالت: دخلت عليَّ امرأة من الأنصار، فرأت فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عباءة مثنية، فرجعت إلى منزلها فبعثت إليَّ بفراش حشوه الصوف، فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ": مَا هَذَا؟ " فقلت: فلانة الأنصارية دخلت علي فرأت فراشك، فبعثت إليَّ بهذا، فقال: "رُدِّيْه"، فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال لي ذلك ثلاث مرات، فقال: "يا عَائِشَةُ! رُدِّيْهِ فَوَاللهِ لَوْ شِئْتُ لأَجْرى اللهُ مَعِيَ جِبَالَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ"، ¬
فرددته. رواهما الإمام أحمد في "الزهد" (¬1). وسُئِلَتْ حفصة رضي الله عنها عن فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: مسح ثنيته ثنتين فينام عليه، فلما كان ذات ليلة قلت: لو ثنيته بأربع ثنيات كان أوطأ له، قالت: فثنيناه بأربع ثنيات، فلما أصبح قال: "مَا فَرَشْتُمْ لِيَ اللَّيْلَةَ؟ "قلنا: هو فراشك إلا ثنيناه بأربع ثنيات، قلنا: هو أوطأ لك، قال: "رُدُّوْهُ لِحَالَتِهِ الأُوْلَى؛ فَإِنَّهُ مَنَعَتْنِيْ وَطَاءَتُهُ صَلاَتِيَ اللَّيْلَةَ". رواه الترمذي (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملحفة مورسة (¬3) تدور بين نسائه. رواه أبو الشيخ (¬4). وقال: دخلت على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف. رواه أبو الشيخ (¬5). ¬
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير، وقد أثر في جنبه قلنا: يا رسول الله! لو اتخذت لك وطاء، فقال: "مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِيْ الدُّنْيَا إِلا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا". رواه ابن ماجه، والترمذي، وصححه (¬1). وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: لقد أصبحتم وأمسيتم ترغبون فيما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزهد فيه، أصبحتم ترغبون في الدنيا وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزهد فيها، والله ما أتت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من دهره إلا كان الذي عليه أكثر من الذي له. رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح (¬2). وقال أبو أمامة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لَيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذهَبًا، فَقُلْتُ: لا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَجُوْعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا، فَإِذَا شَبِعْتُ حَمَدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ، وَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ". رواه الإمام أحمد، والترمذي (¬3). وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدِ قُوْتاً". رواه الشيخان. وفي رواية: "كَفافاً" (¬4). ¬
وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدخر شيئا [لغد]. رواه الترمذي (¬1). والمعنى: كان لا يدخر لنفسه، وصحَّ أنه كان يدخر لعياله. وفي "الصحيحين" عن عمر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: أُهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة طوائر، فأطعم خادمه طائراً، فلما كان من الغد أتته به، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَمْ أَنْهَكِ أَنْ تَرْفَعِيْ شَيْئاً لِغَدٍ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْتِيْ بِرِزْقِ كُلِّ غَدٍ". رواه الإمام أحمد في "الزهد" (¬3). وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط عشاء لغداء، ولا غداء لعشاء، ولا اتخذ من شيء زوجين، ولا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا من النعال، ولا رُؤي قط فارغاً في بيته؛ إما يخصف نعلاً لرجل مسكين، أو يخيطُ ثوباً لأرملة. رواه ابن الجوزي في "الوفا" (¬4). ¬
وقال الحسن رحمه الله: كنت أدخل بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فأتناول سقفها بيدي (¬1). وقال داود بن قيس رحمه الله: رأيت الحجرات من جريد النخل مغشى من خارج بمسوح الشعر، وأظنُّ عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحواً من ستة أذرع أو سبعة أذرع، وأحزر البيت الداخل عَشر أذرع، وأظن سمْكه بين الثمان والسبع. رواه البخاري في "الأدب المفرد"، وابن أبي الدنيا، والبيهقي (¬2). والمراد بالذراع ذراع الآدمي، جمعا بين قول داود بن قيس: وأظن سمكه بين الثمان والسبع، وقول الحسن: فأتناول سقفها بيدي. وقال عطاء الخراساني رحمه الله: أدركت حُجَرَ أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من جريد النخل، على أبوابها المسوح من الشعر أسود، قال: فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ يأمر بإدخال حُجَر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم، فسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذٍ: والله لوددتُ أنهم تركوها على حالها ينشأ ناشئ من أهل المدينة، ويقدم القادم من الأفق فيرى ما اكتفى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، فيكون ذلك مما يزهد ¬
الناس في التكاثر والتفاخر فيها. وقال يومئذٍ أبو أمامة بن سهل بن حنيف رحمه الله: ليتها تُركَتْ فلم تُهدم حتى يقتصر الناس عن البناء، وَيرون ما رضي الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ومفاتح خزائن الدُّنيا بيده. رواه ابن سعد في "طبقاته" (¬1). وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَأَلَ عَنِّيْ، أَوْ مَنْ سرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ فَلْينْظُرْ إِلَىْ أَشْعَثَ شَاحِبٍ مُشَمِّرٍ لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَىْ لَبِنَةٍ، وَلا قَصَبَةً عَلَىْ قَصَبةٍ، رُفِعَ لَهُ عَلَمٌ فَشَمَّرَ إلَيْهِ؛ اليوْمَ المِضْمَارُ وَغَدًا السِّباقُ، وَالغَايَةُ الجَنَّةُ أَوِ النَّارُ". رواه الطبراني في "الأوسط"، وسنده ضعيف (¬2). وقال أبو سعيد - رضي الله عنه -: اشترى أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - وليدة بمئة دينار إلى شهر، فسمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ أُسَامَةَ لَطَوِيْلُ الأَمَلِ، وَالَّذِيْ نفسِي بِيَدِهِ مَا طَرَفَتْ عَيْنَايَ إلا ظَنَنْتُ أَنَّ شفريَّ لا يَلْتَقِيَانِ حَتَّى يَقْبِضَ اللهُ رُوْحِي، وَلا لَقَمْتُ لُقْمَةً إلاَّ ظَنَنْتُ أَنِّي لا أسِيْغَهَا حَتَى أَغُصَّ بِهَا مِنَ المَوْتِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّمَا تُوْعَدُوْن لآتٍ وَمَا أَنتمْ بِمُعْجِزِيْن". رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "قصر الأمل"، وأبو نعيم، والبيهقي (¬3). ¬
وقال المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذهب المذهب أبعد. رواه أبو داود (¬1). وأخرجه ابن ماجه عن بلال بن الحارث - رضي الله عنه -، وهو والنسائي عن عبد الرَّحمن بن أبي قراد بلفظ: "إِذا أراد الحاجة أبعد" (¬2). وقال أنس، وابن عمر - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض. رواهما أبو داود، والترمذي (¬3). وأخرجه الطبراني في "الأوسط" عن جابر - رضي الله عنه - (¬4). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال: "اللَّهُمَّ إنيِّ أَعوُذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ". رواه الإمام أحمد، والستة (¬5). زاد ابن أبي شيبة: "بِسْمِ اللهِ" في أوله، وفي لفظ: "أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ ¬
الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ" (¬1). وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه. رواه الأربعة، وصححه ابن حبان والحاكم (¬2). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء غطى رأسه. رواه الخطيب في "تلخيص المتشابه" (¬3). وأخرجه ابن سعد عن حبيب بن صالح مرسلاً، ولفظه: إذا دخل المرفق لبس حذاءه، وغطى رأسه (¬4). وقال المهاجر بن قنفذ - رضي الله عنه -: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد علي حتى توضأ، ثم اعتذر إليَّ وقال: "إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللهَ إِلاَّ عَلَىْ طُهْرٍ". رواه أبو داود، وغيره (¬5). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤتى بالصبيان ¬
ليدعو لهم، فأُتي بصبي فَبَالَ على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إيَّاه. رواه الشيخان (¬1). زاد مسلم: ولم يغسله (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرحم النَّاس بالصبيان والعيال. رواه ابن عساكر (¬3). وقال عبد الله بن أبي قتادة رحمه الله: كان أبو قتادة - رضي الله عنه - يصغي الإناء للهرة فتشرب، ثم يتوضأ به، فقيل له في ذلك فقال: ما صنعتُ إلا ما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع. رواه البيهقي في "سننه" (¬4). وقال بهز - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستاك عرضاً، ويشرب مصًّا، ويتنفس ثلاثاً، ويقول: "هُوَ أَهْنأُ، وَأَمْرَأُ، وَأَبْرَأُ". رواه البغوي، وغيره (¬5). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلل لحيته بالماء. رواه الإمام أحمد، والحاكم، وصححه (¬6). ¬
وأخرجه هو والترمذي عن عثمان، وعن عمار بن ياسر، والحاكمُ عن بلال، وعن أنس، والطبرانيُّ في "الأوسط" عن ابن عمر، وفي "الكبير" عن أبي أمامة، وعن أبي الدرداء، وعن أم سلمة - رضي الله عنهم - (¬1). وقال جابر - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. رواه الدارقطني (¬2). وقال أبو رافع - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ حرَّك خاتمه. رواه ابن ماجه (¬3). وقال المستورد - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه (¬4). ¬
وقال سفينة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع. رواه مسلم (¬1). واتفق عليه هو والبخاري عن أنس - رضي الله عنه - بزيادةِ: إلى خمسة أمداد (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُبِّبَ إِليَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيْبُ، وَجُعِلَتْ قرَّةُ عَيْنِيَ فِي الصَّلاَةِ". رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم، وصححه (¬3). وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَرُدُّ الطِّيب. رواه الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي (¬4). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكون في المصلين إلا كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذاكرين إلا كان أكثرهم ذكراً. رواه الخطيب، وابن عساكر (¬5). وقال عطاء بن يسار رحمه الله مرسلاً: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان ¬
في قومٍ يصلون كان آخرهم، وإذا كان في قوم يذكرون كان آخرهم. وقال يحيى بن أبي كثير رحمه الله: قيل لابن عمر - رضي الله عنه -: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتفت في صلاته؟ قال: لا، ولا في غيرها. رواهما الإمام أحمد في "الزهد". وقال عبد الله بن الشِّخِّير - رضي الله عنه - أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المِرجل. رواه ابنه في "زوائده"، وغيره (¬1). وقال جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى الفجر قَعَد في مُصَلاَّه حتى تطلع الشمس. رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى الغداة في سفر مشى عن راحلته قليلاً. رواه أبو نعيم، والبيهقي (¬3). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى صلاة أثبتها (¬4). رواه مسلم (¬5). ¬
وقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملاً أثبته. رواه مسلم، وأبو داود (¬1). وقالت هي وأم سلمة - رضي الله عنه -: كان أحب العمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما دُوْوِمَ عليه وإنْ قَلَّ. رواه الترمذي، والنسائي (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخف الناس صلاة في تمام. رواه مسلم، والترمذي، والنسائي (¬3). وقال أبو واقد - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخف الناس صلاة على الناس، وأطول الناس صلاةً لنفسه. رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى (¬4). وقال عبد الله بن أبي أوفى، وأبو سعيد الخدري - رضي الله عنهما -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثر الذكر، ويقل اللغو، ويُطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، وكان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي له حاجته. رواهما الحاكم. وحديث ابن أبي أوفى عند النسائي (¬5). ¬
وقال أنس - رضي الله عنه -: تعبد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صار كالشَّنِّ البالي (¬1). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ، إِنَّ اللهَ جَعَلَ لِكُلِّ نبيٍّ شَهْوَةً، وإِنَّ شَهْوَتِي قِيَامُ هَذَا اللَّيْلِ". رواهما أبو الشيخ (¬2). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أَفَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُوْنَ عَبْدًا شَكُوْرًا؟ " رواه الشيخان، وتقدم من طريق آخر (¬3). وقال أبو ذر - رضي الله عنه -: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً، فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فلما أصبح قلت: يا رسول الله! مازِلْتَ تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها، قال: "إِنِّي سَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ الشَّفَاعَةَ لأُمَّتِي فَأَعْطَانِيْهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ - إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَىْ - مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً". رواه الإمام أحمد (¬4). ¬
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل يرفع طوراً ويخفض طوراً. رواه أبو الشيخ (¬1). وقال جابر - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه كأنه منذر جيشٍ يقول: "صَبَّحَكُم مَسَّاكُم". رواه ابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وصححاه (¬2). وقال جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قصداً وخطبته قصداً. رواه مسلم (¬3). وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يطيل الموعظة يوم الجمعة. رواه أبو داود، والحاكم، وصححه (¬4). وقال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغدو يوم الفطر والأضحى في طريق، ويرجع في آخر (¬5). وقال بريدة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى ¬
يَطْعَم، ولا يَطْعَم يوم النحر حتى يذبح. رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، وصححه ابن القطان (¬1). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات. رواه البخاري. زاد تعليقاً: ويأكلهنَّ إفراداً (¬2). ووصل هذه الزيادة أحمد (¬3). وقال جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل سبع تمرات (¬4). وقال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - بردٌ يلبسه في العيدين والجمعة. رواه البيهقي في "سننه" (¬5). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ما هبت ريحٌ قط إلا جثا النبي - صلى الله عليه وسلم - على ¬
ركبته وقال: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلا تَجْعَلْهَا عَذَابًا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلا تَجْعَلْهَا ريحًا". رواه الشافعي في "الأم"، والطبراني في "الكبير"، ولفظه: كان إذا هاجت الريح استقبلها بوجهه، وجثا على ركبتيه، ومدَّ يديه، وقال: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ مِنْ خَيْرِ هَذه الرِّيْحِ وَخَيْرِ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً" إلى آخره (¬1). وقال عباد بن تميم: عن عمه - وهو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج بالنَّاس يستسقي لهم، فصلَّى ركعتين جَهَرَ فيهما بالقراءة، وحوَّل رداءه، ودعا، واستسقى، واستقبل القبلة. رواه البخاري، وأبو داود (¬2). وقال جابر - رضي الله عنه -: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى وحوَّل رداءه ليتحول القحط. رواه الحاكم (¬3). وقال أنس - رضي الله عنه -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السَّماء. رواه مسلم (¬4). ¬
وقال خلاد بن السائب، عن أبيه - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سأل جعل باطن كفيه إليه، وإذا استعاذ جعل ظاهرها إليه. رواه الإمام أحمد (¬1). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى المطر قال: "اللَّهُمَّ صَيِّبًا ناَفِعًا". رواه البخاري (¬2). وقال كعب بن مالك - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر. رواه الشيخان (¬3). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غضب احمرت وجنتاه. رواه الطبراني في "الكبير" (¬4). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كره شيئاً رُؤِيَ ذلك في وجهه. رواه الطبراني في "الأوسط" (¬5). ¬
وقال أبو بكرة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه أمر يُسَرُّ به خرَّ ساجداً شُكراً لله تعالى. رواه أبو داود، وابن ماجه، وصححه الحاكم (¬1). وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتمَّ أخذ لحيته بيده ينظر فيها. رواه الشيرازي في "الألقاب" (¬2). وقال هو وعائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اهتمَّ أكثر من مسِّ لحيته. رواهما أبو نعيم في "الطِّب" (¬3). وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أهمَّه الأمر رفع رأسَهُ إلى السَّماء وقال: "سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ"، وإذا اجتهد في الدّعاء قال: "يَا حَيُّ يَا قَيُّوْمُ". رواه الترمذي (¬4). وقال حذيفة - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حَزَبه أمر صلَّى. رواه الإمام أحمد، وأبو داود (¬5). ¬
وقال عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصَّلاة، وتلا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132] الآية. رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، والطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم، والبيهقي في "الشعب" بسند صحيح (¬1). وقال عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ حزبه أمر قال: "لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ الحَلِيْمُ الكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ العَظِيْمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ". رواه الإمام أحمد (¬2). وقال البراء بن عازب - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابته شدة فدعا رفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه. رواه أبو يعلى. وقال قتادة رحمه الله: ما بعث الله نبياً إلا حسن الصوت، وكان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - حسن الوجه حسن الصوت. رواه الترمذي مرسلاً، وأوصله بعضهم (¬3). ¬
وقال جابر - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمدُّ صوته بالقراءة مداً. رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وصححه (¬1). وسئل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنكم لا تستطيعونها، فقيل لها: أخبرينا بها، فقرأت قراءة ترسلَتْ فيها. رواه ابن أبي شيبة عن ابن أبي مليكة رحمه الله (¬2). ونعتت أم سلمة رضي الله عنها قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً. رواه أبو داود، والترمذي وصححه، والنَّسائي (¬3). وقال حذيفة - رضي الله عنه -: صليت مع النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المئة، ثم مضى فقلت: يُصلي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح سورة النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرَّ بآية سؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: "سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيْم"، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: "سَمعَ اللهُ لِمَنْ ¬
حَمِدَهُ"، ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: "سُبْحَانَ رَبّيَ الأَعْلَىْ"، وكان سجوده قريباً من قيامه. وفي رواية: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ" (¬1). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ختم جمع أهله ودعا. رواه أبو نعيم (¬2). وقال داود بن قيس - وهو من تابعي التابعين رحمهم الله -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند ختم القرآن: "اللَّهُمَّ ارْحَمني بِالقُرآنِ، وَاجْعَلْهُ لِيْ إِمَامًا وَنُوْرًا، وَهُدًى وَرَحْمَةً، اللَّهُمَّ ذَكِّرْنيْ مِنْهُ مَا نُسِّيْتُ، وَعَلِّمْنِيْ مِنْهُ مَا جَهِلْتُ، وَارْزُقْنِيْ تِلاوَتَهُ آناءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَاجْعَلْهُ لِيْ حُجَّةً يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ". رواه أبو منصور المظفر بن الحسين الأرجاني في "فضائل القرآن"، وأبو بكر بن الضحاك في "الشَّمائل" (¬3). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان - صلى الله عليه وسلم - لا يكل طهوره إلى أحد، ولا صدقته التي يتصدق بها، يكون هو الذي يتولاها بنفسه. رواه ابن ماجه (¬4). ¬
وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم إذا صام حتى يقول القائل: لا يفطر، ويفطر إذا أفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم. رواه الشيخان (¬1). ولهما نحوه عن ابن عباس (¬2). وقال أسامة بن زيد - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم الأيام حتى يُقال: لا يفطر، ويفطر الأيام حتَّى لا يكاد يصوم إلا يومين من الجمعة إن كانا في صيامه وإلا صامهما، فقلت: يا رسول الله! إنك تصوم لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك، وإلا صمتهما، قال: "أَيُّ يَوْمَيْنِ؟ " قلت: الاثنين والخميس، قال: "ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فَيْهِمَا الأَعْمَالُ عَلَىْ رَبِّ العَالَمِيْنَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ". رواه الإمام أحمد (¬3). وقال علي - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم عاشوراء، ويأمر به. رواه أبو نعيم (¬4). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر على رطبات قبل أن ¬
يُصلي، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حَسَا حَسَوات من ماء. رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي (¬1). وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر قال: "ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ العُرُوْقُ، وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ الله". رواه أبو داود، والحاكم (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر عند قوم قال: "أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُوْنَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْكُمُ المَلائِكَةُ". رواية الإمام أحمد، والبيهقي (¬3). وعند الطبراني نحوه عن ابن الزبير - رضي الله عنهما -، وقال: "وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلائِكَةُ" (¬4). وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أمراً قال: "اللَّهُمَّ خِرْ لِي، وَاخْتَرْ". رواه الترمذي (¬5). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر ¬
الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده. رواه الشيخان (¬1). وقال علي - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً قال: "اللَّهُمَّ بِكَ أَصُوْلُ، وَبكَ أَحُوْلُ، وَبِكَ أَسِيْرُ". رواه الإمام أحمد (¬2). وقال عبد الله بن سَرْجس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحَور بعد الكَور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال. رواه مسلم (¬3). وله عن ابن عمر بمعناه (¬4). وقال فَضَالة بن عبيد - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل منزلاً في سفر، أو دخل بيته لم يجلس حتى يركع ركعتين. رواه الطبراني في "الكبير" (¬5). وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل منزلاً لم يرتحل حتى يُصلي فيه ركعتين. رواه البيهقي في "السنن" (¬6). ¬
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقصر في السفر ويتم، ويصوم ويفطر. رواه الدارقطني، والبيهقي في "سننهما" (¬1). وقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدع ركعتي الفجر في السَّفر ولا في الحضر، ولا في الصحة ولا في السَّقم. رواه الخطيب (¬2). وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر في ليلة، فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فبكى حتى سقط، فقرأها عشرين مرَّة؛ كل ذلك يبكي حتى يسقط، ثم قال في آخر ذلك: "لَقَدْ خَابَ مَنْ لا يَرْحَمُهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيْمُ"، فبكى حتى سقط. رواه أبو الشيخ (¬3). وقال أنس - رضي الله عنه -: حجَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رحل - أو قال: على راحلة، أو كانت زاملته (¬4)، وفي لفظ: على راحلته وكان تحته رحلٌ - رث وقطيفة قيمتها أربعة دراهم. رواه باللفظ الأول الشيخان، وبالثاني الترمذي في "الشَّمائل"، وابن ماجه بسند ضعيف، ولفظه: حجَّ على رحلٍ رث وقطيفة تسوى أربعة دراهم ولا تسوى. ¬
ثم قال: "اللَّهُمَّ حَجَّةً لا رِيَاءَ فِيْهَا وَلا سُمْعَةَ" (¬1). وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: استقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحَجَرَ، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً، ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -[يبكي]، فقال: "يَا عُمَرُ! هَاهُنَا تُسْكَبُ العَبَرَاتُ". رواه ابن ماجه (¬2). وقال قتادة رحمه الله: سألتُ أنساً - رضي الله عنه -: كم حجَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع عمر (¬3). وقال أبو إسحاق رحمه الله: سألتُ زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: كم غَزَوْتَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: سبع عشرة (¬4). قال: وحدثني زيد بن أرقم: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حجَّ بعد ما هاجر حجة واحدة حجة الوداع؛ قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى. رواهما الشيخان (¬5). وقال جابر - رضي الله عنه -: أفاض النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وعليه السكينة والوقار وأمرهم أن يرمُوا بمثل حصى الخذف، وأوضع في وادي مُحَسِّرٍ، وقال: "لِتَأْخُذُوْا عَنيْ نُسُكَهَا؛ فإني لا أَدْرِيْ لَعَلِّيْ لا ألقَاهُمْ ¬
بَعْدَ عَامِيَ هَذَا" (¬1). وقال قدامة بن عبد الله العامري - رضي الله عنه -: رأيت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمرة يوم النحر على ناقةٍ له صهباء (¬2)، لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك (¬3). رواهما ابن ماجه، وغيره (¬4). وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تدفع عنه الناس، ولا يضربون عنه. رواه الطبراني في "الكبير" (¬5). وقال عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره أن يطأ أحدٌ عقبه، ولكن يمين وشمال. رواه الحاكم (¬6). وقال جابر - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مشى مشى أصحابه أمامه، وتركو اظهره للملائكة. رواه ابن ماجه، والحاكم (¬7). وقال جارية الأنصاري - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يحفظ اسم الرجل قال: يا ابن عبد الله. رواه ابن السني (¬8). ¬
وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُواجه أحداً في وجهه شيء يكرهه. رواه الإمام أحمد، والبخاري في "تاريخه"، وأبو داود، والنسائي (¬1). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بلغه عن الرجل الشيءُ لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن يقول: ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا. رواه أبو داود (¬2). وقالت: كان أبغض الخُلُق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكذب. رواه البيهقي في "الشعب" (¬3). وقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزلْ معرضاً عنه حتى يحدث توبة. رواه الإمام أحمد، والحاكم (¬4). وقال أنس - رضي الله عنه -: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزور الأنصار، ويُسلم على صبيانهم، ويمسح برؤوسهم. رواه النسائي، وصححه البغوي في "شرح السنة" (¬5). ¬
وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده. رواه أبو يعلى (¬1). وقال أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب حماراً عليه إكاف تحته قطيفة فَدَكِيَّةٌ، وأردف وراءه أسامة بن زيد وهو يَعُود سعد بن عبادة - رضي الله عنه - في بني الحارث بن الخزرج - وذلك قبل وقعة بدر - حتى مرَّ بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أُبي وفي المجلس عبد الله بن أبي رواحة - رضي الله عنه -، فلما غشيت المجلس عَجَاجَةُ الدابة فخمر عبد الله بن أُبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم وقف فنزل، ودعا إلى الله عز وجل، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أُبيٍّ: أيها المرء! لا أحسن من هذا؛ إن كان ما تقول حقاً فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منا فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: اغشنا في مجالسنا؛ فإنا نحبُّ ذلك. فاستبَّ المسلمون والمشركون حتى هموا أن يتواثبوا، فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم، ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة - رضي الله عنه -، فقال: "أَيْ سَعْدُ! ألمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُوْ حُبَاب؟ - يُرِيْدُ: عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ - ¬
قَالَ كَذَا وَكَذَا". قال: اعفُ عنه واصفح يا رسول الله، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوجوه فيعصبوه بالعصائب، فلما ردَّ الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شَرِقَ بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه الشَّيخان (¬1). والبحيرة: تصغير البحرة، وهي القرية؛ يعني: المدينة. وقوله: فيعصبوه؛ أي: يسودوه، والعرب يسمون السيد معصباً. وقال عبد الله بن بُسْرِ - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى باب قومٍ لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: "السَّلاَمُ عَلَيْكُم، السَّلاَمُ عَلَيْكُم"، وذلك أن الدُّور لم يكن عليها يومئذٍ ستور. رواه الإمام أحمد، وأبو داود (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: لم يكن شخص أحب إليهم رؤيةً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك. رواه الترمذي، وصححه (¬3). وقال: عطس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان، فشمَّت أحدهما ¬
ولم يُشمِّت الآخر، فقال الرجل: يا رسول الله! شَمَّتَّ فلاناً ولم تُشمِّتني، فقال: "إِنَّ هَذا حَمِدَ اللهَ وَأَنْتَ لَمْ تَحْمَد". رواه الشيخان، وغيرهما (¬1). وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا بَعَثتمْ إِلَيَّ رَسُوْلاً فَابْعَثُوْا حَسَنَ الوَجْهِ، حَسَنَ الاسمِ". رواه البزار، والطبراني في "الأوسط"، وأبو الشيخ (¬2). وقال: كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يُغير الاسم القبيح إلى الاسم الحسن. رواه البغوي في "شرح السنة" (¬3). وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: كانت جويرية اسمها برَّة، فحوَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسمها جويرية، وكان يكره أن يُقال: خرج من عند برة. رواه مسلم، وغيره (¬4). وقال يزيد بن جارية الأنصاري - رضي الله عنه -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يحفظ اسم الرجل قال: "يا ابْنَ عَبْدِ اللهِ". رواه الطبراني في "الكبير"، ¬
و"الأوسط " وسنده جيد (¬1). وقال أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي أبا طلحة كثيراً، قال: فجاءه يوماً وقد مات نُغَيْرٌ لابنه، فوجده حزينا، فسألهم عنه فأخبروه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ! مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ " (¬2). وفي لفظ: إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: "يَا أَبَا عُمَيْر! مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ ". رواهما الشيخان (¬3). وقال ابن عباس - رضي الله عنه - في حديث: وكان من خُلُقِه - صلى الله عليه وسلم - أن يسمي سلاحه، ودوابه، ومتاعه. رواه الروياني، وابن عساكر (¬4). وقال سهل بن سعد - رضي الله عنه -: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فرس يُقال لها: اللحيف. رواه البخاري (¬5). وقال: كان له - صلى الله عليه وسلم - فرس يسمى الضرب، وآخر يسمى اللِّزاز. رواهما البيهقي في "السنن" (¬6). ¬
وقال علي - رضي الله عنه -: كان فرسه - صلى الله عليه وسلم - يقال له: الْمُرتجز، وناقته: القصواء، وبغلته: الدلدل وحماره: عفيره، ودرعه: ذات الفضول، وسيفه: ذو الفقار. رواه أبو داود (¬1). وأخرج الإمام أحمد منه: كان له حمار اسمه عفير (¬2). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان له - صلى الله عليه وسلم - سيف محلى قائمته من فضة، ونعله من فضة، وفيه حلق من فضة، وكان يسمى: ذا الفقار. وكان له قوس يُقال له: ذا السداد. وكان له كنانة تسمى: ذا الجمع. وكان له درع موشحة بنحاس تسمى: ذات الفضول. وكان له حربة تسمى: النبغاء (¬3). وكان له مِجَنُّ تسمى: الذقن. وكان له فرس أشقر يسمى: المرتجز. وكان له فرس أدهم يسمى: السكب. وكان له سرج يسمى: الداج. وكان له بغلة شهباء تسمى: دُلدل. وكان له ناقة تسمى: القصواء. ¬
وكان له حمار يسمى: يعفور. وكان له بساط يسمى: الكز. وكان له عنزة تسمى: النمر. وكان له ركوة تسمى: الصادر. وكان له مرآة تسمى: المدلة. وكان له مقراض يسمى: الجامع. وكان له قضيب من شوحط يسمى: الممشوق. رواه الطبراني في "الكبير" (¬1). وقال عبد الله بن بسر - رضي الله عنه -: كان للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - قصعة يقال لها: الغراء، يحملها أربعة رجال. رواه أبو داود (¬2). وقال حنظلة بن حِذْيَم - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه أن يدعى الرجل بأحب أسمائه إليه وأحب كُناه. رواه أبو يعلى، والطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات، وغيرهما (¬3). وروى أبو هريرة، وأبو ذر - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعرف مجلسه من مجالس أصحابه، وكان يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء ¬
الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل. رواه أبو داود، والنَّسائي (¬1). وقالت قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، وهو قاعد القرفصاء. قالت: فلما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتخشع أرعدت من الفَرَق. رواه الترمذي (¬2). وقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في المجلس احتبى بيديه. رواه أبو داود (¬3). وقال قرة بن إياس رضي الله عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس جلس إليه أصحابه حِلَقاً حِلقاً. رواه البزار (¬4). وقال عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع بصره إلى السَّماء. رواه أبو داود (¬5). وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل على مريضٍ ¬
يعوده قال: "لا بأْسَ، طَهُورٌ إن شاءَ اللهُ". رواه البخاري (¬1). وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا شهد جنازة رُؤيت عليه كآبة، وأكثر حديث النفس. رواه الطبراني في "الكبير" (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه -: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصيب التمرة فيقول: "لَوْلاَ أَنِّي أَخْشَى أَنَّهَا مِنَ الصَّدَقَةِ لأكلْتُهُا" رواه الإمام أحمد، والشيخان (¬3). وقال عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -: أَرِقَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً فقال له بعض نسائه: أرقتَ يا رسول الله؟ قال: "أَجَلْ؛ وَجَدْتُ تَمْرَةً فَأَكَلْتُهَا فَخَشِيْتُ أَنْ تَكُوْنَ مِنَ الصَّدَقَةِ". رواه الإمام أحمد بإسناد حسن (¬4). وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: أخذ الحسن بن علي - رضي الله عنهما - تمرة من تمر الصدقة - وكان صغيراً - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كخْ كخْ ألقِهَا". رواه البخاري (¬5). وقال عمر - رضي الله عنه -: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غَيضة مع بعض أصحابه، ¬
فاجتنى منها سواكين - أحدهما معوج، والآخر مستقيم - فدفع المستقيم إلى صاحبه، فقال له: يا رسول الله! كنتَ أحقَّ بالمستقيم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ صَاحِبٍ يَصْحَبُ صَاحِبًا سَاعَةً مِنْ نهارٍ إِلاَّ سُئِلَ عَنْ صُحْبَتِهِ: هَلْ أقامَ مِنْهَا حَقَّ اللهِ أَمْ أَضَاعَهُ". رواه إبراهيم بن الجنيد في كتاب "الصحبة والإخاء" بسند ضعيف (¬1). وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: إن كنا لنعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس يقول: "رَبِّ اغْفِرْ لِيْ وتُبْ عَلَيَّ؛ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُوْرُ" مئة مرة. رواه الإمام أحمد، وغيره (¬2). وقال عبد الله الحضرمي - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من المجلس استغفر الله عشرين مرة، فأعلن. رواه ابن السني (¬3). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقوم من مجلس إلا قال: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبِّي وَبِحَمْدِكَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوْبُ إِلَيْكَ". وقال: "لا يَقُوْلُهُنَّ أَحَدٌ حَيْثُ يَقُوْمُ مِنْ مَجْلِسِهِ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْهُ فِيْ ذَلِكَ المجْلِسِ". رواه الحاكم، وصححه (¬4). ¬
وقال أبو معبد الخزاعي - رضي الله عنه -: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلةَ هاجرَ هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر - رضي الله عنهما -، ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية رضي الله عنها، وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة، فتطعم وتسقي، فسألوها هل معها لحم أو لبن يشترونه منها، فلم يجدوا عندها شيئاً من ذلك، فقالت: لو كان عندها شيء ما أعوزكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا شاة في كسر الخيمة، فقال: "مَا هَذهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟ ". قالت: شاة خلَّفَها الجَهْد عن الغنم. قال: "فَهَلْ بِها مِنْ لَبَنٍ؟ ". قالت: بأبي أنت هي أجهد من ذلك. قال: "تَأْذَنِيْنَ لِيْ أَنْ أَحْلِبَهَا؟ ". قالت: إن كان لها حلب فاحلبها. قال: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشاة فمسحها، وذكر اسم الله ودعا بإناء لها تربض الرَّهط، فتفاجت ودرت واجترت، فحلب فيه ثجاً حتى علاه الثُّمال، فسقاها، وسقى أصحابه فشربوا عللاً بعد نهل حتى أراضوا وشرب آخرهم، وقال: "سَاقِي القَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا"، ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء فغادره عندها، ثم ارتحلوا. قال: فقَلَّ ما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً حِيَلاً عِجافاً ما تُساوك هُزلاً لا نقيَّ بهنَّ، مخهن قليل، فلما رأى اللبن
عَجِبَ، وقال: من أين اللبن يا أم معبد ولا حَلُوبة في البيت والشاة عازبة؟ فقالت: لا والله، إلا أنه مرَّ بنا رجلٌ مبارك وكان من حديثه كيت وكيت. فقال: صِفِيْه يا أم معبد؛ فوالله أراهُ صاحب قريش الذي تطلب. فقالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة حسن الخَلْق، مليح الوجه، لم تَعِبْه ثُجْلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وَطَف، وفي صوته صَحَل، أَحْوَر، أكْحَل، أَزَجَّ، أقْرَن، في عنقه سطَع، وفي لحيته كثافة، إذا صمَت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البَهَاء، حُلُو المنطق، فَصْلٌ لا نزْر ولا هذْر، كأن منطقه خرزات نَظْم ينحدرن، أجهر الناس وأجمله من بعيد وأحسنه من قريب، رَبْعَةٌ لا تَشْنَؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، وهو أنضر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وان أمر تباروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مُفند. قال: هذا والله صاحب قريش الذي يطلب، ولو صادفتهُ لالتمست أني أصحبه، ولأجهدن إن وجدتُ إلى ذلك سبيلاً. قال: وأصبح صوت بمكة عالياً بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقوله، وهو يقول: [من الطويل]
جَزى اللهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزائِه ... رَفِيْقَيْنِ حَلاَّ خَيْمَتَي أُمِّ مَعْبَد هُما نَزَلا بِالْبِرِّ وَارْتَحَلا بِه ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيْقَ مُحَمَّد فَيا لِقُصَيٍّ ما زَوَى اللهُ عَنْكُمُ ... بِهِ مِنْ فِعالٍ لا تُجازَى وَسُؤْدَدِ سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَأْنِها وَإِنائِها ... فَإِنَّكمُ إِنْ تَسْألوا الشَّاةَ تَشْهَدِ دَعاها بِشاة حائِل فتَحَلَّبَت ... لَهُ بِصَرِيْحٍ صَرَّةُ الشَّاةِ مُزْبِد فَغادرَهُ رَهْناً لَدَيْها لِحالِبٍ ... بِدَرَّتها فِي مُصْدِرٍ ثُمَّ مُوْرِدِ قال: فأصبح الناس قد فقدوا نبيهم، فأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وأجابه حسان بن ثابت - رضي الله عنه -: [من الطويل] لَقَدْ خابَ قَوْمٌ زالَ عَنْهُمْ نبَيُّهُمْ ... وَقُدَّسَ مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِمْ وَيغْتَدِي
تَرَحَّلَ عَنْ قَوْمٍ فَزالَتْ عُقُوْلُهُمْ ... وَحَلَّ على قَوْمٍ بِنُوْرِ مُجَدِّدِ وَهَلْ يَسْتَوِي ضُلاَّلُ قَوْمٍ تَسَكَّعُوا ... عَمًى وهُداةٌ يَهْتَدُوْنَ بِمُهْتَد نبِيٌّ يَرَى ما لا يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ ... وَيَتْلُو كِتابَ اللهِ فِيْ كُلِّ مَشْهَدِ وَإِنْ قالَ فِيْ يَوْمٍ مَقالَةَ غائِبٍ ... فَتَصْدِيْقُها فِيْ ضَحْوَةِ الْيَوْمِ أَوْ غَدِ لِيَهْنِ أَبا بَكْرٍ سَعادَةُ جَدِّهِ ... بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْعِدِ اللهُ يَسْعَدِ وَيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكانُ فَتاتِهِمْ ... وَمَقْصِدُها لِلْمُسْلِمِيْنَ بِمَرْصَد أخرجه ابن السَّمعانيِّ في "أماليه" بهذا اللفظ، ورواه البخاري في "تاريخه" مختصراً" (¬1). قوله: كانت امرأة برزة؛ أي: خلالها سن، فهي تبرز لا تتحجب لصغرها. ¬
جلدة؛ أي: قوية. مرملون؛ أي: نفِدَ زادهم. مسنتون؛ أي: داخلون في السنة، وهي الجدب والمجاعة. وروي مشتون: داخلون في الشتاء. كسر الخيمة - بالفتح، أو الكسر لغتان -: أسفل الشقة التي تلي الأرض. تفاجات - بالجيم -: فتحت ما بين رجليها للحلب. تربض الرهط - بالموحدة، والمعجمة - أي: ترويهم حتى يشبعوا فيربضوا. والثج - بالمثلثة، والجيم -: السيلان. والثمال - بضم المثلثة -: جمع ثمالة، وهي الرغوة. والنهل: الشرب الأول. والعلل: الثاني. وأراضوا: رووا، وامتلئوا. والحيل: جمع حائل؛ أي: لم تحمل. ما تساوك هزلاً؛ أي: لا تتمايل من الضعف، وروي: ما تساق - بالقاف -. والشاء عازبة؛ أي: بعيدة في المرعى. متبلج الوجه: مضيئه كالصبح.
والثجلة - بضم المثلثة، وبالجيم -: عظم البطن واسترخاء أسفله. وفي رواية: نحلة - بالنون، والحاء المهملة -: الرقة والضمور. والصعل - بالمهملتين؛ مفتوحة فساكنة -: صغر الرأس. وسيم قسيم: أي: حسن وضيء. والدعج: سواد العينين. أزج أقرن: كثير شعر الحاجبين مقرونهما. والوَطَف: الطول. والصحل كالبُحَّة. والسطع: طول العنق. إذا تكلم سما؛ أي: علا برأسه أو يديه. فصل لا نزر ولا هذر؛ أي: وسط لا قليل ولا كثير؛ أي: كلامه بقدر الحاجة. لا تشنؤه؛ أي: لا تبغضه ولا تعيبه. لا تقتحمه عين من قصر؛ أي: لا تزدريه ولا تحتقره. محفود محشود؛ أي: له حفدة؛ أي: خدم تجتمع عليه. والمفند: الملوم، وروي: ولا معتد؛ أي: ظالم. والصريح في قول الهاتف: الخالص من اللبن. والصرة - بمهملتين -: لحم الضرع، وهي فاعلُ فَتَحَلَّبَتْ.
وتسكعوا: تحيروا (¬1). وقال الحسن بن علي - رضي الله عنهما -: سألت خالي هند بن أبي هالة - رضي الله عنه - عن حلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان وصَّافاً - وأنا أرجو أن يصف لي منها شيئاً أتعلق به؛ قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه تلألؤَ القمر ليلة البدر، أطولَ من المربوع، وأقصرَ من المشذَّب، عظيمَ الهامة، رَجِلَ الشعر؛ إن انفرقت عقيقته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهرَ اللون، واسمعَ الجبين، أزجَّ الحاجبين سوابغ من غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقْنَى العِرْنين، له نور يعلوه، ويحسبه من تأمله (¬2) أشم، كثَّ اللحية، أدعجَ، سهلَ الخدين، ضليعَ الفم، أشنبَ، مفلجَ الأسنان، دقيقَ المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدلَ الخلق، بادناً متماسكاً، سواءَ البطن والصدر، مشيحَ الصدر، بعيدَ ما بين المنكبين، ضخمَ الكراديس، أنورَ المتجرد، موصولَ ما بين اللِّبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاريَ الثديين ما سوى ذلك أشعرَ الذراعين والمنكبين وأعالي الصَّدر، طويلَ الزندين، رحبَ الراحة، شَثْنَ الكفين والقدمين، سائلَ الأطراف - أو قال: سائن -، سبطَ العصب، خمصانَ الأخمصين، مسيحَ القدمين ينبو عنهما الماء، إذا زال زال تقلعاً، ويخطو تكفؤاً ويمشي هوناً، ذريعَ المشية إذا مشى كأنما ينحط ¬
من صبب، وإذا التفت التفت جميعاً خافضَ الطرف، نظرُهُ إلى الأرض أطولُ من نظره إلى السماء، جلُّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه ويَبْدأ من لَقِيَه بالسَّلام. قلت: صف لي مَنْطِقَهُ. قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائم الفكر، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويلَ السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا المَهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئاً، لم يكن يذم ذواقاً ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قَلَبَها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضَّ طرفه، جُلُّ ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام. قال الحسن: فكتمتها عن الحسين بن علي - رضي الله عنهما - زماناً، ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه فسأل أباه عن مدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومخرجه، ومجلسه وشكله، فلم يدع منه شيئاً. قال الحسين - رضي الله عنه -: سألت أبي عن دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك، وكان إذا أوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء؛ جزعاً لله تعالى، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزَّأ جزءَه بينه وبين النَّاس، فيرد ذلك على العامة بالخاصة ولا يدخر
عنهم شيئاً، وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمته على قدر فضلهم في الدين؛ منهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم أذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمةَ من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: "لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغائِبَ، وَأَبْلِغُونِي حاجَةَ مَنْ لا يَسْتَطِيع إِبْلاغِي حاجَتَهُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطاناً حاجَةَ مَنْ لا يَسْتَطِيع إِبْلاغَها ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيامَةُ"؛ لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحدٍ غيره. وقال في رواية: يدخلون رواداً، ولا يتفرقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة؛ يعني: فقهاء. قال: فأخبرني عن مخرجه كيف كان يصنع فيه؟ قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخزن لسانه إلا بما يُعينهم ويؤلفهم ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي بشره وخلقه، ويتفقد أصحابه ويسأل الناس عمَّا في الناس، ويحسِّن الحسن ويصوبه، ويُقبِّح القبيح ويُوهنه، معتدلَ الأمر غيرَ مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حالٍ عنده عتاد، لا يقصر عن الحق ولا يجاوزه إلى غيره، الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلةً أحسنهم مواساة ومؤازرة. قال: فسألته عن مجلسه عمَّا كان يصنع فيه. فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجلس ولا يقوم إلا عن ذكر،
ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، ويُعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أنَّ أحداً أكرم عليه منه، مَنْ جالسه أو قاومه لحاجة صابرة حتى يكون هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، قد وسَّع للناس بسطه وخلقه فصار لهم أباً وصاروا عنده في الحق متقاربين متفاضلين بالتقوى - وفي الرواية الأخرى: صاروا عنده في الحق سواء - مجلسُه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، متعاطفون بالتقوى، متواضعون، يُوقرون فيه الكبير ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة ويرحمون الغريب. قال: فسألته عن سيرته - صلى الله عليه وسلم - في جلسائه. فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائمَ البشر، سهلَ الخلق، لينَ الجانب، ليس بفظٍ ولا غليظ ولا سَخَّاب ولا فحَّاش، ولا عيَّاب ولا مدَّاح، يتغافل عما لا يشتهى ولا يؤسى منه، قد ترك نفسه من ثلاث؛ [الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلَّم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق ويقول: "إِذا رَأَيْتُمْ صاحِبَ الْحاجَةِ يَطْلُبُها
فارْفِدُوْه"، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحدٍ حديثه حتى يتجاوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام. قلت له: كيف كان سكوته - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: كان سكوته - صلى الله عليه وسلم - على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكير. فأما تقديره ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس. وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى. وجمع له الحلم في الصَّبر، وكان لا يغضبه شيء يستفزه. وجمع له في الحذر أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينهى عنه، واجتهاد الرأي بما أصلح أمته، والقيام لهم بما جمع لهم أمر الدنيا والآخرة. رواه القاضي عياض في "الشفا" مجموعاً هكذا من روايتين، ورواه الترمذي، وأبو الشيخ كلاهما في "الشَّمائل" مفرقاً (¬1). وقوله: المشذب: البائن الطويل في نحافة. والشعر الرجل: هو الذي كأنه مشط فتكسر قليلاً. والعقيقة: شعر الرأس، ويروى: عقيصته بالصاد. وأزهر اللون: نيِّرُه، أو: أحسنه. ¬
والأزج: المقوس الطويل. والقرن - بفتحتين -: اتصال شعر الحاجبين. وأقنى العرنين: سائل الأنف المرتفع وسطه. والأشم: الطويل قصبة الأنف. والأدعج: الشديد سواد الحدق. والضليع: الواسع. والشنب: ريق الأسنان، وقيل: دقتها. والفلج: الفرق بين الثنايا. والمسربة: الشعر الذي بين الصَّدر والسُّرة. والدمية - بضم المهملة، وبالتحتية -: الصورة من العاج. مشيح - بضم الميم: وكسر المعجمة - كذا في الرواية؛ من أشاح؛ أي: أقبل بادي الصدر. قال القاضي عياض: ولعلَّ اللفظة: مسيح - بالسين؛ أي: المهملة، وفتح الميم - بمعنى: عريض كما في الرواية الأخرى. والكراديس: رؤوس العظام. وشثن الكفين والقدمين؛ أي: فخيمهما. وخُمصان - بضم المعجمة - الأخمصين: أي: متجافي أخمص القدم، وهو ما لا تتناوله الأرض من وسطه. والتقلع: رفع الرِجل بقوة.
والتكفؤ: الميل إلى سنن المشي. والهون: الرفق. والذريع: الواسع الخطو. وحب الغمام: البَرَد. ويدخلون رواداً؛ أي: محتاجين إليه طالبين لما عنده. والعتاد - بفتح المهملة، والمثناة فوق -: العدة. ولا يوطن الأماكن؛ أي: لا يتخذ لمصلاه موضعاً معلوماً. ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ؛ أي: مقتصد في المدح، وقيل: من مسلم، وقيل: من مكافئ على يد سبقت. وبقية الألفاظ التي في الحديث قريبة؛ والله الموفق.
القسم الثاني من الكتاب فِي النَّهي عَن التَّشَبُّه بمَن وَرَدَ النَّهي عَن التَّشَبُه بهم وَالنَّهي عَن طُرقهم
القسم الثاني من الكتاب في النهي عن التشبه بمن ورد النهي عن التشبه بهم, والنهي عن طرقهم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القسم الثاني من الكتاب فِي النَّهي عَن التَّشَبُه بمَن وَرَدَ النَّهي عَن التَّشَبُه بهم, وَالنَّهي عَن طُرقهم قال الله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 104 - 105]. هذه الآية أصل عظيم في الأمر بالتشبه بالمؤمنين، والنهي عن التشبه بالمشركين. والشرك المتصفون به شامل للشرك الأكبر، والشرك الأصغر الشامل لسائر المعاصي، فهي دليل لقسمي الكتاب. واعلم أنا نذكر في هذا القسم قبائح الأخلاق، وسفاسف الأمور، وسيئات الأعمال لتُحذر وتجتنب. فقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، وعلمت أن الخير لا يسبقني (¬1). ¬
وفي رواية عنه: فعرفت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير (¬1). وقال بعضهم في معناه: [من الهزج] عَرَفْنا الشَّرَّ لا لِلشَّرِّ لَكِنْ لِتَوَقِّيْهِ ... وَمَنْ لا يَعْرِفِ الشَّرِّ مِنَ النَّاسِ يَقَعْ فِيْهِ وروى الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزُّهد" عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: ليس العالم الذي يعرف الخير من الشَّر، إنَّما العالم الَّذي يعرف الخير فيتبعه، ويعرف الشر فيجتنبه (¬2). ثم اعلم أن من لم يتخلق بأخلاق الله تعالى، ولا أخلاق عباده المخلصين فهو إما شيطان، وإما قرين شيطان. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]. والمراد بالذكر: الطَّاعة؛ لما رواه الطبراني عن واقد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "مَنْ أَطَاعَ اللهَ فَقَدْ ذَكَرَ اللهَ، وَإِنْ قَلَّتْ صَلاتُهُ، وَصِيَامُهُ، وَتلاوَتُهُ الْقُرْآنَ، وَمَنْ عَصَى اللهَ لَمْ يَذْكُرْهُ، وإِنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ، ¬
وَصِيَامُهُ، وتلاوتُهُ لِلْقُرْآنِ" (¬1). فالمراد بالعشو عن الذكر: إغفال الطاعة، وفعل المعصية، والاسترسال في الغفلة. وقوله تعالى: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا}؛ نسخر له شيطاناً يدعوه إلى خلق سيئ، أو فعل ذميم. أو المعنى: نقيِّض له خلقاً شيطانياً يرتكبه، ويغلب على قلبه؛ وتسمية الخلق الشيطاني شيطاناً مجاز، ولا يخفى ما فيه من المبالغة. وقوله تعالى: {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}؛ أي: فالشيطان للعاشي عن الذكر قرين؛ أي: ملازم له، أو موافق له في الأخلاق والأفعال. ويجوز أن يكون المعنى: فالعاشي عن الذكر للشيطان مقارن أو موافق؛ فالإنسان متى غفل عن الطَّاعة فقد خُلِّي بينه وبين الشَّيطان، ولذلك كان بعض السلف لا يفعل من المباحات شيئاً إلا بنية حسنة كالنوم، والأكل، والجماع، وغير ذلك لتكون مباحاته طاعات، ومتى كان في طاعة الله تعالى كان في ذكره، وذكر الله تعالى حصن حصين من الشَّيطان اللعين. وروى ابن الدُّنيا في "مكائد الشيطان"، وأبو يعلى، والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّيطَانَ ¬
واضعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابنِ آدَمَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللهَ تَعَالَى خَنَسَ، وإِذَا نسَيَ التَقَمَ قَلْبه" (¬1). فمتى فتر العبد عن الذكر، وانتهى من الطاعة - ولا بد لكل عامل من فترة - فإن تلافى أمره بالشُّروع في طاعة أخرى فقد ضيق مجاري الشيطان إلى قلبه، وسبقه إلى حفظ سره، وكان متحققاً بقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 - 8]، وإن استرسل في فترته، وتمادى في غفلته سبقه الشَّيطان إلى قلبه فالتقمه؛ لأنه حينئذ صدق عليه أنه نسي الله فنسيه الله؛ أي: تركه للشَّيطان كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]؛ أي: تخلى عن توفيقهم، وخلى بينهم وبين شياطينهم. وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]؛ أي: أنساهم إنسانية أنفسهم حتَّى غلبت عليهم أخلاق قرنائهم من الشَّياطين فبعدت نفوسهم عن الخير، فالعبد إذا لم يأت بالطَّاعة التي تنحصر في أفعال الصَّالحين فهو إما خالٍ بطالٌ، وإما عاصٍ ضالٌّ؛ فإن كان الأول فإنه - وإن كان لا يستحق عقاباً، ولا يستوجب ثوابا - فهو متشبه بالشَّيطان قبل أن يكون شيطاناً رجيماً، وذلك حين خلا بنفسه ورأيه، وكان عاقبة أمره أن أبى واستكبر عن السجود لآدم وقد أمر به؛ إذ لم يكن له يومئذ شيطان وسوس إليه بذلك إلا نفسه ¬
الخبيثة حيث لم تكن مشغولة بالله تعالى، ولا بطاعته، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إني لأكره الرجل يكون بطالاً؛ لا في أمر دنياه، ولا في أمر آخرته (¬1). وإنما كرهت البطالة خشية أن يخلو الإنسان بخواطر نفسه فتوسوس إليه نفسه بشيء لا تحمد عاقبته، كما وسوست نفس إبليس إليه بأن السُّجود لآدم سجود لغير الله تعالى، وفاته أن الله تعالى حيث أمر بذلك فالسجود لآدم عليه السلام عين طاعة الله تعالى، ومن هنا قيل: [من البسيط] إِيَّاكَ نَفْسَكَ لا تَأْمَنْ غَوائِلَها ... فَالنَّفْسُ أَقْبَحُ مِنْ سَبْعِيْنَ شَيْطان وقد تكلمنا على التحذير من النفس في كتاب "منبر التوحيد" بما ليس عليه مزيد. وإن كان الثاني فهو في معصية وضلالة؛ إما متشبه بالشيطان في أخلاقه وأحواله، وإما متشبه باتباع المغلولين فى أغلال إضلاله، فناسب أن نتكلم في هذا القسم من كتابنا على النهي عن التشبه بالشَّيطان، وعلى التشبه بأتباعه - وهم الكفار والفساق - فانقسم هذا القسم إلى ثلاثة أنواع: 1 - النوع الأول: في النهي عن التشبه بالشيطان. 2 - النوع الثاني: في النهي عن التشبه بالكفار. 3 - النوع الثالث: في النهي عن التشبه بالفساق، والله الموفق. *** ¬
النوع الأول من القسم الثاني في النهي عن التشبه بالشيطان "لعنه الله تعالى"
النوع الأول من القسم الثاني فِي النَّهي عَن التَّشَبه بالشَّيطَانِ "لَعَنَهُ الله تَعَالَى" قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. ومتبع غير سبيل المؤمنين متبع لسبيل الكافرين، وإبليس أشدهم كفراً؛ فالآية دليل لهذا النوع والذي بعده. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيرِنَا". رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - (¬1). وروى الديلمى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ عَمِلَ بِسُنَّةِ غَيْرِنَا" (¬2). ¬
وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]؛ أي: أعمال الطاغوت، وهو الشيطان أو عبادته. {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ}؛ أي: عبده - سبحانه -، واجتنب أعمال الطَّاغوت. {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}. وهذه الآية تدل على أن كل أمة أمرها الله تعالى باجتناب التَّشبه بالشَّيطان. ثم قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النحل: 63]؛ أي: الخبيثة لأنه لا يزين أعمال الخير. نعم، قد يزينها للتوصل إلى إغواء العبد بها إلى السوء والضلال. {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ}؛ أي: يواليهم اليوم في الآخرة لأنهم كانوا على مثل أعماله في الدُّنيا. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وقد علمت مما سبق أن المرء على دين خليله ومواليه، وموالاة الشيطان دعت أولياءه إلى مثل أعماله؛ لأن مَنْ أَحَبَّ أحداً أَحَبَّ أن يتخلق بأخلاقه، كما سبق. وقال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ
كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ}؛ أي: عن طريق الجنة. {وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 3 - 4]. وهذه الآية - وإن نزلت في النضر بن الحارث (¬1) فإنها قاضية على كل من تولى الشَّيطان واتبعه بأن مصيره إلى عذاب السَّعير. وفي إطلاق الهداية على القيادة إلى العذاب غاية التهكم والاستهزاء بأتباع الشياطين. وقال الله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18]. وقوله: {مِنْهُمْ}؛ أي: من ذرية آدم، وفيه إشارة إلى أنَّ التشبه بالشَّيطان وأتباعه في أعماله وأخلاقه ممنوع منه سائر الأمم في سائر الأديان، متوعد عليه بنار جهنَّم. وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168 - 169]. هذه الآية دليل واضح على المنع من التشبه بالشيطان. قال ابن عطية: المعنى - أي: بهذه الآية -: النهي عن اتباع الشَّيطان، وسلوك سبيله وطرائقه. ¬
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: خطوات الشيطان أعماله. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وقال غيره: آثاره (¬2). وقال شيخ الإسلام - والدي - في "تفسيره ": [من الرجز] قالَ وَلا تتَّبِعُوا خُطْواتِ ... أَيْ طُرُقِ الشَّيْطانِ وَالزَّلاَّتِ لا تَقْتَدُوْا بِهِ تُحَرِّمُوْا الْحَلالْ ... ثُمَّ تُحَلِّلُوْا الْحَرامَ بِالضَّلالْ كناية عن ترك الاقتداء به فيما يضل بعضهم بسببه. قال ابن عطية: وكل ما عدا السُّننَ، والشَّرائعَ من البدع، والمعاصي فهو خطوات الشَّيطان. انتهى (¬3). ويدل له ما رواه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة رحمه الله تعالى: كل معصية لله فهي من خطوات الشَّيطان (¬4). قلت: وحيث انحصر الحق في الشَّرائع والسنن، ثم انحصر آخراً في شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد انحصر الحق في اتباع شريعته، وبقي ما سواها من الشُّعب والطرق على غير الحق، وهي طرق الشيطان، فأي طريق أخذ فيه العبد غير طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي طريقة من ¬
طرائق الشَّيطان، وخطوة من خطواته. وقد روى الدَّارمي - بإسناد صحيح، واللفظ له - والإمام أحمد، والنَّسائي، والبزار، وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: خطَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً خطاً، ثم قال: "هَذَا سَبِيلُ اللهِ"، ثم خطَّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال: "هَذهِ سُبُلٌ؛ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهَا"، ثم قرأ هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] (¬1). وروى عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن قتادة رحمه الله تعالى: أنه قرأ الآية وقال: اعلم أنما السبيل سبيل واحد جِماعُهُ الهدى، ومصيرها الجنة، وأن إبليس شرع سبلاً متفرقة جِماعُها الضلال، ومصيرها النار (¬2). وإنما كانت طرق الشَّيطان متعددة لأنه يَهيم في كل واد فلا يبالي في أي واد من أودية النار ألقى أتباعه؛ فإن مراده إضلال العبد بأي طريق أمكنه ذلك - سواء عبد نفس الشيطان، أو عبد صنماً، أو نجماً، أو درهمًا، أو ديناراً، أو غير ذلك ما دام لم يعبد الله وحده. فأمَّا طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموصل إلى الله تعالى وإنه - وإن تعددت شعبه - فهو طريق واحد؛ لأن كل من سلك شعبة من شعب ¬
الإيمان فهو في طريق الله تعالى، ولا ينتهي إلى غير الله تعالى، فكان طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحداً لأنه لا ينتهي إلى غير مراد واحد، وهو الله تعالى. وأيضاً في تعدد طرق الشيطان إشارة إلى ضعف كيده كما قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]؛ فإن طرقه تخييلات وتزيينات، فتعددت ليغوي أتباعه تارة بهذا، وتارة بهذا، فيكون الشقي المخذول مأخوذاً بكيده لا محالة، وأمَّا السعيد الموفق - وإن تعددت طرق الشَّيطان - لا يضره، ولكن يكثر بسبب تعددها أجره لأنه يجاهد الشيطان من كل طريق يأتيه منه، فتزيد بذلك حسناته، وترتفع به درجاته. وقد روى الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه" عن سَبُرة - بفتح المهملة وضم الموحدة - بن فاكه رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ بِطُرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِيْنَكَ، وَدِيْنَ آبَائِكَ، وَآبَاءِ أَبِيْكَ؟ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الهِجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: تُهَاجِرُ وَتَدَع أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ المُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطّوَلِ؟ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فتقْتَلُ، فتنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ المَالُ؟ فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلكَ كانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ
يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَمَنْ وَقَصَتْهُ دَابَّهٌ كانَ حَقَّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّة" (¬1). ومعنى الحديث: أن العبد متى عصى الشَّيطان وأطاع الرَّحمن فلا يبالي بعد ذلك كيف انتهى أمره؛ فإنه لا ينتهي إلا إلى رحمة الله، ودار السلام، وأين هذا ممن كان سريعاً إلى إجابة الشيطان بطيئاً عن إجابة الرحمن؛ فإنه من بغضاء الله تعالى الحائرين في مَهامِهِ الخسران، كما روى أبو الشيخ في كتاب "التوبيخ"، وابن عساكر في كتاب "التاريخ"، عن الوَضِين بن عطاء رحمه الله تعالى مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَمَانِية أَبْغَضُ خَلِيْقَةِ اللهِ تَعَالَى إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ؛ السَّقَّارُونَ - وَهُمْ الْكَذَّابُونَ -، وَالْخَيَّالُونَ - وَهُمْ المُسْتَكْبِرُونَ -, وَالَّذِيْنَ يَكْنِزُونَ الْبَغْضَاءَ فِي صُدُورِهِم لإِخْوانِهِم، فَإِذَا لَقُوْهُم تَحَلَّفُوا لَهُم، وَالَّذِيْنَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولهِ كانُوا بُطآءَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى الشَّيْطَانِ وَأَمْرهِ كَانُوا سِرَاعًا، وَالَّذِيْنَ لا يَشْرُفُ لَهُم طَمَعٌ مِنَ الدُّنْيا إِلاَّ اسْتَحَلُّوهُ بِأَيْمَانِهِم، وَالمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيْمَةِ، وَالْمُفَرّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ العَنتَ؛ أُولَئِكَ يَقْذُرُهُم الرَّحْمَنُ" (¬2). وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراوي المصري في كتاب "البحر ¬
المورود فيما أخذ عليه من المواثيق والعهود" عن نفسه: أنه سمع مرة هاتفاً يقول: إن أردت أن لا تخرج من حضرتي فلا تتخلق بأخلاق أعدائي، وكن على أخلاق ملائكتي وأنبيائي وأوليائي؛ فمن تخلق بخلق واحد من أخلاق الشياطين أخرجته من حضرتي، ومن أخرجته من حضرتي سلطت عليه أعدائي. وروى ابن عدي، وغيره عن عمر - رضي الله عنه -: أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بُعِثْتُ دَاعِياً وَمُبَلِّغاً، وَلَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْهُدَى شَيْءٌ، وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مُزَيِّنًا وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الضَّلالِ شَيْءٌ" (¬1). وهذا الحديث فيه رد على القدرية، وفيه - وهو المقصود من ذكره هنا - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أنه إمام الأئمة الداعين إلى الهدى والجنَّة، فإن إبليس - لعنه الله - رأس الأئمة الدَّاعين إلى الضَّلالة والنَّار. *** ¬
فَصْلٌ وكما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما دعا إلى الهدى والصراط المستقيم حتى سلكه ودرج عليه عملاً بقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] , وليكون ذلك أَدعى للنَّاس للاتباع، وأَبعث لهم على سلوك الطريق الذي يدعو إليه؛ لأن من دُعي إلى طريق يطمئن قلبه إلى سلوكها إذا وجد الداعي قد سلكها ما لا يطمئن إليه قلبه لو وجد الدَّاعي غير دارج عليها ولا سالك فيها، ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فكذلك الشَّيطان ما أَمر بخصلة إلا كان قد نازلها وعمل بها ليكون ذلك أبلغ في الإغواء والاستزلال، ولأن بُرْقُعَ الحياء قد ارتفع عن الشَّيطان وزال. و"إن ممَّا أدركَ الناسُ مِنْ كلامِ النُّبوةِ الأُولى: إذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنع مَا شِئْتَ"، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن حذيفة. وهو والبخاري، وأبو داود، وابن ماجه عن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - (¬1). وبمقتضى ذلك فلا يعصي العبد بمعصية - قلَّت، أو جلَّت - إلا كان ¬
بها متشبهاً بالشيطان، إلا أنه إن استغفر نفعه الاستغفار، فإذا أصر على ذنبه ولم يستغفر فقد كمل تشبهه بالشَّيطان حينئذ؛ لأن الإصرار خلق اللعين، وقد قضى الله تعالى عليه بلزومه إلى يوم القيامة بدليل اللعنة المؤبدة له، كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 78]. ومن ثم لا شيء أقصم لظهر الشَّيطان من الاستغفار لأنه محروم منه، ومن بلوغ أمنيته من المؤمن بسببه لأن أمنيته من كل أولاد آدم أن يشاركوه في اللَّعنة والعذاب، وفي الاستغفار أمان من ذلك، كما قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]. وروى الإمام أحمد، وغيره، وصححه الحاكم، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتك يَا رَبِّ! لا أَزَالُ أُغْوي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِم، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: وَعِزتِي وَجَلالِيْ! لا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُم مَا اسْتَغْفَرُونِي" (¬1)؛ أي: زيادة في نكايتك أعطيهم ما أنت ممنوع منه - وهو المغفرة - إذا طلبوها مني لأنك أنت لم تطلبها، ولم ترغب فيها، فمنعتها منعاً مؤبداً. وقد يمن الله تعالى على بعض أولاد آدم بالمغفرة - وإن لم يطلبها - لأن طلبها في جِبِلَّتِه، والرغبة فيها من خليقته، فأمَّا من لم ¬
يطلب المغفرة إما إعراضاً عن طلبها بالكلية، وإما إيثاراً لهوى نفسه على طلبها كمن يعصي الله تعالى ويعاود إلى المعصية وهو يستغفره بلسانه، ولم يستوف أركان التوبة التي هي طريق طلب المغفرة، أو يصر على المعصية ويتطاول إلى المغفرة مجاناً مع ارتكاب ما يقتضي العذاب، فهذا بعيد عن المغفرة، أو ممنوع منها ما دام على هذه الحالة، فهو أشبه الخلق بإبليس حين يتطاول إلى رحمة الله تعالى يوم القيامة لما يرى من سعتها - كما ورد في الحديث - مع عدم رغبته فيها في الدنيا، وقعوده عن طلبها في وقت الطلب، وقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان بهذه الصفة عاجزاً أو أحمق، فقال: "الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوتِ، وَالْعَاجِزُ - وَفِي رِوَايَةٍ: وَالأَحْمَقُ - مَنْ أتبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَىْ اللهِ". رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم وصححاه، من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - (¬1). ثم لما كان مَنْ هذا وصفُهُ أشبهَ الخلق بالشيطان الرجيم، جمع بينهما في نار الجحيم. قال الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعر اء: 94 - 95]. ¬
روى عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهم عن قتادة رحمه الله تعالى في قوله: {وَالْغَاوُونَ}؛ قال: الشَّياطين (¬1). وروى ابن أبي حاتم، وغيره عن مجاهد رحمه الله تعالى في قوله: {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ}؛ قال: ذريته (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزُّهد"، وابنه في "زوائده" عن أبي عمران الجوني رحمه الله تعالى قال: إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى بكل جبَّار، وكل شيطان، وكل من كان يخاف النَّاس شره في الدُّنيا، فأوثقوا في الحديد، ئم أمر بهم إلى النَّار، ثم أوصدها عليهم - أي: أطبقها - قال: فلا - والله - لا تستقر أقدامهم على قرار أبداً، ولا - والله - لا تلقى جفونهم على غمض أبداً، ولا - والله - لا ينظرون إلى أديم السَّماء أبداً، ولا - والله - لا يذوقون فيها بارد شراب أبداً؛ قال: ثم يقول لأهل الجنة: فتحوا الأبواب، ولا تخافوا اليوم شيطاناً ولا جباراً، وكلوا اليوم واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية (¬3). فتأمل كيف جمع الله تعالى بين أهل الشَّر والشِّياطين، وإبليس رأسهم وقائدهم لما كان قائداً لهم في الدُّنيا إلى كل سوء. ¬
وقال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم: 68 - 70]. قال قتادة رحمه الله في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69]؛ قال: لننزعن من أهل كل دين قادتهم، ورؤوسهم في الشر (¬1). وقال أبو الأحوص رحمه الله تعالى في الآية: نبدأ بالأكابر فالأكابر جرماً (¬2). رواهما ابن أبي حاتم. وروى الثاني هو، والبيهقي في "البعث" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬3). فيبدأ بإبليس، ثم يلحق بالأشد عتياً، والأكبر جرماً، فالأشد، فقرب كل عاتٍ من الشَّيطان في العذاب على قدر عُتُوِّه في الدُّنيا؛ أي: على قدر طاعته للشيطان، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي: تغويهم إغواءً. وقال مجاهد رحمه الله تعالى: تشليهم إشلاءً. ¬
وقال قتادة رحمه الله تعالى: تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله. رواها ابن أبي حاتم (¬1). فاجتمع في النار المغوون والغاوون: المغوون: الشياطين. والغاوون: الطائعون لهم، العاملون بأعمالهم. وذكر الشهرستاني في كتاب "الملل والنحل": أن أول شبهة وقعت في البرية شبهة إبليس - لعنه الله تعالى -، ومصدرها أخذه بالرأي في مقابل النص، واختياره الهوى في معارضة الأمر، واستكباره بمادة النار التي خلق منها على مادة الطين التي خلق منها آدم عليه السلام، وتشعبت عن شبهته هذه سبع شبهات صارت في أذهان الناس حتى صارت مذاهب بدعة وضلال. وقد حكي أنه صارت بينه - لعنه الله - وبين الملائكة عليهم السلام مناظرة بعد أمره بالسجود، وامتناعه منه، فقال: سلمت أن الباري إلهي وإله الخلق، وأنه عالم قادر مريد مهما أراد شيئاً قال له: كن فيكون، وهو حكيم، إلا أنه يتوجه على سياق حكمته أسئلة. قالت الملائكة: ما هي؟ وكم؟ قال: سبعة: الأول منها: أنه علم قبل خلقي ما الذي يصدر عني فَلِمَ خلقني؟ ¬
وما الحكمة في خلقه إياي؟ الثاني: إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته فَلِمَ كلفني معرفته وطاعته؟ وما الحكمة في التكليف وهو لا ينتفع بطاعة، ولا يتضرر بمعصية؟ الثالث: كيف كلفني بمعرفته وطاعته وهو لا يريد ذلك مني؟ الرابع: ما الحكمة في أنه لما لم أسجد لآدم لعنني، وأخرجني من الجنة وأنا لم أرتكب قبيحاً إلا قولي: لا أسجد إلا لك؟ الخامس: حيث لعنني وطردني وأخرجني من الجنة فَلِمَ سلطني على آدم حين دخلت الجنة ثانياً، وغررته في ذلك، ولو منعني من ذلك لاستراح مني آدم وبقي خالداً في الجنة؟ السادس: هب أن الخصومة كانت بيني وبين آدم فَلِمَ سلطني على ذريته حتى أراهم من حيث لا يروني، وتؤثر فيهم وسوستي، ولو خلقهم على الفطرة دون من يغتالهم عنها، فيعيشون طاهرين سميعين مطيعين كان أحرى بهم، وأليق بالحكمة؟ السابع: سلمت هذا كله، فَلِمَ إذ استمهلته أمهلني المدة الطويلة، ولو أهلكني في الحال استراح الخلق مني، ولم يبق في العالم شر، أليس بقاء العالم على نظام الخير خيراً من امتزاجه بالشر؟ فأوحى الله عز وجل إلى الملائكة عليهم السلام: قولوا له: إنك في تسليمك الأول أني إلهك، وإله الخلق غير صادق ولا مخلص؛ إذ لو
صدقت بألوهيتي ما احتكمت على حكمتي؛ فأنا الله الذي لا إله إلا أنا، لا أسأل عما أفعل وهم يُسألون. قال الشهرستاني: وكنت بُرْهة من الزمان أتفكر، وأقول: من المعلوم الذي لا مراء فيه أن كل شبهة وقعت فهي من هذه الشبهات السبع لإبليس ... إلى أن قال: فاللعين الأول لما حكم العقل على من لم يحكم عليه العقل لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق، وحكم الخلق على الخالق؛ فالأول غلو، والثاني تقصير. قال: فبان من هذه الشبهة الأولى مذاهب الحلول، والتناسخية، والمشبهة، والغلاة من الرافضة حيث غلوا في شخص من الأشخاص حتى وصفوه بصفات الجلال. وثار من الشبهة الثانية مذاهب القدرية، والجبرية، والْمُجَسِّمة. قال: فالمعتزلة مشبهة الأفعال، والمشبهة: حلولية الصفات، وكل واحد منهم أعور بأي عينيه شاء. قال: وسنح للقدرية طلب العلة في كل شيء فذلك ما سنح للَّعين الأول؛ إذ طلب العلة في الخلق، ثم في التكليف، ثم في تكليف السجود لآدم، وعنه نشأ مذهب الخوارج؛ إذ لا فرق بين قولهم: لا حكم إلا لله، ولا حكم للرجال، وبين قوله: لا أسجد إلا لك، أأسجد لمن خلقت من صلصال، انتهى (¬1)، وفيه تلخيصٌ. ¬
1 - فمنها: الكفر بكل أنواعه
وصدَقَ - رحمه الله -؛ فإن كل شبهة من شبهات إبليس فإنها مشابهة لشبهة فرقة من الفرق الهالكة، وكيف لا وهو الذي استزلهم حتى وقعوا في الشبهة والبدعة، فهو إمامهم في ذلك كله، وسابقهم إليه وباعثهم عليه؟ وفي "الحلية" لأبي نعيم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما موقوفاً قال: إن إبليس موثق بالأرض السفلى، فإذا تحرك كان كل شر على الأرض بين اثنين فصاعداً من تحركه (¬1). فبان بذلك أن كل خصلة قبيحة وخلق سيئ ناشئ عن الشَّيطان، وكل من تلبس بشيء من ذلك فهو متشبه بالشيطان، غير أنا أردنا أن نذكر هنا جملة مما ورد النص بالنهي عن التشبه به فيه، أو بنسبته إليه من الأخلاق والأعمال تنفيراً منها، وإرشاداً إلى التنزه عنها. 1 - فمنها: الكفر بكل أنواعه: قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102]. وقال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]. قال العلماء: كفر إبليس إنما كان من حيث نسبة الله تعالى إلى الظلم، واستقباح ما أمره به من السجود لآدم، كما قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61]. وهل كان كفر اللعين عناداً، أو جهلاً؟ ¬
قولان، ولا خلاف أنه كان قبل السجود من العلماء. فمن قال بالأول يقول: كفر وعلمه معه عناداً، وهو أبلغ في الإثم. ومن قال بالثاني قال: سلبه الله تعالى العلم عند الإباء والاستكبار، وهو أبلغ في النكال والمكر، نسأل الله العافية. ومن أشنع ما وقع من كفر إبليس دعواه الألوهية. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29]. قوله {مِنْهُمْ}؛ أي: من الملائكة. وقوله {مِنْ دُونِهِ}؛ أي من دون الله. قال قتادة رحمه الله تعالى في الآية: إنما كانت هذه خاصة لإبليس. رواه عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). وقال الضَّحَّاك رحمه الله تعالى: ولم يقل ذلك من الملائكة أحد إلا إبليس؛ دعا إلى عبادة نفسه، وشرع الكفر. رواه ابن أبي حاتم (¬2). وقوله: "شرع الكفر"؛ أي: ابتدأه، وسَنَّهُ، وفتح طريقه، فعليه إثم نفسه وإثم كفر كل كافر من غير أن ينقص من آثامهم شيء. ¬
تنبيه
وكذلك كل من سَنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة؛ بل الشيطان سَنَّ كل سنة سيئة. وقال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 60 - 62]. وعبادة الشيطان مجرد الميل إليه، والتعلق به على غير وجه الإعراض واللعن، وهي أعم من الطاعة والسجود له، والانقياد إليه، واتخاذه إلهاً - وإن كان هذا أشد أنواع العبادة - ألا ترى إلى قوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 62]؛ أي: تعقلون ما يمنعكم عن الميل إليه، وإلى ما يأمر به؛ فإنه لا يجر إلا إلى الضَّلال، وأنتم لا تجدون أحداً عبده وأطاعه إلا ضل. * تَنْبِيْهٌ: في قوله تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] إشارة إلى أنه قد يكون الاستكبار سبباً للعمى عن الحق، كما صار في إبليس على القول الثاني بأنه كان عالماً فسُلب العلم. ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146]. ثم الأرجح أن إبليس أول من كفر، بل أول من عصى. قال النيسابوري: ما كفر أحد قبل إبليس.
وروي: أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: أول من مات إبليس لأنه أول من عصاني (¬1). وقالت طائفة: كان تقدمه من الجن من كفر، فشبهه الله تعالى بهم في الكفر، وجعله منهم لَمَّا فعل فعلهم، فقال: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]. قلت: وفي هذا تقريرٌ لما حرَّرنا سابقاً من أن من تشبه بقوم فهو منهم. وفيه نكتة لطيفة، وهي أن الشيطان كان في كفره متشبهاً بكفرة الجن، فهو أول من تشبه بالكفار والفجار، كما أنه أول من امتنع من التشبه بالأخيار، وأول من منعه من ذلك الاستكبار، وأول من باء بسبب ذلك باللعن والعار والبوار. قال الله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 30 - 35]. وقد نقل الإمام الوالد في "تفسيره": أن المراد بقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50]: تشتبه أفعاله بأفعالهم؛ لأنه إن كان منهم حقيقة فإنه ¬
كان من الملائكة على قول ابن عباس وأكثر المفسرين كما نقله البغوي، وحكاه القرطبي - أيضاً - عن ابن مسعود، وابن جريح، وابن المسيب، وقتادة، وغيرهم؛ قال: وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعري، ورجحه الطبري (¬1). قلت: وروى ابن جرير، وابن عساكر عن ابن مسعود، وناس من الصحابة - رضي الله عنهم -: أن إبليس كان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خُزَّان الجنة (¬2). وعليه: فالجن الذي كان إبليس منهم غير الجن الذين هم أحد الثقلين، وبينهم فرق في الاشتقاق أيضاً؛ فالجن أحد الثقلين سموا جناً لتسترهم عن الناس، والجن الحي من الملائكة سموا جناً لأنهم خُزَّان الجنَّة. وهذا الذي ذكرناه هنا قول ثالث في قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50]. وروى عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة رحمه الله تعالى في الآية؛ قال: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم: الجن. قال: وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: ولو لم يكن ¬
من الملائكة لم يؤمر بالسجود (¬1). قلت: وهذا دليل واضح. وروى أبو الشيخ عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: لما لعن إبليس تغيرت صورته، فجزع لذلك، فَرَنَّ؛ فكل رنة في الدُّنيا إلى يوم القيامة فهي منها (¬2). وهنا فصلان ينبغي التنبه عليهما. ¬
الفَصْلُ الأَوَّلُ علم مما اختاره الشيخ الوالد في تفسير قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50]: أن الجن غير الشَّياطين، وهو ما عليه المحققون أن الجن خلقٌ على حِدَتِهم، خُلِقَ أبوهم - وهو الجان - من مارج من نار السَّموم كما قال تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15]. وقال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الجان أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر (¬1). وأما قوله تعالى حكايةً عن إبليس: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} [الأعراف: 12]، فالمراد أنه خلق من النار التي خلقت منها الملائكة، وهي النور. وقد وقعت تسمية النور ناراً - أيضاً - في قوله تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] الآية. ثم لما لعن إبليس وطرد صار له ذرية، كما قال تعالى: ¬
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50]؛ فذريته هم الشياطين، وهو أبو الشياطين. وأما قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]، وقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 4 - 6]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَبَا ذَرٍّ! تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ"، قال: قلت: يا رسول الله! وللإنس شياطين؟ قال: "نَعَمْ". رواه الإمام أحمد، والبيهقي في "الشعب" (¬1). فالمراد بشياطين الجن والإنس من كان من الثقلين على قدم الشيطان. سُمُّوا شياطين لتلبسهم بأخلاق الشيطان. فأعتى الشياطين إبليس - وهو المراد بالشيطان عند الإطلاق - ثم أعتاهم من كان من ذريته، ثم من كان من الجن، ثم من كان من الإنس. إلا أن من الناس من قال: إن شيطان الإنس أشد لأنه أبلغ في الاستزلال والإضلال؛ بسبب أن الجنس أميل إلى الجنس، فرب مستمال بشيطنة الإنسي ما لا يستمال بشيطنة الجني. ¬
والذي تلخص مما سبق - على القول الأصح -: أن آدم عليه السلام أبو البشر، وإبليس - لعنه الله - أبو الشياطين، والجان أبو الجن، ثم إن الجن والإنس هما الثقلان، وعليهما التكليف، ولهما ثواب الطاعة، وعليهما عقاب المعصية على الأصح. خلافاً لمن يقول: لا ثواب للجن إلا الخروج من النار، ثم يكونون تراباً، أو في رَبَض الجنة. وقيل: هم أصحاب الأعراف. وقيل غير ذلك. وعلى الأصح: فالجن منهم كافرون، ومنهم مسلمون، فالمسلمون لا يخلد عاصيهم في النار، ولا يدخل الجنة منهم الكفار، وقد نطق القرآن العظيم بأن نفراً من الجن صرفوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمعوا منه القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا، وصح الحديث، وأصله عند مسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثهم رسلاً إلى قومهم، وسألوه الزاد، فقال: "لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِيْ أَيْدِيْكُمْ أَوْفَىْ ما يَكُوْنُ لَحْماً، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوابِّكُمْ". قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا؛ فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمُ الْجِنِّ" (¬1). وروى الإمام الشافعي، والبيهقي: أن رجلاً من الأنصار خرج يصلي العشاء، فَسَبَتْهُ الجن، وقعد أعواماً، وتزوجت امرأته، ثم أتى المدينة، ¬
فسأله عمر رضي الله تعالى عنه، فقال: اختطفتني الجن، فلبثت فيهم زماناً طويلاً، فغزاهم جن مؤمنون، وقاتلوهم، فأظهرهم الله تعالى عليهم، فَسَبَوْا منهم سبايا، وسَبَوْني معهم، فقالوا: نراك رجلاً مسلماً، ولا يحل لنا سباؤك، فخيروني بين المقام عندهم والقفول إلى أهلي، فاخترت أهلي، فأتوا بي المدينة، فقال له عمر: ما كان طعامهم؟ قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فما كان شرابهم؟ قال: الحذف (¬1)، وهو الرغوة؛ لأنها تحذف عن الماء، وقيل: كل إناء كشف عنه غطاؤه. ودلَّ هذا الخبر أن مطعوم كفار الجن ما لم يذكر اسم الله عليه، كما دل الذي قبله أن مطعوم مؤمنيهم ما ذكر اسم الله عليه، وهو تشرع منهم. ومَا دل عليه من سباء الجن للإنس دلَّ عليه ما رواه الإمام أحمد، والترمذي، وأبو يعلى بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدث ذات ليلة نساءه حديثاً، فقالت امرأة منهن: يا رسول الله! هذا حديث خرافة، قال: "أتدْرُوْنَ مَا خُرَافَةُ؟ إِنَّ خُرَافَةَ كانَ رَجَلاً مِنْ بَنِي عَذْرَةَ أَسْرَتْهُ الْجِنُّ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَكَثَ فِيْهِمْ دَهْرًا، ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى النَّاسِ، فَكَانَ يُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا رَأى فِيْهِم مِنَ الأَعَاجِيْبِ، فَقَالَ النَّاسُ: حَدِيْثُ خُرَافَةَ" (¬2). ¬
قال ابن الأثير: ويروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خُرَافَةُ حَقٌّ" (¬1)؛ أي: حديثه. وقد نطق القرآن العظيم أن من الجن صالحين - كما تقدمت الإشارة إلى ذلك - وهم إخوان المؤمنين من الإنس، وكذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في العظم والبعر: "فَإِنَّهُما طَعامُ إِخْوانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ" (¬2) - كما تقدم - وقال في الطاعون: " [وخز] أَعْدائِكُمْ مِنَ الْجِن" (¬3)، فسماهم أعداء لأن المؤمنين من الجن لا يطعنون المؤمنين من الإنس، وأما ما اشتهر على الألسنة: "وَخْزُ إِخْوانِكُمْ" فإنه لفظ منكر لم ترد به الرواية، كما نبه عليه ابن حجر في "بذل الماعون" (¬4). وبذلك يتضح أن إخبار الأنصاري عن طعام الجن أنه كل ما لم يذكر اسم الله عليه أراد به الإخبار عن الجن الكفار الذين سبَوه أولاً، فلا تعارض بينه وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ" لأنه في مقام الدعوة والتكليف لمؤمنيهم، ممَّا يدل على أن الجن متعبدون بشريعته - صلى الله عليه وسلم - كما نقل ابن عطية، وغيره الإجماع على ذلك، [ويدل عليه]: ما رواه الإمام أحمد، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي، وأبو نعيم كلاهما في "الدلائل" عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى ¬
عنهما قال: أول خبر قدم المدينة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع، فجاء في صورة طائر حتى وقع على حائط دارهم، فقالت له المرأة: انزل، قال: إنه بعث بمكة نبي منع منا القرار، وحرم علينا الزناء (¬1). وروى أبو نعيم في "الدلائل" عن تميم الداري رضي الله تعالى عنه قال: كنت بالشام حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرجت إلى بعض حاجتي، فأدركني الليل، فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي، فلما أخذت بمضجعي إذا أنا بمناد ينادي لا أراه: عُذْ بالله؛ فإن الجن لا تجير على الله أحداً، قلت: ويم الله! ما تقول؟ قال: قد خرج الأمين رسول الله، وصلينا خلفه بالحجون، فأسلمنا، واتبعناه، وذهب كيد الجن، ورميت بالشهب، فانطلق إلى محمد رسول رب العالمين، فأَسْلِمْ. قال تميم: فلما أصبحت ذهبت إلى راهب فأخبرته الخبر، فقال: قد صدقوك؛ يخرج من الحرم، ومهاجره الحرم، وهو خير الأنبياء، فلا تُسْبَقْ إليه (¬2). وروى أبو سعد الخركوشي في "شرف المصطفى - صلى الله عليه وسلم -" عن الجعد ¬
ابن قيس المرادي قال: خرجنا أربعة أنفس نريد الحج في الجاهلية، فمررنا بواد من أودية اليمن، فلما أقبل الليل استعذنا بعظيم الوادي، وعقلنا رواحلنا، فلمَّا هدأ الليل ونام أصحابي إذا هاتف من بعض أرجاء الوادي يقول: [من الطويل] أَلا أَيُّها الرَّكْبُ الْمُعَرِّسُ بَلِّغُوْا ... إِذا ما وَقَفْتُمْ بِالْحَطِيْمِ وَزَمْزَما مُحَمَّدًا الْمَبْعُوْثَ مِنَّا تَحِيَّةً ... تُشَيِّعُهُ مِنْ حَيْثُ سارَ وَيَمَّما وَقُوْلُوا لَهُ إِنَّا لِدِيْنِكَ شِيْعَةٌ ... بِذَلِكَ أَوْصانا الْمَسِيْحُ بْنُ مَرْيَما (¬1) ومن أشهر ما في هذا الباب قصة سواد بن قارب رضي الله تعالى عنه، وقد أخرجها البخاري في "تاريخه" والطبراني عن سعيد بن جبير، عن سواد، والحسن بن سفيان في "مسنده" عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: دخل سواد بن قارب على عمر رضي الله تعالى عنه. وهو وأبو يعلى، والحاكم، والطبراني، والبيهقي عن محمد بن كعب قال: دخل سواد بن قارب رضي الله تعالى عنه على عمر رضي الله تعالى عنه. والبيهقي عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال لسواد بن قارب رضي الله تعالى عنه: حَدِّثْنا ببدء إسلامك، قال: كان لي رَئي من الجن، فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ جائني فقال: قم، وافهم، واعقل إن كنت تعقل؛ قد بعث ¬
رسول من لؤي بن غالب، ثم أنشأ يقول: [من السريع] عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَأَنْحاسِها ... وَشَدِّها الْعِيْسَ بِأَحْلاسِها تَهْوِيْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِيْ الْهُدَىْ ... ما مُؤْمِنُوْها مِثْلُ أَرْجاسِها فَانْهَضْ إِلَىْ الصَّفْوَةِ مِنْ هاشِمٍ ... وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَىْ راسِها ثم أنبهني، وأفزعني، وقال: يا سواد بن قارب! إن الله تعالى بحث نبياً، فانهض إليه تَهْتَدِ وترشد، فلما كانت الليلة الثانية أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول: [من السريع] عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَطْلابِها ... وَشَدِّها الْعِيْسَ بِأَقْتابِها تَهْوِيْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِيْ الْهُدَىْ ... لَيْسَ قُداماها كَأَذْنابِها فَانْهَضْ إِلَىْ الصَّفْوَةِ مِنْ هاشِمٍ ... ما صادِقُ الْجِنِّ كَكَذَّابِها فلمَّا كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول: [من السريع] عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَخْبارِها ... وَشَدِّها الْعِيْسَ بِأَكْوارِها تَسْعَىْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِيْ الْهُدَىْ ... لَيْسَ ذَوُوْ الشَّرِّ كَأَخْيارِها فَانْهَضْ إِلَىْ الصَّفْوَةِ مِنْ هاشِمٍ ... ما مُؤْمِنُ الْجِنِّ كَكُفَّارِها قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة دخل في قلبي حب الإسلام، فانطلقت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأني قال: "مَرْحَبًا بِكَ يا سَوادُ بْنُ قارِبٍ، قَدْ عَلِمْنا ما جاءَ بِكَ"، قلت: يا رسول الله! قد قلت شعراً، فاسمعه مني، فقلت: [من الطويل]
أَتانِيْ رَئِيٌّ بَيْنَ لَيْلٍ وَهَجْعَةٍ ... وَلَمْ أَكُ فِيْما قَدْ بَلَوْتُ بِكاذِبِ ثَلاثَ لَيالٍ قَوْلُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ ... أَتاكَ رَسُوْلٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غالِبِ فَشَمَّرْتُ عَنْ ساقِيْ الإِزارَ وَوَسَّطَتْ ... بِيَ الذِّعْلِبُ الْوَجْناءُ بَيْنَ السَّباسِبِ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللهَ لا رَبَّ غَيْرُهُ ... وَأَنَّكَ مَأْمُوْنٌ عَلَىْ كُلِّ غائِبِ وَأَنَّكَ أَدْنَىْ الْمُرْسَلِيْنَ شَفاعَةً ... إِلَى اللهِ يا ابْنَ الأَكْرَمِيْنَ الأَطايِبِ فَمُرْنا بِما يَأتِيْكَ يا خَيْرَ مَنْ مَشَىْ ... وَإِنْ كانَ فِيْما جاءَ شَيْبُ الذَّوائِبِ وَكُنْ لِيْ شَفِيْعاً يَوْمَ لا ذُو شَفاعَةٍ ... سِواكَ بِمُغْنٍ عَنْ سَوادِ بْنِ قارِب (¬1) وروى الطبراني، وابن عساكر عن خريم بن فاتك رضي الله تعالى عنه قال: خرجت في طلب إبل لي، وكنا إذا نزلنا بواد قلنا: نعوذ بعزيز هذا الوادي، فتوسدت ناقة، وقلت: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فإذا هاتف يهتف وهو يقول: [من الرجز] ويحَكَ عُذْ بِاللهِ ذِيْ الْجَلالِ ... مُنَزِّلِ الْحَرامِ وَالْحَلالِ وَوَحِّدِ اللهَ وَلا تُبالِيْ ... ما كَيْدُ ذِيْ الْجِنِّ مِنَ الأَهْوالِ ¬
إِذْ يُذْكَرُ اللهُ عَلَىْ الأَمْيالِ ... وَفِيْ سُهُوْلِ الأَرْضِ وَالْجِبالِ وَصارَ كَيْدُ الْجِنِّ فِيْ سَفالِ ... إِلاَّ التُّقَىْ وَصالِحَ الأَعْمالِ فقلت له: يا أَيُّها الْقائِلُ ما تَقُوْلُ ... أَرَشَدٌ عَنْكَ أَمْ تَضْلِيْلُ فقال: هَذا رَسُوْلُ اللهِ ذُوْ الْخَيْراتِ ... جاءَ بِيَاسِيْنَ وَحامِيْماتِ وَسُوَرٍ بَعْدُ مُفَصَّلاتِ ... يَأْمُرُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَيَزْجُرُ الأَقْوامَ عَنْ هِنَاتَ ... قَدْ كُنَّ فِيْ الأَيَّامِ مُنْكَراتِ فقلت له: من أنت؟ قال: مالك بن مالك الجني، بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جن نجد، فقلت: أما لو كان لي من يؤدي إبلي هذه إلى أهلي لأتيته حتى أسلم، قال: أنا أؤديها، فركبت بعيراً منها، ثم قدمت فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فلما رآني قال: "ما فَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِيْ ضَمِنَ لَكَ أَنْ يُؤَدِّيَ إِبِلَكَ؟ أَما إِنَّهُ قَدْ أَدَّاها" (¬1). وذكر ابن خميس في "مناقب الأبرار"، والدميري في "حياة الحيوان" عن الجنيد رحمه الله تعالى قال: سمعت سرياً السقطي رحمه الله تعالى يقول: كنت مرة في البادية فأواني الليل إلى جبل لا أنيس فيه، فلما تهور ¬
الليل ناداني مناد، فقال: لا تدور القلوب في الغيوب حتى تذوب النفوس من مخافة فوت المحبوب، فعجبت، فقلت: أَجِنِّيٌّ أنت أم إِنْسِيٌّ؟ فقال: بل جني يؤمن بالله سبحانه، ومعي إخواني، فقلت: وهل ما عندك عندهم؟ قال: وزيادة. قال: فناداني الثاني منهم، فقال: لا تذهب من البدن الفترة إلا بدوام الفكرة، قال: فقلت: ما أنفعَ كلامَ هؤلاء، فناداني الثالث، فقال: من أَنِسَ به في الظلام نشر له غداً الأعلام، قال: فصعقت، فلما أفقت فإذا أنا بنرجسة، فشممتها، فذهب ما كان بي من الوحشة، واعتراني الأُنس، فقلت: وصية - رحمكم الله تعالى -، فقالوا: إِيْ؛ أبى الله أن يحيي بذكره، ويأنس به إلا قلوب المتقين، فمن طمع في غير ذلك فقد طمع في غير مطمع، ومن اتبع طبيباً مريضاً دامت علته، ومن اتبع الدليل الحائر رجع وهو كليل. قال: وودعوني، ومضوا، وقد أتى عليَّ حينٌ وأنا أرى برد كلامهم في خاطري. وفي رواية: فلا أزال أرى بركات كلامهم في خاطري (¬1). وذكر ابن خميس عن أبي سعيد الخزاز رحمه الله تعالى قال: بقيت إحدى عشرة سنة أتردد من مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكة أريد أن أحج حجة لا أرى فيها مكة، وأرى رب مكة، فما صح لي منه نفس، فلمَّا كان بعد إحدى عشرة سنة أنا راجع من المدينة إلى ¬
مكة تراءى لي بعض الجن، فقال: يا أبا سعيد! قد - والله - رحمتك من كثرة ترددك في هذا، وقد حضرني شيء فيك، فاسمعه، فقلت: هات، فانشأ يقول: [من الطويل] أَتِيْهُ فَلا أَدْرِيْ مِنَ التِّيْهِ مَنْ أَنا ... سِوَىْ ما يَقُوْلُ النَّاسُ فِيَّ وَفِيْ جِنْسِيْ أَتِيْهُ عَلَىْ جِنِّ الْبِلادِ وَإِنْسِها ... فَإِنْ لَمْ أَجِدْ خَلْقاً أَتِيْهُ عَلَىْ نَفْسِيْ قال أبو سعيد: فقلت له: اسمع يا من لا يحسن أن يقول إن كنت تحسن أن تسمع، وقلت: [من الطويل] أَيا مَنْ يَرَىْ الأَسْبابَ أَعْلا وُجُوْدِهِ ... وَيَفْرَحُ بِالتِّيْهِ الدَّنِيِّ وَبِالإِنْسِ فَلَوْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْعُلُوِّ لَغِبْتَ عَنْ ... مُباشَرَةِ الأَفْلاكِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِي وَكُنْتَ بِلا حالٍ مَعَ اللهِ واقِفاً ... تُصانُ عَنِ التِّذْكارِ لِلْجِنِّ وَالإِنْسِ في أبيات أخرى (¬1). ¬
وذكر الأستاذ أبو القاسم القشيري هذه القصة على خلاف هذا الوجه. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت" عن طارق بن شهاب قال: بعث سليمان بن داود عليهما السلام بعض عفاريته، وبعث نفراً ينظرون ما يقول، ويخبرونه، فأخبروه أنه على السوق، قال: فرفع رأسه إلى السماء، ثم نظر إلى الناس، وهز رأسه، فسأله سليمان: لِمَ فعل ذلك؟ قال: عجبت من الملائكة على رؤوس الناس ما يكتبون، ومن الذين أسفل منهم ما أسرع ما يملون (¬1). فهذه الآثار ونظائرها تدل على أن في الجن أخياراً، وأبراراً، وعارفين، ومقربين، وحكماء، ومكاشفين، وأن لهم مناصحات لأخيار بني آدم، ومكاشفات. والنظر الآن في أنه هل يشرع التشبه بهم، أو لا؟ احتمالان. وقد يستدل للأول بما رواه الترمذي، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الدلائل"، وغيرهم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: "مَا لِيَ أَرَاكُمْ سُكُوتاً؟ لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا، مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلهِ تَعَالَى: ¬
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] قَالُوا: وَلا بِشَيْءٍ مِنْ آلائِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ" (¬1). وروى البزار، والدارقطني في "الأفراد"، والخطيب في "التاريخ" بسند صحيح، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة الرحمن على أصحابه، فسكتوا، فقال: "مَا لِيْ أَسْمَعُ الْجِنَّ أَحْسَنَ جَوَابًا مِنْكُم؟ مَا أتَيْتُ عَلَى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] إِلاَّ قَالُوا: وَلا بِشَيءٍ مِنْ آلائِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ" (¬2). والذي يترجح عندي الاحتمال الثاني؛ لأن في التشبه بالصالحين من البشر غنية عن التشبه بهم، ولأنهم مستورون عنا، ولذلك سموا جناً - كما علمت - فلا يتحقق الأخذ عنهم. ومن ثم أفتى شيخ الإسلام الوالد رحمه الله تعالى بأن الجماعة لو تمت أربعين بِجِنِّيٍّ لا تصح الجمعة لعدم تحققنا الذكورة فيه، والحرية، والحضور، والصحة - وإن كان التكليف يعم الفريقين - كما احتج به القمولي في إجازته لنكاح الجنية، واختاره شيخ الإسلام ¬
الجد، ومنعه العماد بن يونس وغيره جاعلين اختلاف الجنسيَّة من موانع النكاح لقوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72]، ومشى عليه شيخ الإسلام الوالد، وهو المعتمد، ونص على ذلك جماعة من الحنابلة، وبعض الحنفية. وحكم تزويج المرأة الإنسية الجني كذلك، وفيه محذور آخر لأنه يفتح باب البغي على النساء - خصوصاً من لا ولي لها - حتى لو حملت لقالت: إن زوجي جني. وأما ما رواه ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَدُ أَبَوَيْ بَلْقِيسَ كَانَ جِنِّيًّا" (¬1)، فلا حجة فيه - إن صح الحديث - لأنهم كانوا كفاراً يعبدون الشمس. ولو كان ذلك جائزاً في شرع بعض الأنبياء عليهم السلام لقلنا: إنه منسوخ بشرعنا، أو: ليس بشرع لنا. ولا كلام في أنه لا يجوز التشبه بكفرة الجن، ولا بفسقتهم، وقد علمت أن الله تعالى ذم إبليس بتشبهه بالجن الذين كانوا قبل خلق آدم في الأرض، فعتوا وكفروا على أحد القولين في قوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]، وفي قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50]. ويلوح لي في هذه الآية أنها واردة على طريقة العرب في قولهم ¬
2 - ومن أعمال فجرة الجن: مسيس بني آدم بالصرع، والقتل، والأمراض، وغير ذلك.
إذا وصفوا أحداً بالشر، أو بالمكر، ودقة الحيلة، وسرعة الحركة، أو نحو ذلك: إن فلاناً من الجن، وكان من الجن. 2 - ومن أعمال فجرة الجن: مسيس بني آدم بالصرع، والقتل، والأمراض، وغير ذلك. وقد روى الإمام أحمد بأسانيد أحدها صحيح، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَنَاءُ أُمَّتِيْ بِالطَّعْنِ، وَالطَّاعُونِ"، فقيل: يا رسول الله! هذا الطعن عرفناه، فما الطاعون؟ قال: "وَخْزُ أَعْدَائِكُم مِنَ الجنِّ، وَفِيْ كُلٍّ شَهادَةٌ" (¬1). وروى أبو يعلى بإسناد حسن عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطِّاعُونِ"، فقيل: يا رسول الله! هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: "وَخْزَةٌ تُصِيْبُ أُمَّتِيْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْجِنِّ كَغُدَّةِ الْبَعِيْرِ؛ مَنْ أقَامَ عَلَيْهَا كانَ مُرَابِطًا، وَمَنْ أُصِيْبَ بِهِ كَانَ شَهِيْدًا، وَمَنْ فَرَّ مِنْهُ كانَ كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ" (¬2). واشتهر أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه قتلته الجن. ¬
قيل: إنه بال في سرب فقتلوه، وأنشدوا: [من مجزوء الرمل] نَحْنُ قتَلْنا سَيِّدَ الْـ ... خَزْرَجِ سَعْدَ بْنَ عُبادَةْ وَرَمَيْناهُ بسَهْمَيْـ ... ـــــــــنِ فَلَمْ يُخْطِ فُؤادَه ذكر ذلك الحافظ ابن عساكر وغيره (¬1). وقد رفع بعض فضلاء المغاربة إلى شيخ الإسلام الوالد سؤالاً منظوماً في حكم تطبيب الممسوس، وفي حقيقة الجن ومسهم، فقال: [من الرمل] يا إِمامَ الْعَصْرِ يا نَجْمَ الْهُدَىْ ... فِيْ سَماءِ الْعِلْمِ يا بَدْرَ الْعَمَلْ ما تَرَىْ فِيْ طِبِّ مَنْ طُبَّ وَمَنْ ... عَقْلُةُ مِنْ مَسِّ جِنٍّ مُخْتَبَلْ هَلْ تَراهُ سُنَّةً أَوْ واجِباً ... أَمْ حَراماً أَمْ عَلَىْ الْكُرْهِ اشْتَمَلْ وَالَّذِيْ قَدْ يَقَعُ النَّاسُ بِهِ ... هَلْ مُثابٌ أَمْ عَلَىْ الإِثْمِ حَصَلْ وَإِذا عالَجَ بِالرُّقْيَةِ أَوْ ... غَيْرِها مِمَّا إِلَيْكُمْ قَدْ وَصَلْ كَيْفَ أَصْلُ الْجِنِّ مَعْ خِلْقَتِهِمْ ... فَهْوَ نارٌ أَمْ عَنِ النَّارِ انتقَلْ وَإِذا هُمْ لِبَنِيْ آدَمَ هَلْ ... صَحَّ أَوْ ذا قَوْلُ زُوْرٍ مُفْتَعَلْ وَالَّذِيْ يُنْكِرُ وُجْدانهمُ ... هَلْ أَصابَ الْحَقَّ أَوْ عَنْهُ عَدَلْ فَتَصَدَّقْ بِجَوابٍ وَاغْتَنِمْ ... أَجْرَ عَبْدٍ ذِيْ افْتِقارٍ قَدْ سَأَلْ ¬
فأجابه الشيخ - رضي الله عنه - بقوله: أَحْمَدُ اللهَ عَلَىْ إِحْسانِهِ ... شاكِراً إِنْعامَهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَىْ الْمُخْتارِ مَعْ شِيْعَتِهِ ... صَلَواتٌ مَعْ سَلامٍ لَمْ يَزَلْ طِبُّ مَنْ طُبَّ وَمَنْ فِيْ عَقْلِهِ ... خَلَلٌ يُنْدَبُ حَيْثُ الْفِعْلُ حَلّ وَالرُّقَىْ بِالذِّكْرِ أَوْ ما قَدْ أَتَىْ ... نَقْلُهُ عَنْ سَلَفٍ نِعْمَ الْعَمَلْ صَحَّ فِيْ ذَلِكَ مِنْ أَخبارِها ... ذِيْ الْوَرَىْ وَالآلِ وَالصَّحْبِ جُمَلْ وَالَّذِيْ يَفْعَلُهُ مَعْ نِيَّةٍ ... صَلُحَتْ فَهْوَ مُثابٌ إِنْ فَعَلْ يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ بِالْعَقْدِ إِذا ... عَيَّنَ الْجُعْلَ إِذا الْفِعْلُ كَمَلْ فَعَنِ الْخُدْرِيِّ يُرْوَىْ أَنَّهُ ... مَعْ أَقْوامٍ عَلَىْ حَيٍّ نَزَلْ فَاسْتَضافُوْهُمْ فَشَحُّوْا ثُمَّ قَدْ ... لُدِغَ السَّيِّدُ مِنْ بَعْضِ الأَهَلْ فَاسْتَغاثُوْا لَهُمْ وَالْتَمَسُوْا ... رُقْيَةً تُذْهِبُ عَنْهُ ما حَصَلْ فَأَبَىْ إِلاَّ بِجُعْلٍ وَارْتَضَىْ ... عَنْ رُقاهُ بِقَطِيْعٍ لا أَقَل وَرَقَىْ الْخُدْرِيُّ بِالْفاتِحَةِ الْمَوْ ... ضعَ الْمَلْدُوغ مِنْهُ وَتَفَلْ فَاشْتَفَىْ الْمَلْدُوْغُ فَوْراً مِثْلَما ... مِنْ عِقالٍ يَنْشَطُ الَّذِيْ اعْتُقِلْ وَارْتَضَىْ الْهادِيْ بِذا قالَ اضْرِبُوْا ... لِيْ بِسَهْمٍ ثُمَّ مِنْهُ قَدْ أَكَلْ ثُمَّ أَصْلُ الْجِنِّ مِنْ نارٍ وَكَمْ ... جاءَ مِنْ نَصٍّ عَلَىْ ذا الأَمْرِ دَلّ وَهْوُ إِجْماعٌ كَما آدَمُ مِنْ ... طِيْنِ أَرْضٍ قَدْ عَلا لِما سَفَلْ
نُقِلُوْا مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ إِلَىْ ... عُنْصُرٍ آخَرَ عَنْها مُعْتَدَلْ مِثْلَما الإِنْسانُ مِنْ طِيْنِ إِلَىْ ... الْعُنْصُرِ الْمَعْهُوْدِ فِيْ الْخَلْقِ انتُقَلْ وَأَذاهُمْ لِبَنِيْ آدَمَ لا ... شَكَّ فِيْهِ وَكَثِيْراً ما قَتَلْ وَوُجُوْدُ الْجِنِّ إِجْماعٌ وَلَمْ ... تَلْقَ فِيْهِ مِنْ خِلافٍ في الْمِلَلْ وَالَّذِيْ يُنْكِرُ هَذا كُلَّهُ ... ذُوْ ابْتِداعٍ أَوْ جُنُوْنٍ أَوْ خَبَلْ وَهْوَ قَوْلٌ باطِلٌ قالَ بِهِ ... كُلُّ مَنْ ضَلَّ عَنِ الْحَقِّ وَزَلّ خُذْ جَواباً فائِقاً مُنْتَظَماً ... مِثْلَ دُرٍّ جاءَ مِنْ بَحْرِ الرَّمَلْ قالَهُ مُحَمَّدُ الْغَزِّيُّ وَالْـ ... ـــــــعامِرِيُّ الشَّافِعِيُّ بِالْعَجَلْ حامِدَ اللهِ عَلَىْ إِنْعامِهِ ... حَسْبُنا اللهُ عَلَيْهِ الْمُتَّكَلْ
الفَصْلُ الثَّاني الشياطين كلهم كفار لقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102]، والمراد إبليس وذريته. فأمَّا شياطين الجن والإنس فقد يكون منهم من ينقله الله تعالى من الشيطانية إلى الطاعة، فيوفقه إلى الإسلام بعد الكفر، وإلى التوبة بعد المعصية؛ فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. وقد يكون منهم من يدوم على الشيطنة إلى الممات، فيطبع الله على قلبه، ويكون شيطاناً رجيماً، ويحشر مع إبليس وجنوده. قال الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 94 - 95]. وقال - عز وجل -: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 68 - 69]. روي في تفسير الآية: أنه يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة،
ثم يحضرون حول جهنم مغلولين، ثم يقدم الأكفر فالأكفر فيلقى في النار. وقال مجاهد: يقدم الأعتى فالأعتى (¬1). وكذلك روي في تفسير قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]؛ أي: قرناءهم من الشياطين لأنهم نظراؤهم كزوجَي النعل والخف. ثم الكلام في الشياطين الذين هم من ذرية إبليس هل يسلم منهم أحد، أم لا؟ قولان. روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَمَعَهُ شَيْطَانٌ"، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: "وَأَنَا، إِلاَّ أَنَّ اللهَ أَعَاننَيْ عَلَيْهِ فَأَسْلَم" (¬2)؛ روي بفتح الميم؛ أي: فأسلمَ شيطاني، وهو المختار عند الأكثرين. وكان سفيان يروي الحديث: "فأسلمُ" - بضم الميم -؛ أي: فأنا أسلمُ منه، وكان يقول: إن الشيطان لا يُسلم (¬3). لكن يشهد للأول: ما رواه الإمام أحمد، ومسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، ¬
والطبراني عن المغيرة رضي الله تعالى عنه قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِيْنُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِيْنُهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ"، قالوا: وإياك؟ قال: "وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَاننِيْ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَمْ (¬1) يَأْمُرْنِيْ إِلاَّ بِخَيْرٍ" (¬2). وروى أبو نعيم، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "فُضِّلْتُ عَلَى آدَمَ بِخَصْلَتَيْنِ؛ كانَ شَيْطَانِيْ كَافِرًا فَأَعَانَنِيْ اللهُ عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ، وَكُنَّ أَزْوَاجِيْ عَوْنًا لِي عَلَى الطَّاعَةِ، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ عَوْنًا عَلَى خَطِيْئَتِهِ" (¬3). والحق أن هذه خصوصية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن شيطانه أسلم حقيقة كما جزم به السيوطي في "الخصائص"، والقسطلاني في "المواهب اللدنية" (¬4). ولا بدع أن يشذَّ عن الأبالسة واحد فيسلم كما شذَّ عن الملائكة واحد فكفر بالله تعالى، وهو إبليس على قول ابن عباس وغيره: أنه كان من الملائكة، كما تقدم. ولم أر أن أحداً من الشياطين أسلم غير شيطان النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا ما رواه أبو نعيم في "الدلائل" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كنت ¬
عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بظاهر المدينة إذ أقبل شيخ يتوكأ على عكاز، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهَا لَمِشْيَةُ جِنِّيٍّ"، ثم سلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهَا لَنَغْمَةُ جِنِّيٍّ". فقال: أجل يا رسول الله! أنا الهامة بن الهام بن لاقيس بن إبليس. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا أَرَى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ إِلاَّ أَبَوَيْنِ". قال: أجل يا رسول الله. قال: "كَمْ أتَى عَلَيْكَ مِنَ الْعُمُرِ؟ ". قال: أكلت عمر الدنيا إلا القليل، كنت ليالي قتل قابيل هابيل غلاماً ابن أعوام، وكنت أتسوف على الآكام، وأصطاد الهام، وأفسد الطعام، وأورش بين الأنام. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بِئْسَ الْعَمَلُ". فقال: يا رسول الله! دعني من العتب؛ فإني ممن آمن مع نوح عليه السلام، وعاتبته في دعوته، فبكى وأبكاني، وقال: إني والله لمن النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، ولقيت هوداً عليه السلام فعاتبته في دعوته، فبكى وأبكاني، وقال: إني لمن النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، ولقيت إبراهيم عليه السلام فآمنت به، وكنت بينه وبين الأرض إذ قذف به في المنجنيق، وكنت معه في النار إذ ألقي فيها، وكنت مع يوسف عليه السلام إذ ألقي في الجب، فسبقته إلى قعره، ولقيت موسى بن عمران عليه السلام
بالمكان الأيمن، وكنت مع عيسى بن مريم عليهما السلام فقال لي: إن لقيت محمداً - صلى الله عليه وسلم - فاقرأ عليه السلام. فقال النبي: - صلى الله عليه وسلم - "عَلَيْهِ السَّلامُ، وَعَلَيْكَ يَا هَامَّةُ، مَا حَاجَتَكَ؟ ". قال: إن موسى علمني التوراة، كان عيسى علمني الإنجيل، فعلمني القرآن. فعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينعه إلينا (¬1). وهذا الحديث رواه العقيلي، والبيهقي، وأبو نعيم - أيضاً - عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بنحوه، ولم يذكر فيه لقيه إبراهيم عليه السلام، وزاد فيه: وكنت زواراً ليعقوب عليه السلام، وكنت من يوسف عليه السلام بالمكان الأمين، وكنت ألقى إلياس عليه السلام بالأودية، وأنا ألقاه الآن، وإني لقيت موسى بن عمران عليه السلام فعلمني التوراة، وقال: إني لقيت عيسى بن مريم فأقرئه مني السلام. وذكر الحديث وزاد فيه: فعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وقعت، والمرسلات، وعم يتسألون، وإذا الشمس كورت، والمعوذتين، وقل هو الله أحد، وقال: "اِرْفَعْ إِلَيْنَا حَاجَتَكَ يَا هَامَّةُ، وَلا تَدَعْ زِيَارَتَنَا". فقال عمر رضي الله تعالى عنه: فقُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينعه ¬
تنبيه
إلينا، فلست أدري أحي هو أم ميت (¬1). * تَنْبِيْهٌ: ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة رضي الله عنها: "ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَلَهُ شَيْطانٌ" (¬2)، يدل على أنه لا بد لكل عبد من شيطان يقارنه. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "مكائد الشيطان" عن يونس بن يزيد الأيلي رحمه الله تعالى قال: بلغنا أنه يولد مع أبناء الإنس من أبناء الجن من ينشأ معهم ويعلمهم، ما سمعت من منكر (¬3). وأراد أولاد الشياطين، فعبر عنهم بالجن كأنه كان يرى أن الشياطين والجن جنس واحد. ولا يلزم أن لا يكون للعبد إلا شيطان واحد، فقد يكون له شياطين متعددة زيادة في ابتلائه. ويؤيد ذلك ما يأتي أن العبد لا يخرج حتى يفك عنها لحي سبعين شيطاناً، وما روي أن لكل عمل صالح شيطاناً موكلاً بالمنع من ذلك العمل كما ستعلم قريباً. ¬
وروى ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ عن مجاهد رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ} [الكهف: 50] قال: هم أولاده يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وهم أكثر عدداً (¬1). وروى ابن أبي حاتم، وغيره عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: بلغني أنه يجتمع على مؤمن واحد أكثر من ربيعة ومضر (¬2)؛ يعني: من الشياطين. وروى البيهقي في "الشعب"، وابن عساكر عن ثابت البناني رحمه الله تعالى قال: بلغني أن إبليس قال: يا رب! إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة، فسلطني على أولاده، قال: صدورهم مساكن لك، قال: رب! زدني، قال: لا يولد لآدم ولد إلا ولد لك عشرة، قال: رب! زدني, قال: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الإسراء: 64]. فشكى آدم إبليس إلى ربه قال: يا رب! إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاً، وسلطته علي، وأنا لا أطيقه إلا بك، قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء، قال: رب! زدني، قال: الحسنة بعشرة أمثالها، قال: رب! زدني، قال: لا أحجب عن ولدك التوبة ما لم يغرغر (¬3). ¬
وقال مجاهد رحمه الله تعالى: من ذرية إبليس لاقيس، وولهان؛ وهو صاحب الصلاة والطهارة، واللهفان، ومرَّة، وبه يكنَّى. وزلنبور؛ وهو صاحب الأسواق يزين اللغو، والحلف الباطل، ومدح السلعة. ونسوطاً صاحب الصخب والغضب. وثبر؛ وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه، ولطم الخدود، وشق الجيوب. والأعور؛ وهو صاحب الزنا، ينفخ في إحليل الرجل وعَجُز المرأة. ومطوس - وفي رواية: مسوط -؛ وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلاً. وداسم؛ وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم، ولم يذكر اسم الله، دخل معه، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. والأبيض؛ وهو الموكل بالأنبياء عليهم السلام، وهو الذي أضل بَرْصِيصا. وخنزب، وهو بالخاء المعجمة المفتوحة، والنون الساكنة، والزاي المفتوحة؛ وهو شيطان الصلاة. روى ذلك مفرقاً عن مجاهد، ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما (¬1). وقرأت بخط العلامة البرهان ابن الباعوني رحمه الله تعالى عن ¬
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أنه قال: من ذرية إبليس تسعة؛ زلنبور، ووثين، وأعوان، ولهفان، ومرة, ولقوس، والمسوط، وداسم، وولهان. أما زلنبور فهو صاحب الأسواق ينصب فيها رايته. وأما وثين فهو صاحب المصائب. وأما أعوان فهو صاحب أبواب السلطان؛ أي: المترددين إليه والملازمين له؛ عبر عنهم بالأبواب وأراد الأبواب حقيقة. وأما اللهفان فهو صاحب الشراب. وأمَّا مرة فهو صاحب المجوس. وأمَّا المسوط فهو صاحب الأخبار الزور يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلاً. وأمَّا داسم فهو صاحب البيوت، فإذا دخل الرجل منزله ولم يسم ولم يذكر الله، أوقع بينهم المنازعة حتى يقع الضرب، والطلاق، والخلع. وأما ولهان فهو يوسوس في الصدور في الصلاة والعبادات. وقال في "القاموس": والولهان شيطان يغري بكثرة صب الماء في الوضوء (¬1). وفي "القاموس" أيضاً: إن عمل زلنبور أن يفرق بين الرجل وأهله، ¬
ويبصر الرجل بعيوب أهله (¬1). وفيه: أن سوطاً - وهو على وزن السوط الذي يجلد به بدون لام التعريف - ولد لإبليس يغري على الغضب (¬2). وقال فيه: والأزب - أي: بالهمزة، والزاي، والموحدة المشددة - من أسماء الشياطين. ومنه حديث ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما: أنه وجد رجلاً طوله شبران، فاخذ السوط، فأتاه، فقال: من أنت؟ قال: أزب، قال: وما أزب؟ قال: رجل من الجن، فقلب السوط فوضعه في رأس أزب حتى باص (¬3)؛ أي: هرب، أو خفي واستتر. وقال فيه: والسرحوب - أي: بضم السين المهملة، وإسكان الراء، وضم الحاء المهملة، وبالموحدة - ابن آوى، أو شيطان أعمى يسكن البحر (¬4). وقال فيه: والزوبعة: اسم شيطان رئيس للجن، ومنه الإعصار زوبعة، وأم زوبعة، وأبو زوبعة يقال فيه: شيطان مارد (¬5). وذكر القرطبي عن شيخه عبد المعطي: أن شيطاناً يقال له ¬
البيضاوي يتمثل للفقراء الواصلين في الصيام، فإذا استحكم منهم الجوع وأضر بأدمغتهم، يكشف لهم عن سناء ونور حتى يملأ عليهم البيوت، فيظنون أنهم قد وصلوا، وأن ذلك من الله، وليس كما ظنوا (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ شِهَابًا اِسْمُ شَيْطَانٍ" (¬2). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن عروة بن الزبير، والشعبي مرسلاً قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحُبَابُ شَيْطَانٌ" (¬3). وروى ابن أبي شيبة، وأبو داود، وابن ماجه عن مسروق قال: لقيت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال: ما اسمك؟ قلت: مسروق بن الأجدع، قال: سمعت رسول الله هو يقول: أَجْدَعُ اسْمُ شَيْطَانٍ؛ أنت مسروق بن عبد الرحمن (¬4). وذكر بعضهم: أن من ذرية إبليس صخراً، وهو الذي انتزع خاتم سليمان بن داود عليهما السلام؛ وهذا رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬5). ¬
وروى هو عن قتادة رحمه الله تعالى: أنه مارد يقال له: أسيد. وعن السدي: أنه شيطان اسمه حبقيق (¬1). وروى عبد الرزاق عن مجاهد: أن اسمه آصف (¬2)، وهو غير آصف بن برخيا الذي عنده علم الكتاب، وهو ابن خالة سليمان عليه السلام، ووزيره من الإنس. قلت: ولعله تصحيف. ويؤيده ما رواه ابن جرير عن مجاهد نفسه: أن اسمه - أعني: الشيطان الذي انتزع خاتم سليمان - آصِر (¬3) - بالراء -، وهو محبوس في البحر. وروى ابن أبي حاتم عن نوف البكالي: أن الشيطان الذي مس أيوب عليه السلام يقال له: سوط (¬4). وقال مجاهد رحمه الله تعالى: عطس ابن لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال: أب، أو: أشهب، [فقال ابن عمر]: لا تقل أب أو أشهب؛ فإنه اسم شيطان. وقال إبراهيم رحمه الله تعالى؛ إن شيطاناً يسمى إهاب؛ فمن عطس ¬
فليخفض من صوته، ولا يقل: إهاب. نقلهما البغوي في "شرح السنة" (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن جحين الأكبر: أن رجلاً أتاه فقال: إني نذرت أن لا أكلم أخي، فقال: إن الشيطان ولد له ولد فسماه نذراً، وإنه من قطع ما أمر الله به أن يوصل فقد حلت عليه اللعنة (¬2). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن قتادة رحمه الله تعالى قال: إن لإبليس شيطاناً يقال له: قيقب يخمه أربعين سنة، فإذا دخل الغلام في هذا الطريق - يعني: طاعة الله - يقول له: دونك إنما كنت أخمك لمثل هذا، أجلب عليه، وافتنه (¬3). وروى الخطيب في "تاريخ بغداد" عن ابن المبارك رحمه الله تعالى قال: لا يقال: بغذاذ بالذال - يعني المعجمة -؛ فإن بغ شيطان، وذاذ عطية، ولكن يقول: بغداد وبغذاد كما تقول العرب (¬4). وفي "القاموس": إن الشيصبان قبيلة من الجن واسم الشيطان، انتهى (¬5). ¬
ويحتملها قول الشاعر: [من المتقارب] وَلِيْ صاحِبٌ مِنْ بَنِيْ الشَّيْصَبانِ ... فَطَوْراً أَقُوْلُ وَطَوْراً يَقُوْلْ وروى ابن أبي الدنيا في "المكائد"، والطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وُكِّلَ بِالْمُؤْمِنِ مِئَةٌ وَستُّونَ (¬1) مَلَكًا يَذبُّونَ عَنْهُ مَا لَمْ يُقَدَّرْ عَلَيْهِ؛ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْبَصَرِ سَبْعَةُ أَمْلاكٍ يَذبُّوْنَ عَنْهُ كَمَا يُذَبُّ عَنْ قَصْعَةِ الْعَسَلِ الذُّبَابُ فِيْ الْيَوْمِ الصَّائِفِ، وَمَا لَوْ بَدَا لَكَ لَرَأَيْتُمُوْهُ عَلَى كُلِّ سَهْلٍ وَجَبَلٍ؛ كُلُّهُم بَاسِطٌ يَدَيْهِ فَاغِرٌ فَاهُ، وَمَا لَو وُكِلَ الْعَبْدُ إِلَى نفسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لاخْتَطَفَتْهُ الشَّيَاطِيْنُ" (¬2). وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبِي - صلى الله عليه وسلم -: أنه لما نزل ليلة الإسراء إلى سماء الدنيا نظر أسفل منه، فإذا هو بريح وأصوات ودخان، فقال: "ما هَذَا يَا جِبْرِيْلُ؟ " فقال: "هذه شياطين يحومون على أعين بني آدم لئلا يتفكروا في ملكوت السموات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب" (¬3). وروى الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن وهب بن منبه ¬
رحمه الله تعالى قال: إن رجلاً من بني إسرائيل صام سبعين سبتاً يفطر في كل سبعة أيام، وهو يسأل الله تعالى أن يريه كيف تغوي الشياطين الناس، فلما طال عَلَيْه ذلك ولم يجب، فقال: لو اطلعت على خطيئتي وذنبي وما بيني وبين الله ربي لكان خيراً لي من هذا الأمر الذي طلبته، فأرسل الله تعالى ملكاً فقال له: إن الله أرسلني إليك وهو يقول لك: إن كلامك هذا الذي تكلمت به أعجب إليَّ مما مضى من عبادتك، وقد فتح الله بصرك فانظر، فإذا جنود إبليس قد أحاطت بالأرض، وإذا ليس أحد من الناس إلا وحوله الشياطين مثل الذباب، فقال: أي رب! من ينجو من هذا؟ قال: الوادع اللين (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: إن آدم عليه السلام لما أهبط قال: رب! هذا العبد الذي جعلت بيني وبينه عداوة ألا تعينني عليه؟ لا أقوى عليه، قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به ملكاً، قال: ربي! زدني، قال: أجزي بالسيئة سيئة، وبالحسنة عشراً إلى ما أريد، قال: ربي! زدني، قال: باب التوبة مفتوح ما دام في الجسد الروح. قال إبليس: يا رب! هذا العبد الذي كرمته ألا تعينني عليه؟ لا أقوى، قال: لا يولد له ولد إلا ولد لك ولد، قال: ربي! زدني، قال: تجري منه مجرى الدم، وتتخذون صدورهم بيوتاً، قال: ربي! زدني، ¬
تتمة
قال: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} إلى قوله: {غُرُورًا} [الإسراء: 64] (¬1). * تَتِمَّةٌ: سبق أن إبليس كنيته أبو مرة، وهذا مشهور عند الناس. وروى عبد بن حميد عن سفيان رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ} [الأعراف: 190] , قال: أشركاه في الاسم، قال: وكنية إبليس أبو كدوس (¬2). 3 - ومن أخلاق الشيطان - لعنه الله تعالى - الدعاء إلى الكفر، بل هو أشد من الكفر. قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]. ذكر البغوي، والقرطبي، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه قال في هذه الآية: كان راهب في الفترة يقال له: برصيصا قد تعبد في صومعته سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين حتى أعيا إبليس، فجمع إبليس مردة الشياطين، فقال: لا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض - وهو صاحب الأنبياء، وهو الذي قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي، فجاءه جبريل عليه ¬
السلام فدخل بينهما، ثم دفعه بيده حتى وقع بأقصى الهند، فذكر قوله تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20]، فقال: أنا أكفيكه. فانطلق، فتزيا بزي الرهبان، وحلق وسط رأسه حتى أتى صومعة برصيصا، فناداه، فلم يجبه، وكان لا ينفتل من صلاته إلا في كل عشرة أيام يوماً، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام، وكان يواصل العشرة أيام، والعشرين، والأكثر، فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا من صلاته رأى الأبيض قائماً يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فندم حيث لم يجبه، فقال: ما حاجتك؟ قال: أن أكون معك فأتأدب بآدابك، وأقتبس من علمك، ونجتمع على العبادة، فقال: إني في شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض كذلك على الصلاة، فلمَّا رأى برصيصا شدة اجتهاده قال: ما حاجتك؟ قال: أن أرتفع إليك، فأذن له، فأقام الأبيض معه حولاً لا يفطر إلا في كل أربعين يوماً، وربما مد إلى الثمانين، فلمَّا رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه، ثم قال الأبيض: عندي دعوات يشفي الله بها السقيم والمبتلى والمجنون، فعلمه إياها، ثم جاء إبليس فقال: قد - والله - أهلكت الرجل. ثم تعرض لرجل فخنقه، ثم قال لأهله - وقد تصور في صورة الآدميين -: إن بصاحبكم جنوناً أفاطبه؟ قالوا: نعم، قال: لا أقدر على جنيته، ولكن اذهبوا إلى برصيصا؛ فإن عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أُعطي، وإذا دعى به أجاب، فجاؤوه، فدعا بتلك
الكلمات، فذهب عنه الشيطان، ثم جعل الأبيض يفعل ذلك بالناس، ويرشدهم إلى برصيصا فيعافون، فانطلق إلى جارية من بنات الملوك بين ثلاثة أخوة، وكان أبوهم ملكاً فمات، واستخلف أخاه، وكان عمها ملكاً في بني إسرائيل، فعذبها وخنقها، ثم جاء إليهم في صفة رجل متطبب ليعالجها، فقال: إن شيطانها مارد لا يطاق، ولكن اذهبوا إلى برصيصا، فدعوها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها فبرأت، فقالوا: لا يجيبنا إلى هذا، قال: فابنوا صومعة إلى جانب صومعته، ثم ضعوها فيها، وقولوا: هي أمانة عندك، فاحْتَسِب فيها، فسألوه ذلك، فأبى، فبنوا صومعة ووضعوا فيها الجارية، فلما انفتل من صلاته عاين الجارية وما بها من الجمال، فوقعت في قلبه وأسقط في يديه، فجاءها الشيطان وخنقها، فدعا بتلك الكلمات، فذهب عنها الشيطان، فلما أقبل على صلاته عاد إليها الشيطان، وكان يكشف عنها ويتعرض لبرصيصا، ثم جاءه الشيطان وقال: ويحك! واقعها فما تجد مثلها، ثم تتوب بعد ذلك، فلم يزل به حتى واقعها فحملت، وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويلك! قد افتضحت فهل لك أن تقتلها ثم تتوب ولا تفتضح، فإن جاؤوك وسألوك فقل: جاءها شيطانها فذهب بها، فقتلها برصيصا، ودفنها ليلاً، فأخذ الشيطان طرف ثوبها حتى بقي خارجاً من التراب، ورجع برصيصا إلى صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم فلم يجدوها، فقالوا: يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها، ولم أطقه، فصدقوه، فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إليهم في منامهم، فقال لكل من إخوتها:
إن برصيصا فعل بأختكم كذا وكذا، وقتلها، ودفنها في جبل كذا، فقالوا: هذا حلم، فتتابع عليهم ثلاث ليال، فانطلقوا إليه، وقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ فقال: أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم اتهمتموني؟ فقالوا: لا - والله - لا نتهمك، واستحيوا منه وانصرفوا، فجاءهم الشيطان وقال: ويحكم! إنها المدفونة في موضع كذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب، فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوه في المنام، فمشوا وغلمانهم معهم المساحي والفؤوس فهدموا صومعة برصيصا، وأنزلوه منها، ثم ذهبوا به إلى الملك، فأقر على نفسه، فأمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض فقال: يا برصيصا! أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الكلمات فاستجيبَ لك، أما اتقيت الله في أمانة خنت أهلها؟ وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل، أما استحييت؟ فما زال يعيره ويعنفه حتى قال في آخر ذلك: ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك، وفضحت نفسك وأشباهك من الناس؛ فإن مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك، قال: فكيف أصنع؟ فقال: تطيعني في خصلة واحدة حتى أخلصك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم، وأخرجك من مكانك، قال: وما هي؟ قال: تسجد لي، قال: أفعل، فلما سجد له قال: يا برصيصا! هذا الذي أردت منك؛ صار عاقبة أمرك أن كفرت بربك، إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين (¬1). ¬
4 - ومن أخلاق الشيطان الرجيم: نية السوء، وإضماره للعباد.
قلت: وقد اشتملت هذه القصة على أمور كثيرة من مخازي الشيطان، فينبغي للعبد أن لا يتشبه به في شيء منها. فمن جملتها: التزيي بزي الصالحين ظاهراً مع امتلاء القلب بالكفر، والغش، والمكر، والاستهزاء بالطاعة، والسخرية بالمصلين والمتعبدين، وإكذاب الناس بغير حق، وانتهاك الحرم، والجناية على عرض ذوي الأعراض، والتشبع بما ليس في الملك، وبث الغش في صورة النصيحة، وكشف عورات الناس، والنميمة بهم وعليهم وإليهم، والسعاية إلى الحكام، وغير ذلك، نسأل الله العافية. 4 - ومن أخلاق الشيطان الرجيم: نية السوء، وإضماره للعباد. روى أبو نعيم، ومن طريقه ابن الجوزي عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني رحمه الله تعالى يقول: ما أتى من أتى إبليس وقارون وبلعام إلا أن أصل نياتهم على غش، فرجعوا إلى الغش الذي في قلوبهم، والله أكرم من أن يمن على عبد بصدق ثم يسلبه إياه (¬1). 5 - ومنها - وهو أخصها وأجمعها -: الإغراء، والأمر بالمعاصي. قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]. ¬
6 - ومنها: الاستزلال، والتغرير.
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 169]. وقال تعالى حكاية عنه: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39 - 40]، وهذه الآية تدل على أن الإخلاص من الحصون المانعة من كيد الشيطان. 6 - ومنها: الاستزلال، والتغرير. وقد علمت ما فعل الشيطان الأبيض مع برصيصا. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113]. قال القرطبي: اللام في: {لِتَصْغَى} لام كي، والعامل فيه: يوحي؛ تقديره: يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم، ولتصغى، انتهى (¬1). ومعنى الآية الكريمة على هذا - والله سبحانه وتعالى أعلم -: أن شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض بالشيء، ويأمره به كأنه ناصح له، وما يريده له، ولكنه يتكلم معه في سورة النصيحة ليغر السامع بكلامه، ويصغي السامع إليه فيستحسنه، ويرضى به، ويفعله، ¬
فمن فعل من هذه الأفعال فهو متشبه بالشيطان لا محالة، بل سماه الله تعالى في هذه الآية شيطاناً. قال قتادة، ومجاهد، والحسن رحمهم الله تعالى: إن من الإنس شياطين (¬1). والشيطان: العاتي المتمرد من كل شيء. وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فجلست فقال: "يَا أَبَا ذَرٍّ! هَلْ صَلَّيْتَ؟ " فقلت: لا، قال: "قُمْ فَصَلِّ"، قال: فقمت وصلَّيت ثمَّ جلست، فقال: "يَا أَبَا ذَرٍّ! تَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِيْنِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ"، فقلت: يا رسول الله! وللإنس شياطين؟ قال: "نعمْ" (¬2). وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: شياطين الإنس أشد علي من شياطين الجن؛ وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، قال: وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً (¬3). وروى أبو نعيم عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان - يعني: الداراني رحمه الله تعالى - يقول: ما خلق الله خلقاً أهون علي من إبليس، لولا أن الله تعالى أمرني أن أتعوذ منه ما تعوذت منه أبداً. ¬
تنبيه
قال: وقال: شيطان الجن أهون علي من شيطان الإنس؛ شيطان الإنس يتعلق بي فيدخلني في المعصية، وشيطان الجن إذا تعوذت خنس عني دقيقة (¬1). ومن حيل الشيطان في تغرير الإنسان: ما رواه ابن أبي الدنيا عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: اجتمع قوم يذكرون الله - عز وجل -، فأتاهم الشيطان ليقيمهم من مجلسهم ليفرق بينهم، فلم يستطع، فأتى رفقة أخرى يتحدثون بحديث الدنيا فأفسد بينهم، فقاموا يقتتلون. قال عبد الله: وليس إياهم يريد؛ فقام الذين يذكرون الله تعالى يفصلون بينهم، فتفرقوا عن مجلسهم (¬2). * تَنْبِيْهٌ: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)} [النمل: 4]. وقال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [العنكبوت: 38]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25]. قال أهل السنة: الآية الأولى وأمثالها على الحقيقة، وما بعدها ¬
7 - ومن أخلاق الشيطان لعنه الله تعالى: الرضا بالمعصية، والسخط بالطاعات، والغيظ منها.
على المجاز؛ لأنه الله تعالى هو المضل حقيقة. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33]. وقال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]. وعكس المعتزلة ذلك فجعلوا إسناد التزيين إلى الله تعالى مجازاً، وإسناده إلى الشيطان حقيقة، وهم محجوجون بالكتاب والسنة. ومر حديث ابن عدي وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ دَاعِياً وَمُبَلِّغًا، وَليْسَ لِيْ مِنَ الْهُدَى شَيْءٌ، وَخُلِقَ إِبْلِيْسُ مُزَيِّناً وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الضَّلالِ شَيْءٌ" (¬1). 7 - ومن أخلاق الشيطان لعنه الله تعالى: الرضا بالمعصية، والسخط بالطاعات، والغيظ منها. وحكم الرضا بالمعصية حكم تلك المعصية، فالرضا بالكفر كفر، وبالكبيرة كبيرة، وبالصغيرة صغيرة، وبالمكروه مكروه. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن عبيد الله بن شميط بن عجلان، عن أبيه رحمه الله تعالى قال: من رضي بالفسق فهو من أهله، ومن رضي أن يعصى الله - عز وجل - لم يرفع له عمل (¬2). قال عبيد الله: وسمعت أبي يقول: رأس مال المؤمن دينه؛ حيثما ¬
8 - ومنها: الابتداع في الدين.
زال زال معه لا يخلفه في الرحال، ولا يأمن عليه الرجال (¬1). 8 - ومنها: الابتداع في الدين. روى الإمام الزاهد الشيخ نصر المقدسي في كتاب "الحجة" عن أبي الجلد رحمه الله تعالى قال: يرسل على الناس على رأس كل أربعين سنة شيطان يقال له: القمقم، يبتدع لهم بدعة. ومثل ذلك لا يقال من قبل الرأي. وقد سبق بيان أن البدع أصلها كلها من شبه إبليس التي بيناها سابقاً. 9 - ومنها: إنكار البعث، والجنة، والنار. روى ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم عن مجاهد رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}؛ قال: قال: لا بعث, ولا جنة، ولا نار. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}؛ قال: من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها. {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}؛ قال: من قبل حسناتهم بطَّأهم عنها. {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17]؛ قال: زين لهم السيئات والمعاصي، ودعاهم إليها، وأمرهم بها. أتاك يا ابن آدم من قبل وجهك، ومن خلفك، وعن يمينك، وعن شمالك، غير أنه لم يأتك من فوقك؛ لا يستطيع أن يكون بينك ¬
10 - ومنها: التكذيب بالقضاء والقدر.
وبين رحمة الله تعالى (¬1). 10 - ومنها: التكذيب بالقضاء والقدر. روى ابن أبي الدنيا عن أبي عثمان - يعني: النهدي - قال: كان عيسى عليه السلام يصلي على رأس جبل، فأتاه إبليس فقال: أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر؟ قال: نعم، قال: ألق نفسك من الجبل، وقل: قُدِّرَ عَلَيَّ، قال: يا لعين! الله يختبر العباد، وليس العباد يختبرون الله تعالى (¬2). وقال أبو عبيد الآجري: سألت أبا داود عن عمرو بن الأغضف، فقال: قاضي الأهواز ثقة، قال لعباد بن منصور: من حدثك أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه رجع عن: الشقيُّ من شَقِيَ في بطن أمه؟ قال: شيخ لا أدري من هو، فقال عمرو: أنا أدري من هو، قال: من هو؟ قال: الشيطان. نقله (¬3) الحافظان؛ المزي، والعراقي، وغيرهما (¬4). 11 - ومنها: اعتقاد كون الأسباب مؤثرة بأنفسها في المسببات، وأنها هي الفاعلة، واعتقاد المسلمين أن الله تعالى يوجد الأشياء عند ¬
12 - ومنها: إنكار قدرة الله تعالى على كل الممكنات، كما يفهم من اقتراح اللعين على عيسى عليه السلام أن يرد الله الجبل خبزا.
وجود أسبابها. روى الإِمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: إن إبليس طار بعيسى حتى وضعه على بيت المقدس، فقال: أزعمت أنك تحمي الموتى؟ فإن كنت كذلك فادع الله أن ترد هذا الجبل خبزاً، فقال عيسى عليه السلام: أوكل الناس يعيشون من الخبز؟ قال: فإن كنت كما تقول فثب من هذا المكان؛ فإن الملائكة ستلقاك، قال: إن ربي عز وجل أمرني أن لا أجرب نفسي به، ولا أدري يسلمني أم لا (¬1). 12 - ومنها: إنكار قدرة الله تعالى على كل الممكنات، كما يفهم من اقتراح اللعين على عيسى عليه السلام أن يرد الله الجبل خبزاً. وحكى بعض العلماء: أن إبليس عرض لإدريس عليه السلام وهو يخيط ثوبه فقال له: يا إدريس! أنت الذي تزعم أن في قدرة الله تعالى أن يجعل السماوات والأرض في خرم هذه الإبرة؟ قال: نعم، قال: فكيف يكون ذلك؟ فقال إدريس: هكذا -وفقأ عينه-. قال بعض المتكلمين: علم إدريس عليه السلام أن إقامة الدليل على ذلك لا يرد إبليس عن كفره، فرجع إلى العقوبة. ¬
تنبيه
* تنبِيْهٌ: ما ذكرنا من أن إدريس فقأ عين إبليس نقله السنوسي في "شرح عقيدته"، وغيره. واشتهر على الألسنة أن عمر رضي الله تعالى عنه هو الذي قلع عين إبليس، وقد اجتهدت أن أرى ذلك فلم أجده. نعم ثبت في الحديث أن الشيطان كان يَفْرَقُ من عمر رضي الله تعالى عنه، ويفر منه. روى الإِمام أحمد، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه" عن بريدة رضي الله تعالى عنه: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر رضي الله تعالى عنه: "إِنَّ الشَّيْطِانَ لَيَفْرَقُ مِنْكَ يَا عُمَرُ" (¬1). وروى ابن عساكر عن حفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا لَقِيَ الشَّيْطَانُ عُمَرَ مُنْذُ أَسْلَمَ إِلاَّ خَرَّ لِوَجْهِهِ" (¬2). ورواه الطبراني بإسناد حسن عن سديسة مولاة حفصة رضي الله تعالى عنهما (¬3). ¬
13 - ومنها: الحيلولة بين العبد وبين التفكر في آيات الله تعالي، ومخلوقاته، ومصنوعاته.
13 - ومنها: الحيلولة بين العبد وبين التفكر في آيات الله تعالي، ومخلوقاته، ومصنوعاته. روى الإِمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِيْ لَمَّا انتهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَنَظَرْتُ فَوْقيَ فَإِذَا أَنَا بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ وَصَوَاعِقَ، فَأَتَيْتُ عَلَى قَوْمٍ بُطُوْنهم كَالْبُيُوْتِ فِيْهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِم، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاء يَا جِبْرِيْلُ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ أكَلَةُ الرِّبَا، فَلَمَّا نزَلتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا نَظَرْتُ أَسْفَلَ مِنِّيْ فَإِذَا أَنَا بِوَهْجٍ وَدُخَانٍ وَأَصْوَاتٍ فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيْلُ؟ قَالَ: هَذهِ الشَّيَاطِيْنُ يَحُوْمُوْنَ عَلَى أَعْيُنِ بَنِي آدَمَ أَنْ لا يتَفَكَّرُوا فِيْ مَلَكُوْتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَوْلا ذَلِكَ لَرَأَوُا الْعَجَائِبَ" (¬1). 14 - ومنها: التشكيك في الدين. روى البيهقي في "الدلائل" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل من أقبح الناس وجهًا، ¬
وأقبحه ثوبا، وأنتنه ريحًا، يتخطَّى رقاب الناس حتى جلس بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من خلقك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله"، قال: من خلق السماء؟ قال: "اللهُ"، قال: من خلق الأرض؟ قال: "الله"، قال: من خلق الله؟ قال: "سُبْحَانَ اللهِ"، وأمسك بجبهته، وطأطأ رأسه، وقام الرجل فذهب، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه فقال: "عَلَيَّ بِالرَّجُلِ"، فطلبناه فكأن لم يكن، فقال: "هَذَا إِبْلِيْسُ جَاءَ يُشَكِّكُمْ فِيْ دِيْنكُمْ" (¬1). قلت: أين حسن الصورة التي جاء فيها جبريل عليه السلام سائلاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمور الدين، وبياض ثوبه، وجلوسه بين يديه على نعت الأدب، كما تقدم في حديث عمر رضي الله تعالى عنه في القسم الأول، من قبح صورة إبليس، ونتن ريحه، وقبح سؤاله، وقلة أدبه؟ وأين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذا جِبْرِيْلُ أَتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ" (¬2) [من قوله - صلى الله عليه وسلم -]: "هَذا إِبْلِيْسُ جاءَ يُشَكِّكُمْ فِيْ دِيْنكُمْ". وقد اشتمل هذا الحديث على أخلاق قبيحة من أخلاق إبليس ينبغي للعبد التنزه عنها؛ منها: قبح الثياب وتقذرها، ونتن الريح ¬
الناشئ غالبًا عن ترك تعاهد المعاطف بالتنظيف ونحوه، والحفاء المستلزم لترك التوقي عن القاذورات، وتخطي رقاب الناس، وقلة الأدب، والتعنت في السؤال، والتغليط في المسائل. وقد روى الإِمام أحمد، وأبو داود عن معاوية رضي الله تعالى عنهم: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأُغْلُوْطَاتِ (¬1). قال الخطابي وغيره: وأراد بها المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلوا، فيهيج بذلك شرٌّ وفتنة (¬2). وروى الطبراني عن ثوبان رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَيَكُوْنُ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي يتَعَاطَوْنَ فُقَهَاءَهُمْ عَضُلَ الْمَسَائِلِ؛ أُوْلَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِيْ" (¬3). وعضل المسائل: جمع عضلة -بضم المهملة، وإسكان المعجمة فيها -؛ وهي المسألة الصعبة المشكلة. وروى البيهقي عن مالك رحمه الله تعالى قال: قال رجل للشعبي: إني خبأت لك مسائل، قال: خبئها لإبليس حتى تسأله عنها (¬4). ¬
15 - ومن أخلاق الشيطان: كفران النعم.
قلت: والأغلوطات وعضل المسائل هي غير الألغاز والأحاجي التي يتطارحها العلماء لاختبار الأفهام، وامتحان الأفكار والأذهان، لا للتغليط وإظهار الغلبة، وهذا محرم، والأول مستحب مستحسن. روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرَةِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وإنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ؛ حَدِّثُوْنِيْ مَا هِيَ؟ " قال: فوقع النَّاس في شجرِ الوادي، ووقعَ في نفسي أنَّها النَّخْلَةُ فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا يا رسولَ الله، قال: "هِيَ النَّخْلَةُ" (¬1). 15 - ومن أخلاق الشيطان: كفران النعم. قال الله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27]. قلت: وكان من كفران إبليس: أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم -عليهم السلام - ليكون ذلك شكرًا منهم لما لآدم عليهم من نعمة التعليم، سجدوا امتثالاً لأمر الله تعالى، وشكراً لنعمته ونعمة آدم عليه السلام علماً منهم أن من لم يشكر الناس لم يشكر الله تعالى. وتخلف إبليس عن السجود لآدم، فلم يشكر له نعمة التعليم، وكفرها، فكان لنعم الله أشد كفرًا وجحوداً. وقد كان أول شيء علم آدم الملائكة الحمد حين عطس، فقال: ¬
"الحمد لله" (¬1). وبذلك يتضح أن سجود الملائكة له كان بعد أن أخذ آدم في تعليمهم، وعلمهم الحمد، أو كان بعد تعليمه إياهم جميع الأسماء، وذلك أبلغ في ظهور معنى الخلافة فيه، فكان تأخر إبليس عن السجود كفراناً منه لنعمة الله ونعمة آدم، ولا يتم شكر الله إلا بشكر من أمر بشكره من الناس. روى الإِمام أحمد، والترمذي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ الله" (¬2). واعلم أن مما يوضح لك أن الكفران من أخلاق الشيطان حرصه على وقوعه من الإنسان. وقد قيل في قوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16]: إنه طريق الشكر. وقال طاعنًا على أولاد آدم: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] (¬3). وقيل في قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20]: ¬
16 - ومنها: التكبر الحامل للعبد على الامتناع، والخروج عن الطاعة، واتباع الحق.
إنه ظن قلة الشكر في "أكثر الناس فكانوا كذلك، وكان الأمر على ذلك. قال الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] 16 - ومنها: التكبر الحامل للعبد على الامتناع، والخروج عن الطاعة، واتباع الحق. قال الله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34]. قال القرطبي: الاستكبار الاستعظام، فكأنه كره السجود في حقه، واستعظمه في حق آدم، وكان تركه للسجود لآدم تسفيهاً لأمر الله تعالى وعن تكبر. عبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "لا يدخلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِيْ قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّهِ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ". وفي رواية: فقال رجلٌ: إن الرجلَ يحبُّ أن يكونَ ثوبهُ حسنًا ونعلهُ حسنًا؟ قال: "إِنَّ اللهَ جَمِيْلٌ يُحب الْجَمَالَ؛ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ"، خرجه مسلم (¬1). ومعنى بطر الحق: تسفيهه، وإبطاله. وغمط الناس: الاحتقار لهم، والازدراء بهم. قال: وقد صرح اللعين بهذا فقال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76]. ¬
لطيفتان
{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61]. {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 33]. وكُفْرُهُ الله بذلك. قال: فكل من سفه شيئًا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله كان حكمُهُ حكمَهُ، انتهى (¬1). وروى ابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِيّاَكُمْ وَالْكِبْرَ؛ فَإِنَّ إِبْلِيْسَ حَمَلَهُ الْكِبْرُ عَلَى أَنْ لا يَسْجُدَ لآدمَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْحِرْصَ؛ فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَمَلَهُ الْحِرْصُ عَلَى أَنْ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وإيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ؛ فَإِنَّ ابْنَي آدم إِنَّمَا قتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ حَسَدًا، فَهُوَ أَصْلُ كُلِّ خَطِيْئَة" (¬2). * لَطِيْفَتانِ: * الأُوْلَى: روى البيهقي في "الشعب" عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: من كانت معصيته في شهوة فأرجو له التوبة؛ فإن آدم عصى مشتهياً فغفر له، وإن كانت في كبر فأخشى على صاحبها اللعن؛ فإن إبليس أبى مستكبراً فلعن (¬3). ¬
الثانية
* اللَّطِيْفَةُ الثَّانِيَةُ: روى البيهقي -أيضًا- عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي رحمه الله تعالى يقول: التواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام (¬1). قلت: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الكرام لأنه أكثرهم تواضعاً، وإبليس -لعنه الله - رأس اللئام لأنه أشدهم تكبرًا، فقد علم المتواضعون من سيدهم وإمامهم، وعلم المتكبرون من رأسهم وقائدهم، والله الموفق. 17 - ومن أخلاق الشيطان: رؤية النفس وتزكيتها، والأعجاب بها، والغضب لها؛ فإن إبليس لما أمر بالسجود لمن هو دونه في اعتقاده غضب وحنق، وحمله الغضب على الإباء، والكبر، والكفر، ولم ينشأ غضبه إلا من رؤيته لفضل نفسه ومفضولية آدم، ألا ترى كيف قال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76]؟ ولم يكتف بحقيقة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. ولم يتنبَّه لمعنى المثل السائر: يا ويح النار! ما تُخَلِّف إلا الرماد. فلما نظر إلى نفسه بالتعظيم أنف من السجود لمن رآه بعين التحقير، فغضب، فطارت شرارة غضبه حتى أحرقته، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وإنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وإنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاء فإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْتوَضَّأ". ¬
رواه الإِمام أحمد، وأبو داود عن عطية السعدي رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو يعلى، والبزار، والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ذكروا رجلًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكَرُوا قُوَّتَهُ في الجهادِ، وَاجتِهادَهُ في العبادةِ، فإذا هم بالرجلِ مقبلٌ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لأَرَى فِيْ وَجْهِهِ سَفْعَةً مِنَ الشَّيْطَانِ"، فَلَمَّا دَنَا سَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيْ الْقَوْمِ أَحَدٌ خَيْر مِنْكَ؟ "قَالَ: "نعَمْ". ثمَّ ذَهَبَ فَاختط مَسْجِدًا، وَوَقَفَ يُصَلِّيْ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَقُوْمُ إِلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ؟ " فَقَامَ أَبُوْ بَكْرٍ - رضي الله عنه - فَانْطَلَقَ، فَوَجَدَهُ قَائِمًا يُصَلِّيْ، فَرَجَعَ، فَقَالَ: "وَجَدْتهُ يُصَلِّيْ فَهِبْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ"، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّكُمْ يَقُوْمُ إِلَيْهِ فَيقتُلُهُ؟ " فَقَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فَصَنعَ كَمَا صَنعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أيَّكُمْ يَقُوْمُ إِلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ؟ " فَقَالَ عَلِي رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: إِنْ أَدْرَكْتُهُ، فَذهبَ فَوَجَدَهُ قَد انْصَرَفَ، فَرَجَعَ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هَذَا أَوَّلُ قَرْنٍ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِيْ، لَوْ قَتَلْتَهُ مَا اخْتَلَفَ اثنَانِ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي" (¬2). ¬
تنبيه
قلت: لعله إنما أمر بقتله لما أطلعه الله عليه من كفره ونفاقه، أو لأنه كفر باعترافه بما حدث نفسه به من أنه خير من القوم، وفيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي قوله: "لَوْ قَتَلْتَهُ مَا اخْتَلَفَ اثْنَان بَعْدِيْ مِنْ أُمَّتِيْ" الظاهر أنه لو قتله لتسامع الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل رجلًا يجاهد ويصلي ليس إلا لكونه أظهر تزكية نفسه، ودعوى أنها خير من الناس، فلا يزكي أحد بعده نفسه، ولا يعجب برأيه، فيتوافق كل الناس على ذلك، فلا يختلفون، فلا يهلكون بسبب ذلك. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: هَوًى مُتَّبَعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وإعْجَابُ كُلِّ ذِيْ رَأْيٍ بِرَأْيهِ". رواه الطبراني في "الأوسط" عن أنس، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم (¬1). * تنبِيْهٌ: اصطلح الصوفية على التحذير من الأنانية؛ أي: من قول العبد: أنا فعلت، أو: أنا أعلم، أو: أنا أكرم من فلان، ونحو ذلك مبالغة منهم في التحذير من رؤية النفس وإثبات ملكيتها. فأمَّا إذا قال المرء: {أنا} لمن قال له: أتعلم مسألة كذا؟ أو: ¬
18 - ومن أخلاق اللعين: دعاء الغير إلى تزكية النفس، ورؤيتها، والإعجاب بها.
اشهد بكذا، فقال: أنا أعلم، أو: أشهد، ونحو ذلك، فليس من هذا. وفي "سنن أبي داود" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنَّ رَسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إِذَا سَمعَ الْمُؤَذِّنَ يَتَشَهَّدُ قَالَ: "وَأَنَا، وَأَنَا" (¬1). وما أحسن هذه الأنانية المفصحة عن حقيقة العبودية! أين هذا من أنانية الرجيم المشعرة بمنازعة الربوبية؟ وبالجملة: تتحد الألفاظ، وإنما يفرق بينها إرادة القلوب. 18 - ومن أخلاق اللعين: دعاء الغير إلى تزكية النفس، ورؤيتها، والإعجاب بها. روى ابن أبي شيبة عن أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه: أنه أَمَّ قوماً مرة، فلما انصرف قال: ما زال علي الشيطان آنفاً حتى رأيت أن الفضل لي على من خلفي؛ لا أَؤم أبدًا (¬2). 19 - ومنها -وهو من جنس ما تقدم -: دعوى الأحوال الشريفة والمقامات العالية، وهو على خلافها. ومن هذا القبيل: قول الشيطان كما حكاه الله تعالى عنه بقوله: {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]. وقال الله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}؛ يعني: لقريش يوم بدر، {وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا ¬
20 - ومنها: تسخط المقدور، وعدم الرضا بالقسمة، والحسد.
تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48]. ادعى الشجاعة، وقد بدا لهم في صورة سراقة بن جعشم المدلجي، وأنه يثبت في الحرب عند اللقاء، وأنه يجير القوم إذا كادوا أن يغلبوا، فظهر أنه جبان لا ثبات له عند اللقاء، بل نكص على عقبيه، ثم ادعى الخوف من الله تعالى. قال قتادة رحمه الله تعالى في قوله: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48]: ذكر لنا أنه رأى جبريل ينزل معه الملائكة عليهم السلام، فعلم عدو الله أنه لا يدانِ له بالملائكة، وقال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال: 48]، وكذب عدو الله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له به، ولا منعة له. رواه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ (¬1). 20 - ومنها: تسخط المقدور، وعدم الرضا بالقسمة، والحسد. قال قتادة: حسد إبليس آدم على ما أعطاه الله تعالى من الكرامة، فقال: أنا ناري وهذا طيني (¬2)؛ أي: فأنا أحق بأن يسجد لي منه، فإن الحسد تمني زوال النعمة عن المحسود، وسببه زعم الحاسد أنه أحق بالنعمة منه، وهذا اعتراض على الله تعالى، وتسخط لقضائه. ¬
ولقد أحسن المعافى بن زكريا في قوله رحمه الله تعالى: [من المتقارب] أَلا قُلْ لِمَنْ كانَ لِيْ حاسِداً ... أتدْرِيْ عَلَىْ مَنْ أَسَأْتَ الأَدَبْ أَسَأْتَ عَلَىْ اللهِ فِيْ فِعْلِهِ ... لأَنَّكَ لَمْ تَرْضَ لِيْ ما وَهَبْ فَجازاكَ عَنِّيْ بِأَنْ زادَنِيْ ... وَسَدَّ عَلَيْكَ وُجُوْهَ الطَّلَبْ (¬1) قلت: وكذلك فعل الله تعالى بإبليس، فأبَّد لعنته، وتلافى آدم بالتوبة، وغفر زلته. وروى البيهقي عن الحسن رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]؛ قال: هو أول ذنب كان في السماء (¬2). وروى الدينوري في "المجالسة" عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: الحسد أول ذنب عُصي الله به في السماء؛ يعني: حسد إبليس آدم، وهو أول ذنب عصي الله به في الأرض؛ حسد ابن آدم أخاه فقتله (¬3). وقال ابن عطية رحمه الله تعالى: روى ابن القاسم عن مالك رحمه الله تعالى: أنه قال: بلغني أن أول معصية كانت الحسد، ¬
والكبر، والشح؛ حسد إبليس آدم، وتكبر عليه، وشح آدم؛ قيل له: كُلْ من جميع شجر الجنة إلا هذه الشجرة، فشح، فأكلها (¬1). وقال ابن أبجر رحمه الله تعالى في بعض الكتب: يقول الله تعالى: الْحَاسِدُ عَدُوُّ نِعْمَتِيْ، مُتَسَخِّطٌ لِقَضَائِيْ، غَيْرُ رَاضٍ بِقِسْمَتِيْ بَيْنَ عِبَادِيْ (¬2). قال بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى: ذنبك إلى الحاسد دوام نعم الله تعالى عليك (¬3). وقيل لابن السَّمَّاك رحمه الله تعالى: أي الأعداء لا يجب أن يعود صديقاً؟ قال: من سبب عداوته النعمة؛ يعني: الحاسد (¬4). ثم قال: قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما: كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة؛ فإنه لا يرضيه إلا زوالها (¬5). وقال الأصمعي رحمه الله تعالى: رأيت أعرابياً في بني عذرة قد أتت له مئة وعشرون سنة، فقلت له: ما أطولَ عمرَك! فقال: تركت الحسد فبقيت (¬6). رواها الدينوري في "المجالسة". ¬
21 - ومنها: الحقد؛ وهو غاية الحسد.
وروى الطبراني في "الكبير" عن ضمرة بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَتَحَاسَدُوْا" (¬1). 21 - ومنها: الحقد؛ وهو غاية الحسد. وقد حمل حقد إبليس على آدم على أن حمله على أن تسلط على أولاده نحو سبعة آلاف سنة، ولم يشتف منهم. ولا يخفى أن الحسود في غم أبدًا ما دام محسوده فيما حسد عليه، فإذا وصل به الحسد إلى الحقد كان أكثر غماً، إلا أنه قد يخرج من ضيق غمه إلى فضاء الانتقام والعدوان، وفيه هلاكه، والعياذ بالله. وروى الدينوري عن أبي عبيدة رحمه الله تعالى قال: ستة لا يخلون من الكآبة: - رجل افتقر بعد غنى. - ومن يخاف على ماله التِّوى (¬2). - وحقود. - وحسود. - وطالب مرتبة لا يبلغها قدره. - ومخالطة العلماء بغير علم (¬3). ¬
22 - ومنها: اللجاج؛ وهو ملازمة الأمر وعدم الانصراف عنه.
22 - ومنها: اللجاج؛ وهو ملازمة الأمر وعدم الانصراف عنه. ومن لجاج إبليس حرصه على دخول الجنة بعد أن أخرج منها وطرد، لا لنعيمها, ولا لبرد نسيمها, ولكن لينال من آدم وحواء، فبالغ في الحيلة حتى دخل جوف الحية كما ذكره المفسرون (¬1). ومن لجاجه ما قدمناه من أنه واضع خطمه على قلب ابن آدم، لا يترك ابن آدم الذكر إلا بادر اللعين إلى قلبه، فالتقمه؛ لا يمل ولا يفتر. قيل لبعض السلف: أينام أبليس؟ قال: لو نام لوجدنا راحة (¬2). واللجاج خلق مذموم من الإنسان لما علمت أنه من أخلاق الشيطان. روح الإِمام أحمد في "الزهد" عن وهيب رحمه الله: أنه قال الخضر لموسى عليهما السلام: يا موسى بن عمران! انزع عن اللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك من غير عجيب، والزم بيتك، وابك على خطيئتك (¬3). ومن لطائف هذا الباب: ما رواه الدينوري في "المجالسة" عن الأصمعي قال: قال عبد الملك بن مروان للحجاج: إنه ليس من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه، فَعِبْ نفسك، فقال: أعفني يا أمير المؤمنين، قال: فأبى، قال: أنا لجوج، حقود، حسود، قال عبد الملك: ما في الشيطان شر مما ذكرت. ¬
تنبيه
قال الأصمعي: فإذا أردت أن تسلم من الحاسد فعمِّ عليه أمورك (¬1). وقد وقع وصف الحجاج بالشيطانية في كلام الحسن رحمه الله تعالى. روى أبو نعيم عن ابن شوذب، عنه قال: دعا الحجاج أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: ما أعظم عقوبة عاقب بها النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فحدثه بالذين قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ولم يحسمهم، وألقاهم بالحرة، ولم يطعمهم ولم يسقهم حتى ماتوا، قال الحجاج: أين هؤلاء الذين يعيبون علينا والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عاقب بهذا؟ فبلغ ذلك الحسن، فقال: إن أنساً حمق؛ يعمد إلى شيطان يلتهب فيحدثه بهذا (¬2). * تَنْبِيْهٌ: حكى البغوي وغيره: أن إبليس لما أراد أن يدخل الجنة فيوسوس لآدم وحواء عليهما السلام منعته الخزنة، فأتى الحية وكانت صديقة لإبليس، وكانت من أحسن الدواب لها أربعة قوائم كقوائم البعير، وكانت من خزان الجنة، فسألها إبليس أن تدخله الجنة في فيها، فأدخلته، فمرت على الخزنة وهم لا يعلمون، فأدخلته الجنة (¬3). ¬
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36]: إنه خطاب لآدم وحواء، وإبليس، والحية. رواه ابن جرير عنه (¬1). وعلى هذا: فالآية نص في عداوة إبليس لنا، وهي صديقة إبليس، فاستدل لذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بقتل الحيات، وقال: "مَنْ تَرَكَهُنَّ خَشْيَةَ ثأرِهِنَّ فَلَيْسَ مِنَّا". زاد في رواية: "مَا سَالَمْنَاهُنَ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ". رواه عبد الرزاق، وغيره من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). وقد علمت بذلك أن مسالمة الحية ومصادقتها من أعمال الشياطين، وأشبه الناس بالشيطان من يمسك الحيات ويحميهن من القتل، ويتلطف بهن حتى يضعهن في جيبه مما يلي لحمه، ويزعم أن ذلك كرامة لشيخه. وهَبْ أن ذلك كرامة لبعض الصوفية أن يمسك بعض فقرائهم الحية ليقتلها لا ليتلطف بها ليكون ذلك من باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لِيَشْجَعْ أَحَدُكُمْ وَلَوْ عَلَى قَتْلِ حَيَّةٍ" (¬3)، ¬
كما ذكره القرطبي (¬1). فزعم بعض الجهلة من هؤلاء أن الكرامة في إمساكها ومسالمتها وهي مستسلمة لا تؤذيه، وربما زعم أن الحال يأخذه فيأكلها، ويقطعها باسنانه، وهذا كله حرام لأنها مسمومة، ولحمها نجس, وأكل السم والنجاسة حرام، وكذلك التضمخ بالنجاسة؛ فإن لسعته الحية فمات مات عاصياً، وعلى شيخه مثل إثمه في ذلك كله إن رضي بحاله، ولم ينهه عن ذلك. وقتل الحيات في الحل والحرم -ولو كان القاتل محرمًا- مشروع مثاب عليه، إلا ما كان من عوامر البيوت فإنهن يؤذنَّ ثلاثة أيام خشية أن يكن من الجن المسلمين، فإن بدا منهن شيء بعد ذلك فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَاقْتُلُوْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان" كما رواه مسلم، وغيره من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬2). وروى الطبراني، والحاكم وصححه عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْجِنُّ ثَلاثَةُ أَصْنَافٍ: فَصِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَة يَطِيْرُوْنَ بِهَا فِيْ الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّات وَكِلابٌ، وَصِنْفٌ يَحُلُّوْنَ وَيَظْعَنُوْنَ" (¬3). وروى الطبراني في "الكبير"، وغيره عن ابن عباس رضي الله ¬
تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "الْحَياتُ مَسْخُ الْجِنِّ كَمَا مُسِخَتِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازيرُ مِنْ بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ" (¬1). وروى الترمذي عن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا ظَهَرَتِ الْحَيَّةُ في الْمَسْكَنِ فَقُوْلُوْا لَهَا: إِنَّا نسألكِ بِعَهْدِ نُوْحٍ، وَبِعَهْدِ سُلَيْمَانَ بْنِ داوُدَ: لا تُؤْذِيْنَا، فَإِنْ عَادَتْ فَاقتلُوْهَا" (¬2). والحاصل أن الحية إما حية حقيقة فتقتل؛ فإنها من الفواسق. وإما شيطان في صورة حية. وإما جني متصور بصورة الحية فيقتل لحديث: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" (¬3). وإنما تستأذن العوامر مخافة أن يكن من الجن المسلمين المخلوقين على صورة الحيات. وروى الإِمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَتَلَ حَيَّةً فَلَهُ سَبع حَسَنَاتٍ" (¬4). ¬
لطيفة
وروى عبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: اقتلوا الوزغ فإنه شيطان (¬1). وروى البخاري عن أم شريك رضي الله تعالى عنها: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ؛ قَالَ: وَكَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيْمَ عليه السلام (¬2). قلت: ولعل هذا سبب تسميته شيطاناً؛ فإنه وافق الشيطان في عداوة إبراهيم عليه السلام ومساعدة قومه على إحراقه، فقد ورد أنهم لما أججوا النار لم يستطيعوا أن يلقوا إبراهيم فيها لعظمها، فعلَّمهم إبليس أن يعملوا المنجنيق، ويلقوه منه إليها (¬3)، فتوافق هو والوزغ في عداوة إبراهيم عليه السلام كما توافق هو والحية على عداوة آدم عليه السلام، فيستحب قتل الوزغ والحية، وكذلك بقية الفواسق، وهي العقرب، والغراب الأبقع، والحدأة، والفأرة، والكلب العقور، وسائر المؤذيات كالزنبور، والبراغيث، والبق، وغير ذلك. * لَطِيْفَةٌ: روى عبد الرزاق عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا الضِّفْدَعَ؛ فَإِنَّ صَوْتَهُ الَّذِيْ تَسْمَعُوْنَ تَسْبِيْحٌ وَتَقْدِيْسٌ وَتَكْبِيْرٌ؛ إِنَّ الْبَهَائِمَ اسْتَأْذَنت رَبَّهَا عز وجل أَنْ تُطْفِئَ النَّارَ عَنْ ¬
23 - ومن أخلاق الشيطان: العجلة، والطيش، والإنسان بطبعه عجول.
إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلامُ [فأذنَ للضَّفَادعِ] (¬1)، فَتَرَاكَبَتْ عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَهَا اللهُ تَعَالَى بِحَرِّ النَّارِ الْمَاءَ" (¬2). فاعتبِرْ بحَال الضِّفْدَع والوزَغِ حَال من يوَالِي أولِيَاءَ الله تعَالى وحَال من يُعَادِيْهِم؛ فإن الله تعالى جعل ذلك وأمثاله عبرة لأولي الألباب. 23 - ومن أخلاق الشيطان: العجلة، والطيش، والإنسان بطبعه عجول. قال الله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]. وقال: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]. ولكن الله تعالى خلق له العقل، فأرشده إلى التثبت والتأني، فمن استعمل عقله في تحصيل هذين الخلقين الشريفين فقد فارق الشيطان في الطباع. روى البيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التأني مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ" (¬3). فإن قلتَ: إذا كان كذلك، فما الحكمة في طبع الإنسان على العجلة؟ ¬
قلتُ: لتكون العجلة مطيته في طريق الآخرة، فإذا جمحت به إلى غير ذلك حَبَسَها بزمام العقل. روى أبو داود، وغيره، وصححه الحاكم، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "التُّؤَدَةُ فِيْ كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلاَّ فِيْ عَمَلِ الآخِرَة" (¬1)؛ أي: فالإسراع فيه خير. قال حاتم الأصم رحمه الله تعالى: العجلة من الشيطان إلا في خمس فإنها من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: - إطعام الضيف. - وتجهيز الميت. - وتزويج البكر. - وقضاء الدين. - والتوبة من الذنوب (¬2). وروى الترمذي، والحاكم وصححه، عن علي رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاثة لا تُؤَخِّرْهَا: - الصَّلاةُ إِذَا أتتْ. - وَالْجَنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ. - والأَيِّمُ إِذَا وَجَدَتْ كُفُؤًا" (¬3). ¬
تنبيه
ولا حصر في ذلك، بل كذلك الحج -وإن قلنا: إن وجوبه على التراخي- والعمرة، وتأدية الزكاة إذا حانت، وإخراج الصدقة إذا خطرت لك لئلا يثبطك عنها الشيطان والهوى، وتعلُّم العلم، وغير ذلك مما يجمعه عمل الآخرة المشار إليه في حديث سعد رضي الله تعالى عنه. * تنبِيْهٌ: روى الإِمام أحمد في "الزهد" عن وهب رحمه الله تعالى: أن إبليس -لعنه الله- جاء إلى سائح فاراده، فلم يستطع منه شيئًا، فقال له: إني أريد أن أصادقك، قال له السائح: ليس لي بصداقتك حاجة، قال: بلى، سلني عما شئت أخبرك، قال: نعم، قال: بماذا تفتنون الناس؟ قال: إنا ننظر إلى أهل العجلة معهم الحدة فنلعب بهم كما تلعب الصبيان بالأكرة (¬1). 24 - ومن أفعال الشيطان الرجيم: قتل النفس التي حرم الله، والدعاء إليه، والمعاونة فيه. قال الله تعالى: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15]؛ يعني: قتل القبطي. وروى الإِمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُشِرْ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيْهِ بِالسِّلاحِ؛ فَإِنَّهُ ¬
لا يَدْرِيْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِغُ فِيْ يَده فَيَقَعَ فِيْ حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ" (¬1). يقال: نزغ بيده، وبالرمح: إذا طعن، ومنه هذا الحديث. ومنه أيضًا: قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت: 36]. عبر عن وسوسة الشيطان بالطعن، كأنه يطعن بالوسواس في الصدور. وأما قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53] فهو معنى الإفساد والتحريش. وقال ابن جريج في قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} [المائدة: 30]: تمثل له إبليس وأخذ طيرًا، فوضع رأسه على حجر، ثم شدخ رأسه بحجر آخر، وقابيل ينظر، فعلمه القتل، فرضح قابيل رأس أخيه هابيل بين حجرين (¬2). وقد علمت في قصة الأبيض مع برصيصا كيف سوَّل له قتل المرأة التي زنى بها. وعن وهب: إن المرأة التي حبلت من برصيصا جاءت بولد، فزين له الأبيض قتل الولد فقتله، ثم زين له قتل أمه فقتلها (¬3). ¬
وروى ابن حبان في "صحيحه" عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيْسُ بَثَّ جُنُوْدهُ وَقَالَ: مَنْ أَخَذَ الْيَوْمَ مُسْلِمَا ألبَسْتُهُ التَّاجَ، قَالَ: فَيَجِيْءُ هَذَا فَيقُوْلُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأتهُ، فَيقُوْلُ: يُوْشِكُ أَنْ يتَزَوَّجَ، قَالَ: وَيَجِيْءُ هَذا فَيقُوْلُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَقَّ وَالِدَيهِ، فَيقُوْلُ: يُوْشِكُ أَنْ يَبَرَّهُمَا، وَيجِيءُ هَذَا فَيقُوْلُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أَشَرَكَ، فَيَقُوْلُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيجِيْءُ هَذَا فَيَقُوْلُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قتَلَ، فَيَقُوْلُ: أَنْتَ أنتَ، وَيُلْبِسهُ التَّاجَ" (¬1). وفي هذا الحديث: أن من أخلاق هذا الخبيث وأعماله السعي في التفريق بين الزوجين، وفي عقوق الوالدين، وهذا الثاني من الكبائر، والأول أبغض الحلال إلى الله تعالى؛ لما رواه أبو داود، وابن ماجه، وصححه الحاكم، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْغَضُ الْحَلالِ إِلَى اللهِ الطَّلاقُ" (¬2). وقد يكون الطلاق حراماً كطلاق البدعة. وربما ترتب على الطلاق أمور قبيحة كالظلم في المهر، أو في المتعة، أو في النفقة، والوقوع في العرض من أحد الزوجين، وربما ¬
تنبيه
كان في قلب أحدهما محبة الآخر فيسعى بالتوصل إليه بالحرام، أو في أذيته، أو أذية من يتصل به، إلى غير ذلك، فلهذا كان أبغض الحلال إلى الله تعالى، وأحبه إلى الشيطان. وروى الإِمام أحمد، ومسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ إِبْلِيْسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْناَهُمْ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً؛ يَجِيْءُ أَحَدُهُمْ فَيقوْلُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيقُوْلُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، وَيجِيْءُ أَحَدُهُمْ فَيقُوْلُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، فَيُدْنِيْهِ، وَيقُوْلُ: نعَمْ أَنْتَ" (¬1). * تنبِيْهٌ: روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى قال: ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كِفل منها (¬2). وهذا ثابت في الحديث الصحيح في حق ابن آدم كما سيأتي، وهو ظاهر فيهما. 25 - ومن أخلاق اللعين: كراهية النكاح والتزوج، ومحبة العزوبة من كل أحد؛ لأنه يتمكن بالخواطر الشهوانية إذا لم يكن له حليلة. قال محمَّد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى: إذا تزوج الرجل ¬
صرخ إبليس صرخة يجتمع إليه جميع جنوده، فيقولون: مالك يا سيدهم؟ فيقول: عصم ابن آدم من فخ كنت أصيده به. وروى أبو يعلى، والطبراني في "الأوسط" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أيما شاب تزوج في حداثة سنه عج شيطانه: يا ويله! يا ويله! عصم مني دينه. وفي رواية: إذا تزوج أحدكم عج شيطانه يقول: يا ويله! عصم ابن آدم مني ثلثي دينه (¬1). وروى الإِمام أحمد، وغيره عن عكاف بن وداعة (¬2) رضي الله تعالى عنه: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "ألكَ زَوْجَةٌ يَا عكافُ؟ " قَالَ: لا، قَالَ: "وَلا جَارِية"، قَالَ: لا، قَالَ: "وَأَنْتَ صَحِيْحٌ مُوْسِرٌ"، قَالَ: نَعَمْ، وَالْحَمْدُ للهِ، قَالَ: "فَأَنْتَ مِنْ إِخْوَانِ الشَّيَاطِيْنِ؛ إِنْ كُنْتَ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى فَالْحَقْ بِهِمْ، وَإِنْ كُنْتَ مِنَّا فَاصْنع كَمَا نَصْنَعُ فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِنَا النكَاحَ، شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ، وإنَّ مِنْ أَرْذَلِ مَوْتَاكُمْ عُزَّابَكُمْ، بِالشَّيَاطِيْنِ تَمَرَّسُونَ، مَا لِلشَّيْطَانِ سِلاحٌ أَبْلَغُ فِيْ الصَّالِحِيْنَ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا الْمُزَوَّجُوْنَ، أُوْلَئِكَ الْمُطَهَّرُوْنَ الْمُبَرَّؤُونَ مِنَ الخَنَا" (¬3)، الحديث. ¬
26 - ومن قبائح الشيطان: الزنا والأمر به.
26 - ومن قبائح الشيطان: الزنا والأمر به. والزاني مطيع للشيطان كما في قصة برصيصا وغيرها، ومتشبه به لأنه يزني؛ لما رواه الحكيم الترمذي عن مجاهد رحمه الله تعالى: أن الرجل إذا لم يسم الله تعالى عند الجماع انطوى الشيطان على إحليله فجامع معه، وأنزل معه (¬1). وروى سعيد بن منصور، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"، والمفسرون عنه في قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الإسراء: 64]: أنه أراد أولاد الزنا (¬2). وروى الفريابي، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الإسراء: 64] قال: كل خيل تسير في معصية الله، وكل رجلٍ تمشي في معصية الله، وكل مال أخذ بغير حقه، وكل ولد زنا (¬3). وفي "الصحيحين" عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أتىْ أَهْلَهُ قَالَ: اللهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ" (¬4). ¬
لطيفة
وروى البزار، والطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أتىْ أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ؛ فَإِنَّهُ إِنْ لمْ يَسْتَتِرْ اسْتَحْيَتِ الْمَلائِكَةُ فَخَرَجَتْ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِيْهِ نَصِيْبٌ" (¬1). وذكر بعض العلماء: أن آسية بنت مزاحم رضي الله عنها خرجت من الدنيا وهي عذراء لم يصل إليها فرعون، وإنما كان يتمثل الشيطان في صورتها لفرعون، وكان يأتي الشيطان وهو يحسب أنه أتى آسية. وعليه: فالزانية -أيضًا- متشبهة بالشيطان. * لَطِيْفَةٌ: قال القرطبي في "تفسيره": روى الأعمش عن عبد الله قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُقْبِل عَلَى شَخْصٍ فِيْ صُوْرَةِ الْفِيْلِ، وَهُوَ يَلْعَنُهُ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا الَّذِيْ يَلْعَنُهُ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ: "إِبْلِيْسُ"، فَقُلْتُ: يَا عَدُوَّ اللهِ! لأَقتلَنَّكَ، وَلأَرِيْحَنَّ الأُمَّةَ مِنْكَ، فَقَالَ: مَا هَذَا جَزَائِيْ مِنْكَ؟ قُلْتُ: وَمَا جَزَاؤُكَ مِنّيْ يَا عَدُوَّ اللهِ؟ قَالَ: وَاللهِ مَا أَبْغَضَكَ أَحَدٌ قَط إلا وَقَدْ شَرِكْتَ أَبَاهُ فِيْ أُمّهِ (¬2). ¬
قلت: بغض علي رضي الله تعالى عنه لا شك أنه خلق شيطاني، ولذلك إذا شارك الشيطان في الولد أباه كان مبغضاً لعلي رضي الله تعالى عنه، فالشيطان لا يستحق من علي إلا تمام النكال، فطلبه الجزاء منه مغالطة ومخادعة. ودل هذا الأثر أن الشيطان يتظاهر في صورة فيل. وذكر حجة الإِسلام في "الإحياء" عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أن رجلًا سأل ربه عز وجل أن يريه موضع الشيطان من قلب ابن آدم، فرأى في النوم جسد رجل شبه البلور يرى داخله من خارجه، ورأى الشيطان في صورة ضفدع قاعدًا على منكبه الأيسر بين منكبه وأذنه، وله خرطوم طويل، وقد أدخله من منكبه الأيسر يوسوس إليه، فإذا ذكر الله خنس (¬1). قال: وقد رآه بعض الكاشفين في صورة كلب جاثم على جيفة يدعو الناس إليها، وكانت الجيفة مثال الدنيا، انتهى (¬2). وقال الثعلبي: قال قتادة: إن الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه عز وجل خنس (¬3). ¬
قال: وروى الفرج بن فضالة عن عروة بن رويم رحمه الله تعالى: أن عيسى بن مريم عليهما السلام دعا ربه عز وجل أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم فجلى له، فإذا رأسه رأس الحية واضعا رأسه على ثمرة القلب، فمنَّاه وحدثه (¬1). وذكر صاحب "البهجة" في مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى: أن الشيخ عبد القادر عرض له الشيطان وهو يصلي، ورده في صورة ثعبان عظيم فاغر فاه، ثم تطوق على عنقه وهو ثابت، ثم عرفه أنه الشيطان، وأنه استزل بذلك سبعين صديقًا. قلت: وقد رأيته في المنام في صورة بين صورة الحمار وصورة الكلب، وأشوه منهما، وجثته دون جثة الحمار وفوق جثة الكلب، وقد وثب علي فأمسكته بيديه، ثم صرعته إلى الأرض، وعلوت على صدره، وأردت أن أستعين عليه بشخص فألهمت أن أعظم ما يستعان به عليه الذكر، فأخذت في ذكر الله تعالى، فما زال يضعف حتى صار كالأديم الملقى، فلما أمنت بطشه تركته، وكثيراً ما رأيته في صورة كلب وأُذيبه بالذكر. وقد يتظاهر في صورة الآدمي كما ظهر لقريش في صورة الشيخ النجدي كما سيأتي، وكما ظهر لهم في صورة سراقة يوم بدر، وكما ظهر للصحابة في أقبح صورة رجل ليشككهم في دينهم كما تقدم. ¬
27 - ومن قبائح الشيطان: التلوط به، والدعاء إلى نكاح نفسه.
وقد رأيته مرة في المنام في صورة فقير متعبد قد أنحله النسك وعليه زي الصالحين كأنه مجذوب، وأنا جالس في مجلس الدرس بصحن الجامع الأموي، فمر في وسط الحلقة، ثم توجه ورفع يده ليبطش بي قائلًا: ما تدع ذكر الشيطان وقبائحه، وتشتغل بغير ذلك؟ فعلمت أنه هو الشيطان، وهان أمره عندي، ولا يمكنه الله مني. وكان لهذا المنام سبب، وذلك أني كنت مشتغلاً في تأليف هذا الباب، وأنا أتتبع قبائح الشيطان لأذكرها فيه فتحذر. 27 - ومن قبائح الشيطان: التلوط به، والدعاء إلى نكاح نفسه. قال الكلبي رحمه الله تعالى: أول من عمل به قوم لوط إبليس في صورة شاب، ثم دعا إلى دبره، فنكح في دبره، ثم عبثوا بذلك العمل (¬1). وروى ابن عساكر من طريق ابن إسحاق عن بعض رواة ابن عباس قال: إنما كان بدء عمل قوم لوط إبليس جاءهم في هيئة صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه، فنكحوه، ثم جروا على ذلك (¬2). 28 - ومنها: العبث بمذاكير نفسه، أو بمذاكير غيره اجتلاباً للمني. وقد نص العلماء على تحريم الاستمناء باليد إلا أن يكون بيد الحليلة، ¬
29 - ومنها: العبث بدبر نفسه أو بدبر غيره بقصد الشهوة.
فأما بيد غيرها فإنه أقبح منه بيد نفسه، وهو من أفعال الشيطان؛ بدليل ما رواه الطبراني عن عكرمة، والدينوري عن مجاهد؛ كلاهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه قال: ما احتلم نبي قط، وإنما الاحتلام من الشيطان بالحال المثيرة للشهوة من الإنسان -ذكرًا كان، أو أنثى- (¬1). وقال أبو طالب المكي في "القوت": روينا عن إسماعيل عن أبان، عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَهْلَكَ اللهُ أُمَّةً كَانُوْا يَعْبَثُوْنَ بِمَذَاكِيْرِهِمْ" (¬2). 29 - ومنها: العبث بدبر نفسه أو بدبر غيره بقصد الشهوة. وقد قيل في قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ} [الكهف: 50]: إن الشيطان له ذكر طويل يدخله في دبره فيبيض، ثم تنفلق كل بيضة عن جملة من الشيطان، فهذا أصل ذريته (¬3). وقال الشعبي رحمه الله تعالى: إني لقاعد يومًا إذ أقبل حمال فقال: أخبرني هل لإبليس زوجة؟ قلت: إن ذلك لعرس ما شهدته، ثم ذكرت قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50]، فعلمت ¬
أنه لا يكون ذرية إلا من زوجة، فقلت: نعم (¬1). قلت: والمراد أن للشيطان شيطانة يسافدها, لا أنها زوجة بنكاح وعقد؛ فإنه أخس من ذلك. وعلى ما ذكرناه أولًا فلو كان للرجل ذكر طويل يصل إلى دبر نفسه فلو أدخل في دبر نفسه لكان مرتكباً كبيرة من الكبائر وهو في ذلك متشبه بالشيطان. والنظر في أنه هل يجب عليه الحد بذلك أم لا؟ لم أقف على نقل في ذلك، والظاهر الأول لأنه لا يملك الاستمتاع بنفسه حتى يحرم عليه الاستمناء بيده، فلا شبهة له تسقط الحد عنه، وقد دخل فعله في مسمى اللواط بلا شك. وأمَّا عبث الشيطان بدبر غيره، فدليله ما رواه الإِمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أتىْ الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ أَنْ يَجْمَعَ شَيْئًا مِنْ رَمْلٍ فَيَسْتَدْبِرَهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِيْ آدَمَ؛ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ، ومَنْ لا، فَلا حَرَجَ" (¬2). فالعبث بالدبر من أفعال الشيطان، فلا ينبغي العبث بدبر الحليلة ¬
باليد ونحوها -وإن كان له أن يتمتع بما أحب من زوجته- لأن ذلك ربما استجر من يفعله إلى وطئها في الدبر، وهو حرام. وفي الحديث: "إنه اللوطية الصغرى" (¬1). ومن ثم منع بعض العلماء من النظر إلى دبر الحليلة. ومن القواعد أنه متى حرم النظر حرم المس إلا في مسائل، والأصح أنه مكروه، أو خلاف الأولى. قال شيخ الإِسلام الوالد في كتاب "فصل الخطاب": [من الرجز] يَجُوْزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْتَمْتِعا ... بِأَمَةٍ لَهُ وَزَوْجَةٍ مَعاً بِكُلّ جِسْمِها وَلَوْ بِالدُّبُرِ ... مِنْ غَيْرِ إِيْلاج لَهُ بِالذَّكَرِ وَوَطْؤُها فِيْ دُبُرٍ مَحَرَّمُ ... كَما بِهِ جُمْهُوْرُهُمْ قَدْ جَزَمُوْا وَنَظَرُ الْقُبُلِ مِثْلُ الدُّبُرِ ... يَكُوْنُ مَكْرُوْهًا عَلَىْ الْقَوْلِ الْجَلِي أَيْ نَظَرُ الْحَلْقَةِ وَالْفِقاحْ ... مِنْ خارِجٍ مَنْظَرُها مُباحْ هذا حكم المسألة مع الحليلة. وأما ما يفعله بعض الفسقة من العبث بمقاعد المرد -ولو من فوق الثياب- فإنه حرام، وهو من أفعال الشياطين، ولا يكون ذلك في ¬
ملأ ولا خلاء إلا ممن سقط من عين الله تعالى، وطرد من حضرته. وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الملاهي"، وابن الجوزي في كتاب "ذم الهوى" عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: لو أن رجلًا عبث بغلام بين أصبعين من أصابع رجليه يريد الشهوة لكان لواطاً (¬1). ومن اعتذر عن ذلك بأن الأمرد مملوكه أو صبيه فإن اعتذاره بذلك يوهم استحلال استمتاعه بالمملوك، وهو كفر، وعسى أن الله تعالى قد أطلع نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ما يقع في هذا الزمان من الفسقة الفجرة من ذلك -ولا عجيب في ذلك- فقال: "شَرُّ الْمَالِ فِيْ آخِرِ الزَّمَانِ الْمَمَالِيْكُ". رواه أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬2). وأراد بالمماليك العبيد -وإن لم يكونوا بيضًا-، ويحتمل أنه أراد البيض خاصة وهو المتعارف بين الناس، ويكون في طي إخباره بذلك إخباره بالعرف الذي يصطلح الناس عليه من إطلاق المماليك على البيض. ثم إن المملوك من حيث هو قد يكون شر المال من حيث إنه يسرق، أو يزني، أو يؤذي فيستجر اللوم والضرر لسيده، وهذا شائع في سائر المماليك إلا أن الشر في البيض أكثر من حيث فعل الفاحشة ¬
30 - ومن قبائح الشيطان: التشبه بالنساء.
بهم، وإقرارها فيهم، وإذا كان المملوك محبوباً لسيده فربما يتلف ماله، ويجني على أهله، ويمنعه الحب من مفارقته وإنزال العقوبة به، فالأبيض شر المماليك، والمماليك شر الأموال في هذه الأزمان. 30 - ومن قبائح الشيطان: التشبه بالنساء. وقد تقدم أنه كان يتصور لفرعون في صورة آسية حتى ينكحه فرعون، وهذا يقتضي أنه كان يتلبس بكل ما تفعله المرأة للرجل إذا أراد أن يطأها. وتقدم أنه أول من نكح في دبره حين ظهر لبعض قوم لوط في صورة غلام جميل، ودعا الناس إلى دبره -لعنه الله تعالى- فهو أول المخنثين. وروى ابن الجوزي في "ذم الهوى" عن علي بن محمَّد الدلال قال: وقفت على الشبلي في قبة الشعراء في جامع المنصور والناس مجتمعون عليه، فوقف عليه في الحلقة غلام لم يكن ببغداد في ذلك الوقت أحسن وجهًا منه يعرف بابن مسلم، فقال له: تَنَحَّ، فلم يبرح، فقال له الثانية: تَنَحَّ يا شيطان عنا، فلم يبرح، فقال له الثالثة: تَنَحَّ وإلا خرقت كل ما عليك (¬1). 31 - ومنها: القيادة بين الرجال والنساء، وبين الرجال والمرد، وكلاهما من الكبائر، والثاني أقبح. وقد تقدم أن شيطان الزنا يسمى الأعور ينفخ في إحليل الرجل، ¬
وفي عجز المرأة، فتهيج الشهوة بينهما. وروى ابن الجوزي في "ذم الهوى" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: الشيطان من الرجل في ثلاثة منازل: في بصره، وقلبه، وذَكَرِه. وهو من المرأة في ثلاثة منازل: في بصرها، وقلبها، وعجزها (¬1). وروى الإِمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححاه، عن عمر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث: "أَلا لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ" (¬2). ومن ثم حرمت الخلوة بالأجنبية، والفتنة في الاختلاء بالأمرد -وخصوصاً إن كان مخنثاً- أشد. وقد قال سفيان: مع الجارية شيطان، ومع الغلام شيطانان (¬3). وقال النجيب بن السري رحمه الله تعالى: كان يقال: لا يبيت الرجل في بيت مع أمرد. وفي رواية عنه: أنه كره أن ينام الرجل مع الغلام الأمرد في بيت. رواه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"، والبيهقي (¬4). ¬
32 - ومنها: صحبة الأحداث، والنظر إلى الجميل منهم،
وقال أبو أسامة: كنا عند شيخ يقري فبقي عنده غلام يقرأ عليه، وأردت القيام، فأخذ بيدي وقال: اصبر حتى يفرغ هذا الغلام، وكره أن يخلو هو والغلام. رواه ابن الجوزي في "ذم الهوى" (¬1). 32 - ومنها: صحبة الأحداث، والنظر إلى الجميل منهم، وإلى ما لا يحل النظر إليه كالنظر إلى الأجنبية، وإن كانت كبيرة أو قبيحة. وقد تقدم عن سفيان أن مع كل غلام شيطانين. بل روى البيهقي في "الشعب" عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى قال: دخل سفيان الثوري رحمه الله تعالى الحمام، فدخل عليه غلام صبيح، فقال: أخرجوه؛ فإني أرى مع كل امرأة شيطاناً، ومع كل غلام بضعة عشر شيطانًا (¬2). وروى ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن الحسن بن ذكوان رحمه الله تعالى: أنه قال: لا تجالسوا أولاد الأغنياء؛ فإن لهم صورًا كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى (¬3). قلت: إنما خص أولاد الأغنياء لأنهم ببزتهم أقرب إلى لعب الشيطان بالناظر إليهم في أول وهلة، وقد كان أهل زمانه أبعد عن الفتنة من أهل هذه الأزمنة، وإلا ففي بعض أولاد الفقراء والرذال من ¬
هو أجمل من كثير من أولاد الأغنياء، والحاجة تدعوهم إلى صحبة ذوي الثروة، وتدعو أولياءهم إلى الإغضاء عنهم، وقد أكثر الآن وقبله بزمان اختلاس الأجناد وذوي الغنى والجاه لأولاد الفقراء، والاستيلاء عليهم بالقوة أو بالاحتيال عليهم بالقرض والدين، أو بغير ذلك، بل يرون التوصل إليهم أيسر من التوصل إلى أولاد الأغنياء. والحاصل أن صحبة المرد الحسان مطلقًا ينبغي أن تحذر -سواء كانوا من أشراف الناس أو من رذالهم، وسواء كانوا من فقراء الناس أو أغنيائهم، وسواء كانوا أحراراً أو أرقاء- وخصوصاً أهل التهمة. وقد روى البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أول من اتهم بالأمر القبيح -يعني: عمل قوم لوط- اتهم به رجل على عهد عمر - رضي الله عنه -، فأمر عمر بعض شباب قريش ألا يجالسوه (¬1). وفي هذا الحديث إشارة إلى الحذر من مجالسة الأمرد وخصوصاً المتهم -سواء فيه الرجل الملتحي والأسمر-، بل ينبغي أن يكون حذر الأمرد من الأمرد أشد؛ لأن صحبتهما تدعوهما إلى القبيح فاعلية ومفعولية، فيكونا شيطانين كلٌّ من وجهين. وروى ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن الوضين بن عطاء رحمه الله تعالى، عن بعض التابعين قال: كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الجميل (¬2). ¬
وعن بقية رحمه الله تعالى قال: قال بعض التابعين: ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سَبُع ضار من الغلام الأمرد يقعد إليه (¬1). قلت: وكذلك لا يؤمن على الشيخ من الفتنة بالمرد، ولا شك في مضاعفة العذاب على الشيخ الزاني وهو على الشيخ اللوطي أشد، وهو بذلك أدخل في التشبه بالشيطان من حيث إن كلًّا منهم لوطي أتى عليه الدهر، وإذا كان الشيخ مأبونًا كان أشد تشبهاً بالشيطان؛ لأنه شيخ مأبون. ولقد قلت: [من السريع] يا أيها الشَّيْخُ الَّذِيْ لِيْطَ بِكْ ... إِلَىْ مَتَىْ فَما تَرَىْ تُرْبَتَكْ أَشْبَهْتُ شَيْطانَكَ فِيْ الْفِعْلِ بَلْ ... ما أَشْبَهَ الشَّيْطانَ يا شَيْخُ بِكْ وروى الطرطوشي في كتاب "تحريم الفواحش" عن شجاع بن نصر رحمه الله تعالى: أن سليمان بن داود عليهما السلام قال لعفريت من الجن: ويلك أين إبليس؟ فسعى العفريت بين يديه حتى هجم به على البحر، فإذا إبليس على بساط على الماء، فلما رأى سليمان عليه السلام ذعر منه وفَرَق، فقال: يا نبي الله! هل أمرت في شيء؟ قال: لا, ولكن جئت لأسألك عن أحب الأشياء إليك، وأبغضها إلى الله تعالى، فقال إبليس: أما والله لولا ممشاك ما أخبرتك، ليس شيء أبغض إلى الله من أن يأتي الرجل الرجل، والمرأة المرأة (¬2). ¬
وروى الحاكم وصححه، عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "النَّظَرُ سَهْم مِنْ سِهَامِ إِبْلِيْسَ مَسْمُوْمَة، فَمَنْ تَرَكَهَا مِنْ خَوْفِ اللهِ تَعَالَى أَناَبَهُ اللهُ إِيْمَاناً يَجِدُ حَلاوَتَهُ فِيْ قَلْبِهِ" (¬1). وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوْسَ عَلَى الطُّرُقِ"، قَالُوْا: يَا رَسُوْلَ اللهِ! مَا لَنَا بُدُّ مِنْ مَجَالِسِنَا نتَحَدَّثُ فِيْهَا، قَالَ: "إِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوْا الطَّرِيْقَ حَقَّهُ"، قَالُوْا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيْقِ يَا رَسُوْلَ الله؟ قَالَ: "غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَىْ، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوْفِ، وَالنَّهِيُ عَنِ الْمُنْكَرِ" (¬2). وروى مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن جرير العجلي رضي الله تعالى عنه قال: سَأَلْتُ رسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجاءة، فأمَرَني أن أصرف بصري (¬3). وروى أبو داود، والترمذي عن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله تعالى عنه: "لا تُتْبعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإِنَّ لَكَ الأُوْلَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَة" (¬4). ¬
33 - ومن أخلاق الشيطان لعنه الله: الكذب.
والمفتى به من مذهب الشافعي - رضي الله عنه -: أن النظر إلى الأمرد الجميل مطلقًا حرام بشهوة وبغير شهوة، ولا يحل منه إلا ما يحل من النظر إلى الأجنبية للضرورة كالمعاملة، والشهادة، والتعليم، والمداواة إذا لم يوجد من يتولهم لك من نحو محرم (¬1). 33 - ومن أخلاق الشيطان لعنه الله: الكذب. قال الله تعالى: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]؛ أي: يكذبون. والضمير عائد إلى شياطين الإنس والجن. وروى ابن أبي الدنيا عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ إِبْلِيْسَ لَما نزَلَ إِلَى الأَرْضِ قَالَ: يَا رَبِّ أَنْزَلْتَنِيْ إِلَى الأَرْضِ وَجَعَلْتَنِيْ رَجِيْمًا، فَاجْعَلْ لِي بَيْتًا، قَالَ: الْحَمَّامُ، قَالَ: فَاجْعَلْ لِيْ مَجْلِسَا، قَالَ: الأَسْوَاقُ وَمَجَامعُ الطُّرُقِ، قَالَ: فَاجْعَلْ لِيْ طَعَامًا، قَالَ: مَا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، قَالَ: فَاجْعَلْ لي شَرَابًا، قَالَ: كُل مُسْكِرٍ، قَالَ: اجْعَلْ لِيْ مُؤَذنا قَالَ: الْمَزَامِيْرُ، قَالَ: اجْعَلْ لِيْ قُرْآنًا، قَالَ: الشِّعْرُ، قَالَ: اكْتُبْ لِيْ كِتَابًا، قَالَ: الْوَشْمُ، قَالَ: اجْعَلْ لِيْ حَدِيْثًا، قَالَ: الْكَذِبُ، قَالَ: اجْعَلْ لِيْ حَبَائِلَ، قَالَ: النسَاءُ" (¬2). ¬
تنبيه
وروى الطبراني نحوه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما -أيضًا- (¬1). وهذه الأمور كلها إذا لم تراقب فيها أحكام المشرع، فإن مرتكبها متشبه بالشيطان، متعرض بها للمقت والخذلان، وسيأتي بيانها في محالها. * تنبِيْهٌ: ينبغي لمن له ولاية على أحد وهو يريد تأديبه أن لا يخاطبه بما فيه تلقينه باطلًا أو كذبًا ليس له فيه رخصة. روى أبو الشيخ، وابن مردويه، والسِّلفي في "الطيوريات" عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُلَقِّنِ النَّاسَ فَيَكْذِبُوا عَلَيْكَ، فَإِنَّ بَنِيْ يَعْقُوْبَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُ النَّاسَ، فَلَمَّا لَقَّنَهُمْ أَبُوْهُمْ كَذَبُوا، فَقَالُوا: أكلَهُ الذِّئْبُ" (¬2). ووقوع ذلك من سيدنا يعقوب عليه السلام لم يكن عن تعمد، فمن وقع منه شيء من ذلك عن تعمد ولم يكن فيه مصلحة أثم فأمَّا ما فيه رجعة والمصلحة فيه ظاهرة فيجوز، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -لمن ¬
34 - ومنها: التلبس بزي غيره إيهاما أنه غيره.
اعترف بين يديه بالزنا -: "لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلكَ كَذَا، لَعَلَّكَ كَذَا" (¬1) ليرجع عن إقراره. 34 - ومنها: التلبس بزي غيره إيهامًا أنه غيره. روى أبو نعيم عن وهب رحمه الله تعالى: أن راهباً تخلى في صومعته في زمن المسيح عليه السلام، فأراد إبليس أن يكايده فلم يقدر عليه، فأتاه متشبها بالمسيح فناداه: أيها الراهب! أتشرف علي كي أكلمك؟ فقال: انطلق لشأنك فلست أرد ما مضى من عمري، فقال: أشرف علي فأنا المسيح، قال: وإن كنت المسيح فمالي إليك من حاجة، أليس قد أمرتنا بالعبادة ووعدتنا القيامة؟ انطلق لشأنك، قال: فانطلق اللعين عنه وتركه (¬2). قلت: يدخل في التشبه بالشيطان فيما ذكر من يطرق الباب على غريمه المعسر، فإذا قيل له: "من؟ " قال: "أنا فلان" وغيَّر اسمه لئلا يختفي منه. وأشد منه الشرطي ونحوه إذا طلب عبدًا ليذهب إلى الظالم، فيغير اسم نفسه ليخرج إليه، ونحو ذلك. * تنبِيْهٌ: وقع في "تفسير الإِمام فخر الدين الرازي" في قوله تعالى حكايته عن ¬
35 - ومنها: الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو على غيره من الأنبياء عليهم السلام وهو -وإن كان داخلا في الكذب- إلا أني نبهت عليه على حدة لمزيد الاعتناء بالزجر عنه، والتنفير منه.
إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83]؛ أي قال: إنما ذكر إبليس هذا الاستثناء لئلا يقع في كلامه الكذب. قال: والكذب يستنكفه إبليس فكيف يليق بالرجل المسلم؟ انتهى (¬1). قلت: هذا لا يصح في حق إبليس أن يحترز عن الكذب، بمعنى أنه لا يكذب لثبوت الكذب عنه بالنص كما سبق، وإنما أظهر التحرز عن الكذب والتنزه عنه خديعة، وزعمًا منه أن كذبه يخفى بدعواه التحرز عنه. وهذا من تخيلاته، ومفترياته، وتلبيساته. ويتشبه به في هذا التلبيس كذبة الصوفية الذين يظهرون الزهد، والورع، ويدعون الصدق والتنزه عن الكذب والفحش، وهم في أنفسهم على خلاف ذلك. ومن هنا شرب المنافقين والمارقين، وأكثرهم يفتضحون ويظهر الله تعالى سرائرهم في أسرتهم وفلتات ألسنتهم، فافهم واحذر! 35 - ومنها: الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو على غيره من الأنبياء عليهم السلام وهو -وإن كان داخلًا في الكذب- إلا أني نبهت عليه على حدة لمزيد الاعتناء بالزجر عنه، والتنفير منه. ¬
36 - ومنها: التكذيب بالحق.
وقد قال أبو محمَّد الجويني من الأئمة الشافعية: إن مرتكبه يكفر به (¬1). وروى الخطيب في كتاب "الكفاية" -كما قال السيوطي- عن أبي العالية أنه قال رحمه الله تعالى: لا تقوم الساعة حتى يمشي إبليس في الطرق والأسواق يقول: حدثني فلان عن فلان عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا وكذا (¬2). وروى ابن عدي عن الليث بن سعد رحمه الله تعالى قال: قدم علينا شيخ الإسكندرية يروي لنافع، ونافع يومئذ حي، فكتبنا عنه قنداقين، فلما خرج الشيخ أرسلنا بالقنداقين إلى نافع، فما عرف منها حديثا واحدًا، فقال أصحابنا: ينبغي أن يكون هذا من الشياطين الذين حبسوا (¬3). قلت: يدخل في التشبه بالشيطان في ذلك من زعم أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحدًا من الأنبياء في منامه، أو كوشف بأرواحهم وهو في ذلك كاذب، فيكون شيطانا رجيمًا. 36 - ومنها: التكذيب بالحق. روى النسائي، والترمذي، وابن حبان وصححاه، عن ابن مسعود ¬
37 - ومنها: مجادلة الناس بغير حق.
رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَهُ لَمَّةٌ بِابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةٌ، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيْعَادٌ بِالشَّرِ وَتَكْذِيْبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيْعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيْقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَّيْطَانِ" (¬1). 37 - ومنها: مجادلة الناس بغير حق. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما موقوفاً عليه، ورواه الطبراني عنه مرفوعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يُوْشِكُ أَنْ يَظْهَرَ فِيْكُمْ شَيَاطِيْنٌ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ أَوْثَقَها فِيْ الْبَحْرِ، يُصَلُّوْنَ مَعَكُمْ فِيْ مَسَاجِدِكُمْ، وَيَقْرَؤُوْنَ مَعَكُمُ الْقُرْآنَ، وَيُجَادِلُوْنكُمْ فِيْ الدّيْنِ، وَإِنهمْ لَشَيَاطِيْنٌ فِيْ صُوْرَةِ إِنْسَانٍ" (¬2). روى ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: أول من قاس إبليس، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس (¬3). والقياس له شروط وأحكام مذكورة في كتب الأصول فمن استوفاها وقاس لم يكن من هذا القبيل، بل يكون مثاباً عليه. ¬
38 - ومنها: مصادمة النص بالقياس، وتقديم الرأي على النص.
38 - ومنها: مصادمة النص بالقياس، وتقديم الرأي على النص. ألا ترى أن إبليس أُمر بالسجود نصًا فترك السجود رأيًا فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76]. وروى أبو نعيم، والديلمي عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَوَّلُ مَنْ قَاسَ أَمْرَ الدِّيْنِ بِرَأْيِهِ إِبْلِيْسُ؛ قَالَ اللهُ لَهُ: اسْجُدْ لآدَمَ، فَقَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76] ". قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس (¬1). وهذا محمول على القياس الذي تأباه قواعد الكتاب والسنة كما علمت. 39 - ومنها: محبة البدعة، والدعاء إليها، وذلك من الكبائر، ومجالسة أهل البدعة ومعاشرتهم لغير ضرورة. روى ابن أبي الدنيا عن الحسن رحمه الله تعالى قال: بلغنا أن إبليس قال: سولت لأمة محمد المعاصي فقطعوا ظهري بالاستغفار، فسولت لهم ذنوبا لا يستغفرون الله منها (¬2)؛ يعني: الأهواء. وروى اللالكائي في "شرح السنة" عن ابن مسعود رضي الله تعالى ¬
عنه قال: إياكم وما يحدث الناس من البدع؛ فإن الدين لا يذهب من القلوب بمرة، ولكن الشيطان يحدث بدعًا حتى يخرج الإيمان من قلبه (¬1). وعن الأوزاعي رحمه الله تعالى قال: لقي إبليس جنوده فقال: من أين تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل، قال: هل تقدرون أن تأتوهم من قبل الاستغفار؟ قالوا: إنا نجده مقروناً بالتوحيد، فقال: لآتينهم من قبل ذنب لا يستغفرون منه، قال: فبث فيهم الأهواء (¬2). وروى هو وأبو نعيم عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، والمعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها (¬3). وروى الطبراني -ورجاله ثقات- عن عرفجة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَالشَّيْطَانُ مَعَ مَنْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ" (¬4). ¬
40 - ومنها: محبة الفتنة، والإشارة بها وبقتل المؤمن، والسعي في إهلاك خيار العباد والمكر بهم.
وقال الخطيب في كتاب "شرف أصحاب الحديث": أنشدني عبد الغفار بن محمد بن جعفر المكتب قال: أنشدني عمر بن أحمد الواعظ قال: أنشدنا أحمد بن كامل لأبي جعفر الخواص رحمه الله تعالى: [من الرمل] ذَهَبَتْ دَوْلَةُ أَصْحابِ الْبِدَعْ ... وَوَهَىْ حَبْلُهُمُ ثُمَّ انْقَطَعْ وَتَداعَىْ بِانِصْرامٍ جَمْعُهُمْ ... حِزْبُ إِبْلِيْسَ الَّذِيْ كانَ جَمَعْ هَلْ لَهُمْ يا قَوْمُ فِيْ بِدْعَتِهِمْ ... مِنْ فَقِيْهٍ وَإِمامٍ مُتَّبَعْ مِثْلِ سُفْيانَ أَخِيْ ثَوْرِ الَّذِيْ ... عَلَّمَ النَّاسَ دَقِيْقاتِ الْوَرَعْ أَوْ سُلَيْمانَ أَخِيْ التَّيْمِ الَّذِيْ ... تَرَكَ النَّوْمَ لِهَوْلِ الْمُطَّلَعْ أَوْ فَتَىْ الإِسْلامِ أَعْنِيْ أَحْمَدا ... ذاكَ لَوْ قارَعَهُ الْقَرا قَرَعْ لَمْ يَخَفْ سَوْطَهُمُ إِذْ خَوَّفُوْا ... لا وَلا سَيْفَهُمُ حِيْنَ لَمَعْ (¬1) 40 - ومنها: محبة الفتنة، والإشارة بها وبقتل المؤمن، والسعي في إهلاك خيار العباد والمكر بهم. قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27]. روى ابن هشام في "سيرته"، وابن جرير، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن قريشًا فرقوا لما أسلمت الأنصار أن ¬
يتفاقم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ من نجد، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نجد، وقد سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأيًا ونصحًا، قالوا: ادخل. قال أبو البختري: فأما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً وتحبسوه في بيت، وتشدوا وثاقه، وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه منها طعامه وشرابه، وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء، فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال: بئس الرأي! والله لئن حبستموه ليخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، ويوشك أن يثبوا عليكم فيقاتلوكم، ويأخذوه من أيديكم، قالوا: صدق الشيخ. فقال هشام بن عمرو: أمَّا أنا فأرى أن تحملوه على بعير فتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع وأين وقع، فإذا غاب عنكم استرحتم، فقال إبليس: ما هذا لكم برأي، تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاءكم لتخرجوه إلى غيركم فيفسدهم، ألم تروا إلى حلاوة منطقه، وطلاقة لسانه، وأخذ القلوب ما سمع من حديثه، والله لئن فعلتم ذلك فيذهب ويستميل قلوب قوم، ثم يسيرهم إليكم فيخرجوكم من بلادكم، فقالوا: صدق والله الشيخ. فقال أبو جهل: لأشيرن إليكم برأي ما أرى غيره؛ إني أرى أن
تأخذوا من كل بطن شاباً نسيباً وسيطاً فيكم، ثم يعطى كل فتى منهم سيفًا صارماً، ثم يضربوه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، وإنهم إذا أرادوا ذلك قبلوا العَقْل، فتودي قريش بديته، فقال إبليس: صدق هذا الفتى، وهو أجودكم رأياً، وإن القول ما قال لا أرى غيره، فتفرقوا على قول أبي جهل وهم مجتمعون له، فأتى جبريل عليه السلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، وأمره أن لا يبيت مضجعه الذي كان يبيت فيه، فأذن الله تعالى له بالخروج إلى المدينة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً رضي الله تعالى عنه أن يبيت في مضجعه، وقال: "تَسَحَّ بِبُرْدَتِيْ فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ مِنْهُمْ ما تَكْرَهُهُ". ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ قبضة من تراب، فأخذ الله أبصارهم، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم، وهو يقرأ أوائل سورة يس إلى قوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يسَ: 9] , ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر - رضي الله عنه -، فذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 35] (¬1). ¬
41 - ومنها: الغش.
41 - ومنها: الغش. وأي عبد أغش لعباد الله تعالى ممن يأمرهم بمعصيته ليضلوا ويهلكوا كما في هذه القصة التي ذكرناها آنفاً. وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]، وأي غش أعظم من هذا الغش، وهذا غشه لأوليائه الذين هم حزبه فكيف بغيرهم؟ قال ابن زيد رضي الله تعالى عنه: يدعو حزبه إلى معاصي الله، وأهل معاصي الله هم أصحاب السعير، وهؤلاء حزبه من الإنس ألا تراه يقول: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19]؛ قال: والحزب ولاته الذين يتولاهم ويتولونه. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وبذلك يظهر أن كل موالاة في غير ذات الله غش، والقائم بها متشبه بالشيطان في الغش لأن مآلها إلى السوء، فهي عين العداوة. ومن ثم قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، فالغش مباينة - وإن كان ظاهره موافقة واتفاقا في الهوى - ومن ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" (¬2)، فكلما توغل العبد في غش العبد كلما كان بالشيطان أشبه، وله أوفق؛ لأنه أغش الخليقة للخليقة. ¬
تنبيه
روى أبو نعيم عن مُطرِّف رحمه الله تعالى قال: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين (¬1). قلت: ومن العجب أن الشيطان أغش الخلق للخلق وهو يدعي النصيحة، ويقسم عليها، كما قال الله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]، وكذلك حال أهل الغش لا يألون جهدًا في إخفائه على من يريدون غشه بالقسم وإقامة الأدلة على الولاية والنصيحة. والغش خلق قلبي نفاقي الظاهر منه غير الباطن. وروى أبو نعيم عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان -يعني: الداراني- رحمهما الله تعالى يقول: ما أتي من أتي من إبليس وقارون وبلعام إلا أن أصل نياتهم على غش، فرجعوا إلى الغش الذي في قلوبهم، والله أكرم من أن يمن على عبد بصدق ثم يسلبه إياه (¬2). * تنبِيْهٌ: الغش من الكبائر. وصح في الحديث: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" (¬3)، وفي لفظ آخر: ¬
42 - ومنها: الخديعة والمكر.
"لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ" (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن عبد الحميد بن محمود قال: كنت عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأتاه رجل، فقال: أقبلنا حجَّاجاً حتى إذا كنا في الصفاح توفي صاحب لنا، فحفرنا له، فإذا أسود سالخ قد أخذ اللحد، فحفرنا له قبراً آخر وآخر، فإذا أسود سالخ قد أخذ اللحد، فتركناه، وأتيتك أسألك ماذا تأمرنا به؟ [قال]: ذاك عمله الذي كان يعمل؛ اذهبوا به فادفنوه في بعضها، فو الله لو حفرتم له الأرض كلها لوجدتم ذلك. قال: فألقيناه في قبر منها، فلما قضينا سفرنا أتينا امرأته فسألناها عنه، فقالت: كان يبيع الطعام فيأخذ قوت أهله كل يوم، ثم يخلط فيه مثله من قصب الشعير، ثم يبيعه (¬2)؛ فعذب بذلك. 42 - ومنها: الخديعة والمكر. ولعل الفرق بينهما وبين الغش: أن الغش إيصال الضرر من فعل الغاش على وجه الإخفاء، وإظهار خلاف ما هو فيه من الضرر، أو تغطية الضرر بما ظاهره نفع. والمكر والخديعة: تزيين الشيء للممكور به والمخدوع ليقع في الضرر، أو لينتفع الماكر أو الخادع بمأمنه، وإن استضر هو في نفسه. ¬
ومنه الخديعة في البيع بتحسين الكلام والإقسام ليشتري بأزيد، وليبيع بأنقص من غير فعل في المبيع، فإن انضم إليه خلط المبيع بدونه أو كتم عيبه مع الاطلاع عليه كان غشاً وخديعة، فإن اقتصر على الخلط والكتم من غير تحسين ويمين فهو غش فقط، ولا شك أن أول المخادعين والماكرين إبليس. قال قتادة رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]: حلف بالله لهما حتى خدعهما -قال: وقد يخدع المؤمن بالله- قال لهما: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما. قال قتادة: وكان بعض أهل العلم يقول: من خادعنا بالله خدعنا. رواه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ (¬1). وفي الحديث: "الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيْمٌ، وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيْمٌ" (¬2). وأنشد نفطويه: [من الكامل] إِنَّ الْكَرِيْمَ إِذا تَشاءُ خَدَعْتَهُ .. وَتَرَىْ اللَّئِيْمَ مُجَرَّبًا لا يُخْدَعُ (¬3) وقلت: [من الرجز] ¬
43 - ومنها: اليمين الغموس.
إِيَّاكَ أَنْ تُعاشِرَ اللَّئِيْما ... إِنَّ اللَّئِيْمَ يَخْدَعُ الْكَرِيْما مَنْ عاشَرَ اللَّئِيْمَ إِمَّا نادِماً ... تَراهُ أَوْ مُوَبَّخاً مَلُوْما إِنَّ اللَّئِيْمَ وَالرَّجِيْمَ اتَّفَقا ... طَبْعًا وَخُلْقاً سَيِّئاً وَشُوْما 43 - ومنها: اليمين الغموس. قال الله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] , وقد شهد الله أنه لم ينصحهما، بل غرهما، فقال الله تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22]. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: غرهما باليمين، وكان يظن آدم عليه السلام أنه لا يحلف أحد بالله كاذباً (¬1). قلت: فالشيطان أول من حلف اليمين الفاجرة، فمن حلف يميناً كاذبة ليغر بها أو يضر فهو أشبه الناس بالشيطان. واليمين الغموس كبيرة، وهي الفاجرة؛ سميت غموساً؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار. روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوْقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِيْنُ الْغَمُوْسُ" (¬2). ¬
وروى الترمذي، وابن حبان، والحاكم عن عبد الله بن أُنَيْس الجهني رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مِنَ الْكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوْقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْيَمِيْنُ الْغَمُوْسُ، مَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاللهِ يَمِيْنَ صَبْرٍ فَأَخَذَ بِهَا سَهْمًا مِثْلَ جَنَاحِ بَعُوْضَةٍ إِلَّا جَعَلَ اللهُ تَعَالَى فِيْ قَلْبِهِ كَيَّهً (¬1) يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬2). وفي حديث رواه الطبراني: "إِنَّ الْيَمِيْنَ الْغَمُوْسَ [تُذْهِبُ المالَ وتُقِل في الرَّحِم]، تَذَرُ الدِّيَارَ بَلاقِعَ" (¬3)؛ أي: ديار الدنيا بأن تخلو من الحالف وذريته سريعاً. قلت: وكذلك ديار الآخرة، فليحذر الحالف أن تخلو منه دار السلام كما خلت من إبليس وذريته، وصارت بلاقع منهم. وفي ذلك قلت: [من السريع] مُذْ أَقْسَمَ الشَّيْطانُ فِيْ جَنَةِ الْـ ... ـــــخُلْدِ يَمِيْنَ الْمَيْنِ كَيْ يَخْدَعا ¬
44 - ومنها: الحلف بغير الله تعالى.
أُخْرِجَ مِنْها ثُمَّ لَمَّا يَعُدْ ... وَأَصْبَحَتْ مِنْهُ قُوًى بَلْقَعا حُقَّتْ يَمِيْنُ الْمَيْنِ مِنْ أَجْلِ ذا ... فِيْ الْعَكْسِ وَالنَّكْسِ بِأَنْ تُسْرِعا 44 - ومنها: الحلف بغير الله تعالى. روى الطبراني في "الكبير" بإسناد جيد، عن سمرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَحْلِفُوْا بِالطَّوَاغِيْتِ، وَلا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَاحْلِفُوا بِاللهِ؛ فَإِنَّهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ أَنْ تَحْلِفُوا بِهِ، وَلا تَحْلِفُوا بِحَلْفِ الشَّيْطَانِ" (¬1). وروى هو وأبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما: أنه قال: لا تحلفوا بحلف الشيطان أن يقول أحدكم: وعزة الله، ولكن قولوا كما قال الله تعالى: [والله] رب العزة (¬2). وإنما أراد ابن مسعود - رضي الله عنه - المبالغة في التنفير من أعمال الشيطان -وإن كان بعضها مباحاً- وإلا فإن العزة من صفات الله تعالى، واليمين بها منعقدة سائغة. ¬
وفي الحديث: "إِنَّ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا نَظَرَ إِلَىْ الْجَنَّةِ رَجَعَ إِلَىْ اللهِ تَعالَىْ فَقالَ: وَعِزَّتِكَ لا يَسْمَعُ بِها أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَها"، الحديث. رواه الترمذي، والنسائي، وغيرهما (¬1). ويقال: إن العزة اسم حية محيطة بجبل (ق) (¬2) المحيط بالدنيا؛ فإن كان هذا صحيحاً فلعل الشيطان قصدها بيمينه، فيكون حالفاً بغير الله تعالى. وروى الطبراني عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مُعَاذُ! إِنِّي مُرْسِلُكَ إِلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فِإِذَا سُئِلْتَ ¬
تنبيه
عَنْ الْمَجَرَّةِ الَّتِيْ فِيْ السَّمَاءِ فَقُلْ: هِيَ لُعَابُ حَيَّةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ" (¬1). * تَنْبِيْهٌ: الحلف بغير الله تعالى محظور عند أكثر العلماء. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره وأنا صادق. رواه الطبراني بإسناد صحيح (¬2). وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إنه مكروه، قال: وأخشى أن يكون معصية. وصحح الرافعي القطع بأنه مكروه. وصرح أبو محمد الجويني، والماوردي بانه حرام، واختاره الأذرعي لصحة النهي عنه. قال الرافعي: قال الأصحاب: ولو أن الحالف بغير الله تعالى اعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله كَفَرَ (¬3). ¬
45 - ومنها: التصميم على اليمين وغيرها خير منها، فإن كانت اليمين على محرم فتركها واجب، وإلا فسنة، والكفارة فيهما.
وعليه حمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فقد كَفَرَ". [وفي لفظ] (¬1): "فَقَدْ أَشْرَكَ". رواه أبو داود باللفظ الأول (¬2)، والإمام أحمد بالثاني، والحاكم، وصححه بهما من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬3). وإن جرى لسان العبد بالحلف بغير الله تعالى فهو من لغو اليمين، وقد قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]. وعليه حمل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الصحيحين: "أَفْلَحَ وأبيهِ إِنْ صَدَقَ" (¬4). 45 - ومنها: التصميم على اليمين وغيرها خير منها، فإن كانت اليمين على محرم فتركها واجب، وإلا فسنة، والكفارة فيهما. وبيان أن ذلك من أفعال الشيطان أنه قال كما حكاه الله تعالى عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83]، ثم صمم على يمينه، فهو يغويهم إلى آخر الدهر، فلا ينبغي التشبه باللعين في ذلك. ¬
46 - ومنها: قلة المبالاة بحنث اليمين إلا في خير، وترك تكفير اليمين المحنوث فيها.
وروى ابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ فِيْ قَطِيْعَةِ رَحِم أَوْ مَا لا يَصْلُحُ فَبِرُّهُ أَنْ لا يُتِمَّ عَلَى ذَلِكَ" (¬1)؛ أي: بل يفعل ما حلف عليه، ويكفر كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِيْنٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِيْ هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنِهِ". رواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي (¬2). 46 - ومنها: قلة المبالاة بحنث اليمين إلا في خير، وترك تكفير اليمين المحنوث فيها. فإن اللعين لم يكفر عن ما وقع منه من الحلف، ولم يبال باليمين الفاجرة التي حلفها لآدم وحواء عليهما السلام، ولا يحنث في قوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83]؛ فإنه زين لكثير منهم وأغواه، لكنهم بلطف الله تعالى بهم لم يغووا ولم يهلكوا بإغوائه، فينبغي أن يخالف الشيطان في ذلك كله. قال الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]. 47 - ومنها: إيقاع الناس في الكذب والحنث. روى البيهقي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: إني ¬
48 - ومنها: أن يحول بين العبد وبين الوفاء بالعهد أو باليمين أو بالنذر، وبينه وبين إخراج ما نوى أن يتصدق به، وإذا خلا رجل بامرأة كان ثالثهما، ويلازم المعجبين بآرائهم، ويصوب إعجابهم، فالمؤمن عليه أن يحذر هذه الأخلاق الشيطانية.
لا أقول: لا أزني، ولا أسرق، ولا أشرب الخمر، قال: لِمَ؟ قال: لأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الْبَلاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ مَا قَالَ الْعَبْدُ لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ إِلاَّ تَرَكَ الشَّيْطَانُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ فَوَلَعَ بِذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى يُؤْثمَهُ" (¬1). 48 - ومنها: أن يحول بين العبد وبين الوفاء بالعهد أو باليمين أو بالنذر، وبينه وبين إخراج ما نوى أن يتصدق به، وإذا خلا رجل بامرأة كان ثالثهما، ويلازم المعجبين بآرائهم، ويصوب إعجابهم، فالمؤمن عليه أن يحذر هذه الأخلاق الشيطانية. روى ابن أبي الدنيا في "المكائد" عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال: بينما موسى عليه السلام جالس في بعض مجالسه إذ أقبل إبليس وعليه برنس له يتلون فيه ألواناً، فلما دنا منه خلع البرنس فوضعه، ثم أتاه فقال له: السلام عليك يا موسى، قال له موسى عليه السلام: من أنت؟ قال: أنا إبليس، قال: أنت؟ فلا حياك الله، ما جاء بك؟ قال: جئت لأسلم عليك لمنزلك من الله تعالى ومكانك منه، قال: فما الذي رأيت عليك؟ قال: به أختطف قلوب بني آدم، قال: فما الذي إذا صنعه الإنسان استحوذت عليه؟ قال: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، ونسي ذنوبه استحوذت عليه، واحذر ثلاثاً: لا تخل بامرأة لا تحل لك؛ فإنه ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه ¬
49 - ومنها: النذر في المعصية.
دون أصحابي حتى أفتنه بها، ولا تعاهد الله عهداً إلا وفيت به؛ فإنه ما عاهد الله أحد عهداً إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء به، ولا تخرجن صدقة إلا أمضيتها؛ فإنه ما أخرج رجل صدقة فلم يمضها إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء بها. ثم ولى وهو يقول: يا ويله -ثلاثاً- علم موسى ما يحذر به بني آدم (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن بريدة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَخْلُوَنَّ رَجُل بِامْرَأةٍ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا" (¬2). 49 - ومنها: النذر في المعصية. روى عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن أبي مجلز رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168]؛ قال: النذور في المعاصي (¬3). وسأل الحسنَ رجلٌ فقال: حلفت إن لم أفعل كذا وكذا أن أحج حبواً؟ فقال: هذا من خطوات الشيطان، فحج واركب، وكفر عن يمينك. ¬
50 - ومنها: الجهل بالله تعالى وبعظمته، وهذه أخص أوصاف الرجيم،
وسُئل جابر بن زيد رضي الله تعالى عنه عن رجل نذر أن يجعل في أنفه حلقة من ذهب؟ فقال: هي من خطوات الشيطان، ولا يزال عاصياً لله عز وجل، فليكفر عن يمينه. رواهما عبد بن حميد، وغيره (¬1). ومن هذا القبيل ما يفعله بعض النساء: لئن ولد لها ولد لتثقبن أذنه، وهو حرام من تغيير خلق الله. وروى ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: نذرت أن أقوم على قعيقعان عرياناً إلى الليل، فقال: أراد الشيطان أن تبدو عورتك، وأن تضحك الناس بك؛ البس ثيابك، وصل عند الحجر ركعتين (¬2). وروى النسائي عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "النَّذْرُ نَّذْرَانِ؛ فَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِيْ طَاعَةِ اللهِ فَذَلِكَ للهِ، وَفِيْهِ الْوَفَاءُ، وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِيْ مَعْصِيَةِ اللهِ فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ، وَلا وَفَاءَ فِيْهِ، ويُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِيْنَ" (¬3). 50 - ومنها: الجهل بالله تعالى وبعظمته، وهذه أخص أوصاف الرجيم، ولو عرف الله تعالى لاتقاه وخشيه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وقد تقدم أن إبليس سلب العلم والمعرفة. ¬
51 - ومنها: الفحش، والبذاء، والوقاحة، وقلة الحياء، بل عدمه بالكلية، وهذا مما لا شك فإن الشيطان أول من ألقى جلباب الحياء من الله ومن الناس.
وروى الطبراني بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ -جَلَّ ذِكْرُهُ- أَذِنَ لِيْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ دِيْكٍ قَدْ مَرَقَتْ رِجْلاهُ اْلأَرْضَ، وَعُنْقُهُ مُنْثَنٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَكَ رَبَّنَا! فَيَرُدُّ عَلَيْهِ: مَا عَلِمَ ذَلِكَ مَنْ حَلَفَ بِيْ كَاذِبًا" (¬1). وقد تقدم أن إبليس أول من حلف بالله كاذباً، فهو أول من جهل بالله تعالى، وبصفات جلاله وجماله؛ فافهم! 51 - ومنها: الفحش، والبَذَاء، والوقاحة، وقلة الحياء، بل عدمه بالكلية، وهذا مما لا شك فإن الشيطان أول من ألقى جلباب الحياء من الله ومن الناس. أما عدم حيائه من الله تعالى، فإنه قابل أمره بالإباء والاستكبار، ولما سئل عن علة امتناعه عن السجود المأمور به أجاب ربَّ العزة بما لا ينبغي أن يخاطب به، فقال: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 61 - 62]، وغير ذلك. وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْعَيَّ مِنَ الإِيْمَانِ، وَهُمَا يُقَرِّبَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، ويُبَاعِدَانِ مِنَ النَّارِ، وَالْفَحْشُ وَالْبَذَاءُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَهُمَا ¬
تنبيه
يُقَرِّبَانِ مِنَ النَّارِ، وَيُبَاعِدَانِ مِنَ الْجَنَّةِ" (¬1). وقال الجنيد رحمه الله تعالى: لقيت إبليس يمشي في السوق عرياناً، وبيده كسرة خبز يأكلها، فقلت له: أما تستحي من الناس؟ فقال: يا أبا القاسم! وهل بقي على وجه الأرض أحد يستحيى منه. * تنبِيْهٌ: مصداق ما تقدم في الحديث أن الحياء والعي يقربان من الجنة ويباعدان من النار، وأن الفحش والبذاء بعكسهما: أن إبليس لمَّا عصى غلب عليه الفحش والوقاحة حتى صارا خلقه، فتجرأ في الحضرة الإلهية، وتكلم بشقاشق كلامه، فانقلب ما قصد به الخلاص وبالًا عليه، فأدخله الله النار، وأن آدم عليه السلام لما عصى غلب عليه الحياء والعي حتى هرب، ولم ينطق بكلمة سوى أنه اعتذر بالحياء لما سئل عن سبب هربه، فألقى الله تعالى إليه الكلمات الإلهية، وعلمه كيف يقول في توبته، ووعده أن يعيده إلى الجنة هو ومن اتبع هداه من ذريته، وكان ذلك بسبب العي والحياء. روى الإمام أحمد في "الزهد"، وغيره عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه، عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ رَجُلاً طِوَالاً كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوْقٌ، كَثيْرَ شَعْرِ الرَّأْسِ، فَلَمَّا وَقَعَ بِمَا وَقَعَ بِهِ بَدَتْ ¬
52 - ومن أخلاق الشيطان: الامتناع من السجود لله تعالى، وإن شئت فقل: الامتناع من الصلاة، فتارك الصلاة أشبه الناس بالشيطان لأنه أمر بالسجود فلم يسجد.
لَهُ عَوْرتُهُ، فَكَانَ لا يَرَاهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ هَارِبًا، فَأَخَذَتْ بِرَأْسِهِ شَجَرَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ لَهَا: أَرْسِلِيْنِيْ، فَقَالَتْ: لَسْتُ مُرْسِلَكَ، قَالَ: فَنَادَاهُ رَبَّهُ عز وجل أَمِنِّيْ تَفِرُّ؟ قَالَ: إِيْ رَبِّيْ! لا، إِنِّي أَسْتَحِييكَ، قَالَ: فَنَادَاهُ: وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَحْييْ رَبَّهُ عز وجل مِنَ الذَّنْبِ إِذَا وَقَعَ، ثُمَّ يَعْلَمُ بِحَمْدِ اللهِ أَنَّ الْمَخْرَجَ فِيْ الاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ" (¬1). 52 - ومن أخلاق الشيطان: الامتناع من السجود لله تعالى، وإن شئت فقل: الامتناع من الصلاة، فتارك الصلاة أشبه الناس بالشيطان لأنه أمر بالسجود فلم يسجد. وروى الإمام أحمد، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِيْ، يَقُوْلُ: يَا ويلَهُ -وفي رواية: يَا ويلَتَا! - أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُوْدِ فَسَجَدَ، فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُوْدِ فَأَبَيْتُ، فَلِي النَّارُ" (¬2). وإذا كان هذا أسَفه عند سجدة التلاوة وهي سجود مسنون، فما ظنك بأسفه على حرمانه من الصلاة المفروضة ذات الركوع والسجود، وقراءة القرآن وذكر الله تعالى. وإنما يحصل هذا الأسف لإبليس عند السجود لأنه ممنوع منه بسبب ما قضي عليه من اللعنة المؤبدة مع حيلولة القدرة الإلهية بينه وبين ¬
السجود، واللعنة هي الإبعاد عن حضرة القرب إلى الله تعالى. قال الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْرَبُ مَا يَكُوْنُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ إِذَا كَانَ سَاجِدًا". رواه مسلم (¬1)، وغيره. وكذلك تارك الصلاة إنما يتأسف عليها عند اليأس منها، وذلك عند الموت. وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى قال: ليس شيء أشد على إبليس وجنوده الشياطين، ولا أكثر لبكائهم من أن يروا مسلماً ساجداً؛ يقولون: بالسجود دخلوا الجنة، وبالسجود دخلنا النار (¬2). أي: بالسجود دخلوا الجنة إجابة، وبالسجود دخلنا النار إباءة. وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن إبليس -لعنه الله- لقي موسى عليه السلام فقال: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله برسالته وكلمك تكليماً، وأنا من خلق الله تعالى أذنبت وأنا أريد أن أتوب، فاشفع لي إلى ربك أن يتوب علي، قال موسى: نعم، فدعا موسى ربه تعالى، فقال: يا موسى! قد قضيت حاجتك، فليسجد لقبر آدم، فلقي موسى إبليس، فقال له: أمرت أن تسجد لقبر آدم ليتاب عليك، قال: فاستكبر وغضب، وقال: لم أسجد له حياً، أأسجد له ميتا؟ ثم قال: يا موسى! إن علي حقاً مما شفعت لي إلى ¬
تنبيه
ربك، فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن: اذكرني عندما تغضب؛ فإن وحيي في قلبك، وعيني في عينك، وأجري منك مجرى الدم. واذكرني حين تلقى الزحف؛ فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف فأذكره ولده، وزوجته، وأهله حتى يولي. وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم لك؛ فإني رسولها إليك ورسولك إليها (¬1). * تَنْبِيْهٌ: كان سجود الملائكة عليهم السلام لله تعالى، وآدم عليه السلام كان كالقبلة لهم، فعبادتهم لله تعالى لا لآدم، وإبليس فَهِمَ أن العبادة لآدم فلذلك امتنع من السجود رأياً، وكان حقه أن لا يرى ولا يقيس مع وجود النص بالأمر بالسجود. على أن السجود حق لله تعالى، ولصاحب الحق أن يتبرع به لمن يشاء، فالله تعالى أمر بالسجود لآدم تفضلاً عليه من حيث إنه خليفة، ثم لم يأذن فيه لغير آدم إلا أن يكون ذلك مشروعاً في غير ملتنا، فيكون قد أذن لهم فيه، ثم لم يأذن به في ملتنا، فليس لأحد أن يسجد لأحد، بل ليس لغير الملائكة أن يسجدوا لآدم ولا لغيره من أولاده إلا ¬
فائدة
إن كان مشروعا في ملة غير ملتنا، فإن الأمر بالسجود لآدم خاص بالملائكة عليهم السلام لحكمة ظهرت أسرارها وبهرت أنوارها. ومن ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا" (¬1). ومن شعر أبي الحسن محمد بن علي المعروف بابن أبي الصقر الواسطي أحد أصحاب ابن إسحاق الشيرازي: [من الخفيف] كُلُّ رِزْقٍ تَرْجُوْهُ مِنْ مَرْزُوْقِ ... يَعْتَرِيْهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّعْوِيْقِ وَأَنا قائِلٌ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّـ .... ـــــهَ مَقالَ الْمَجازِ لا التَّحْقِيْقِ لَسْتُ أَرْضَىْ مِنْ فِعْلِ إِبْلِيْسَ شَيْئاً ... غَيْرَ تَرْكِ السُّجُوْدِ لِلْمَخْلُوْقِ (¬2) ولقد قلت: [من الخفيف] لَسْتُ أَرْضَىْ مِنْ فِعْلِ إِبْلِيْسَ شَيْئاً ... كُلُّ أَفْعالِهِ الْقِباحِ ذَمِيْمَة لا وَلَوْ صادَفَ الصَّوابَ فَهَذا ... صُوْرَةَ وَالطّباعُ مِنْهُ لَئِيْمَة * فائِدَةٌ: روى أبو نعيم، والرافعي في "تاريخ قزوين" عن علي رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَزَالُ الشَّيْطَانُ ذَعِرًا من الْمُؤْمِن ¬
53 - ومن أخلاق اللعين: كراهية السجود من غيره، وعيبه واستقباحه.
مَا حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِذَا ضَيَّعَهُنَّ تَجَرَّأَ عَلَيْهِ، وَأَوْقَعَهُ فِيْ العَظَائِمِ، وَطَمِعَ فِيْهِ" (¬1). 53 - ومن أخلاق اللعين: كراهية السجود من غيره، وعيبه واستقباحه. ألا ترى إلى قول الملعون: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61]؛ فإنه يتضمن الإزراء على الساجدين، وتقبيح ما فعلوه. وأشبه الناس -وليسوا من الناس- في هذا الخلق الخبيث الدروز، والتيامنة، والنصيرية الذين ينكرون الصلاة، والركوع والسجود، ويعيبونها، ويسمونها الطويزة، ويعدونها مثلة، وهم كفار بذلك وبأمور أخرى كإنكار الصوم، والحج، وإنكار البعث، والنشور، واعتقاد التناسخ، وغير ذلك، ومن شك في كفرهم مع ذلك يكفر. ومن المتشبهين بالشيطان في هذا الخلق القبيح: المجان والمساخر (¬2) فيما قد يقع منهم من إطلاق إنكار الصلاة والسجود لتضحيك غيرهم، ويخشى على من يتجاوز في السخرية إلى مثل ذلك الكفر وخاتمة السوء. ¬
54 - ومن أعماله لعنه الله تعالى: الصد عن ذكر الله تعالى، وعن الصلاة، أو عن غيرها من الطاعات وأعمال الخير.
54 - ومن أعماله لعنه الله تعالى: الصد عن ذكر الله تعالى، وعن الصلاة، أو عن غيرها من الطاعات وأعمال الخير. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. فكل شيء صد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من أعمال الشيطان، فلا ينبغي للإنسان أن يتعاطى شيئاً من ذلك، كأن يرى مصلياً فيعبث به، أو قارئًا فيلغوا عنده، أو يعبث بامرأة فينقض وضوءها، أو تعبث امرأة برجل فتنقض وضوءه صداً عن الصلاة، أو يرى خاشعاً فيضحكه، أو ذاكراً فيشغله عن ذكر الله تعالى، فيكون بذلك متشبهاً بالشيطان. وقد قال بعض العارفين: من شغل مشغولاً بالله تعالى، أدركه المقت في الوقت (¬1). روى عبد الرزاق عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر، فجعل يهوي بيديه قدامه وهو في الصلاة، فسأله القوم حين انصرف فقال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يُلْقِيْ عَلَيَّ شِرَارَ النَّارِ يَفْتِنِّيْ عَنِ الصَّلاةِ فَتَنَاوَلْتُهُ، فَلَوْ أَخَذْتُهُ مَا انْفَلَتَ مِنِّيْ حَتَّىْ يُرْبَطَ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِيْ الْمَسْجِدِ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِيْنَةِ" (¬2). ¬
وروى الترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِيْ أَحَدَكُمْ فِيْ صَلاتِهِ فَيُلَبِّسُ عَلَيْهِ حَتَّىْ لا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ يُسَلِّم" (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو يعلى عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَأْتِيْ أَحَدَكُمْ وَهُوَ فِيْ صَلاتِهِ فَيَأْخُذُ شَعْرَةً مِنْ دُبُرِهِ فَيَمُدُّهَا، فَيَرَى أَنَّهُ أَحْدَثَ، فَلا يَنْصَرِفْ حَتَّىْ يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ ريحًا" (¬2). وروى الطبراني بسند رجاله موثقون، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه قال: إن الشيطان ليلطف بالرجل في صلاته ليقطع عليه صلاته، فإذا أعياه نفخ في دبره، فإذا أحس أحدكم من ذلك شيئاً فلا ينصرف حتى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً (¬3). وروى الإمام أحمد بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِيْ الْمَسْجِدِ جَاءَ الشَّيْطَانُ فَأَبَس بِهِ كَمَا يَأْبِسُ الرَّجُلُ بِدَابَّتِهِ، فَإِذَا سَكَنَ لَهُ زَنقَهُ أَوْ أَلْجَمَهُ". قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: وأنتم ترون ذلك، أمَّا المزنوق ¬
محذرة
فتراه مائلاً، وأما الملجوم فتراه فاتحاً فاه لا يذكر الله تعالى (¬1). والبس بالدابة، والإبساس بها: زجرها، وسد فمها. والزنق: تشكيلها. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن الشيطان أطاف بأهل مجلس ذكر ليفتنهم فلم يستطع، فأتى على حلقة يذكرون الدنيا فأغرى بينهم حتى اقتتلوا، فقام أهل الذكر، فحجزوا بينهم، فتفرقوا (¬2). وتقدم هذا الأثر بمعناه من رواية ابن أبي الدنيا. * محذرة: رأيت في بعض التواريخ: أن جماعة كانوا في غزو، فعبث رجل منهم بمصلٍّ ليضحكه في صلاته، فلما انفتل من صلاته قام يريد عقوبته، فإذا هو قد مسخ خنزيرًا، وذهب إلى غابة هناك. 55 - ومنها -وهو نوع مما تقدم-: القعود على عقيصة شعر المصلي، ولذلك كره أن يصلي الرجل وشعره معقوص. روى الترمذي وصححه، وغيره عن أبي رافع رضي الله تعالى عنه: أنه مر بالحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وهو يصلي وقد عقص ظفيرته، فحلها، فالتفت الحسن إليه مغضباً، فقال: أقبل على ¬
56 - ومنها: المرور بين يدي المصلي، وهو حرام على من مر بين المصلي وبين سترته، إذا كان بينه وبين السترة قدر ثلاثة أذرع فما دونها.
صلاتك ولا تغضب؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ذَلِكَ كِفْلُ الشَّيْطَانِ"؛ أي: مقعده، كما أنه في رواية أبي داود كذلك (¬1). والحكمة في ذلك: أن الشعر يسجد مع الإنسان إذا سجد كما روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه دخل المسجد فرأى فيه رجلاً يصلي عاقصاً شعره، فلما انصرف قال عبد الله: إذا صليت فلا تعقص شعرك؛ فإن شعرك يسجد معك، ولك بكل شعرة أجر، قال: إني أخاف أن تترب، فقال: تتريبه خير لك (¬2). قال بعض العلماء: لما منع إبليس من السجود شق عليه سجود ابن آدم فلما لم يستطع أن يمنعه من السجود تسبب في تخلف شيء من جسده عن السجود -ولو شعرة واحدة- حتى يكون الساجد كأنه كف بعض أجزائه عن السجود. 56 - ومنها: المرور بين يدي المصلي، وهو حرام على من مر بين المصلي وبين سترته، إذا كان بينه وبين السترة قدر ثلاثة أذرع فما دونها. روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَىْ شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النِّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ ويَجُرَّهُ؛ ¬
فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ" (¬1) أي: متشبه بالشيطان لأن ذلك من أعماله الخبيثة. وروى عبد الرزاق عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: بينما أبو سعيد رضي الله تعالى عنه يصلي، إذ جاء شاب يريد أن يمر قريبا من سترته -قال: وأمير الناس يومئذ مروان-، قال: فدفعه أبو سعيد حتى صرعه، قال: فذهب الفتى حتى دخل على مروان فقال: هاهنا شيخ مجنون دفعني حتى صرعني، قال: وكانت الأنصار يدخلون عليه يوم الجمعة، فدخل عليه أبو سعيد، فقال مروان للفتى: هل تعرفه؟ فقال: نعم، هو هذا الشيخ، قال مروان للفتى: تدري من هذا؟ قال: لا، قال: هذا صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فرحب به مروان، وأدناه حتى قعد قريباً من مجلسه، فقال له: إن هذا الفتى يذكر أنك دفعته حتى صرعته، قال: ما فعلت، فرددها عليه وهو يقول: إنما دفعت شيطاناً، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْكَ وَبَيْنَ سُتْرَتك فَارْدُدْهُ، فَإِنْ أَبَى فَادْفَعْهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ" (¬2). فانظر كيف ألحق أبو سعيد - رضي الله عنه - المار بين يدي المصلي بالشيطان حتى قال: "ما دفعت إلا شيطاناً"، فجعله شيطاناً حقيقة أخذاً من الحديث: "فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ" لأنه فَعَلَ فِعْلَ الشيطان. ¬
روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم، عن سهل بن أبي حثمة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ، وَلْيَدْنُ مِنْ سُتْرَتهِ؛ لا يَقْطَعِ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلاتَهُ" (¬1). وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي لِيَقْطَعَ الصَّلاةَ عَلَيَّ فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ فَذَعَتُّهُ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُؤثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]، فَرَدَّهُ اللهُ خَاسِئاً" (¬2). وروى مسلم، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فسمعته يقول: "أَعُوْذُ بِاللهِ مِنْكَ"، ثم قال: "ألعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ"، ثم بسط يده كأنه يتناول شيئاً، فلما فرغ من الصلاة سألناه فقال: "إِنَّ عَدُوَّ اللهِ إِبْلِيْسَ جاءَ بِشِهابٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَأَرَدْتُ أَنْ آخُذَهُ، فَلَوْلا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ لأَصْبَحَ مَوْثُوْقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ الْمَدِيْنَةِ" (¬3). ¬
تنبيه
وروى الطبراني عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة مكتوبة فضم يده في الصلاة، فَلمَّا قضى الصلاة قلنا: يا رسول الله! أحدث في الصلاة شيء؟ قال: "لا" إِلاَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيَّ فَخَنَقْتُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى يَدَيَّ، وَايْمُ اللهِ! لَوْلا مَا سَبَقَنِي إِلَيْهِ أَخِي سُلَيْمَانُ لَنِيْطَ إِلَى سَارِيةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ حَتَّى تَطِيْفَ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِيْنَةِ" (¬1). * تنبِيْهٌ: روى عبد الرزاق عن نافع بن جبير رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ، فَلْيَدْنُ مِنْهَا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَمُرُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا" (¬2)؛ أي: إن لم يدن منها بدليل ما رواه عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إذا صلَّى أحدكم فليصلِّ إِلى سترَةٍ لا يَحولُ الشَّيطان بينه وَبَين صَلاتِه (¬3)؛ أي: لئلا يحول. وهو مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن أبي حثمة: "وَلْيَدْنُ مِنْ سُتْرَتهِ؛ ¬
57 - ومن أعمال الشيطان -لعنه الله- العبث بكل طائع في كل طاعة أمكنه العبث به ليشغله عن طاعته أو يفسدها.
لا يَقْطَعِ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلاتَهُ" (¬1)؛ أي: لئلا يقطع. فالدنو من السترة مانع من قطع الشيطان لصلاة العبد، وحيلولته بينه وبينها. وروى عبد الرزاق أيضاً عن عمر - رضي الله عنه -: أنه قال في المار بين يدي المصلي: لا تدعه يمر بين يديك؛ فإن معه شيطان (¬2). وفيه إشارة إلى أن مرور المار بين يدي المصلي يكون سبباً لمرور الشيطان بين يديه، فهو قرين الشيطان مكاناً وحالأ؛ فاحذره. ودل كلام عمر هذا مع كلامه السابق والحديث: أن الشيطان يستبيح المرور بين يدي المصلي بدون السترة ومع بُعْدِها، فإن قربت لم يستبحه إلا إن مر بين يديه وبين سترته مارٌّ من الإنس، ومن ثم حرم المرور حينئذ. 57 - ومن أعمال الشيطان -لعنه الله- العبث بكل طائع في كل طاعة أمكنه العبث به ليشغله عن طاعته أو يفسدها. روى الإمام أحمد، والطبراني في "المعجم الكبير" ورجاله ثقات، عن أبي الطفيل رضي الله تعالى عنه قال: قلت لابن عباس - رضي الله عنهما -: يزعم قومك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعى بين الصفا والمروة، وأن ذلك سنة؟ قال: صدقوا، إن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالمناسك اعترض عليه الشيطان عند المسعى فسابقه، فسبقه إبراهيم عليه السلام، ثم ذهب به ¬
58 - ومن أخلاقه -لعنه الله-: الغفلة عن ذكر الله تعالى، ولا سيما إذا استقلت الشمس.
جبريل عليه السلام إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الحجرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، ثم: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]، وعلى إسماعيل قميص أبيض فقال: يا أبه! إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه، فعالجه ليخلعه، فنودي من خلفه: {أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104 - 105]، فالتفت إبراهيم فإذا هو بكبش أبيض أقرن أعين. قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش. قال: ثم ذهب به جبريل إلى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم ذهب به جبريل عليهما السلام إلى منى؛ قال: هذا مناخ الناس، ثم أتى به جمعاً فقال: هذا المشعر الحرام، ثم ذهب به إلى عرفة؛ قال ابن عباس: هل تدري لم سميت عرفة؟ قلت: لا، قال: إن جبريل قال لإبراهيم عليهما السلام: عرفت -وفي رواية: هل عرفت؟ - قال: نعم، قال ابن عباس: فمن ثم سميت عرفة (¬1). 58 - ومن أخلاقه -لعنه الله-: الغفلة عن ذكر الله تعالى، ولا سيما إذا استقلت الشمس. وأهل الغفلة أشبه الناس بالشياطين. روى ابن السني، وأبو نعيم عن عمرو بن عبسة رضي الله تعالى ¬
59 - ومنها: الفرار من الأماكن التي يقرأ فيها القرآن العظيم، مع الإقبال على المجالس التي يضرب فيها بالآلات، ويتغنى فيها بأنواع التلحينات.
عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا تَسْتَقِلُّ الشَّمْسُ فَيَبْقَى شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ إِلاَّ يُسَبحُ الله بِحَمْدِهِ إِلاَّ مَا كانَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَأَغْبِيَاءِ (¬1) بَنِيْ آدَمَ". قال: فسألته عن أغبياء (¬2) بني آدم، فقال: "الْكُفَّارُ شِرارُ الْخَلْقِ، أو: شِرارُ خَلْقِ اللهِ تَعالَى" (¬3). 59 - ومنها: الفرار من الأماكن التي يقرأ فيها القرآن العظيم، مع الإقبال على المجالس التي يضرب فيها بالآلات، ويتغنى فيها بأنواع التلحينات. قال الله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45]. وروى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَجْعَلُوا بُيُوْتَكُم مَقَابِرَ؛ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنَ الْبَيْتِ الَّذي تُقْرَأُ فِيْهِ الْبَقَرَةُ" (¬4). وروى أبو عبيد في "فضائل القران"، والدارمي، والطبراني، وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن رجلاً لقي شيطاناً ¬
60 - ومنها: الفرار من الأذان وعدم إجابة المؤذن واستماعه، والتلهي عن سماعه، والخروج من المسجد بعد الأذان وقبل الصلاة لغير ضرورة، وكل ذلك مكروه، وفاعله متشبه بالشيطان.
في سكة من سكك المدينة فصارعه فصرعه، فقال: دعني وأخبرك بشيء يعجبك، فودعه، فقال: هل تقرأ سورة البقرة؟ قال: نعم، قال: فإن الشيطان لا يسمع منها شيئاً إلا أدبر وله خَبْج كخَبْج الحمار، فقيل لابن مسعود: ومن ذاك الرجل؟ قال: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬1). والْخَبْج -بفتح الخاء المعجمة، وإسكان الموحدة وبالجيم آخره-: وهو الضراط. 60 - ومنها: الفرار من الأذان وعدم إجابة المؤذن واستماعه، والتلهي عن سماعه، والخروج من المسجد بعد الأذان وقبل الصلاة لغير ضرورة، وكل ذلك مكروه، وفاعله متشبه بالشيطان. روى الإمام مالك، والشيخان، وأبو داود، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا نُوْدِيَ بِالصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِيْنَ، فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثَوُّبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ فَيَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَذْكُرْ مِنْ قَبْلُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لا يَذْكُرُ كَمْ صَلَّى" (¬2). ¬
تنبيه
وروى ابن أبي شيبة عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا نَادَى الْمُنَادِي بِالصَّلاةِ هَرَبَ الشَّيْطَانُ حَتَّى يَكُوْنَ بِالرَّوْحَاءِ"؛ وهي ثلاثون ميلاً منَ المدينَة (¬1). وروى مسلم، وابن ماجه عن أبي الشعثاء قال: كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة - رضي الله عنه - فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فاتبعه أبو هريرة ببصره حتى خرج من المسجد، فقال: أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - (¬2). * تَنْبِيْهٌ: قد علمت من حديث أبي هريرة السابق، ومن أحاديث أخرى تقدمت أن الشيطان يدخل إلى المسجد ليوسوس للمصلين، ويفرق بين الذاكرين، وقد تظاهرت النصوص على أنه يحدث الحدث الأصغر والأكبر لمَا علمنا أنه يجامع وينزل ويضرط، فَلَنَا أن نعد من قبائحه دخول المسجد والمكث فيه وهو جنب، ودخوله وهو محدث، ودخوله لغير الصلاة بل للفتنة، وتحديث النفوس بحديث الدنيا، وغير ذلك. فينبغي للعبد أن ينزه نفسه عن هذه الأمور لكونها من أفعال الشيطان، وإن كان بعضها مباحاً. ¬
ولقد قال الغزالي في "الإحياء": يكره دخول المسجد على غير وضوء (¬1). ونقل عن سعيد بن المسيب، والحسن البصري أن المحدث كالجنب يمر في المسجد ولا يجلس، على أن اتخاذ المسجد ممراً مكروه. وقال المتولي، والروياني من أصحابنا الشافعية: إن القعود في المسجد من غير غرض صحيح من انتظار صلاة، أو اعتكاف، أو قراءة، أو تعليم، أو موعظة، أو نحو ذلك مكروهٌ. وقال غيرهما: مباح. قلت: ومحل ذلك فيما لم تتمحض نيته من المكلف في دخول المسجد لأمر دنيوي كبيع أو شراء، أو تحدث مع إخوان في أمور الدنيا، فإذا تمحضت نيته لذلك كان مكروها قطعاً. وروى ابن حبان عن ابن مسعود، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ ناَسٌ مِنْ أُمَّتِي يَأتُوْنَ الْمَسَاجِدَ فَيَقْعُدُونَ فِيْهَا حِلَقًا ذِكْرُهُمْ الدُّنْيَا وَحُبُّ الدُّنْيَا؛ لا تُجَالِسُوْهُمْ، فَلَيْسَ لِلَّهُ بِهِمْ حَاجَةٌ" (¬2). فإن قلت: فما يصنع بما رواه عبد الرحمن بن معقل: أنه قال: ¬
61 - ومن أخلاق اللعين: إنساء العبد أن يذكر ربه في شدائده وحاجاته، فيلقي في قلب العبد طلب الغوث والحاجة من العبد لما له من الجاه أو الكلمة أو القوة.
كنا نتحدث أن المسجد حصن حصين من الشيطان (¬1)؟ والجواب: أن معناه: أن العبد المؤمن إذا دخل المسجد فإنما يدخله غالباً لصلاة، أو اعتكاف، أو ذكر، أو غير ذلك من الطاعات، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيْمَانِ". رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه (¬2). ومَنْ ذَكَرَ الله وأطاعه فقد تحصن من الشيطان، فلما كان دخول المسجد في حق المؤمن سبباً لدخول المؤمن في الذكر والطاعة التي هي الحصن حقيقة من الشيطان، أطلق على المسجد أنه حصن حصين من الشيطان. ومثال من دخل المسجد واشتغل بشيء مكروه أو محرم مثال من دخل الحصن الحصين وفتح بابه للعدو المُلِحِّ في عداوته. 61 - ومن أخلاق اللعين: إنساء العبد أن يذكر ربه في شدائده وحاجاته، فيلقي في قلب العبد طلب الغوث والحاجة من العبد لما له من الجاه أو الكلمة أو القوة. فمن استشارك في مهمة أو ملمة فأرشده أولاً إلى رفع حاجته ¬
إلى الله تعالى، واعتماده عليه، وانتظار الخير منه، ثم أشر عليه بما ترى. وإياك أن تشير إليه أن يلجأ إلى متوجَّه أو متجَوِّه أو فاسق، فتكون من إخوان الشيطان إلا أن تشير عليه بمداراته أو الانتفاع به من حيث إنه مسخر، وتُعرِّفه بأنه لا فعل له وإنما هو مسخر، فإن حصل منه نفع فهو بتسخير الله تعالى إياه له، كما في تسخير فرعون لموسى عليه السلام حتى ربِّي في حِجْرِهِ مكرماً، فكأن موسى عليه السلام يرى فرعون مسخراً له، فلذلك لم يحمله الحياء منه ووجود الصنيعة منه إليه على ترك مواجهته بالأمر والنهي في دعوته إلى الله تعالى وإرشاده إلى الحق، وكان فرعون يرى نفسه فاعلاً فامتن عليه بتربيته بقوله: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 18 - 19]. ومن هنا كان المن من العبد قبيحاً محرماً محبطاً للثواب، وليس الشكر من حيث إنه يرى المنعم عليه غير الله هو الفاعل، كما ظنه فرعون، بل من حيث إنه محل وواسطة في إيصال النعم إليه، فلا تركن ولا تأمر أحداً أن يركن إلى غير الله تعالى إلا من حيث أمرُ الله تعالى، فتكون ذاكراً لله تعالى مذكِّراً به، غيرَ ناسٍ له ولا منسٍ عنه. وقد ذم الله تعالى نسيانه، ونسب إنساءه على لسان أنبيائه إلى فعل الشيطان. قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ
نَاجٍ مِنْهُمَا} [يوسف: 42]؛ يعني: لساقي الملك، وهو أحد الفتيين اللذين استفتياه فيما رأياه في منامهما: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -قال البغوي: وعليه الأكثرون -: أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه حتى ابتغى الفرَج من غيره، واستعان بمخلوق، وتلك غفلة عرضت ليوسف من الشيطان (¬1). واستشكل هذا بعضهم بأن الشيطان ليس له على الأنبياء عليهم السلام سلطنة، فكيف يضاف نسيان يوسف عليه السلام إلى الشيطان؟ وأجيب بأن الأنبياء عليهم السلام إنما يعصمون عن النسيان فيما يبلغون عن الله تعالى فقط، وأمَّا في غيره فإذا وقع النسيان منهم حيث يحذر وقوعه فإنه ينسب إلى الشيطان إطلاقاً، وذلك فيما يخبر الله عنهم، ولا يجوز لنا نحن ذلك. قال القرطبي: ونظير ذلك قول يوشع بن نون: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَه} [الكهف: 63]، فنسب نسيانه لذكر الحوت لموسى عليه السلام إلى الشيطان (¬2). والتحقيق في هذه المسألة: أن تسليط الشيطان على الأنبياء فيما يؤثر في طبائعهم أو في أجسادهم من غير أن يزحزحهم عن الثبات ¬
تحت أعباء النبوة وعن التبليغ كما أمر، وألا يقدح في رُتَبِهم لأنهم يفيئون إلى الله تعالى في آخر أمرهم، وإنما يكون ذلك لمزيد الابتلاء؛ لأنهم أشد الناس بلاء كما تقدم. وذلك كما أثر كلام الشيطان في نفس آدم عليه السلام حتى ذاق الشجرة، وقد كان شديد الحرص على أن لا يخالف أمر ربه. وكما أثر في بدن أيوب عليه السلام حتى ابتلي بما لا مزيد عليه. وكما أثر السحر في بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي فكره حتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله، وأنه أتى النساء وما أتاهن، حتى بعث الله تعالى إليه الملك فرقاه بالمعوذتين. وكان حال يوسف عليه السلام حتى أنساه الشيطان ذكر ربه من هذا القبيل. وروى الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: عثر يوسف عليه السلام ثلاث عثرات: حين هم بها فسجن. وقوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}، فلبث في السجن بضع سنين، وأنساه الشيطان ذكر ربه. وقوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] (¬1). ¬
وروى ابن أبي حاتم، وابن المنذر، وابن مردويه في "تفاسيرهم" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَ اللهُ يُوْسُفَ! لَولا الكَلِمَةُ الَّتِي قالَ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] مَا لَبِثَ فِيْ السِّجْنِ مَا لَبِثَ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "العقوبات"، وابن جرير الطبري، وأبو القاسم الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوْسُفُ الْكَلِمَةَ الَّتِي قالَ، ما لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ" (¬2)؛ حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى. وروى الإمام أحمد في "الزهد"، والمفسرون عن الحسن رحمه الله تعالى قال: ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رَحِمَ اللهُ يُوْسُفَ! لَوْلا كَلِمَةٌ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُوْلَ مَا لَبِثَ؛ قَوْلُهُ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ". ثم يبكي الحسن ويقول: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس (¬3). ويروي عن الحسن -أيضاً- رحمه الله تعالى قال: دخل جبريل على يوسف عليه السلام في السجن، فلما رآه يوسف عرفه فقال له: ¬
يا أخا المنذرين! ما لي أراك بين الخاطئين؟ فقال له جبريل: يا طاهر ابن الطاهرين! يقرأ عليك السلام رب العالمين، ويقول لك: أما استحييت مني إذ استشفعت بالآدميين؟ فَوَعِزَّتي لألبثنك في السجن بضع سنين. قال يوسف: وهو في ذلك راض عني؟ قال: نعم. قال: إذاً لا أبالي (¬1). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الحسن أيضاً قال: لما قال يوسف للساقي: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] قيل له -أي: قال الله له -: يا يوسف! اتخذت من دوني وكيلاً؟ لأطيلن حبسك، فبكى يوسف عليه السلام، وقال: يا رب! تشاغل قلبي من كثرة البلوى فقلتُ كلمة (¬2). وبكاء يوسف عليه السلام لم يكن من الحبس، ولكن خوفاً منه أن يكون حبسه سخطًا، ولذلك سكن قلبه حين قال لجبريل: وهو في ذلك راضٍ عني؟ قال: نعم. وإنما عوقب بالحبس على كلمة قالها مع شدة البلوى؛ لأن مثله لا يسامح في مثل ذلك لعلو رتبته، وارتفاع مقامه، فقد يكون من ¬
حسنات الأبرار ما هو من سيئات المقربين. وروى ابن أبي شيبة، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"، وهؤلاء عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أوحى الله تعالى إلى يوسف عليه السلام: من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلوك؟ قال: أنت يا رب. قال: من استنقذك من الجُبِّ إذ ألقوك فيه؟ قال: أنت يا رب. قال: من استنقذك من المرأة إذ هممت بها؟ قال: أنت يا رب. قال: فما لك نسيتني وذكرت آدمياً؟ قال: جزعاً، وكلمة تكلم بها لساني. قال: فَوَعِزَّي لأخلِّدنك في السجن بضع سنين، فلبث فيه سبع سنين (¬1). بيَّنَ في هذا الحديث وجه مؤاخذة يوسف عليه السلام، وهو عدم مطالعته هذه النعم ومراجعته هذه الفوائد، فلو نظر إليها دعاه النظر إليها إلى الاعتماد على من أعادها عليه وأسداها إليه دون المخلوقين، ولم يكن ذلك نقصاً في رتبته ولا تنزيلاً عن مقامه، بل ليظهر فيه مظهر مزيد الابتلاء الذي هو وصف الأنبياء عليهم السلام. ¬
وقد كان ليوسف عليه السلام سلف صالح في الاعتماد على الله تعالى من حيث إن جده إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وعرض له جبريل، وقال له: هل لك حاجة؟ قال: أمَّا إليك فلا. وقال عند ذلك: حسبنا الله ونعم الوكيل (¬1). ومن حيث إن أباه أو عمه ابتلي بالذبح فسلَّم وصبر. وكان مقتضى حبسه ومقامه أن لا ينظر إلى غير الله تعالى، فلما تعلق بتذكرة المخلوق للمخلوق ابتُلِي. وقال الإمام فخر الدين الرازي في "تفسيره" عند الكلام على هذه الآية: والذي جربته من طول عمري أن الإنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله تعالى صار ذلك سبباً للبلاء والمحنة، والشدة والرزيَّة، وإذا عول على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه. قال: فهذه التجربة قد استمرت بي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين، فعند هذا استقر قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه (¬2). ¬
قال ابن السبكي في "طبقاته" -وذكر هذا الكلام عن الإمام المذكور-: وما ذكره حق، ومن حاسب نفسه وجد الأمر كذلك، وإن فرض أحد عول في أمره على غير الله حصل له فاعلم أنه لا يخلو عن أحد رجلين: إما رجل ممكور به والعياذ بالله. وأما رجل يطلب شراً وهو يحسب أنه خير لنفسه، ويظهر ذلك بعاقبة ذلك الأمر، انتهى (¬1). قلت: وهذا أمر جربته في أول العمر قبل أن أقف على كلام الإمام برهة من الزمان ثم استقر قلبي عليه، من ئم إلى الآن وأنا في الحادية والثلاثين من عمري. ولقد قضيت العجب من الإمام كيف لم يستقر قلبه على ذلك حتى مر به هذه المدة الطويلة؟ وقال والدي في "تفسيره" حاكياً لكلام الإمام رحمه الله تعالى: [من الرجز] قالَ الإِمامُ وَالَّذِي جَرَّبْتُهُ ... فِيْ عُمُرِىِ كَلاَّ وَقَدْ حَقَّقْتُهُ أَنَّكَ إِنْ عَوَّلْتَ فِيْ أَمْرٍ عَلى ... غَيْرِ الإِلَهِ كانَ أَصْلاً فِي الْبَلا وإنْ عَلى الإِلَهِ عَوَّلْتَ وَلَمْ ... تَرْجِعْ إِلى غَيْرِهِ فِيما قَدْ آلم ¬
62 - ومن قبائح أخلاق الشيطان: حب الدنيا، والدرهم والدينار، وتحبيبها إلى الخلق
يَحْصُلْ لَكَ الْمَقْصُوْدُ كامِلاً عَلى ... أَحْسَنِ ما يَكُوْنُ يا مَنْ عَوَّلا قالَ وَقَدْ جَرَّبْتُ هَذا فِي الزَّمانْ ... مِنْ أَوَّلِ الْعُمْرِ إِلى هَذا الأَوانْ قُلْتُ وَقَدْ جَرَّبْتُ هَذِي الْحالَةْ ... مِنْ قَبْلِ أَنْ أَسْمَعَ ما قَدْ قالَهْ ثم أقول: إن ما ذكره ابن السبكي على سبيل الفرض هذا حال أكثر الناس فعلاً لا فرضاً، وأكثرهم ممكور به، فيجري الله تعالى لهم العادة بحصول النفع أو الدفع بالخلق، فيتعلقون بهم في مهماتهم حتى لا يشهد بعضهم سواهم، وهم في ذلك على قسمين: - منهم: من شهد النفع والدفع من نفسه كما قال قارون: قَالَ {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]. - ومنهم: من شهده ممن ينسب إليه أو يعول عليه كما قال قائلهم: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31]. ومن هنا: من فاته مطلوب يتأسف على ما فاته منهم لاعتباره إياهم وتعويله عليهم كما يقول القائل: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73]. 62 - ومن قبائح أخلاق الشيطان: حب الدنيا، والدرهم والدينار، وتحبيبها إلى الخلق. روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: إن الشيطان مع الدنيا، ومَكْرُهُ مع المال، وتزيينه مع الهوى، واستكماله
عند الشهوات (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن ثابت البناني رحمه الله - مرسلاً - قال: لما بُعِثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إبليس لشياطينه: لقد حدث أمر فانظروا ما هو، فانطلقوا ثم جاءوه فقالوا: ما ندري، قال إبليس: أنا آتيكم بالخبر، فذهب وجاء، وقال: قد بعث محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال فجعل يرسل شياطينه إلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فينصرفون خائبين، ويقولون: ما رأينا قوماً قط مثل هؤلاء نُصيب منهم، ثم يقومون إلى صلواتهم فيمحى ذلك، فقال إبليس: رويداً بهم! عسى الله يفتح لهم الدنيا؛ فهناك تصيبون حاجتكم منهم (¬2). وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما ضرب الدينار والدرهم أخذه إبليس ووضعه على عينيه، وقال: أنت ثمرة قلبي وقرة عيني، وبك أكفر وبك أدخل النار، رضيت من ابن آدم أن يعبدني في حب الدينار والدرهم (¬3). ¬
تنبيه
* تَنْبِيْهٌ: قال كعب رحمه الله تعالى: أول من ضرب الدينار والدرهم آدم عليه السلام، وقال: لا تصلح المعيشة إلا بهما (¬1). وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ خَوَاتِيْمُ اللهِ فِيْ أَرْضِهِ، مَنْ جَاءَ بِخَاتمِ مَوْلاهُ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ". رواه الطبراني في "الأوسط" (¬2). فالدرهم والدينار إنما ضربا لإصلاح المعاش وقضاء الحوائج، ومن هذا الوجه هما من نعم الله تعالى على العباد، ولم يضربا للاكتناز والادخار حرصًا عليهما ومحبة لهما إلا من حيث لا يصرفان إلا في مصلحة، فإذا ادخرا للمصلحة فلا يضر، كما قيل: [من الوافر] لَمالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ... مَفاقِرَهُ آتمُّ مِنَ الْقُنُوْعِ (¬3) فأما حبهما لذاتهما أو ليصرفا في الهوى فهو الخلق الشيطاني، فأكثر الناس حملهم الشيطان على حبهما حتى آثروهما على أمر الله تعالى. ¬
ومن هذا الوجه هما مذمومان لأنهما ينقلبان نقمتين على صاحبهما في الدنيا وفي الآخرة. أما في الدنيا فإن من غلب عليه حب الدنيا والدرهم استولى على قلبه حتى يجتهد في تحصيلهما، ويتألم قلبه بصرفهما ومفارقتهما، فلا يصلح له بهما معيشة ولا تطيب له بهما عيشة، لا في طعام ولا في شراب ولا في غير ذلك من متاعات الدنيا. وأما في الآخرة فإن غلبة حب الدرهم والدينار يحملان صاحبهما على منع الزكاة، ومنع الحقوق، وتضييع العيال، وعدم المبالاة بالعقوبة على ذلك، بل ربما أدَّى به الحال إلى القتل، والغصب، والسرقة، والربا، والرشاء، والمكس، والقمار، وأكل مال اليتيم وأموال الأوقاف، وغير ذلك، وإذا منع من الدنيا وقع في السخط والكفر والحسد، وتناول الأعراض طلباً لها وانكلابًا عليها، بل قد يطلبها بالدين والتزي بزي العلماء والصالحين، فهو هالك بها لا محالة. ومن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوْا الدُّنْيَا لأَهْلِهَا؟ فَإِنَّ مَنْ أَخَذَ مِنَ الدُّنْيَا فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ أَخَذَ حَتْفَهُ وَهُوَ لا يَشْعُرُ". رواه البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). ¬
63 - ومن قبائح أخلاق الشيطان: البخل، وحمل الناس عليه.
وروى البخاري، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّيْنَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيْصَةِ؛ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيْكَ فَلا انتقشَ" (¬1). وروى الترمذي من حديثه: "لُعِنَ عَبْدُ الدِّيْنَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ" (¬2). 63 - ومن قبائح أخلاق الشيطان: البخل، وحمل الناس عليه. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: قال عيسى عليه السلام للحواريين: إن الشيطان يريد أن يبخلكم فلا تسقطوا في بخله؛ فإني سألت الله عز وجل أن يقويكم (¬3). وروى البزار، والطبراني -وسنده حسن- عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قالَ الشَّيْطانُ لَعَنَهُ اللهُ: لَنْ يَسْلَمَ مِنِّي صاحِبُ المالِ مِن إِحْدَى ثَلاثٍ أُغْدُو عَلَيْهِ بِهِنَّ وَأَرُوْحُ: أَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَإِنْفاقِهِ فِيْ غَيْرِ حَقِّهِ، وَأُحَبِّبُهُ إِلَيْهِ فَيَمْنَعُهُ مِن حَقِّهِ" (¬4). ¬
وروى ابن أبي الدنيا في "المكائد" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن الشيطان يريد الإنسان بكل ريدة، فإذا أعياه اضطجع في ماله ليمنعه أن ينفق منه شيئًا (¬1). وقال حجة الإسلام في "الإحياء": لقي يحيى بن زكريا عليهما السلام إبليس - لعنه الله - في صورته فقال له: أخبرني بأحب الناس إليك وأبغض الناس إليك. قال: أحب الناس إلي المؤمن البخيل، وأبغض الناس إلي الفاسق السخي. قال: لم؟ قال: لأن البخيل قد كفاني بخله، والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخائه فيقبله. ثم ولى وهو يقول: لولا أنك يحيى ما أخبرتك (¬2). وقد علم من ذلك أن الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، أو يمدحون البخل والبخلاء ويحبونهم أشبهُ الناس بالشيطان الرجيم. ولقد أساء ابن الرومي في قوله كما أنشده العسكري في "أمثاله" له: [من السريع] ¬
لا تَلُمِ الْمَرْءَ عَلى بُخْلِهِ ... وَلُمْهُ يا صاحِ عَلى نَحْلِهِ لا عَجَبَ بِالْبُخْلِ مِنْ ذِي حِجَى ... يُكْرَمُ ما يُكْرَمُ مِنْ أَجْلِهِ (¬1) وقد عارضته فقلت، وعن الحق ما حلت رادًا عليه، ومشيرًا إليه: [من السريع] لا تَلُمِ الْمَرْءَ عَلى بَذْلِهِ ... وَلُمْهُ وَاعْتُبْهُ عَلى بُخْلِهِ وَلا تَقُلْ مُعْتَذِرًا إِنَّهُ ... يُكْرَمُ ما يُكْرَمُ مِنْ أَجْلِهِ ذُو الْمالِ لا يُكْرِمُهُ مُكْرِمٌ ... إِلاَّ لِما يَصْنعُ مِنْ بَذْلِهِ وَمَنْ يَقُلْ غَيْرَ الَّذِي قُلْتُهُ ... فَذاكَ لا شُبْهَةَ فِي جَهْلِهِ قَدْ أَشْبَهَ الشَّيْطانَ فِي قَوْلهِ ... هَذا فَحاذِرْهُ وَفِي فِعْلِهِ فَاللهُ قَدْ واعَدَ أَهْلَ النَّدى ... بِالْفَضْلِ وَالْغُفْرانِ مِنْ أَجْلِهِ فَكُلُّ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ مالِهِ ... أَمَدَّهُ مَوْلاهُ مِنْ فَضْلِهِ ولا يخفى ما في ذلك من التلميح بقوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: اثنتان من الله تعالى، واثنتان من الشيطان؛ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]؛ يقول: لا تنفق مالك ¬
وأمسكه عليك؛ فإنك تحتاج إليه، {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ} على هذه المعاصي {وَفَضْلًا} في الرزق. رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). ومعنى يعدكم الفقر: يخوفكم بالفقر لئلا تنفقوا في وجوه الخير، فيلقي إلى الإنسان أنك إذا أكثرت من الصدقة وتوسعت في النفقة يقل ما بيدك، وتحتاج إلى أموال الناس فتسألهم منها، فيمنعونك ويعيرونك بفقرك. ومن هذا القبيل قولهم: خلف لعدوك، ولا تحتج لصديقك. والله - سبحانه وتعالى - قد أمرنا بالإنفاق ووعدنا بالخلف، فقال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. وقال بعض العارفين: من كان في الله تلفُه، كان على الله خَلَفُه (¬2). وفي التوراة: عبدي أنفق من رزقي أبسطْ عليك فضلي، وإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة (¬3). بل في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قالَ اللهُ تَعالَى: عَبْدِي! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ" (¬4). ¬
تنبيه
وروى الطبراني عن ابن مسعود، والبزار عن أبي هريرة، وعن بلال رضي الله تعالى عنهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال رضي الله تعالى عنه: "أَنْفِقْ يا بِلالُ، وَلا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلالا" (¬1). والأمر بالإنفاق والإطماع في فضل الله تعالى خُلُقٌ من أخلاق الله تعالى، وأخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والأمر بالإمساك وعدم الإنفاق خشية الفقر والإملاق خُلُقٌ من أخلاق الشياطين والفساق. وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري عن حمدون القصار رحمه الله تعالى قال: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء: رجل مؤمن قتل مؤمنًا، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر (¬2). * تَنْبِيْهٌ: روى أبو نعيم عن يحيى بن معاذ الرازي قال: قال ذو النون رحمه الله تعالى: حقيقة السخاء أن لا يلوم البخيل في منعه إياك لومًا ¬
64 - ومن أخلاق الشيطان - وهو من جنس ما تقدم -: النهي عن الصدقة لمن تطلب منه الصدقة لا سيما الزكاة.
لأنك إنما لمته واشتغلت به لوقوع ما منعك في قلبك، ولو هان ذلك عليك لم تشغل بلومه، ثم أنشأ يقول: [من الطويل] كَرِيمٌ بِصَفْوِ الْماء لَيْسَ بِباخِلٍ ... بِشَيْءٍ وَلا مُهْدٍ مَلامًا لِباخِلِ (¬1) قلت: وهذا لا يمنع من ملام البخلاء على البخل من حيث هو، إنما يذم العبد على ملام البخيل من حيث بخله عليه ووقوع ما منعه إياه في قلبه، وهذا علامة الحرص في القلب. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58]. فأما لو لامه على بخله على غيره، أو على مطلق البخل فإنه خلق كريم. وقلت: [من الكامل] لا تَسْخَطَنَّ عَلى الْبَخِيْلِ لِمَنْعِهِ ... إِيَّاكَ إِنْ تَسْخَطْ فَإِنَّكَ أَبْخَلُ بَلْ كُنْ لِوَصْفِ الْبُخْلِ أَقْوى كارهٍ ... إِنَّ الْبَخِيْلَ مُذَمَّمٌ لا يَنْبُل 64 - ومن أخلاق الشيطان - وهو من جنس ما تقدم -: النهي عن الصدقة لمن تطلب منه الصدقة لا سيما الزكاة. وقد يتفق اللوم في هذا الزمان على أبناء الزكاة ممن غلب على قلوبهم حب الدنيا حتى آثرها على الله تعالى على أمره، فيقول لولده أو ¬
لقريبه أو رفيقه: إن رأس مالك قليل لا يحتمل أن تتصدق منه، وربما سماه مبذراً أو مبذرقًا، وهذا كله من أخلاق الشيطان الرجيم. قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. والشيطان يأمر بخلاف ذلك، وكلمة الشح مطاعة وإن كانت شيطانية. وقد روى الإمام أحمد، وابن خزيمة في "صحيحه"، وابن جرير، والحاكم وصححه، والبيهقي عن بريدة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا يُخْرِجُ رَجُلٌ شيئًا مِنَ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَفُكَّ عَنْهُ لَحْييَ سَبْعِيْنَ شَيْطَانًا" (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والبيهقي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: ما خرجت صدقة حتى يفك عنها لحي سبعين شيطاناً؛ كلهم ينهى عنها (¬2). وقلت في المعنى: [من البسيط] إِنَّ الكَرِيْمَ الَّذِي يَجْرِي التَّصَدُّقُ مِنْ ... عاداتِهِ أَبَداً سِرًّا وَإِعْلانا لَهُوَ الكَرِيْمُ الَّذِي ما مِثْلُهُ بَطَلٌ ... بِقَهْرِهِ النَّفْسَ مَعْ سَبْعِيْنَ شَيْطانا ¬
تنبيه
واعلم أن الشياطين الذين يبعثون على المتصدقين أعتى الشياطين وأشدهم كما رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ إِبْلِيْسَ يَبْعَثُ أَشَدَّ أَصْحابِهِ وَأَقْوَى أَصْحابِهِ إِلَى مَنْ يَصْنعُ الْمَعْرُوْفَ فِيْ مالِهِ" (¬1). * تَنْبِيْهٌ: قد يتفق من الشيطان الترغيب في الصدقة، والإشادة بها لا لذاتها ولا لحصولها، ولكن ليتوصل إلى غرض من أغراضه الفاسدة. وكذلك حكم من يأمر بالصدقة والزكاة، ويرشد إليها ليحصل له منها شيء، لا لنفع إخوانه الفقراء، ولا ليثاب المعطي، وقد كان أحبار يهودَ يأمرون بني إسرائيل بصرف الزكاة، ويرغبونهم فيها، ثم كانوا يجمعون الزكاة ويكنزونها. وقال الثعلبي في "العرائس": أخبرنا أبو يزيد الثقفي عن ابن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني رحمه الله تعالى يقول: تبدى إبليس لقارون في بُدُوِّ أمره، وكان قارون قد أقام في جبلٍ أربعين سنة يتعبد حتى شهر عنه ذلك وعلا أمره في العبادة على بني إسرائيل حتى لم يقم أحد منهم مقامه في العبادة، فحسده إبليس - لعنه الله تعالى - وبعث إليه شياطينه ليفتنوه عن تلك العبادة فلم يقدروا عليه، ¬
65 - ومن أعمال الشيطان: التبذير والإسراف، والأمر بذلك.
فأتاه إبليس بنفسه ودخل عليه، وجعل يتعبد معه وقارون يقهره بعبادته، فقال له إبليس: يا قارون! قد رضينا بهذه العبادة وما نحن فيه، أفلا نعود مريضًا لبني إسرائيل، ونشهد لهم جنازة؟ قال قارون: نعم، فأخذ إبليس قارون من الجبل بعد ما كان قد مكث فيه أربعين سنة، فلما أخذه تمكن منه. فقال إبليس: يا قارون! قد رضينا بهذه العبادة وما نفعله، أفلا نكتسب في الجمعة يومًا ونتعبد بقية الجمعة ونعطي السائل؟ قال قارون: نعم. قال: فاكتسبوا يومًا، وتعبدوا بقية الجمعة. ثم قال إبليس: يا قارون! ما نتعبد يومًا ونكتسب يوماً نتصدق ونعطي السائل؟ قال قارون: نعم. قال: فاكتسبا يومًا وتعبدا يومًا. قال: فلما فتح إبليس على قارون باب التكسب، وأفسد عليه عبادته انصرف عنه وغاب، وانفتحت على قارون أبواب الدنيا حتى أفسدت عليه دينه فكان من الهالكين (¬1). 65 - ومن أعمال الشيطان: التبذير والإسراف، والأمر بذلك. قال الله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ¬
{وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27]. قال الإمام الوالد في تفسير هذه الآية: [من الرجز] إِنَّ الْمُبَذِّرينَ كانُوا إِخْوانا ... مِثْلَ الشَّياطِيْنِ وَكانُوا خِلاَّنا وَأَصْدِقاءَ لَهُمُ أَوْ تَبَعا ... فَإِنَّ مَنْ بَذَّرَ أَوْ مَنْ ضَيَّعا مالَهُ فِيْ مَعْصِيَةٍ أَوْ سَرَفِ ... يُشْبِهُهُمْ فِي شَرِّهِ أَو تَلَفِ وروى [الطبراني]- ورواته ثقات - عن أبي العبيدين قال: سألت عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26]، فقال: هو النفقة في غير حقه (¬1). وروى الحاكم وصححه، عن يحيى بن الحرار قال: جاء أبو العبيدين إلى عبد الله - وكان رجلاً ضريراً - فكان عبد الله يعرف له، فقال: يا أبا عبد الرحمن! من نسأل إذا لم نسألك؟ قال: فما حاجتك؟ قال: ما الأَوَّاه؟ قال: الرحيم. قال: فما الماعون؟ قال: ما يتعاون الناس بينهم. قال: فما التبذير؟ ¬
قال: إنفاق المال في غير حقه. قال: فما الأُمَّة؟ قال: الذي يعلم الناس الخير (¬1). وروى البخاري في "الأدب المفرد"، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في "الشعب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ} [الإسراء: 27]؛ قال: هم الذين ينفقون المال في غير حقه (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهبًا في طاعة الله لم يك إسرافاً، ولو أنفقت صاعًا - أي: من شعير ونحوه - في معصية الله كان إسرافًا (¬3). وقيل لبعضهم: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير (¬4). وروى البيهقي في "الشعب" عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير، وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء أو سمعة فذلك حظ الشيطان (¬5). ¬
تنبيهان
* تَنْبِيْهانِ: الأَوَّلُ: ذكر النووي، وغيره أنه يقال: أنفق في الخير، وأما في الشر فيقال: غرم وخسر. قلت: هذا في الغالب، ومن غير الغالب ما نقلناه عن ابن مسعود، وابن عباس، وعلي، ومجاهد - رضي الله عنهم -. الثَّانِي: البخل والتقتير تفريط، والإسراف والتبذير إفراط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وهما من أعمال الشيطان، والقصد بين الطرفين هو السنة في كل مقام، ولذلك قال مطرف: عمل المؤمن حسنة بين السيئتين (¬1). وقال رحمه الله: خير الأمور أوساطها. رواه البيهقي في "الشعب" (¬2). وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، والبيهقي في "السنن" عن بريدة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّيْنَ غَلَبَهُ" (¬3). وقال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]. ¬
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. قال عمر مولى عفرة رحمه الله تعالى: القوام أن لا تنفقوا في غير حق، ولا تمسك من حقٍّ هو عليك (¬1). وقال يزيد بن مرة الجعفي رحمه الله تعالى: العلم خير من العمل، والحسنة بين السيئتين؛ يعني: {إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}، وخير الأمور أوساطها. رواهما ابن جرير (¬2)، وسبق الأخير عن مطرف رحمه الله تعالى. ¬
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ «وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ» تَألِيف العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة 977 هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة 1061 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى تَحقِيقَ وَدِرَاسَة لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ بِإِشْرَافِ نُورِ الدِّين طَالِب المُجَلَّد السَّادِسُ دَارُ النَّوادِرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ (6)
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 7 - 84 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
تَابِع الَّنوْعُ الأَوَّلُ مِنَ القِسْمِ الثَّانِي فِي اْلنَّهِي عَنْ اْلتَّشَبُهِ بِالشَّيطَانِ, لَعَنَهُ الله تَعَالَى
66 - ومن أعمال الشيطان: شرب الخمر، وتناول المسكرات، والقمار، واللعب بالنرد ونحوه مطلقا، واللعب بالشطرنج إذا اقترن بمحرم، والتكهن، والتنجيم، والتطير، والزجر، والطرق، والعيافة، ونحو ذلك.
تَابِع الَّنوْعُ الأَوَّلُ مِنَ القِسْمِ الثَّانِي فِي اْلنَّهِي عَنْ اْلتَّشَبُهِ بِالشَّيطَانِ, لَعَنَهُ الله تَعَالَى 66 - ومن أعمال الشيطان: شرب الخمر، وتناول المسكرات، والقمار، واللعب بالنرد ونحوه مطلقًا، واللعب بالشطرنج إذا اقترن بمحرم، والتكهن، والتنجيم، والتطير، والزجر، والطرق، والعيافة، ونحو ذلك. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. وتقدم في حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن إبليس طلب من الله تعالى لمَّا أهبطه إلى الأرض أن يجعل له شرابًا، فقال: كل مسكر (¬1). وذكر الثعلبي في "العرائس" عن ابن جريج رحمه الله تعالى أن الله تعالى أهبط على آدم عليه السلام عرشة عنب فغرسها، فلما أطلعت وحملت العنب جاء إبليس وسرق من عنبها، فقال له آدم: أخرجتني من الجنة ولا تريد تدع لي رزقًا؟ ¬
فقال: إن لي فيها حقًا. فقال آدم: وما حقك فيها؟ قال: لي فيها شرابها. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "ذم المسكر" عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: قال إبليس: ما أعجزني فيه بنو آدم فلم يعجزوني في ثلاث: إذا سكر أحدهم أخذنا بخزامته فَقُدناه حيث شئنا وعمل بما أحببنا، وإذا غضب قال بما لا يعلم وعمل بما يندم، ونبخله بما في يديه ونمنيه ما لا يقدر عليه (¬1). وأمَّا المَيْسِر فقال ابن عباس وغيره من المفسرين: هو القمار (¬2). وروى البخاري في "الأدب المفرد" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه كان يقال: أين أيسار الجزور؟ فيجتمع العشرة فيشترون الجزور بعشرة فصلان إلى الفصال، فيجيلون السهام فتصير لتسعة - أي: يخرج منهم الغرم على واحد، فيغرم فصيلًا واحدًا فتصير لتسعة حتى تصير إلى واحد - يغرم الآخرون فصيلًا فصيلًا إلى الفصال، فهو الميسر (¬3). وروى ابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى ¬
قال: كانوا يشترون الجزور فيجعلونها أجزاء، ثم يأخذون القِداح - أي: السهام؛ جمع قِدح بكسر القاف - فيلقونها، وينادى: يا ياسر الجزور! يا ياسر الجزور! فمن خرج قِدحه أخذ جزورًا بغير شيء، ومن لم يخرج قِدحه غرم ولم يأخذ شيئًا (¬1). وقال ليث: عن طاوس، وعطاء، ومجاهد: كل شيء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز. رواه ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، والمفسرون، وأخرجه ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: أنه رأى غلمانًا يتقامرون يوم عيد فقال: لا تقامروا؛ فإن القمار من الميسر (¬3). وروى ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ عنه قال: ما كان من لعب فيه قمار، أو قيام، أو صياح، أو شر فهو من الميسر (¬4). وروى ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: النرد والشطرنج من الميسر (¬5). ¬
وروى الإمام أحمد قال: قال رسول الله. "اتَّقُوا هاتَيْنِ الكَعْبَتَيْنِ المَوْسُوْمَتَيْنِ اللَّتَينِ تَزْجُرَانِ زَجْرًا؛ فَإِنَّها مِن مَيْسِرِ الْعَجَمِ" (¬1). وروى ابن أبي حاتم، والطبراني عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يقول: "اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْكَعْبَاتِ الْمَوْسُوْمَةِ الَّتِي يُزْجَرُ بِهَا زَجْرًا؛ فَإِنَّهَا مِن الْمَيْسِرِ" (¬2). وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْخَيْلُ ثَلاثَةٌ؛ فَفَرَسٌ للِرَّحْمَنِ، وَفَرَسٌ للشَّيْطَانِ، وَفَرَسٌ لِلإِنْسَانِ، [فأمَّا فرسُ الرَّحْمنِ] فَالَّذِي يُرْتَبَطُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ فَعَلَفُهُ وَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ فِيْ مِيْزَانِهِ، وَأَمَّا فَرَسُ الشَّيْطَانِ فَالَّذِي يُقَامَرُ أَوْ يُرَاهَنُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فَرَسُ الإِنْسَانِ فَالْفَرَسُ يَرْتَبِطُهَا الإِنْسَانُ يَلْتَمِسُ بَطْنَهَا فَهِيَ سِتْرٌ مِنْ فَقْرٍ" (¬3). وروى ابن أبي حاتم عن يزيد بن شريح رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاثٌ مِنَ الْمَيْسِرِ: الصَّفِيْرُ بِالْحَمَامِ، وَالْقِمَارُ، ¬
وَالضَّرْبُ بِالْكِعَابِ" (¬1). وأما الأنصاب فروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: الأنصاب أحجار كانوا يذبحون لها، والأزلام قداح كانوا يقتسمون بها الأمور (¬2). واختلف المفسرون فقال جماعة: هي الأصنام التي كانوا يذبحون لها في الجاهلية. وقال مجاهد، وقتادة رحمهما الله تعالى: كان حول البيت ثلاث مئة وستون حجرًا منصوبة، كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها، وليست هي أصنامًا، إنما الأصنام المصورة المنقوشة (¬3). قال مجاهد: وكانوا يبدلونها بحجارة أعجب إليهم منها. رواه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر (¬4). وأمَّا الأزلام فقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: هي حصى بيض كانوا يضربون بها؛ أي: ينجمون. وقال أيضًا: الأزلام القداح؛ كانوا إذا خرجوا في سفر جعلوا قداحًا ¬
للخروج وللجلوس، فإن وقع الجلوس جلسوا، وإن وقع الخروج خرجوا. رواهما ابن جرير (¬1). وروى عبد بن حميد عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: الأزلام القداح يضربون بها لكل سفر وغزو وتجارة (¬2). وعنه أيضًا قال: هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وهي النرد (¬3). وقد تقدم أنها من الميسر، فيكون ذكرها ثانيًا من باب عطف الخاص على العام اعتناء بالنهي عنها. وقال الشعبي، وغيره: الأزلام للعرب، والكعاب للعجم (¬4). وقال سفيان بن وكيع رحمه الله تعالى: الأزلام الشطرنج (¬5). روى ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا عن القاسم رحمه الله تعالى: أنه سئل عن الشطرنج فقال: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر (¬6). ¬
وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأَنْ يمس أحدكم جمرًا حتى يطفئ خير له من أن يمسها (¬1). ومذهب الشافعي رحمه الله تعالى: أن اللعب بالشطرنج مكروه، فإذا اقترن به قمار أو فحش أو إخراج صلاة عن وقتها، أو كان مصورًا كان حرامًا (¬2). وقال أكثر العلماء بتحريمه مطلقًا. وسئل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن الشطرنج فقال: هي شر من النرد. رواه ابن أبي الدنيا (¬3). وقد اتفق العلماء على أن النرد حرام، وهو من الكبائر. وقال جماعة من المفسرين: الأزلام ثلاثة قداح كانت الجاهلية تستقسم بها - أي: تستخرج قسمها وأرزاقها بها - كان مكتوبًا على الأول: أمرني ربي - يعنون: الصنم -، وعلى الثاني: نهاني ربي، وعلى الثالث: غفل؛ فإن خرج الأول فعلوا ما استقسموا عليه، وإن خرج الثاني ¬
تركوه، وإن خرج الثالث عادوا إلى الاستقسام، فنهى الله تعالى المسلمين أن يستقسموا بالأزلام، وبيَّن أنها من عمل الشيطان (¬1). وقال الحسن: مكتوب على الأول: أُأْمرني، وعلى الثاني: انهني، ويتركون الثالث محللًا بينهما. رواه عبد بن حميد، وابن جرير (¬2). وقال آخرون: كانت الأزلام سبعة قداح مستوية من شوحط - وهو شجر من أشجار الجبال - وكانت تكون عند سادن الكعبة مكتوب على واحد: نعم، وعلى الآخر: لا، وعلى آخر: منكم، وعلى آخر: من غيركم، وعلى آخر: ملصق، وعلى آخر: العقل، وآخر: غفْلٌ ليس عليه شيء. وكانوا إذا أرادوا أمرًا من سفر، أو نكاح، أو ختان، أو غير ذلك جاؤوا إلى هُبَل - وكانت أعظم أصنامهم بمكة - وأعطوا صاحب القداح مئة درهم؛ فإن خرج (نعم) فعلوا، وإن خرج (لا) لم يفعلوا ذلك حولًا، ثم استقسموا. وإذا أجالوا على نسب فإن خرج (منكم) كان وسطًا منهم، وإن خرج (من غيركم) كان حليفًا، وإن خرج (ملصق) كان على منزلة لا نسب له ولا حلف، وإن خرج (الغفل) أحالوا ثانيًا (¬3). ¬
فنهى الله تعالى عن ذلك، وبين أنه رجس من عمل الشيطان لأنه دخول في علم الغيب من غير علم مع ما فيه من الكفر القبيح، والشرك الصريح. قال في "الكشاف": والكَهَنة والمنجمون بهذه المثابة، وهو ظاهر (¬1). قلت: وعوَّض الله تعالى أهل الإسلام بالاستخارة والاستشارة عن الاستقسام بالأزلام. ومعنى قوله تعالى في الآية السابقة: {رِجْسٌ} [المائدة: 90]، قال ابن عباس: سخط (¬2). وقال غيره: قذر تعافه العقول. ومن هنا استدل العلماء على نجاسة الخمر (¬3). قال القرطبي: ومعنى قوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]؛ أي: يحمله عليه [ويزينه]. وقيل: هو الذي كان عمل مبادئ هذه الأمور لنفسه حتى اقتدي به، انتهى (¬4). ¬
تنبيهان
* تَنْبِيهانِ: الأَوَّلُ: كان الاستقسام بالأزلام مختصًا بالرجال. قال سلمة بن وهرام: سألت طاوس رحمه الله عن الأزلام فقال: كانوا في الجاهلية لهم قداح يضربونها؛ قِدح معلم يتطيرون به، فإذا ضربوا بها حين يريد أحدهم الحاجة فخرج ذلك القِدح لم يخرج لحاجته، فإن خرج غيره خرج لحاجته. قال: وكانت المرأة إذا أرادت الحاجة لها لم تضرب بتلك القداح، فذلك قول الشاعر: [من الطويل] إِذا حدَّدَتْ أُنْثى لأَمْر خِمارِها ... أَتَتْهُ وَلَمْ تَضْرِبْ لَهُ بِالْمَقاسِمِ رواه أبو الشيخ (¬1). ولم يكن امتناع النساء عن الاستقسام إيمانًا منهن وتسليمًا، وإنما كان من باب الهجوم على الشر والطيش لغلبة الهوى، وكلا حالتي الرجال والنساء في الجاهلية كان على غير صواب متابعة للشيطان. ومقتضى الإسلام ترك الاستقسام مع التروي في الأمور، والامتحان فيها، والاستشارة لها من الرجال والنساء جميعًا دون الهجوم على الأمور والعجلة فيها ما لم يكن من أعمال الآخرة. التَّنْبِيْهُ الثَّانِي: ليس من الاستقسام بالأزلام القرعة الشرعية في مسألة الإقراع بين المماليك في العتق وغيرها من مسائل القرعة كما ¬
قال به الشافعي رحمه الله تعالى وغيره؛ لأن استعمال القرعة مبني على الأحاديث الصحيحة، ويفرق بينه وبين الاستقسام بأن العتق مثلًا حكم شرعي، وكان خروج القرعة عَلَمًا على تحقيق ما مضى من حكم العتق بخلاف الاستقسام؛ فإنه استخراج لأمر مستقبل. وكذلك ليس من الاستقسام التفاؤل بالفأل الحسن بخلاف التطير؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الفأل الحسن، ويكره الطيرة كما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، والحاكم وصححه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها (¬1). وروي مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ". قيل: يا رسول الله! ما الفأل؟ قال: "الكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُم" (¬2). قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى: الفرق بين الفأل والطيرة إنما هو من قبيل الاتكال على الله تعالى وحسن الظن بالله، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه. ¬
وروى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأبو داود عن قبيصة رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "العيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ" (¬1). قال عكرمة رحمه الله تعالى: الجبت هو الشيطان بالحبشية. رواه عبد بن حميد، بل رواه هو وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). ومعنى الحديث: أن هذه الثلاثة من تسويل الشيطان؛ أي: من أعماله. قال ابن فارس: الطرق: الضرب بالحصى، وهو جنس من التكهن (¬3). وقال أبو داود: الطرق: الزجر، والعيافة: الخط؛ يعني: التنجيم (¬4). ونقل البغوي عن ابن سيرين رحمه الله تعالى: أن الطارق هو الكاهن (¬5). وروى الطبراني، عن عمران بن الحصين - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬
"لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، وَلا مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ" (¬1). وتقدم في حديث أبي أمامة أن الكهنة رسل الشيطان. ولقد جمع الله تعالى بين الشيطان والكاهن في قوله تعالى في أهل الكتاب: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]. ففي أثر ابن عباس المتقدم: الجبت: اسم الشيطان بالحبشية، والطاغوت: كهان العرب. وقال قتادة رحمه الله تعالى: كنا نحدث أن الجبت شيطان، والطاغوت الكاهن (¬2). وقال مجاهد رحمه الله تعالى: الجبت: كعب بن الأشرف، والطاغوت: الشيطان كان في صورة إنسان (¬3). رواهما ابن جرير. وروى هو وسعيد بن منصور، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، ورسته في "كتاب الإيمان" عن عمر بن الخطاب رضي الله ¬
67 - ومن أعمال الشياطين لعنهم الله: عمل السحر، وعلمه وتعلمه وتعليمه، وهي منه.
تعالى عنه قال: الجبت: الساحر، والطاغوت: الشيطان (¬1). والطاغوت مبالغة في الطاغي، وهو لائق بالشيطان والكاهن والساحر، إلا أنه في الشيطان أظهر. ثم إن الكهنة والسحرة يلحقون بالشياطين لاجتماعهم في الصنعة، واتفاقهم في الحرفة. وروى أبو الشيخ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: الكهنة هم شياطين الإنس (¬2). 67 - ومن أعمال الشياطين لعنهم الله: عمل السحر، وعِلْمُه وتَعَلُّمِهِ وَتعليمِه، وهي منه. قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]. وروى عبد الرزاق، والبيهقي في "الشعب" عن قتادة رحمه الله تعالى قال: لما أهبط إبليس قال: أي رب! لقد لعنته فما عمله؟ قال: السحر. قال: فما قرآنه؟ ¬
قال: الشعر. قال: فما كتابه؟ قال: الوشم. قال: فما طعامه؟ قال: كل ميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه. قال: فما شرابه؟ قال: كل مسكر. قال: فأين مسكنه؟ قال: الحمام. قال: فأين مجلسه؟ قال: الأسواق. قال: فما صوته؟ قال: المزمار. قال: فما مصائده؟ قال: النساء (¬1). قال الخطابي: السحر من عمل الشيطان يفعله في الإنسان بنفثه ونفخه، وهمزه ووسوسته، ويتلقاه بتعليمه إياه ومعونته عليه، فإذا ¬
تلقاه عنه استعمله في غيره بالقول والنفث في العُقَد، انتهى (¬1). وروى النسائي، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان آصف كاتب سليمان عليه السلام وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل به، فأكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماؤهم، فلم يزل جهالهم يسبونه حتى أنزل الله تعالى على محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] الآية (¬2). وفي هذا دليل على أن التزوير على العلماء والنقل عنهم خلاف ما قالوه ورأوه خُلُقٌ شيطاني. روى سعيد بن منصور، والمفسرون، والحاكم وصححه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: إن الشياطين كانوا يسترقون السمع، وكان أحدهم يجيء بكلمة حق قد سمعها فيكذب معها سبعين كذبة، فيشربها قلوب الناس، فأطلع الله تعالى على ذلك سليمان بن داود عليهما السلام، فأخذها ودفنها تحت الكرسي، فلما مات سليمان عليه السلام قام شيطان بالطريق قال: ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممتنع؟ ¬
68 - ومنها: النشرة.
قالوا: نعم. فأخرجوه فإذا هو سحر، فتناسخها الأمم. قال: فأنزل الله تعالى عذر سليمان فيما قالوا إنه السحر: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] الآية (¬1). 68 - ومنها: النشرة. روى البزار ورجاله رجال الصحيح، عن الحسن قال: سئل أنس ابن مالك رضي الله تعالى عنه عن النشرة، فقال: ذكر لي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عنها فقال: "هِيَ مِنَ الشَّيْطانِ" (¬2). وقال البغوي: روي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النشرة، فقال: "هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ" (¬3). قال: والنشرة ضرب من الرقية يعالج بها من كان يظن أن به مس الجن؛ سميت النشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء؛ يعني: في زعمهم. ¬
69 - ومنها: سائر أنواع الرقى إلا الرقية بذكر الله تعالى وما يعرف معناه مما يسوغ، وكذلك الإشارة بالرقية إلا ما ذكر.
قال: وكرهها غير واحد؛ منهم إبراهيم. وحكي عن الحسن أنه قال: النشرة من السحر. وقال سعيد بن المسيب: لا بأس بها (¬1). 69 - ومنها: سائر أنواع الرقى إلا الرقية بذكر الله تعالى وما يعرف معناه مما يسوغ، وكذلك الإشارة بالرقية إلا ما ذكر. روى أبو داود، وغيره عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجته فأراد أن يدخل المنزل تنحنح وبزق ليعلمنا أن يهجم منا على شيء يكرهه، وإنه جاء ذات يوم وعندي عجوز ترقى من الحموة، قالت: فلما جاء عبد الله تنحنح قالت: فأدخلتها تحت السرير، قالت: فجاء حتى جلس معي على السرير فرأى في عنقي خيطًا، فقال: ما هذا الخيط؟ فقلت: خيط رقى رقية. قالت: فأخذه فقطعه، ثم قال: أنتم آلَ عبد الله أغنياءُ عن الشرك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ". فقلت له: فلم تقول هكذا؟ لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي فإذا رقاها سكنت. فقال عبد الله: إن ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده فإذا رقى فيها كف عنها، إنما يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: ¬
"أَذْهِبِ البَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا" (¬1). قال البغوي: والمنهي عنه من الرقى ما كان فيه شرك، أو كان يذكر مردة الشياطين، أو ما كان منها بغير لسان العرب لا يدري ما هو، وأما ما كان بالقرآن أو بذكر الله تعالى فإنه جائز مستحب، انتهى (¬2). والتمائم - جمع تميمة -: خرزات كانت العرب تعلقها على أولادها، ويزعمون أنها تدفع العين عنهم. وقال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كل شيء يعلق على صغير أو كبير - أي: ليدفع بلاء، أو يرد قضاء - فهو تميمة. لكن قال عطاء: لا يعد من التمائم ما يكتب من القرآن (¬3). والتولة - بكسر التاء -: ضرب من السحر، وهو ما يحبب المرأة إلى زوجها، وإنما كان مذمومًا لأنه من باب الاعتماد على غير الله تعالى، فإن كان فيه صد له عن زوجته الأخرى كان أشد لأنه مع كونه سحرًا إضرار وتفريق بين الزوجين، فإن كان تحببًا لامرأة أجنبية أو لأمرد جميل للتوصل إلى الفاحشة فإنه أشد؛ لأنه قيادة، مع كونه سحرًا، وعمل السحر مطلقا حرام، فإن انضم إليه حرام آخر باء بتعاطيه بإثمهما. ¬
تنبيه
وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيْهَا فَقَد سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فقد أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا فَقَد وُكِلَ إِلَيْهِ" (¬1). وروى عبد الرزاق عن صفوان بن سليم - مرسلًا - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَعَلَّمَ شَيْئًا مِنَ السِّحْرِ - قَلِيْلًا أَوْ كَثِيْرًا - كانَ آخِرَ عَهْدِهِ مِنَ اللهِ" (¬2). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير النفث: هو خلط السحر بالرقى. وقال مجاهد رحمه الله تعالى: هو الرقى في عقد الخيط. رواهما ابن جرير (¬3). وكأنه إنما كان سحرًا لأنه جمع بين رقية وفعل، والسحر فعل الساحر أو فعل مع أقوال يعتادونها ويعتقدونها مؤثرة في جلب الأزول وتسخير الشياطين. * تَنْبِيْهٌ: لا ينبغي أن يغتر بما يتفق من مصادفة فعل السحرة والكهان لما في النفس، كأن يكون من عادة المرء أن لا يعيش له ولد، فيعلق التميمة على ¬
بعض أولاده فيعيش، أو يكون به ألم فيرقى بما لا يجوز الرقية به فيسكن، أو يكون من عادة المرأة أن لا تحمل، أو من عادتها أن تجهض الجنين فيعلق عليها تميمة فتحمل أو يتماسك حملها، أو يكون الشيطان مفسدًا بين المرأة وبعلها فإذا عملت لها التِّولة تركها؛ فإن ذلك من عمل الشيطان كما قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. ولا بِدْع أن ينخس الشيطان موضع الألم فإذا رقي ترك النخس، أو يعتري الشيطان الجنين فيجهضه فإذا علق على الحامل ترك جنينها، أو يفسد النطفة في رحم المرأة فلا تنعقد فإذا علق عليها تركها بعد ذلك خصوصًا إذا ترك الزوجان التسمية والتعوذ عند الجماع. وفي الحديث عن [حَمْنَة] بنت جحش رضي الله تعالى عنها ما يشهد لذلك، حيث قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا هَذِهِ - يَعْنِي: الاسْتِحَاضَةَ - رَكْضَةٌ مِن رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ" وحديثها في "مسند الإمام أحمد"، والسنن الأربعة (¬1). وهذا من أفعال الشيطان يشبه ما رواه الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححه، عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَّا حَمَلَت حَوَّاءُ طافَ بِهَا إِبْلِيسُ، فَكَانَ لا يَعِيْشُ لَهَا وَلَدٌ، فَقالَ: سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَرْثِ فَإِنَّهُ يَعِيْشُ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَرثِ ¬
فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْي الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ" (¬1). وروى البزار، والطبراني في "الكبير" عن معاوية بن قرة، عن أبيه رضي الله تعالى عنهما قال: ذهبت لأسلم حين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأردت أن أدخل معي رجلين أو ثلاثة في الإسلام، فأتيت الماء حيث مجتمع الناس فإذا أنا براعي القرية الذي يرعى أغنامهم، فقال: لا أرعى لكم أغنامكم. قالوا: لِمَ؟ قال: يجيء الذئب كل ليلة فيأخذ شاة، وصنمنا هذا قائم لا يضر ولا ينفع، ولا يغير ولا ينكر. قال: فرجعوا وأنا أرجو أن يسلموا، فلما أصبحنا جاء الراعي يشتد يقول لهم: البشرى قد جيء بالذئب فهو بين يدي الغنم مقموطًا، فذهبت معهم. وفي رواية البزار: ألا ترون الذئب مربوطًا بين يدي الغنم بغير وثاق، فجاؤوا وجئنا معهم إلى الصنم، فقبلوه وسجدوا له، وقالوا: هكذا فاصنع. قال: فدخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثته بهذا الحديث، فقال: "عَبَثَ بِهِمُ الشَّيْطَانُ". ¬
70 - ومن أعمال الشيطان: تصوير ما فيه روح، والأمر بذلك؛ وهو من الكبائر
وفي رواية البزار: "يَتَلَعَّبُ بِهِمُ الشَّيْطَانُ " (¬1). 70 - ومن أعمال الشيطان: تصوير ما فيه روح، والأمر بذلك؛ وهو من الكبائر. روى أبو الشيخ في كتاب "العظمة"، والثعلبي عن محمد بن كعب القرظي رحمه اللهّ تعالى قال: كان لآدم عليه السلام خمسة بنين؛ ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وكانوا عُبَّادًا، فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنًا شديدًا، فجاءهم الشيطان فقال: هل لكم في أن أصور لكم في قبلتكم مثله؛ إذا نظرتم إليه ذكرتموه؟ فقالوا: نكره أن نجعل في قبلتنا شيئًا نصلي إليه. قال: فاجعلوه في مؤخر المسجد. قالوا: نعم. فصور لهم، ثم مات آخَرُ فصوره لهم، قال: فتنقصت الأشياء كما تنتقصون اليوم، وأقاموا على ذلك ما شاء الله، ثم تركوا عبادة الله عز وجل، فأتاهم الشيطان فقال: ما لكم لا تعبدون شيئًا؟ قالوا: من نعبد؟ قال: هؤلاء آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترون أنها مصورة في مصلاكم؟ ¬
قال: فعبدوها من دون الله تعالى حتى بعث الله تعالى نوحًا عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله عز وجل، فقالوا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] (¬1). وروى عبد بن حميد عن أبي جعفر بن يزيد بن المهلب رحمه الله تعالى قال: كان ود رجلًا مسلمًا، وكان محببًا في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل، وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان، ثم قال: أرى جزعكم على هذا فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم، فتذكرونه به؟ قالوا: نعم. فصور لهم مثله، فوضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه، فلما رأى ما بهم من ذكره قال لهم: هل لكم أن أجعل لكم في منزل كل رجل منكم تمثالًا مثله، فيكون في بيته فيذكر به؟ قال: وأدرك أبناؤهم، فجعلوا يرون ما يصنعون به، وتناسلوا، ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهًا يعبدونه من دون الله. قال: وكان أول ما عبد غير الله في الأرض ودًّا الصنمَ الذي سموا بود (¬2). ¬
71 - ومن أخلاق الشيطان: إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، والنميمة، وإتيان هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
وروى البخاري، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب: أمَّا ود فكانت لكلب بدُومة الجندل. وأما سواع فكانت لهذيل. وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف عند سبأ. وأما يعوق فكانت لهمذان. وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع؛ أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا ويسمونها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت (¬1). 71 - ومن أخلاق الشيطان: إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، والنميمة، وإتيان هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91]. وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53]؛ أي: يفسد ويحرش بينهم. وروى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّيْطانَ قَد يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ، ¬
تنبيهان
وَلَكِن فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُم" (¬1)؛ أي: ولكن طمع في التحريش بينهم، وهو إيقاع الخصومة والخشونة بينهم. * تَنْبِيهانِ: الأَوَّلُ: قال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100]. قال القرطبي: نسب ذنبهم إلى الشيطان تكرمة لهم (¬2). قلت: وهذا من لطائف الفهم، ولا يلزم منه أن لا يكون للشيطان ذنب، بل هو نزغ بينهم حقيقة، وهم ساغ فيهم نزغ الشيطان حتى كادوا ليوسف وذلك قبل أن يكونوا أنبياء. ويدل عليه قول يعقوب عليه السلام: {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5]. فذنب الشيطان النزغ بينهم، وذنبهم قبول نزغه وكيدهم لأخيهم، فلم يذكر يوسف لأبيه بحضرة إخوته حين وقع الصفاء بينهم ذنبهم، وإنما ذكر نزغ الشيطان بينهم وسكت عما صدر من إخوته في حقه؛ تكرمًا منه؛ لأن ذكر الجفاء في وقت الصفاء عين الجفاء. ¬
الثاني
التَّنْبِيْهُ الثَّانِي: روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عون رحمه الله تعالى قال: ما اجتمع رجلان فتفرقا حتى يعقد الشيطان في قلب كل واحد عقدة؛ فإن لقي أخاه فسلم عليه انحلت العقدة، وإلا كانت كما هي (¬1). قلت: مثل ذلك لا يقال من قبل الرأي، فهو محمول على أن عونًا بلغه ذلك عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أو عن غيره من الأنبياء عليهم السلام. ثم العقدة عبارة عما يقع في قلب أحدهما من نظره فيما يبدو من حال الآخر، فإن كلًّا منهما يرى الآخر إما فوقه فيحسده، أو دونه فيحتقره ويرى نفسه فوقه، ويراه إما في طاعة وخير فينقبض ويتمنى أن لو كان أخلَّ بشيء من كمالها أو أدبها، وإما في معصية وشر فينسرَّ لذلك لما يراه من كمال نفسه بالنسبة إلى نقص الآخر. ولو كان أحدهما حسن الاعتقاد في الآخر فقد يغلو في اعتقاده وينزله فوق منزلته، وقد يعتقد من هو [فوقه] دونه، ولو فرض أنه سلم من ذلك لم يسلم من التصنع له ومراءاته. ومن ثم كان يرى بعضهم العزلة حتى عن الأخيار. وهذه العقدة يتولد منها خواطر السوء والغيبة وغيرها من الأمور التي هي غير مرضية، فإذا لقي أحدهما صاحبه فسلم عليه انحلت تلك العقدة، وذهبت تلك الخواطر وتلاشت الغيبة وما تولد منها، وتحقق ¬
72 - ومنها: اعتياد الشر والأذى.
كل منهما بحال الآخر، فذهب اعتقاد السوء، وسلم كل واحد من الإطراء على الآخر، ومن هنا شرع السلام عند اللقاء، والمصافحة، والسؤال عن حال الإخوان؛ فافهم! 72 - ومنها: اعتياد الشر والأذى. فلا ينبغي للإنسان أن يتعود أذية الناس حتى يخافوا من شره، ويتوقوا أذيته كما يتوقون من أذية الشيطان ويتعوذون منه، وقد أمر الله تعالى بالتعوذ من شيطان الإنس، وهو المتشبه بالشيطان في الشره والتمرد، فقال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] إلى آخر السورة. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "ذم الغيبة" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يُخَافُ إِسَاءَتُه (¬1)، أَوْ يُخَافُ شَرُّهُ" (¬2). وروى أبو يعلى عنه، والإمام أحمد، والترمذي عن أبي هريرة ¬
73 - ومنها: التشاتم والتساب.
قالا رضي الله تعالى عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُكُمْ مَن يُرْجَى خَيْرُهُ وُيؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُم مَنْ لا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلا يُؤْمَنُ شَرُّهُ" (1). 73 - ومنها: التشاتم والتساب. روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عياض بن حمار رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمُسْتَبَّانِ شَيْطانانِ يَتَهاتَرانِ وَيَتَكاذَبانِ" (¬2). وإنما سميا شيطانين لتشبههما بالشيطان في السب والهتر، وهو تمزيق العرض والوقوع فيه، فإذا سكت أحدهما عن ذلك لم يكن شيطانًا. وقد قلت: [من السريع] يا أَيُّها السَّبَّابُ ما أَنْتَ فِي ... سَبِّكَ لِلْمُسْلِمِ إِنْسانُ بَلْ أَنْتَ شَيْطانٌ وَإِنْ زادَ فِي ... جَوابِكَ المسَّبُّ فَشَيْطانُ * فائِدَةٌ: روى البيهقي في "الشعب" عن أبي عمرو بن العلاء رحمه الله ¬
74 - ومنها: عدم المبالاة بما قال، وما قيل له.
تعالى قال: ما تشاتم رجلان قط إلا غلب ألأمهما (¬1). 74 - ومنها: عدم المبالاة بما قال، وما قيل له. روى الخلال عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه قال: كان يقال: من لم يبال ما قال وما قيل له فهو ولد شيطان (¬2). بل روى الطبراني في "الكبير" عن عبد الله بن عمرو بن شويفع، عن أبيه، عن جده شويفع رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ يَسْتَحْيِ مِمَّا قالَ أَو قِيْلَ فَهُوَ لِغَيْرِ رشدة (¬3)، حَمَلَت بِهِ أُمُّهُ عَلى غَيْرِ طُهْرٍ" (¬4). قلت: ومن هنا ذهب الحياء من الناس إلا قليلًا نادرًا لكثرة الحلف بالطلاق، ثم الرجوع إلى الزوجة بعد البينونة بغير مراجعة صحيحة، أو بعد الطلقات الثلاث، أو من غير سؤال عما وقع منه، فكانت أكثر أولادهم لغير رشدة، فغلبت عليهم الوقاحة، فلا يبالون ما قالوا وما قيل لهم من صغرهم إلى كبرهم. وسئل بعض العلماء عن السفلة فقال: الذي لا يبالي ما قال ¬
75 - ومنها: حضور مجالس أهل الجور من القضاة والولاة.
ولا ما قيل له (¬1). 75 - ومنها: حضور مجالس أهل الجور من القضاة والولاة. روى مسلم عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - قال: قلت: يا رسول الله! إنا كنا بشرٍ فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: "نَعَمْ". قلت: كيف؟ قال: "يَكُوْنُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لا يَهْتَدُونَ بِهُدايَ، وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُوْمُ فِيْهِم رِجَالٌ قُلُوْبُهُم قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِيْ جُثمانِ إِنْسٍ". قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: "تَسْمَعُ وَتُطِيع لِلأَمِيْرِ؛ وَإِنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ" (¬2). وهذا الحديث نص في أن أتباع الولاة الظلمة متشبهون بالشياطين، توافقت قلوبهم وقلوبهم. والولاة الآن والقضاة لا يكادون ينفكون عن الظلم، وجلساؤهم موافقون لهم، ومن خالفهم أو أنكر عليهم فهو مطرود عنهم. ولقد قلت: [من الخفيف] ¬
جُلَساءُ الْقُضاةِ وَالْحُكَّامِ ... بِنِفاقٍ فِي النَّقْضِ وَالإِبْرامِ هُمْ شَياطِيْنُ فِي الْقُلُوْبِ وَإِنْ كا ... نُوا أُناسًا فِي الشَّكْلِ وَالأَجْسامِ فَتَجَنَّبْ عَنْ عِشْرَةِ الْقَوْمِ إلَّا ... لاضْطِرارٍ فِي عِشْرَةِ الأَقْوامِ وَأَطِعْ ما اسْتَطَعْتَ وَاصْبِرْ لِظُلْمٍ ... فِي زَمانٍ مُسْتَحْكِمِ الإِظْلامِ إِنَّما الصَّبْرُ لَوْ تَعَرَّفْتَ خَيْرٌ ... مِنْ نُزُولِ الْبَلاءِ وَالآثامِ وروى الترمذي وقال: حسن، وابن ماجه، والبيهقي، وصححه ابن حبان، عن ابن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "إِنَّ اللهَ تَعالَى مَعَ الْقاضِي ما لَمْ يَجُرْ، فَإِذا جارَ تَخَلَّى اللهُ عَنْهُ، وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ". وفي رواية: "فَإِذَا جَارَ تَبَرَّأَ اللهُ مِنْهُ، وَأَلْزَمَهُ الشَّيْطَانَ" (¬1). فجليس القاضي الجائر على جوره راضيًا به شيطان، فكيف بمن يعاونه على جوره ويفتح له أبواب الظلم، ويحسِّن له أكل أموال الناس [بالباطل]، واستدلاء أموالهم إليه. وأقول: إن من كان الآن على ضد ذلك في معاشرة القضاة والولاة لأشبه الناس بالملائكة. وقد سبقت إشارة إلى ذلك في التشبه بالملائكة عليهم السلام. ¬
76 - ومنها: حضور مجالس الغضب والخصومات التي لا خير فيها.
وما أرفع مقام هذا الرجل لو كان له في زماننا وجود. وعلى ذلك درج السلف الصالحون كما روى الدينوري عن صالح المري رحمه الله تعالى قال: قام رجل من العُبَّاد إلى يزيد بن المهلب، فقال: والله إنك أيها الأمير ما استدمت تتابع النعم بمثل اصطناع المعروف، ولا كايدت إبليس بمثل إضمار النصيحة لمن ولاك الله أمره، فإذا كنت كذلك أصلح الله لك ما تخشى فساده، وجمع لك ما تخشى شتاته، وإني والله أيها الأمير لأحب صلاحك، والذي يصل إلي من ذلك أكثر (¬1). 76 - ومنها: حضور مجالس الغضب والخصومات التي لا خير فيها. روى الإمام أحمد، والطبراني ورجالهما ثقات، عن عطية السعدي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا اسْتَشَاطَ السُّلْطَانُ تَسَلَّطَ الشَّيْطَانُ" (¬2). وروى البغوي في "شرح السنة" بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا سب أبا بكر رضي الله تعالى عنه عند النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس لا يقول شيئًا فلما سكت ذهب أبو بكر ¬
77 - ومنها: الدخول على الملوك والسلاطين والأمراء بغير ضرورة، والتأويل في ذلك، والإشارة بذلك.
رضي الله تعالى عنه يتكلم، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبعه أبو بكر، فقال: يا رسول الله! كان يسبني وأنت جالس، فلما ذهبت أتكلم قمت؟ قال: "إِنَّ الْمَلَكَ كانَ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمْتَ ذَهَبَ الْمَلَكُ وَوَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَجْلِسَ" (¬1). وفي رواية البيهقي في "الشعب": فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أوَجَدْت عليَّ يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نزَلَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ لِيُكَذِّبَهُ بِمَا قالَ لَكَ، فَلَمَّا انتصَرْتَ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَم كُنْ لأَجْلِسَ إِذْ وَقَعَ الشَّيْطَانُ" (¬2). 77 - ومنها: الدخول على الملوك والسلاطين والأمراء بغير ضرورة، والتأويل في ذلك، والإشارة بذلك. روى أبو القاسم البغوي - وهو غير أبي محمد البغوي المذكور قريبًا، وهو صاحب "التفسير"، و"شرح السنة"، والفقيه المشهور أحد أصحاب الشافعي، وهذا المحدث متقدم عليه وهو صاحب "المعجم" - وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيَكُوْنُ قَوْمٌ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي يَقْرَؤُوْنَ الْقُرْآنَ وَيَتَفَقَّهُونَ فِيْ الدُّنْيَا، يَأْتِيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُوْلُ لَهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمُ السُّلْطَانَ فَأَصْلَحَ مِنْ دُنْيَاكُمْ وَاعْتَزَلْتُمُوهُمْ ¬
78 - ومنها: دلالة أعداء المسلمين على عوراتهم، والسعي في أذيتهم؛ وكل ذلك من الكبائر.
بِدِيْنِكُمْ، وَلا يَكُوْنُ ذَلِكَ؛ كَمَا لا يُجْتَنَى مِنَ الْقَتَادِ إلَّا الشَّوْكُ، كَذَلِكَ لا يُجْتَنَى مِن قُرْبِهِم إلَّا الْخَطَايَا" (¬1). وقلت في "أرجوزتي" التي نظمت فيها "ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين" للحافظ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى: [من الرجز] وَمَنْ يَقُلْ نَأْتِي إِلى الْعُمَّال ... نُصِيْبُ دُنْياهُمْ بِالاعْتِزالِ بِدِيْننا عَنْهُمْ فَهَذا لا يَكُوْنْ ... غَيْرَ الْخَطايا مِنْهُمُ لا يَجْتَنُوْنْ إِذْ لَيْسَ غَيْرَ الشِّرْكِ وَالْفَسادِ ... يُقْطَفُ يا هَذا مِنَ الْقَتادِ وَإِنَّما مَنْشَأ هَذا الْهاجِسِ ... مِنْ هَوَسِ الشَّيْطانِ وَالْوَساوِسِ 78 - ومنها: دلالة أعداء المسلمين على عوراتهم، والسعي في أذيتهم؛ وكل ذلك من الكبائر. روى البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاءت فأرة فأخذت تجرُّ الفتيلة، فذهبت الجارية تزجرها، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعِيهَا"، فجاءت بها فألقتها على الخمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا نِمْتُم فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُم؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ على هَذَا فَيُحْرِقَكُم" (¬2). ¬
وذكر الثعلبي، وغيره عن كعب رحمه الله تعالى: أن زكريا عليه السلام لما بلغه أن ابنه يحيى عليه السلام قتل ولَّى هاربًا حتى أتى بستانًا من بساتين بيت المقدس، وقد بعث الملك الذي قتل يحيى في طلب زكريا رجالاً من قومه، فمر زكريا بشجرة فنادته: يا نبي الله! هلم إليَّ، فلمَّا أتاها انفرجت له، فدخل زكريا في وسطها، فانطلق إبليس - لعنه الله - فأخذ بطرف ردائه فأخرجه من الشجرة، ثم استقبل إبليس الطلب، وقال لهم: إن زكريا عليه السلام دخل في هذه الشجرة، فلم يصدقوه، فأراهم طرف الرداء خارجًا من الشجرة، فذهبوا عنه مسرعين، ثم عادوا إليه بالمنشار، فركبوا المنشار على أصل الشجرة ونشروه في وسطها (¬1). وروى ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسرى به رأى زكريا في السماء فسلم عليه، فقال: "اأَبَا يَحْيَى! أَخْبِرْنِي عَنْ قَتْلِكَ كَيْفَ كَانَ، وَلِمَ قَتَلَكَ بَنُو إِسْرَائِيْلَ؟ " قال: يا محمد! إن يحيى كان خير أهل زمانه، وكان أجملهم وأصبحهم وجهًا، وكان كما قال الله تعالى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39]، وكان لا يحتاج إلى النساء، فهويته امرأة ملك بني إسرائيل وكانت بغيًا، فأرسلت إليه، وعصمه الله، وامتنع وأبى عليها، وأجمعت على قتل يحيى عليه السلام، ولهم عيد يجتمعون في كل عام، وكانت سنة الملك أن يوعد ولا يخلف ولا يكذب، فخرج ¬
الملك إلى العيد فقامت امرأته فشيعته - وكان بها معجبًا ولم تفعله فيما مضى - فلما أن شيعته قال الملك: سليني فما تسأليني شيئًا إلا أعطيتك، قالت: أريد دم يحيى بن زكريا عليهما السلام. قال لها: سليني غيره. قالت: هو ذاك. قال: هو لك، فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو فى محرابه يصلي وأنا إلى جانبه، فذبح في طست، وحمل رأسه ودمه إليها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فَمَا بَلَغَ مَنْ صَبَرَكَ؟ " قال: ما انفتلت من صلاتي، فلما حمل رأسه إليها وضع بين يديها، فلما أمسوا خسف الله بالملك وأهل بيته وحشمه، فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل: غضب الله لزكريا، فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكرياء، فخرجوا في طلبي ليقتلوني فجاءني النذير، فهربت منهم وإبليس أمامهم يدلهم عليَّ، فلما أني تخوفت أن لا أعجزهم عرضت لي شجرة فنادتني: إليَّ، إليَّ، وانصدعت، فدخلت فيها، وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي، والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجًا من الشجرة، وجاء بنو إسرائيل، فقال إبليس: أما رأيتموه دخل هذه الشجرة؟ هذا طرف ردائه، دخلها بسحره. فقالوا: نحرق هذه الشجرة. فقال إبليس: شقوه بالمنشار شقاً. قال: فشققت مع الشجرة بالمنشار.
79 - ومنها: تثبيت أعداء المسلمين على قتالهم واستثارتهم لذلك.
فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا زَكَرِيَاءُ! هَلْ وَجَدْتَ لَهُ ألَمًا أَوْ وَجَعًا؟ " قال: إنما وجدت ذلك الشجرة، جعل الله روحي فيها (¬1). 79 - ومنها: تثبيت أعداء المسلمين على قتالهم واستثارتهم لذلك. ثم من شأن اللعين خذلان أوليائه وعدم ثباته معهم، والجبن والفرار. قال الله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] وقال تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 29]. قال القاضي ناصر الدين البيضاوي: يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك، ثم يتركه ولا ينفعه (¬2). قلت: وهكذا فعل الشيطان بقريش في وقعة بدر كما في الآية التي تقدمت. وروى البيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: أمد الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - يعني: يوم بدر - بألف من الملائكة عليهم السلام فكان جبريل في ¬
خمس مئة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمس مئة من الملائكة مجنبة، وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48]، فلما اختلف القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره، ورفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه فقال: "يَا رَبِّ! إِنَّكَ إِن تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ فَلَنْ تُعْبَدَ فِيْ الأَرْضِ أَبَدًا". فقال جبريل عليه السلام: خذ قبضة من تراب، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه وفمه، فولوا مدبرين، فأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس لعنه الله، فلما رآه إبليس كانت يده في يد رجل من المشركين، فانتزع إبليس يده، ثم ولى مدبرًا وشيعتُه، فقال الرجل: يا سراقة! ألم تزعم أنك جار لنا؟ قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48] (¬1). وقال الكلبي رحمه الله تعالى: لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة آخذًا بيد الحارث بن هشام، فنكص على عقبيه، فقال له الحارث: أفرارًا من غير قتال؟ وجعل يمسكه، فدفع في صدره وانطلق، وانهزم الناس، فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: بلغني أنكم تقولون: إني هزمت الناس؛ فو الله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم، فقالوا: ¬
ما أتيتنا يوم كذا؟ فحلف لهم، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان (¬1). وقال حسان بن ثابت في ذلك رضي الله تعالى عنه: [من البسيط] سِرْنا وَسارُوا إِلى بَدْرٍ لِحَيْنِهِمُ ... لَوْ يَعْلَمُوْنَ يَقِيْنَ الأَمْرِ ما سارُوا دَلاَّهُمُ بِغُرُورٍ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ ... إِنَّ الْخَبِيْثَ لِمَنْ والاهُ غَرَّارُ وَقالَ إِنِّي لَكُمْ جارٌ فَأَوْرَدَهُمْ ... شَرَّ الْمَوارِدِ فِيْهِ الْخِزْيُ وَالْعارُ ثُمَّ الْتَقَيْنا فَوَلَّوْا عَنْ سَراتِهِمُ ... مِنْ مُنْجِدِيْنَ وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ غارُوا وروى أبو نعيم في "دلائل النبوة" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هتف هاتف من الجن على أبي قبيس بمكة فقال: [من الخفيف] قَبَّحَ اللهُ رَأْيَ كَعْبِ بْنِ فِهْرٍ ... ما أَرَقَّ الْعُقُولَ وَالأَحْلامِ دِيْنُها أَنَّها يُعَنَّفُ فِيْها ... دِيْنُ آبائِها الْحُماةِ الْكِرام حالَفَ الْجِنَّ جِنَّ بُصْرى عَلَيْكُمْ ... وَرِجالَ النَّخِيْل وَالآكام يُوْشِكُ الْخَيْلُ أَنْ تَرْوها تَهادى ... تَقْتُلُ الْقَوْمَ فِي الْبِلادِ الْحرام هَلْ كَرِيْمٌ مِنْكُمُ لَهُ نَفْسُ حُـ ... رٍّ ماجِدِ الْوالِدَيْنِ وَالأَقْوام ضاوِيًا حَرْبَةً تَكُوْنُ نكَالاً ... وَرَواحًا مِنْ كُرْبَةٍ وَاغْتِمام ¬
80 - ومن أعمال الرجيم: تخبيب الولد على أبيه، والعبد على سيده، والمرأة على سيدها، والرجل على زوجته؛ وكل ذلك حرام.
فأصبح هذا الحديث قد شاع بمكة، وأصبح المشركون يتناشدونه بينهم، وهموا بالمؤمنين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذَا شَيْطَانٌ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الأَوْثَانِ يُقَالُ لَهُ مسعرٌ، وَاللهُ يُخْزِيهِ". فمكثوا ثلاثة أيام فإذا هاتف على الجبل: [من الرجز] نَحْنُ قَتَلْنا مسْعَرا ... لَمَّا طَغَى وَاْسَتْكَبَرا وَسَفَّهَ الْحَقَّ وَسَنَّ الْمُنْكَرا ... قَنَّعْتُهُ سَيفًا حَروفًا مُبْتَرا لشتمه نبِيَّنا الْمُطَهَّرا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَلِكُمْ عِفْرِيْتٌ يُقَالُ لَهُ: سَمْحِجُ، سَمَّيْتُهُ: عَبْدَ اللهِ؛ آمَنَ بِي، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ فِيْ طَلَبِهِ مُنْذُ أَيَّامٍ" (¬1). 80 - ومن أعمال الرجيم: تخبيب الولد على أبيه، والعبد على سيده، والمرأة على سيدها، والرجل على زوجته؛ وكل ذلك حرام. روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَوْ مَمْلُوْكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا" (¬2). وقال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102]. ¬
وفي "صحيح مسلم" عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ؛ فَأَقْرَبُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ فِتْنَةً، يَجِيْءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُوْلُ: مَا زِلْتُ بِفُلانٍ حَتَّى تَرَكْتُهُ وَهُوَ يَقُوْلُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُوْلُ إِبْلِيْسُ: لا وَاللهِ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، وَيَجِيْءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُوْلُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، فَيُقَرِّبُهُ وُيدْنِيْهِ، وَيلْتَزِمُهُ وَيقُوْلُ: نَعَمْ أَنْتَ" (¬1). روى أبو الفرج الأصبهاني في "الأغاني" عن عمرو بن دينار رحمه الله تعالى قال: قال الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه وعن أبيه - لذريح أبي قيس: أحل لك أن فرقت بين قيس ولبنى؟ أما سمعت عمر بن الخطاب يقول: ما أبالي أفرقت بين الرجل وامرأته، أم مشيت إليهما بالسيف (¬2). وروى المفسرون، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب" عن كعب الأحبار رحمه الله تعالى: أنه قال لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ألا أخبرك عن إسحاق؟ قال: بلى. قال: أري إبراهيم أن يذبح إسحاق عليهما السلام فقال الشيطان: والله لئن لم أفتن عند هذه آل إبراهيم لا أفتن أحدًا منهم أبدًا، فتمثل لهم الشيطان رجلًا يعرفونه، فأقبل حتى إذا خرج إبرهيم ¬
بإسحاق عليهما السلام ليذبحه دخل على سارة، فقال لها: أين أصبح إبراهيم غاديًا بإسحاق؟ قالت: لبعض حاجته. قال: لا والله. قالت: فلِمَ غدا؟ قال: ليذبحه. قالت: لم يكن ليذبح ابنه. قال: بلى والله. قالت سارة: فلِمَ يذبحه؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. قالت: قد أحسن أن يطيع ربه إن كان أمره بذلك. فخرج الشيطان فأدرك إسحاق وهو يمشي على إثر أبيه، فقال: أين أصبح أبوك غاديًا؟ قال: لبعض حاجته. قال: لا والله، بل غدا بك ليذبحك. قال: ما كان ليذبحني. قال: بلى. قال: لِمَ؟ قال: زعم أن الله أمره بذلك.
قال إسحاق عليه السلام: فو الله لئن أمره ليطيعنه. فتركه الشيطان، وأسرع إلى إبراهيم عليه السلام، فقال: أين أصبحت غاديًا بابنك؟ قال: لبعض حاجتي. قال: لا والله، ما غدوت به إلا لتذبحه. قال: ولِمَ أذبحه؟ قال: زعمت أن الله أمرك بذلك. قال: فوالله لئن كان الله أمرني لأفعلن. قال: فتركه ويئس أن يطاع. فلما أخذ إبراهيم إسحاق عليهما السلام ليذبحه، وسلم إسحاق، عافاه الله وفداه بذبح عظيم، فقال: قم أيْ بنيَّ؛ فإن الله قد أعفاك، فأوحى الله تعالى إلى إسحاق: إني قد أعطيتك دعوة أستجيب لك فيها. قال: فإني أدعوك أن تستجيب لي: أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئًا فأدخله الجنة (¬1). قلت: وهذا أحد القولين أن الذبيح إسحاق، والثاني أنه ¬
81 - ومن أعمال الرجيم وأخلاقه: مصادقة من أصر على مصارمة أخيه المسلم وهجره بغير حق، ورد التحية على من لم يستحقها.
إسماعيل عليهما السلام. ولكل من القولين أدلة تدل على صحته، ولا يبعد أن يكون الامتحان وقع لإبراهيم عليه السلام في ولديه ولهما في قصتين، وهذا أحسن ما يقال (¬1). 81 - ومن أعمال الرجيم وأخلاقه: مصادقة من أصر على مصارمة أخيه المسلم وهجره بغير حق، ورد التحية على من لم يستحقها. روى الإمام أحمد - ورجاله رجال الصحيح - وأبو يعلى، والطبراني عن هشام بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ؛ فَإِنَّهُمَا ناَكِبَانِ عَنِ الْحَقِّ مَا دَامَا عَلَى صرَامِهِمَا، وَأَوَّلُهُمَا فَيْئًا - أَي: رُجُوْعًا - إِلَى الْمُصَافَاةِ يَكُوْنُ سَبْقُهُ بِالْفَيْءِ كَفَّارَةً لَهُ وَإِنْ سَلَّمَ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلامَهُ رَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ، وَرَدَّ عَلَى الآخَرِ الشَّيْطَانُ، وَإِنْ مَاتَا عَلَى صرَامِهِمَا لَمْ يَدْخُلا الْجَنَّةَ جَمِيْعًا أَبَدًا" (¬2). ¬
82 - ومنها: التجسس والاستماع إلى حديث قوم يكرهون سماعه.
82 - ومنها: التجسس والاستماع إلى حديث قوم يكرهون سماعه. روى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ الْمَلائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ تَنْزِلُ فِيْ الْعَنَانِ - وَهُوَ السَّحَابُ - فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِيْنُ السَّمْعَ فَتَسْمَعُهُ، فَتُوْحِيْهِ إِلَى الْكُهِّانِ، فَيَكْذِبُوْنَ مَعَهَا مِئَةَ كَذْبَةٍ مِن عِنْدِ أَنْفُسِهِم" (¬1). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيْثِ، وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا تَنَافَسُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَكُوْنُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا" (¬2). 83 - ومنها: إيقاع الناس في التهمة وسوء الظن فيمن لا يساء به الظن. روى الشيخان عن صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتكفًا فأتيته أزوره ليلًا، فحدثته، ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرعا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَى رِسْلِكُمَا؛ إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ". ¬
84 - ومنها: إساءة الظن بالله تعالى، وبأوليائه ومن لا يساء به الظن
فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيْتُ أَنْ يَقْذِفَ فِيْ قُلُوْبِكُمَا سُوْءًا - أو قال: شَيْئًا -" (¬1). 84 - ومنها: إساءة الظن بالله تعالى، وبأوليائه ومن لا يساء به الظن. فإن إبليس لما عرض الله تعالى على الملائكة أنه يريد أن يجعل في الأرض خليفة {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] , فيروى أن الذي قال ذلك هو إبليس (¬2)، فأساء الظن بربه أن يخلق ما لا حكمة في خلقه، وبآدم حيث ظن فيه الإفساد. وقال إبليس لآدم وحواء: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20] الآية، فأساء الظن بربه. فتلك كلها أخلاق شيطانية. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. وروى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَسَاءَ بِأَخِيْهِ الظَّنَّ فَقَدْ أَسَاءَ بِرَبِه عز وجل؛ إِنَّ اللهَ تَعَالَى ¬
85 - ومنها: حمل الإنسان على الأشر والبطر، والفخر والخيلاء، والكبر واتباع الهوى.
يَقُوْلُ: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] " (¬1). وفي "أدبه المفرد" عن أبي العالية رحمه الله تعالى قال: كنا نؤمر أن نختم على الخادم ونكيل ونعد؛ كراهية أن يتعودوا خلق سوء أو يظن أحدنا ظن سوء (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملًا (¬3). 85 - ومنها: حمل الإنسان على الأشر والبطر، والفخر والخيلاء، والكبر واتباع الهوى. روى ابن عساكر عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ لِلشَّيْطَانِ مَصَالِي (¬4) وَفُخُوْخًا، وَمِنْ مَصَالِيْهِ وَفُخُوْخِهِ البَطَرُ بِنِعَمِ اللهِ، وَالْفَخْرُ بِعَطَاءِ اللهِ، وَالْكِبْرُ عَلَى عِبَادِ اللهِ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى فِي ¬
86 - ومنها: تمنية الإنسان بما لا يليق به، أو ما يليق به ولا يستطيعه خصوصا من أمور الدنيا.
غَيْرِ ذَاتِ اللهِ" (¬1). 86 - ومنها: تمنية الإنسان بما لا يليق به، أو ما يليق به ولا يستطيعه خصوصًا من أمور الدنيا. قال الله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} [النساء: 120]. روى الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إذا ركب الرجل الدابة فلم يذكر الله ردفه الشيطان، فقال له: تغَنَّ، فإن لم يحسن قال له: تمَنَّ (¬2). 87 - ومنها: تحزين المؤمن، وإدخال الهم والغم عليه. قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10]. وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاثَةً فَلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُوْنَ الثَّالِثِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ" (¬3). ¬
ورويا والإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاثَةً فَلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُوْنَ الآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ" (¬1). وروى ابن ماجه عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرُّؤْيَا ثَلاثَةٌ: مِنْهَا تَهَاوِيْلٌ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيُحْزِنَ ابْنَ آدَمَ، وَمِنْهَا مَا يُهِمُّ الرَّجُلُ فِيْ يَقظَتِهِ، وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِيْنَ جُزْءًا مِنَ النّبُوَّةِ" (¬2). وروى الشيخان، وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا تَقَارَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُهُمْ رُؤيًا أَصْدَقُهُمْ حَدِيْثًا. وَالرُّؤْيَا ثَلاثَةٌ: رُؤْيَا بُشْرَى مِنَ الله عز وجل. وَرُؤْيَا بِمَا يُحَدِّثُ بِهِ الرَّجُلُ نَفْسَهُ؛ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَه فَلا يُحَدِّثْ بِهِ، وَلْيَقُمْ وَلْيُصَلِّ. وَرُؤيًا مِنْ تَحْزِيْنِ الشَّيْطَانِ" (¬3). ¬
ويؤخذ من هذا الحديث: أن تبشير المؤمن خلق رباني، وتحزينه خلق شيطاني؛ وهو ظاهر. وروى الستة عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرّؤيا مِنَ اللهِ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ لِيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا؛ فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤيَا يُحِبُّهَا فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ شَرِّهَا وَلا يَذْكُرْهَا لأَحَدٍ؛ فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ" (¬2). وروى مسلم، وأبو داود، وابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه، وابن أبي شيبة عن الزبير رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاثًا، وَلْيَسْتَعِذ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلاثًا, وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ" (¬3). ¬
روى ابن السني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا رَأَى أَحَدٌ مِنْكُم رُؤْيًا يَكْرَهُهَا فَلْيَتْفلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَسَيَّئَاتِ الأَحْلامِ؛ فَإِنَّهَا لا تَكُوْنُ شَيْئًا" (¬1). وروى مسلم عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ، وَالرُّؤْيَا السُّوْءُ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَمَنْ رَأَى رُؤْيَا فَكَرِهَ مِنْهَا شَيْئًا فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ، وَلا يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا، فَإِنْ رَأَى رُؤْيَا حَسَنَةً فَلْيُبْشِرْ بِهَا، وَلا يُخْبِرْ بِهَا إلَّا مَنْ يُحِبُّ" (¬2)؛ أي: من كان حبيبًا له أو محبًا له؛ فإنه إذا كان غير صفة المحبة حسده على تلك الرؤيا، أو احتقره منها، أو تهكم بها عليه، أو نسبه إلى الكذب. وروى الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقَصَّ الرُّؤْيَا إلَّا عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ" (¬3). وروى ابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اعْتَبِرُوْهَا - يَعْنِي: الرُّؤْيَا - بِأَسْمَائِهَا وَكَنُّوهَا بِكُنَاهَا؛ فَإِنَّ الرُّؤْيَا لأَوَّلِ عَابِرٍ" (¬4). ¬
فائدة
وروى هو وأبو داود عن أبي رزين رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ يُفَسَّرْ؛ فَإِذَا عُبِرَتْ وَقَعَتْ". قال: وأحسبه قال: "لا تَقُصَّهَا إلاَّ عَلَى وَادٍّ، أَوْ ذِي رَأْيٍ" (¬1). هكذا وجدت لفظ الحديث، واشتهر بلفظ: "الرُّؤْيَا عَلَى جَنَاحِ طَائِرٍ، مَتَى قُصَّتْ وَقَعَتْ". والظاهر أن له أصلًا بهذا اللفظ؛ لأن شيخ الإسلام والدي رضي الله تعالى عنه - وكان إمام الحديث في عصره - عنده بهذا اللفظ، فقال: [من مجزوء الرجز] رُؤْيا الْمَنامِ مِثْلَما ... لَنا النَّبِيُّ قَدْ نَعَتْ عَلى جَناحِ طائِرٍ ... فَحَيْثُ قُصَّتْ وَقَعَتْ وقد استوفينا هنا أكثر آداب الرؤيا، ولذلك أوردت هذه الأحاديث فيها، ولها مناسبة تامة بهذا المحل. * فائِدَةٌ: روى القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا في كتاب "الجليس والأنيس" عن أبي الأصبع قال: كان رجل من همذان في الكوفة يذكر بعبادة، فلزم بيته وترك الناس، فكان لا يخرج من بيته إلا لصلاة ¬
مكتوبة، أو حق يلزمه لا يجد منه بدًا، وكان صديقا للربيع بن خُثيم، وكانا لا يأتيان أحدًا إلا أحدهما لصاحبه، وكان الهمذاني لا ينام من الليل إلا قليلًا، فنام ساعته التي كان ينام فيها، فأتاه آتٍ في منامه فمغثه مغثًا شديدًا، ثم قال له: ائت الربيع بن خُثيم فقل له: إنك من أهل النار، ثم تنحى، فانتبه الهمذاني، فتعاظمه ذلك، وقال الربيع بن خُثيم: فلم يأته وأبطأ عنه، قال: ثم أتاه في الليلة الأخرى وهو نائم فمغثه مغثًا، فقال له: ألم أقل لك أن تأتي الربيع بن خُثيم وتقول له: إنك من أهل النار، لئن لم تفعل لأفعلن بك، ثم تنحى عنه، فانتبه الهمذاني وقد تعاظم ذلك، وقال الربيع بن خُثيم: فلم يأته، فجاءه في الليلة الثالثة وفعل به كذلك، فلما أصبح ورأى الربيع أنه قد أبطأ عنه أتاه، فدخل عليه فسلم عليه، فرآه متثاقلًا عنه، فقال: يا أخي! ما لك؟ أخبرني، فأخبره بما لقي تلك الليالي الثلاث وبما أمره، قال: فقال الربيع: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا أخي! إنما هذا الشيطان فأعيذك بالله ونفسي من الشيطان، وتفل الربيع عن يساره ثلاث تفلات، وتعوذ بالله من الشيطان، ثم رجع إلى منزله، فلما كانت الليلة المقبلة نام الهمذاني في ساعته التي كان ينام فيها وقد قرأ بعض البقرة مما سمع من الربيع، فإذا هو قد أتاه آت في منامه بيده ساجور كلب أسود في وجه الكلب ثلاث جراحات، قال له: أتدري ما أنا؟ قال: لا. قال: فهل تدري ما هذا الكلب؟ قال: لا.
قال: هذا الشيطان الذي دخل بينك وبين الربيع بن خُثيم، قد وكلت بكما وبهذا إلى أن تموتا لا يفلت من هذا الساجور. تدري ما هذه الجراحات التي بوجه الكلب؟ قال: لا. قال: تفلات الربيع بن خُثيم على يساره. قال: فانتبه الهمذاني فلما أصبح غدا على الربيع فأخبره بما رأى، فحمد الله تعالى، فقال: قد أخبرتك أنه من عمل الشيطان (¬1). قلت: إنما فهم الربيع أنه الشيطان من تحزينه للهمذاني بسبب ما قال له عن أخيه. وفي الحديث السابق: أن من الرؤيا تهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم، فاستظهر الربيع أمره بالعلم، وإن شئت فقل: هو من باب الكرامة والكشف. وفي هذه القصة أن من أفعال الشيطان إدخال الحزن والغيظ على العبد الصالح، والتفريق بين المتواخيين بأي ممكن، وإزالة المؤمن عن حسن الاعتقاد في الصالحين، والكذب على الله، والخوض في علم الغيب. ¬
88 - ومن أعماله قبحه الله: تخويف المؤمن وازعاجه وترويعه؛ وكل ذلك حرام.
88 - ومن أعماله قبحه الله: تخويف المؤمن وازعاجه وترويعه؛ وكل ذلك حرام. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ رَوَّعَ مُؤْمِنًا لَمْ يُؤَمِّنِ اللهُ رَوْعَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَعَى بِمُؤْمِنٍ أَقَامَهُ اللهُ مَقَامَ ذُلٍّ وَخِزيٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". رواه البيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. قيل: أصله: يخوفكم من أوليائه، ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك: {فَلَا تَخَافُوهُمْ} (¬2). ومقتضى الآية: أن الإنسان مهما راعه من قبل الشيطان أو من قبل أولياء الشيطان فلا يلتفت إليه؛ فإنه لا يضره، بل يتمثل عظمة الله تعالى وسطوته ليمنعه الخوف من الله تعالى من طاعة الشيطان وطاعة أوليائه ليذهب عنه خوفه منهم، فلا يحمل ذلك على طاعتهم. وأيضًا فإن العبد إذا خاف من الله تعالى خاف منه الشيطان ¬
وأولياؤه؛ لما رواه العقيلي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا خَافَ الْعَبْدُ اللهَ أَخَافَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِذَا لَمْ يَخَفِ الْعَبْدُ اللهَ أَخَافَهُ اللهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" (¬1). وروى أبو الشيخ بن حيان بإسناد ضعيف، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَافَ اللهَ خَافَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَمَنْ خَافَ غَيْرَ اللهِ خَافَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (¬2). وبمقتضى هذين الحديثين فمن خاف الله تعالى فلا يخاف الشيطان؛ أي: ولا يخاف بطشه ولا ضرره؛ نعم يخاف أن يسلطه الله عليه، فمن خاف من تسلط الشيطان عنه لم يخف في الحقيقة إلا من الله تعالى؛ [لأنه] لا يتسلط إلا بتسليطه كما قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة: 10]. وهذا الخوف من جمل الخوف من الله تعالى الذي يدفع الخوف من الشيطان عن الإنسان. والحاصل أنك مهما خفت أن يسلط الله عليك الشيطان فقد كفيته؛ فإن ذلك يدعوك إلى الاستعاذة بالله تعالى منه، كما قال الله تعالى: ¬
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200]. ومهما خفت من الشيطان لذاته فهو لوهن في خوفك من الله تعالى وفي إيمانك؛ لأن الله تعالى شجعك، وعرفك أن الخوف منه يدفع عنك الخوف من الشيطان لقوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]؛ لأن الضمير يعود إلى الشيطان وأوليائه معًا، وهو أحسن من أن يعود إلى الأولياء فحسب. وقال مجاهد رحمه الله تعالى: كنت ألقى من رزية (¬1) الغول والشياطين بلاء وأرى خيالًا، فسألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقال: اجترئ على ما رأيت، ولا تفْرَقْ منه؛ فإنه يفرق منك كما تفرق منه، ولا تكن أجبن السوادين. قال مجاهد: فرأيته، فشددت عليه بعصا حتى سمعت وقعته (¬2). وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى: إذا أحس أحدكم بالشيطان فلينظر إلى الأرض، وليتعوذ - أي: بالله تعالى - منه (¬3). رواهما ابن أبي شيبة. وروى الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب "الزهد والرقائق"، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: كان رجل عابد من السياح أراده الشيطان من قبل الشهوة والرغبة ¬
والغضب، فلم يستطع له شيئًا، فتمثل له بحية وهو يصلي، فالتوى بقدميه وجسده حتى طلع عند رأسه، فلم يلتفت من صلاته ولا استأخر منها، فلما أراد أن يسجد التوى في موضع سجوده، فلما وضع رأسه للسجود فتح فاه ليلتقم رأسه، فجعل يفرك لحيته يستمكن من الأرض بسجدته، فقال له الشيطان: إني أنا صاحبك الذي كنت أخوفك وأتيتك من قبل الشهوة والرغبة والغضب، وأنا الذي كنت أتمثل لك بالسباع أو بالحية فلم أستطع لك شيئًا، وقد بدا لي أن أصادقك ولا أريد ضلالتك بعد اليوم. فقال له: لا يومَ خوفتني بحمد الله خفتك، ولا لي اليوم حاجة في مصادقتك. قال: سلني عما شئت أخبرْك. قال: وما عسيت أن أسألك عنه؟ قال: لا تسألني عن مالك ما فعل بعدك؟ قال: لو أردت ذلك لم أفارقه. قال: فلا تسألني عن أهلك من مات منهم بعدك؟ قال: أنا ميت بعدهم أو قبلهم. قال: فلا تسألني عما أضل به بني آدم؟ قال: بلى.
قال: فأخبرني ما أوثق في نفسك أن تضلهم به؟ قال: ثلاثة أخلاق من لم يستطع بشيء منها غلبنا الشح والحدة والسكر؛ فإن الرجل إذا كان شحيحًا قلَّلنا ماله في عينه، ورغبناه في أموال الناس، فإذا كان حديدًا أدرناه بيننا كما يتداول الصبيان الكورة (¬1)، ولو كان يحيي الموتى بدعوته لم نيأس منه فإنما نبني ونهدمه بما نكمله (¬2)، وإذا سكر اقتدناه كما يقتاد من أخذ العنز بأذنها حيث يشاء (¬3). وقد حكي عن الشيخ عبد القادر الكيلاني نظير هذه القصة في تصور الشيطان له في صورة الحية وهو في الصلاة، وفي قصته: إن الشيطان قال له: فتنت بذلك قبلك سبعين صدِّيقًا، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك. وأشرت إلى الثلاثة الأخلاق المشار إليها في أثر وهب بقولي: [من السريع] بِالشُّحِّ وَالْحِدَّةِ وَالسُّكْرِ ... يَسْتَمْكِنُ الشَّيْطانُ فِيْ الْمَكْرِ فَمَنْ خَلا مِنْها فَشَيْطانُهُ ... فِي غايَةِ الذِّلَّةِ وَالْقَهْرِ ¬
89 - ومن أعمال اللعين وأخلاقه: إيذاء المؤمن في بدنه وأهله وولده وماله، والتصرف في ملك الغير بغير إذنه خصوصا بالإتلاف والإفساد، وقسوة القلب على خلق الله تعالى، وعدم الرحمة والشفقة.
لَيْسَ لَهُ فِي خَمْرِهِ طاقَة ... وَلا عَلَيْهِ الدَّهْرَ يَسْتَجْرِي بِأَحْسَنِ الأَخْلاقِ مِنْهُ احْتَجِزْ ... وَاشْهَرْ عَلَيْهِ عُدَّةَ الذِّكْرِ دارَتْ عَلى الشَّيْطانِ مِنْ ذِكْرِ مَنْ ... عَلا اسْمُهُ قاصِمَةُ الظَّهْرِ 89 - ومن أعمال اللعين وأخلاقه: إيذاء المؤمن في بدنه وأهله وولده وماله، والتصرف في ملك الغير بغير إذنه خصوصًا بالإتلاف والإفساد، وقسوة القلب على خلق الله تعالى، وعدم الرحمة والشفقة. وكل هذه الأخلاق شيطانية، وقد نهى الله تعالى عنها، وأرشد إلى أضدادها. قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]. الآية نص في أن الشيطان يتخبط الإنسان، وهو مذهب أهل السنة. وذهب المعتزلة إلى إنكار ذلك، وتأولوا الآية بأنَّ الكلام فيها جار على اعتقادهم أن الشيطان يمس. وهذا التأويل مكابرة في منطوق الآية. وتخبط الإنسان ومسه إيذاء له في جسده، وفكره، وقلبه، وعقله، وحواسه. وروى ابن سعد في "طبقاته"، والبيهقي في "الدلائل" عن عائشة
رضي الله تعالى عنها: أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - تعني: في مرضه -: إنا نتخوف أن يكون بك ذات الجنب. قال: "إِنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيُسَلَّطَهُ عَلَيَّ" (¬1). وروى ابن سعد عنها أيضا قال: دخلت أم بشر بن البراء رضي الله عنها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه وهو محموم فمسته، فقالت: ما وجدت مثل وعك عليك على أحد. فقال: "كَمَا يُضَاعَفُ لَنَا الأَجْرُ كَذَلِكَ يُضَاعَفُ عَلَيْنَا الْبَلاءُ، مَا يَقُوْلُ النَّاسُ؟ " قالت: يزعمون أن بك ذات الجنب. قال: "مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَهَا عَلَيَّ، إِنَّمَا هِيَ هَمْزَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الأكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ أَنَا وَابْنُكِ يَوْمَ خَيْبَرَ، مَا زَالَ يُصِيْبُنِي مِنْهَا عداءٌ حَتَّىْ كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي". فمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهيدًا (¬2). وقد تقدم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لحمنة بنت جحش رضي الله تعالى عنها في الاستحاضة: "إِنَّها رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطانِ" (¬3). وقال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ ¬
{بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]؛ أي: تعب وألم، كما قال البيضاوي (¬1). وقال صاحب "القاموس": النصب - وبضمة وبضمتين -: الداء والبلاء (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: عرج الشيطان فقال: أي رب! سلطني على أيوب عليه السلام. قال: قد سلطتك على ماله وولده، ولم أسلطك على جسده. قال: فنزل فجمع جنوده، فقال: إني سلطت على أيوب فأروني سلطانكم. قال: فصاروا نيرانًا، ثم صاروا ماء، وبينما هم بالمغرب إذ هم بالمشرق، فأرسل طائفة إلى زرعه، وطائفة إلى إبله، وطائفة إلى بقره، وطائفة إلى غنمه، وقال: اعلموا أنه لا يعتصم منكم إلا بمعرفة، فأتوه بالمصائب بعضها على بعض. قال: فجاء صاحب الزرع فقال: يا أيوب! ألم تر إلى ربك عز وجل أرسل على زَرْعَك نارًا فأحرقه؟ فحمد الله. وجاء راعي الإبل فقال: يا أيوب! ألم تر ربك عز وجل أرسل إلى إبلك عدوًا فذهب بها؟ وجاء راعي البقر فقال مثل ذلك، وجاء صاحب الغنم فقال مثل ¬
ذلك، وتفرد هو لبنيه فجمعهم في بيت أكبرهم، فبينما هم يأكلون ويشربون، فجمع أركان البيت فهدم عليهم البيت، قال: فجاء إلى أيوب عليه السلام في هيئة الغلام وفي أذنه قرطان، قال: يا أيوب! ألم تر إلى بنيك اجتمعوا في بيت أكبرهم يأكلون ويشربون فبينما هم كذلك إذ جاءت ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم؟ فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ولحومهم بطعامهم وشرابهم! فقال له أيوب: فأين كنت أنت؟ قال: كنت معهم. قال: وكيف انفلتت؟ قال: انفلت. قال: أنت الشيطان. قال عليه السلام: أنا الآن مثل يوم خرجت من بطن أمي، فقام فحلق رأسه، ثم قام يصلي، فأنَّ الشيطان أنَّهُ سمعها أهل السماوات وأهل الأرض، ثم عرج فقال: أي رب! قد اعتصم، وإني لا أستطيعه إلاَّ بتسليطك؛ فسلطني عليه. قال: قد سلطتك على جسده، ولم أسلطك على قلبه. قال: فنزل فنفخ تحت قدمه، فقرح من قرنه إلى قدمه حتى بدا حجاب بطنه، وألقى عليه الرماد، قال: فقالت امرأته ذات يوم: يا أيوب! قد والله نزل بي من الجهد والفاقة ما بعت قرنًا من قروني برغيف فأطعمتك، فادع ربك عز وجل فليشفك.
قال: ويحك! كنا في النعماء سبعين عامًا، فاصبري حتى نكون في الضراء سبعين عامًا. قال: وكان ذلك البلاء سبع سنين. قال: وقعد الشيطان في الطريق فأخذ تابوتًا يتطبب، فأتته امرأة أيوب فقالت: يا عبد الله! إن هاهنا إنسانًا مبتلى فهل لك أن تداويه؟ قال: إن شاء الله فعلت على أن يقول لي كلمة واحدة إذا برأ؛ يقول: أنت شفيتني. قال: فأتته فقالت: يا أيوب! إن هاهنا رجلًا يزعم أنه يداويك على أنك تقول كلمة واحدة: أنت شفيتني. قال: ويلك! ذلك الشيطان، لله علي إن شفاني الله تعالى أن أجلدك مئة جلدة، فبينما هم كذلك إذ جاء جبريل عليه السلام، فأخذ بيده فقال: قم، فقام فقال له: اركض برجلك، فركض برجله، فنبعت عين، فقال: اشرب، فشرب، قال: يقول الله عز وجل: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]. ثم ألبسه حلة من الجنة، وجاءت امرأته فقالت: يا عبد الله! أين المبتلى الذي كان هاهنا، لعل الذئاب ذهبت به أو الكلاب. قال: ويحك! أنا أيوب، قد رد الله عز وجل إلي نفسي. قال: فقالت يا عبد الله! اتق الله عز وجل، ولا تسخر بي. قال: ويحك! أنا أيوب.
فائدة
قال: ورد اله إليه ماله وولده عيانًا، ومثلهم معهم، وأمطر عليه جرادًا من ذهب، قال: فجعل يأخذ الجراد بيده ثم يجعله في ثوبه، وينشر أثناءه، فيأخذ فيجعله فيه، فأوحى الله عز وجل إليه: يا أيوب! أما شبعت؟ قال أيوب عليه السلام: من ذا الذي يشبع من فضلك ورحمتك؟ قال: فاخذ ضِغثًا بيده فجلدها، قال: وكان الضغث مئة شمراخ، فجلدها به جلدة واحدة (¬1). * فائِدَةٌ: قال الثعلبي في "تفسيره": واختلفوا في سبب ابتلاء أيوب عليه السلام، فقال وهب: استعان رجل أيوب عليه السلام على ظالم يدرأه عنه فلم يمنعه عنه، فابتلي. وروى حبان عن الكلبي: أن أيوب عليه السلام كان يغزو ملكًا كافرًا، وكانت مواشي أيوب في ناحية ذلك الملك، فداهنه فلم يغزه، فابتلي. وقيل: كان أيوب عليه السلام كثير المال فأعجبه ماله، فابتلي، انتهى (¬2). قلت: والقولان الأخيران بعيدان عن حال الأنبياء عليهم السلام؛ ¬
لأن المداهنة والعجب كبيرتان، والأنبياء عليهم السلام معصومون. وروى الإمامُ ابنُ الإمامِ عبدُ الله بن أحمد في "زوائد الزهد" عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: لما أصاب أيوب الذي أصابه أرسل إلى أصحابه فقال: أتدرون لأي شيء أصابني هذا؟ قالوا: أما نحن فلم يظهر لنا منك شيء نعرفه إلا أن تكون أسررت شيئًا لم يكن لنا به علم. فقاموا من عنده، فذهبوا فلقوا إنسانًا يتكلم في العلم، فقال: لأي شيء دعاكم نبي الله؟ فأخبروه، قال: فأنا أخبره بما أصابه هذا، فأتاه فسأله، فقال: إنك شربت شربة لم تحمد الله عليها، ولم تشكر النعمة، ولعلك استظللت في ظل ولم تشكر النعمة (¬1). قلت: وفي هذا إشارة إلى أن شكر النعمة يحفظها من التغير والتحول، بل ينميها ويزكيها، والإعراض عن الشكر - ولو عن قليل النعم - تعرض لزوالها والابتلاء فيها. وقلت في المعنى: [من السريع] لا تَحْتَقِرْ أَصْغَرَ ما تُعْطَى ... فَتَتْرُكَ الشُّكْرَ عَلى الْمُعْطَى مَنْ يَشْكُر اللهَ فَقَدْ قَيَّدَ ... النَّعْماءَ وَاسْتَوْثَقَها رَبْطا هَلاَّ شَكَرْتَ اللهَ مَنْ يَقْبِضُ الـ ... أَرْزاقَ أَوْ يَبْسُطُها بَسْطا ¬
قَدْ نَبُلَ الشَّاكِرُ فِي شُكْرِهِ ... وَتارِكُ الشُّكْرِ قَدِ انْحَطَّا مَنْ قَصُرَتْ نعمتُه دُونَه ... فليَلُمِ التقصيرَ والفَرْطَا وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن نوف البكالي قال: مر نفر من بني إسرائيل على أيوب عليه السلام، فقالوا: ما أصابه ما أصابَه إلا بذنب عظيم أصابه. قال: فسمعها أيوب فقال عند ذلك: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، قال: وكان قبل ذلك لا يدعو (¬1). وعن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب عليه السلام أخوان، فأتياه ذات يوم فوجدا ريحًا، فقالا: لو كان الله عز وجل علم من أيوب خيرًا ما بلغ به كل هذا. وفي رواية: لو كان لأيوب عند الله خير ما بلغ به كل هذا. قال: فما سمع شيئًا كان أشد عليه من ذلك، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لا أبيت شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني، قال: فصدق وهما يسمعان. ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصًا قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني، قال: فصدق وهما يسمعان. ثم خر ساجدًا ثم قال: اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي. ¬
فائدة أخرى
قال: فكشف الله عز وجل ما به (¬1). فعد أيوب عليه السلام كلام الناس فيه أشد مما ابتلي به من السقم، وفقد الولد والمال. وأقول: [من السريع] وَأَشَدُّ مِنْ سُقْمٍ وَمِنْ فاقَة ... وَمِنْ بَلِيَّاتٍ لِمَنْبُوْذِ قَوْلُ خِلٍّ أَيُّ ذَنْبٍ أَتى ... أَو اسْتَحَقَّ الْعَبْدُ ما أُوْذِي اللَّوْمُ لِلْحُرِّ كَوَقْعِ الْقَنا ... وَمَوْتُ ذِي اللَّوْمِ كَفالُوْذِ * فائِدَةٌ أُخْرَى: روى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى: أنه سئل: ما كان شريعة أيوب عليه السلام؟ قال: التوحيد وصلاح ذات البين، وإذا أراد أحدهم حاجة إلى الله خر ساجدًا ثم طلب حاجته. قيل: فما كان ماله؟ قال: كان له ثلاثة آلاف فدان، مع كل فدان عبد، مع كل عبد وليدة، مع كل وليدة أتان وأربع عشرة ألف شاة، ولم يبت ليلة له ضيف وراء بابه ولم يأكل طعامًا إلا ومعه مسكين (¬2). ¬
تنبيهان
قلت: خطر لي أن البلاء إنما كان يكثر في الأمم الماضية ويعظم - ما لا تراه بحمد الله تعالى هذه الأمة - بسبب قلة تكاليفهم، وأن هذه الأمة لما كثرت تكاليفها وتشعبت شريعتها وهم يسمعون ويطيعون خف بلاؤها، فلم تعم بعذاب ولم تصب بجهد البلاء إلا من تعرض له بترك الطاعات، وكانت بلاياها رحمة وكفارة وتمحيصًا، ولا يقاربها تكاليف بني إسرائيل وإن كثرت، بل ما كان أكثر تكاليفهم إلا عقوبة لهم حيث كانوا يؤمرون ويبخلون، فيخالفون ويتعنتون، فشدد عليهم كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِم" (¬1). * تَنْبِيهانِ: الأَوَّلُ: يستحق أن يلحق بالشيطان ويوصف بالتشبه به، فكما فعله بأيوب عليه السلام من سقى أحدًا سمًا أو سحر أحدًا حتى سقم أو أخذه الرعاف، أو سحر امرأة حتى أخذها النزيف، أو نحو ذلك؛ وكل هذه من الكبائر. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: علم مما رويناه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصة أيوب عليه السلام: أن الشيطان أخذ تابوتًا وقعد في الطريق ¬
يتطبب حتى مرت عليه امرأة أيوب عليه السلام أن من أعمال إبليس اللعين القعود على الطريق لغير حاجة، بل لمجرد العبث بالناس، والسخرية بهم، والأذية لهم، وهذا حال من يقعد الآن على أبواب بيوت القهوات في عصرنا هذا، وهو عمل شيطاني كما علمت. وقد روى الشيخان، وغيرهما عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِيَّاكُم وَالْجُلُوْسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ إلَّا الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيْقَ حَقَّهَا؛ غَضَّ الْبَصَرِ، وَكَفَّ الأَذَى، وَرَدَّ السَّلامِ، وَالأَمْرَ بِالْمَعْرُوْفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ" (¬1). وعُلم أن من أخلاقه التطبب بغير علم، والتشبع بما لم يملك. وقد روى أبو داود، وابن السني، وأبو نعيم كلاهما في "الطب"، والحاكم وصححه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ" (¬2). وروى مسلم عن عائشة، وهو والإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود عن أختها أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمُتَشَبعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلابِسِ ثَوْبَيْ زُوْرٍ" (¬3). ¬
90 - ومن أخلاق اللعين: الظلم والجور والعسف كما يدل عليه فعله بأيوب عليه السلام.
90 - ومن أخلاق اللعين: الظلم والجور والعسف كما يدل عليه فعله بأيوب عليه السلام. ومن ثم شبَّه الحسنُ الحجاجَ بالشيطان فيما رواه أبو نعيم من طريق الطبراني عن ابن شوذب عن الحسن رحمه الله تعالى قال: دعا الحجاج أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، فقال له: ما أعظمُ عقوبةٍ عاقب بها النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فحدثه بالذين قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ولم يحسمهم، وألقاهم بالحرة، ولم يطعمهم ولم يسقهم حتى ماتوا. قال الحجاج: أين هؤلاء الذين يعيبون علينا والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عاقب بهذا؟ فبلغ ذلك الحسن فقال: إن أنسًا حميق؛ يعمد إلى شيطان يلتهب فيحدثه بهذا (¬1). وإنما فعل - صلى الله عليه وسلم - بأولئك ما فعل لأنهم كانوا مرتدين، وفعلوا ذلك الذي فعل بهم برعاء إبل الصدقة لما بعثهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الإبل ليشربوا من ألبانها وأبوالها لداء كان بهم، ثم نهى - صلى الله عليه وسلم - عن المُثلة. وظهر بذلك أن احتجاج الحجاج بالحديث غير صحيح، وكان ¬
91 - ومن أخلاق الشيطان لعنه الله تعالى: السعي في أذى المسلم والسعاية به، والمعاونة عليه في باطل.
ينبغي لأنس رضي الله تعالى عنه أن يحدثه بذنبهم، وأن ذلك كان قصاصهم، بل كان الأولى الإعراض عن هذا الحديث ولا يحدث به الحجاج أصلًا، ومن ثم عاب الحسن عليه ذلك، واعتذر عنه بالغفلة التي عبر عنها بالحماقة. وحاصله أن أنسًا رضي الله تعالى عنه لسلامة فطرته عزب عنه أن الحجاج إنما سأله ليحتج بحديثه على جوره وظلمه، وكان هذا السؤال وما رتبه على جوابه من جملة شيطانيَّةِ الحجاج، ألا ترى أن احتجاجه من قبيل احتجاج إبليس على إبائه عن السجود بما احتج به؟ 91 - ومن أخلاق الشيطان لعنه الله تعالى: السعي في أذى المسلم والسعاية به، والمعاونة عليه في باطل. روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة، فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخمرة التي كان قاعدًا عليها، فاحترق منها مثل موضع درهم، فقال: "إِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذهِ عَلَى هَذَا فتحْرِقَكُمْ" (¬1). 92 - ومنها: التزوير كما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تزوير الشيطان على سليمان عليه السلام علم السحر. ومن تزويراته التحلُّم بما لم يره، والكذب في المنام. ¬
93 - ومنها: تغليط العلماء، والتزوير عليهم، ونسبة الاعتقاد السيئ إليهم.
فقد حكى بعض العلماء أن إبليس لما عرض لإبراهيم عليه السلام ليثبطه عن ذبح ولده ظهر له في صورة شيخ كبير وهو يبكي ويحثو التراب على رأسه، فقال له إبراهيم عليه السلام: ما خطبك يا هذا؟ فقال له: كان لي ولد قد علق بقلبي حبه، فأتاني آت في منامي وقال لي: إن ربك يأمرك أن تذبح ولدك، فلما ذبحته عرض لي الشيطان وقال لي: أنا الذي غريتك حتى ذبحت ولدك، ولم يكن ذاك من قبل ربك. قال: فأنا الآن أقرع سني ندمًا لما فعلت بولدي، وقد ركبتني الأحزان وصرت كما ترى. فعلم إبراهيم عليه السلام أنه الشيطان، فحصبه ومضى إلى أمر الله تعالى. وقد روى ابن ماجه، والترمذي وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله: "مَنْ تَحَلَّمَ كَاذِبًا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيْرَتَيْنِ، وَلَيْسَ عَاقِدًا بَيْنَهُمَا" (¬1). 93 - ومنها: تغليط العلماء، والتزوير عليهم، ونسبة الاعتقاد السيئ إليهم. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ ¬
94 - ومنها: التزوير على ولاية القضاء والحكم، والحكم بين الناس بالباطل؛ وذلك كله من الكبائر.
الله آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 - 54]. 94 - ومنها: التزوير على ولاية القضاء والحكم، والحكم بين الناس بالباطل؛ وذلك كله من الكبائر. روى الحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} [ص: 34]؛ قال: هو الشيطان الذي كان على كرسيه يقضي بين الناس أربعين يومًا. قال: وكان لسليمان عليه السلام جارية يقال لها: جرادة، وكان بين بعض أهلها وبين قومه خصومة، فقضى بينهم بالحق إلا أنه ود أن الحق لأهلها، فأوحى الله تعالى إليه: أن سيصيبك بلاء (¬1). وروي أن سليمان عليه السلام كان ملكه في خاتمه، وكان نقشه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكان يكره أن يدخل الخلاء والخاتم في يده، وكان يدع الخاتم عند بعض نسائه - قيل: كان اسمها أمينة، وقيل: جرادة - فإذا خرج أخذ الخاتم، فتركه عندها ذات يوم، فجاء في غيبته شيطان على صورته، فطلب الخاتم من المرأة، فدفعته إليه، فجلس على كرسي سليمان أربعين يومًا يحكم بين الناس، ولم يسلط ¬
95 - ومنها: استحلال الحرام وتحريم الحلال.
على نساء سليمان ولا على فراشه، فأنكرت بنو إسرائيل أحكامه وأقضيته، ففزع منهم الشيطان وخافهم، فطار من الكرسي وألقى الخاتم في البحر، وكان من أمر سليمان عليه السلام أن عاد إلى طلب الخاتم، فقالت المرأة: إن سليمان أخذه، فقال: أنا سليمان، فأنكروه وطردوه، فجاء يلتمس رزقه من البحر، ففتح عليه بسمكتين، فقعد ناحية ليصلح شأنهما، فشق بطن الواحدة فإذا هي التقطت الخاتم، فوجده في جوفها، فأخذه وسجد لله تعالى، وعادت إليه هيبته وملكه بإذن الله تعالى (¬1). 95 - ومنها: استحلال الحرام وتحريم الحلال. وقد فسر بذلك قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168] كما تقدم. وروى الحاكم وصححه، عن مسروق قال: أتى عبد الله - يعني: ابن مسعود رضي الله تعالى عنه - بضرع، فقال للقوم: ادنوا، فأخذوا يطعمون، وكان رجل منهم في ناحية فقال عبد الله: ادن. فقال: إني لا أريده. فقال عبد الله: لِمَ؟ قال: لأني قد حرمت الضرع. فقال عبد الله: هذا من خطوات الشيطان. ¬
96 - ومنها: أكل الحرام.
قال عبد الله: قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]؛ ادنُ وكُلْ وكَفر عن يمينك؛ فإن هذا من خطوات الشيطان (¬1). وللشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله تعالى عنه مع الشيطان قصة في هذا الباب ستأتي. 96 - ومنها: أكل الحرام. أما ترى أنه يستبيح طعام من لم يذكر اسم الله عليه فيأكله كما في الحديث. ومن اللطائف: ما رواه أبو الحسن بن جهضم في كتاب "بهجة الأسرار" عن بشر الحافي رحمه الله تعالى قال: إذا تعبد الشاب يقول إبليس لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؛ فإن كان مطعمه مطعم سوء قال: دعوه ولا تشتغلوا به، يجهد وينصب، فقد كفاكم نفسه (¬2). 97 - ومنها: غضب أثواب الناس وأمتعتهم؛ وهو من الكبائر. روى ابن عساكر عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّيَاطِيْنُ يَسْتَمْتِعُوْنَ بِثيَابِكُم، فَإِذَا نزَعَ أَحَدُكُمْ ثَوْبَهُ فَلْيَطْوِهَا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهَا أَنْفَاسُهَا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَلْبِسُ ثَوْبًا مَطْوِيًّا" (¬3). ¬
98 - ومنها: السرقة؛ وهي كبيرة.
وروى ابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان" عن قيس بن أبي حازم قال: ما من فراش يكون في بيت مفروشًا لا ينام عليه أحد إلا نام عليه الشيطان (¬1). 98 - ومنها: السرقة؛ وهي كبيرة. وروى الطبراني في "الكبير" عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُرْسِلُوا الإِبِلَ هَمْلًا، صرُّوْهَا صَرًّا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَرْضَعُهَا" (¬2). وروى هو والبيهقي، وأبو نعيم - ورجال سنده موثقون - عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: ضم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليَّ تمر الصدقة فجعلته في غرفة لي، وكنت أجد فيه كل يوم نقصانًا، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: "هُوَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ فَارْصدْهُ"، فرصدته ليلاً، فلما ذهب هوي الليل أقبل على صورة الفيل، فلما انتهى إلى الباب دخل من خلل الباب على غير صورته، فدنا من التمر فجعل يلتقمه، فشددت علي ثيابي فتوسطته، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، يا عدو الله! وثبت إلى تمر الصدقة فأخذته وكانوا أحق به منك؟ لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعاهدني أن ¬
99 - ومنها: الاعتذار بكثرة العيال وغلبة الدين عن الدخول في الحرام والشبهات.
لا يعود، فغدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: "إِنَّهُ عَائدٌ"، فرصدته الثانية والثالثة فصنع بي مثل ذلك، فقلت: يا عدو الله! عاهدتني مرتين وهذه الثالثة، فقال: إني ذو عيال، وما أتيتك إلا من نصيبين، ولو أصبت شيئاً دونه ما أتيتك، ولقد كنا في مدينتكم هذه حتى بعث صاحبكم، فلما نزلت عليه آيتان نفرنا منهما فوقعنا بنصيبين، ولا يقرآن في بيت إلا لم يلج فيه شيطان ثلاثاً، فإن خليت سبيلي علمتكهما، قلت: نعم، قال: آية الكرسي، وآخر سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] إلى آخرها. قال: فخليت سبيله، ثم غدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "صَدَقَ وَهُوَ كَذُوْبٌ" (¬1). ولأبي هريرة رضي الله تعالى عنه قصة مثل هذه القصة في حفظه لزكاة رمضان، وليس فيها ذكر آخر البقرة، وهي في "صحيح البخاري"، وغيره، وستأتي قريباً. وفي الحديث دليل على أن من أخلاق الشيطان نقضَ العهود وكثرةَ الكذب، وهما من أخلاق المنافقين، وكيف لا وهو رأسهم. 99 - ومنها: الاعتذار بكثرة العيال وغلبة الدَّين عن الدخول في الحرام والشبهات. وإذا كان المتشبه بالشيطان في ذلك كاذباً في دعوى الدَّين ¬
والحاجة كان أقبح. والاعتذار بمثل ذلك من أهل العلم والديانة أسمج، وهو دليل أنهم ممكور بهم، ولا يخلص من هذا المكر إلا من عصمه الله تعالى بقوة الإيمان وحسن التوكل، ولذلك حذره الأكابر حتى قال بشر الحافي - رضي الله عنه -: لو كنت أعول ديكاً خشيت أن أصبح شرطياً على جسر بغداد (¬1). ولا تكاد في هذه الأزمنة تجد سالماً من هذه المحنة؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. روى البخاري، وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: وكَّلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إني محتاج، وعليَّ دينٌ وعيال، ولي حاجة شديدة، فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا فَعَلَ أَسِيْرُكَ الْبَارِحَةَ؟ " قال: قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله. قال: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُوْدُ". ¬
فذكر الحديث في عوده ثلاث مرات، وقوله في الثانية: دعني أكلمْك كلمات ينفعك الله بهن. قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] حتى تختم الآية؛ فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وذكر الحديث، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوْبٌ؛ تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاثِ لَيَالٍ أَبَا هُرَيْرَةَ؟ " قال: لا، قال: "ذَاكَ الشَّيْطَانُ" (¬1). وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُوْدُ" إشارةٌ إلى أن الشيطان كان كاذباً في دعوى الدَّين والحاجة، وهذا لا شك أنه خلق شيطاني، والاعتذار به في تناول الحرام أقبح كما يعتذر القضاة والولاة والشّرَط عن تولية ذلك بكثرة العيال، ثم هم يتمرسون في محصول ذلك والاستكثار منه تمرس البعير بالشجرة، ويتوسعون في السُّحت توسع البَطِر في مال أبيه. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث: "قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوْبٌ" تقريرٌ لما أجراه الله تعالى على لسان الشيطان لأبي هريرة من بيان فضل قراءة آية الكرسي كل ليلة، وفرار الشيطان منها، وحفظ قارئها ورعايته. ¬
100 - ومن أخلاق الشيطان قبحه الله: منع فضل الماء عن ابن السبيل؛ وهو كبيرة أيضا.
وفي الحديث إشارة إلى أن الحكمة قد يتكلم بها غير الحكيم، والصدق قد يجري على لسان الكذوب، وأن الحق يذعن له وإن جاء من غير أهله. 100 - ومن أخلاق الشيطان قبحه الله: منع فضل الماء عن ابن السبيل؛ وهو كبيرة أيضاً. روى أبو الشيخ في كتاب "العظمة"، وأبو نعيم في "الدلائل" عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال لعمار: "انْطَلِقْ فَاسْتَقِ لَنا مِنَ الْماء"، فانطلق فعرض له شيطان في صورة عبد أسود، فحال بينه وبين الماء، فصرعه عمار، فقال: دعني وأخلي بينك وبين الماء، ففعل، ثم أبى فأخذه عمار رضي الله تعالى عنه الثانية فصرعه، فقال: دعني وأخلي بينك وبين الماء، ففعل، ثم أبى فأخذه عمار رضي الله تعالى عنه الثالثة، فصرعه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنَ عَمَّارٍ وَبَيْنَ الْمَاءِ فِيْ صُوْرَةِ عَبْدٍ أَسْوَدَ، وإنَ اللهَ أَظْفَرَ عَمَّارًا بِهِ". قال علي رضي الله تعالى عنه: فتلقينا عماراً رضي الله تعالى عنه، فأخبرناه يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنا والله لو شعرت أنه شيطان لقتلته (¬1). وروى أبو نعيم، والبيهقي وصححه، عن عمار رضي الله تعالى ¬
101 - ومنها: قطع الطريق، وإضلال المسافرين في طاعة الله تعالى.
عنه قال: أرسلني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بئر، فلقيت الشيطان في صورة الإنس، فقاتلني، فصرعته، ثم جعلت أدقه بفهر معي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَقِيَ عَمَّارٌ الشَّيْطَانَ فَقَاتَلَهُ". قال: فما عدا أن رجعت فأخبرته، فقال: "ذَاكَ الشَّيْطَانُ" (¬1). وفي "صحيح البخاري" عن علقمة رحمه الله قال: قدمت الشام فقلت: من هاهنا؟ قالوا: أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه. قال: أفيكم الذي أجاره الله تعالى من الشيطان على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -؟ يعني: عماراً رضي الله تعالى عنه (¬2). فهذا تلميح من أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه بالعصمة المذكورة هنا. 101 - ومنها: قطع الطريق، وإضلال المسافرين في طاعة الله تعالى. قال الله تعالى - حكاية عن الشيطان -: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16]. قيل: إنه طريق مكة يقعد الشيطان عليها ليمنع الناس منها؛ ¬
102 - ومنها: السفر وحده أو مع ثان.
نقله في "الإحياء" (¬1). قلت: أخرجه عبد بن حميد عن ابن عباس، وأبو الشيخ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهم (¬2). وروى أبو القاسم البغوي عن أنس، والطبراني عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لإِبْلِيْسَ مَرَدَةً مِنَ الشَّيَاطِيْنَ يَقُوْلُ لَهُم: عَلَيْكُمْ بِالْحُجَّاجِ وَالْمُجَاهِدِيْنَ؛ فَأَضَلُّوْهُمْ عَنِ السَّبِيْلِ" (¬3). وروى ابن أبي حاتم، وابن المنذر عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: ما من رفقة تخرج إلى مكة إلا جهز معهم إبليس مثل عددهم (¬4). 102 - ومنها: السفر وحده أو مع ثان. روى أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرَّاكِبُ ¬
تنبيه
شَيْطَانٌ، وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَاناَنِ، وَالثَّلاثَةُ رَكْبٌ" (¬1). قال الخطابي: معناه - والله تعالى أعلم -: أن التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان، أو هو شيء يحمله عليه الشيطان، فقيل على هذا: إن فاعله شيطان (¬2). وذكر الحافظ زين الدين العراقي في هذا الحديث احتمالين: الأول: أن يكون المراد أن الراكب وحده أو مع آخر يقرب الشيطان منه، فأطلق عليه اسم الشيطان لقربه منه. والثاني: أن المراد تشبيهه بالشيطان؛ لأن عادة الشياطين الانفراد في الأماكن الخالية كالأودية والحشوش ونحو ذلك. قلت: والثاني أقرب، ولهذا بعينه جاء النهي أن ينام الإنسان في بيت وحده. * تَنْبِيْهٌ: يكره سفر الاثنين وحدهما لهذا الحديث، وسفر الواحد وحده أشد كراهية، وإنما تزول الكراهة بالثالث لقوله - رضي الله عنه -: "وَالثَّلاثَةُ رَكْبٌ". وإنما كره سفر الاثنين وحدهما لأنه يلزم منه الوحدة التي هي أصل الكراهة؛ فإن المسافر لا بد له من حال انبعاث لطلب ماء أو ¬
103 - ومنها: تلبية الجاهلية؛ وهي كفر صراح.
قوت، أو قضاء حاجة، فيبقى الثاني وحده، فإذا كانوا وذهب أحدهم في حاجة بقي الاثنان مجتمعين. ومع ذلك فلا بد في الثلاثة من نقص إذ أحدهم ينفرد بمفارقة الباقيين، فلذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الرُّفَقَاءِ أَرْبَعةٌ". رواه ابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). وهو عند الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - مرفوعاً - بلفظ: "خَيْرُ الأَصْحَابِ أَرْبَعةٌ" (¬2). 103 - ومنها: تلبية الجاهلية؛ وهي كفر صراح. روى البزار - ورجاله رجال الصحيح - عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان الناس بعد إسماعيل عليه السلام على الإسلام، وكان الشيطان يحدث الناس بالشيء يريد أن يردهم عن الإسلام حتى أدخل عليهم في التلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. قال: فما زال حتى أخرجهم إلى الشرك (¬3). ¬
104 - ومنها: استيطان الشيطان الأمكن المستقذرة كالكنف، والحمامات، والمزابل، والحانات - بالمهملة - وفي معناها بيوت القهوة المتخذة من البن - وإن كانت القهوة في نفسها مباحة - فإن بيوتها مأوى الشياطين.
وقد قيل في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]: إنه نزل في هذه التلبية. 104 - ومنها: استيطان الشيطان الأمكن المستقذرة كالكُنَف، والحمامات، والمزابل، والحانات - بالمهملة - وفي معناها بيوت القهوة المتخذة من البن - وإن كانت القهوة في نفسها مباحة - فإن بيوتها مأوى الشياطين. روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي في كتاب "العلل"، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححه، عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: إن هذه الحشوش محتضرة؛ فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث (¬1). والحشوش - بضم المهملة - جمع حش - بفتحها -: وهو البستان، ثم أطلق على محل قضاء الحاجة لأنهم كانوا يقضون الحاجة قبل أن تبنى المناضح. والخُبث: ذكران الشياطين، جمع خبيث. والخبائث: إناثها، جمع خبيثة. قال ابن سيد الناس في "شرح الترمذي": ومعنى محتضرة في ¬
قوله: "إن هذه الحشوش": يأوي إليها الشياطين (¬1). وروى ابن عدي في "الكامل" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُم إِلَى حُجْرَته لِيَدْخُلَ فَلْيُسَمِّ الله؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ قَرِيْنُهُ مِنَ الشَّيَاطِيْنِ الَّذِي مَعَهُ وَلا يَدْخُلُ، فَإِذَا دَخَلْتُم فَسَلِّمُوا؛ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ سَاكِنُهُ مَعَهُمْ، وإِذَا وُضعَ الطَّعَامُ فَسَمُّوا؛ فَإِنَّكم تَدْحرُونَ الْخَبِيْثَ إِبْلِيْسَ عَنْ أَرْزَاقِكُمْ وَلا يُشْرِكَكُمْ فِيْهَا، وإِذَا ارْتَحَلْتُمْ دَابَّة فَسَفُوا اللهَ حِيْنَ تَضَعُوْنَ أَوَّلَ حِلْسٍ؛ فَإِنَّ كَلَّ دَابَّةٍ مُقْتَعِدَةٌ، وإِنَّكمْ إِذَا سَمَّيْتُمْ حَطَّمْتُموهُ عَنْ ظُهُورِهِ، وَإِذَا نَسِيْتُمْ ذَلِكَ شَرِكَكُمْ فِي مَرَاكِبكُمْ، وَلا تَبِيتُوا مندِيلَ الْغَمْرِ - أَي: الزَّفر - مَعَكُم فِيْ الْبَيْتِ؛ فَإِنَّهُ مَبِيْتُ الشَّيْطَانِ وَمَضْجَعُهُ، وَلا تَتْرُكُوا القُمَامَةَ مُمْسِيةَ إِذَا وُضِعَت فِيْ جَانِبِ الْحُجْرَةِ؛ فَإِنَّهَا مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ، وَلا تَسْكُنُوا بُيُوتاً غَيْرَ مُغْلَقَةٍ، وَلا تَفْتَرِشُوا الْوَلايَا الَّتِي تُفْضِي الى ظُهُوْرِ الدَّوَابِّ، وَلا تَبِيْتُوا عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ، وإذَا سَمِعْتُمْ نبِيْحَ الْكِلابِ أَوْ نهِيْقَ الْحِمَارِ فَاسْتَعِيْذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَإِنَّهمَا لا يَرَيَانِ الشَّيْطَانَ إِلاَّ نَبَحَ الْكَلْبُ وَنَهقَ الْحِمَارُ" (¬2). وروى الخطيب، وابن عساكر عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَلِّلُوا لِحَاكُم، وَقُصُّوا أَظْفَارَكُم؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي ¬
105 - ومنها: إطالة المكث في الحمام لغير ضرورة، بل لمجرد التلهي والبطالة، وهو مضر من جهة الطب.
مَا بَيْنَ اللَّحْمِ وَالظُّفْرِ" (¬1). وإنما كان ما بين اللحم والظفر مجرى الشيطان لاستقذاره في الغالب، ومن ثم ندب قلم الأظفار لما في ذلك من إجلاء الشيطان عن هذه المواضع وإخلائها منه. 105 - ومنها: إطالة المكث في الحمام لغير ضرورة، بل لمجرد التلهي والبطالة، وهو مضر من جهة الطب. وتقدم في حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أن الشيطان قال لله تعالى: اجعل لي بيتاً، قال: الحمام (¬2). وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ إِبْلِيْسُ لِرَبِّهِ - عز وجل -: يَا رَبِّ! أَهْبَطْتَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ سَيَكُوْنُ كِتَابٌ وَرُسُلٌ، فَمَا كِتَابُهُمْ وَرُسُلُهُم؟ قالَ: رُسُلُهُمْ الْمَلائِكَةُ، وَالنَّبِيُّوْنَ مِنْهُمْ، وَكتبهُمْ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيْلُ وَالزَّبُوْرُ وَالْفُرْقَانُ. قالَ: فَمَا كِتَابِي؟ قالَ: كِتَابُكَ الْوَشْمُ، وَقُرْآنُكَ الشِّعْرُ، وَرُسُلُكَ الْكَهَنَةُ، وَطَعَامُكَ مَا لا يُذْكَرُ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، وَشَرَابُكَ كُلُّ مُسْكِرٍ، وَحَدِيْثكَ الْكَذِبُ، ¬
106 - ومنها: القعود في الأسواق لغير غرض صحيح.
وَبَيْتُكَ الْحَمَّامُ، وَمَصَائِدُكَ النسَاءُ، وَمُؤَذنُكَ الْمِزْمَارُ، وَمَسْجِدُكَ الأَسْوَاقُ" (¬1). 106 - ومنها: القعود في الأسواق لغير غرض صحيح. وقد جعل الله تعالى السوق مسجد إبليس بشهادة حديث ابن عباس، وأبي أمامة رضي الله تعالى عنهم. ومعنى كونه مسجد إبليس: أنه يسجد فيها للشيطان كما يسجد المخلصون لله تعالى في المساجد. والمراد بالسجود هنا كمال الانقياد، وذلك لأن السوق يطاع فيها الشيطان بالكذب واليمين الكاذبة، والغش والخديعة، واللغط، ولذلك يكون أكثر مكث الشيطان في الأسواق كما أن أكثر مكث الملائكة في المساجد، فمن لازم المسجد فجلساؤه الملائكة عليهم السلام، ومن لازم السوق فقد جالس الشياطين. وإن شئت قلت: من دخل المسجد للطاعة فقد زار الله تعالى ونال جواره، ومن دخل السوق لغير حاجة فقد زار الشيطان وصار جاره. فقد روى الحسن بن محمد الخلال في كتاب "فضل المساجد" بإسناد جيد، عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: قال ¬
تنبيهان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا تَوَضَّأَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَهُوَ زَائِرٌ اللهَ - عز وجل -؛ وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُوْرِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ" (¬1). وروى أبو نعيم بإسناد ضعيف، عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَقُوْلُ اللهُ - رضي الله عنه - يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ جِيْرَانِي؟ فتقُوْلُ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ: مَنْ هَذَا الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجَاوِرَكَ؟ فَيَقُوْلُ: أَيْنَ قُرَّاءُ الْقُرآنِ وَعُمَّارُ الْمَسَاجِدِ؟ " (¬2). * تنبِيهانِ: الأَوَّلُ: كما يحضر الشيطان السوق يحضر كل موضع يقع فيه البيع والمعاملة رجاءَ أن يقع فيه عقد باطل، أو كذب أو غش، أو غبن لأحد المتعاقدين، فيشمت ويفرح بخطيئة ابن آدم. وروى الترمذي وصححه، عن قيس بن أبي غرزة رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نُسمَّى السماسرة فقال: "يا مَعْشَرَ التُّجَّارِ! إِنَّ الشَّيْطانَ وَالإِثْمَ يَحْضُرانِ الْبَيع، فَشَوِّبُوا بَيْعَكُمْ بالصَّدَقَةِ" (¬3). ¬
الثاني
ومن هنا جاء النهي عن البيع في المسجد. وروى الترمذي، والحاكم وصححاه، عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيع أَوْ يَبْتَاعُ فِيْ الْمَسْجِدِ فَقُوْلُوْا: لا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارتَكَ، وإذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيْهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لا رَدَّ اللهُ عَلَيْكَ" (¬1). التَّنْبِيْهُ الثَّانِي: بيت القهوة مأوى الشيطان لأنه سوق في معنى البيت، أو بيت في معنى السوق، بل هو أقبح الأسواق؛ لأن اللغط والمعاصي التي تصدر فيه أكثر مما يصدر في غيره من الأسواق، ولأنه محل مستقذر، ويدخل إليه بالرجل اليسرى ويخرج منه باليمنى، وقد علمت أن كل محل مستقذر فهو مأوى الشيطان، واستقذاره من جهة المنكرات المتتابعة من إدارة القهوة البنية كما تدار القهوة المسكرة، ولذلك تنقلب محرمة بعد ما كانت مباحة، ومن الإصرار على النظر إلى المرد المتبعلين بأحسن من تبعل النساء، وعلى غمز أيديهم وأعضائهم، وطلب زمزمة الفناجين منهم، وأكل الحشيشة والأفيون وجوزة الطيب وغير ذلك من المسكرات والمخدرات، والإكباب على ضرب آلات اللهو واستماعها، واللعب بالنرد والطاب وغيرهما، واللغو والرفث، والخوض في الباطل، والغيبة والنميمة، والكذب ¬
والأكاذيب، والمضحكات، والمواعدة على السوء، وغير ذلك مما لا يشك مسلم في أنه من أعظم الحرام إلا أن يكون مغموراً في الجهل. وقد أجبت عن سؤال صورته: [من الخفيف] أيَّها الْفاضِلُ الَّذِي جَمَعَ الْعِلْ ... ـــــــــــمَ وَحازَ التُّقَى فَأَصْبَحَ قُدْوَة أَفْتِنا أَنْتَ هَلْ تَقُوْلُ حَلالٌ ... أَمْ حَرامٌ عَلَى الْوَرَى شُرْبُ قَهْوَة فقلت: [من الخفيف] أيَّها السَّائِلُ الَّذِي جاءَ يَرْجُو ... عِنْدَنا أَنْ نبُيْحَهُ شُرْبَ قَهْوَة قَهْوَةُ الْبُنِّ لا تَكُوْنُ حَراماً ... إِنَّها لا تُفِيْدُ فِي النَّفْسِ نَشْوَة غَيْرَ أَنَّ الَّذِي يجَيءُ بُيُوتاً ... هِيَ فِيها تُدارُ عادِمُ نَخْوَة إِذْ يَرَى الْمُرْدَ وَالْمَعازِفَ وَالنَّرْ ... دَ وَكُلٌّ يَلْهُو وَيتْبَعُ لَهْوَه ثُمَّ لَمْ يَقْوَ أَنْ يُغَيِّرَ نُكْراً ... خَشْيَةَ أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ هَفْوَة إِذْ يَقْتَحِمُوْنَ الإِهانَةَ وَالسُّو ... ءَ وَيَجْفُونَهُ بِأَعْظَمِ جَفْوَة أَوْ يُحَلِّي شَيْطانُه لِهَواهُ ... لَهْوَهُ فِي تِلْكَ الْبُيُوتِ وَلَغْوَه مُعْرِضاً عَنْ رَشادِهِ وَتُقاهُ ... سالِياً عَنْ صَلاتِهِ أَيَّ سَلْوَة كُلُّ هَذا مُخالِفٌ لِطَرِيْقٍ ... خَطَّهُ المُصْطَفَى وَعَرَّجَ نَحْوَه فَاجْتَنِبْهُ وَدَعْ طَوائِفَ تَدْعُو ... كَ إِلَيْهِ وَلَوْ بِآكَدِ دَعْوَة لا تُطِعْهُمْ وَلَو رَضُوا مِنْكَ ... فَتُطِيع الرَّجِيْمَ فِي كُلِّ خَطْوَة
107 - ومن أخلاق الشيطان وأعمالة: التبكير إلى الأسواق، والتأخر في الانصراف منها.
وإِذا شِئْتَ شُرْبَ قَهْوَةِ بُنٍّ ... حَسْوَةً قَدْ أَرَدْتَ أَوْ أَلْفَ حَسْوَة فَلْيَكُنْ ذاكَ وَسْطَ بَيْتِكَ مَهْما ... لَمْ تَشُبْ صَفْوَها بِمُوْجِبِ صَبْوَه قالَهُ ابْنُ الْغَزِّيِّ نَجْمُ بْنُ بَدرٍ ... يَرْتَجِي مِنْ ربِّ الْبَرِيَّةِ عَفْوَه 107 - ومن أخلاق الشيطان وأعمالة: التبكير إلى الأسواق، والتأخر في الانصراف منها. وقد تقرر لك أن بيوت القهوة من أخبث الأسواق. روى ابن ماجه، والطبراني في "الكبير" عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ غَدَا إِلَى صَلاةِ الصُّبْحِ غَدَا بِرَايَةِ الإِيْمَانِ، وَمَنْ غَدَا إِلَى السُّوْقِ غَدَا بِرَاية إِبْلِيْسَ" (¬1). وروى الطبراني عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَكُنْ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ إِلَى السُّوْقِ، وَلا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا؛ فَفِيْهَا بَاضَ الشَّيْطَانُ وَفَرَّخ" (¬2). وفي رواية: "فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ". أو قال: "مَرْبضُ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ" (¬3). ¬
وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ الشَّيَاطِيْنَ تَنْحَدِرُ بِرَايَاتِهَا إِلَى الأَسْوَاقِ، فَيَدْخُلُونَ مَعَ أَوَّلِ دَاخِلٍ وَيَخْرُجُوْنَ مَعَ آخِرِ خَارِجٍ" (¬1). وقال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: لا تكن أول داخل في السوق ولا آخر خارج؛ فإنها رياض الشيطان وفُرَجُه (¬2). وقال هو ومعاذ رضي الله تعالى عنهما: إن إبليس يقول لولده زَلْنبور: سِرْ بكتابك فأت أصحاب الأسواق؛ زَيِّنِ الكذب والحلف، والخديعة والمكر والخيانة، وكن مع أول داخل وآخر خارج (¬3). وروى أبو نعيم في كتاب "حرمة المساجد" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللهِ الْمَسَاجِدُ، وَأَحَبُّ أَهْلِهَا أَوَّلُهُم دُخُوْلاً وَآخِرُهُمْ خُرُوْجاً، وَأَبْغَضُ البِقَاعِ إِلَى اللهِ الأَسْوَاقُ، وَأَبْغَضُ أَهْلِهَا إِلَى اللهِ أَوُّلُهُمْ دُخُوْلاً وَآخِرُهُمْ خُرُوْجًا" (¬4). ¬
تنبيه
* تنبِيهٌ: لو بكَّر العبد إلى السوق أو تأخر فيها بقصد قضاء حاجة مسلم أو بقصد إرغام الشيطان بالذكر من غير أن يلزم من ذلك فوت صلاة عن أول وقتها أو فوت جماعة، كان ذلك حسناً لأن الأعمال بالنيات، وأصل دخول السوق على الإباحة، فإذا اقترن بالنية كان طاعة. وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الذكر" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه قال: اغدوا بنا إلى السوق، ولنذكر الله - رضي الله عنه -؛ فإن إبليس قد غدا ونصب رايته، ووضع كرسيه وبث ذريته. قال: فإذا غدا الرجل إلى السوق فليقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير؛ فإن له بكل كلمة من هذه الكلمات حسنة تكتب، وخطيئة تمحى، ودرجة ترفع، وعدل رقبة من بني إسماعيل، وشجرة تغرس، ورضوان من الله أكبر، ذلك هو الفوز العظيم. وروى هو والترمذي، والحاكم عن عمر رضي الله تعالى عنه، وابن ماجه، والحاكم عن ابنه رضي الله تعالى عنه؛ كلاهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ قَالَ فِيْ سُوْقٍ مِنَ الأَسْوَاقِ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيى ويُمِيْتُ وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوْتُ، بِيَدهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْر، كتَبَ اللهُ لَهُ أَلفَ أَلفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ ألْفِ
108 - ومن أخلاق الشيطان: ترك القيلولة؛ وهي النوم وسط النهار، وهي مستحبة لقيام الليل.
سَيِّئةٍ، وبُنيَ لَهُ بَيتٌ فِي الْجَنَّةِ" (¬1). ورواه ابن السني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلفظ: "مَنْ قالَ حِيْنَ يَدْخُلُ السُّوْقَ"، وزاد فيه بعد قوله: "وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ": "لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ". ثم قال: "كَتَبَ اللهُ لَهُ ألفَيْ ألفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ ألفَيْ ألفِ سَيِّئَةٍ، وَبُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن أبي رفاعة رضي الله تعالى عنه: أنه كان يأتي السوق يقول: أريد أن أذكر الله حيث لا يذكر (¬3). 108 - ومن أخلاق الشيطان: ترك القيلولة؛ وهي النوم وسط النهار، وهي مستحبة لقيام الليل. روى الطبراني في "الأوسط"، والبزار، وأبو نعيم في "الطب" عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قِيْلُوا؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِيْنَ لا تَقِيْلُ " (¬4). ¬
109 - ومنها: الانتشار من غروب الشمس إلى أن تذهب فحمة العشا - أي: ظلمتها - من غير ضرورة.
وروى ابن أبي شيبة، ومحمد بن نصر في كتاب "الصلاة" عن مجاهد قال: بلغ عمر رضي الله تعالى عنه أن عاملاً له لا يقيل، فكتب إليه: أما بعد: فَقِلْ؛ فين الشيطان لا يقيل. قال مجاهد: إن الشياطين لا يقيلون (¬1). وقال الحسن رضي الله تعالى عنه: إذا دخل السوق وسمع لغطهم ولغوهم يقول: أظن ليل هؤلاء ليل سوءة فإنهم لا يقيلون (¬2). 109 - ومنها: الانتشار من غروب الشمس إلى أن تذهب فحمة العشا - أي: ظلمتها - من غير ضرورة. روى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُرْسِلُوْا فَوَاشِيَكُمْ وَصِبْيَانكُمْ إِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ حَتَّى تَذهبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ" (¬3). وروى هؤلاء، والبخاري، والنسائي عنه أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ وَأَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانكُم؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْتَشِرُ حِينئذٍ، فَإِذَا ذهبَ ساعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخَفوْهُمْ، وَأَغْلِقُوا ¬
110 - ومنها: السهر في غير فائدة.
الأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ بَابَا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُم، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتكُم وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ وَلَوْ أَنْ تَعْرِضُوا عَلَيْهَا شَيْئاً" (¬1). والفواشي في الحديث الأول - بالفاء -: جمع فاشية، وأراد كل شيء منتشر من المال كالإبل، والغنم، وسائر البهائم وغيرها لأنها تفشوا؛ أي: تنتشر في الأرض. وجنح الليل - بضم الجيم، وكسرها -: ظلامه. وفي رواية: "إذا استجنح الليل"؛ أي: أظلم. 110 - ومنها: السهر في غير فائدة. روى ابن أبي الدنيا في "المكائد"، والسمعاني في "تاريخه" عن سلام بن مسكين قال: قال رجل للحسن رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد! أينام إبليس؟ قال: فتبسم، قال: لو نام إبليس لوجدنا راحة (¬2). وروى ابن السني، والحاكم عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ ابْتَدَرَهُ مَلكٌ وَشَيْطَانٌ، فَقَالَ الْمَلَكُ: اللَّهُمَّ اخْتِمْ بِخَيْرٍ، وَقَالَ الشَّيْطَانُ: اخْتِمْ بِشَرٍّ؛ فَإِنْ ذَكَرَ اللهَ ¬
111 - ومنها: تسهير أهل المعصية والغفلة، وكراهية نومهم.
تَعَالَى ثُمَّ ناَمَ بَاتَ الْمَلَكُ يَكْلَؤُهُ" (¬1)؛ أي: يحرسه ويحفظه. وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا اسْتَيقَظَ أَحَدُكُم مِنْ مَنَامِهِ فتوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيْتُ عَلَى خَيَاشِيْمِهِ" كما رواه الشيخان (¬2) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فلا يلزم من بيات الشيطان على الخياشيم أن ينام؛ فإن معنى بات: حل في المساء - سواء نام، أم لا - بل إنما يبيت الشيطان على الخياشيم ليكون قريباً من الفم حتى متى استيقظ ابن آدم فعسى أن يلقنه ما فيه شر. ويؤيده ما في الحديث (¬3) أنه: "إذا استيقظ قال الملك: افتح [بخير، وقال الشيطان: افتح] بشر". 111 - ومنها: تسهير أهل المعصية والغفلة، وكراهية نومهم. روى ابن أبي الدنيا في "المكائد" عن فضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: ما من شيء أبغض إلى إبليس من أن يرى ابن آدم نائماً، يقول: متى يقوم هذا حتى يعصي الله تعالى. وهذا محمول على إرادة من عادته الغفلة والمعصية بدليلٍ ما. * تنبِيْهٌ: قد يريد الشيطان تسهير أهل الطاعة بأن يحسن لهم الحديث ¬
112 - ومنها: تنويم أهل الطاعة عن الطاعة.
والسمر أول الليل ليغلبهم النوم عن القيام آخر الليل، أو ليغلب عليهم حتى يخرج وقت صلاة الفجر كما هو حال كثير من الناس ممن غلب عليهم حب الدنيا ونسوا الآخرة. قال حميد رحمه الله تعالى: أطلنا الحديث ذات ليلة ثم دخلنا على أنس رضي الله تعالى عنه، فقال: أطلتم الحديث البارحة؟ أما إن حديث أول الليل يضر بآخره. رواه ابن أبي شيبة (¬1). ومن هنا كره الشافعي رحمه الله تعالى وغيره الحديث بعد صلاة العشاء إلا في خير للنهي؛ عن ذلك (¬2). 112 - ومنها: تنويم أهل الطاعة عن الطاعة. روى ابن أبي الدنيا في "المكائد"، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ للشَّيْطَانِ كُحْلاً وَلَعُوْقًا؛ فَإِذا كَحَّلَ الإِنْسَانُ مِنْ كُحْلِهِ نَامَتْ عَيْنَاهُ عَنِ الذِّكْرِ، وإِذَا أَلْعَقَهُ مِنْ لَعُوْقهِ دَرَبَ لِسَانهُ بِالشَّرِّ" (¬3). وروى البيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ للشَّيْطَانِ كُحْلًا وَلَعُوْقًا وَنشُوْقًا؛ أَمَّا لَعُوْقُهُ فَالْكَذِبُ، وَأَمَّا نشُوْقُهُ ¬
فَالْغَضَبُ، وَأَمَّا كُحْلُهُ فَالنَّوْمُ" (¬1). والمعنى: أنه يلقن ابن آدم بالكذب، ويستثير منه الغضب، ويستجلب منه النوم. وقال ابن العماد فيما قرأته بخطه نقلاً عن شيخه البلقيني: شيطان النوم يسمى الوسنان، يأتي الإنسان فينومه كما ينوم الصغير. قال: وإنما ينومه عن الطاعة، فأما عن المعاصي فلا، انتهى. وروى الطبراني في "الكبير" عن جندب رضي الله تعالى عنه قال: سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفراً فأتاه قوم، فقالوا: سهرنا عن الصلاة فلم نصل حتى طلعت الشمس. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَوَضَّؤُوا وَصَلُّوا". ثم قال: "إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِالسَّهَرِ، إِنَّ هَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَإِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ مَضْجَعَهُ فَلْيقُلْ: بِسْمِ اللهِ، أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ" (¬2). وروى أبو داود، والنسائي - وصححه النووي - عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خصْلَتَانِ - أَو خلَّتانِ - لا يُحَافِظُ عَلَيْهِمَا عَبدٌ مُسْلِم إِلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَهُمَا يَسِيْرَانِ، وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيْلٌ؛ يُسَبِّحُ اللهَ تَعَالَى فِيْ دُبُرِ كُل صَلاةٍ عَشْرًا، ويَحْمَدُ عَشْرًا، ويُكَبِّرُ ¬
عَشْرًا، فَذَلِكَ خَمْسُوْنَ وَمئةٌ بِاللِّسَانِ، وَألفٌ وَخَمْسُ مئَةٍ فِيْ الْمِيْزَانِ، وَيُكَبّرُ أَرْبَعاً وَثَلاثِيْنَ إذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ، وَيَحْمَدُ ثَلاثاً وَثَلاثِيْنَ، ويُسَبِّحُ ثَلاثاً وَثَلاثِيْنَ، فَّذلِكَ مِئة بِاللِّسَانِ، وَألْفٌ فِيْ الْمِيْزَانِ". قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقدها بيده. قالوا: يا رسول الله! كيف هما يسير، ومن يعمل بهما قليل؟ قال: "يَأْتِيْ أَحَدَكُم - يَعْنِي: الشَّيْطَان - فِي مَنَامِهِ فَيُنَوِّمَهُ قَبْلَ أَنْ يَقُوْلَهَا" (¬1). وروى الإمام أحمد، والشيخان، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ مَكَانها: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَويْلٌ فَارْقُدْ؛ فَإِن اسْتَيْقَظَ وَذَكَرَ اللهَ تَعَالَى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا، فَأَصْبَحَ نشَيْطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وإلاَّ أَصْبَحَ خَبِيْثَ النَّفْسِ كَسْلانَ" (¬2). ورواه ابن خزيمة من حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - وزاد ¬
فيه في رواية: "فَحُلُّوْا عُقَدَ الشَّيْطَانِ وَلَوْ بِرَكْعَةِ" (¬1). وروى الشيخان عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل نام ليلة حتى أصبح فقال: "ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِيْ أُذُنيَهِ - أَو قَالَ: فِيْ أُذُنِهِ -" (¬2). أراد بذلك أن الشيطان قد بلغ من استيلائه عليه وتنويمه إياه عن طاعة الله تعالى ما لو بال في أذنيه لما أحس به أو استذله كاستذلال من بال في أذنيه. وروى الترمذي عن عبد الله بن ثابت، عن أبيه، عن جده - واسم جده دينار رضي الله تعالى عنه: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْعُطَاسُ وَالنُّعَاسُ وَالتَّثَاؤُبُ فِيْ الصَّلاةِ، وَالْحَيْضُ وَالْقَيْءُ وَالرُّعَافُ مِنَ الشَّيْطَانِ" (¬3). وروى عبد الرزاق بسند صحيح عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: سبع من الشيطان: الرعاف، والقيء، وشدة العطاس، والتثاؤب، والنعاس عند الموعظة، والنجوى (¬4). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلاً - رحمه الله تعالى - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "النَّوْمُ وَالنُّعَاسُ فِيْ الْجُمُعَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَإِذَا نعَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيتَحَوَّلْ" (¬1). وروى عبد الرزاق عن عمرو بن دينار رحمه الله تعالى قال: كان يقال: إذا نعس الرجل في يوم الجمعة والإمام يخطب فإنه مجلس الشيطان، فليتحول عنه (¬2). وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: النعاس عند القتال أمنة من الله تعالى، والنعاس في الصلاة من الشيطان (¬3). متأولاً بذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154]. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن ثابت البناني عن أبي ثامر - وكان عابداً - قال: فرأى في المنام كأن رجلين أو ملكين أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه للذي عند رجليه: إن الصلاة قبل النوم تُرضي الرحمن وتسخط الشيطان، وقال الذي عند رجليه: إن النوم قبل الصلاة يسخط الرحمن ويرضي الشيطان (¬4). ¬
فائدة لها مناسبة تامة بهذا المحل
* فائِدَةٌ لَها مُناسَبةٌ تامَّة بِهَذا الْمَحَلِّ: قد علم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وحديث ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - المتقدمين: أن نوم جميع الليل مما يعجب الشيطان من العبد الطائع، ومن ثم كره العلماء أن يخلو الليل من القيام. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ - يعني: ابن عمر رضي الله تعالى عنهما - لَوْ كَانَ يَقُوْمُ مِنَ اللَّيْلِ". رواه الشيخان من حديث حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما - (¬1). وروى أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صَلِّ مِنَ اللَّيْلِ نِصْفَهُ، ثُلُثَهُ، رُبُعَهُ، فواقَ حَلْبِ (¬2) ناَقَةٍ، فواقَ حَلْبِ شَاةٍ" (¬3). وروى أبو الوليد بن مغيث في كتاب "الصلاة" عن إياس بن معاوية - رحمه الله تعالى - مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بُدَّ مِنْ صَلاةِ اللَّيْلِ وَلَوْ حَلْبَ نَاقَةٍ، وَلَوْ حَلْبَ شَاةٍ" (¬4). وروى محمد بن نصر في كتاب "الصلاة" أيضاً، والطبراني في ¬
"الكبير" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَلَيْكُمْ بِصَلاةِ اللَّيْلِ وَلَوْ رَكْعَةً وَاحِدَةً" (¬1). وروى ابن أبي شيبة، ومحمد بن نصر، والبيهقي في "الشعب" عن الحسن - رضي الله تعالى عنه - مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلُّوا مِنَ اللَّيْلِ، صَلُّوا وَلَوْ أَرْبَعًا، صَلُّوا وَلَوْ رَكْعَتَيْنِ، مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ تُعْرَفُ لَهُمْ صَلاة إِلاَّ نَادَاهُمْ مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْبَيْتِ! قُوْمُوْا لِصَلاتِكُمْ" (¬2). وهذا المنادي أقرب ما يكون ملكاً من الملائكة عليهم السلام، ولا يلزم من ندائه أن يسمع كل من في البيت، فقد يكشف لبعضهم فيسمعه، وقد لا يسمعه أحد. ونظير هذا حديث أنس المتقدم في التشبه بالملائكة: أن لله ملكاً ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم! قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على أنفسكم فأطفئوها (¬3). ¬
وفائدة هذا النداء حصول الاستيقاظ وإن لم يفهم النائم النداء. ومثل ذلك قد يتفق في الحس بحيث ينادي بعض الإنس نائماً منهم ويذهب، فينتبه النائم ولا يعرف من ناداه. وقد سمعت في بعض الليالي منادياً ينادي فاستيقظت، فلم أر أحداً. وقد علم بذلك أن إيقاظ النائمين للصلاة من أخلاق الملائكة - عليهم السلام - كما أن تنويم المصلين من أخلاق الشياطين اللئام. ومن المجربات للاستيقاظ متى شاء العبد: ما ذكره الثعلبي في "تفسيره" عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن رجلًا قال له: إني أهم أن أقوم ساعة من الليل فيغلبني النوم. فقال: إذا أردت أن تقوم أي ساعة شئت من الليل فاقرأ إذا أخذت مضجعك: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109] الآية؛ فإن الله يوقظك متى شئت من الليل (¬1). وقال الدارمي في "مسنده": أنبأ محمد بن كثير عن الأوزاعي، عن عبدة، عن رَزين قال: من قرأ آخر سورة الكهف لساعة من الليل قامها؛ قال عبدة: فجربناه فوجدناه كذلك (¬2). وروى ابن الضِّريس في "فضائل القرآن" عن إسماعيل بن أبي ¬
رافع - رحمه الله تعالى - بلاغاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن من قرأ الخمس آيات من خاتمة سورة الكهف حين يأخذ مضجعه من فراشه حُفظ، وبعث من أي الليل شاء (¬1). وأفادني بعض مشايخي أنه يقال بعد القراءة: يا ملائكة ربي! أيقظوني في وقت كذا. قلت: هذا لا بأس به، لكن الذي يظهر أنه ليس شرط، بل يكفيه أن يحضر في قلبه الساعة التي يريد القيام فيها حال قراءة الآية، وهكذا جربته فرأيته صحيحاً. وروى الإمام أبو سعد أحمد بن محمد الماليني في "أربعين الصوفية"، وابن الجوزي في كتاب "ترجمة معروف الكرخي رضي الله تعالى عنه"؛ كلاهما عن معروف قال: ثنا بكر بن خنيس: قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قالَ عِنْدَ مَنَامِهِ: اللَّهُمَّ لا تُؤْمِنَّا مَكْرَكَ، وَلا تُنْسِنَا ذِكْرَكَ، وَلا تَهْتِكْ عَنَّا سِتْرَكَ، وَلا تَجْعَلْنَا مِنَ الْغَافِلِيْنَ، اللَّهُمَّ ابْعَثْنَا فِيْ أَحَبِّ السَّاعَاتِ إِلَيْكَ حَتَّى نَذْكُرَكَ فَتَذْكُرَناَ، وَنسأَلَكَ فَتُعْطِيَنَا، وَنَدْعُوْكَ فَتَسْتَجِيْبَ لَنَا، وَنَسْتَغْفِرَكَ فَتَغْفِرَ لَنَا إِلاَّ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى مَلَكًا فِيْ أَحَبِّ السَّاعَاتِ إِلَيْهِ فَيُوْقظُهُ، فَإِنْ قَامَ وإِلاَّ صَعِدَ الْمَلَكُ فَيَعْبُدُ اللهَ فِيْ السَّمَاءِ، ويُعْرُجُ إِلَيْهِ مَلَكٌ آخَرُ فَيُوْقِظُهُ، فَإِنْ قَامَ وإِلاَّ صَعِدَ الْمَلَكُ فَقَامَ مَعَ ¬
تنبيه
صَاحِبِهِ، فَإِنْ قَامَ بَعْدَ ذَلِكَ وَدَعَا اسْتُجِيْبَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ كَتَبَ اللهُ تَعَالَى لَهُ ثَوَابَ أُوْلَئِكَ مِنَ الْمَلائِكةِ" (¬1). * تنبِيْهٌ: إذا أنعم الله على العبد بإيقاظه في ساعة من الليل فلينهض إلى الوضوء والصلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَحُلُّوْا عُقَدَ الشَّيْطَانِ وَلَوْ بِرَكْعَةٍ" (¬2)، فإن أبى إلا العود إلى النوم فلا أقل من أن يذكر الله تعالى ولو بتهليلة أو تسبيحة، {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265]. ولا بأس بالجهر بالذكر أو بالقرآن، وهو أفضل وأبلغ ليكون أشد في طرد الشيطان، ولا بتسميع يحذر فيه لكن من غير مبالغة في الجهر. روى الإمام أحمد ورجاله ثقات عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - يخافت بصوته إذا قرأ، وكان عمر - رضي الله تعالى عنه - يجهر بقراءته، وكان عمار - رضي الله تعالى عنه - إذا قرأ يأخذ من هذه السورة وهذه، فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: "لِمَ تُخَافِتُ بِقِرَاءَتِكَ؟ " قال: إني لأسمع من أناجي. وقال لعمر رضي الله تعالى عنه: "لِمَ تَجْهَرُ بِقِرَاءَتِكَ؟ " ¬
قال: أفزع الشيطان، وأوقظ الوسنان. وقال لعمار رضي الله تعالى عنه: "لِمَ تأْخُذُ مِنْ هَذِهِ السُّوْرَةِ وَهَذِهِ؟ " قال: أتسمعني أخلط فيه ما ليس منه؟ قال: "لا". قال: فكله طيب (¬1). وروى أبو داود، والترمذي عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: "إنيْ مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تَقَرَأُ وَأَنْتَ تَخْفِضُ مِنْ صَوْتك؟ " فقال: إني أسمعت من ناجيت. قالَ: "ارْفَعْ قَلَيلاً". وقال لعمرَ رضي الله تعالى عنه: "إِنّيْ مَرَرتُ بِكَ وَأَنْتَ تَقرَأُ وَأَنْتَ تَرْفَعُ صَوْتَكَ؟ " فقال: إني أوقِظُ الوَسنَانَ وَأَطْرد الشَّيطانَ. قالَ: "اخْفِضْ قَلَيْلاً" (¬2). ¬
وروى أبو داود نحوه عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - إلا أنه لم يذكر قوله لأبي بكر: "اِرْفَعْ قَلِيْلاً"، ولا قوله لعمر: "اخْفِضْ قَليلاً". زاد: "وَقَدْ سَمِعْتُكَ يَا بِلالُ تَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّوْرَةِ وَمِنْ هَذهِ السُّوْرَةِ؟ " قال: كلام طيب يجمعه الله بعضه إلى بعض. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّكُمْ قَدْ أَصَابَ" (¬1). قلت: ولعلهما واقعتان، وإنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله في حديث أبي قتادة لأبي بكر رضي الله تعالى عنهما: "ارْفَعْ قَلِيْلاً"، وقوله لعمر رضي الله تعالى عنه: "اِخْفِضْ قَلِيْلاً" مع شهادته لهما بأن فعل كل منهما صواب كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ ليخرجهما بذلك عن إرادتهما إلى إرادة الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما نبه على ذلك السهروردي في "عوارفه" رحمه الله تعالى. ويستحب لمن له ورد من قيام أو تلاوة أن لا يدعه كما روى الإمام أحمد، والشيخان، والنسائي، وابن ماجه عن ابن عمرو - رضي الله تعالى عنهما؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْروٍ! لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ؛ كَانَ يَقُوْمُ مِنَ اللَّيْلِ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ" (¬2)، فنهى عن التشبه ¬
113 - ومن أعمال الشيطان وأخلاقه: افتتاح المجالس والأمور وختمها بالشر، ومحبة ذلك من غيره.
بمن ترك عادته من قيام الليل. 113 - ومن أعمال الشيطان وأخلاقه: افتتاح المجالس والأمور وختمهَا بالشر، ومحبة ذلك من غيره. روى ابن السني، والحاكم عن جابر رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ وَآوَى إِلَى فِرَاشِهِ ابْتَدَرَهُ مَلَكُهُ وَشَيْطَانُهُ، فَيَقُوْلُ شَيْطَانُهُ: اخْتِمْ بِشَرِّ، وَيَقُوْلُ الْمَلَكُ: اخْتِمْ بِخَيْرٍ؛ فَإِنْ ذَكَرَ اللهَ وَحَمِدَهُ طَرَدَ الْمَلَكُ الشَّيْطَانَ وَبَاتَ يَكْلَؤُهُ، اِنْ هُوَ انتُبَهَ مِنْ مَنَامِهِ ابْتَدَرَهُ مَلَكُهُ وَشَيْطَانُهُ، فَيَقُوْلُ لَهُ الشَّيْطَانُ: افْتَحْ بِشَرٍّ، ويَقُوْلُ الْمَلَكُ: افْتَحْ بِخَيْرٍ؛ فَإِنْ هُوَ قالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِيْ رَدَّ إِلَيَّ نَفْسِيْ بَعْدَ مَوْيهَا وَلَمْ يُمِتْهَا فِيْ مَنَامِهَا، الْحَمْدُ للهِ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُوْلا وَلَئِنْ زَالتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيْمًا غَفُوْرًا، وَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوْفٌ رَحِيْمٌ، فَإِن خَرَّ مِنْ فِرَاشِهِ فَمَاتَ كَانَ شَهِيْدًا، وإنْ قَامَ لِيُصَلِّيَ صَلَّى [في فضائل] " (¬1). وإنما أحب الشيطان من ابن آدم أن يفتح بالشر لأن المجالس والأمور إذا تكدرت من أوائلها قل أن يصفو أثانيها، وهذا فيه مراد الشيطان وقرة عينه، وأحب أن يختم بالشر لأن الأعمال بالخواتيم. ¬
114 - ومن أخلاقه لعنه الله: بغض العلماء والصالحين.
114 - ومن أخلاقه لعنه الله: بغض العلماء والصالحين. روى الترمذي، وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَقِيْهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ" (¬1). ونحوه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬2). وقد جاء بيان وجه شدة الفقيه على الشيطان فيما رواه الأصبهاني في "الترغيب" عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ سَبْعُوْنَ دَرَجَةَ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حَضْرُ الْفَرَسِ - أَيْ: عَدْوُهُ - سَبْعِيْنَ عَامًا، وذلك لأن الشيطان يضع البدعَة للناس فيبصرها العالم فينهى عنها، والعابد مقبل على عبادته لا يتوجه لها ولا يعرفها" (¬3). وروى الديلمي عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ شَيْءِ أَقْطَعُ لِظَهْرِ إِبْلِيْسَ مِنْ عَالِمِ يَخْرُجُ فِيْ قَبِيْلَةِ" (¬4). ¬
وروى ابن أبي الدنيا في "المكائد" عن علي بن عاصم، عن بعض البصريين قال: كان عالم وعابد متواخيين في الله تعالى، فقالت الشياطين: إنا لا نقدر على أن نفرق بينهما، فقال إبليس: أنا لهما، فجلس بطريق إذ أقبل العابد حتى إذا دنا من إبليس قام إليه في مثال شيخ كبير بين عينيه أثر السجود فقال للعابد: إنه قد جمال في صدري شيء أحببت أن أسألك عنه. قال له العابد: سل؛ فإن يكن عندي علم أخبرتك. فقال له إبليس: هل يستطيع الله - عز وجل - أن يجعل السماوات والأرض والجبال والشجر والماء في بيضة من غير أن يزيد في البيضة شيئاً، ومن غير أن ينقص من هذا شيئاً؟ فقال له العابد: من غير أن ينقص من هذا شيئاً، ومن غير أن يزيد في هذا شيئاً؟ ! - كالمتعجب -، ووقف العابد. فقال له إبليس: امض، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هذا فقد أهلكته، جعلته شاكاً في الله. ثم جلس على طريق العالم فإذا هو مقبل حتى دَنا من إبليس قام إليه، فقال له: يا عبد الله! قد جمال في صدري شيء أحببت أن أسألك عنه. قال له العالم: سل؛ فإن يكن عندي علم أخبرتك. فقال له إبليس ما قاله للعابد، فقال له العالم: نعم. قال: فرد عليه إبليس كالمنكر من غير أن يزيد في هذا شيئاً.
فقال العالم: نعم - بالانتهار - أما سمعت قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]. فقال إبليس لأصحابه: من هذا أُتِيْتم (¬1). قلت: وبلغني في مثل هذه الحكاية أنه جاء في وقت القائلة إلى بيت العابد، فسأله فشككه في وقته، وجاء إلى العالم فطرق عليه الباب، فقال العالم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَنِ الطارق في هذا الوقت؟ وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّيَاطِيْنَ لا تَقِيْلُ"، ففر الشيطان حين سمع ذكر الله تعالى، فلم يثبت، وقال: قد علم أني شيطان. وينسب للإمام محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة - رضي الله تعالى عَنهما - مضمناً للحديث المتقدم: [من الطويل] تَعَلَّمْ فَإِنَّ الْعِلْمَ زَيْنٌ لأَهْلِه ... وَفَضْلٌ وَعُنْوان لأَهْلِ الْمَحامِد وَكُنْ مُسْتَفِيْداً كُلَّ يَوْمٍ زِيادَةً ... مِنَ الْعِلْمِ وَاسْبَحْ فِي بِحارِ الْفَوائِدِ تَفَقَّهْ فَإِنَّ الْفِقْهَ أَفْضلُ قائِدٍ ... إِلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَأَعْدَلُ قاصِد ¬
115 - ومن أخلاقه لعنه الله تعالى: تطويل أمل العالم حتى يدع العمل معتذرا عنه بطلب العلم، وهذا من جملة أغلاط العلماء.
هُوَ الْعَلَمُ الْهادْي إِلَى سُنَنِ الْهُدى ... هُوَ الْحِصْنُ يُنْجِي مِنْ جَمِيْعِ الشَّدائِدِ وإِنَّ فَقِيْها واحِداً مُتَوَرِّعاً ... أَشَدُّ عَلى الشَّيْطانِ مِنْ ألْفِ عابِد 115 - ومن أخلاقه لعنه الله تعالى: تطويل أمل العالم حتى يدع العمل معتذراً عنه بطلب العلم، وهذا من جملة أغلاط العلماء. وإنما يحمد الأمل من العالم إذا كان باعثاً له على الاستزادة من العلم من غير أن يشتغل عن فرض العمل ومهمه. روى الخطيب في "الجامع" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيسبعَنَّكُم بِالْعِلْمِ". قالوا: كيف يسبعنا يا رسول الله؟ قال: "لا يَزَالُ الْعَبْدُ لِلْعِلْمِ طَالِبًا وَلِلْعَمَلِ كَارِهًا حَتَّى يَأْتِيَهِ الْمَوْتُ" (¬1). وفي لفظ آخر: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يسبعكُمْ بِالْعِلْمِ". فقيل: يا رسول الله! وكيف ذلك؟ قال: "يَقُوْلُ: اطْلُبِ الْعِلْمَ وَلا تَعْمَلْ حَتَّى تَعْلَمَ، فَلا يَزَالُ فِيْ ¬
116 - ومنها: الفرح بموت العلماء العاملين، والفقهاء الزاهدين، والصلحاء العابدين، ولكن فرحه بموت العلماء والفقهاء أشد، وهذا من لازم بغضهم.
الْعِلْمِ قَائِلاً وَلِلْعَمَلِ مُسَوِّفًا حَتَّى يَمُوْتَ وَمَا عَمِلَ" (¬1). وما أحسن قول بعضهم: [من المتقارب] إِذا كُنْتُمُ تَطْلُبُونَ الْحَدِيْثَ ... نَهاراً وَفِي لَيْلِكُمْ تدْرُسُونَ فَقَد صارَ عُمْرُكُمُ ضائِعاً ... مَتَى تَعْمَلُونَ بِما تَعْلَمُونَ وقوله في الحديث: "لَيَسْبَعَنَّكُمْ" - بفتح الموحدة - وكذلك قوله: "سبعكم" - هو بالسين المهملة، والباء الموحدة، والعين المهملة - من قولهم: سبع الذئب الشاة: إذا أكلها، وسبعت البقرة: إذا أكل السبع ولدها، ومضارعه: يسبَع - بفتح الموحدة -. ووقع لبعض العلماء تصحيف اللفظ الثاني: "ربما سبقكم" فاشتبهت عليه العين المهملة بالقاف، وهو غلط فاحذره. 116 - ومنها: الفرح بموت العلماء العاملين، والفقهاء الزاهدين، والصلحاء العابدين، ولكن فرحه بموت العلماء والفقهاء أشد، وهذا مِنْ لازم بغضهم. قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر - رضي الله عنه -: والله لموت عالم أحب إلى إبليس من موت سبعين عابداً. رواه أبو نعيم (¬2). وسبب ذلك أن العلماء والفقهاء المتقين يوضحون للناس الطرق ¬
117 - ومنها: إطالة الأمل للعاصي حتى يسوف بالتوبة والطاعة، وللغني حتى يسوف بالحج، والصدقة، والإنفاق في وجوه الخير.
إلى الخير، ويرشدونهم وينصحونهم من غير ميل، والشيطان إنما يريد من الناس غيهم وضلالهم عن الخير وغشهم، ومن ثم يغتم لموت علماء الضلالة، ويفرح ببقاء أهل الهوى، ويسر بكثرة المتعبدين من أهل الجهل، ويحب أن يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأهل الهوى على أهل الهدى، وكل هذه أخلاق شيطانية قبح الله المتشبه به فيها. 117 - ومنها: إطالة الأمل للعاصي حتى يسوف بالتوبة والطاعة، وللغني حتى يسوف بالحج، والصدقة، والإنفاق في وجوه الخير. وهذا كما يقول بعض الفسقة لمن يراه مصراً على الصلاة حريصاً على النسك: أنت الآن في أول عمرك ونحو ذلك؛ وهو خلق شيطاني. وفي بعض الكتب: إن (سَوْفَ) جندٌ من جنود إبليس. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "قصر الأمل" (¬1). وروى الديلمي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التَّسْوِيْفُ شِعَارُ الشَّيْطَانِ يُلْقِيْهِ فِيْ قُلُوْبِ الْمُؤْمِنِيْنَ" (¬2). ¬
118 - ومنها: تنديم العبد على ما فات.
وله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إيَّاكُمْ وَالتَّسْوِيفَ بِالتَّوْبَةِ، إِيَّاكَ وَالْغرَّةَ بِحِلْمِ اللهِ عَلَيْكَ" (¬1). وقد قلت في المعنى: [من مجزوء الرمل] لا تَقُلْ سَوْفَ أَتُوْبُ ... فَعَسَى خَطْبٌ يَنُوْبُ إِنَّ تَسْوِيْفَكَ هَذا ... يا أَخِي إِثْمٌ وَحُوبُ 118 - ومنها: تنديم العبد على ما فات. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِيَّاكُمْ وَاللَّوْ؛ فَإِنَّ اللَّوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" (¬2). والمراد بعمل الشيطان الذي يفتحه لو: الشرك والغفلة عن القضاء والقدر، وذلك كقول القائل: لو فعلت كذا ما كان كذا. ومنه قول المنافقين عن إخوانهم الذين قتلوا في سبيل الله: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا} [آل عمران: 156] الآية. وقال الشيخ رضي الدين جدي رضي الله تعالى عنه: [من مجزوء الرجز] إيَّاكَ لَوْ فَلا تَقُلْ .... فِي حادِث لَوْ كانَ لَيْتَ وَلَيْت لا تَنْطِقْ بِها ... فَقَلَّما يَنْفَعُ لَيْتَ ¬
119 - ومنها: تعيير المؤمن بذنبه، أو شيء أصيب به في الدنيا من فقر أو مرض أو غيرهما.
119 - ومنها: تعيير المؤمن بذنبه، أو شيء أصيب به في الدنيا من فقر أو مرض أو غيرهما. روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن أبي عمران الجوني رحمه الله تعالى قال: قال داود عليه السلام: إلهي! أصبح الشيطان عدوك اليوم يعيرني؛ يقول: يا داود! أين كان ربك منك حين واقعت الخطيئة (¬1)؟ 120 - ومنها: إظهار الشماتة بالمؤمن. وحقيقة الشماتة السُّرور عند مصيبة المشموت به. قال أبو عبد الله الحكيم الترمذي رحمه الله تعالى: إنَّ آدم - عليه السلام - لما أهبط إلى الأرض شمت به العدو؛ يعني: إبليس. نقله القرطبي في تفسير سورة الأعراف (¬2). وروى أبو عيسى الترمذي عن واثلة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَخِيْكَ فَيَرْحَمَهُ اللهُ وَيَبْتَلِيَكَ" (¬3). وفي معناه قال أبو العتاهية: [من مجزوء الكامل] وَلُرُبَّما انْقَلَبَ الشُّما ... تُ فَحَلَّ بِالْقَوْمِ الشُّمُت (¬4) ¬
121 - ومنها: الوقاحة، وقلة الأدب، وعدم الحياء من الله تعالى، ومن خلقه.
وقلت: [من المتقارب] أَتَشْمَتُ بِالْمُؤْمِنِ الْمُسْلِمِ ... فَترْجِعَ بِالْخِزْيِ وَالْمَأْثَمِ وَيرْحَمَهُ اللهُ سُبْحانهُ ... وَتُبْلى بِذاك وَلَمْ تُرْحَمِ فَإِنْ رُمْتَ مِصْداقَ ذا فَاعْتَبِرْ ... شَماتَةَ إِبْلِيْسَ فِي آدَمِ فَزادَ دُحُوراً وَآدَمْ سَمَتْ ... بِهِ الْمَكْرُماتُ بِلا سُلَّمِ وَإِصْرارُ إِبْلِيْسَ أَسْلَمَهُ فِي الـ ... ـــــحَضِيْضِ إِلى النَّار وَالْمَغْرَمِ وَما نالَ آدَمُ بِالإسْتِكا ... نَةِ إِلَّا الْحُصولَ عَلى الْمَغْنَمِ 121 - ومنهَا: الوقاحة، وقلة الأدب، وعدم الحياء من الله تعالى، ومن خلقه. وفي قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [ص: 76] الآية، وقوله: {أأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61] من ذلك ما لا يخفى. وقد روى أبو الحسن بن جهضم عن الجنيد رحمه الله تعالى قال: رأيت إبليس في السوق عرياناً ولا يستحيي من الناس، فقال: يا أبا القاسم! وهل بقي على وجه الأرض أحد يستحى منه، من كان يستحيي منه فَتَحْتَ الترابِ أَكَلَهُم الثَّرى (¬1). 122 - ومنها: الاستهزاء بالناس والسخرية بهم، ولا سيما أهل العلم والولاية؛ وهو من أشد الحرام. روى الخطابي في "غريبه" عن كعب الأحبار رحمه الله تعالى ¬
123 - ومنها: الوسوسة، وهي أشد أعمال الشيطان.
قال: أول من لبس القباء سليمان بن داود عليهما السلام، فكان إذا أدخل رأسه في الثياب كَنَصت الشياطين (¬1). ومعنى كنصت - مشدداً، ومخففاً -: حركت أنوفها استهزاء به. 123 - ومنها: الوسوسة، وهي أشد أعمال الشيطان. قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} [الناس: 1 - 6]. جعل بعض المفسرين من {الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بياناً للناس من قوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ}، ويلزم على ذلك أن يسمى الجن ناساً. والمحققون أن قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيان لقوله: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}. حَكى الأستاذ أبو القاسم القشيري عن أبي الهيثم السجزي: أن بعضهم كان يثبت الوسواس من الإنسان كالوسوسة من الشيطان. وبيان ذلك أن الوسواس أو الوسوسة في الأصل: هو الصوت الخفي والحركة، ومنه وسواس الحلي، ثم استعير لما ينزغه الشيطان في القلب ويلقيه في الصدر من الغرور والأماني والتهويلات. قال عروة بن رُويم كما تقدم: إن عيسى بن مريم - عليهما السلام - دعا ربه - رضي الله عنه - أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم، فجلى له فإذا رأسه ¬
رأس الحية واضعاً رأسه على ثمرة القلب فمنَّاه وحدثه (¬1). وقد قدمنا أيضاً عن بعض المكاشفين أنه وجده في سورة ضفدع. وقال مقاتل رحمه الله تعالى: إنه في سورة خنزير يجري في جسد العبد مجرى الدم في صورة العروق (¬2). قلت: ورأيته في المنام مرة في صورة خنزير، ومرات في صورة كلب، وكنت لا أقاتله إلا بالذكر وآية الكرسي فيذوب منها. وحاصل وسواس الشيطان يرجع إلى قصد إيذاء من يوسوس إليه؛ إمَّا بتحريش بينه وبين أحد من خلق الله تعالى. وإما بإفساد عبادته عليه. وإما بإفساد ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو جاره، أو رفيقه عليه. وإما بتخريب بيته، أو بإفساد بدنه أو ماله. وكل فعل فعله الإنسان بإنسان مثله أو قول قاله له فأدى إلى ذلك أو إلى شيء منه فهو في معنى الوسواس، وفاعله شيطان في صورة إنسان. واعلم أن التوسوس مذموم، وهو إما ناشئ عن جهل أو عن قلة عقل، وقد جاء الشرع بدفع الوسواس عن الإنسان في الأحوال المذكورة، ففي الحديث: "إِذَا ظَنَنتمْ فَلا تحققوا". رواه ابن ماجه (¬3). ¬
وهذا يدفع الوسواس عنك فيما لو نقل لك عن أخيك، أو توهمت منه ما تعلم منه خلافه، وفيما لو توهمت من أهلك وأنت تعلم منها خلافه. ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تطلب عورات النِّساء. رواه مسلم. وهذا يدفع عنك الوسواس في أهلك مهما علمت منهم الصيانة. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فنضح به فرجه. رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وغيرهما (¬1). وفيه دفع الوسواس فيما قد يجده الإنسان في ثوبه من الرشاش. وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ظن الحدث أن لا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، وعرفنا أن ذلك من الشيطان كما تقدم. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلْوُضُوْءِ شَيْطَاناً يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ؛ فَاتَّقُوْا وَسْوَاسَ الْمَاءٍ". رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم عن أُبَي رضي الله تعالى عنه (¬2). ¬
وروى ابن أبي شيبة، والثعلبي عن إبراهيم؛ يعني: النخعي رحمه الله تعالى قال: أول ما يبدأ الوسواس من قبل الوضوء (¬1). وروى مسلم عن عثمان بن [أبي] العاص أنه قال: يا رسول الله! حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي. فقال: "ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ: خَنْزَب، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلاثاً" (¬2). وخنرب: بمعجمة مفتوحة، ونون ساكنة، وزاي مفتوحة، وموحدة. وقال عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -: إنَّ الشيطان يأتي الإنسان من قبل الوضوء، والشعر، والظفر (¬3). وقال الشعبي رحمه الله تعالى: إن للشيطان بزقة؛ يعني: بلة طرف الإحليل (¬4). رواهما ابن أبي شيبة. وقال مجاهد: لأَنْ أُصلِّي وقد خرج مني شيء أحب إلي من أطيع الشيطان (¬5). وروى ابن المنذر عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: الوسواس ¬
محله على فؤاد الإنسان، وعينه، وفي ذكره، ومحله من المرأة عينها، وفي فرجها إذا أقبلت، وفي دبرها إذا أدبرت؛ هذه مجالسه (¬1). وعن ابن جريج - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6]؛ قال: هما وسواسان؛ فوسواس من الجنة، ووسواس من نفس الإنسان، فهو قوله: {وَالنَّاسِ} (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى قال: إن الوسواس له باب في صدر ابن آدم يوسوس منه (¬3). وروى الحافظ أبو بكر بن أبي داود في كتاب "ذم الوسوسة" عن معاوية بن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه قال: كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ عَمِّرْ قَلْبِي مِن وَسْوَاسِ ذِكْرِكَ، وَاطْرُدْ عَنِّي وَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ" (¬4). والمراد بوسواس ذكر الله: تردده في الخاطر، ومروره في الهاجس كما قال القائل: [من البسيط] وَاللهِ ما طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلا رَبَتْ ... إِلاَّ وَأَنت مُنى قَلْبِي وَوَسْواسِي (¬5) ¬
تنبيه
* تنبِيْهٌ: روى عبد الرزاق عن شعبة مولى ابن عباس: أن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه قال لابن عباس - رضي الله عنه -: هل لك في عبيد بن عمير - رحمه الله تعالى - إذا سمع النداء خرج فتوضأ؟ فقال ابن عباس: هكذا يصنع الشيطان؛ إذا جاء فأخبروني. فلما جاء أخبروه، فقال: ما حملك على ما تصنع؟ فقال: إنَّ الله تعالى يقول: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. فقال ابن عباس: ليس هكذا، إذا توضأت فأنت طاهر ما لم تحدث؛ هكذا يصنع الشيطان (¬1). أي: هكذا يصنع بالإنسان يوسوس له حتى يرى الأمر على خلاف ما هو عليه، ولا يريد أن الوضوء لكل صلاة من صنع الشيطان لأن اللعين لا يتوضأ ولا يصلي على وجه التعبد، بل قد يفعل ما هو على صورة العبادة لأجل التغرير والاستزلال؛ قبحه الله تعالى. 124 - ومن أخلاق الشيطان وأعمَاله: الشعوثة بغير نية صالحة ولا قصد جميل. روى أبو داود، والنسائي، وابن حبان بإسناد جيد، عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثائر الرأس أشعث اللحية ¬
125 - ومنها: ترك السواك وكراهيته من غيره.
فقال: "أَمَا كَانَ لِهَذَا دُهنٌ يُسَكِّنُ شَعْرَه؟ " ثم قال: "يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ؟ " (¬1). 125 - ومنها: ترك السواك وكراهيته من غيره. روى الدارقطني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: في السواك عشر خصال: مرضاة للرب، ومسخطة للشيطان، مفرحة للملائكة، جيد للثة، ويذهب بالحَفر، ويجلو البصر، ويطيب الفم، ويقل البلغم، وهو من السنة، ويزيد في الحسنات (¬2). فأمَّا ما يقال: إن من وضع سواكه قبل أن يغسله أخذه الشيطان فتسوك به؛ فإن كان هذا ثابتاً فإن استياك الشيطان من باب تقذير السواك على صاحبه وعبثه به لا من باب التنظف والعمل بالسنة. والظاهر أنَّ ما ذكرناه في السواك لا يختص به، بل كذلك سائر خصال الفطرة المتقدمة لا يفعلها الشيطان أصلاً ولا يحبها، فمن أعرض ¬
عنها فقد وافق الشيطان، كما أن من حافظ عليها كان موافقاً للأنبياء عليهم السلام - كما تقدم - محببا إلى الملائكة عليهم السلام، وكذلك سائر التنظيفات. وقد روى ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن يزيد رحمه الله تعالى قال: إن للشيطان قارورة فيها مفوح، فإذا قاموا إلى الصلاة أنشقهموها فأمروا عند ذلك بالاستنشاق (¬1). وله عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: إذا توضأت ابدأ بأصابعك فخللها؛ فإنه كان يقال: هو مقيل الشيطان (¬2). وروى عبد الرزاق، والطبراني في "الكبير" عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله * قال: "حَبَّذا المُتَخَلِّلونَ مِنْ أُمَّتِي". قيل: من المتخللون يا رسول الله؟ قال: "الْمُتَخَلِّلوْنَ بِالْوُضُوْءِ، وَالْمُتَخَلِّلُوْنَ بِالطَّعَامِ؛ أَمَّا تَخْلِيْلُ الْوُضُوْءِ فَالْمَضْمَضَةُ وَالاسْتِنْشَاقُ وَبَيْنَ الأَصَابعِ، وَأَمَّا تَخْلِيْلُ الطَّعَامِ مِنَ الطَّعَامِ إِنَّهُ لَيْسَ شَيْء أَشَدَّ عَلَى الْمَلَكَيْنِ مِنْ أَنْ يَرَيَا بَيْنَ أَسْنَانِ صَاحِبِهَا طَعَامًا وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّيْ" (¬3). ¬
وإنما كان ذلك أشد شيء على الملكين - يعني: الحافظين على ابن آدم أعماله - لأن فمه محل إقامتهما كما في حديث معاذ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ الله تعالى لطف الملكين الحافظين حتى أجلسهما على الناجذين، وجعل لسانه قلمهما، وريقه مدادهما. رواه الديلمي (¬1). وكان من حق الملكين أن لا يكونا حيث يكون القذر كسائر الملائكة عليهم السلام؛ فإنهم يتأذون بما يتأذى به بنو آدم كما في الحديث السابق في محله، ولكنهما ملزمان بالحفظ والمراقبة عليه وخصوصأ في لسانه؛ فإنه أسرع الأعضاء حركة، ودليلها الثاني بعد القلب، فلزم إقامتهما لذلك بالفم، واحتملا أذية القذر خشية من التفريط، ولذلك كان السواك مفرحة للملائكة عليهم السَّلام. وروى البزار ورواته ثقات، عن علي رضي الله تعالى عنه: أنه أمر بالسواك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَسَوَّكَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَامَ الْمَلَكُ خَلْفَهُ فَيَسْمَعُ لِقِرَاءَتِهِ فَيَدْنُوْ مِنْهُ - أَو كَلمةً نَحوَهَا - حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيْهِ، فَمَا يَخْرُجُ مِنْ فِيْهِ شَيْء مِنَ الْقُرْآنِ إِلاَّ صَارَ فِي جَوْفِ الْمَلَكِ؛ فَطَهِّرُوا أَفْوَاهَكُمْ لِلْقُرآنِ" (¬2). ¬
فإذا علمت أن الملائكة تتنزه عن محال القذر، تعين عليك أن تبالغ في النظافة؛ فتصحبك الملائكة فتفر عنك الشياطين، ومهما أقمت على قذر في بدنك أو ثوبك أو محلك فقد استدعيت الشياطين ورضيت بمفارقة الملائكة المقربين إلا الحافظين من الكرام الكاتبين. وكذلك لا تدخل الملائكة بيتا فيه شيء من مألوفات الشياطين كالتصاوير، والأجراس، والنحاسات، والروائح الكريهة. وروى الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن عن عبد الله بن يزيد رضي الله تعالى عنه قال: لا ينقع بول في طست في البيت؛ فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه بول مستنقع، ولا تبولن في مغتسلك (¬1). والحكمة في النهي عن البول في المغتسل واستنقاع البول كراهية البيت مفارقة الملائكة (¬2)، وإذا فارقته الملائكة جاء الشيطان إليه ووسوس، فربما أطاعه في وسوسَته، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبُوْلَنَّ أَحَدُكُمْ فِيْ مُسْتَحَمِّهِ ثُمَّ يتَوَضَّأَ فِيْهِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ". رواه الإمام أحمد، وأصحاب "السنن"، وصححه ابن حبان، ¬
والحاكم، عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنّه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد أبطأ عنك جبريل عليه السلام؟ فقال: "وَلِمَ لا يُبَطئُ عَنِّي وَأَنْتُم لا تَستَنُّوْنَ، وَلا تُقَلَّمُوْنَ أَظْفَارَكُمْ، وَلا تَقُصُّوْنَ شَوَارِبَكُمْ، وَلا تُنَقُّون رَوَاجِبَكُمْ" (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط" بسند جيد، عن جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذه الْخُضْرَاوَاتِ؛ الْفُوْمِ، وَالْبَصَلِ، وَالْكُرَّاثِ، وَالْفِجْلِ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تتَأَذَّى مِمَّا يتّأذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ" (¬3). وقد ذكرنا هذا الحديث في التشبه بالملائكة من رواية مسلم، وليس فيه ذكر الفجل. ¬
126 - ومن أخلاق اللعين: كراهية الرخصة والمنع منها؛ وهو خلاف ما يحبه الله تعالى من العبد.
وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي غالب، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه - قال: لا أحسب إلا رفعه - قال: الثوم والبصل والكراث من سَكِّ (¬1) إبليس (¬2). 126 - ومن أخلاق اللعين: كراهية الرخصة والمنع منها؛ وهو خلاف ما يحبه الله تعالى من العبد. روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ يُحبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصَهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ" (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، وواثلة بن الأسقع، وأبي أمامة، وأنتس رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُقْبَلَ رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ الْعَبْدُ مَغْفِرَةَ رَبِّهِ" (¬4). وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى قال: مسح أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخفين؛ فمن ترك ذلك رغبة عنه فإنما ¬
127 - ومنها: تثبيط الناس عن التبكير إلى الجمعة.
هو من الشيطان (¬1). ومن هنا قال العلماء: من وجد في نفسه كراهة الرخص فأخذه بالرخصة أفضل من أخذه بالعزيمة، ومهما أخذ بالرخصة فلا بد أن لا يفضي به الأخذ بها إلى تتبُّع الرخص بأن يأخذ بالأهون من كل مذهب؛ فإن هذا حرام، وهو من خطوات الشيطان. وقد تكلم شيخ الإسلام الجد في كتاب "الجوهر الفريد" على آداب كل رخصة يحتاج إلى الأخذ بها السائر إلى الله تعالى في طريقه، وبيَّنها أحسن البيان، وقد أوضحت كلامه في "منبر التوحيد". 127 - ومنها: تثبيط الناس عن التبكير إلى الجمعة. روى الإمام أحمد، وأبو داود عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ غَدَتِ الشَّيَاطِيْنُ بِرَايَاتِهَا إِلَى الأَسْوَاقِ، فَيَرْمُوْنَ النَّاسَ بِالتَّرَابِيْثِ أَوْ بِالرَّبَائِثِ، وَيُثْبِطُوْنهمْ عَنِ الْجُمُعَةِ، وَتَغْدُوا الْمَلائِكَةُ فَتَجْلِسُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِد". الحديث (¬2). والترابيث جمع تربيثة - بالتاء المثناة فوق، فالراء، فالموحدة، فالمثناة تحت، فالمثلثة -: المرة من التربيث، وهو التثبيط. ¬
128 - ومنها: كراهية شهر الصوم، وترك الصيام فيه لغير عذرة وكلاهما حرام.
والربائث جمع ربيثة - بالراء، فالموحدة، فالتحتانية، فالمثلثة -: الأمر الذي يثبط به عن الشيء. 128 - ومنها: كراهية شهر الصوم، وترك الصيام فيه لغير عذرة وكلاهما حرام. روى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِيْنُ" (¬1). واعلم أن من كره رمضان لمشقة جوع وامتناع عن شهوة - ولاسيما إن كانت حراماً - فهو أشبه الناس بالشياطين المغلولة في رمضان، ومن حسَّن ذلك له ورضيه منه فهو شريكه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا رَضِيَ هَدْيَ الرَّجُلِ وَعَمَلِهِ فَهُوَ مِثْلُهُ". رواه الطبراني من حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه (¬2). ومن ذلك ما وقع للصلاح الصفدي في "شرح لامية المعجم" - عفا الله عنه - من استحسان قول [ابن] بسام: [من البسيط] ¬
قَدْ قَرَّبَ اللهُ مِنَّا كُلَّ ما شَسَعا ... كَأَنِّنَي بِهِلالِ الْفِطْرِ قَدْ طَلَعا فَخُذْ لِلَهْوِكَ فِي شَوَّالَ أُهْبَتَهُ ... فَإِنَّ شَهْرَكَ فِي الْواواتِ قَد وَقَعا قلت: والله لقد أساء، وجرَّأ الفسقة هو وأمثاله على أمور. وما أحسنه لو قال: [من البسيط] قَرَّبَ اللهُ مِنَّا كُلَّ ما شَسَعا ... كَأَنَّنَي بِهِلالِ الصَّوْمِ قَدْ طَلَعا فَخُذْ لِجِدِّكِ فِي تَقْواكَ أُهْبَتَهُ ... فَإِنَّ شَعْبانَ فِي الْواواتِ قَدْ وَقَعا وأقبح من مقالته المذكورة قول الآخر: [من الوافر] إِذا الْعِشْرُونَ مِنْ شَعْبانَ وافَتْ ... فَواصِلْ شُرْبَ لَيْلِكَ بِالنَّهارِ وَلا تَشْرَبْ بِأَقْداحٍ صِغارٍ ... فَإِنَّ الْوَقْتَ ضاقَ عَنِ الصِّغارِ (¬1) وهذا وأمثاله - وإن فهم منه بعض أهل الإشارات معاني لطيفة (¬2)، واستثاروا منه حالات شريفة - فإنه بالنسبة إلى عامة الناس من وحي الشيطان. وقد خاض جماعة من الشعراء وأهل الإنشاء من ذلك في أودية مَسْبعة، وأشفوا بسبب مزاحمة البلغاء على المهالك من غير منفعة. ولعل هذا وأمثاله من المحسِّنات اللفظية غايةَ مقصود أهل الزمان ¬
129 - ومن أخلاق الشيطان اللعين: محبة سماع ما كان من هذا القبيل من الأشعار.
من العلوم العقلية والنقلية، ولقد خلطوا بذلك بين الخاثر والزباد، ولم يفرقوا بين غَي ورشاد، ولم يلذ لهم إلا خطاب أبناء فنِّهم في خطبة بَنات أفكارهم لتحصيل هذا المراد، ولو كان فيهم من دعاهم إلى ما تجول فيه بنات أفكار الأخيار من وصال أبكار المعاني الجاذبة لقلوب الأبرار إلى دار القرار، وزجرهم عما هم فيه من الغي، وقال: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] لقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79]، ولو كان فيهم شعيب لجادلوه ليستميلوه إلى ما تشعبت بهم فيه شعب الترديد، ولقال لهم: {وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89]. كم نتقلب في عصر خؤون ليس لنا فيه مساعدون؛ فإنا لة وإنا إليه راجعون. 129 - ومن أخلاق الشيطان اللعين: محبة سماع ما كان من هذا القبيل من الأشعار. فقد روى الطبراني بإسناد حسن، عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ رَاكِبٍ يَخْلُو فِيْ مَسِيْرهِ بِاللهِ وَذِكْرِه إِلاَّ رَدِفَهُ مَلَكٌ، وَلا يَخْلُو بِشِعْرٍ وَنَحْوِهِ إِلا رَدِفَهُ شَيْطَانٌ" (¬1). وتقدم في حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أن إبليس قال ¬
لله تعالى: اجعل لي قرآناً، قال: الشعر. وهذا محمول على الشعر المكروه والمحرم دون المستحسن والمباح كالأشعار المشتملة على ذكر الله تعالى، أو مدح نبيه - صلى الله عليه وسلم - أو الأنبياء عليهم السلام، أو الصحابة، أو العلماء، أو بيان حكم شرعي، أو حكمة مرعية، وكالحداء. وقد علمت مما سبق أن الشعر كلام؛ فحسَنه كحسنه، وقبيحُه كقبيحِه، كما في الحديث (¬1)، وما كان منه قبيحا فهو قرآن الشيطان. وحكي عن الفراء قال: أنشدني صبي من الأعراب أرجوزة أعجبتني، فقلت: لمن هذه؛ فقال: لي، فأنكرته، فأنشدني ارتجَالاً: [من الرجز] إِنِّي وإنْ كُنْتُ صَغِيْرَ السِّنِّ ... وَكانَ فِيْ الْعَيْنِ نُبُوٌ عَنِّي فَإِنَّ شَيْطانِي أَمِيْرُ الْجِنِّ ... يَذْهَبُ بِي فِي الشِّعْر كُلَّ فَنِّ (¬2) وقد تقدم الشعر الذي أنشده الشيطان على أبي قبيس يحرض ¬
130 - ومنها: كثرة الكلام، والتشدق به، والتعمق فيه، والبيان كل البيان.
المشركين به على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه إشارة إلى أنه من أفعال الشياطين وأخلاقهم إنشاء الشعر المذموم. وقال ابن كثير: قال نظام الملك: لقد رأيت ليلة في المنام إبليس فقلت: ويحك! خلقك الله وأمرك بالسجود [مشافهة] فلم تفعل، [وأنا لم يأمرني بالسجود له مشافهة] وأنا أسجد له كل يوم مرات، فأنشأ يقول: [من المنسرح] مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوِصالِ أَهْلاً ... فَكُلُّ إِحْسانِهِ ذُنُوبُ (¬1) قلت: وهذا الشعر - كان كان لا يخلو من عبرة - فإن الشيطان - لعنه الله - أنشده طاعناً على الحضرة الإلهية - تقدست - وذلك لأنه أشار إلى تسمية امتناعه من السجود إحساناً، وهو من أقبح السيئات. وقلت: [من المتقارب] لَقَد ضَلَّ مَنْ يَزْعُمُ السُّوءَ حُسْناً ... وَيَجْعَلُ مِنْ جَهْلِهِ الظُّلْمَ عَدْلاً وَمَنْ كانَ طَوْعاً لِمَوْلاهُ فِيما ... أَرادَ كَفَتْهُ الإِطاعَةُ فَضْلاً 130 - ومنهَا: كثرة الكلام، والتشدق به، والتعمق فيه، والبيان كل البيان. روى ابن باكويه في "الألقاب" عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُمْ بِقِلَّةِ الْكَلامِ، لا يَسْتَهْوِيَنَكُمُ الشَّيْطَانُ؛ فَإِنَّ تَشْقِيْقَ ¬
131 - ومنها: الصمت عن ذكر الله تعالى في محله، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ضرر يلحقه.
الْكَلامِ مِنْ شَقَائِقِ (¬1) الشَّيْطَانِ" (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن عبد الملك بن عمير رحمه الله تعالى قال: قام رجل يتكلم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أزبد شدقاه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِيَّاكُمْ وَشَقَائِقَ (¬3) الْكَلامِ؛ فَإِنَّ شَقَائِقَ الْكَلامِ مِنْ شَقَائِقِ الشَّيْطَانِ" (¬4). وروى الطبراني في "الأوسط" عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ الْبَيَانَ كُلَّ الْبَيَانِ شُعْبةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ" (¬5). 131 - ومنها: الصمت عن ذكر الله تعالى في محله، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ضرر يلحقه. قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق ¬
يقول: من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس (¬1). والسكوت عن المنكر من غير خوف ضرر مِنْ أوجب الأمور للعقوبة، ألا ترى قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 78، 79]. قال ابن زيد في قوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78]: ماذا كانت معصيتهم؟ قال: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79]. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم (¬2). وروى الخطيب في "رواة مالك" من طريق أبي سلمة، عن أبيه - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَالَّذِيْ نفسُ مُحَمَّدِ بِيَدهِ لَيَخْرُجَنَّ مِنْ أُمَّتِي نَاسٌ مِنْ قُبُوْرِهِمْ فِي صُوْرَةِ الْقِرَدةِ وَالْخَنَازيرِ بِمَا داهَنُوا أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَكَفُّوْا عَنْ نَهْيِهِم وَهُمْ يَسْتَطِيْعُوْنَ" (¬3). وروى أبو الشيخ عن أبي عمرو بن جاس: أن ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال لكعب: هل لله من علامة في العباد إذا سخط؟ ¬
132 - ومنها: الغناء، والنوح والصياح، وحضور تلك المجالس، واستماع ذلك والأمر به.
قال: نعم، يذلهم فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر (¬1). وفي القرآن: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 78] الآية. ولعل من تكلم بالسوء وفي السوء، وأمر بالسوء، وسكت عن الخير وعن الأمر بالخير والنهي عن السوء شيطانٌ رجيم مستكملٌ لكل شر عظيم. 132 - ومنها: الغناء، والنَّوح والصياح، وحضور تلك المجالس، واستماع ذلك والأمر به. وأول من ناخ وغنَّى إبليس. وروى ابن أبي الدنيا في "المكائد" عن عبد الملك بن عمير رحمه الله تعالى قال: لما أهبط الله تعالى آدم - عليه السلام - وإبليس - لعنه الله تعالى - ناح إبليس حتى بكى آدم، ثم حدا حتى ضحك (¬2). وفي "ذم الملاهي" عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّمَا نُهِيْتُ عَنُ صَوْتَيْنِ أَحْمقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ؛ لَهْوٍ وَلَعبٍ، وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ، وَصَوْب عِنْدَ مُصِيْبَيةٍ؛ خَمْشِ وُجُوهٍ، وَشَقِّ جُيُوْبٍ، وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ" (¬3). ¬
وفيه عن أبي أمامة رضى الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا رَفَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ بِغِنَاءٍ إِلاَّ بَعَثَ اللهُ - عز وجل - إِلَيْهِ شَيْطَانينِ يَجْلُسَانِ عَلَى منْكبَيْهِ يَضْرِبَانِ بِأَيْدِيهِما عَلَى صَدْره حَتَّى يُمْسِكَ" (¬1). والمعنى: أن الشيطانين يستحثان المغني على الغناء بأيديهما إلى أن يمسك عن الغناء. وروى ابن سعد في "طبقاته" عن محارب بن دثار رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن امرأة رنَّت: "فَعَلْتِ فِعْلَ الشَّيْطَانِ حِيْنَ أُهْبِطَ إِلَى الأَرْضِ؛ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ يَرِنُّ، وَإِنَّهٌ لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ وَلا مَنْ خَرَقَ وَلا مَنْ سَلَقَ" (¬2). وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة - شرفها الله تعالى - رنَّ إبليس رنة اجتمعت إليه ذريته، فقال: ايئسوا أن ترتد أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الشرك بعد يومهم هذا، ولكن افتنوهم في دينهم، وأفشوا فيهم النوح والشعر (¬3). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: ¬
إن إبليس رنَّ أربع رنات، حين لعن، وحين أهبط من الجنة، وحين بعث محمد - رضي الله عنه -، وحين نزلت فاتحة الكتاب، قال: ونزلت بالمدينة (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه بجارية تغني فقال: لو ترك الشيطان أحداً ترك هذه (¬2). وروى مسلم عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: لما مات أبو سلمة - رضي الله تعالى عنه - قلت: غريبة وفي أرض غربة، لأبكينه بكاءً يتحدث عنه، فكنت قد تهيأت للبكاء عليه إذا أقبلت امرأة من الصعيد تريد أن تسعدني (¬3)، فاستقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أتُرِيْدِيْنَ أَنْ تُدْخِلِي الشَّيْطَانَ بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللهُ مِنْهُ - مرتين - " فكففت عن البكاء، فلم أبك (¬4). والظاهر أنها أرادت أن تبكي بكاء مقروناً بالنوح ونحوه من عمل الجاهلية، فأشار إليه قولها: "لأَبْكِيَنَّهُ بُكَاءً يُتَحَدَّثُ عَنْهُ، فَكُنْتُ قَدْ تَهَيَّأتُ لِلْبُكَاءِ"، أو البكاء الطبيعي لا يحتاج إلى تهيؤ ولا إلى إسعاد، وهو غير منهي عنه. ¬
وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - رضي الله عنه - قال في حديث: "دَعْهُنَّ يَبْكِيْنَ وَإِيَّاهُنَّ وَنَعِيْقَ الشَّيْطَانِ؛ إِنَّةُ مَهْمَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللهِ، وَمَهْمَا كَانَ مِنَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ" (¬1). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن بكير بن عبد الله بن الأشج رضي الله تعالى عنه - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْبُكَاءُ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَالصُّرَاخُ مِنَ الشَّيْطَانِ" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" عن الحسن رضي الله تعالى عنه قال: صوتان قبيحان فاحشان؛ صوت عند نعمة إن حدثت، وصوت عند مصيبة إن نزلت، ذكر الله - عز وجل - المؤمنين فقال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}، وجعلتم في أموالكم حقاً معلومًا للمغنية عند النعمة، وللنائحة عند المصيبة؛ يتزوج منكم المتزوج فتحملون نساءكم، معهنَّ هذه الصنوج والمعازف، ويقول الرجل منكم لامرأته: تحفلي تحفلي، تحملي، ويحملها على حصان، وويسير معها عِلجان معهما قصيا شيطان، ومعهما من لعنة الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يعود ذلك على زوجها وذوي قرابتها؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن مخنثي الرجال ومذكرات النساء، وكان حذيفة ¬
- رضي الله تعالى عنه - يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَتَشَبَّهِ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ وَلا الْمَرْأةُ الرَّجُلِ"، وأنتم تخرجون النِّساء في ثياب الرِّجال والرِّجال في ثياب النِّساء، ثم يمر بها على المساجد والمجالس فيقال: من هذه؛ فيقال: امرأة فلان بن فلان، ومرة تنسب إلى زوجها، ومرة إلى أبيها؛ لا برَّ ولا تقوى، ولا غيرةَ ولا حَياءَ، فيقال: ما هذه الجموع؟ فيقال: رجل لم يكن له زوجة فأفاده الله زوجة، فاستقبل نعمة الله تعالى بما ترون من الشّكر. هذا في هذه النِّعمة؛ فإن كانت المصيبة فإن مات منكم الميت وعليه دين، وعنده الأمانة، ويوصي بالوصية، فيأتي الشَّيطان أهله فيقول لأهله وورثته: والله لا ننفذ تركته، ولا نؤدِّي أمانته، ولا نمضي وصيَّته حتى تبدؤوا بحقي في ماله قبل كل حق، فيشترون ثياباً جدداً، ثم تشق عمداً، يجيئون بها بيضاً ثم تصبغ سوداً، ثمَّ يمدُّها أحيمق سرادقاً في داره، فيأتون بأمة مستأجرة تبكي بغير شجوهم، وتبيع عبرتها بدراهمهم، تفتن أحياءهم في دورهم، وتؤذي موتاهم في قبورهم، تمنعهم أجرهم في الآخرة بما يعطونها من الأجرة في الدُّنيا، وما عسى أن تقولَ النَّائحة؟ تقول: ؛ لها النَّاس! آمركم بما نهاكمُ اللهُ - عز وجل - عنه، وأنهاكم عمَّا أمركم اللهُ به، ألا إنَّ الله أمركم بالصَّبر فأنا أنهاكم أن تصبروا، ألا إنَّ اللهَ نهاكم عن الجزع فأنا آمركم أنْ تجزعوا، فيقال: اعرفوا لها حقَّها، فيبرد لها الشَّراب، وتكسى الثِّياب، وتحمل على الدَّواب؛ إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ما كنت أرى
أن أخلف في أمَّة يكون هذا فيهم (¬1). قلت: وما ذكره الحسن في المأثم وضده ليس مجموعه المنكر، بل كل أفراده منكرات، وتختلف عوائد البلاد في ذلك، ففي بعضها يفعل ذلك كله ويزاد عليه إما بالهيئة التي ذكرها الحسن وهي عادة أهل العراق، ومن ثم طلع قرن الشيطان، وإمَّا على هيئة أخرى كما أخبرنا عن أهل مصر وفيها باض الشيطان وفرخ، وفي بعض البلاد يفعل بعض ما ذكره. وقد تجاوز الناس إلى أشياء لم تكن في الزمن الأول. فمما ضموه إلى ذلك في المأثم قطع أغصان عظيمة من الأشجار، وتعليق الخرق من الحرير وغيره فيها بين يدي الجنائز، وشد سرج الدابة منكَّساً، واستئجار نساء أهل الذمة للنوح، وربما قلن ما يوافق عقائدهن المردودة. وممَّا ضموه إلى ما ذكره في الأفراح والولائم أنواع السخرية، وتشبه الرجال بالنساء، وإلباس العروس ملابس الرجال، وتحميلها السلاح، وإلباسها زي المُرْدِ، وما يقع في الولائم والمجامع من تزيين المُرْدِ الحسان، وإلباسهم زي النسوان، وأمرهم بإدارة القهوة على ¬
133 - ومنها: الزفن لهوا ولعبا، وهو الرقص.
الرجال كما يدار الخمر، وغير ذلك؛ وكل هذه أخلاق شيطانية فاعلها متعرض بها للمقت والخذلان. 133 - ومنها: الزفن لهواً ولعباً، وهو الرقص. روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الزهد" عن الحريري: أنَّ يحيى بن زكريا - عليهما السلام - سأل ربه أن يريه إبليس في صورته، فرآه وعلى رأسه خطاطيف، وفي حجزته أكوزة معلقة، وفي قدميه أجراس، فقال يحيى عليه السلام: ما هذا الذي على رأسك؟ قال: أختطف به قلوب العباد. قال: فما هذا الذي في حجزتك؟ قال: فيها الشهوات. قال: فما هذه الأجراس؟ قال: إذا طرب ابن آدم زفنت بها حوله. قال: فمتى أقرب ما تكون من ابن آدم؟ قال: إذا شبع. قال يحيى عليه السلام: لا جرم؛ إني لا شبعت من طعام حتى ألقى الله - عز وجل -. 134 - ومنها: اتخاذ آلات اللهو وسماعها. ولا يباح منها في مذهب الشافعي - رضي الله تعالى عنه - إلا الدف لعرس ونحوه، وطبل الجهاد والحجيج خالياً عن المزمار
العراقي والصنج، وسواء في الدف كان بجلاجل أم لا، [لا] يباح. وقاس على ذلك الشيخ شمس الدين أبو حامد الصفدي، والشيخ تقي الدين بن قاضي عجلون، والوالد طبول الصمادية. وأما اليراع فصحح الرافعي إباحته، والنووي تبعاً للبغوي تحريمه، وعليه الفتوى (¬1). وذكر الثعلبي في "العرائس": أن إبليس - لعنه الله تعالى - حسد داود - عليه السلام - على تلاوته وحسن لغوته، فأقبل على شياطينه وعفاريته فقال: ألا ترون ما دهاكم من داود؟ فقالوا: مرنا بما شئت. فقال: إنه لا يصد عن تلاوة داود إلا ما يضاده في الحانة. فهيأ لهم المزامير، والأعواد، والأوتار، والملاهي على ألحان داود عليه السلام، وأمر شياطينه أن يتفرقوا بها في بني إسرائيل، فلما سمع سفهاء بني إسرائيل لذلك مالوا إليها. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "ذم الملاهي" عن مجاهد في قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}؛ قال: بالمزامير {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64]؛ قال: كل راكب ركب في معصية الله فهو في خيل إبليس، وكل رجل سبقت في معصية الله فهي ¬
من رجل إبليس (¬1). وفيه عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: أنه كتب إلى مؤدب ولده: خذهم بالجفاء؛ فهو أمضى لإقدامهم، وترك الصبحة؛ فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلة الضحك؛ فإن كثرته تميت القلب، وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي الذي بَدْؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن، وإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بها، ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشبَ الماء، وليفتتح كل غلام منه بحزبه من القرآن يتثبت في قراءته، فإذا فرغ منه تناول قوسه ونبله وخرج إلى الغرض حافياً قدر (¬2) سبعة أرشاق، ثم انصرف إلى القائلة؛ فإن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - كان يقول: قيلوا؛ فإن الشياطين لا تقيل (¬3). قلت: هذا الأثر من لطائف الفوائد، وطرائف الفرائد. وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْجَرَسُ مَزَامِيْرُ الشَّيْطَانِ" (¬4). وروى أبو داود عن عامر بن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم: أن مولاة لهم ذهبت بابنة الزبير إلى عمر بن الخطاب - رضي الله ¬
* تنبيه
تعالى عنه - وفي رجلها أجراس، فقطعها عمر - رضي الله تعالى عنه - ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ مَعَ كُلِّ جَرَسٍ شَيْطَاناً" (¬1). * تنبِيْهٌ: لما كان الركب الذي يصحبه جرس أو المجلس الذي فيه جرس، أو صورة، أو دف، أو غير ذلك من آلات اللهو محل الشياطين تنزهت الملائكة - عليهم السلام - عن هذه الأماكن. فروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَصْحَبُ الْمَلائِكَةُ رُفْقَةً فِيْهَا كَلْبٌ وَلا جَرَسٌ" (¬2). وروى أبو داود عن بنانة مولاة عبد الرحمن بن حبان الأنصاري، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: بينما هي عندها إذ دخل عليها بجارية وعليها جلاجل يصوتن، فقالت: لا تدخلنَّها علي إلا أن تقطعوا بجلاجلها، وقالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تَدْخُلُ الْمَلائِكَةُ بَيْتًا فِيْهِ جَرَسٌ" (¬3). وروى الإمام أحمد، والأئمة الستة إلا أبا داود عن أبي طلحة ¬
* فائدة
رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَدْخُلُ الْمَلائِكَةُ بَيْتًا فِيْهِ كَلْبٌ وَلا صُورَةٌ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن شريح: أنه سمع صوت دف فقال: إن الملائكة - عليهم السلام - لا يدخلون بيتاً فيه دف (¬2). وروى هو وابن أبي الدنيا عن عمران بن مسلم قال: قال لي خيثمة: أما سمعت سويداً يقول: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه دف (¬3)؟ * فائِدَةٌ: روى عبد الله بن المبارك في "الزهد والرقائق"، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"، وأبو نعيم في "الحلية"، والأصبهاني في "الترغيب"، وغيرهم عن محمد بن المنكدر رحمه الله تعالى قال: يقال يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومرابض الشيطان؛ اجعلوهم في رياض المسك، ثم يقول للملائكة: أسمعوهم حمدي وثناء عليَّ، وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (¬4). ¬
وروى الدينوري عن مجاهد نحوه (¬1). وروى الثعلبي في "تفسيره"، والأصبهاني في "الترغيب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل: يا رسول الله! إني رجل حبب إلي الصوت، فهل في الجنة صوت حسن؟ قال: "إِيْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ اللهَ - عز وجل - لَيُوْحِي إِلَى شَجَرَةٍ فِي الجَنَّةِ أَنْ أَسْمِعِي عِبَادِيَ الَّذِيْنَ اشْتَغَلُوْا بِعِبَادَتِي وَذِكْرِي عَنْ عَزْفِ الْبَرَابِطِ (¬2) وَالْمَزَامِيْرِ، فَتَرْفَعُ صَوْتاً لَمْ تَسْمَعِ الْخَلائِقُ مِثْلَهُ قَطُّ مِنْ تَسْبِيْح الرَّبِّ - عز وجل - وَتَقْدِيْسِهِ" (¬3). وروى ابن أبي الدنيا، والضياء في "المختارة" بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: في الجنة شجرة على ساق قدر ما يسير الراكب المُجد في ظلها مئة عام، فيخرج أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها، فليشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا، فيرسل الله - تعالى - ريحاً من مسك، فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا (¬4). ¬
وروى الثعلبي عن الأوزاعي رحمه الله تعالى قال: ليس أحد من خلق الله تعالى أحسن صوتاً من إسرافيل - عليه السلام - فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سماوات صلاتهم وتسبيحهم (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد"، والبيهقي عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: يقام داود - عليه السلام - عند ساق العرش، فيقول الله تعالى: يا داود! مجِّدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا، فيقول: كيف وقد سلبتنيه؟ فيقول: إني سأرده عليك اليوم، فيندفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنة (¬2). وروى الطبراني، والبيهقي عن أبي أمامة - رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ يَجْلِسُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ اثْنتَانِ مِنَ الْحُوْرِ الْعِيْنِ يُغَنِّيَانِهِ بِأَحْسَنِ صَوْتٍ سَمِعَهُ الأنْسُ وَالْجِنُّ، لَيْسَ بِمِزْمَارِ الشَّيْطَانِ وَلَكِنْ بِتَحْمِيْدِ اللهِ وَتَقْدِيْسِهِ" (¬3). وروى هنَّاد بن السَّري عن يحيى بن أبي كثير - رحمه الله ¬
135 - ومن أخلاق الشيطان: كراهية الديك والتحرج عن سماع صوته، ولاسيما الأبيض.
تعالى - في قوله تعالى: {فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15]؛ قال: السماع (¬1). وهذا الفصل الذي ذكرته هنا في سماع أهل الجنة فصل عزيز لطيف، وقد علمت أنه يكون ثواباً لأهلها وجزاء لتنزيه أسماعهم عن مزامير الشيطان واتباع الهوى في السماعات الدنيوية اللهوية، وكذلك سائر نعيم الجنة إنما هو جزاء عن نهي النفس عن الهوى، ومنعها منه في لباس وطعام وشراب، وغير ذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} [الحاقة: 24]. وقوله تعالى: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 35 - 41]؟ 135 - ومن أخلاق الشيطان: كراهية الديك والتحرُّج عن سماع صوته، ولاسيما الأبيض. والسبب في ذلك أن الديك يوقظ للصلاة ويدعو إليها في أوقاتها كالمؤذن، ويذكر الله تعالى، وكان مذكراً لآدم - عليه السلام - وأنيساً له، وصديقًا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو على سورة بعض الملائكة، ولا يصيح ¬
حتى يرى ملكاً، وصوته من أحب الأصوات إلى الله تعالى. وذلك كله قاصم لظهر الشيطان، مُرغِم لأنفه، ولذلك كان عدواً للشيطان الرجيم. روى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه بإسناد جيد، عن زيد ابن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَسُبُّوْا الدِّيْكَ؛ فَإِنَّهُ يُوْقِظُ لِلصَّلاةِ" (¬1). وروى أبو الشيخ في كتاب "العظمة" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن ديكاً صرّح عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسبَّه رجل ولعنه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَلْعَنْهُ وَلا تَسُبَّهُ؛ فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الصَّلاةِ" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدِّيْكُ يُؤَذِّنُ بِالصَّلاةِ، مَنِ اتَّخَذَ دِيْكاً أَبْيَضَ حُفِظَ مِنْ ثَلاثةٍ؛ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْطَانٍ، وَسَاحِرٍ، وَكَاهِنٍ" (¬3). وروى أبو نعيم في "فضل الديك (¬4) " عن عائشة رضي الله تعالى ¬
عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَوْتُ الدِّيْكِ صَلاتُهُ، وَضَرْبُهُ [بجناحيه] رُكُوْعُهُ وَسُجُوْدُهُ"، ثم تلا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] (¬1). وروى الثعلبي في "تفسيره" عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدِّيْكُ إِذَا صَاحَ قَالَ: اذْكُرُوْا اللهَ يَا غَافِلِيْنَ" (¬2). وذكر في "العرائس" عن وهب - رحمه الله تعالى - أن آدم عليه السلام قال: يا رب! شغلت بطلب الرزق والمعيشة عن التسبيح والعبادة، ولست أعرف ساعات التسبيح من أيام الدنيا. فأهبط الله تعالى له ديكاً، وأسمعه أصوات الملائكة بالتسبيح، وكان الديك إذا سمع أصوات الملائكة بالتسبيح في السماء سبَّح في الأرض، فيسبح آدم إذا سمع صوت الديك، فكان آدم - عليه السلام - أول من اتخذ الديك لأوقات العبادة. وروى أبو القاسم البغوي عن خالد بن معدان - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدِّيْكُ الأَبْيَضُ صَدِيْقِي وَعَدُوُّ عَدُوِّ اللهِ؛ يَحْرُسُ ¬
دَارَ صَاحِبهِ وَسَبع آدُرٍ" (¬1)، وله شواهد. واعترض ابن حجر على ابن الجوزي في عده في الموضوعات؛ قال: ولم يتبين لي الحكم على هذا المتن بالوضع (¬2). وروى الطبراني، وأبو الشيخ، وغيرهما عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ للهِ دِيْكًا أَبْيَضَ جَنَاحَاهُ مُوشَّيَانِ بِالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوْتِ وَاللُّؤْلُؤِ، جَنَاحٌ لَهُ بِالْمَشْرِقِ وَجَنَاحٌ لَهُ بِالْمَغْرِبِ، وَرَأْسُهُ مَثْنِيٌّ تَحْتَ الْعَرْشِ وَقَوَائِمُهُ فِيْ الْهَوَاءِ - وفي رواية: فِي الأَرْضِ السُّفْلَى - يُؤَذِّنُ فِي كُلِّ سَحَرٍ، فَإِذَا كَانَ فِي السَّحَرِ الأَعْلَى خَفَقَ بِجَنَاحَيهِ، ثُمَّ قالَ: سُبُّوْحٌ قُدُّوْسٌ رَبُّنَا لا غَيْرُهُ، فَيسْمَعُ تِلْكَ الصَيْحَةَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَأْهْلُ الأَرْضِ إِلاَّ الثَّقَلينِ الْجِنُّ وَالإِنْسُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُجِيمهُ ديوْكُ أَهْلِ الأَرْضِ، فَإِذَا كانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قالَ اللهُ تَعَالَى: ضُمَّ جَنَاحَكَ، وَغُضَّ صَوْتَكَ، فَيَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّ السَّاعَةَ قَدْ اقْتَرَبَتْ" (¬3). وروى الأئمة الستة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى ¬
136 - ومن أخلاق الشيطان: الاستماع إلى نهيق الحمار ونباح الكلب، وحمل الحمير على النهيق كما يفعل بعضر الجهلة من التصويت بصوت إذا سمعه الحمار نهق.
عنه: أن النبي - رضي الله عنه - قال: "إَذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيْكِ فَاسْألوْا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ؛ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نهاقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوْا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَاناً" (¬1). وروى الديلمي عن أم محمد بنت زيد بن ثابت رضي الله عنها وعن أبيها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثَةُ أَصْوَاتِ يُحِبُّهَا اللهُ؛ صَوْتُ الدِّيَكَةِ، وَصَوْتُ الَّذِيْ يَقْرَأُ الْقُرْانَ، وَصَوْتُ الْمُسْتَغْفِرِيْنَ بِالأَسْحَارِ" (¬2). 136 - ومن أخلاق الشيطان: الاستماع إلى نهيق الحمار ونباح الكلب، وحمل الحمير على النهيق كما يفعل بعضر الجهلة من التصويت بصوت إذا سمعه الحمار نهق. قال الله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة المذكور آنفاً: "وَإِذَا سَمِعْتُمْ نهاقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوْا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَاناً" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا سَمِعْتُمْ نبُاحَ الْكَلْبِ وَنهِيْقَ الْحِمَارِ بِاللَّيْلِ فَتَعَوَّذُوْا بِالّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَإِنهنَّ يَرَيْنَ مَا لا تَرُوْنَ". الحديث رواه ¬
137 - ومنها: إشلاء الكلاب ونحوها على الناس.
الإمام أحمد، وغيره، وصححه ابن حبان، والحاكم، عن جابر (¬1). وله في الباب حديث آخر أخرجه ابن عدي، وتقدم. 137 - ومنها: إشلاء الكلاب ونحوها على الناس. ذكر القرطبي في تفسير سورة الأعراف عن الحكيم الترمذي: أن آدم - عليه السلام - لمَّا أهبط إلى الأرض ذهب إبليس إلى السباع فأشلاها على آدم عليه السلام، وكان الكلب من أشدها كَلَباً عليه، فنزل جبريل - عليه السلام - بالعصا التي صرفت إلى موسى - عليه السلام - بمَدْين، وجعلها آية له إلى فرعون وملئه، وجعل فيها سلطاناً عظيماً، وكانت من آس الجنة، فأعطاها آدم يومئذ ليطرد بها السباع عن نفسه، وأمره - فيما روي - أن يدنو من الكلب فمات الفؤاد منه بسلطان العصا، وأَلِفَ به وبولده إلى يومنا هذا، وصار حارساً من حرَّاس ولده، وإذا أدب وعلم الاصطياد تأدب وقبل التعليم، وذلك قوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4] (¬2). 138 - ومنهَا: اللعب بالحَمَام الطيارة. روى أبو داود - وإسناده صحيح - عن أبي هريرة، وابن ماجه عنه، وعن أنس، وعن عائشة رضي الله تعالى عنهم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ¬
139 - ومنها: لباس الحمرة والملونات.
شخصاً يتبع حمامة فقال: "شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانةً" (¬1). 139 - ومنها: لباس الحُمرة والملونات. روى الطبراني عن رجل من بني سليم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِيَّاكُمْ وَالْحُمْرَةَ؛ فَإِنَّهَا أَحبُّ الزِّيْنَةِ إِلَى الشَّيْطَانِ" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن الحسن رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحُمْرَةُ زينَةُ الشَّيْطَانِ" (¬3). وروى هو وابن عدي، والحاكم في كتاب "الكنى"، وابن قانع في "معجم الصحابة" عن رافع بن يزيد الثقفي رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يُحِبُّ الْحُمْرَةَ؛ فَإِيَّاكُمْ وَالْحُمْرَ وَكُلَّ ثَوْبٍ ذِي شُهْرَةٍ" (¬4). وقال ابن جهضم: حدثني أحمد بن عبد السلام قال: سمعت أبا ¬
140 - ومنها: تشبيك الأصابع في أمكنة وأوقات تطلب فيها الطاعة وحضور القلب عبثا وتلهيا عن ذكر الله تعالى.
سليمان المغربي: ما أحب أن أرى على أصحابنا الملونات. فقيل له: لِم؟ فقال: لأني رأيت إبليس عليه الملونات، وبينا أنا قائم أصلي يوم جمعة رأيته قد دخل المسجد بيده باقة ريحان، فمر بين الصفوف يشمه واحداً واحداً إلى أن قرب مني، فلما دنا مني نظرت إليه بقرب فتأملت مَنْ شَمَّ ريحانه، فمن كان قائما جلس ومن كان جالساً نعس. 140 - ومنها: تشبيك الأصابع في أمكنةٍ وأوقاتٍ تُطلب فيها الطاعة وحضور القلب عبثاً وتلهياً عن ذكر الله تعالى. وروى الإمام أحمد بإسناد حسن، عن مولى لأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما قال: بينما أنا مع أبي سعيد وهو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا رجل جالس في وسط المجلس محتبياً مشبكاً أصابعه بعضها في بعض، فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يفطن الرجل لإشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالتفت إلى أبي سعيد فقال: "إِذَا كانَ أَحَدُكُم فِي الْمَجْلِسِ فَلا يُشْبِكَنَّ؛ فَإِنَّ التَّشْبِيْكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَزَالُ فِيْ صَلاةٍ مَا كَانَ فِيْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ" (¬1). وهذا الحديث فيه إشارة إلى كراهية التشبيك بين الأصابع في ¬
المسجد (¬1) - سواء كان في صلاة، أو لا - وكذلك لو خرج إلى المسجد وهو في الطريق كما جزم به البغوي في التحقيق؛ لما رواه أبو داود، وغيره عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوْءَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلا يُشْبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؛ فَإِنَّهُ فِي صَلاةٍ" (¬2). قال الحافظ العراقي: الحكمة في النهي عن التشبيك في الصلاة أو في المسجد إمَّا لما فيه من العبث، أو لما فيه من التشبه بالشيطان، أو لدلالة الشيطان على ذلك كما في حديث مولى أبي سعيد رضي الله تعالى عنهما، انتهى (¬3). ¬
141 - ومنها: رفع البصر إلى السماء في محل يطلب قيه الخضوع والاتضاع.
ولا يعارض ما ذكرناه حديثَ "الصحيحين": "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤمِنِ كَالْبُنْيَانِ"، وشبك بين أصابعه (¬1)؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - منزه عن التلهي والعبث، وإنما أراد تمثيل تعاضد المؤمنين بعضهم ببعض بالبنيان المتعاضد، ثم حكى التعاضد بيديه - صلى الله عليه وسلم - ليجمع بين القول والفعل؛ فافهم! ومثل هذا العرض لا شبهة في جوازه بل في استحبابه؛ فاعلم. 141 - ومنها: رفع البصر إلى السماء في محل يطلب قيه الخضوع والاتِّضاع. ومن هنا كره رفع البصر إلى السماء في الصلاة. فأما رفع البصر للتفكر في خلق السماء والاعتبار، فليس من هذا القبيل، بل هو مطلب مستحب. ألا ترى إلى قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]. روى ابن أبي حاتم عن رجاء بن أبي سلمة رحمه الله تعالى قال: أهبط آدم - عليه السلام - يديه على ركبتيه مطأطئاً رأسه، وأهبط إبليس مشبكاً بين أصابعه رافعاً رأسه إلى السماء (¬2). 142 - ومنها: الاختصار؛ بمعنى وضع اليد على الخاصرة. قال الترمذي بعد أن أسند حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو في بقية ¬
الكتب الستة: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلي الرجل مختصراً (¬1): ويروى أن إبليس إذا مشى مشى مختصراً، انتهى (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أَنَّهُ كره التخصر في الصلاة أَنَّ إبليس أُهبِطَ مختصراً (¬3). وروى عبد الرزاق عن مجاهد رضي الله تعالى عنه قال: وضع اليد في الخاصرة استراحة أهل النار. قال: وقال في حديث آخر: إنها مشية الشيطان (¬4). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه قال: إذا قام أحدكم إلى صلاة فلا يجعل يده في خاصرته؛ فين الشيطان يحضر ذلك (¬5). وقيل: إن سبب الكراهة أنه من فعل اليهود، كما سيأتي. وروى ابن أبي شيبة عن خالد بن معدان رحمه الله تعالى: أن عائشة - رضي الله تعالى عنها - رأت رجلاً واضعاً يده على خاصرته، ¬
143 - ومنها: التبختر في المشية، والمبالغة في الإسراع بها.
فقالت: هكذا أهل النار في النار (¬1). وعن مجاهد أنه قال: وضع اليدين على الحقو استراحة أهل النار (¬2). وسبق من رواية عبد الرزاق بلفظ آخر. 143 - ومنها: التبختر في المشية، والمبالغة في الإسراع بها. بل ينبغي للمؤمن أن يكون منتصباً في مشيته كما قال الله تعالى حكاية عن لقمان: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19]، فلا تبالغ في التماوت ولا تمش متشبهاً كالمخنثين، ولا تشتد في العَدْو فتكون متشبهاً بالشيطان فيهما. وقد روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه رأى رجلاً يخطر في مشيته فقال: إن للشياطين إخواناً (¬3). وقال القرطبي في تفسير الآية: القصد ما بين الإسراع والبطء؛ أي: لا يدب دَبيب المتماوتين، ولا يثب وثب الشياطين. انتهى (¬4). 144 - ومنها: العسف بالدابة، وعدم الرفق بها والمبادرة إلى راحتها في المنازل. روى الدارقطني في "الأفراد" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ¬
145 - ومنها: المشي في نعل واحدة.
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا رَكِبْتُمْ هَذهِ الدَّوَابَّ فَأَعْطُوْهَا حَظَّهَا مِنَ الْمَنَازِلِ، وَلا تَكُوْنُوْا عَلَيْهَا شَيَاطِيْنَ" (¬1). 145 - ومنها: المشي في نعل واحدة. فقد صح النهي عنه، وهو مكروه. قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: والسبب في ذلك ما قيل: إنها مشية الشيطان (¬2). وحكى النووي - رحمه الله تعالى - عن العلماء أن سبب ذلك أنه تشويه، ومُثْلَة، ومخالف للوقار، ولأن المنتعلة تفسير أرفع من الأخرى فتتغير مشيته، وربما كان سبباً للعثار (¬3). قلت: والتشويه ومخالفة الوقار من جملة أوصاف الشيطان لعنه الله تعالى. ثم رأيت في "الفردوس" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! لا تَمْشِ فِيْ نَعْلٍ وَاحِدةٍ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَمْشِي فِي نَعْلِ وَاحِدةٍ" (¬4). 146 - ومنها: اشتمال الصَّمَّاء. قال الثعلبي: أهبط إبليس إلى الأرض مشتملَ الصماء، أعورَ، ¬
في إحدى رجليه فعل (¬1). وروى أبو داود عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصماء والاحتباء في ثوب واحد (¬2). واشتمال الصماء: أن تجلل جسدك بثوبك بأن يرد الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانية من خلف على يده اليمنى وعاتقه الأيمن، فيغطيهما جميعاً؛ هذا ما في "الصحاح". وذكر أبو عبيد أن الفقهاء يقولون: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه، فيبدو منه فرجه (¬3). قال النووي في "الروضة": ويكره أن يشتمل الصماء، وأن يشتمل اشتمال اليهود: فالصماء أن يجلل يديه بالثوب ثم يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر. واشتمال اليهود كذلك إلا أنه لا يرفع طرفيه. وقيل: هما بمعنى، والمراد بهما الثاني، انتهى (¬4). ¬
147 - ومنها: الاقعاء.
وإنما كُرها للنهي عنهما، ولأنَّه إذا أتاه من يتوقاه لا يمكنه إخراج يديه بسرعة، فإذا أخرج يده فربما انكشفت عورته. وفي "النهاية" تفسير الصماء بما فسر به في "الروضة" اشتمال اليهود، فإنه ذكر أنه التجلل بالثوب وإسباله من غير أن يرفع طرفه، لأنه يسد على يديه ورجليه المنافذ كلها كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق (¬1). 147 - ومنها: الاقعاء. روى ابن أبي شيبة عن علي رضي الله تعالى عنه: أنه كره الإقعاء في الصلاة، وقال: عقبة الشيطان (¬2). وروى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وغيرهما، وصححه البغوي في "شرح السنة"، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن عقبة الشيطان (¬3)؛ يعني: الإقعاء. قال البغوي: تفسير أصحاب الحديث في عقبة الشيطان وفي الإقعاء واحد: وهو أن يضع ألييه على عقبيه، ويقعد مستوفزاً غير مطمئن إلى الأرض، انتهى (¬4). ¬
148 - ومنها: القعود بين الظل والشمس.
وسيأتي ذكر الإقعاء في التشبه بالبهائم والسباع. 148 - ومنها: القعود بين الظل والشمس. وروى الإمام أحمد بسند حسن، عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينَ الظِّلِّ والشَّمسِ مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ" (¬1). وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: حرف الظل مقعد الشيطان (¬2). وقال عبيد بن عمير رحمه الله تعالى: حد الظل والشمس مقاعد الشيطان (¬3). وقال سعيد بن المسيب: حرف الظل مقيل الشيطان (¬4). روى هذه الآثار ابن أبي شيبة. 149 - ومنها: الانبطاح على الوجه. وهو مكروه للرجل كما يكره الاستلقاء للمرأة. وروى أبو نعيم في "الحلية" عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: كنت من أهل الصفة، وكنَّا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأمر كل رجل فينصرف برجل، فيبقى من يبقى من أهل الصفة عشرة أو أكثر ¬
150 - ومنها: ضحك القهقهة، واستدعاؤها من غيره.
أو أقل، فيأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فنتعشَّى معه، فإذا فرغنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَامُوا فِيْ الْمَسْجِد". قال: فمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا نائم على وجهي، فغمزني برجله، وقال: "يَا جُنْدُبُ! مَا هَذهِ الضَّجْعَةُ؟ فَإِنَّهَا ضَجْعَةُ الشَّيْطَانِ" (¬1). قال العلماء: نوم الإنسان منبطحاً نوم الشياطين، ومضطجعاً على الشمال نوم السلاطين، وعلى اليمين نوم العلماء والصالحين، ومستلقياً نوم الأنبياء والمرسلين، فيتفكرون في خلق السماوات والأرضين. 150 - ومنها: ضحك القهقهة، واستدعاؤها من غيره. وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْقَهْقَهَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالتَّبَسُمُ مِنَ اللهِ تَعَالَى" (¬2). 151 - ومنها: استحباب رفع الصَّوت بالجُشاء والعطاس، وفتح الفم بالتثاؤب. روى البيهقي في "الشعب" عن واثلة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا تَجَشَّأَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَطَسَ فَلا يَرْفَعَنَّ بِهِمَا الصَّوْتَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُحِبُّ ¬
أَنْ يَرْفَعَ بِهِمَا الصَّوْتَ" (¬1). وإنما قيدنا العطاس بالشدة إشارة إلى أن لا تعارض بين ذلك وبين حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْعُطَاسُ مِنَ اللهِ، وَالتَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ" (¬2). وروى البيهقي في "سننه" عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره العطسة الشديدة (¬3). والمعنى في ذلك أن شدة العطاس فيه ما في التثاؤب من اعوجاج الخلقة عن اعتدال الهيئة، ولذلك استحب للعاطس أن يميل برأسه ويخمر وجهه ليستر تلك الحالة الخارجة عن الاعتدال، كما استحب للمتثاوب أن يكظمه على كل حال. وروى البخاري، وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاوَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ ¬
تنبيه
مَا اسْتَطَاعَ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمُ إِذَا قَالَ: هَاه، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ" (¬1). * تنبِيهٌ: لكون التثاؤب من الشيطان كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء - عليهم السلام - محفوظين منه. روى ابن أبي شيبة، والبخاري في "التاريخ" عن يزيد بن الأصم - مرسلاً - قال: ما تثاوب - صلى الله عليه وسلم - في صلاة قط (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن مسلمة بن عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى قال: ما تثاوب نبي قط (¬3). وهذا نظير حفظ الأنبياء - عليهم السلام - من الاحتلام. * فائِدةٌ: روى الطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَصْدَقُ الْحَدِيْثِ مَا عُطِسَ عِنْدَهُ" (¬4). وهو وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال ¬
152 - ومنها: تلهية العاطس عن الحمد، واستحباب تركه.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيْثٍ فَعُطِسَ عِنْدَهُ فَهُوَ حَقٌّ" (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْعُطَاسُ عِنْدَ الدُّعَاءِ شَاهِدُ صِدْقٍ". 152 - ومنها: تلهية العاطس عن الحمد، واستحباب تركه. وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: عطس رجل عند ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقال: أشهب، فقال ابن عمر: أشهب اسم شيطان وضعه إبليس بين العطسة والحمد ليترك (¬2). 153 - ومنها: الضحك من ابن آدم إذا صدر منه ما هو من ضروريات البشرية من نعاس، أو عطاس، أو تثاؤب، أو ضراط، أو غير ذلك. ومن الأدلة على ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث التثاؤب المتقدم: "فَإِنَّ أَحَدَكُم إِذَا قَالَ هَاه، ضَحِكَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ" (¬3). وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضحك من الضرطة كما رواه الطبراني، وغيره (¬4). ¬
154 - ومنها: وضع الثوب على الأنف.
154 - ومنها: وضع الثوب على الأنف. روى الطبراني في "معجمه الكبير"، و"الأوسط" عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ وَثَوْبُهُ عَلَى أنفِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حَظُّ الشَّيْطَانِ" (¬1). قلت: ولعل المعنى فيه أن وضع الثوب على الأنف ربما أدى إلى تقديره وتوسيخه، ومن هنا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ كَفَّيْهِ عَلَى وَجْهِهِ وَلْيخْفِضْ صَوْتَهُ" كما صححه الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬2). فأمر بوضع الكفين على الوجه دون الثوب لئلا يتقذر، وتنظيف اليد أقرب من تنظيف الثوب مع أنهما آلة لذلك وغيره. والحكمة في وضع الكفين على الوجه وخفض الصوت: أن العطاس ربما غيَّر سَمْتَ الوجه فيظهر منه للحاضرين كالمثلة، فذلك يستره ويمنعه. وأيضا فإنه يتناثر من الأنف ما يقذر الثياب والفراش، وربما وصل منه شيء إلى الجليس، ففي وضع الكفين على الوجه منع ذلك. ¬
155 - ومنها: تسمية العشاء عتمة.
155 - ومنها: تسمية العشاء عتمة. روى ابن أبي شيبة عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: قلت لابن عمر رضي الله تعالى عنهما: من أول من سماها العتمة؟ قال: الشيطان (¬1). 156 - ومنها: أكل الميتة في غير حالة الاضطرار؛ وهو من أشد الحرام. روى الإمام أحمد، والشيخان عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: صبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر وقد خرجوا بالمَسَاحي، فلما نظروا إليه قالوا: محمد والخميس؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نزَلْنَا سَاحَةَ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرينَ". فأصبنا حمراً خارجة من القرية فاطبخنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ وَرَسُوْلَهُ يَنْهَاكُمْ عَنْ لُحُوْمِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ؛ فَإنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ" (¬2). 157 - ومنها: ترك التسمية على الطعام والشراب، وعند الدخول إلى الأماكن، وعند الخروج منها، وفي سائر الأمور المهمة، وأكل ¬
وشرب ما لم يذكر اسم الله عليه. روى مسلم، والأربعة عن جابر رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُوْلهِ قَالَ الشَّيْطَانُ - يَعْنِي: لِجُنُوْدهِ -: لا مَبِيْتَ لَكُمْ وَلا عَشَاءَ، وإذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُوْلهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيْتَ وَالْعَشَاء" (¬1). ولهُ في الباب حديث آخر أخرجه ابن عدي - وتقدم -، وفي الباب أحاديث كثيرة. وقد تقدم أيضا: أن الرجل إذا جامع أهله ولم يسم جامع معه الشيطان، وأنزل معه. وروى ابن السني عن دويد بن نافع القرشي رحمه الله - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ ادَّهْنَ وَلَمْ يُسَمِّ أدَّهْنَ مَعَهُ سَبْعُوْنَ شَيْطَاناً" (¬2). ومن شأن المؤمن ذكر الله تعالى على كل حال، وذكر اسمه على كل أمر ذي بال؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لا يُبْتَدَأُ بِاسْمِ اللهِ فَهُوَ أَجْذَمُ". رواه أبو داود، وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬3). ¬
158 - ومنها: تناول المآكل الخبيثة، والميل إليها.
وروى الطبراني بسند صحيح، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن شيطان المؤمن يلقى شيطان الكافر فيرى شيطان المؤمن شاحباً أغبر مهزولاً، فيقول له شيطان الكافر: ما لك قد هلكت؟ فيقول شيطان المؤمن: لا والله لا أصل معه إلى شيء؛ إذا طَعِمَ ذكر اسم الله، وإذا شرب ذكر اسم الله، وإذا دخل بيته ذكر اسم الله. فيقول الآخر: آكل من طعامه، وأشرب من شرابه، وأنام على فراشه. فهذا ساحَّ، وهذا مهزول (¬1). الشاحب - بالشين المعجمة، والحاء المهملة بعدها موحدة -: المتغير اللون لجوع، أو هزال. والساح - بالسين المهملة، والحاء المهملة المشددة -: هو السمين المنتهي في السمن. 158 - ومنها: تناول المآكل الخبيثة، والميل إليها. روى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الثُّوْمُ وَالْبَصَلُ وَالْكُرَّاثُ مِنْ سُكِّ إِبْلِيْسَ" (¬2). والسك - بضم السين المهملة -: نوع من الطيب؛ أي: من طيبه. ¬
159 - ومنها: الأكل بالشمال والشرب بالشمال، والأخذ والأعطاء بها.
ومن هنا علم أن استعمال التُّتُن (¬1) خلق شيطاني، وهو مضر مخدر للبدن، فينبغي أن يحرم، والاستكثار منه حرام بلا شك، ولا ضرورة في استعماله، وما يخيله الشيطان إلى مستعمليه من الضرورة غلط منهم، والدخان من حيث هو مضر باتفاق الأطباء. 159 - ومنها: الأكل بالشمال والشرب بالشمال، والأخذ والأعطاء بها. فينبغي للإنسان أن يخالف الشيطان في ذلك كله فيفعله باليمين إلا أن يتعذر عليه ذلك. روى مسلم، والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِشِمالِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطانَ يَأْكُلُ بشِمالِهِ وَيشْرَبُ بِشِمالِهِ" (¬2). وروى ابن ماجه بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِيَمِيْنِهِ وَيشْرَبْ بِيَمِيْنِهِ، وَلْيَأْخُذْ بِيَمِيْنِهِ وَلْيُعْطِ بِيَمِيْنِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيشْرَبُ بِشِمَالِهِ، وَيأْخُذ بِشِمَالِهِ وَيُعْطِيْ بِشِمَالِهِ" (¬3). * تنبِيْهٌ: فعل هذه الأمور بالشمال صرَّح أكثر العلماء أنه مكروه. ¬
وقال أهل الظاهر: إنه حرام. وقال القاضي أبو بكر بن العربي من المالكية: إنه مكروه، بل يأثم فاعله؛ فإن كل فعل ينسب إلى الشيطان فهو حرام شر لا خير فيه ولا جائز، انتهى (¬1). قلت: والذي يظهر لي التحريم إذا فُعل ذلك مصادمة للأمر الشرعي لحديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -: أن رجلاً أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله، فقال: "كُلْ بِيَمِيْنِكِ"، فقال: لا أستطيع، فقال: "لا اسْتَطَعْتَ، ما منعهُ إلا الكِبْرُ". قال: فما رفعها بعد إلى فيه. رواه مسلم (¬2). وأين هذا من جَرْهد - رضي الله تعالى عنه - حين أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين يديه طعام، فأدنى جرهد يده الشمال ليأكل وكانت اليمين مصابة، فنفث عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما شكا حتى مات. رواه الطبراني (¬3). وروى هو والإمام أحمد - ورجاله ثقات - عن عبد الله بن محمد ابن عبد الله بن زيد، عن امرأة منهم قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا آكل بشمالي - وكنت امرأة عسرى - فضرب بيده فسقطت اللقمة، ¬
تنبيه آخر
فقال: "لا تأكُلِيْ بِشِمَالِكِ وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَكِ يَمِيْناً"، أو قال: "قَدْ أَطْلَقَ اللهُ يَمِيْنَكِ"؛ قالت: فتحولت شمالي يمينا، فما أكلت بها بعد (¬1). وهذه معجزات للنبي - صلى الله عليه وسلم -. * تنبِيْهٌ آخَرُ: ذكر الشيخ برهان الدين الناجي في "قلائد العقيان فيما يورث الفقر والنسيان": أن مما يورث النسيان الأكل بالشمال. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لا تأكلوا بشمالكم ولا تشربوا بشمالكم؛ فإن آدم - عليه السلام - أكل بشماله فأورثه ذلك النسيان (¬2). أي: أكل بشماله مرة أو مرات؛ فإن حمل أكثر أحواله على الكمال أولى. ويحتمل أن ذلك لم يكن مكروها في شريعته، وإنما كان ترك أدب. 160 - ومنها: الأكل مع من يأكل بشماله والشرب مع من يشرب بشماله، وعدم إنكار ذلك عليه. روى الإمام أحمد، والطبراني - وسنده حسن - عن عائشة رضي ¬
161 - ومنها: الأكل بأصبع واحدة أو بأصبعين، والسنة الأكل بالثلاث.
الله تعالى عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ أَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ، وَمَنْ شَرِبَ بِشِمَالِهِ شَرِبَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ" (¬1). وفيه إشارة إلى أن الشيطان يستبيح طعام من يفعل ذلك وشرابه كما يستبيح طعام من لم يذكر اسم الله عليه وشرابه. ولو قيل: إن الشيطان يستبيح طعام من يخل بأدب من آداب الطعام والشراب لم يبعُد. 161 - ومنها: الأكل بأصبع واحدة أو بأصبعين، والسنة الأكل بالثلاث. روى ابن النجار في "تاريخه"، وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأَكْلُ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ أَكْلُ الشَّيْطَانِ، وَبِاثْنتَيْنِ أَكْلُ الْجَبَابِرَةِ، وَبِالثَّلاثِ أَكْلُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهُمُ السَّلامُ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" بإسناد حسن، عن ابن عباس - رضي ¬
فائدة
الله تعالى عنهما قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائطاً لبعض الأنصار فجعل يتناول من الرطب، ويأكل ويمشي، وأنا معه؛ قال: فالتفت إلي فقال: "يَا ابْنَ عَبَّاس! لا تأْكُلْ بِأُصْبُعَيْنِ؛ فَإِنَّهَا أُكْلَةُ الشَّيْطَانِ، وَكُلْ بِثَلاثِ أَصَابعَ" (¬1). * فائِدَةٌ: في هذا الحديث دليل على أنه لا كراهة في أكل الماشي، ولكن الجلوس للطعام أولى إلا التنقل ونحوه، كما لو كان الإنسان في عمل يحتاج إلى التردد، أو في تنزه في فَلاة أو بستان، أو في مسير فلا بأس بالأكل ماشياً. 162 - ومنها: الأكل من جوانب القصعة، والامتناع من الأكل مما يليه. وهو السنة إلا أن يكون فاكهة. روى الطبراني بسند فيه ضعف، عن جعفر بن عبد الله قال: رآني الحكم الغفاري - رضي الله تعالى عنه - وأنا آكل وأنا غلام من هاهنا وهاهنا، فقال: يا بني! لا تأكل هكذا، هكذا يأكل الشيطان؛ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وضع يده في القصعة أو في الإناء لم تجاوز ¬
163 - ومنها: الأنفة عن مؤاكلة اليتيم.
أصابعه موضع كفه (¬1). وفي "الصحيح": "كُلْ مِمَّا يَلِيْكَ" (¬2). 163 - ومنها: الأنفة عن مؤاكلة اليتيم. روى الطبراني في "الأوسط"، والأصبهاني في "الترغيب" عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا قَعَدَ يَتِيْم مَعَ قَوْمٍ عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيَقْرَبُ قَصْعَتَهُمْ شَيْطَانٌ" (¬3). وفي لفظ أخرجه الأصبهاني، وابن النجار في "تاريخه": "مَا أكَلَ يتيْمٌ مَعَ قَوْمٍ فِي صَحْفَتِهِمْ فَيَقْرَبُ صَحْفَتَهُمُ الشَّيْطَانُ" (¬4). إسناده ضعيف لكن لا يبلغ رتبة الوضع" وإن أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (¬5). قلت: وله وجهان: الأول: ما ذكرته أن بُعْدَ الشيطان عن القصعة التي عليها اليتيم ¬
164 - ومنها: الأكل في الظلمة ما لم يضطر إليه.
إنما هو أنفة من مؤاكلته، واحتقار له. والثاني: أن يكون سبب بعده أن القصعة التي يأكل عليها اليتيم تنزل فيها البركة والرحمة، والشيطان ليس من أهلها. 164 - ومنها: الأكل في الظلمة ما لم يضطر إليه. فينبغي للإنسان أن لا يأكل في الظلمة ما أمكنه النور؛ فإنه من عمل الشيطان لا يدري حال الطعام، فلعل فيه شيء، أو وقع فيه شيء يضر أو مستقذر. روى أبو نعيم عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى: أنه قال في كلام له: ولا تأكل في الظلمة؛ فإن الشيطان يأكل في الظلمة (¬1). 165 - ومنها: الأكل والشرب من الإناء الذي يبيت مكشوفاً. روى عبد الرزاق عن منصور، عن أبي جعفر عن زادان رحمه الله قال: إذا بات الإناء مكشوفاً ليس عليه غطاء بصق فيه إبليس، أو تفل فيه إبليس. قال منصور: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: أو شرب منه (¬2). ورواه ابن أبي شيبة عن محمد بن أبي جعفر، عن عبد الرحمن ابن يزيد، عن زادان قال: إذا بات إناء مكشوفاً تفل فيه إبليس، فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: أو شرب منه (¬3). ¬
166 - ومنها: عب الماء في نفس واحد.
وفيه أن من أعمال الخبيث تقذير الطعام، والبصق فيه إيذاء لآكليه. 166 - ومنها: عَبُّ الماء في نَفَس واحد. وقد ورد أنه يورث الكُبَاد (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والبيهقي عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: لا تشربوا نفسا واحداً؛ فإنه شرب الشيطان (¬2). وروى البيهقي عن ابن شهاب - وهو الزهري رحمه الله تعالى - مرسلاً قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العب نفساً واحداً، وقال: "ذَلِكَ شُرْبُ الشَّيْطَانِ" (¬3). 167 - ومنها: الشرب من ثُلمة القدح ومن ناحية أذنه. روى الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشرب من ثُلمة القدح، وأن ينفخ في الشراب (¬4). وروى الطبراني بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى ¬
عنه قال: نهي أن يشرب من كسر القدح (¬1). وله بإسناد صحيح - أيضا - عن ابن عمر، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم قالا: يكره أن يشرب من ثُلمة القدح، وأُذُنِ القدح (¬2). قال ابن الحاج في "المدخل": وينبغي له أن لا يشرب من ناحية أُذن الكُوز لما ورد أن الشيطان يشرب منها، انتهى (¬3). وذكر الشيخ شمس الدين العلقمي المصري - وهو أحد رفقاء الوالد وتلاميذه - في "حاشية الجامع الصغير" أنه ورد في الحديث أن موضع كسر القدح مقعد الشيطان، وهو من ايذاء الشيطان وملاعبه، انتهى. قلت: والذي رأيته في الحديث عن عمرو بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَشْرَبُوا مِنَ الثُّلْمَةِ الَّتِيْ تَكُوْنُ فِيْ القدحِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَشْرَبُ منْهَا". رواه أبو نعيم (¬4). ¬
168 - ومنها: الشرب قائما.
168 - ومنها: الشرب قائماً. روى الإمام أحمد - ورجاله ثقات - والبزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه رأى رجلاً يشرب قائماً فقال له: "أَيَسُرُّكَ أَنْ يَشْرَبَ مَعَكَ الْهِرُّ؟ " قال: لا. قال: "فَإِنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَعَكَ مَنْ هُوَ شَر مِنْهُ؛ الشَّيْطَانُ" (¬1). واعلم أن الشرب والشارب قائم ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله والنهي عنه؛ فالأول دليل الجواز، والثاني محمول على الكراهة كما حرره النو وي، وغيره (¬2). وللحافظ أبي الفضل ابن حجر العسقلاني، ونرويه عن الوالد، عن مشايخه، عنه: [من المتقارب] إِذا رُمْتَ تَشْرَبْ فَاقْعُدْ تَفُزْ ... بِسُنَّةِ صَفْوَةِ أَهْلِ الْحِجازِ وَقَدْ صَحَّحُوا شُرْبَهُ قائِماً ... وَلَكِنَّهُ لِبَيانِ الْجَوازِ 169 - ومنها: إتيان البهائم؛ وهو من أخبث الحرام. روى الثعلبي في "العرائس" عن محمد بن إسحاق قال: بلغني أن إبليس تزوج الحية التي دخل في جوفها حين ظلم آدم على آدم السلام، فمنها ذريته. ¬
170 - ومنها: استحباب كشف العورة.
وقد قدمنا لك أن اللعين أخس من أن يكون له نكاح بعقد، ولا يتحقق العقد على الهامَّة والبهيمة، فأراد ابن إسحاق بتزوج إبليس بالحية اقترانه بها وانضيافه إليها. وقد تقدم الكلام على عداوة الحية لآدم عليه السَّلام. 170 - ومنها: استحباب كشف العورة. قال الله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 20]. وإنما يستحب الشيطان كشف عورة ابن آدم لغير ضرورة؛ لأن الملائكة لا تحضر حيث تكشف العورات، كما تقدم. وروى ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقال: إني نذرت أن أقوم على قعيقعان عريانا إلى الليل، فقال: أراد الشيطان أن يبدي عورتك، وأن يضحك الناس بك؛ البس ثيابك، وصلِّ عند الحِجْر ركعتين (¬1). 171 - ومنها: استحباب أن يكون الإنسان ضُحَكَةً للناس يسخرون به؛ لأثر ابن عباس المذكور. وهذا من أخلاق الشياطين بلا شبهة؛ ألا ترى أن الأضحوكة يأثم بإضحاكه الناس، ويرتكب العظائم ليضحكهم، ومن يحضره ليضحك منه يقره على السخرية والغيبة، والرفث والمنكرات، ¬
172 - ومنها: الجماع بحضور أحد من الناس، وإفشاء أحد الزوجين سر الآخر.
وكل ذلك محبوب للشيطان ومطلوب له، وكل ذلك من إضلاله واستزلاله. والحاصل أن الضُّحَكَةَ والمجتمعين عليه للضحك كلهم متشبهون بالشياطين. وقد روى أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَيْلٌ لِلَّذِيْ يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ" (¬1). وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يُرِيْدُ بِهَا بَأْسًا لِيُضْحِكَ بِهَا القَوْمَ، وإنَّهُ لَيَقَعُ بِهَا أَبْعَدَ مِنَ السَّمَاءِ" (¬2). 172 - ومنها: الجماع بحضور أحد من الناس، وإفشاء أحد الزوجين سر الآخر. روى الطبراني بإسناد حسن، عن أسماء بنت يزيد رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَسَى رَجُلٌ يُحَدِّثُ بِمَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، أَوْ عَسَى امْرَأة تُحَدِّثُ بِمَا يَكُوْنُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَلا تَفْعَلُوا؛ ¬
173 - ومنها: النظر إلى ما لا يحل له من امرأة أجنبية، أو غلام أمرد جميل، والفتنة به أشد من الفتنة بالمرأة، كما علمت.
فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيَطَانةً فِيْ ظَهْرِ الطَّرِيْقِ فَغَشِيَهَا وَالنَاسُ يَنْظُرُوْنَ" (¬1). أشار بذلك إلى أن من تحدث من الزوجين بما أسره الآخر إليه من الإفضاء ولوازمه كان كمن فعل ذلك بمحضر من الناس، وهو حرام، وذلك كله من أفعال الشياطين. 173 - ومنها: النظر إلى ما لا يحل له من امرأة أجنبية، أو غلام أمرد جميل، والفتنة به أشد من الفتنة بالمرأة، كما علمتَ. قال الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]، ومن الآية يؤخذ أن نظره لعله من قبيل الاختلاس وخائنة الأعين، فمن أوهم أن لا يرى وهو ينظر إلى ما لا يحل له النظر إليه تشبَّه بالشيطان في خائنة الأعين. وروى الترمذي وصححه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَرأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ" (¬2)؛ أي: نظرها وتراءى إليها؛ يقال: استشرف الشيء إذا رفع رأسه ينظر إليه، وبسط كفه فوق حاجبه كالمستظل من الشمس. ¬
174 - ومنها: حمل الإنسان على النظر الحرام.
174 - ومنها: حمل الإنسان على النظر الحرام. روى الحاكم وصححه، عن حذيفة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "النَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُوْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيْسَ، مَنْ تَرَكَهُ خَوْفًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، أَعْطَاهُ اللهُ إِيْمَاناً يَجِدُ حَلاوَتَهُ فِيْ قَلْبِهِ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "البكاء" عن السُّدِّي قال: إن الشيطان أتى داود - عليه السلام - في المحراب في صورة حمامة من ذهب لها جناحان من لؤلؤ حتى وقع على باب المحراب، فنظر إليها داود، فطارت حتى أشرف على تلك المرأة وهي في البستان تغتسل، فلما رأته أرخت شعرها فجللها، فسأل عنها، فأخبر أن زوجها غازٍ، فبعث داود - عليه السلام - إلى أمير ذلك الجيش أن ابعث أوريا في وجه كذا، فبعثه ففتح عليه، فكتب: ابعثه إلى التابوت - وكان من بعثه إلى ذلك الوجه قتل ولم يرجع - فقتل؛ أي: فتزوج داود المرأة من بعده (¬2). 175 - ومنها: كراهته لطول عمر ابن آدم لئلا يزداد خيراً دون من لا يزداد إلا شراً؛ فإنه يحب طول عمره محبة لمعصية الله تعالى، وحزنه إذا بلغ ابن آدم زمان الربيع وزمان بلوغ الثمار وجَدادها حسداً وبغياً. روى النسائي، وابن ماجه، وأبو يعلى، والحاكم وصححه، عن ¬
176 - ومنها: كراهية حصول الشهادة لابن آدم.
عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُوْا الْبَلَحَ بِالتَّمْرِ، كُلِ الْخَلِقَ بالْجَدِيْدِ؛ فَإنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا رَآهُ غَضِبَ وَقَالَ: عَاشَ ابْنُ آدَمَ حَتَّى أَكَلَ الْخَلِقَ بِالْجَدِيْدِ" (¬1). ومقتضى حال الشيطان في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَشَرُّهُمْ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ" (¬2) أن يكون الأول ممقوت الشيطان، والثاني محبوبه لأنه شبيه به، والشكل إلى الشكل أَمْيل، ولأنه لا يحب أن يكون بعده أحد بخير وإن تساوى هو والخلق في الشر. وهذا أيضا خلق شيطاني من تلبَّس به تخلق بأخلاق الشيطان؛ فافهم! 176 - ومنها: كراهية حصول الشهادة لابن آدم. قال الثعلبي في "العرائس": روي أن رجلاً كان يلعن إبليس في كل يوم مئة ألف لعنة، فبينما هو ذات يوم نائم تحت جدار إذ أتاه ¬
177 - ومنها: الإشارة بالتداوي بالخمر والمحرمات.
شخص فأيقظه، وقال: قم؛ فإن هذا الجدار يريد أن يسقط، فقام الرجل وإذا الجدار قد سقط، فقال الرجل: من أنت؟ قال: أنا إبليس. فقال الرجل: وكيف هذا وأنا ألعنك في كل يوم مئة ألف لعنة؟ قال إبليس: إنما عملت هذا لما علمت فيه من الأجر لأن محل الشهداء عند الله عظيم، فخشيت أن تكون منهم فتنال من الله ما ينالون. 177 - ومنها: الإشارة بالتداوي بالخمر والمحرمات. ذكر الثعلبي في "العرائس" أن إبليس عرض ذات يوم لرحمة زوجة أيوب - عليه السلام - وهو في زي طبيب، فقال لها: يا أمة الله! ما يكون منك هذا المبتلى؟ قالت: بعلي. قال: أنا رجل حكيم قدمت إلى هذه البلاد، فلما رأيته عرفت داءه، ودواؤه عندي، وإني ماض في بعض أشغالي وأعود إليه، فمريه أن يشرب قدحا من الخمرة فإن فيه الشفاء، فأتت رحمة مسرعة إلى أيوب عليه السلام، وقالت له ذلك، فقال: ويلك! ذلك الشيطان أتاك ليفتنني عن ديني. وهذا لعله يدل على أن تحريم الخمر كان من شريعة أيوب، أو أن الأنبياء - عليهم السلام - وإن حلت في شريعة بعضهم كانت محرمة عليهم، أو كانوا يتنزهون عنها لأنها تخامر العقل فتحول بينهم وبين
تلقي الوحي وتبليغه (¬1). روى مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه: أن سويد بن طارق - رضي الله تعالى عنه - سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر يجعل في الدواء، فقال: "إِنَّهَا دَاءٌ، وَلَيْسَتْ بِالدَّوَاءِ" (¬2). وروى أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاء؛ فَتَدَاوَوْا، وَلا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ" (¬3). وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم (¬4). ورواه الطبراني، وابن حبان عن أم سلمة - رضي الله عنها - مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وقالت عائشة: من تداوى بخمر فلا شفاه الله (¬6). ¬
178 - ومنها: الإشارة بترك تغسيل الميت غير الشهيد في المعركة.
178 - ومنها: الإشارة بترك تغسيل الميت غير الشهيد في المعركة. قيل: لمَّا وُضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المغتسل هتف بهم هاتف من وراء البيت: لا تغسلوا محمداً؛ فإنه طاهر مطهر. قال علي رضي الله تعالى عنه: فوقع في قلبي من ذلك شيء، فقلت: ويلك! من أنت؟ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نغسله، وهذه سنة. وإذا بهاتف آخر يهتف بأعلى صوته: غسلوه؛ فإن الهاتف الأول كان إبليس، حسد محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل قبره مغسلاً. قيل له: فمن أنت؟ قال: أنا الخضر. نقله الثعلبي في "العرائس". 179 - ومنها: الرغبة في سكنى بلاد الأشرار، ومحال الفتن، والفرار من مساكن الأخيار، ومحالِّ إقامة السنن وظهور شعائر الإسلام، وحفظ حرمات الملك العلاَّم. روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيْ شَامِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيْ يَمَنِنَا - قالها مِراراً -"، فلمَّا كان في الثَّالثة أو الرَّابعة قالوا: يا رسول الله! وفي عراقنا (¬1)؟ قال: "بِهَا الزَّلازِلُ وَالفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ" (¬2). ¬
وروى الطبراني - قال صاحب "مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام": وإسناده قوي - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دَخَلَ إِبْلِيْسُ الْعِرَاقَ فَقَضَى فِيْهِ حَاجَتَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الشَّامَ فَطَرَدُوْهُ، ثُمَّ دَخَلَ مِصْرَ فَبَاضَ فِيْهَا وَفَرَّخَ وَبَسَطَ عَبْقَرِيَّتَهُ" (¬1)؛ أي: بساطه. وروى الإمام أبو عثمان الصابوني - وذكره عنه ابن رجب في "لطائفه" - أن رجلاً كان أسيراً ببلاد الروم فهرب من بعض الحصون، فقال: كنت أسير بالليل وأكمن بالنهار، فبينا أنا ذات ليلة أمشي بين جبال وأشجار فراعني ذلك، فإذا راكب بعير فازددت رعباً، وذاك أنه لا يكون ببلاد الروم بعير، فقلت: سبحان الله! في بلاد الروم راكب بعير، إنَّ هذا لعجب، فلما انتهى إليَّ قلت: يا عبد الله! من أنت؟ قال: لا تسأل. فآليت عليه، فقال: هو إبليس، وهذا وجهي من عرفات، وافقتهم عشية اليوم، اطلع الله عليهم فنزلت عليهم الرحمة ووهب بعضهم لبعض، فدخلني الهم والحزن والكآبة، وهذا وجهي إلى قسطنطينية، أفرح بها، أسمع الشرك بالله والادعاء أنَّ لله ولداً. فقلت: أعوذ بالله منك، فلما قلت هذه الكلمات لم أر أحداً. ¬
واعلم أن الشياطين لا تتقيد بمكان دون مكان، ولا ببلد دون بلد، بل هي حيث ترى بُغيتها من إضلال العباد، وربما قصدت الأماكن الخالية والمحال المنقطعة رجاء أن تظفر بآدمي تضله أو تؤذيه، ومهما أيست من موضع لعمارته بذكر أو طاعة فربما تحولت منه إلى غيره من محال الفتن وأماكن الشرور رغبة في تحصيل ما ترجوه من الخلق. أمَّا استقرار الشيطان وذريته فروى ابن أبي حاتم، والحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الأَرَضِينَ بَيْنَ كُلِّ أَرْضٍ وَالَّتِيْ تَلِيْهَا خَمْسُ مِئَةِ عَامٍ، فَالْعُليَا مِنْهَا عَلَى ظَهْرِ حُوْتٍ قَدْ الْتَقَى طَرَفَاهُ فِي السَّمَاءِ، وَالْحُوْتُ عَلَى صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ بِيَدِ الْمَلَكِ، وَالثَّانِيَةُ مَسجَنُ الرِّيْحِ، وَالثَّالِثَةُ فِيْهَا حِجَارَةُ جَهَنَّمَ، وَالرَّابِعَةُ فِيْهَا كِبْرِيتُ جَهَنَّمَ، وَالْخَامِسَةُ فِيْهَا حَيَّاتُ جَهَنَّمَ، وَالسَّادِسَةُ فِيْهَا عَقَارِبُ جَهَنَّمَ، وَالسَّابِعَةُ فِيْهَا سَقَرٌ، وَفِيْهَا إِبْلِيْسُ مُصَفَّدٌ بِالْحَدِيْدِ يَدٌ أَمَامَهُ وَيَدٌ خَلْفَهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُسَلِّطَهُ لِمَا شَاءَ أَطْلَقَهُ" (¬1). وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال لابن صياد: "ما تَرى؟ " قال: أرى عرشا على البحر وحوله الحيات. ¬
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَى عَرْشَ إِبْلِيْسَ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَرْشُ الشَّيْطَانِ عَلَى الْبَحْرِ وَيبْعَثُ سَرَايَاهُ؟ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً" (¬2). وروى الطبراني بإسناد جيد، عن أبي ريحانة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ إِبْلِيْسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ فَيتَشَبَّهُ بِاللهِ - عز وجل -، وَدُوْنه الْحُجُبُ، فَيَنْدِبُ جُنُوْدَهُ فَيَقُوْلُ: مَنْ لِفُلانٍ الآدَمِيِّ؟ فَيقُوْمُ اثْنَانِ فَيقُوْلُ: قد أَجَّلْتُكُمَا سَنَةً، فَإِنْ أَغْويتُمَاهُ وَضعْتُ عَنْكُمَا الْبَعْثَ، وإِلاَّ صَلَّبْتكُمَا". قال: فكان يقال لأبي ريحانة: لقد صلب فيك كثير (¬3). وقال الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى: اشتد علي الحر في بعض أسفاري يوما حتى كدت أن أموت عطشًا، فأظلتني سحابة سوداء، وهبَّ عليَّ منها هواء بارد حتى دار ريقي في فمي، وإذا بصوت يناديني منها: يا عبد القادر! أنا ربك، وقد أحللت لك ما حرمت عليك. قال: فقلت له: كذبت، بل أنت الشيطان. ¬
180 - ومن أخلاق الشيطان: الجبن والوهن.
قال: فتمزقت تلك السحابة، وسمعت من ورائي قائلاً يقول: يا عبد القادر! نجوت مني بفقهك في دينك، لقد فَتنتُ بهذه الحيلة قبلك سبعين رجلاً. وقيل للشيخ عبد القادر: كيف عرفت أنه الشيطان؟ قال: لما قال لي: أحللت لك، عرفته؛ لأنه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحليل ولا تحريم. 180 - ومن أخلاق الشيطان: الجبن والوهن. روى البيهقي في "سننه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَحْرِيْكُ الأُصْبُعِ فِيْ الصَّلاةِ مَذْعَرَة لِلشَّيْطَانِ" (¬1). ومن هنا سمي خناساً من: خنس عنه، يخنِس، ويخنُس، خنساً وخنوساً: إذا تأخر كانخنس، وذلك إذا ذكر الله العبد انخنس عن القلب جبناً وفزعاً من الذكر، فإذا ترك العبد الذكر التقم قلبه الشيطانُ. 181 - ومنها: الغباوة، وطلب ما لا يمكن حصوله، والإلقاء باليد إلى التهلكة من غير فائدة معتبرة. روى ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: والذي نفسي بيده ما طلعت شمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك، فيقولون لها: اطلعي اطلعي، فتقول: لا أطلع على قوم يعبدوني من دون الله، ¬
182 - ومنها: أن يسترضى فلا يرضى لما علمت سابقا أنه رأس اللؤماء والخبثاء.
فيأتيها ملك وتستقل لضياء بني آدم، فيأتيها الشيطان يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع بين قرنيه، فيحرقه الله تحتها، وذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا طَلَعَتْ إِلاَّ بَيْنَ قَرْني شَيْطَانٍ" (¬1). وَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَط إِلاَّ خَرَّتْ للهِ سَاجِدَةً، فَيَأْتِيْهَا شَيْطَان يُرِيْدُ أَنْ يَصُدَّهَا عَنِ السُّجُوْدِ، فتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنيهِ، فَيُحْرِقُهُ اللهُ تَحْتَهَا، وذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلا غَرَبَتْ إِلاَّ بَيْنَ قَرْني شَيْطَانٍ" (¬2). 182 - ومنها: أن يُسترضى فلا يرضى لما علمت سابقاً أنه رأس اللؤماء والخبثاء. قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: من استرضي فلم يرض فهو شيطان، ومن استغضب ولم يغضب فهو حمار (¬3). 183 - ومنها: أن يستغضب فلا يغضب لا كرماً ولا حلماً، ولكن وقاحة أو بَلادة. روى أبو نعيم عن الأوزاعي قال: حدثني حسان - يعني: ابن ¬
184 - ومنها: اعتقاد أن له حولا وقوة.
عطية - قال: إن العبد إذا لعن الشيطان ضحك، فقال: إنَّك تلعن ملعَّناً، وإنما يُخذل إن تُعُوِّذ بالله منه (¬1). 184 - ومنها: اعتقاد أن له حولاً وقوة. روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، والطبراني، وصححه الحاكم وغيره، عن أبي المليح بن سلامة، عن أبيه قال: كنت رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعتر بعيرنا، فقلت: تعس الشيطان. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "لا تَقُلْ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ؛ فَإِنَّهُ يَعْظُمُ حَتَّى يَصِيْرَ مِثْلَ الْبَيْتِ، وَيقُوْلُ: بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ قُلْ: بِسْمِ اللهِ؛ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَصَاغَرَ حَتَّى يَصِيْرَ مِثْلَ الذِّبَابِ" (¬2). 185 - ومنها: الإصرار على المعصية، كما تقدمت الإشارة إليه أول الباب. ¬
روى ابن أبي الدنيا: أن إبليس قال: يا رب! أعفني من السجود لآدم أعبدْك عبادة ما عبدكها أحد من خلقك. فقال الله تعالى: إنما أطاع من حيث عصيت. وقد قدمنا عن حجة الإسلام أنه ذكر أثراً: أنَّ إبليس استشفع بموسى - عليه السلام - أن يتوب، فدعا موسى ربه، فقال الله تعالى له: قد قضيت حاجتك؛ فليسجد لقبر آدم على آدم السلام. فلمَّا قال ذلك لإبليس استكبر وغضب، وقال: أنا لم أسجد له حياً، أأسجد له ميتاً؟ رواه ابن أبي الدنيا بلفظه المتقدم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "المكائد" أيضاً عن أبي العالية رحمه الله تعالى قال: لما رست السفينة رأى نوح - عليه السلام - إبليس على الكوثل، فقال نوح عليه السلام: أهلكت الناس غرقوا من أجلك. قال: فما تأمرني؟ قال: تتوب. قال: وهل لي من توبة؟ ادع ربك. قال: فدعا نوح - عليه السلام - ربه، فأوحى الله تعالى إليه أن توبته أن يسجد لقبر آدم. ¬
186 - ومنها: القعود على طريق المخلصين ليمنعهم من الإخلاص.
فقال له نوح عليه السلام: قد جعلت لك توبة. قال: وما هي؟ قال: تسجد لقبر آدم. قال: أنا لم أسجد له حياً، فكيف أسجد له ميتاً؟ (¬1) وروى ابن المنذر في "تفسيره" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: إن نوحاً لما ركب السفينة أتاه إبليس، فقال له نوح عليه السلام: من أنت؟ قال: أنا إبليس. قال: فما جاء بك؟ قال: جئت لتسأل لي ربي هل لي من توبة؟ فأوحى الله تعالى إليه أن توبته أن يأتي قبر آدم عليه السلام، فيسجد له. قال: أنا لم أسجد له حياً، أسجد له ميتاً؟ قال: فاستكبر، وكان من الكافرين (¬2). 186 - ومنها: القعود على طريق المخلصين ليمنعهم من الإخلاص. وبه فسر قوله تعالى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] ¬
وعباد الله متى صدقوا في الإخلاص، ورسخوا في مقامه تسوَّروا منه بسُوره المشار إليه بقوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40]، وقُرِئَ بكسر اللام وفتحها (¬1)، فمن استخلصه الله تعالى من يدي عدوه الشيطان بإقراره في مقام الإخلاص فقد نجا من الشيطان. واعلم أنه لا يهتم بإضلال أحد ما يهتم بإضلال من توجَّه إلى جهة الإخلاص. قال الإمام أبو طالب المكي في "قوت القلوب": وقد حدثونا في الإسرائيليات: أن عابداً كان يعبد الله - تبارك وتعالى - دهراً طويلاً، فجاءه قوم فقالوا: إنَّ هاهنا قوما يعبدون شجرة من دون الله تعالى، فغضب لذلك، فأخذ فأسه على عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها، فاستقبله إبليس في صورة شيخ، فقال: أين تريد رحمك الله تعالى؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله تعالى. قال: وما أنت وذاك؟ تركت عبادتك والاشتغال بنفسك، وتفرغت لغير ذلك؟ فقال: إنَّ هذا من عبادتي. قال: فإني لا أتركك تقطعها. قال: فقاتله، فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض، وقعد إلى صدره. ¬
فقال له إبليس: أفلتني حتى أكلمك. فقام عنه، فقال له إبليس: يا هذا! إن الله - تبارك وتعالى - قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك، أنبيٌّ أنت؟ قال: لا. قال: فلا عليك بمن كان يعبدها، فلو اشتغلت بعبادتك وتركتها، فإن لله - عز وجل - في أرضه أنبياء لو شاء لبعثهم إلى أهلها وأمرهم بقطعها. قال العابد: لا بد لي من قطعها. قال: فنابذه إبليس القتال، فغلبه العابد، فأخذه وصرعه، وقعد على صدره. فلمَّا رأى إبليس أنه لا طاقة له به ولا سلطان له عليه قال: يا هذا! هل لك في أمر هو خير لك وأنفع من هذا الأمر التي جئت بطلبه؟ قال: وما هو؟ قال: أنت رجل فقير لا شيء لك، إنما أنت كَلٌّ على الناس. قال: نعم. قال: فارجع عن هذا الأمر ولك والله عليَّ أن أجعل عند رأسك في كل ليلة دينارين، إذا أصبحت أخذتهما وصنعت بهما ما شئت، وأنفقت على نفسك وعيالك، وتصدقت على إخوانك، فيكون ذلك أفضل وأنفع للمسلمين من قطع الشجرة التي يغرس مكانها، ولا يضرهم قطعها شيئاً، ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطْعك لها.
187 - قلت: وفي هذا الأمر إشارة إلى أن من أعمال الشيطان الرجيم: الرشوة على منع الحق
قال: فتفكر العابد فيما قال له، فقال: صدق الشيخ، لست بنبي فيلزمني قطع هذه الشجرة، ولا أمرني الله تعالى أن أقطعها فأكون قد عصيت بتركها، وماذا يضر الموحِّدين من عبادتها، وهذا الذي ذكره أكثر منفعة. قال: فعاهده على الوفاء بذلك، فحلف له، ورجع العابد إلى متعبده فبات، فلما أصبح رأى دينارين عند رأسه، وكذلك رأى في الغد، ثم أصبح في اليوم الثالث وما بعده ولم ير عند رأسه، فغضب، فأخذ الفأس على عاتقه وقصد الشجرة، فاستقبله إبليس في صورة الشيخ، فقال له: إلى أين؟ قال: أقطع تلك الشجرة. قال: ما أنت بقادر على ذلك. فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أول مرة، فقال إبليس: هيهات! فأخذه وصرعه، فإذا هو كالعصفور بين رجليه، وقعد إبليس على صدره، وقال: لتنتهين عن قطع هذه الشجرة أو لأذبحنك، فنظر العابد فإذا لا طاقة له به، فقال: يا هذا! غلبتني فخلِّ عني، وأخبرني بأمرك. قال: إنك غلبتني أول مرة لأنك غضبت لله فلم أقدر عليك، وهذه المرة غضبت لنفسك فصرعتك (¬1). 187 - قلت: وفي هذا الأمر إشارة إلى أن من أعمال الشيطان الرجيم: الرشوة على منع الحق، وهي تُعْوِرُ عينَ الحكيم، وتطمس ¬
قلب العليم، وهي من أشد ما يحيل القلوب ويحولها عن الحق، وقد فشا الرشا الآن في الناس فأعمتهم عن الحق، وقرت لهم عين الشيطان؛ لا أقر الله عينه ولا أعين الراشين والمرتشين. وليكن هذا آخر ما نذكره من أخلاق الشيطان. واعلم أن مقصود الشيطان من كل أحد أن يكون شيطاناً مثله ليكون معه في النار كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]. فأول ما يهون عليه صغائر الذنوب ومحقرها عنده، ويصغر عقابها في رأيه حتى يرتكبها، ثم يوسوس إليه بالتأويلات في ارتكابها مرة بعد أخرى حتى يُصِرَّ، ثم يستدرجه إلى ارتكاب الكبائر حتى ينزع عنه ثوب الحياء، ثم يلقي القسوة في قلبه حتى يكون صَلداً جُلموداً، ثم شيطاناً مَريداً. كما روى الإمام الحافظ أبو القاسم زاهر بن طاهر في "خماسياته"، وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ مَا يَنْزِعُ اللهُ تَعالَى مِنَ الْعَبْدِ الْحَيَاءُ، فَيَصِيْرُ مَقَّاتاً مُمقتًا، ثُمَّ يَنْزِعُ مِنْهُ الأَمَانة فَيَصِيْرُ خَائِنًا مخوناً، ثُمَّ يَنْزِعُ مِنْهُ الرَّحْمَةَ فَيَصِيْرُ فَظًّا غَلِيْظًا، وَيخْلَعُ دِيْنَ الإِسْلامِ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ فَيَصِيْرُ شَيْطَاناً مَرِيْدًا، لَعِيْنا مَلْعُوْنًا مُلَعَّناً" (¬1). ¬
واعلم أن الصادق المصدوق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن من أمارات الساعة أن ينزع من الناس الخشوع والحياء والأمانة، وأخبر في هذا الحديث أن انتزاع هذه الأخلاق الكريمة من المرء تزيد الشيطنة والتمرد، فإذا نزعت هذه الأمور من الناس فإن أمرهم يؤول إلى أن يكونوا شياطين لتقوم عليهم الساعة؛ فمن الشياطين هم شرار الخلق، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق. وقد روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيَجِيْءُ أَقْوَامٌ فِيْ آخِرِ الزَّمَانِ وُجُوْهُهُمْ وُجُوْهُ الآدَمِيِّيْنَ، وَقُلُوْبُهُمْ قُلُوْبُ الشيَاطِيْنِ، لا يَنْزِعُوْنَ عَنْ قَبِيْحِ؛ إِنْ تَابَعْتَهُمْ وارَبوْكَ، وإِنْ تَوَاريتَ عَنْهُمُ اغْتابُوْكَ، وإنْ حَدَّثُوْكَ كَذبُوْكَ، وإِنِ ائتمَنْتَهُمْ خَانُوْكَ، صَبِئهُمْ عَارِمٌ، وَشَابُّهُمْ شَاطِرٌ، وَشَيْخُهُمْ لا يَأْمُرُ بِمَعْرُوْفٍ وَلا يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ، الاعْتِزَازُ بِهِمْ ذُلٌّ، وَطَلَبُ مَا فِيْ أَيْدِيْهِمْ فَقْرٌ، الْحَكِيْمُ فِيْهِمْ حَيْرَانُ، وَالآمِرُ فِيْهِمْ بِالْمَعْرُوْفِ مُتَّهَم، وَالْمُؤْمِنُ فِيْهِمْ مُسْتَضْعَفٌ، وَالْفَاسِقُ فِيْهِمْ مُشَرَّفٌ، السُّنَّةُ فِيْهِمْ بِدْعَة، وَالْبِدْعَةُ فيْهِمْ سُنَّة، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَلِّطُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ، وَيَدْعُو خِيَارُهُم فَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ" (¬1). وقوله: "إِنْ تابَعْتَهُمْ واربوكَ" - بالراء، والموحدة -: من المواربة، وهي المداهاة والمحاتلة والتوريب. ¬
وقد يراد بالمواربة معناه: أن توري عن الشيء بالمعارضات المباحات. والعارم: من عرم الصبي علينا: أشر، أو: مرح، أو: بطر، أو: فسد. والشاطر: الذي أعيى أهله خبثاً، وقد شَطرَ - كنَصَر وكَرُمَ - شطارةً فيهما. وأخرج الأصبهاني هذا الحديث في "الترغيب"، ولفظه: "يَكُوْنُ فِيْ آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَكْثَرُ وُجُوْهِهِمْ وُجُوْهُ الآدَمِيِّينَ، وَقُلُوْبُهُمْ قُلُوْبُ الشَّيَاطِيْنِ، أَمْثَالُ الذِّئَابِ الضَّوَارِي، لَيْسَ فِي قُلُوْبِهِم شَيْءٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، سَفَّاكِيْنَ لِلدِّمَاءِ، لا يَرْعَوُنَّ عَنْ قَبِيْحٍ، إِنْ تَابَعْتَهُمْ وارَبُوْكَ، وإِنْ تَوَاريتَ عَنْهُمُ اغْتَابُوْكَ، وإِنْ حَدَّثُوْكَ كَذَبُوْكَ، وإِنِ ائتمَنْتَهُمْ خَانُوْكَ، صَبِيُّهُمْ عَارِمٌ، وَشَابُّهُمْ شَاطِرٌ، وَشَيْخُهُمْ لا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوْفِ وَلا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، الاعْتِزَازُ بِهِمْ ذُلٌّ، وَطَلَبُ مَا فِيْ أَيْدِيْهِمْ فَقْرٌ، الْحَكِيْمُ فِيْهِمْ غَاوٍ، وَالآمِرُ فِيْهِمْ بِالْمَعْرُوْفِ مُتَّهَمٌ، وَالْمُؤْمِنُ فِيْهِمْ مُسْتَضْعَفٌ، وَالسُّنَّةُ فِيْهِمْ بِدْعَةٌ، وَالْبِدْعَةُ فِيْهِمْ سُنَّة، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ، فَيَدْعُو خِيَارُهُمْ فَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ". وأخرجه الخطيب بنحوه من حديث ابن عباس، وقال: "وذُو الأَمْرِ فِيْهِمْ غَاوٍ" موضعَ قوله: "الْحَكِيْمُ فِيْهِمْ غَاوٍ" (¬1). والغاوي: الضال، أو الشيطان؛ ففي "القاموس": {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]؛ أي: الشياطين (¬2). ¬
وهذا التفسير أخرجه المفسرون عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، ومجاهد (¬1). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن حذيفة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَتَكُونُ أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَتَكُونُ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي صُوْرَةِ إِنسان". قال حذيفة: كيف أصنع إن أدركني ذلك؟ قال: "اسْمَعْ لِلأَمِيْرِ الأَعْظَمِ وإنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ" (¬2). وروى أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تُشَارِكُهُمُ الشَّيَاطِيْنُ فِيْ أَوْلادِهِمْ". قيل: وكائنٌ ذلك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "نعمْ". قالوا: وكيف نعرف أولادنا من أولادهم؟ قال: "بِقِلَّةِ الْحَيَاءِ وَقِلَّةِ الرَّحْمَةِ" (¬3). ¬
فَصْلٌ واعلم أنه لا سبيل للشيطان عليك إلا من قبل نفسك وهواك، فمهما لم تَتْبع هوى نفسك أنقذك الله من الشيطان. ومن ثم قال مالك بن دينار: مَنْ غَلَب شهوات نفسه فذلك يَفْرَقُ الشيطان من ظله؛ كما رواه ابن الجوزي في كتاب "ذم الهوى" (¬1). ومهما اتبعت هواك أخذك الشيطان بنفسك ودخل عليك بك. قال الله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. ولا شك أنَّ من ضلَّ عن سبيل الله وقع في أحد طرق الشيطان، كما بيَّناه لك فيما تقدم. وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. ومن ثم قال بعض العارفين: شيطانك نفسك؛ فإذا أفنيتها فلا ¬
شيطان لك، أو لا مدخل للشيطان عليك إلا بها. وصدقَ؛ فإن الشيطان لو كان له مدخل على الإنسان من غير جهة نفسه لم يضره دخوله؛ لأن العبد لا يؤاخذ بذنب غيره {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]، ولذلك قال الله تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، ولم يقل: منك وممن أغويت؛ إشارة إلى أنَّ استحقاقهم للعذاب إنما هو سبب اتباعهم للشيطان واقترافهم للعصيان، لا بسبب الإغواء، بدليل أنه لو تجرد الإغواء عن التبعية منهم فإنه لا يضرهم، ولذلك يقول لهم يوم القيامة: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22]. روى ابن المبارك في "الزهد والرقائق"، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وغيرهم بسند ضعيف، عن عقبة بن عامر - رضي الله تعالى عنه - في حديث الشفاعة: أن الكفار يقولون يوم القيامة: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا، فيأتونه فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا؛ فإنك قد أضللتنا. فيقوم، فيثور من مجلسه أنتن من ريحٍ شمَّها أحدٌ، ويقول عند ذلك: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ}
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]. (¬1). وروى ابن المبارك في "رقائقه" عن يزيد بن قسيط رحمه الله تعالى قال: كانت الأنبياء يكون لهم مساجد خارجة من قراهم، فإذا أراد أحدهم شيئاً خرج فصلى في مسجده ما كتب الله له، ثم يسأل ما بدا له، فبينا نبي في مسجده إذ جاء عدو الله حتى جلس بينه وبين القبلة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فكان ذلك ثلاث مرات. فقال له عدو الله: أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ فقال له النبي عليه السلام: أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم؟ فأخذ كل منهما على صاحبه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه السلام: إن الله تعالى يقول: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]. قال عدو الله: لقد سمعت هذا قبل أن تولد. قال النبي: يقول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]؛ فإني والله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك. قال عدو الله: صدقت بهذا تنجو مني. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم؟ ¬
قال: آخذه عند الغضب، وعند الهوى (¬1). واعلم أن الإنسان مهما كان عقله حاكمًا على مدينة إنسانيته، مَلَكَ نفسه عند الغضب والهوى فنجا من الشيطان، وإلا فإن استرسل به غضبه وتابع هواه تابع شيطانه - شاء ذلك أم كره - فمخالفة الشيطان لا تتم إلا بمخالفة النفس، ومهما خالفت النفس فقد خالفت الشيطان، ولذلك قدم البوصيري الأمر بمخالفة النفس على الأمر بمخالفة الشيطان في قوله: [من البسيط] وَخالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطانَ وَاعْصِهِما ... وإِنْ هُما مَحَّضاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ وَلا تُطِعْ مِنْهُما خَصْمًا وَلا حَكَماً ... فَأَنْتَ تَعْرِفُ كَيْدَ الْخَصْمِ وَالْحَكَمِ وأنشد حجة الإسلام الغزالي في "منهاج العابدين": [من البسيط] إِيَّاكَ نَفْسَكَ لا تَأْمَنْ غَوائِلَها ... فَالنَّفْسُ أَخْبَثُ مِنْ سَبْعِيْنَ شَيْطانا واعلم أنَّ النفس لا تكون نفسًا مذمومة إلا باتباع الهوى، فبه تكون أمَّارة بالسوء، ومسؤولة، ومطوعة. وإنما أطلق جماعةٌ من العلماء والعارفون من الصوفية في مقام ¬
الذم والتحذير منها على الموصوفة بذلك، وما زال الصالحون على اتهام نفوسهم لهذه الأوصاف، وإنما كان الغالب عليهم الخير؛ لئلا يستحسنوا من أوصافها شيئاً فتميل إليه فتعبد نفسها من دون الله تعالى. وقد تكلمنا على النفس والتحذير منها في "منبر التوحيد" ما ليس عليه مزيد. وقد أحببت أن أورد في هذا المقام قصيدة حافلة رأيتها بخط بعض العلماء منسوبة إلى الإمام الغزالي حجة الإسلام رضي الله تعالى عنه، وهي غريبة في هذا الباب هي: [من المنسرح] مَا بَال نَفسِي تُطيلُ شَكواها ... إِلَى الورى وَهِي ترتجي الله تعُدُّ إصلاحها شِكايتَها ... ذَاك الَّذِي رَابَها وَأَرداها لَو أَنَّهَا من مليكها اقْتَرَبت ... وَأَخْلَصتْ وِدَّها لأدْناها لَكِنَّهَا آثرت بريَّتَه ... عَلَيْهِ جهلًا بِهِ فَأَقصاها أَفقَرَها لِلوَرَى وَلَو لَجَأَت ... إلَيهِ مِن دُونهم لأَغناها لَو فَوَّضت أمرهَا لِخَالقها ... وَصحَّحت صِدقهَا وتُكلاها عوضهَا من همُومها فَرَجًا ... وَلم يَدعهَا لِطُول غَيَّاها تُسخِّطُه فِي رضَى بَرِيَّتِهِ ... تَبًّا لَهَا مَا أجل بلواها لَو أَنَّهَا للعباد مُسخِطةٌ ... مُرضيةٌ لِرَبِّهَا لأَرضاها
لدي نفس أحب أنعتها ... لتعلموا نعتها وأسماها فاسمع صفاتي لَهَا لَعَلَّك أَن ... تفهم ذَا اللب سر مَعْنَاهَا تسْعَى إِلَى اللَّهْو وَهُوَ غايتها ... يَا وَيْلَهَا مَا أضلَّ مسعاها أَزْجُرُها وَهِي لِي مُخَالفَةٌ ... كأنني لست من أوداها قد ظلمتني بِسوء عشرتها ... وَلم تدع لي تقوى وَلَا جاها كَثِيرَة اللَّهْو فِي مجالسها ... قَليلَة الذِّكر فِي مُصلاها قَليلَة الشُّكْر عِنْد نعمتها ... ضَعِيفَة الصَّبْر عِنْد بلواها كثيرة المَنِّ في مواعدها ... كذوبة في جميع دعواها بصيرة بالهوى وفتنتها ... عمية عن أمور أخراها نشيطة عند وقت لذتها ... كسْلانَةٌ عند وقت ذكراها نَوَّامة العين عن عِبادَةِ مَنْ ... أتقن تصويرها وسواها عظيمة المَّن والثَّناءِ لمن ... رفع مقدارها وأطرافها مطيلة الذم بالقبيح لمن ... عرفها قدرها وخطواها ذاكرة للورى مساويهم ... ناسية ما جنته كفَّاها كم بين نفسي ونفس فَتًى ... طهَّرها بالتُّقى وزكَّاها أقامها في الدجى على قدم ... فانهملت بالدموع عيناها إذا اشتهت شهوة توعَّدَها ... خوف معبودها فسوَّاها
ذاكرة للإله شاكرةً ... مخلصة سرَّها ونَجْواها شرفها رَبهَا وكرمها ... وَمن مياه الْيَقِين روَّاها سمت اليه بِحسن سيرتها ... ثمَّ صفا ودُّها فصافاها تِلْكَ الَّتِي إِن دعت بحاجتها ... أجابها مسرعا ولبَّاها ليست كنفس لديَّ عاصية ... ويلٌ لما قد جنت وويلاها كيف إلى ربها تنيب وقد ... زلَّت لشيطانها فأغواها لو تعرف الله حق معرفة ... لصححت برها وتقواها لَكِنَّما جَهْلُها بِخالِقِها ... أَغْفَلَها رُشْدها وَألهاها صِرْتُ مَعَ النَّفْسِ فِي مُجاهَدَةٍ ... تَأْمُرُنِي بِالْهَوى وَأَنْهاهَا أَصْرَعُها تَارَةً وَتَصْرَعُنِي ... لَكِنْ لَها السَّبْقُ عِنْدَ لُقْياها عَدَوَّة لا أُطِيْقُ أُبْغِضُها ... يا لَيْتَنِي أَسْتَطِيع أَنْساها أَحْسِبُها إِنْ أَبَتْ مُوافَقَتِي ... خاسِرَةً دِيْنَها وَدُنْياهَا يا رَبِّ عَجِّلْ لَها بِتَوْبَتِها ... وَاغْسِلْ بِما الْتَقَى خَطاياها إِنْ تَكُ يا سَيِّدِي مُعَذِّبَها ... مَنْ ذا الَّذِي يُرْتَجَى لِرُحْماها (¬1) - روى الديلمي - قال الحافظ زين الدين العراقي، وإسناده جيد - عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَرَادَ اللهُ ¬
بِعَبْدِهِ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَاعِظًا مِنْ قَلْبِهِ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: كنَّا نتحدث أن العبد إذا أراد الله به خيراً جعل له زاجراً من نفسه يأمره بالخير وينهاه عن المنكر (¬2). وقال بعض العارفين: من لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ. وقال أبو مدين رحمه الله تعالى: كل قلب ليس له واعظ من نفسه فهو خراب. وروى الحكيم الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ، وَعَصَمَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ: مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ حِيْنَ يَرْغَبُ، وَيرْهَبُ، وَحِيْنَ يَشْتَهِي، وَحِيْنَ يَغْضَبُ" (¬3). واعلم أن الشهوات في هذه الدنيا مؤذِنةٌ بما في الجنة من الملاذِّ والنعيم ليرغب فيها ويتطلب، وفاتنةٌ لمن أبعده الله تعالى حتى يخرج من دار القرب - أعني: الجنة - بطريق، ويحاد به عنها بحجة بينة، ولله الحجة البالغة. ¬
فمن فهم هذا المعنى فمهما عرضت له شهوة من الدنيا اعتبر ما في الجنة من نوعها مع النزاهة والدوام، ثم تناول منها ما يزيل عنه ضرورة البشرية، وأمسك عن الاسترسال خشية من الفتنة والهلاك؛ إذ من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر - كما في الحديث المتقدم - واستحضر الخوف من أن يحال بينه وبين الشهوة في دار الآخرة بسبب الاسترسال في تناولها في الدنيا كما قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54]. وقد روى النسائي، والحاكم وصححه على شرطهما، عن عقبة ابن عامر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمنع أهله الحلية والحرير، ويقول: "إِنْ كُنتمْ تُحِبُّوْنَ حِلْيَةَ الْجَنَّةِ وَحَرِيْرَهَا فَلا تَلْبَسُوهُمَا فِي الدُنْيَا" (¬1). وصحح على شرطهما أيضاً عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: استأذن سعد - رضي الله تعالى عنه - على ابن عامر، وتحته مرافق من حرير، فأمر بها فرفعت، فدخل عليه وعليه مطرف من خز، فقال له: استأذنت وتحتي مرافق من حرير، فأمرت بها فرفعت. فقال: نِعْمَ الرجل أنت يا ابن عامر، إن لم تكن ممن قال الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]، والله لأن اضطجع ¬
على جمر الغضا أحب إليَّ من أن أضطجع عليها (¬1). وروى الإمام مالك رحمه الله تعالى عن يحيى بن سعيد: أن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنهما جاء (¬2) ومعه حامل لحم، فقال عمر: أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه لجاره وابن عمه؟ فأين تذهب عنكم هذه الآية {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] (¬3)؟ وهذه الآية - وإن كانت في الكفار - فقد يخشى ما فيها على المنهمكين في الطيبات من المسلمين كما فهمه عمر وسعد رضي الله تعالى عنهما بأن يسترسلوا في الشهوات المباحة، بحيث إنه كلما أجاب نفسه إلى واحدة دعته إلى أخرى، فيصير إلى أنه لا يمكنه عصيان نفسه في هوى، وينسد عنه باب العبادة التي ثوابها طيبات الجنة، وينفتح له باب المعصية التي عقابها حرمان الطيبات، والنزول من الدرجات إلى الدركات، فلا يبعد أن يقال له والعياذ بالله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف: 20]. وقد نبَّهَ على ذلك الحليمي في "منهاجه"، وغيره (¬4). وروى ابن أبي حاتم في "تفسير" عن أبي الأشعث رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى داود - عليه السلام - أن القلوب ¬
المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة (¬1). وقال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. قال ابن مسعود - رضي الله عنه - في الآية: ليس إضاعتها تركها؛ قد يضيع الإنسان الشيء ولا يتركه، ولكن إضاعتها إذا لم يصلها لوقتها. أخرجه عبد بن حميد (¬2). وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سَيَهْلَكُ مِنْ أُمَّتِي أَهْلُ الْكِتَابِ وَاللّيْنِ". قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! ما أهل الكتاب؟ قال: "قَوْمٌ يَتَعَلَّمُوْنَ الْكِتَابَ يُجَادِلُوْنَ بِهِ الَّذِيْنَ آمَنُوْا". قلت: وما أهل اللين؟ قال: "قَوْمٌ تتَّبِعُوْنَ الشَّهَوَاتِ، وَيُضَيِّعُوْنَ الصَّلَوَاتِ" (¬3). وقوله: وأضاعوا الصلوات؛ أي: وغيرها من الطاعات، وإنما اقتصر على الصلاة لأنها عماد الدين، وإذا ضيَّعها العبد فهو لغيرها أكثر إضاعة. ¬
وقد روى الإمام أحمد، والطبراني، والحاكم، والبيهقي عن شدَّاد بن أوس رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أتخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ". قلت: أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: "نَعَمْ، أَمَا إِنَّهُمْ لا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلا قَمَراً، وَلا حَجَرًا وَلا وَثَنا، وَلَكِنْ يُرَاءُونَ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ". قلت: يا رسول الله! فما الشهوة الخفية؟ فقال: "يُصْبحُ أَحَدُهُمْ صَائِمًا، فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَة مِنْ شَهَوَاتِهِ، فَيترُكُ صَوْمَهُ، ويُوَاقِعُ شَهْوَتَهُ" (¬1). وروى سعيد بن منصور، والطبراني، والحاكم وصححه، والمفسرون عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]؛ قال: الغي: نهرٌ، أو وادٍ في جهنم من قيح، بعيدُ القعر، خبيثُ الطعم، يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات (¬2). وقال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الأعراف: 169]؛ يعني: حطام الدنيا، وهو من الدنو أو من ¬
الدناءة، {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: 169]. ولعل هذه الآية في علماء السوء خاصة من أهل الكتاب وهذه الأمة؛ بدليل قوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169]. سئل ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - عن هذه الآية قال: أقوام يقبلون على الدنيا يتأكلونها، ويتبعون رخص القرآن، ويقولون: سيغفر لنا، ولا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه، وقالوا: سيغفر لنا. رواه أبو الشيخ (¬1). وروى هو عن أبي الجَلْد رضي الله تعالى عنه قال: يأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن، وتتهافت وتبلى كما تبلى ثيابهم، لا يجدون له حلاوة ولا لذاذة، إن قصَّروا عما أمروا به قالوا: إن الله غفور رحيم، وإن عملوا ما نهوا عنه قالوا: سيغفر لنا؛ إنا لا نشرك بالله شيئاً، أمرُهم كله طمع ليس فيه خوف، لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في نفسه المُدهن (¬2). وقال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]؛ أي: محنة ممتحنون بهما، أو مضلات لكم لا ينجيكم منها إلا ابتغاء ما عند الله ¬
وإيثاره عليهم. ولذلك قال الله تعالى: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 15، 16]. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف: 46]. قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إنما سمي المال لأنه يميل بالناس، وسميت الدنيا لأنها دنت. رواه ابن أبي حاتم، والخطيب (¬1). قلت: ويحتمل أنه سمي مالاً لأنه يميل عن الناس كما يميل بهم. وفي الحديث: "لِكُلِّ أُمَّةِ فِتْنةٌ، وفِتْنةُ أُمَّتِي الْمَالُ". رواه ابن مردويه عن عبادة بن الصامت، وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهم، وعن كعب بن عياض - رضي الله عنه -، ولفظه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةِ فِتْنةٌ، وفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ" (¬2). وفي نفس الأمر فالمال يجمع الفتنة، وبه تحصل كل زينة في الدنيا ومتاع؛ من مطعم أو مشرب، أو ملبس، أو مسكن، أو خادم، أو مركب، أو منكح، أو غير ذلك. وروى الإمام أحمد في "الزهد"، والبيهقي في "الشعب" عن ¬
سفيان بن سعيد رحمه الله تعالى قال: كان عيسى عليه السلام يقول: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير. قالوا: وما داؤه؟ قال: لا يسلم صاحبه من الفخر والخيلاء. قالوا: فإن سلم؟ قال: يشغله إصلاحه عن ذكر الله تعالى (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن وهيب المكي رحمه الله تعالى قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال: أصل كل خطيئة حب الدنيا، ورب شهوة أورثت أهلها حزناً طويلاً (¬2). وروى ابن عساكر عن يحيى بن سعيد رحمه الله تعالى قال: كان عيسى عليه السلام يقول: اعبروا الدنيا ولا تعمروها، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، والنظر يزرع في القلب الشهوة (¬3). وفي ذلك إشارة إلى أن الدنيا مفتنة ولو بمجرد النظر إليها من غير ملك لها ولا تمتع بها، ومن ثم كان عيسى عليه السلام يقول: جودة الثياب من خيلاء القلب. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد ¬
الزهد" عن ابن شوذب (¬1). وفي جودة الثياب نعيم الجسد ونعيم البصر، ومن هنا تعجب ابن آدم وهي على غيره كما تعجبه وهي عليه، فيتولد من النظر إليها على غيره الحسد، وعلى نفسه العجب. وروى عبد الله في "زوائد الزهد" أيضًا عن عمران بن سليمان رحمه الله تعالى قال: بلغني أن عيسى بن مريم عليهما السلام قال: يا بني إسرائيل! تهاونوا بالدنيا تَهُنْ عليكم، وأهينوا الدنيا تكرم الآخرة عليكم، ولا تكرموا الدنيا فتهون الآخرة عليكم؛ لأن الدنيا ليست بأهل الكرامة، وكل يوم تدعو للفتنة والخسارة (¬2). وحقيقة فتنة المال والولد أن يمنعا العبد من طاعة الله، أو يبعثاه على معصية الله تعالى، وهما معرضان إلى كل بلاء وعناء في الدنيا والآخرة. وقد روى الإمام أحمد، وأصحاب "السنن الأربعة" عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فأقبل الحسن والحسين - رضي الله تعالى عنهما - عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المنبر، وحملهما واحداً من ذا الشق, وواحداً من ذا الشق، ثم صعد المنبر، وقال "صَدَقَ الله؛ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ} [التغابن: 15] ¬
فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] , إِنِّيْ لَمَّا نظَرْتُ إِلَى هَذِيْنِ الْغُلامَيْنِ يَمْشِيَانِ وَيعْثُرَانِ لَمْ أَصْبِرْ أَنْ قَطَعْتُ كَلامِيَ وَنزَلْتُ إِلَيْهِمَا" (¬1). وفي رواية ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَاتَلَ اللهُ الشَّيْطَانَ؛ إِنَّ الْوَلَدَ لَفِتْنَةٌ، وَالَّذِي نَفْسِيْ بِيَدِهِ مَا دَرِيْتُ أنِّي نزلْتُ عَنْ مِنْبَرِي" (¬2). وفي قوله تعالى في الآية: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} تهييجٌ، وإرشاد إلى طلب ما عنده بالإعراض عما به الفتنة، ولذلك أعقبه بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وهذا من لطفه سبحانه وتعالى بالمؤمنين؛ إذ لم يكلفهم فوق استطاعتهم من تقواه؛ قال: {وَاسْمَعُوا} أي: الأمر والنهي، {وَأَطِيعُوا}؛ أي: بالائتمار والانتهاء، {وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16]؛ وفيه إشارة إلى أن الافتتان بالدنيا يكون من قِبَل شح النفس، فالفتنة من النفس في نفس الأمر. قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] أمر بالإعراض عن زهرة الدنيا وزينتها مخافة الفتنة. وقال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]. ¬
قال الحسن رحمه الله تعالى: أشد للدنيا تركاً (¬1). وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: أزهد في الدنيا (¬2). رواهما ابن أبي حاتم. وروى هو وابن جرير، والحاكم في "تاريخه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية " {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لنبلوهم أيهم أحسن عقلاً، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله (¬3). وقال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]. ولا شك أن قوله تعالى: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} تحريضٌ على استبدال ما عنده - سبحانه وتعالى - من اللذات الحقيقية الأبدية ¬
بالشهوات الفانية الدنيوية. ثم قرر ذلك بقوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15] قال قتادة رحمه الله تعالى: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - كان يقول: اللهم زينت لنا الدنيا، وأنبأتنا أن ما بعدها خير منها، فاجعل حظنا في الذي هو خير وأبقى. رواه ابن أبي حاتم، وغيره (¬1). وفيه: أنَّ المزين هو الله تعالى. وقال الحسن في الآية: زينها الشيطان. رواه ابن أبي حاتم (¬2). ودليل الأول: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4]. ودليل الثاني: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [العنكبوت: 38]. والأول حقيقة، والثاني مجاز. هذا مذهب أهل السنة، وعكس ذلك المعتزلة. ومعنى تزيين الله تعالى أعمالهم لهم: أنه جعلها مشتهاة للطبع، محبوبة للنفس. ومعنى تزيين الشيطان لهم أعمالهم: تحسينها في أعينهم، وتزيين رأيهم فيها بما يوسوسه في صدورهم. ¬
وقال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17]. وكان ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - يقرؤها: بل تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة. كما رواه عبد بن حميد (¬1). وروى ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في "الشعب" عن عرفجة الثقفي رحمه الله تعالى قال: استقرأت ابن مسعود - رضي الله عنه -: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، فلمَّا بلغ {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16] ترك القراءة، وأقبل على الصحابة، فقال: آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا لأنا زاينا زينتها ونساءها، وطعامها وشرابها، وزويت عنا الآخرة، فاخترنا العاجل وتركنا الآجل (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن أنس منه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ تَمْنعُ الْعِبَادَ مِنْ سَخَطِ اللهِ مَا لَمْ يُؤْثِرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى دِيْنِهِم، فَإِذَا آثَرُوْا دُنْيَاهُمْ ثُمَّ قَالُوا: لا إِلَهَ إِلا اللهُ قَالَ اللهُ: كَذَبْتُم" (¬3)؛ أي: في دعواكم لأن قولكم خالف حالكم. وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ ¬
الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 39 - 41] والمراد نهي النفس عن الهوى المخالف للحق، فإذا كان موافقاً للحق كان حرياً بالاتباع لا من حيث إنه هوى، بل من حيث إنه مأمور به. وقد روى الإمام الزاهد نصر المقدسي رحمه الله تعالى في "حجته" - بإسناد صحيح كما قال النووي رحمه الله تعالى - عن عبد الله ابن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يَكُوْنَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ" (¬1). وحكي عن المأمون أنه كان يقول: أطيب الطيبات الحق إذا وافق الهوى. ومن لطائف الآثار: ما رواه ابن الجوزي في "ذم الهوى" عن حسن الأسدي رحمه الله تعالى قال: كان عبد الله بن حسن بن حسين - رضي الله تعالى عنهم - يطوف بالبيت، فنظر إلى امرأة جميلة، فمشى إلى جانبها، ثم قال: [من البسيط] أَهْوَى هَوَى الدِّيْنِ وَاللَّذَّاتُ تُعْجِبُني ... فَكَيْفَ لِي بِهَوَى اللَّذَّاتِ وَالدِّيْنِ فقالت له: دعْ أحدَهما تنلِ الآخر. وفي رواية: لقي امرأة جميلة، فلما نظرت إليه وإلى جماله مالت ¬
إليه، وطمعت فيه، فأقبل عليها وقال: [من البسيط] أَهْوَى هَوَى الدَّيْنِ وَاللَّذَّاتُ ... فَكَيْفَ لِي بِهَوَى اللَّذَّاتِ وَالدِّيْنِ نَفْسِي تُزَيِّنُ لِي الدُّنْيا وَزينتَها ... وَزاجِرِي مِنْ حَذارِ الْمَوْتِ قال: فتركته، ومضت (¬1). وقال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل هوى ضلالة (¬2). وقال طاوس رحمه الله تعالى: ما ذكر الله تعالى هوى في القرآن إلا ذمه (¬3). رواهما ابن المنذر. وقال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43] وقال الحسن في قوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}: لا يهوى شيئا إلا اتبعه. رواه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬4). وقال: المنافق عبد هواه. رواه ابن حميد (¬5). ¬
وروى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ مِنْ إِلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ" (¬1). وقال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في الآية: إذا ارتفع إليك الخصمان فكان لك في أحدهما هوى، فلا تشتهي في نفسك الحق له، فيفلج على صاحبه، فأمحو اسمك من نبوَّتي، ثم لا تكون خليفتي، ولا كرامة. رواه الحكيم الترمذي (¬2). ولقد بيَّن الله تعالى أن بني إسرائيل لم يمنعهم من اتباع الحق، ويبعثهم على الظلم وقتل الأنبياء إلا متابعة الهوى، فقال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا} ¬
{أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [المائدة: 71]؛ أي: بسبب اتباع الهوى، أو بسبب التكذيب والقتل. {فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 71]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]. وفي هذه الآية أنَّ الاستكبار يكون من متابعة الهوى، وفيه الهلاك، وهو أول معصية عصى بها إبليس؛ {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]: حتى حمله هوى نفسه على الامتناع من السجود، فأبلس من رحمة الله تعالى، وأيس منها. وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]. قيل: هم اليهود، وقيل: النصارى (¬1). والأولى أن الخطاب لكل العلماء؛ إذ من الجائز أن يكون المراد بالكتاب جنس كتب الله تعالى؛ نهوا عن الغلو في الدين والابتداع فيه، ¬
واتباع مثل أهواء الضالين من أهواء أنفسهم، واتباع أهل الأهواء على أهوائهم. وفيه إشارة إلى أنه كما أن اتباع هوى الإنسان منهي عنه، كذلك ينهى عن اتباع هوى غيره، فلا يقلد صاحب الهوى على هواه ورأيه. وقد قال الله تعالى لنبيه الذي قال فيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، وعَصَمه عن اتباع الهوى. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]. وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49، 50]. وفيه إشارة إلى أن الحكم بالهوى، بل مجرد اتباع الهوى سنة جاهلية. وفي هذه الآية إشارة إلى أن العالم يتعين عليه أن يحذر ممن يحاكم إليه، أو يأتيه للمناظرة والمذاكرة أن يفتنه بما يزخرفه من كلام، أو يصوره من جدال عن دينه أو عن اعتقاده، ولا يتوهم من شَقْشقته في الكلام وتولِّيه عن الحق في صورة اتباعه له أنه على شيء، بل يكون ذلك لينفذ فيه أمر الله، ويقع به عقابه.
وفي قوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] بيانٌ واضح أن هذا لا يختص بأهل الكتاب، بل يتفق لغيرهم من فاسقي هذه الأمة اتباع الأهواء. وقال الله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]. وقال تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]. فبيَّن سبحانه أنَّ متابعة أهل الأهواء من أهل الكتاب، وكذلك غيرهم سبب للخذلان والحرمان من ولاية الله ونصرته، ثم سجل على المتبع لأهوائهم من العلماء بالتوغل في الظلم، وعده في سلك الظالمين.
فَصْلٌ حقيقة الهوى شدة الميل إلى الشيء، والشهوة محبة الشيء والرغبة فيه. شهيه كرضيه، وشهاه كدعاه، واشتهاه وشَهَّاه وتشهَّى: اقترح. ولعل الهوى أبلغ من الشهوة؛ فالشهوة يمكن ردها، والهوى لا يمكن رده، أو يتعسر رده، وهو تلف وأيُّ تلف، ومن ثم قيل: [من مجزوء الكامل] إِنَّ الْهَوى لَهُوَ الْهَوا ... نُ أُزِيْلَ عَنْهُ النُّوْنُ ومن هنا لم يذكر الهوى في القرآن العظيم، ولا في كلام الأنبياء والحكماء إلا مذموماً. والشهوة قد تكون مذمومة إذا استرسل فيها الإنسان، أو أكثر منها وتناولها من غير حلها، وأمَّا إذا تناولها الإنسان من حلها على الوجه الذي أذن فيه الشرع فلا يصح إطلاق الذم عليها لأنها داعية إلى قوام الطاعة وعمارة الأرض؛ إذ بها تتناول المطعومات والمشروبات، وبها قوام الأبدان، وبقوام الأبدان واعتدالها قوام العبادة.
وفي الحديث: "إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا" (¬1). وبها طلب النكاح والزواج، وبه يحصل التوالد وكثرة الخلق، وبهم عمارة الدنيا وقوام الدين. ولما كان للشهوات وَقعٌ في صلاح الأمور وإقامة الدين أبقيت في دار الآخرة، ووصف بالشهوة أهل الجنة بخلاف الهوى. قال الله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]. وقال الله تعالى: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 102]. وقال تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21]. فالشهوة نعمة في الدنيا والآخرة إلا أن الله تعالى أطلق التنعم بها في الدار الآخرة، ولم يأذن في دار الدنيا إلا في تناول قدر الحاجة منها، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]. وقال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]. وقال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]. فأذن في الاستمتاع بالنساء، وحجر علينا في الاستمتاع بغيرهن، وقبح قضاء الشهوة بغيرهن بقوله - مخاطبا لقوم لوط وقد كرر ذمهم في ¬
كتابه العزيز -: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [النمل: 55]. ثم تسمية الفاحشة ثم قيد الاستمتاع بالنساء بكون المرأة خاصة بالرجل؛ إما بعقد أو بملك بإضافية النساء إلى المخاطبين؛ ألا ترى إلى أول قال: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]، أي: نساؤكم الخاصة بكم من الأزواج أو الإماء. وإذا اعتبرت فإن الشهوة إذا تجردت لا تضر، لأنها تلم بالقلب إلماماً، فإن رضيها الشرع قبلها العقل، وإن لم يرضها الشرع ردها العقل، فإن جذبها الهوى من العقل ملكها من حيث لم يأذن الشرع. فالشهوة لا تذم إلا إن قارنها الهوى، أو استحالت هوى، وعلى هذا يحمل ما جاء في ذم الشهوات كما في الحديث الصحيح: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِه، وَالنَّارُ بِالشَّهَوَاتِ" (¬1)؛ فالشهوة لا تهوي بصاحبها في النار إلا إذا قارنها الهوى، أو صارت هوى. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِيْ ثَلاثَة: ضَلالَةُ الأَهْوَاءِ، وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ فِي الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَالْعُجْبُ ". رواه الحكيم الترمذي عن أفلح رضي الله تعالى عنه (¬2). واقتصر على الهوى في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي ¬
الْهَوَى وَطُوْلُ الأَمَلِ". رواه ابن عدي في "الكامل" عن جابر - رضي الله عنه - (¬1). واعلم أنَّ كل إنسان مشتمل على شهوة وغضب كامنين في نفسه، متى ملكهما بعقله كانا مسخَّرين للعقل في مصالح الإنسان، ومتى أغفل العقل تدبيرهما تعلق بهما الهوى والشيطان، والهوى أقوى سلطانا من الشيطان، فإذا تعلق بالشهوة الخالية عن الهوى لا يكاد يبلغ مراده من العبد حتى يستعين بالهوى، ويتمكن منه عند الغضب، فإن لم يساعده الهوى لأن نار الغضب أقوى فالغضب خلق شيطاني في نفسه. وقد سبق أنَّ إبليس ذكر لبعض الأنبياء أنه يأخذ ابن آدم عند الغضب والهوى (¬2)، ولم يقل: والشهوة. نعم، يولع بالشهوة حتى يتعلق بها الهوى؛ أي: حتى يستحيل هوىً، وذلك أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم كما صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، فإذا استعمل الإنسان الشهوة على قوانين الشرع لا تضره. ومن قوانين الشرع ترك الإسراف في الشهوات كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنَ الإسْرَافِ أَنْ تأكلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ". رواه ابن ماجه (¬4). ¬
وقال الحسن رحمه الله تعالى: دخل عمر على ابنه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وإذا عندهم لحم، فقال: ما هذا اللحم؟ قال: اشتهيته. قال: وكلما اشتهيت شيئاً أكلته؟ كفى بالمرء سرفاً أن يأكل كلما اشتهى. رواهما (¬1) الإمام أحمد في "الزهد" (¬2). فالإسراف طريق لتعلق الشيطان بشهوة الإنسان. ولقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ} [الإسراء: 27]. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هم الذين ينفقون المال في غير حقه. رواه البخاري في "الأدب المفرد"، وغيره (¬3). وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير، وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياءً وسمعة فذلك حظ الشيطان. رواه البيهقي في "الشعب" (¬4). وفي كلام الإمام علي إشارة إلى أن قضاء الشهوة من غيرك من ¬
عيال بالنفقة عليهم، أو غيرهم بالصدقة خلقٌ كريم، فمراعاة الشهوة على ميزان الشرع منك ومن غيرك مندوب إليه. وفي الحديث: "مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ شَهْوَتَهُ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّار". رواه البيهقي عن أبي هريرة (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَطْعَمَ مَرِيْضًا شَهْوَتَهُ أَطْعَمَهُ اللهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ" (¬2). ومن قوانين الشرع أن لا تقضى الشهوة من مال غيرك ولو من طريق الاستدانة. قال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: من السرف أن يكتسي الإنسان، ويأكل ويشرب مما ليس عنده، وما جاوز الكفاية فهو تبذير (¬3). وسبق قول عيسى عليه السلام: ورُبَّ شهوة أورثت حزناً طويلاً؛ أي: في الدنيا وفي الآخرة؛ في الدنيا: فيما لو أخذها بدين، فأعسر به، فقاسى حزن المطالبة، وعسر الوفاء، أو فيما تناول منها فوق الكفاية فَتُخِم منها، أو مرض. ¬
وفي الآخرة: فيما لو أخذها من غير حلها، فأوردته النار، أو حبسته عن طيبات الجنة. وروى أبو نعيم عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إياكم والبطنة في الطعام والشراب؛ فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة. وعليكم بالقصد فيهما؛ فإنه أصلح للجسد، وأبعد من السرف، وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه (¬1). * تَتِمَّةٌ: اعلم أن في استعمال الشهوة على وجه الشرع تقلباً في نعم الله تعالى، وظهوراً فيها، وشكراً لله تعالى، ومسارعة إلى ما يحب سبحانه وتعالى كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيَّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِيْنَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51]، وَقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]. ¬
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ! يَارَبّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنىَّ يُسْتَجَابُ لذَلِكَ". رواه مسلم، والترمذي، وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). فأشار إلى أن الطيب لا يكون طيبا حتى يكون حلالاً. ومن هنا فسر كثيرٌ الطيبات بالحلالات. وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} [البقرة: 168]، وخطوات الشيطان: طرائقه وأعماله التي يأمر بها؛ منها: الإساءة في تحصيل الرزق والكسب السيء. ومنها: صرف الرزق وما أنعم الله به في المعاصي والشهوات المجردة عن إرادة الخير. ولذلك قال بعد ذلك: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)} [النحل: 14]. وأعم من ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. ¬
{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]. ثم عدد مفردات ذلك في غير موضع من كتابه، وقال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]. والكفر منها نقيض الشكر، وكما أن الشكر مرضي الله وفيه رضاه، فالكفر مسخوطه وفيه سخطه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)} [الزمر: 7]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]. وروى أبو داود عن أبي الأحوص، عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثوب دونٍ، فقال: "ألكَ مالٌ؟ " قال: نعم. قال: "مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟ " قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم، والخيل، والرقيق. قال: "فَمَاذَا آتَاكَ اللهُ فَلْيُرَ أَثرُ نِعْمَتِهِ عَلَيِكَ وَكَرَامَتِهِ" (¬1). ¬
وحسَّنَ الترمذي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِه" (¬1). فتناول النعمة من وجهها الشرعي، واستعمالها في وجهها الشرعي ليس من خطوات الشيطان، بل هو مما يرضاه الرحمن سبحانه وتعالى، وهو عين الشكر الذي وعد الله تعالى عليه المزيد. وضده الكفر الذي أوعد الله عليه بالعذاب الشديد، وهذا هو خطوات الشيطان، ولا يبعث عليه إلا هوى الإنسان، وهو البطر الذي هو سبب الهلاك والضرر كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58]. وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ ¬
شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 19 - 21]. ذكر الله تعالى قصة سبأ بعد قوله تعالى في قصة داود عليه السلام: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] إشارةً إلى أنهم إنما أُتوا من قلة الشكر. وهم كما قال قتادة رحمه الله تعالى: قوم أعطاهم الله تعالى نعمة، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته. قال الله تعالى: {فَأَعْرَضُوا} أي: عن الشكر؛ قال قتادة: ترك القوم أمر الله {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}. قال قتادة: ذكر لنا أن العَرِم وادٍ في سبأ كانت تجتمع إليه مسايل من أودية شتى، فعمدوا فَسَدُّوا ما بين الجبلين بالقِير والحجارة، فجعلوا عليه أبواباً، وكانوا يأخذون من مائه ما احتاجوا إليه ويسدون عنهم، فلما ترك القوم أمر الله تعالى بعث الله عليهم جرذاً فنقبه من أسفله، فاتسع حتى غرَّق الله به حروثهم، وخرَّب به أرضهم عقوبةً لهم بأعمالهم. قال الله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} والخمط: الأراك، وكله بريرة {وَأَثْلٍ} والأثل: الطرفاء {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} وهو شجر النبق.
وقال قتادة في قوله: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}: لا تخافون جوعا ولا ظمأ، إنما تغدون فتقيلون في قرية، وتروحون فتبيتون في قرية أهل جنة ونهَر. حتى لقد ذكر لنا أن المرأة كانت تضع سلتها على رأسها فتمتلئ قبل أن ترجع إلى أهلها، وكان الرجل يسافر لا يحمل معه زاداً، فبطروا النعمة، فقالوا: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}، فمُزقوا كل ممزَّق وجُعلوا أحاديث. وما ذكرناه عن قتادة أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). وقال ابن زيد: لم يكن يرى في قريتهم بعوضة قط، ولا ذباب، ولا برغوث، ولا عقرب، ولا حيَّة، وإن الركب ليأتون في ثيابهم القمل والدواب، فما هو إلا أن ينظروا إلى بيوتها فتموت تلك الدواب، وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القُفة على رأسه، ويخرج حين يخرج وقد امتلأت تلك القفة من أنواع الفاكهة، ولم يتناول منها شيئاً بيده. رواه ابن أبي حاتم (¬2). وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20]، يحتمل ¬
أنه أراد أهل سبأ، والأولى أنه أراد سائر أولاد آدم. وظنه قوله: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62]، فمن بدَّلَ نعمة الله كفراً، واستعان بنعم الله على معاصيه، فقد ظفر إبليس فيه، وتابعه فيما فيه هلاكه، وتسخير العقل في طاعة الهوى واتباع الشهوات عين الكفران لنعمة العقل، بل لنعمة أصل الوجود الإنساني؛ فافهم!
فَصْلٌ الشهوات كلها مصالي للشيطان يقتنص بها الإنسان. قال عبد الصمد الزاهد كما نقله عنه ابن الجوزي: من لم يعلم أن الشهوات فُخُوْخٌ - أي: للشيطان - فهو لَعَّاب (¬1). وأصول الشهوات ما ذكر الله تعالى في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14]، الآية. ومن ثم كان يحلف بعض العارفين أن الشهوات السبع المذكورة في الآية هي أبواب النار السبعة؛ لأنها أصول الشهوات كلها، وقد حُفَت النار بالشهوات. وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية الأفتن فالأفتن، ولا شيء منها أعظم فتنة ولا أقرب إلى تسليط الشيطان على الإنسان من النسوان، ولذلك ذكرهن الله تعالى في أول الشهوات المذكورة في الآية. وروى الأئمة الستة عن أسامة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ" (¬1). وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للنسوة: "مَا رَأَيْتُ مِنْ ناَقِصَاتِ عَقْلٍ وَلا دِيْنٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبِّ مِنْكُنَّ" (¬2). بل روى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي سعيد الخدري، وابن ماجه عن ابن عمر، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ! تَصَدَّقْنَ؛ فَإِنيِّ رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ". فقلن: وبم يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيْرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ ناَقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِيْنٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ" (¬3). وتقدم في حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أنَّ إبليس - لعنه الله - قال لله تعالى: اجعل لي حبائل. قال: النساء (¬4). ¬
وروى الخرائطي في كتاب "اعتلال القلوب"، وغيره عن زيد بن خالد الجُهَني رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّبَابُ شُعْبَةٌ مِنَ الْجُنُوْنِ، وَالنسَاءُ حِبَالَةُ الشَّيْطَانِ" (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن جعفر بن حرفاش: أنَّ عيسى بن مريم عليهما السلام كان يقول: رأس الخطيئة حب الدنيا، والخمر مفتاح كل شر، والنساء حبالة الشيطان (¬2). وذكر التجاني في كتاب "تحفة العروس" عن أبي المحيا قال: رأيت أمرأة من قومي بمكة، فجلست أحدثها وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما يصلي، فسمعني أقول لها: يا فلانة! استوحش لفراقك القلب، وجاورني من لا أهوى، وكنت كما قال الأول: [من الطويل] أَيَسْعَدُ مَنْ أَهْوَى ويسْعِفُنِي الْهَوَى ... بِمَنْ لا يُبالِي أَنْ يُفارِقَهُ أَهْلِي قال: فأقبل عليَّ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال: ما هذه المرأة منك؟ قلت: من العشيرة وبنات العم. فقال: قم، وإلا وقعتما في فتنة؛ إنَّ النساء حبائل الشيطان، وإياك أن تخلو بأمرأة إلا أن تكون محرماً (¬3). ¬
ونقل التجاني أيضاً عن سعيد بن المسيب قال: ما يئس الشيطان من ولي إلا أتاه من قبل النساء (¬1). ورواه أبو نعيم عن علي بن زيد، عنه، وزاد فيه: وقال لنا سعيد - وهو ابن أربع وثمانين سنة، وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى -: ما شيء أخوف عندي من النساء (¬2). وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الْمَرْأةَ تُقْبِلُ فِيْ صُوْرَةِ شَيْطَانٍ وتُدْبِرُ فِيْ صُوْرَةِ شَيْطَانٍ، وَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ امْرَأة فَأَعْجَبَتْهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِيْ نَفْسِهِ" (¬3). وإنما شبهها بالشيطان في الإقبال لأنه محل استقبال وجهها والمأتي منها، وفي الإدبار لأنه محل بدو العجيزة، فلما كانت داعية إلى الفتنة بلسان حالها في إدبارها وإقبالها شبهت بالشيطان في الحالتين. وقال الماوردي في كتاب "أدب الديين والدنيا": قال سليمان بن داود عليهما السلام لابنه: امش وراء الأسد، ولا تمش وراء المرأة (¬4). ¬
قال: وسمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - امرأة تقول: [من البسيط] إِن النِّساءَ رَياحِيْنُ خُلِقْنَ لَكُمْ ... وَكُلُّكُمْ يَشْتَهِي شَمَّ الرَياحِيْنِ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: [من البسيط] إِنَّ النساءَ شَياطِيْنُ خُلِقْنَ لَنا ... نعوْذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ الشَّياطِيْنِ (¬1) وروى الخطيب في "تاريخه" عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا سُئِلْتَ: أَيُّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ؟ فَقُلْ: خَيْرَهُمَا وَأَبَرَهُمَا، وإنْ سُئِلْتَ: أَيُ الْمَرْأتَيْنِ تَزَوَّجَ؟ فَقُل: الصُّغْرى مِنْهُمَا، وَهِيَ الَّتِيْ جَاءَت فَقَالَت: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص: 26]، فَقَالَ: مَا رأيَتِ مِنْ قُوَّتهِ؟ قَالَت: أَخَذَ حَجَرًا ثَقِيْلاً فَألقَاهُ عَلَى الْبِئْرِ، قَالَ: وَمَا الَّذِي رَأَيْتِ مِنْ أَمَانتِهِ؟ قَالَت: قَالَ لِي: امْشِي خَلْفِي، وَلا تَمْشِي أَمَامِي" (¬2). وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن أباها قال لها: وما رأيت من قوته؟ قالت: جاء إلى البئر وعليها صخرة لا يقلها كذا وكذا، فرفعها. قال: وما رأيت من أمانته؟ قالت: كنت أمامه فجعلني خلفه (¬3). ¬
وإذا كان هذا حذر الأنبياء - عليهم السلام - وهم معصومون، فكيف بغيرهم؟ ! * لَطِيْفَة: تقدم في الحديث: "أن الرجل لا يخرج الصدقة حتى يفك عنها لحي سبعين شيطاناً" (¬1). يحكى في معناه: أن الشيطان يأتي الرجل بسبعين من جنوده، فيتعلقون بيديه ورجليه وقلبه، ويمنعونه من الصدقة، فسمع بذلك بعضهم فقال: أنا أقاتل هؤلاء السبعين، فخرج إلى منزله، وملأ ذيله من الحنطة ليتصدق به، فوثبت زوجته فنازعته حتى أخرجته من ذيله، فرجع الرجل خائباً، وقال: هزمت السبعين، فجاءت أمهم فهزمتني. ذكره البرهان بن مفلح في كتاب "الاستعاذة" (¬2). ¬
فَصْلٌ كما يخشى على الرجل أن يدخل عليه الشيطان بالنساء، كذلك يخشى على المرأة أن يدخل عليها الشيطان بالرجال. وقد أمر الله تعالى المؤمنات بما أمر الله به المؤمنين من غض الأبصار وحفظ الفروج، فقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 30، 31] الآية. قال الأعمش: في هذه الآية نهيت المرأة أن تنظر إلى غير زوجها؛ أي: أن تنظر قصداً أو بشهوة، فأما نظرة الفجأة فلا تكليف فيها (¬1). وروى البزار، والدارقطني بسند ضعيف، عن علي رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها: "أَيُّ شَيْءِ خَيْرٌ لِلْمَرْأَةِ؟ قالت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها. ¬
فضمها إليه، وقال: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34] (¬1). ورواه ابن الجوزي في كتاب "النساء" على وجه آخر، ولفظه: سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً وجماعة من الصحابة عما هو خير للنساء، فلم يدروا ما يقولون، فانصرف علي إلى فاطمة رضي الله تعالى عنهما، وذكر لها ذلك، فقالت: إن خير النساء اللائي لا يرين الرجال ولا يرونهن، فأخبر علي رضي الله تعالى عنه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِنَّمَا فَاطِمَةُ بضْعَةٌ مِنِّيْ" (¬2). وفي "الصحيح" قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّكنَّ صَوَاحِبُ يُوْسُفَ" (¬3) يشير إلى قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف: 30] روى ابن أبي حاتم عن دريد بن مجاشع، عن بعض أشياخه قال: قالت - يعني: أمرأة العزيز - للقيم: أدخله عليهنَّ وألبِسْه ثيابًا بيضاء؛ فإن الجميل أحسن ما يكون في البياض، فأدخله عليهن وهن يحززن ما في أيديهن، فلما رأينه حززن أيديهن وهن لا يشعرن من النظر إليه، فنظرن إليه مقبلاً، ثم أومت إليه: أن ارجع، فنظرن إليه ¬
مدبراً وهن يحززن أيديهن بالسكاكين لا يشعرن بالوجع من النظر إليه، فلما خرج نظرن إلى أيديهن، وجاء الوجع يُولْولن، فقالت لهن: أنتُنَّ من ساعة واحدة هكذا صنعتن، فكيف أصنع أنا؟ {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] (¬1). واعلم أن الرجل كما يعجبه جمال المرأة فيطلبه ويرغب فيه، يعجب المرأة جمال الرجل فتطلبه وترغب فيه، فمن حيث يدخل الشيطان على الرجل بالمرأة يدخل على المرأة بالرجل، ومن هنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَعْمَدُ أَحَدُكُمْ إِلَى ابْنَتِهِ فَيُزَوِّجَهَا الشَّيْخَ الدَّمِيْمَ؟ إِنهنَّ يُرِدْنَ مَا تُرِيْدُوْنَ". رواه أبو نعيم عن الزبير رضي الله تعالى عنه (¬2). وروى الديلمي، وغيره بسند ضعيف، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثٌ مِنَ الْعَجْزِ فِي الرِّجَالِ: أَنْ يَلْقَى مَنْ يُحِبُّ مَعْرِفَتَهُ فَيُفَارِقَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ اسْمَهُ، وَأَنْ يُكْرِمَهُ أَخُوْهُ فَيرُدَّ كَرَامَتَهُ، وَأَنْ يُقَارِبَ الرَّجُلَ جَاريتَهُ فَيُصِيْبَهَا قَبْلَ أَنْ يُحَادِثَهَا ويُؤَانِسَهَا وَيُضَاجِعَهَا، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ حَاجَتَهَا مِنْهُ" (¬3). ¬
فَصْلٌ قد سبق أن الفتنة بالمُرد الحسان أشد من الفتنة بالنسوان. وعن سفيان الثوري: إني أجد مع المرأة شيطانا، ومع الغلام الأمرد بضعة عشر شيطاناً (¬1). ولم ينبه الله تعالى على ذلك في آية الشهوات؛ لأنه إنما ذكر منها ما يباح دون ما يحرم، وإذا كان الإنسان يفتتن بالزينة المباحة فيضل، ففتنته بالزينة المحرمة أشد ضلالة. وقد روى الترمذي وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِيْ عَمَلُ قَوْمِ لُوْطٍ" (¬2). والذي لا يَشُك فيه عارف بأحوال الناس في هذه الأزمنة أنه ليس للهوى طريق على عقولهم أقوى فتنة ولا أبلغ أخذاً لقلوبهم من مخالطة ¬
المرد الحسان، وما زينوهم به أبلغ من زينة النسوان، واسْتَرْوح فُسَّاقهم إليهم لسهولة معاشرتهم في الأسفار خصوصا من كان منهم مَلَك أيمانهم بسبب أنهم استخفوا باللواط في ملك اليمين، ويزعموه شبهة، وربما احتج شياطينهم إلى تأويل الآية. ولا شك أن حمل الآية على ذلك، أو إدخاله في عمومها كفرٌ يخرج به من يركن إليه عن رِبْقة الإسلام. وقد روى البزار عن حذيفة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويلٌ لِلمَالِكِ مِنَ المَمْلُوْكِ، وَوَيْل لِلْمَمْلُوْكِ مِنَ الْمَالِكِ" (¬1). وهذا أعظم ما يكون بينهما من الويل. وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ الْمَالِ فِيْ آخِرِ الزَّمَانِ الْمَمَالِيْكُ" (¬2). وسيأتي مزيد بيان في التشبه بقوم لوط. وكذلك من فتنة النساء أن يطلب بعضهن من بعضهن ما يطلب الرجل من المرأة، أو المرأة من الرجل، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالسُّحق. ¬
وفي الحديث "سُحْقُ النِّسَاءِ زِنَا بَيْنَهُنَّ" (¬1). وسبب ذلك أن الرجال اكتفوا بالرجال، فاكتفى النساء بالنساء، كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه يكون في آخر الزمان، وإذا استخفت المرأة بفعل ذلك مع مملوكتها كان كاستخفاف الرجل باللواط مع مملوكه، وهذا من مداخل الشيطان إلى النسوان كما أن ذلك من مداخله إلى الرجال، ويخشى على الرجل المعرض عن حليلته أن يبوء بإثمه وإثمها. ¬
فَصْلٌ ومن أصول الشهوات البنون؛ اقتصر عليهم لأن العرب ما كانوا يعدون البنات زينة، بل كان جهلاؤهم يعدونهنَّ عاراً وينبذونهن. أو البنون شاملون للبنات؛ فإنه زينة أيضا وبالخصوص لأمهاتهن. قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]. وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال: 28]. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]؛ فمن استعاذ منكم فليستعذ من مضلات الفتن. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وكذلك العشيرة من زينة الدنيا، وعشيرة الرجل بنو أبيه الأقربون، ¬
أو قبيلته كما في "القاموس" (¬1). وفي كتاب الله تعالى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. ولعل اشتقاقه من العِشرة - بالكسر - وهي المخالطة، فإذا كان الولد أو الوالد أو العشيرة يدعون الرجل إلى معصيَة الله تعالى، أو يشغلونه عن طاعته، كانوا فتنة عليه، بل مودته لهم وهم على غير طاعة الله فتنة له. وقد روى الديلمي عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عِنْدِي يَدًا وَلا نِعْمَةً فَيَوَدُّهُ قَلْبِي؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة: 22] الآية (¬2). وفي حديث آخر: "لِفاسِقٍ". وإنما دعا بذلك لأن النعمة والإحسان تدعوان إلى محبة المحسن ومودة المنعم، وهما يدعوان إلى موافقة المحبوب والمودود، وفي ذلك قد يكون الهلاك فينقلب الحبيب عدواً. ولقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ¬
وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]. ومن عداوتهم شغله عن طاعة الله، وتكليفه ما لا يحصل إلا بمعصية كما روى أبو نعيم، والبيهقي، وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَأْتِيْ عَلَى النَّاسِ زَمَان لا يَسْلَمُ لِذِي دِيْنٍ دِيْنُهُ إِلاَّ مَنْ فَرَّ مِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ، أَوْ مِنْ بَحْرٍ إِلَى بَحْرٍ كَالثعْلَبِ بِأَشْبَالِهِ" (¬1). وذلك في آخرِ الزَّمانِ إذا لم تنل المعيشة إلاَّ بمعصية اللهِ، فإذا كان كذلك حلتِ العزلة، يكون في ذلك الزمان هلاكُ الرَّجل على يدي أَبويهِ إن كان له أَبوان، فإن لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجتهِ وولدهِ، فإن لم يكن له ولد فعلى يدي الأقاربِ والجيرانِ، يعيَّرونهُ بضيق المعيشة، ويكلِّفونه ما لا يطيق حتَّى يُورِد نفسه الموارد الَّتي يهلك فيها. ¬
فَصْلٌ ومن أصول الشهوات المال، وأُسُّه الأعظم وأصله الذي يبنى عليه الذهب والفضة، ولذلك قدمهما الله تعالى في الآية على غيرهما من الأموال. روى البخاري، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّيْنَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيْصَةِ، إِنْ أُعْطِي رَضِي، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانتكَسَ، وَإِذَا شِيْكَ فَلا انتُقَشْ" (¬1). وروى الترمذي وصححه، والنسائي عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا ذئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا فِيْ غَنَمٍ بأكْثَرَ فَسَاداً لَهَا مِنْ حُبِّ الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي دِيْنِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ" (¬2). وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلَكَ الْمُكْثِرُوْنَ إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا" (¬1). وروى الشيخان عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هُمُ الأَخْسَرُوْنَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ". قال أبو ذر: من هم يا رسول الله؟ قال: "الأكثَرُوْنَ مَالاً إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا" (¬2). وروى مسلم، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن عبد الله بن الشِّخِّير رضي الله تعالى عنه قال: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} [التكاثر: 1]- وفي رواية: وقد أنزلت عليه {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} - وهو يقول: "يَقُوْلُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَبقَيْتَ" (¬3). وأما الخيل المسوَّمة فليس عند ذوي الدنيا بعد النقدين أعز منهما خصوصاً عتاقها. وفي الصحيح: "الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ: هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ، وَلِرَجُل أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ؛ فَأمَّا الَّتِيْ هِيَ لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا وَنواءً لأَهْلِ الإِسْلامِ فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ" (¬4). وذكر الحديث. ¬
وفي كتاب الله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]. ولا شك أن الحمير عند أهل الحراثة والأعمال مال شاغل، بل هي عند اللائقة به أعز من الخيل عند علية الناس وملوكها. والبغال بين الجنسين، وتتخذ للقوة، والجَمال، وحمل الأثقال، وسرعة الوصول إلى المقاصد. وأما الأنعام فهي ثلاثة: الإبل، والبقر، والغنم، ولكل جنس منها نوعان، وكلها أموال محبوبة إلى أهلها. روى ابن ماجه عن عروة البارقي رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإِبِلُ عِزٌّ لأَهْلِهَا، وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ، وَالْخَيْرُ مَعْقُوْدٌ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (¬1). والخير قد يشمل المال، وقد سمَّى الله تعالى المال خيراً في كتابه العزيز. وروى أبو عبيد، وابن المنذر عن يحيى بن كثير رضي الله تعالى عنه - مرسلاً -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بإبل لحيٍّ يقال لهم: بنو الملوح، أو بنو المصطلق، قد عنست في أبوالها من السَّمَنِ، فتقنَّع بثوبه ومر، ولم ينظر إليها لقوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] (¬2). ¬
ووراء الخيل والأنعام أموال أخر، إلا أنه وقع ذكرها في الآية دون غيرها لأن هذه أصولها وغيرها كالتبع لها؛ كالفيلة فإنها مركوبة، وكالصيد والوز والدجاج والطير من المأكولات. وهذه الأمور أموال بالنسبة إلى من يقتنيها أو من لا يقدر إلا على شيء منها، بل قد يقتنيها ويستكثر منها من له غنى عنها، ويكون ذلك أبلغ في الفتنة؛ لأن تحصيل هذه المزينات من البهائم بعد الاكتفاء من المواشي العظيمة دليل على استقصاء متخذها في طلب الدنيا والرغبة فيها، ومن هنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عِنْدَ اتِّخَاذِ الأَغْنِيَاءِ الدَّجَاجَ يَأْذَنُ اللهُ بِهَلاكِ القُرَى". رواه ابن ماجه، وغيره (¬1). وأمَّا الحرث فإن المراد محله وهو الأرض، وما يطلب به بالاستنبات من ثمرة أو حب. وقد روى الترمذي، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تتَّخِذُوْا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوْا فِيْ الدُّنْيَا" (¬2). قال في "القاموس": والضيعة: العقار والأرض المغلة (¬3). ¬
وروى أبو داود، وغيره بإسناد صحيح، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِيْنَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْناَبَ الْبَقَرِ، وَرَضِيْتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لا يَنْزعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِيْنِكُمْ" (¬1). وإنما لَّوح - صلى الله عليه وسلم - إلى مفارقة الدين بذلك لأن من رغَّب عن الجهاد - ولعله الجهاد الشامل لجهاد النفس في طاعة الله تعالى، وعن معاصيه - ورغب فيما ذكر من الاستقصاء في تحصيل الدنيا بحيلة العينة، ومزاحمة أهل الحراثة في حراثتهم، والاستكثار بالزروع، فقد غفل عن الله تعالى، فأوقعته الغفلة في الذلة. ولقد شاهدنا هذا في ملوك الناس ووجوههم حين تركوا ما هو المطلوب منهم من الجهاد وطلب العلم والدين كيف ذلُّوا؛ وأيُّ ذلٍّ أعظم من ذل الجهل والاشتغال بغير الله تعالى. فإن قلت: فقد ذكر الله تعالى في الآية من زينة الدنيا منكوحاتها، ومركوباتها، ومطعوماتها، ثم قال: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14]، فما له لم يذكر ملبوساتها ومفروشاتها مع أنها من متاع الحياة الدنيا؟ قلت: بل هي مذكورة في الآية لأنها إما من جلود الأنعام ¬
وشعورها، وقد اشتملت عليها الأنعام. وإمَّا من النباتات وهي داخلة في الحرث؛ لأن القطن والكتان من النبات. وأما الحرير فإنه - وإن كان من دود القَز - فإنه إنما يتعيش من ورق التوت، وهو من النبات. وقد نص على ذم المتعلق باللبس والفراش النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الحديث السابق: "تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيْصَةِ". وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام يصلي في خميصة ذات أعلام، فنظر إلى علمها، فلما قضى صلاته قال: اذهبُوْا بِهَذهِ الْخَمِيْصَةِ إِلَى أَبِي جَهْم بنِ حُذَيْفَةَ، وَائتوْنِي بِأَنْبِجَانِيَتِهِ؛ فَإِنَّهَا ألهَتْنِيْ آنِفًا عَنْ صَلاتِي". وفي لفظ: "شَغَلَتْنِيْ أَعْلامُ هَذِهِ". وفي رواية: "كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِيْ الصَّلاةِ فأَخَافُ أَنْ تَفْتِنِّي" (¬1). وروى البخاري [عن عقبة بن عامر]، رضي الله تعالى عنه قال: أهدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرُّوج حرير، فلبسه فصلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا شديداً كالكاره له، وقال: "لا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِيْنَ" (¬2). ¬
والفروج - بالفتح -: كساء فيه شق من خلفه، وكان هذا قبل تحريم الحرير؛ فإنما نزعه مع أنه كان مباحاً لأنه من الزينة المُلهية عن الصلاة كما ترك الخميصة، وآثر بها أبا جهم، واستبدل بها أنبجانيته، وقد روي بفتح الهمزة وكسرها؛ يقال: ثوب أنبجاني، ومنبجاني - بفتح الباء الموحدة فيهما -: نسبة إلى منبج كمجلس: موضع بالشام على غير قياس، وهو كساء أسود غليظ. وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف في الطعام واللباس وغيرهما معروفةٌ في كتب الحديث. وحاصلها لا يرجع إلى تحريم شيء من المباحات، بل إلى استحباب الاقتصاد والاقتصار على ما يجزئ العبد في قطع المسافة الدنيوية، والمسير إلى الله تعالى. ولا سبيل في تحريم شيء من المباحات والمنع منها لئلا تتعطل حكمة خلقها للعباد المشار إليه بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. وإنما المقصود استعمالها على قوانين الشرع، والتأدب فيها بالآداب المطلوبة لتكون من المُوصلات إلى الله تعالى لا من القاطعات عنه، وإنما تكون قاطعة عن الله تعالى إذا أخذت بمقتضى الشهوة والهوى، لا بمقتضى الشرع والتقى؛ فافهم!
فَصْلٌ ولما كان للشيطان مداخل كثيرة على الإنسان عَجِبَتِ الملائكةُ الكرام ممن ينجو من الشيطان كما روى عبد الله ابن الإمام أحمد عن عبد العزيز بن رفيع رحمه الله تعالى قال: إذا عرج بروح المؤمن إلى السماء قالت الملائكة عليهم السلام: سبحان الذي نجى هذا العبد من الشيطان، يا ويحه كيف نجا (¬1)! وقد علمت أنه لا مدخل للشيطان على الإنسان إلا من قبل نفسه. وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه: "الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ". رواه القضاعي (¬2). ومن كياسته أن يعلم أن النفس تميل إلى الشهوات، وأنَّ النار ¬
محفوفة بالشهوات، فيحاسب نفسه على كل شهوة تضره في الآخرة، فيدعها ويقلع عنها كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ - أَيْ: حَاسَبَهَا - وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ" (¬1). وكل شهوة تؤذي صاحبها بعد الموت فهي مدخل للشيطان إلى الإنسان؛ إذ مقصوده من كل أحد أن يكدّر عليه آخرته، ويبعده من رحمه الله تعالى عند الموت، كما أبلس هو منه، ولسان حاله يقول: كما عثرثني عثر جميع خلقك، ولا يليق هذا إلا به وبمن كان على طريقه. وأما المؤمن فإنه يحب للناس ما يحب لنفسه، فمن غلب شهوته، ولم تبالغ نفسه فيها فقد سدَّ عنه مداخل الشيطان، فقد صار عنه الشيطان مطروداً. وروى أبو نعيم عن وُهَيب رحمه الله تعالى أنه قال: من جعل شهوته تحت قدمه فزع الشيطان من ظله، ومن غلب حلمُه هواه فذلك العالم الغلاب (¬2). فعليك بحسم مواد نفسك عنك جملة، واتهامها في كل الأحوال اقتداء بالكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام في قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ¬
{إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]. ومن حسن نظر يوسف عليه السلام أنه اتهم نفسه، وأعرض عن ذكر الشيطان، وهو المسُول من حيث إن المقام مقام هضم النفس وعدم تزكيتها، وقال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100]، فنزَّه إخوته عن نسبَة ما فعلوه به إليهم على وجه الحقيقة، بل إلى نزغ الشيطان مبالغة في التلطف بأبيه والعفو عنهم، وإقامة العذر لهم مع ما في ذلك من الإشارة إلى قول أبيه عليهما السلام: {قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)} [يوسف: 5]؛ كأنه موافق لأبيه في إقامة عذر إخوته في الجملة، وفي ذلك من كرم النفس ما لا يخفى. وأنت أحق باتهام نفسك والنظر إلى عذر أخيك، فمهما رأيت لها هوى في شيء فإن وافق العلم فاتبعه من ناحية العبودية والامتثال لأمر الله تعالى وإظهار حكمته، لا من حيث إنه هوى وشهوة، وإن خالف العلم فاحذره؛ فإنه محل فرصة الشيطان واغتياله. ثم ليكن من المقرر عندك أن الشيطان عدو محقق العداوة، شديد الحرص على اغتيالك، فينظر منك مثل هذه الفرصة، فيكون ذلك حامياً لك من كيده، كافياً لك من شره. وليكن حذرك من الشيطان في حال طاعتك لله أكثر من حذرك منه في حال معصيتك، فقد قال بعض الحكماء: إن الشيطان يأتي ابن آدم من قبل المعاصي، فإن امتنع أتاه من وجه النصيحة حتى يلقيه في بدعة، فإن
أبى أمره بالتحرج والشدة حتى يحرِّم ما ليس بحرام، فإن أبى شكك في وضوئه وصلاته حتى يخرج عن العلم، فإن أبى خفَّفَ عليه أعمال البر حتى يراه الناس صابراً عفيفًا فَيميل قلبه إليهم، ويعجب بنفسه، وبه يهلكه، وعنده يشتد لَجاجه؛ فإنه آخر درجه، ويعلم أنه لو جاوزه أفلت منه إلى الجنة. نقله حجة الإسلام في "الإحياء" (¬1). وروى الدينوري في "المجالسة" عن بكر بن خنيس رحمه الله تعالى قال: بلغني أنَّ إبليس اللعين لعنه الله قال: ثلاث إذا وردت على واحدة منهن من ابن آدم فقد قدرت على حاجتي: من نسي ذنوبه، واستكثر عمله، وأعجب برأيه (¬2). فالشيطان يعجبك إلى نفسك، ويعجب نفسك إليك، ويعجب طاعتك لله إليك، فيكون العجب منك - وإن كنت على طاعة - أبلغ من المعصية لو كنت على معصية لأنه يحبط الطاعة. وفي الحديث "كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ يُعْجَبَ بِرَأْيِهِ (¬3) ". رواه البيهقي عن مسروق مرسلاً، وأبو نعيم عنه عن ابن عمر متصلاً، ولفظه: "إِذَا أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ" (¬4). ¬
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ لَمْ تَكُوْنُوْا تُذْنبُوْنَ لَخَشِيْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكبَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ الْعُجْبَ الْعُجْبَ". رواه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق"، والحاكم في "تاريخه" عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). ولو فتشتت لوجدت أن إعجاب الشيطان برأيه ونفسه هو الذي كان سببًا في طرده وعكسه. وقد سبق أنه كان من الأخيار، فلما زكَّى نفسه وأعجب بها صار من الأشرار، فهو يود أن جميع بني آدم ضلوا كما ضل، وزلوا كما زل. فاعلم أن الشيطان - وإن اطمأنت نفسك - لا والله لا يترك إرادتك بكل سوء حتى تفارق نفسك جسدك، بل هو عند موتك أشد إرادة لإضلالك منه قبل ذلك خشية أن تنفلت منه. وفي الحديث: "إِنَّ الشَّيْطَانَ أَقْرَبُ مَا يَكُوْنُ مِنْ ابْنَ آدَمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَصْرَعِ" كما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الموت"، وأبو نعيم (¬2). فلا تغتر بطمأنينة نفسك وإن تحققت الطمأنينة منها، ولو ساغ ذلك ¬
لأحد لم يقل يوسف عليه السلام: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53]. بل ينبغي لكل أحد أن لا يأمن من مكر الله تعالى، ولا يترك الحذر من الشيطان؛ فإنه مترصد له في كل حال. وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الحذر" عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: قيل لداود عليه السلام: يا داود! احذر لا يأخذك الله على ذنب، فتلقاه ولا حجة لك. وقال محمود الوراق رحمه الله تعالى: [من المتقارب] أَخافُ عَلَى الْمُحْسِنِ الْمُتَّقِي ... وَأَرْجُو لَدَى الْهَفَواتِ الْمُسِي فَذَلِكَ خَوْفي عَلَى مُحْسِنٍ ... فَكَيْفَ عَلَى الظَّالِمِ الْمُعْتَدِي عَلى أَنَّ ذا الزَّيْغِ قَدْ يَسْتَقِيْمُ ... وَيَسْتَأْنِفُ الزَّيْغَ قَلْبُ التَّقِي (¬1) ولذلك أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7، 8]. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يدعو: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوْبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِيْنِكَ". قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يا رسول الله! ما أكثر ما تدعو ¬
بهذا الدعاء؟ فقال: "لَيْسَ مِنْ قَلْب إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابعِ الرَّحْمَنِ؛ إِذَا شَاءَ أَنْ يُقِيْمَهُ أَقامَهُ، وإِذَا شَاءَ أَنْ يُزِيْغَهُ أَزَاغَهُ، أَما تَسْمَعِيْنَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] الآية؟ رواه ابن أبي شيبة، والإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها (¬1). وفي الباب عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها. روياه هما والترمذي (¬2). وعن أنس رضي الله تعالى عنه. رواه هؤلاء، والبخاري في "الأدب المفرد"، وحسنه الترمذي (¬3). وعن النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه. رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الحاكم (¬4). فإن أول ما يبدو من زيغ القلب ممن ظاهره الخير أن يرضى عن ¬
نفسه، ويزكيها، ويرى الناس دونها - وإن كان يعلم من نفسه الطاعة والسداد - فإنَّ للأعمال الصالحة آفات خفية، والخاتمة غيب، ولذلك قال الله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. وقد روى ابن أبي شيبة، والبزار، وأبو يعلى، والبيهقي في "دلائل النبوة" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ذكروا رجلًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكروا قوته في الجهاد، واجتهاده في العبادة، فإذا هم بالرجل مقبلاً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لأَرَى فِيْ وَجْهِهِ سَفْعَةً مِنَ الشَّيْطَانِ"، فلما دنا سلم فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ حَدَّثَتْكَ نَفْسُكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيْ الْقَوْمِ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنْكَ"؟ قال: نعم الحديث (¬1). وسفعة - بفتح المهملة، وإسكان الفاء -: السِّمة، والعلامة؛ من سفع الشيء: إذا علمه ووسمه، أو مِنْ سَفَعت وجهه السموم؛ أي: لفحته لَفحاً يسيراً، فأثَّرت فيه. ¬
فَصْلٌ أول مودة كانت المودة بين آدم والملائكة عليهم السلام، وأول عداوة كانت عداوة إبليس لعنه الله لآدم عليه السلام، ثم كان التوارث بعد ذلك، فورثت أولاد آدم عنه مودة الملائكة وعداوة الشيطان، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الْوُدُّ وَالْعَدَاوَةُ يُتَوَارثانِ". رواه صاحب "الغيلانيات" عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: أنه قال لرجل من العرب كان يقال له عفير: يا عفير! كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في الود؟ قال رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الْوُدُّ يُتَوَارَثُ، وَالْعَدَاوَةُ تُتوَارَثُ" (¬1). وهذه الوراثة لا تكون في كل بني آدم، بل في أخيارهم كما روى الطبراني في "الكبير" عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه: أنه سمع ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الْوُدُّ الَّذِي يُتَوَارَثُ فِيْ أَهْلِ الإِسْلامِ" (¬1). فأما الأشرار فإنهم على الضد من أخلاق أبيهم آدم، يعرضون عن مودة الملائكة عليهم السلام، ويوالون الشياطين، وإنما يكون ذلك بخذلان الله تعالى، كما يكون تخلقهم بأخلاق آدم عليه السلام بتوفيق الله تعالى لهم. قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]؛ أي: تهُزُّهم وتغريهم على المعاصي بالتسويلات، وتحبيب الشهوات إليهم، {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ}؛ أي: بالهلاك {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84]. فهؤلاء لمَّا وَالوا عدو أبيهم، وأصروا حتى كفروا، أُخرجوا من موالاة أبيهم، ودخلوا في ولاية عدوه، فكانوا مع من والوه ولحقوا به، وباينوا من عادوه وأبلسوا عنه. وقد قيل: [من الطويل] صَدِيْقُ صَدِيْقِي داخِلٌ فِي صَداقَتِي ... صَدِيْقُ عَدُوِّي لَيْسَ لِي بِصَدِيْق فحُشروا مع من والوه من الشياطين كمَا قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]؛ أي: قرناءهم، وأمثالهم من الشياطين. ثم لما تمت العداوة بين آدم عليه السلام وبين الشيطان لعنه الله ¬
تعالى نشأت الحروب بينهما، ثم بينَ مَن بعد آدم وبين الشيطان، فكانت هذه الحروب بأمر من الله تعالى. ألا ترى كيف يقول تعالى: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117]. ثم قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123] وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]. ثم كانت الدولة دائرة بين آدم وبين إبليس، وكانت الأيام بينهما مداولة، ثم كانت بين الناس وبين الشياطين مداولة؛ تارة تكون الدولة لأهل الحق، وتارة لأهل الباطل لحكمة ما {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]. قال أبو جعفر رضي الله تعالى عنه وعن آبائه: إن للحق دولة، وإن للباطل دولة، ومن دولة الحق أن إبليس أمر بالسجود لآدم، فأديل آدم على إبليس، وابتلي آدم بالشجرة فأكل منها، فأديل إبليس على آدم. رواه ابن المنذر (¬1). قلت: ثم كانت النصرة آخراً لآدم حتى تلقى من ربه كلمات فتاب عليه، وبقي إبليس في اللعنة إلى يوم الوقت المعلوم، ثم إلى الأبد. ¬
وفي كتاب الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. قال السدي: يوماً لكم، ويوماً عليكم. وقال قتادة: والله لولا الدول ما أوذي المؤمنون، ولكن قد يدال للكافر من المؤمن، ويبلى المؤمن بالكافر ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه. رواهما ابن جرير (¬1). وقد علمت من ذلك أن دولة البر على الفاجر نصرة، ودولة الفاجر على المؤمن محنة وابتلاء، وتمحيص لذنوبه، ورفعة لدرجاته، وتأديب لنفسه، وتهذيب لخلقه، فيرجع إلى البراءة من الحول والقوة، والاعتراف بالعجز والضعف، وبذلك يكمل المؤمن، وتتم النعمة عليه، وينال الفوز والقربة. ¬
فَصْلٌ وعداوة النفس والشيطان للإنسان ثابتة بالكتاب والسنة. فأما النصوص الدالة على عداوة الشيطان فهي من الشهرة والكثرة بحيث لا تكاد تخفى على مسلم، ومن أنكر عداوة الشيطان لله تعالى، ولبني آدم فهو كافر، ومن غفل عن عداوته يوشك أن يؤخذ على غِرَّة منه، فيكون يوم القيامة ممن يخاطبه الله تعالى بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 60 - 62]. وأما النصوص الدالة على عداوة النفس فكثيرة، لكن لا يتنبه لها إلا العارفون لأن عداوة النفس مما يشكل فهمه، فإنَّ حب الإنسان لنفسه سليقة وخليقة، فكيف يتصور أن تكون نفسه عدوَّة له، ومن تأمل قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] عَلِمَ أن من أساء إلى أحد بحيث يجازى بإساءته ويعاقب عليها، فإنما يعود شر إساءته على نفسه، فما أساء إلاَّ إلى نفسه. وكان علي بن أبي طالب يقول: ما أحسن أحد إلَّا إلى نفسه،
وما أساء إلا على نفسه، ثم يقرأ: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]؛ أي: فعليها. وغاية ما يخشى من العدو أن يصل شره وإساءته إلى من يعاديه، وبذلك تحق العداوة وتستحكم، فالنفس قد بلغت غاية العداوة، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَعْدَى أَعْدَائِكَ نَفْسُكَ الَّتِيْ بَيْنَ جَنْبَيِكَ". رواه البيهقي في "الزهد" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإسناد ضعيف (¬1). وروى فيه عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم قدموا من الجهاد: "قَدِمْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الأكبَرِ". قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ فقال: "جِهَادُ النَّفْسِ" (¬2). وروى الترمذي، وابن حبان وصححاه، عن فَضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله قال: "الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ" (¬3). ¬
زاد ابن مردويه في روايته: "فِيْ طَاعَةِ اللهِ" (¬1). وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة من النفس كما أمر بالاستعاذة من الشيطان، كما روى أبو داود، والترمذي وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله! مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت. قال: "قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلَّ شَيْءِ وَمَلِيْكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أنتَ، أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نفسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِركِهِ". قالَ: "قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ، وإِذَا أَخَذْتَ مَضْجعَكَ" (¬2). وفي تقديم الاستعاذة من النفس على الاستعاذة من الشيطان إشعار بشدة عداوتها، واهتمام بالاستعاذة منها. ¬
خاتمة تشتمل على فوائد
خَاتِمَة تشتمل على فوائِد روى المخلص عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوْا الشَّيْطَانَ، وَتَعَوَّذُوْا بِاللهِ مِنْ شَرِّهِ" (¬1). وهذا النهي محمول على خلاف الأولى، وله وجهان: الأول: أن الإنسان ينبغي له أن لا يعود لسانه إلا خيراً كما قيل: [من البسيط] عَوِّدْ لِسانَكَ قَوْلَ الْخَيْرِ وَارْضَ بِهِ ... إِنَّ اللِّسانَ لِما عَوَّدْتَ مُعْتادُ (¬2) فلا يتعود الشر ولو بسبب الشيطان المسبوب بنص القرآن كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38]. والثاني: أن الشيطان لا ينقمع بالسب ولا باللعن، بل ربما يكون ذلك سبباً لتعاظمه كما في حديث والد أبي المليح (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الذكر" عن مجاهد رحمه الله ¬
تعالى قال: إذا لعنت الشيطان قال الشيطان: لعنت ملعَّناً. وما اجتمع قوم قط فذكروه إلا حضرهم، وما شيء أقطع لظهره من: لا إله إلا الله (¬1). وروى أبو نعيم عن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: إن العبد إذا لعن الشيطان ضحك فقال: إنك لعنت ملعَّناً. وإنما يخذل ظهره أن تتعوَّذ منه (¬2). وروى ابن السمعاني في "أماليه" عن أبي الحسن الحبابري قال: كنت أصلي بالناس في بعض مساجد البصرة، وكنت أعزب أنام في المسجد، فصليت بالناس ليلة العشاء الآخرة، وأغلقت الباب، ووقفت أتنفل في المحراب شطر الليل، ثم جلست في المحراب أذكر الله تعالى وأستغفره لما سلف من الخطأ والذنوب، وألعن إبليس، إذ انشق المحراب فظهر علي شخص كريه المنظر، فقال لي: يا أبا الحسن! كم تلعنني منذ الليلة؟ ونحن ثلاثة تلعن واحداً وتترك اثنين. فقلت: أما أنت يا لعين فقد عرفتك، فمن الاثنان؟ قال: نفسك، وهواك، ثم أنشأ يقول: [من الكامل] أَهْمَلْتَ نَفْسَكَ فِي هَواكَ وَلُمْتَنِي ... لَوْ كُنْتَ تنصِفُ لُمْتَ نفسَكَ دُوني ومن مستظرفات الشعبي رحمه الله تعالى: أنه سُئِلَ عن أكل لحم الشيطان، فقال: نحن نرضى منه بالكفاف. نقله الماوردي في "أدب ¬
الدين والدنيا" (¬1). وقال وهب رحمه الله تعالى: اتق الله، ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر (¬2). وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَالَ إِبْلِيْسُ: يَا رَبِّ! وَعِزَّتِكَ لا أَزَالُ أَغْوِيْ بَنِي آدَمَ مَا كَانَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِيْ أَجْسَادهمْ، فَقَالَ اللهُ: وَعِزَّتِي لا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَروني" (¬3). وروى البزار، والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله! إني أذنبت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَذْنبتَ فَاسْتَغْفِرِ الله فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ الله". قال: ثم أعود فأذنب. قال: "إِذَا أَذْنبتَ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ". ثم عاد، فقال في الرابعة: "اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ حَتَّى يَكُوْنَ الشَّيْطَانُ هُوَ الْمَحْسُوْرَ" (¬4). وروى عبد الرزاق، وغيره عن ثابت رحمه الله تعالى قال: بلغني أن إبليس لمَّا نزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135] صاح إبليس بجنوده، وحثا على رأسه التراب، ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر، فقالوا: ما لك يا سيدنا؟ ¬
قال: إنه نزلت في كتاب الله آية لا يضر بعدها أحداً من بني آدم ذنب. قالوا: ما هي؟ فأخبرهم، قالوا: نفتح لهم باب الأهواء فلا يتويون ولا يستغفرون، ولا يرون إلا أنهم على الحق، فرضي منهم بذلك (¬1). وروى أبو يعلى عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُمْ بِلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَالاسْتِغْفَارِ، فَأكثِرُوْا مِنْهُمَا؛ فَإِنَّ إِبْلِيْسَ قَالَ: أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوْبِ، وَأَهْلَكُوْنيْ بِلا إِلَهَ إِلا اللهُ وَالاسْتِغْفَارِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالأَهْوَاءِ، فَيَحْسَبُوْنَ أنَّهُمْ مُهْتَدُّوْنَ" (¬2). وروى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ عَمِلَ بِبِدْعَةٍ خَلاهُ الشَّيْطَانُ فِيْ الْعِبَادةِ، وَألقَى عَلَيْهِ الْخُشُوْعَ وَالْبُكَاءَ" (¬3). وفيه إشارة أن الشيطان إنما تركه يتعبد، ولم يَحُل بينه وبين العبادة لأن مقصوده إلقاء ابن آدم في الشر، وكفى بالبدعة شراً، ولا تنفع العبادة مع البدعة، وإنما يعبث الشيطان بأهل السنة ليمنعهم من العبادة لأن ¬
العبادة مع السنة هي المعتدُّ بها. وقد روى ابن ماجه عن حذيفة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَقْبَلُ اللهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَلاةً، وَلا صَوْمًا، وَلا صَدَقَةً، وَلا حَجًّا، وَلا عُمْرَةً، وَلا جِهَادًا، وَلا صَرْفًا وَلا عَدْلاً، يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا تَخْرُجُ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِيْنِ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "الذكر" عن ابن جريج رحمه الله تعالى قال: بلغني أن الكلمة التي تزجر الملائكة الشياطين بها: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وهذا أتم مما رواه عبد الله ابن الإمام أحمد عن يحيى بن سليم الطائفي، وقد قدمناه في التشبه بالملائكة عليهم السلام. وروى أبو نعيم عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: قرأت في الحكمة: كما أن الريح إذا هاجت زلزلت الشجر كذلك إبليس سلطانه يزلزل البشر (¬2). قلت: وإنما يزلزل سلطانه أولياءه لقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]. وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42] وقال تعالى {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]. وفيه نكتة بديعة، وهي أن هذه الأمة لما كانت أكثر الأمم ذكراً، ¬
ولا شيء أقصم لظهر الشيطان من ذكر الرحمن، أنزل الله تعالى في كتابه الذي أنزله على نبيها - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]؛ أي: لا يقوم كيده ولا سلطانه مع سلطان الذكر، فظهر بذلك فضل هذه الأمة على الأمة التي نزل في كتابها أنَّ لإبليس سلطاناً يزلزل به البشر. وأين ذلك من قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وهم المتقون الذين يفرون من الشيطان إلى الذكر كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]. وروى أبو نعيم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: إن إبليس مُوثق في الأرض السفلى، فإذا تحرك كان كل شر على الأرض بين اثنين من تحركه (¬1). قلت: ومن هنا استحب للغضبان أن يتعوَّذ من الشيطان ليسكن غضبه؛ لأن حركة الشيطان تبطل بالذكر كما دلت الآية السابقة عليه، لأن الغضب من جملة طائف الشيطان. وقد فسره ابن عباس بالغضب، كما رواه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم (¬2). ورواه ابن أبي الدنيا في "ذم الغضب"، وغيره عن مجاهد رحمه الله تعالى (¬3). ¬
وفي "الصحيحين" عن سليمان بن صُرَد رضي الله تعالى عنه قال: استبَّ رجلان عند النبي، فجعل أحدهما يغضب ويحمرُّ وجهه وتنتفخ أوداجه، فنظر إليه النبي فقال: "إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ ذَا: أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "الذكر" عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى قال: إذا اجتمع قوم على ذكر الله - عز وجل - أخرج الشيطان وشيعته على باب المسجد يقول لهم: انظروا هل قاموا بعد، فيضرب كتده، فيقولون له: ما لك تضرب كتدك؟ فيقول: أخشى عليهم الرحمة فلا يعذبون أبداً. والكَتَد - بفتحتين، وتاؤه مثناة فوقية -: الكاهل، وهو مقدَّم أعلى الظهر مما يلي العنق. وروى ابن أبي الدنيا في "المكائد" عن ثابت رحمه الله تعالى قال: بلغني أنَّ إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام، فرأى عليه معاليق من كل شيء، فقال له يحيى عليه السلام: يا إبليس! ما هذه المعاليق التي أرى عليك؟ قال: هذه الشهوات التي أصيب من بني آدم. قال: فهل لي فيها شيء؟ قال: ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة والذكر. ¬
قال: هل غير هذا؟ قال: لا. قال: لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبداً. فقال إبليس: ولله عليَّ أن لا أنصح مسلما أبداً (¬1). قلت: وهذا من باب تسخير إبليس للأنبياء - عليهم السلام - بحيث تأتيهم النصيحة والحكمة من غير أهلها، وقد اتفق مثل ذلك لنوح وموسى - عليهما السلام - كما سبق، وكذلك قد يسخر للصالحين. وقوله: ولله عليَّ أن لا أنصح مسلما أبداً: هذا خلقه أبدًا؛ فإنه أغش الخلق للخلق، كما قال مُطرِّف رحمه الله تعالى (¬2). وربما وقع مثل ذلك من كثير من الناس أنه ينصح آخر فيغضب منه، فيقول: ما بقيت أنصح بعدك أحداً، ونحو هذا الكلام، فهو من أخلاق الشيطان كما علمت. وكذلك يضرب المثل فيقال: فلان لا ينصح مسلماً؛ بمعنى أنه على خلق شيطاني. وروى ابن أبي الدنيا عن فضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: حدثني بعض أشياخنا: أن إبليس جاء إلى موسى - عليه السلام - وهو يناجي ربه - عز وجل -، فقال له الملك: ويلك ما ترجو منه وهو على هذه الحالة؟ ¬
قال: أرجو منه ما رجوت من أبيه آدم وهو في الجنة (¬1). فإذا كان طمعه في موسى عليه السلام وهو في حضرة ربه تعالى، فكيف طمعه فيمن دونه. وقد روى أبو نعيم عن أبي محمد حبيب الفارسي رحمه الله تعالى قال: والله إنَّ الشيطان ليلعب بالقُرَّاء كما تلعب الصبيان بالجوز، ولو أن الله تعالى دعاني يوم القيامة فقال: يا حبيب! فقلت: لبيك، فقال: جئتني بصلاة يوم، أو صوم يوم، أو ركعة، أو تسبيحة اتقيت عليها من إبليس أن لا يكون طعن فيها طعنة فأفسدها، ما استطعت أن أقول: نعم أيْ ربِّ (¬2). وروى أبو نعيم عن أبي الجوزاء رحمه الله تعالى قال: والذي نفسي بيده إن الشيطان ليأزم بالقلب حتى ما يستطيع صاحبه يذكر الله، ألا ترونهم في المجالس يأتي على أحدهم عامة نومه لا يذكر الله - عز وجل - إلا حالفاً، والذي نفس أبي الجوزاء بيده ما له في القلب طرد إلا: لا إله إلا الله، ثم قرأ: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46] (¬3). ¬
وروى البزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الَّذِي يَخْفِضُ وَيرْفَعُ قَبْلَ الإِمَامِ إنَّمَا نَاصِيتُهُ بِيَدِ شَيْطَانٍ" (¬1). ومن لطائف الآثار: ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "التقوى" عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً أسمعَهُ كلاماً، فقال له عمر: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، ثم عفا عنه (¬2). وقوله: يستفزني؛ أي: يستخفني. ومنه قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]؛ أي: بالغناء، والمزامير، واللهو، والباطل كما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "ذم الملاهي"، والمفسرون (¬3). والغضب: لحظ النفس من الباطل وما يجر إليه، فمن أدركه الحلم والعفو عند الغضب، والقدرة على الانتقام فقد دحر عنه الشيطان، وكان له العز والسلطان، ومن هنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا زَادَ اللهُ عَبْداً بِعَفْوِ إِلاَّ عِزًّا" (¬4). ¬
وروى أبو نعيم عن أبي حازم رحمه الله تعالى قال: وما إبليس؟ لقد عصى فما ضر، ولقد أطيع فما نفع (¬1). وقد قلت: [من السريع] مَنْ يُطِعِ الشَّيْطانَ لا يَنْتَفِعْ ... بِطاعَةِ الشَّيْطانِ مَهْما يُطِعْ وَمَنْ عَصَى الشَّيْطانَ ما ضَرَّهُ ... عِصْيانُهُ لَكِنَّهُ يَنْتَفِعْ فَلا تُطِعْ إِبْلِيْسَ فِي أَمْرهِ ... وَأَطِعِ اللهَ وَلا تَبْتَدِعْ روى ابن أبي الدنيا في كتاب "التقوى" عن أبي حازم رحمه الله تعالى أنه قيل له: إنك لمتشدد. قال: وما لي لا أتشدد وقد ترصَّدني أربعة عشر عدواً؟ أما أربعة منها: فشيطان يضلني، ومؤمن يحسدني، وكافر يقاتلني، ومنافق يبغضني. وأما العشَرة منها، فالجوع، والعطش، والحر، والبرد، والعري، والهوى، والمرض، والفقر، والموت، والنار، ولا أطيقهن إلا بسلاح تام، ولا أجد لهن سلاحاً أفضل من التقوى (¬2). وروى أبو بكر بن لال في كتاب "مكارم الأخلاق" بسند ضعيف، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُؤْمِنُ بَيْنَ ¬
خَمْسِ شَدَائِدَ: مُؤْمِنٍ يَحْسُدُهُ، وَمُنَافِقٍ يُبْغِضُهُ، وَكَافِرٍ يُقَاتِلُهُ، وَشَيْطَانٍ يُضِلُّهُ، وَنفسٍ تُنَازِعُهُ" (¬1). وروى أبو نعيم عن طلحة بن مُصرِّف رحمه الله تعالى: المؤمن يجلب عليه إبليس من الشياطين "أكثر من ربيعة ومضر (¬2). وروى ابن أبي حاتم في تفسير قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]، عن سفيان رحمه الله تعالى قال: باض إبليس خمس بيضات، فذريته من ذاك (¬3). قال: وبلغني أنه يجتمع منهم على مؤمن واحد أكثر من ربيعة ومضر (¬4). وروى ابن مردويه، وابن عساكر، وغيرهما عن عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء - رضي الله عنه - يحدث الناس ويفتيهم، وولده وأهل بيته جلوس في جانب يتحدثون، فقيل له: يا أبا الدرداء! ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم، وأهل بيتك جلوس لاهين؟ ¬
قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إِنَّ أَزْهَدَ النَّاسِ فِيْ الأَنْبِيَاءِ وَأَشَدَّهُمْ عَلَيْهِمُ الأَقْرَبُوْنَ". وذلك فيما أنزل الله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] إلى آخر الآية. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَزْهَدَ النَّاسِ فِيْ الْعَالِمِ أَهْلُهُ حَتَّى يُفَارِقَهُمْ، وإنَّهُ لَيَشْفَعُ فِيْ أَهْلِ دارهِ وَجِيْرَانِهِ، فَإِذَا مَاتَ جَلا عَلَيهم مِنْ مَرَدَةِ الشَّيَاطِيْنِ أكْثَرُ مِنْ عَدَدِ رَبِيْعَةَ وَمُضَرَ قَدْ كَانُوْا مُشْتَغِلِيْنَ بِهِ؛ فَأكثِرُوا التَّعَوُّذَ بِاللهِ مِنْهُمْ" (¬1). وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن خيثمة رحمه الله تعالى قال: إن الله تعالى ليطرد بالرجل الشيطان من الآدر؛ أي: الدور (¬2). وذلك بطاعة الله تعالى وكثرة ذكره، أو بالصمت والإعراض عنه مع الاشتغال بالقلب بالله تعالى، فيحوم الشيطان فلا يجد له في قلب ولي الله تعالى مساغاً، فيخسأ عنه وعن من في جيرته وحمايته ببركة صمته. وروى أبو يعلى عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ؛ فإنَّهَا جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ، وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ؛ ¬
فَإِنَّهُ رُهْبَانِيَّةُ الْمُسْلِمِيْنَ، وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ وَتلاوَةِ كِتَابِ اللهِ؛ فَإِنَّهُ نُوْرٌ لَكَ فِي الأَرْضِ وَذِكْرٌ لَكَ فِيْ السَّمَاءِ، وَاخْزُنْ لِسَانَكَ إِلا مِنْ خَيْرٍ؛ فَإِنَّكَ بِذلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَان" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "أُوْصِيْكَ بِتَقْوَى اللهِ؛ فَإِنَّهُ رَأْسُ الأَمْرِ كُلِّهِ. وَعَلَيْكَ بِتِلاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللهِ؛ فَإنَّهُ ذِكْرٌ لَهُ فِيْ السَّمَاءِ وَنُوْرٌ لَكَ فِيْ الأَرْضِ. وَعَلَيْكَ بِطُوْلِ الصَّمْتِ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ؛ فَإنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ عَنْكَ وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِيْنِكَ. إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضحِكِ؛ فَإِنَّهُ يُمِيْتُ الْقَلْبَ وَيُذْهبُ بِنُوْرِ الْوَجْهِ. عَلَيْكَ بِالْجِهَادِ؛ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِيْ. أَحِبَّ الْمَسَاكِيْنِ وَجَالِسْهُمْ. انْظُرْ إِلَى مَنْ تَحْتَكَ وَلا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ فَوْقَكَ؛ فَإِنِّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرِيَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكَ. صِلْ قَرَابَتَكَ وإِنْ قَطَعُوْكَ. قُلِ الحَقَّ وإِنْ كَانَ مُرًّا. ¬
لا تَخَفْ فِيْ اللهِ لَوْمَةَ لائِمْ. ليحجْزكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْلَمُ مِنْ نَفْسِكَ، وَلا تَجِدْ عَلَيْهِمْ فِيْمَا يَأْتِيْ. وَكَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ يَكُوْنَ فِيْهِ ثَلاثُ خِصَالٍ: أَنْ يَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا يَجْهَلُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَسْتَحْيِيَ لَهُمْ مِمَّا هُوَ فِيْهِ، ويُؤْذِيَ جَلِيْسَهُ. يَا أَبَا ذرٍ! لا عَقْلَ كَالتَّدْبِيْرِ، وَلا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ" (¬1). وإنما ذكرت هذا الحديث بطوله هنا لأنه من غرر الفوائد. وروى أبو نعيم عن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: إنما مثل الشياطين في كثرتهم كمثل رجل دخل زرعاً فيه جراد كثير، وكلما وضع فيه رجله تطاير الجراد يميناً وشمالاً، ولولا أن الله - عز وجل - غض البصر عنهم ما رئي شيء إلا وعليه شيطان (¬2). وعن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: إن رجلاً من بني إسرائيل صام سبعين أسبوعاً يفطر في كل سبعة أيام يوماً، وهو يسأل الله - عز وجل - أن يريه كيف يَغوي الشيطان الناس، فلما أن طال ذلك ولم يجب، قال: لو أقبلت على خطيئتي، وعلى ذنبي وما بيني وبين ربي - عز وجل - لكان خيراً لي من هذا الأمر الذي أطلب، فأرسل الله تعالى إليه ملكاً فقال: إن الله - عز وجل - ¬
أرسلني إليك وهو يقول لك: إن كلامك هذا الذي تكلمت به أعجب إلي مما مضى من عبادتك، وقد فُتِحَ بصرك. قال: فنظر، فإذا هو أحبولة لإبليس قد أحاطت بالأرض، وإذا ليس أحد من بني آدم إلا وحوله شياطين مثل الذباب، فقال: أي رب! من ينجو من هذا؟ قال: الليِّن الوادع (¬1). وعنه أنه قال: وجدت في بعض ما أنزل الله على أنبيائه - عليهم السلام - أن الشيطان لا يكابد شيئاً أشد من مؤمن عاقل. وقال وهب أيضا: لَإزالة الجبال صخرة صخرة أيسر على الشيطان من مكابدة مؤمن عاقل (¬2). وعنه قال: قال لقمان لابنه عليهما السلام: يا بني! اعقل عن الله - عز وجل -؛ فإن أعقل الناس عن الله - عز وجل -؛ أحسنهم عقلاً، وإن الشيطان ليفر من العاقل وما يستطيع أن يكابده (¬3). والمراد أن يكون عقله معروفاً في الورع، والزهد، والعزوف عن الدنيا؛ إذ هو العقل النافع كما يشير إليه كلام لقمان. ¬
ومن ثم قال أكثر العلماء: لو أوصى بثُلث ماله لأعقل الناس صُرِفَ إلى الزُّهاد (¬1). وليس المراد بالعقل الدَّهاء، والتدقيق في أمور الدنيا؛ فإنه من أمر الشيطان كما روى الدينوري في "المجالسة" عن مضاء: أنه قال: قال بعض الحكماء: العَقِلُ غيرُ الورعِ عَنِ الذنوبِ خازنُ الشيطان (¬2). وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: إنَّ من فقه الرجل أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه الرجل أن يعلم أمزداد هو أم منتقص، وإنَّ من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عامر بن حبيب الأحموسي قال: إن العبد ليعمل العمل سراً ما يطلع عليه أحد، فيطلب إبليس سنة، فإن أدركه وإلا تركه، يقول له: حدث بعملك؛ فإنه قد رفع إلى الله وليس بناقصك شيئاً، فإن حدث به مُحِي عنه أجر السر، وحُطَّ عنه أجر العلانية، ثم يطلب سنة، فإن أدركه وإلا تركه، يقول له: حدث، قد رفع إلى الله وليس بناقصك ذلك شيئاً، فإن حدث به مُحي أجر العلانية، وكتب رياء. وروى ابن جهضم عن صالح المُرِّي رحمه الله تعالى قال: ¬
ما عرف الله حق معرفته من آثر طاعة الشيطان على طاعته، وما عرف الآخرة حق معرفتها من آثر الدنيا عليها. وقال ابن أبي الدنيا في "الصمت": بلغني عن الحسن بن حي رحمه الله تعالى قال: المزاح استدراج من الشيطان، واختداع من الهوى (¬1). ونقله الماوردي في "أدبه" عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم أجده في أصول الحديث (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن مسلم بن يَسار رحمه الله تعالى قال: إيَّاك والمِراء؛ فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته (¬3). وروى الدينوري في "المجالسة" عن بكر بن خُنيس رحمه الله تعالى قال: بلغني أن إبليس اللعين قال: ثلاث إذا قدرت على واحدة منهن من ابن آدم فقد قدرت على حالتي: من نسي ذُنوبه، واستكثر عمله، وعجب برأيه (¬4). وروى أبو نعيم عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت إسحاق ابن خالد يقول: ليس شيء أقطع لظهر إبليس من قول ابن آدم: ليت ¬
شعري بما يختم لي؟ قال: عندها ييأس منه إبليس، ويقول: متى يعجب هذا بعمله؟ قال: فحدثت به مضاء بن عيسى، فقال: يا أحمد! عند الخاتمة قطع بالقوم. قال: فحدثت به أبا عبد الله النباجي، فقال: واخطراه (¬1). وعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى: ليس شيء أقطع لظهر إبليس من قول: لا إله إلا الله، ولا شيء يضاعف ثوابه من الكلام مثل: الحمد لله (¬2). وعن عكرمة رحمه الله تعالى قال: إن الشيطان ليزيِّن للعبد الذنب حتى يكسبه، فإذا كسبه تبرَّأَ منه، فلا يزال العبد يبكي ويتضرع إلى الله - عز وجل -، ويستكين حتى يغفر له ذلك الذنب وما قبله، فيندم الشيطان على ذلك الذنب حين أكسبه إياه؛ غفر له الذنب وما قبله (¬3). وروى ابن جهضم عن سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: أنه سُئِلَ: أي شيء أشد على إبليس؟ قال: إشارة قلوب العارفين بالله تعالى (¬4). وروى ابن أبي شيبة عن ثابت البناني رحمه الله تعالى: أنَّ أبا تامر ¬
رحمه الله تعالى كان رجلاً عابداً، فنام ذات ليلة قبل أن يصلي العشاء، فأتاه ملكان أو رجلان في منامه، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه للذي عند رجليه: الصلاة قبل النوم ترضي الرحمن، وتسخط الشيطان. وقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: إن النوم قبل الصلاة يرضي الشيطان، ويسخط الرحمن (¬1). قلت: وهذا من باب العتاب في النوم. وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبدهِ خَيْرًا عَاتَبَهُ فِيْ مَنَامِه". رواه الديلمي (¬2). وروى ابن المبارك في "الزهد" عن عطاء الخراساني رحمه الله تعالى قال: نبي من الأنبياء - عليهم السلام - بساحل، فإذا هو برجل يصطاد حيتاناً، فقال: بسم الله، فألقى شبكته، فلم يخرج فيها حوت واحد، ثم بآخر فقال: باسم الشيطان، فخرج فيها من الحيتان كثير حتى جعل الرجل يتقاعس من كثرتها، فقال النبي عليه السلام: رَبِّ! هذا الذي دعاك ولم يشرك بك شيئاً ابتليته بأن لم يخرج في شبكته شيء، وهذا الذي دعا غيرك ابتليته فخرج في شبكته ما جعل يتقاعس تقاعساً من كثرتها، وقد علمت أن كل ذلك بيدك، فأنى هذا؟ ¬
فقال: اكشفوا لعبدي عن منزلتهما. فلما رأى ما أعدَّ الله لهذا من الكرامة، وما أعدَّ لهذا من الهوان، قال: رضيت يا رب (¬1). وروى الإمام أحمد، والطبراني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ خَارِجٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلاَّ بِبَابِهِ رَايَتَانِ: رَايَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ، وَرَايَةٌ بِيَدِ شَيْطَانٍ، فَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُحِبُّ اللهُ اتَّبَعَهُ المَلَكُ بِرَايَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الْمَلَكِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، وَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُسْخِطُ اللهَ - عز وجل - اتَّبَعَهُ الشَّيْطَانُ بِرَايَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الشِّيْطَانِ حَتَّى يَرْجِعَ" (¬2). وروى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، يُقَالُ لَهُ: هُدِيْتَ، وَكُفِيْتَ، وَوُقِيْتَ، فيتنحَّى لَهُ الشَّيْطَانُ، فَيَقُوْلُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ كُفِيَ، وَهُدِيَ، وَوُقِيَ؟ " (¬3). وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُنْضِي - أَيْ: يُهْزِلُ - شَيْطَانهُ كَمَا يُنْضِي أَحَدُكُمْ بَعِيْرَهُ فِيْ السَّفَرِ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عنه - رضي الله عنه - قال: التقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر، فإذا شيطان الكافر سمين دهين كاسي، وإذا شيطان المؤمن هزيل أشعث عاري، فقال شيطان الكافر لشيطان المؤمن: ما لك؟ قال: أنا مع رجل إذا أكل سمَّى فأظل جائعاً، وإذا شرب سمَّى فأظل عطشان، وإذا ادهن سمَّى فأظل شعثاً، وإذا لبس سمى فأظل عرياناً. قال شيطان الكافر: لكني مع رجل لا يفعل شيئاً مما ذكرته، فأنا أشاركه في طعامه وشرابه ولباسه (¬2). وعن قيس بن الحجاج رحمه الله تعالى: قال لي شيطاني: دخلت فيك وأنا مثل الجزور، وأنا الآن مثل العصفور. فقلت: ولم ذاك؟ قال تذيبني بكتاب الله (¬3). ¬
وروى ابن المبارك في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوماً في طاعة الله تعالى، فبغاك وبغاك، فرآك مداوماً مَلَّكَ ورفضك، وإذا كنت مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك (¬1). وروى أبو نعيم عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: ليس من الآدميين أحد إلا معه شيطان موكَّل به، أما الكافر فيأكل من طعامه، ويشرب معه من شرابه، وينام معه على فراشه، وأما المؤمن فهو مجانب له ينتظر متى يصيب منه غفلة أو غِرة، فيثِبُ إليه، وأحب الآدميين إلى الشيطان النؤوم الأكول (¬2). وعن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: قيل لعثمان رضي الله تعالى عنه: ما يمنعك أن تكون مثل عمر رضي الله تعالى عنه؟ قال: أتجعلوني مثل رجل أوثقت الشياطين في خلافته حتى انقرضت (¬3). وروى الطبراني بسند صحيح، عن وحشي بن حرب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج لحاجته من الليل وترك باب البيت مفتوحاً، ثم رجع فوجد إبليس قائما في وسط البيت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اخْسَأْ يَا خَبِيْثُ مِنْ بَيْتِي". ¬
ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ بُيُوْتكُمْ بِاللَّيْلِ فَأَغْلِقُوا أَبْوَابَهَا" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن يزيد رحمه الله تعالى قال: إن للشيطان قارورةً فيها نفوخ، فإذا قاموا إلى الصلاة أنشقهموها، فأمروا عند ذلك بالاستنثار (¬2). وعن إبراهيم - يعني: النخعي رحمه الله تعالى - قال: مسح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين، فمن ترك ذلك رغبة فإنما هو من الشيطان (¬3). وروى الإمام أحمد بسند جيد، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إِلاَّ اللَّبَنَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بَيْنَ الرَّغْوَةِ وَالضِّرعِ" (¬4). والمعنى أنَّ الشيطان يُحِب الموضع الذي يكثر فيه اللبن، وأكثر ما يكون في البادية، فالمراد التنفير من سكنى البادية؛ إذ تكثر فيها الألبان خشية من الشيطان كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: ¬
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هَلاكُ أُمَّتِي فِي الْكِتَابِ وَاللَّبَنِ". قالَوا: يا رسولَ اللهِ ما الكِتابُ واللَّبن؟ قالَ: "يتَعَلَّمُوْنَ الْقُرآنَ فَيتأَوَّلُوْنهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ - عز وجل -، وَيُحِبُّوْنَ اللَّبَنَ فَيَتْركُوْنَ الْجَمَاعَاتِ وَيُبْدُوْنَ". رواه الإمام أحمد بإسناد حسن (¬1). وقوله: "يبدون"؛ أي: يسكنون البادية كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَدَا جَفَا". رواه الإمام أحمد عن البراء، والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم (¬2). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولفظه: "مَنْ سَكَنَ الْبادِيَةَ جَفا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمنْ أَتى السُّلْطانَ افْتُتِنَ" (¬3). على أن هذه الخصال الثلاث هي مجامع مطلوبات الشياطين: الجفاء، والغفلة، والفتنة. وروى ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيَكُوْنُ قَوْمٌ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِيْ يَقْرَؤُوْنَ الْقُرآنَ وَيَتَفَقَّهُوْنَ ¬
فِيْ الدِّيْنِ، يَأتِيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُوْلُ لَهُمْ: لَوْ أتيْتُم السُّلْطَانَ فَأَصْلَحَ مِنْ دُنْيَاكُمْ، وَاعْتَزَلتمُوْهُ بِدِيْنِكُم، وَلا يَكُوْنُ ذَلِكَ كَمَا لا يُجْتَنَى مِنَ الْقَتَادِ إِلاَّ الشَّوْك، لا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِم إِلَّا الْخَطَايَا" (¬1). وروى الإمام أحمد، والبخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ مَوْلُوْدُ يُوْلَدُ إِلاَ نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَتِهِ، إِلاَّ ابْنَ مَرْيَمَ وَأمَّهُ". قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] (¬2). وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن عساكر عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: لما ولد عيسى - عليه السلام - أتت الشياطين - يعني: إلى إبليس - فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها. فقال: هذا حدث؟ مكانكم، فطار حتى جاب خافقي الأرض فلم يجد شيئاً، ثم جاب البحار فلم يقدر على شيء، ثم طار أيضاً فوجد عيسى - عليه السلام - قد ولد، وإذا الملائكة - عليهم السلام - قد حفت حوله، فرجع إليهم فقال: إن نبيا قد ولد البارحة، ما حملت أنثى ولا وضعت إلا وأنا بحضرتها إلا هذا، فايئسوا أن تعبد الأصنام ¬
بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قِبَل الحقد والعجلة (¬1). وروى أبو نعيم عنه قال: إن إبليس قال لعيسى - عليه السلام - حين وضعه على بيت المقدس: زعمت أنك تحيي الموتى، فإن كنت كذلك فادع الله أن يردَّ هذا الجبل خبزاً. فقال له عيسى: أكُل الناس يعيشون من الخبز؟ قال له إبليس: فإن كنت كما تقول فثب من هذا المكان؛ فإن الملائكة تتلقاك. قال: إن ربي أمرني أن لا أجرب نفسي، فلا أدري هل يسلمني أم لا. وعن طاوس، والزهري رحمهما الله تعالى قالا: لقي عيسى بن مريم - عليهما السلام - إبليس فقال: أما علمت أنه لا يصيبك إلا ما قدر لك؟ قال: نعم. قال: فأوف نذوره، هذا الجبل فَتَرَدَّ منه، فانظر أتعيش أم لا؟ قال طاوس في حديثه: قال: علمت أن الله تعالى قال: لا تجربني عبدي؛ فإني أفعل ما شئت. وقال الزهريّ: قال: إن العبد لا يبتلي ربَّه، ولكنَّ الله تعالى يبتلي عبدَه. ¬
قال: فخَصَمهُ (¬1). وروى الحكيم الترمذي في "النوادر"، وابن أبي الدنيا في "المكائد"، وأبو الشيخ في "العظمة"، وابن حبان في "الضعفاء"، وابن مردويه في "التفسير" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَلَقَ اللهُ الْجِنَّ ثَلاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ حَيَّاتٌ، وَعَقَارِبُ، وَخَشَاشُ الأَرْضِ، وَصِنْفٌ كَالرِّيْحِ فِيْ الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ عَلَيْهِمُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ، وَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَ ثَلاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ كَالْبَهَائِمِ؛ قالَ اللهُ تَعَالَى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] الآية، وَصنْفٌ أَجْسَادهُمْ أَجْسَادُ يَني آدَمَ وَأَرْوَاحُهُمْ أَرْوَاحُ الشَيَاطِيْنِ، وَصِنْفٌ فِيْ ظِلَّ اللهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي عثمان النهدي رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَبْغَضَ عِبَادِ اللهِ إِلَى اللهِ الْعِفْرِيْتُ النَّفْرِيْتُ ائَذِي لَمْ يَرْزَأْ فِيْ مَالٍ وَلا وَلَدٍ" (¬3). وروى ابن المبارك في "الزهد" عن الحجاج بن الفرافضة رحمه الله تعالى قال: بلغنا أن في بعض الكتب: من عمل بغير مشورة فذاك ¬
باطل يتعنى، ومن لم ينتصر من ظالمه بيد ولا لسان ولا عقد فذلك علمه يقين، ومن استغفر لظالمه فقد هزم الشيطان (¬1). وعن أبي رزين رحمه الله تعالى قال: جاء رجل إلى الفضيل بن بزوان رحمه الله تعالى فقال: إن فلاناً يقع فيك، فقال: لأغيظن مَنْ أمره؛ يغفر الله لي وله. قيل: مَنْ أمره؟ قال: الشيطان (¬2). وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححه، عن سَمُرة ابن جُندب رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيْسُ وَكَانَ لا يَعِيْشُ لَهَا، فَقَال: سَمِّيْهِ عَبْدَ الْحَرْثِ؛ فَإنَّهُ يَعِيْشُ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَرْثِ فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْي الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ" (¬3). وروى ابن جرير عن السدي رحمه الله تعالى: أن إبليس كان اسمه قبل أن يلعن: الحرث (¬4). وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن اسمه كان: عزازيل؛ قال ¬
بعضهم: وهو بمعنى الحرث (¬1). وروى هو وابن المنذر، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: أن إبليس كان اسمه في الملائكة: الحرث (¬2). وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنَّما سمِّي إبليس لأنه أُبلِسَ من رحمة الله كلها (¬3). وروى ابن أبي حاتم عن السدي رحمه الله تعالى قال: الإبلاس: تغيُّر الوجه، وإنما سُمِّي إبليس لأن الله تعالى نكَّس وجهَه وغيَّره (¬4). ورويا عن ابن زيد قال: المبلس: المجهود المكروب الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه (¬5). وإبليس إن قيل: إنه عربي، فاشتقاقه من البَلَس - بالتحريك - مصدر: بَلِس كفرح، فهو بلس ككشف، وهو المبلس الساكت على ما في نفسه، والبلس على وزن المصدر: مَن لا خير عنده، أو من عنده إبلاس وشر. وحقيقة الإبلاس التحير والتغير، والكآبة والحزن، ومنه قول ¬
رُؤبة: [من السريع] وَحَضَرَتْ يَوْمَ الْخَمِيْسِ الأَحْماسْ .... وَفِي الْوُجُوهِ صُفْرَةٌ وإِبْلاسْ (¬1) وقال أبوه العجاج: [من الرجز] يا صاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مكْرسا ... قالَ نَعَم أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسا (¬2) وروى الإمام أحمد عن مسلم بن عبد الله الأزدي قال: جاء عبد الله ابن قُرط الأزدي - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا اسْمُكَ؟ " قال: شيطان بن قرط: فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْتَ عَبْدُ اللهِ بْنُ قُرْطٍ" (¬3). وروى الطبراني بسند صحيح، عن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتي بثوب من القَصَّار وعليه مكتوب: شيطان، فأُمِرَ به فَمُحِيَ، وقال: "أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ" (¬4). وروى بسند فيه متروك، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن أبيه ¬
رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لأبي: "هَذَا ابْنُكَ؟ " قال: نعم. قال: "مَا اسْمُهُ؟ " قال: الحباب. قال: "لا تُسَمِّهِ الْحُبَابَ؛ فَإِنَّ الْحُبَابَ شَيْطَانٌ، وَلَكِنْ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ" (¬1). وقال مسروق: سألني عمر - رضي الله عنه -: مسروق ابن من؟ قلت: مسروق بن الأجدع. قال: الأجدع اسم شيطان، قال: مسروق بن الأجدع (¬2). وفي ذلك إشارة إلى كراهة التسمية بأسماء الشياطين. قال البغوي: وقال عبد الرحمن بن أبي نُعم: يكره أن يسمى الرجل مُرَّة، ويكتنى بأبي مُرَّة. قال: وجاء في الحديث "شَرُّ الأَسْمَاءِ حَرْثٌ وَمُرَّةُ" (¬3). انتهى (¬4). ¬
وقد تقدم أن كنية إبليس أبو مرة، وأن مرة اسم ولد من أولاده. ولا تكره التسمية بالحارث - وإن كرهه بعضهم - لأن أصدق الأسماء حارث وهمام كما في الحديث الصحيح (¬1)، وأمَّا تسمية إبليس بالحرث فكان ذلك قبل أن يصير شيطاناً. وروى الدينوري أن رجلاً قال للشعبي: ما اسم امرأة إبليس؟ قال: ذاك عرس ما شهدته (¬2). لكن التحقيق أن من الشياطين إناثاً؛ لحديث الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ" (¬3). قال الخطابي: الخبث - بضم الباء -: جماعة الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة؛ يريد ذكور الشياطين وإناثهم. ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يتبع حمامة فقال: "شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانةً". أخرجه أبو داود عن أبي هريرة، وابن ماجه عنه، وعن أنس، وعن عثمان، وعن عائشة رضي الله تعالى عنهم (¬4). ¬
وروى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد رضي الله تعالى عنهما: أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرجال والنساء قعود عنده، فقال: "لَعَلَّ رَجُلًا يَقُوْلُ: مَا فَعَلَ بأَهْلِهِ، وَلَعَل امْرَأة تُخْبِرُ بِمَا فَعَلَتْ مَعَ زَوْجِهَا، فَأرَمَّ الْقَوْمُ". فقلت: إي والله: أعلم أنهم ليفعلون وأنهن ليفعلن. قال: "فَلا تَفْعَلُوْا؛ فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مِثْلُ شَيْطَانٍ لقِيَ شَيْطَانةً فَغَشِيَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُوْنَ" (¬1). وأخرج البزار نحوه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه (¬2). فأَرَمَّ القوم؛ أي: سكتوا - بفتح الهمزة، والراء، وتشديد الميم -. وروى ابن أبي شيبة عن ثابت: أن مطرفاً رحمه الله تعالى كان يقول: لو أن رجلًا رأى صيداً والصيد لا يراه، فختله، ألم يوشك أن يأخذه. قالوا: بلى. قال: فإن الشيطان يرانا، ونحن لا نراه، ويصيب منا (¬3). قلت: وأشار إلى قوله تعالى: {إِنَّهُ}؛ يعني: الشيطان {يَرَاكُمْ} ¬
هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]. وروى عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن قتادة رحمه الله تعالى: أنه قال في الآية: والله إن عدواً يراك من حيث لا تراه لَشديد المونة إلا من عَصم الله (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله تعالى: {وَقَبِيلُهُ}؛ قال: نسله (¬2). قال مجاهد رحمه الله تعالى: سأل الشيطان - يعني: لنفسه ولذريته - أن يَرى ولا يُرى، وأن يخرج من تحت الثرى، وأنه متى شاب عاد فتى، فأجيب. رواه أبو الشيخ (¬3). وروى ابن أبي الدنيا عن سفيان رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]؛ قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر (¬4). وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {إِنَّ عِبَادِي} الآية قال: عبادي الذين قضيت لهم بالجنة أن يذنبوا ذنباً لا أغفره لهم (¬5). وروى ابن جرير عن يزيد بن قسيط رحمه الله تعالى قال: كان ¬
الأنبياء - عليهم السلام - يكون لهم مساجد خارجة من قراها، فإذا أراد النبي أن يستنبئ ربه - عز وجل - عن شيء خرج إلى مسجده، فصلى ما كتب له، ثم سأل ما بدا له، فبينا نبي في مسجده إذ جاءه إبليس حتى كان بينه وبين القبلة، فقال النبي عليه السلام: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم - ثلاثاً - فقال إبليس: أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ قال النبي: بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم. فأخذ كل منهما على صاحبه، فقال النبي عليه السلام: إن الله تعالى يقول: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]. قال إبليس: قد سمعت هذا قبل أن تولد. قال النبي عليه السلام: ويقول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200]، وإني والله ما أحسَسْت بك قط إلا استعذت بالله منك. فقال إبليس: صدقت، بهذا تنجو مني. قال النبي: فأخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم. قال: آخذه عند الغضب، وعند الهوى (¬1). قلت: ومن هنا أرشدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول أحدنا عند الغضب: ¬
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وروى ابن أبي شيبة عن أبي جعفر رحمه الله تعالى مرسلاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللَّهُمَّ إِني أَعُوْذُ بِكَ مِنَ الشَّكِّ بَعْدَ الْيَقِيْنِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ مُقَارَنَةِ الشَّيَاطِيْنِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الدِّيْنِ" (¬1). وروى أبو يعلى بسند حسن، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللهِ فِيْ الْيَوْمِ عَشْرَ مَرَّات مِنَ الشَّيْطَانِ وَكَّلَ اللهُ بِهِ مَلَكًا يَرُدّ عَنْهُ الشَّيَاطِيْن" (¬2). وروى الديلمي عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ رَجُل يَدْعُوْ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِيْ أَوَّلِ لَيْلهِ وَأَوَّلِ نَهَارِهِ إِلاَّ عَصَمَهُ مِنْ إِبْلِيْسَ وَجُنُوْدِهِ: بِسْمِ اللهِ ذِيْ الشَّأْنِ، عَظِيْمِ الْبُرْهَانِ، شَدِيْدِ السُّلْطَانِ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ". وروى ابن أبي شيبة، وأبو نعيم عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى قال: إذا قال الإنسان حين يصبح: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم عشر مرات، أُجير من الشيطان حتى يمسي، وإذا قاله ¬
ممسياً أجير من الشيطان حتى يصبح (¬1). وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى قال: لولا كلمات أقولهن حين أصبح وحين أمسي لجعلتني اليهود مع الكلاب النابحة والحمر الناهقة: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر، الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر الشيطان وحزبه (¬2). وروى ابن السني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ تَدَاعَتْ جُنُوْدُ إِبْلِيْسَ وَأَجْلَبَتْ، وَاجْتَمَعَتْ كَمَا تَجْتَمعُ النَّحْلُ عَلَى يَعْسُوْبِهَا، فَإِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنْ إِبْلِيْسَ وَجُنُوْدِهِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَهَا لَمْ تَضُرَّهُ" (¬3). والآيات، والأذكار، والأدعيَة الحافظة من الشيطان كثيرة تطلب من محالِّها. والاستعاذة بالله من الشيطان مأمور بها في كتاب الله تعالى. قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ ¬
بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98]. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ هَمزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ". قال: همزه: الموتة، ونفثه: الشهوة، ونفخه: الكبرياء. رواه ابن أبي حاتم وغيره (¬1). وقال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 200، 201]. وحقيقة الاستعاذة من الشيطان التجاء إلى الله تعالى، واعتصام بحبله من خلل يطرأ على العبد، أو خطأ يحصل منه في القراءة وغيرهما، وإقرار لله تعالى بالعبودية والقدرة، واعتراف من العبد بالضعف والعجز عن هذا العدو الباطن الذي لا يقدر على رفعه ومنعه إلا الله تعالى الذي خلقه، فهو لا يقبل مصانعة، ولا يدارى بإحسان، ولا يقبل رشوة، ولا يؤثِّر فيه جميل، بخلاف العدو الظاهر من جنس الإنسان كما دلت عليه الآيات الثلاثة من القرآن العظيم التي أرشد الله فيها إلى رد العدو الإنساني والشيطاني، فقال تعالى في سورة الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فهذا ما يتعلق بالعدو الإنساني. ¬
ثم قال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200]. وقال في المؤمنين: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96]. ثم قال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97]. وقال في فصلت: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 - 36]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله تعالى من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنَّه ولي حميم. رواه البيهقي في "سننه"، والمفسرون (¬1). واعلم أن الغضب يكون من نزغ الشيطان وحمية النفس، فإذا استعاذ بالله المؤمن عند غضبه بطل عنه عمل الشيطان ونزغه، ثم يرد حمية النفس بالحلم والعفو، ودفع السيئة بالحسنة، وقد أمن من شر غضبه. قال خيثمة رحمه الله تعالى: كان يقال: إن الشيطان يقول: كيف يغلبني ابن آدم؛ إنه إذا رضي جئت حتى أكون في قلبه، وإذا غضب ¬
طِرْت حتى أكون في رأسه؟ رواه ابن أبي شيبة (¬1). قلت: يغلبه بذكر الله تعالى، والتسمية في أموره كلها، والاستعاذة منه كما في حديث والد أبي المليح رضي الله تعالى عنه، وكان رديفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فعثرت بهما الدابة، فقال: تعس الشيطان. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُلْ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ يَعْظُمُ حَتَّى يَصِيْرَ مِثْلَ الْبَيْتِ، وَيَقُوْلُ: بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ قُلْ: بِسْمِ اللهِ؛ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَصَاغَرَ حَتَّى يَصِيْرَ مِثْلَ الذُّبَابِ". رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه الحاكم وغيره (¬2). واعلم أن العبد لا يهتدي إلى دفع نزغ الشيطان وكيده عنه بذكر الله تعالى إلا بتوفيقه. وفي "الصحيحين"، وغيرهما عن سليمان بن صرد - رضي الله عنه - قال: استبَّ رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاشتد غضب أحدهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّيْ لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ: أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ". فقال الرجل: أمجنون تراني؟ فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: 200] (¬3). ¬
وفي "سنن أبي داود"، و"الترمذي"، و"النسائي" عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: استَبَّ رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فغضب أحدهما غضباً شديدًا حتى خُيلَ لي أن أنفه يتمزع من شدة غضبه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -. "إِنِّىْ لأَعْلَمُ كَلمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ مِنَ الْغَضَبِ". فقال: ما هي يا رسول الله؟ قال: "تَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنَّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ". قال: فجعل معاذ يأمره، فأبى وضحك، وجعل يزداد غضبًا" (¬1). فالذي يهتدي إلى الاستعاذة عند الغضب من أولياء الله تعالى الموفقين، ولا يكون ذلك إلا بتوفيق رب العالمين. ولقد قال مطرف بن عبد الله رحمه الله تعالى: إنما وجدت العبد ملقى بين ربه تعالى وبين الشيطان، فمن استشلاه ربه - أو قال: استنقذه - نجا، وإن تركه للشيطان ذهب به. رواه الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" (¬2). ورواه الإمام أحمد في "زهده"، ولفظه: وجدت العبد ساقطًا بين يدي ربه وبين الشيطان، فمن تركه ربه ذهب به الشيطان، وإن عصمه ¬
ربه عز وجل اعتصم (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إنما مثل ابن آدم كالشيء الملقى بين يدي الله تعالى وبين الشيطان، فإن كان لله فيه حاجةً حازه من الشيطان، وإن لم يكن لله فيه حاجة خلَّى بينه وبين الشيطان (¬2). وروى أبو الشيخ في كتاب "الثواب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثةٌ مَعْصُوْمُوْنَ مِنَ شَرِّ إِبْلِيْسَ وَجُنُوْدِهِ: الذَّاكِرُوْنَ اللهَ كَثِيْرًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْمُسْتَغْفِرُوْنَ بِالأَسْحَارِ، وَالْبَاكُوْنَ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ" (¬3). وروى أبو نعيم عن يوسف بن الحسين الرازي رحمه الله تعالى قال: سمعت ذا النون رضي الله تعالى عنه يدعو ويقول: إلهي! الشيطان لك عدو ولي عدو، ولن تغيظه بشيء أنكا له من عفوك عنا؛ فَاعف عنا (¬4). ولعل مأخذ ذي النون من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا ¬
هُوَ فِيْهِ أَصْغَرُ وَلا أَدْحَرُ وَلا أَحْقَرُ وَلا أَغْيَظُ مِنْهُ فِيْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللهِ عَنِ الذُنُوْبِ الْعِظَامِ، إِلاَّ مَا رُئيَ يَوْمَ بَدْرٍ؛ فَإِنَّهُ رَأَى جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَزَعُ الْمَلائِكَةَ". رواه مالك، ومن طريقه البيهقي، وغيره عن طلحة بن عبد الله بن كريز رحمه الله تعالى، مرسلاً (¬1). وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَقُوْمُ مِنْ بَيْتِ الْمَيَّتِ الْمُؤْمِنِ إِلَى قَبْرِهِ صَفَّانِ مِنَ الْمَلائِكَةِ يَسْتَقْبِلُوْنَهُ بِالاسْتِغْفَارِ، فَيَصِيْحُ إِبْلِيْسُ عِنْدَ ذَلِكَ صَيْحَةً يَنْصَدِع لَهَا بَعْضُ عِظَامِ جَسَدِهِ، ويَقُوْلُ لِقَوْمِهِ: الْوَيْلُ لَكُمْ! كَيْفَ خَلَصَ هَذَا الْعَبْدُ مِنْكُمْ؟ فَيَقُوْلُوْنَ: هَذَا كَانَ مَعْصُوْمًا" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن سفيان رحمه الله تعالى قال: إن الشيطان أشد بكاء على المؤمن إذا مات من بعض أهله لما فاته من فتنته إياه في دنياه (¬3). وعن يحيى بن سعيد رحمه الله تعالى قال: لما حضرت عمرة ابنة عبد الرحمن رحمهما الله تعالى الوفاة اجتمع عندها ناس من التابعين منهم ¬
عروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو سلمة، فبينما هم عندها وقد أغمي عليها إذ سمعوا نفيضًا من السقف، فإذا ثعبان أسود قد سقط كأنه جذع عظيم، فأقبل يهوي نحوها إذ سقط رق أبيض فيه مكتوب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من رب عكب إلى عكب، ليس لكم على بنات الصالحين سبيل، فلما نظر إلى الكتاب سعى (¬1) حتى خرج من حيث نزل (¬2). وروى ابن المبارك في "الزهد"، وابن أبي الدنيا عن عطاء بن يسار رضي الله تعالى عنه قال: تبدى إبليس لرجل عند الموت، [فقال: نجوت مني]، فقال: ما نجوت منك بعد (¬3). وقال الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد رحمة الله عليهما: حضرت وفاة أبي، وبيده (¬4) خرقة لأشد لحييه، فكان يغرق ثم يفيق، ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، فعل هذا مراراً، فقلت له: يا أبه! أي شيء يبدو مِنك؟ فقال: الشيطان قائم بحذاي عاض على أنامله، يقول: فُتَّنِي يا أحمد، وأنا أقول: لا بعد حتى أموت (¬5). وحكى القرطبي في "التذكرة" عن شيخ شيخه أحمد بن محمد ¬
القرطبي أنه احتضر فقيل له: قل: لا إله إلا الله. فكان يقول: لا. فلما أفاق ذكرنا له ذلك، فقال: أتاني شيطانان عن يميني وعن يساري، يقول أحدهما: مُت يهودياً فإنه خير الأديان، والآخر: مت نصرانيًا فإنه خير الأديان، وكنت أقول لهما: لا لا، أتقولان هذا وقد كتبت بيدي في كتاب الترمذي، والنسائي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِيْ أَحَدَكُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَقُوْلُ: مُتْ يَهُوْدِيًّا مُتْ نَصْرَانِيًّا"، "فَكَانَ الْجَوَابُ لَهُمَا لا لَكُمْ. قال القرطبي: لم أجد هذا الحديث في كتاب الترمذي، وأما النسائي فإنه نسخ، فيحتمل أن يكون في بعضها. وقيل: إن الله إذا أراد أن يثبِّت أحداً عند الموت بعث إليه جبريل عليه السلام. وقيل: يبعث إليه الرحمة فتقول له: هؤلاء أعداؤك من الشياطين، مت على الحنيفية والشريعة، فما شيء أحب إلى الإنسان وأفرح مِنْهُ، فذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ إِنَّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنَ الْهَرَمِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ". رواه أبو داود (¬1). ¬
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر في دعائه أن يقول: "اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوْبِ ثَبِّتْ قَلْبِيْ عَلَى دِيْنِكَ". قلت: يا رسول الله! كان القلوب لتنقلب؟ قال: "نعَمْ، مَا مِنْ خَلْقِ اللهِ مِنْ بَشَرٍ مِنْ بَنِيْ آدَمَ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابعِ اللهِ، فَإِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ، فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ لا يُزِيْغَ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَنَسْألهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ". قلتُ: يا رَسولَ اللهِ! ما أَكثرَ مَا تَدعو بِهذَا الدُّعاءِ! أَلا تُعلّمني دَعوةً أَدْعُو بِها لِنَفسِي؟ قالَ: "بَلَى، قُلْ: اللَّهُمَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ! اغْفِرْ لِيْ ذَنْبِي، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي، وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلاَّتِ الْفِتَنِ مَا أحْيَيْتَنِي" (¬1). وروى الأولان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يدعو: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوْبِ! ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِيْنِكَ". قلت: يا رسول الله! ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء؟ فقال: "لَيْسَ مِنْ قَلْب إِلاَّ وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابعِ الرَّحْمَنِ، إِذَا شَاءَ أَنْ يُقِيْمَهُ أَقَامَهُ، وَإِذَا شَاءَ أَنْ يُزِيْغَهُ أَزَاغَهُ، أَما تَسْمَعِيْنَ قَوْلَهُ ¬
تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8] " (¬1). وفي الباب عن أنس، وسبرة بن فاتِك، وجابر، والنواس بن سمعان رضي الله تعالى عنهم (¬2). وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن سفيان رحمه الله تعالى قال: إذا سئل الميت: من ربك؟ تزايا له الشيطان في جنوده يشير إلى نفسه: أنا ربك (¬3). ولذلك كان السلف يستحبون إذا وضع الميت في قبره أن يقولوا: اللهم أعذه من الشيطان، كما رواه الحكيم الترمذي أيضًا عن عمرو بن مرة رحمه الله تعالى (¬4). وروى الطبراني بسند ضعيف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهِا خَرَّ إِبْلِيْسُ سَاجِدًا يُنَادِي: إِلَهِي! مُرْنِيْ أَنْ أَسْجُدَ لِمَنْ شِئْتَ، فَتَجْتَمعُ إِلَيْهِ زَبَانِيَّتُهُ، فَيَقُوْلُوْنَ: يَا سَيِّدَهُمْ! مَا هَذَا التَّضَرُّعُ؟ فَيَقُوْلُ: إِنِّيْ سَأَلْتُ رَبي أَنْ يُنْظِرَنِيْ إِلَى الْوَقْتِ الْمَعْلُوْمِ، قَالَ: ¬
ثُمَّ تَخْرُجُ دَابَّةُ الأَرْضِ مِنَ الصَّفَا، قَالَ: فَأَوَّلُ خُطْوَةٍ تَضَعُهَا بِأنْطَاكِيَّةَ فَيَأْتِي إِبْلِيْسُ فَتَلْطِمُهُ" (¬1). وروى نُعيم بن حماد في كتاب "الفتن"، والحاكم في "المستدرك" وضعفه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبهَا، وَجفَّتِ الأَقْلامُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ لا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ تَوْبَةٌ، وَيخِرُّ إِبْلِيْسُ سَاجِدًا، ويُنَادِيْ: إِلَهِي! مَنْ لِيْ أَنْ أَسْجُدَ لِمَنْ شِئْتَ، وَتَجْتَمعُ إِلَيْهِ الشَّيَاطِيْنُ فَيَقُولوْنَ: يَا سَيِّدَهُمْ! إِلَى مَنْ تَضْرَعُ؟ فَيَقُوْلُ: أَنَا سَأَلْتُ رَبي أَنْ يُنْظِرَني إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبهَا، وَهَذَا الْوَقْتُ الْمَعْلُوْمُ، وَتَصِيْرُ الشَّيَاطِيْنُ ظَاهِرَةً فِيْ الأَرْضِ حَتَّى يَقُوْلَ الرَّجُلُ: هَذَا قَرِيْنِي الَّذِي كَانَ يَغْوِيْنِي، فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَخْزَاهُ، وَلا يَزَالُ إِبْلِيْسُ سَاجِدًا بَاكِيًا حَتَّى تَخْرُجَ الدَّابَّةُ فَتَقْتُلَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، ويَمْتَنِعُ الْمُؤْمِنُوْنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً لا يَتَمَنَّوْنَ شَيْئًا إِلاَّ أُعْطوْهُ حَتَّى تتِمَّ أَرْبَعُوْنَ سَنَةً بَعْدَ الدَّابَّةِ، ثُمَّ يَعُوْدُ فِيْهِم الْمَوْتُ فَلا يَبْقَى مُؤْمُنٌ، ويَبْقَى الكُفَّارُ يَتَهَارَجُوْنَ فِيْ الطُّرُقِ كَالْبَهَائِمِ حَتَّى يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ فِي وَسَطِ الطَّرِيْقِ يَقُوْمُ وَاحِدٌ عَنْهَا، ويَتْرُكُ وَاحِدًا، وَأَفْضَلُهُمْ يَقُوْلُ: لَوْ تَنَحَّيْتُمْ عَنِ الطَّرِيْقِ كَانَ أَحْسَنَ، فَيَكُوْنُوْنَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى ¬
لا يُوْلَدَ أَحَدٌ مِنْ نِكَاحٍ، ثُمَّ يعْقِمُ اللهُ النسَاءَ ثَلاثِيْنَ سَنَةً، وَيَكُوْنُوْنَ كُلُّهُمْ أَوْلاد زِنَا شِرَارَ النَّاسِ، عَلَيْهِمْ تَقُوْمُ السَّاعَةُ" (¬1). وروى ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أبي بكر الهذلي رحمه الله تعالى قال: لما نزلت: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (156)} [الأعراف: 156]: قال إبليس: يا رب! وأنا من الشيء، فنزلت: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ (156)} [الأعراف: 156] فنزعها من إبليس (¬2). وروى ابن المنذر نحوه عن ابن جريج، وعن السدي، ورواه عبد ابن حميد عن قتادة رحمهم الله تعالى (¬3). وفي "شعب الإيمان" للحافظ أبي بكر البيهقي: عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: لما نزلت هذه الآية: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (156)} [الأعراف: 156] مدَّ إبليس عنقه، فقال: أنا من الشيء، فنزلت {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} [الأعراف: 156]، فمدت اليهود والنصارى أعناقها، فقالوا: نحن نؤمن بالتوارة والإنجيل، ونؤدي الزكاة، فاختلسها الله تعالى من إبليس واليهود والنصارى، فجعلها لهذه الأمة خاصة، فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ} [الأعراف: 157] الآية (¬4). ¬
وروى الطبراني بسند ضعيف، عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ الْفَاجِرُ فِيْ دِيْنِهِ، وَالأَحْمَقُ فِيْ مَعِيْشَتِهِ، وَالَّذِي بَعَثَنِي لَيَغْفِرَنَّ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْفِرَةً يَتَطَاوَلُ لَهَا إِبْلِيْسُ رَجَاءَ أَنْ تُصِيْبَهُ" (¬1). وروى الإمام أحمد عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّارِ إِبْلِيْسُ فَيَضعَهَا عَلَى حَاجِبِهِ، وَيَسْحَبَهَا مِنْ خَلْفِهِ، وَذُرِّيتُهُ مِنْ بَعْدِهُ وَهُوَ يُنَادِي: يَا ثُبُوْرَاهُ، وَهُمْ يُنَادُوْنَ: يَا ثُبُوْرَهُمْ، حَتَّى يَقِفُوْا عَلَى النَّارِ، فَيَقُوْلُ: يَا ثُبُوْرَاهُ، ويَقُوْلُوْنَ: يَا ثُبُوْرَهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)} [الفرقان: 14] " (¬2). وفي كتاب الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 87 - 94]؛ أي: الآلهة، إلا ما استثنى الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101]. ¬
وقد قيل: (إنَّ) في الآية بمعنى (إلا)، وكان الأصل: إنا في معنى إلا، حذفت الألف للساكنين. ومعنى {فَكُبْكِبُوا (94)} [الشعراء: 94] جمعوا؛ أي: فجمع فيها الآلهة إلا ما استثنى {وَالْغَاوُونَ (94)} [الشعراء: 94]: الذين عبدوهم، {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي: رجعة إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)} [الشعراء: 94 - 104]. فهذا آخر أمر الشيطان اللعين، وآخر أتباعه الغاوين، ومن كان يؤمن بهذا، فكيف تسمح نفسه باتباعه والتشبه به وهو يعلم ما ينتهي أمره وأمر أتباعه وأشباهه إليه. ولقد قلت: [من مجزوء الرمل] أَوَّلُ الشَّيْطانِ رَجْمٌ ... وَمَدَى الشَّيْطانِ لَعْنُ وَلأَشْباهِ الشَّيا ... طِينِ عَنِ الْخَيْراتِ وَهْنُ وَلَهُمْ فِي يَوْمِ فَصْلِ الـ ... أَمْرِ إِبْعادٌ وَحُزْنُ وَعَلَيْهِمْ كُلُّ يسَهْلٍ ... كَيْفَ كانَ الْقَوْمُ حُزْنُ وَلِمَنْ تابَ إِلَى اللَّـ ... ـهِ مِنَ الْعِصْيانِ أَمْنُ
النوع الثاني من القسم الثاني من الكتاب في النهي عن التشبه بالكفار
النَّوْعُ الثَّاني مِنَ القِسمِ الثَّاني مِنَ الكتَابِ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُهِ بِالكُفَارِ وهم أتباع الشيطان في المعصية التي لا تُغفر، وهي الشرك بالله تعالى، فيتعين على المؤمن أن يتجنب التشبه بهم في أصل الكفر، والخصال التي يعتادونها؛ إما لترتبها على الكفر، أو لاستجرارها إليه؛ أي: لأنها تُنقص الإيمان وتُوهيه، أو لنحو ذلك لِمَا علمت في أول الكتاب من أن من تشبه بقوم فهو منهم. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا". رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو (¬1). وروى الديلمي عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ عَمِلَ بِسُنَّةِ غَيْرِنَا" (¬2). قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ (13)} [يونس: 13] أي: من عهد قابيل إلى بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - {لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ¬
وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا (13)} [يونس: 13]؛ أي: يصدقوا بالله ورسله، وما جاؤوا به، ويعملوا بمقتضى ذلك {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)} [يونس: 13] أي: ممن بعدهم من هذه الأمة إلى آخر الدهر {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس: 14]؛ أي: هل تستقيمون على ما أمرتم به، أم تعملون مثل أعمالهم؟ وفيه وعيد شديد لمن حذا حَذْوهم في الظلم والإجرام، والإعراض عن الإيمان والإسلام. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ (115)} [النساء: 115] الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا (156)} [آل عمران: 156]. وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 94 - 95]. وإذا كان هذا الخطاب مع المعصوم فكيف بغيره، أو الخطاب للنبي والمراد به أمته. وقال: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 104 - 105]. وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ
مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ (22)} [المجادلة: 22]. ولقد بينا لك سابقًا أن التشبه بالقوم دليل محبتهم ومودتهم، واستحسان أحوالهم وطريقتهم. وقال تعالى في ذم المقتدين بأسلافهم في الكفر والمعصية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]. وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} [لقمان: 21]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)} [البقرة: 118]. وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} [التوبة: 30]. أي: كيف يُصرفون عن الحق الواضح بعد قيام الأدلة عليه إلى الباطل بمجرد التقليد والتشبه بمن تقدمهم من الكفار. وقال تعالى حكاية عن صالح عليه السلام: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 150 - 152]؟
قال قتادة: المسرفون في الآية هم المشركون. رواه عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وغيرهمَا (¬1). وقال تعالى حكاية قول المشركين: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} إلى قوله تعالي: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)} [الزخرف: 25]. وقال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ (113)} [هود: 113]. قال أبو العالية رحمه الله تعالى: لا ترضوا أعمالهم (¬2). وابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا تميلوا إليهم (¬3). رواهما ابن المنذر. وقال القاضي البيضاوي رحمه الله تعالى في الآية: ولا تميلوا إليهم أدنى ميل؛ فإن الركون هو الميل اليسير كالتزي بزيهم، والتعظيم لذكرهم، انتهى (¬4). وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ¬
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)} [غافر: 21]. أمَرَ الله تعالى هذه الأمة بالنظر فيما صار إليه الأمم من الأخذ الوبيل بسبب الذنوب، ليحذروا مما كان أولئك عليه من الاغترار بالقوة والتأثير والتصرُّف في الأمور. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)} [غافر: 82]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 9 - 10]. و(السُّوأى) خبر (كان)، أي: العاقبة السوأى، أو: العقوبة السوأى. و(أن كذبوا) بدل من (السوأى)، أو تعليل للجملة قبله؛ أي: بسبب أن كذبوا. وقال: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)} [السجدة: 26]. فقد دلت هذه الآية والآيات قبلها، وأمثالها مما تضمنته من الاستفهام التوبيخي على استحباب الاعتبار بأحوال الأمم السالفة بعد
النظر في آثارهم والاستماع إلى أخبارهم، بحيث يتسبب عنه الانزجار عمَّا كانوا عليه من الكفر والظلم والاغترار خشية أن يصيبهم ما أصابهم، فهي تتضمن الزجر عن التشبه بهم في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم. وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَالِفُوْا الْمُشْرِكِيْنَ؛ احْفُوْا الشِّوَارِبَ، وَاعْفُوْا اللِّحَى" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عنه - موقوفًا - قال: خالفوا سنن المشركين (¬2)؛ أي: طرائقهم وأعمالهم. وروى الإمام الحافظ أبو حفص بن شاهين في "مسنده"، والديلمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَقَرَّبُوْا إِلَى اللهِ بِبُغْضِ أَهْلِ الْمَعَاصِيْ، وَالْقُوْهُمْ بِوُجُوْهٍ مُكْفَهِرَّةٍ، وَالْتَمِسُوْا رِضَى اللهِ بِسُخْطِهِمْ، وَتَقَرَّبُوْا إِلَى اللهِ بِالتَّبَاعُدِ عَنْهُمْ" (¬3). وإنما أمرنا ببغضهم إيذانا ببغض أعمالهم والتنزه عنها، وكي لا يألفونا ونألفهم فتتسارق الطَّباع. والتباعد عنهم إنما المقصود منه التباعد عن أخلاقهم وأعمالهم. والوجوه المكفهرة هي العابسة عند لقائهم، فالعبوس في وجوه ¬
أهل المعاصي زجرًا لهم، ولقاؤهم باكفهرار الوجوه مندوب إليه كلقاء أهل الطاعة بالبشاشة، والتودد إليهم، والتخلق بأخلاقهم كما سبق بيانه. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: في الزَّبور مكتوب: طوبى لمن لم يسلك سبيل الأَثَمة، ولم يجالس الخطَّائين، ولم يقم (¬1) في همِّ المستهزئين، ولكن همه سنة الله عز وجل وإياها يتعلم بالليل والنهار، مَثَلُه مثل شجرة على شَطِّ الماء تُؤتي ثمرها في حينها، ولا يتناثر من ورقها شيء، وكل عمله بأمري، ليس عمله مثل عمل المنافقين (¬2). وعن عقيل بن مدرك السُّلمي رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: قل لقومك لا يأكلوا طعام أعدائي، ولا يشربوا شراب أعدائي، ولا يتشكلوا بشكل أعدائي؛ فيكونوا أعدائي (¬3). وروى أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن حذيفة المرعشي رحمه الله تعالى أنه قال: إياكم وهدايا الفجارِ والسفهاء؛ فإنَّكم إذا أكلتموها (¬4) ظنوا أنَّكم رضيِتم فعلَهم (¬5). ¬
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن عمرو بن مُرَّة رحمه الله تعالى، عن رجل من بني هاشم رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْبَغِي لأَوْلِيَاءِ اللهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْخُلُوْدِ الَّذِيْنَ لَهَا سَعْيُهُمْ وَفِيْهَا رَغْبَتُهُمْ وَلَهَا يُرِيْدُوْنَ: أَنْ يَكُوْنُوْا أَوْلِيَاءَ، وَلا أَحِبَّاءَ، وَلا جُلَسَاءَ لأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ (¬1) مِنْ أَهْلِ دَارِ الْغُرُوْرِ الَّذِيْنَ لَهَا سَعْيُهُمْ وَفِيْهَا رَغْبَتُهُمْ، هُمْ أَشَدُّ تَبَاعُدًا عَنْهُمْ، وَتَبَادُرًا إِلَى الْخَيْرِ، وَمُقَاطَعَة لَهُم أَسْبَابًا وَأَخْلاقًا" (¬2). وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" عن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى قال: تزكية الأشرار لك هجنَة (¬3)، وحبهم لك عيب عليك، وهان عليك من احتاج إليك (¬4). وروى ابن المبارك في "الزهد" عن يحيى بن [أبي] كثير رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنْ صَاحِبِ غَفْلَةٍ، وَقَرِيْنِ سُوْءٍ، وَزَوْجِ أَذَى" (¬5). ومن المعلوم عند عامة أهل العلم أن الله تعالى لم يذكر قصص الأمم الماضية في كتابه العزيز لتكون أسماراً، ولكن قررها لتكون ¬
اعتبارًا، فإذا نظر العبد إلى قصصهم وهلاك ضُلاَّلهم، ونجاة المؤمنين منهم، كان ذلك أدعى للعبد، وأبعث له على الثبات على الإيمان والطاعة، وأردع له وأزجر عن الكفر والمعصية؛ {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (111)} [يوسف: 111]. فينبغي أن نشير إلى قصص مشاهير الأمم التي ذكرها الله تعالى في القرآن العظيم على سبيل الإيجاز، ونبين ما انتقد عليهم من الأعمال والأقوال والاعتقادات التي هي السبب في هلاكهم وبَوارهم؛ لينكفَّ المؤمن عن التشبه بهم فيها، وينزجر عن الاقتداء بهم في تعاطيها.
(1) باب النهي عن التشبه بقابيل القاتل لأخيه هابيل
(1) بَابُ النَّهي عَنِ التَّشَبُّهِ بِقَابْيلَ القَاتلِ لِأَخْيِهِ هَابِيْلَ
(1) بَابُ النَّهي عَنِ التَّشَبُّهِ بِقَابْيلَ القَاتلِ لِأَخْيِهِ هَابِيْلَ وهو أول من عَبَدَ النار، وأول من قتل النفس التي حرَّم الله تعالى بغير حق، وأول من عقَّ أبويه، وأول من قطع رحمه. روى عبد بن حميد عن الحسن رحمه الله تعالى قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَلا إِنَّ ابْنَي آدَمَ ضَرَبَا لَكُمْ مَثَلاً؛ فَتَشَبَّهُوْا بِخَيْرِهِمَا، وَلا تَشَبَّهُوْا بِشَرِّهِمَا" (¬1). وروى الشيخان، والترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهِ؛ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (¬2). قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ (27)} [المائدة: 27] الآيات. رُوِيَ أن حواء كانت تلد في كل بطن غلامًا وجارية، فكان آدم عليه السلام إذا شبَّ أولادهُ زوَّجَ غلامَ هذا البطنِ جاريةَ بطنِ آخرَ، ¬
فلمَّا ولد قابيل وتوأمته، وهابيل وتوأمته، أمر الله تعالى آدم عليه السلام أن يزوج قابيل توأمة هابيل، وهابيل توأمة قابيل، وكانت أحسن من توأمة هابيل، فسخِط قابيل ذلك، وقال: أنا أحق بأختي. فقال له آدم عليه السلام: إنها لا تحل لك. فأبى، وزعم أن الله تعالى لم يأمر أباه بذلك، وإنما أراد ذلك من رأيه. فقال لهما آدم: قرَّبا قرباناً، وأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها. وكان القربان إذا كان مقبولاً نزلت نارٌ بيضاءُ من السماء فأكلته، وإلا لم تنزل النار إليه، وأكلته الطير والسباع، وكان قابيل صاحب زرع فقرَّب صُبرة من طعام من رديء زرعه، وكان هابيل صاحب غنم فقرَّب أحسن كبش عنده، ووضعا قربانهما على الجبل، فتقبل من أحدهما قربانه وهو هابيل، ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل، فغضب لرد قربانه، وأَضمر الحسد لأخيه حتى ذهب آدم عليه السلام إلى زيارة البيت الحرام، فجاء قابيل إلى هابيل وهو في غنمه، قال: لأقتلنك. قال: ولم؟ قال: لأنَّ الله قبِل قربانك ولم يقبل قرباني، وتنكح أنت أختي الحسناء، وأنكح أختك الذميمة فتتحدث الناس أنك خير مني، ويفتخر ولدُك على ولدي. فقال هابيل: ما ذنبي؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)} [المائدة: 27 - 29]. قال المفسرون: يعني: إن كان الإثم واقعاً لا محالة فأريد أن يكون منك لا مني (¬1). وقال بعضهم: أراد بالإثم: العقوبة (¬2). قلت: والذي أختاره أن هابيل أراد تخويف أخيه من القتل، وتهويل أمره عليه لينجو هو من القتل، ويَسْلَم أخوه من العار والإثم، ولم يُرِدْ وقوع العصيان من أخيه. قال الله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)} [المائدة: 30]. قال ابن جريح، ومجاهد رحمهما الله تعالى: جهل كيف يقتل أخاه، فجاء إبليس بطائر أو حيوان غيره، فجعل يشدخ رأسه بين حجرين حتى قتله ليقتدي به قابيل، ففعل، وعلَّمَه القتل فتعلم. رواه ابن جرير (¬3). قال ابن عباس: كان ذلك في ثورٍ؛ جبلٍ بمكة (¬4). ¬
وقال محمد بن جرير: عند عَقَبة حراء (¬1). وقال جعفر الصادق: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم (¬2). وروى الربعي في "فضائل الشام" عن علي رضي الله تعالى عنه، وعن كعب الأحبار، وعن عبد الله بن أبي المهاجر رحمهم الله تعالى: أنه بدمشق في جبل قاسيون (¬3). وعن ابن أبي المهاجر: أنهما وضعا القربان في موضع مسجد دمشق على حجر خارج باب الساعات (¬4). وروى ابن عساكر عن علي رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بِدِمَشْقَ جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ: قَاسِيُونُ؛ فِيْهِ قَتَلَ ابْنُ آدَمَ أَخَاهُ" (¬5). وعن كعب قال: الدم الذي على قاسيون هو دم ابن آدم؛ يعني: هابيل عليه السلام (¬6). قالوا: ولما قتله قعد عند رأسه يبكي، إذ أقبل غرابان فاقتتلا، ¬
فقتل أحدهما الآخر، ثم حفر له حفرة فدفنه، فتفطَّن قابيلُ لذلك، ووارى أخاه (¬1). ومن هنا يعلم أن هابيل أول مدفون من بني آدم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)} [المائدة: 31]؛ أي: على فقده لا على قتله، أو: لم يكن الندم يومئذ توبة. قال قوم: لم يدر قابيل ما يصنع بأخيه حين قتله، فحمله حتى أروح، فبعث الله له الغراب. قال مجاهد: حمله في جِراب، ومشى به يحمله على عاتقه مئة سنة (¬2). والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه حمله سنة واحدة، كما رواه ابن جرير (¬3). وقال قوم آخرون: كان يعلم الدفن، ولكن نبذه بالعراء استخفافًا به، ثم لمَّا رأى الغراب يواري الغراب علم من نفسه العجز والقطيعة، فقال ذلك (¬4). ¬
ثم هرب قابيل إلى عَدَن من أرض اليمن، وامتزج بالوحش، وكان الوحش إذ ذاك يستأنس بالإنس، فلما مضت عليه أيام جاع ولم يجد طعاماً، فأخذ ظبية وشدخ رأسها بالحجر؛ قال ابن عباس: فكانت الموقوذة حراماً من عهد قابيل، وهرب الوحش يومئذ من الإنس لِمَا رأى من قابيل (¬1). قلت: ومن هنا يعلم أن القتل للوحش منه، ومنه حصلت الوِحشة للبشر، ثم للوحش. قالوا: وعرض إبليس لقابيل فقال له: إنما أكلت النار قربان أخيك لأنه كان يعبدها، فانصُب أنت ناراً تكون لك ولعَقِبك، فبنى بيت نار، وهو أول من عبد النار، ولذلك كان أول من ينساق إلى النار كما روي (¬2). قال البغوي رحمه الله تعالى: قالوا: واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع، والطبول، والمزامير، والعيدان، والطنابير، وانهمَكوا في اللهو، وشرب الخمر، وعبادة النار، والزنا، والفواحش حتى أغرقهم الله بالطُّوفان أيامَ نوح عليه السلام، وبقي نسل شيث عليه السلام (¬3). قلت: ويجمع بين ذلك وبين ما تقدم أن إبليس وضع المزامير، ¬
1 - فمنها: أن قابيل سخط قسمة الله تعالى، ولم يرض بما قسم له.
والعيدان، وآلات اللهو على ألحان داود عليه السلام بأن المزامير وآلات اللهو كانت نُسيت في عهد نوح عليه السلام بعد أولاد قابيل، حتى جدَّدهَا إبليس في بني إسرائيل في زمن داود عليه السلام، أو بعده، أو كانت قبل داود على وضع ولحن، فلما أعطي داود عليه السلام حسن الصوت واللحن جعلها الشيطان على ألحانه، والله الموفق. وقد اشتملت قصة قابيل على قبائح يتعين على كل مؤمن أن يتبرأ منهَا ويتنزه عنها. 1 - فمنهَا: أن قابيل سَخِطَ قسمة الله تعالى، ولم يرض بما قُسم له. وقد روى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححه، عن سعد ابن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ الله، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللهُ - وفي رواية: بِمَا قَسَمَ اللهُ - وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَتَهُ الله، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ لِمَا قَضَى اللهُ لَهُ - وفي رواية: لِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ -" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير"، وابن حبان في "الضعفاء" عن أبي ¬
هند الداري رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَالَ اللهُ عز وجل: أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي، وَيَصْبِرْ عَلَى بَلائِي، فَلْيَلْتَمِسْ رَبًّا سِوَايَ" (¬1). وفي كتاب الله عز وجل: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 31 - 35]. وروى أبو نعيم عن أبي سعيد، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما معًا قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَسَخَّطَ رِزْقَهُ، وَبَثَّ شَكْوَاهُ، وَلَمْ يَصْبِرْ، لَمْ يَصْعَدْ لَهُ إِلَى اللهِ عَمَلٌ، وَلَقِيَ اللهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ" (¬2). وروى الحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ (32)} [الزخرف: 32]؛ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ ¬
2 - ومنها: عقوق الوالدين وإسخاطهما، وهو من الكبائر.
يُعْطِيْ الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لا يُحِبُّ، وَلا يُعْطِي الدّيْنَ إِلاَّ مَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ الدِّيْنَ فَقَدْ أَحَبَّهُ" (¬1). ولقد قلت في الرضا بالقسمة: [من السريع] مَنْ لَيْسَ يَرْضَى بِالَّذِي قَدْ قُسِمْ ... لَمْ يَبْلُغِ الْمَطْلُوْبَ لَكِنْ أَثِمْ أَما تَرى قابِيْلَ فِي سُخْطِهِ ... باءَ بِإِثْمٍ فَوْقَ ما قَدْ حُرِمْ وَلَمْ يَفُتْ هابِيْلَ مِنْ رِزْقِهِ ... شَيْءٌ وَلَكِنْ بِالرِّضَا قَدْ نُعِمْ دُنْياكَ تَفْنَى فَادَّخِرْ صالِحًا ... مَنْ كانَ ذا عَقْلٍ لِقَوْليْ فَهِمْ خَلِّ الْهَوى لا يَسْتَمِلْكَ الْهَوى ... مَنْ يَسْتَقِمْ يُغْدَقْ لَهُ فَاسْتَقِمْ 2 - ومنها: عقوق الوالدين وإسخاطهما، وهو من الكبائر. وروى الترمذي، والحاكم وصححاه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ" (¬2). ورواه الطبراني، ولفظه: "رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُهُ فِيْ سَخَطِهِمَا" (¬3). ¬
3 - ومنها: مخالفة النبي، ومخالفة الوالد، ومخالفة الأستاذ.
وروى أبو نعيم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُقَالُ لِلعَاقِّ: اِعْمَلْ مَا شِئْتَ مِنَ الطَّاعَةِ؛ فَإِنَّي لا أَغْفِرُ لَكَ" (¬1). 3 - ومنها: مخالفة النبي، ومخالفة الوالد، ومخالفة الأستاذ. وقد كان آدم عليه السلام أبا لقابيل، ونبيًا، وأستاذاً. وطاعة الوالدين واجبة إلا إذا أَمَرا بمعصية، أو بما فيه ضرر عليه؛ فإِنْ أمراه بشبهة لا ضرر عليه فيها فالذي عليه الأكثرون - كما قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى - وجوب طاعتهما في ذلك (¬2). فإن أمراه بترك سنة مرة أو مرتين أطاعهما، فإن أمراه بالترك دائمًا فلا طاعة لهما فيه كما قال بعض المالكية، وأقره الشيخ تقي الدين السبكي (¬3). فإن أمره كل منهما بما يخالف ما أمره به الآخر أطاع الأب لأنه أقرب في الحزم والرأي من الأم ما لم يكن أمرُ الأبِ مخالفًا للشرع. وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن حبان بن موسى رضي الله ¬
4 - ومنها: إساءة الظن بالوالد، وبالأستاذ، وبالعبد الصالح.
تعالى عنه قال: سألت ابن المبارك رحمه الله تعالى عن الوالد والوالدة إذا أمرا بشيء، فقال: الأب أحق بالطاعة، والأم أحق بالبر (¬1). قلت: وهذا حسن. 4 - ومنها: إساءة الظن بالوالد، وبالأستاذ، وبالعبد الصالح. وقد قال الله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (12)} [الحجرات: 12]. وروى ابن عدي، والخطيب عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ الْمَرْءِ حُسْنُ ظَنِّهِ" (¬2). نعم، لو كان المظنون فيه محلًّا للتهمة وسوء الظن فعليه يُحمل ما رواه أبو الشيخ عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: الحزم سوء الظن (¬3). 5 - ومنها: النظر إلى كلام الناس، والخوف من تعييرهم، فيدعوه ذلك إلى مخالفة الشرع والعقل، والوقوع في الحذر، كما يدل عليه قول قابيل: فيتحدث الناس أنك خير مني (¬4). ¬
6 - ومنها: دعوى ما ليس له، والدعوى الباطلة.
وقد قلت: [من البسيط] لا يَجْرِمَنَّكَ مَرْأى النَّاسِ مِنْكَ عَلى ... أَنْ تَرْكَبَ الْحُوبَ أَوْ أَنْ تَرْفُضَ الدِّينا وَلا تَخَفْ مِنْ كَلامِ النَّاسِ فِيْكَ إِذا ... تَبِعْتَ ما شَرَعَ الدَّيَّانُ بارِينا وَإِنْ أَنِفْتَ لِرَأْيِ النَّاسِ مِنْ عَمَلٍ ... فَقُلْ لنَفْسِكَ مَهْ لَوْلا تَخافِيْنا فَضِيْحَةُ الْمَرْءِ فِي الدُّنْيا أَخَفُّ أَسًى ... ما كُنْتِ يا نَفْسُ إِلاَّ أَوَّلاً طِينا بِالْعِلْمِ وَالدِّيْنِ وَالتَّقْوَى سَما رَجُلٌ ... وَحَسْبُنا اللهُ كافِينا وَهادِينا 6 - ومنها: دعوى ما ليس له، والدعوى الباطلة. قال الماوردي: قيل: أول دعوى وقعت في الأرض دعوى قابيل على أخيه هابيل أنه أحق بنكاح توأمته، فتنازعا إلى آدم عليه السلام، فأمرهما بما قصه الله تعالى علينا بقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا (27)} [المائدة: 27]، فقتل قابيل هابيل، فكان أول قتيل في الأرض (¬1). ¬
7 - ومنها: تزكية النفس، وتعظيمها، والنظر إلى فضلها.
وروى ابن ماجه عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (¬1). 7 - ومنها: تزكية النفس، وتعظيمها، والنظر إلى فضلها. قال الله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} [النجم: 32]. ولولا تزكية قابيل لنفسه على أخيه ما رأى نفسه أولى بالنعمة من أخيه، فمن زكَّى نفسه ورأى فضلها فهو أشبه بأخيه قابيل. وقد روى الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، والطبراني في "الكبير" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَعَظَّمَ فِيْ نَفْسِهِ، وَاخْتَالَ فِيْ مِشْيَتِهِ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ" (¬2). 8 - ومنها: قطيعة الرحم، وهي من الكبائر. قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)} [محمد: 22]. وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا الرَّحْمَنُ، وَهَذهِ الرَّحِمُ شَقَقْتُ لَهَا مِن اسْمِي؛ ¬
9 - ومنها: التصدق بأردأ الأموال وشرها، وهو مكروه.
فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ" (¬1). وأقول: [من السريع] قابِيْلُ أَوَّلُ أخٍ مُدابِرِ ... وَأَوَّلُ الباغِيْنَ فِي الْعَشائِرِ تَبًّا لِمَنْ كانَ لَهُ مُقْتَفِياً ... مِنْ جائِرٍ بَيْنَ الْبَرايا حائِرِ 9 - ومنهَا: التصدق بأردأ الأموال وشرها، وهو مكروه. قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (92)} [آل عمران: 92]. وقال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ (267)} [البقرة: 267]. والمعنى: ما لا تأخذونه إلا مع كراهة وحياء، وهو معنى الإغماض، فلا تُؤثروا به ربكم. وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ (62)} [النحل: 62]. 10 - ومنها: لوم غيره، والانتقام منه على ما ابتلي به بسبب ذنب نفسه، أو تمحض القضاء والقدر. فإن قابيل لما لم يقبل منه قربانه غضب، وحَنِقَ على أخيه، وقال: ¬
لأقتلنك، ولو كان حازماً كان غضبه على نفسه؛ إذ كان هو السبب في عدم قَبول قربانه بارتكاب المعاصي التي أشرنا إليها آنفًا، فلو رجع على نفسه باللائمة، وتاب وأقلع لكان خيرًا له، وليته حين نبَّهه أخوه هابيل بقوله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} [المائدة: 27] تنبه وعاد إلى الطاعة. وقد قيل: [من السريع] ارْجِعْ إلى الْوِدَّ الَّذِي بَيْنَنا ... وَكُلُّ ذَنْبٍ لَكَ مَغْفُورُ وكذلك ينبغي لكل من أصيب بمصيبة، أن يعلم أنها بما قدمت يداه كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا (88)} [النساء: 88]. {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (79)} [النساء: 79]. ولا يحمله الطيش والبغي أن يلوم غيره فيكون متشبهاً بقابيل حيث لم يتقبل قربانه، فحمله البغي على أن قال لأخيه: لأقتلنك، بل يرجع باللاَّئمة على نفسه ليظفر بحصول أُنسه، كما قلت: [من مخلّع البسيط] أَن السَّبَبُ فِي بَلْوايَ ... ما ضَرَّني غَيْرُ أَهْوايَ يا رَبِّ خَلِّصْنِي مِنِّي ... وَنَجِّنِي مِنْ دَعْوايَ نَفْسِي تَقُوْلُ لِي فِي نَفْسِي ... وَأَنا الْحَزِيْنُ مِنْ نَجْوايَ مَنْ ذا تُرَى مِثْلِيَ فِي الْكَوْنِ ... ثانِيَ يَجِيْءُ فِي تَقْوايَ وَأَنا الَّذِي أَدْرِي وَأَعـ ... ـلَمُ مِنْها زِيادَةَ طَغْوايَ
11 - ومنها: التشبه بالشيطان.
مِنْ عُجْبِ نَفْسِيَ يا عَجَبِي ... وَالْعُجْبُ أَرْدَى أَدْوايَ فِيْ بَدْئِها كانَتْ نُطْفَة ... وَالرَّمْسُ آخِرُ مَثْوايَ يا رَبِّ كَمْ ذا تُؤْذِيْنِي ... نَفْسِي وَتَجْلِبُ بَلْوايَ يا رَبِّ سَكِّنْها عَنِّي ... فَأَنْتَ أَقْصَى رَجْوايَ 11 - ومنها: التشبه بالشيطان. فإن قابيل اقتدى بالشيطان في شدخ رأس أخيه كما تقدم، فمن تشبَّهَ بإبليس كان متشبهًا بقابيل في التشبه به؛ فإنه أول من تشبه بالشيطان، وقد قلت: [من السريع] أَوَّلُ مَنْ أَشْبَهَ شَيْطانا ... قابِيْلُ لَمَّا هامَ عِصْيانا هُمَا الْمُضِلاَّنِ لِمَنْ جاءَ مِنْ ... بَعْدِهِما مِنْ كُلِّ مَنْ كانا فَلا تَكُنْ مِثْلَهُما باغِياً ... وَخَفْ مَقامَ اللهِ مَوْلانا لَوْلا التُّقَى ما قَبِلَ اللهُ مِنْ ... هابِيْلَ مَعْرُوفاً وَقُرْبانا وَرَدَّ ما قَرَّبَهُ طاغِياً ... قابِيْلُ إِبْعادًا وَخُذْلانا لا تتَّبعْ قابِيْلَ فِي فِعْلِهِ ... تَحْصُدْ بِما تَزْرَعُ خُسْرانا تَرْضَى بِأَنْ تُصْبحَ شَيْطانا ... مِنْ بَعْدِ ما [قد] كُنْتَ إِنْسانا نَعْلَمُ هَذا ثُمَّ نَغْدُو هَوًى ... وَإِنَّ أدرَانا لأَنْسانا يا لَيْتَ شِعْرِي ما الَّذِي قَدْ ... لَها قُلُوبَنا عَنْهُ وَأَنْسانا
12 - ومنها: إشمات العدو في القريب والصديق.
إِنِّي عَلى ما فِيَّ مِنْ لَوْعَةٍ ... عَلى غُرُوْرٍ مِنْ دُنيَّانا وَلَسْتُ بِالآيِسِ مِنْ رَحْمَةٍ ... أَوَدُّ أنَّ اللهَ عافانا 12 - ومنها: إشمات العدو في القريب والصديق. فإن قابيل أشمت إبليس في أبيه آدم، وأمه حواء، وإخوته وأصدقائه، فمن كان أبوه صالحًا وخالف سمت أبيه فقد أشمت عدو أبيه فيه، وكان لقابيل مثيلاً، ولإبليس خليلاً، بل اللائق بابن الكريم أن يكون كريماً، ولا يباح لابن اللئيم أن يكون لئيماً، وقد ذمَّ الله تعالى الأبناء على تقليد الآباء في اللآمة، وعدَّ افتخار يوسف بآبائه الكرام عليهم السلام من قبيل الكرامة. وقد روى الطبراني عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الناس أفضل؟ قال: "مُؤْمِنٌ بَيْنَ كَرِيْمَيْن" (¬1). وقال بعض العرب: [الكامل] لَسْنا وَإِنْ كَرُمَتْ أَوائِلُنا ... يَوماً عَلى الأَحْسابِ نتَّكِلُ نبنِي كَما كانَتْ أَوائِلُنا ... تَبْنِي وَنَفْعَلُ كَالَّذِيْ فَعَلُوا (¬2) ولا شك أن ابن الكرام إذا جاء بأفعال اللئام سَلَّطَ على عرضه ¬
13 - ومنها: الحسد، والحقد، والبغضاء لغير سبب ديني.
وعرض آبائه ألسنةُ الأنام، فهو جانٍ على نفسه وعشيرته، وشائنٌ لقومه وقبيلته، فهو حري بالنكال، جدير بالوبال. وقلت: [من الكامل] يا مُشْمِتَ الأَعْداءِ فِي آبائِهِ ... لا كُنْتَ يَوْماً مُشْمِتَ الأَعْداءِ وَابْنُ الْكِرامِ إِذا نبَا عَنْ سَمْتِهِمْ ... أَوْلَى بِأَنْ يُهْجَى بِكُلِّ هِجاءِ 13 - ومنها: الحسد، والحقد، والبغضاء لغير سبب ديني. وقد تقدم في حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: "إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ؛ فَإِنَّ ابْنَي آدَمَ إِنَّمَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ حَسَدًا، فَهُوَ أَصْلُ كُلِّ خَطِيْئَة" (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن الأحنف بن قيس رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا راحة لحسود (¬2). وعن الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد؛ نفس دائم، وعقل هائم، وحزن لائم (¬3). وقال الشاعر: [من الكامل] قُلْ لِلْحَسُوْدِ إِذا تَنَفَّسَ طَعْنَةً ... يا ظالماً وكأنَّهُ مظلوم ¬
14 - ومنها: العمل بمقتضى الهوى والشهوة، والافتتان بالمرأة التي لا تحل له، خصوصا المحرم.
14 - ومنها: العمل بمقتضى الهوى والشهوة، والافتتان بالمرأة التي لا تحل له، خصوصاً المحرم. وقد روى أبو نعيم عن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: ما أُتيَت أُمَّةٌ قط إلا من قبل نسائهم (¬1). قلت: وأول ذلك أن آدم عليه السلام أُتيَ من قبل حواء، وبلاء هابيل عليه السلام كان من قبل النساء، ومعصية قابيل كانت من قبل توأمته. وفي الحديث: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَشدَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ" (¬2). 15 - ومنها: إخافة أخيه وترويعه. فإنه لم يقتله حتى توعَّده بالقتل، وأخافه؛ ألا ترى إلى قوله: {لَأَقْتُلَنَّكَ (27)} [المائدة: 27]؟ وإخافة المسلم وترويعه حرام. روى أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى قال: حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يسيرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه، فأخذه ففزع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا" (¬3). ¬
وروى البزار، والطبراني، وأبو الشيخ في كتاب "التوبيخ" عن عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً أخذ نعل رجل فغيَّبها وهو يمزح، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لا تُرَوِّعُوْا الْمُسْلِمَ؛ فَإِنَّ رَوْعَةَ الْمُسْلِمِ ظُلْمٌ عَظِيْمٌ" (¬1). وفي الحديث: "مَنْ نَظَرَ إِلَى أَخِيْهِ نظرَةً مُخِيْفَةً مِنْ غَيْرِ حَقٍّ أَخَافَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وفي لفظ: "مَنْ نظَرَ إِلَى مُسْلِمٍ نظرَةً يُخِيْفَهُ بِهَا فِيْ غَيْرِ حَقٍّ أَخَافَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". رواه باللفظ الأول الخطيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وبالثاني الطبراني في "الكبير" عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما (¬2). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُشِيْرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيْهِ بِالسِّلاحِ؛ فَإِنَّهُ لا يَدْرِيْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِيْ يَدِهِ فَيَقَعُ فِيْ حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ" (¬3). ¬
16 - ومنها: قتل النفس التي حرم الله بغير حق.
16 - ومنها: قتل النفس التي حرم الله بغير حق. وهو أعظم الذنوب بعد الشرك، وقد سبق أنه ما من نفس تُقتَل ظلماً إلا كان على قابيل كِفْل من دمها لأنه أول من سنَّ القتل. والآيات والأحاديث في النهي عن القتل والوعيد عليه معروفة. وروى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللهَ مَكْتُوْبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: آيسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ" (¬1). قال سفيان بن عيينة: هو أن يقول: أق، ولا يتم كلمة أقتل (¬2). وروى الإمام أحمد، والبخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَزَالُ الْعَبْدُ فِيْ فُسْحَةٍ مِنْ دِيْنِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا" (¬3). وقال ابن عمر: إنَّ من وَرْطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها الدم الحرام بغير حلِّه. رواه الإمام أحمد (¬4). ¬
تنبيهان
* تَنْبِيهانِ: الأَوَّلُ: روى ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: إن قابيل لما قتل أخاه، عقل الله تعالى إحدى رجليه ساقها إلى فخذها من يوم قتله إلى يوم القيامة، وجعل وجهه إلى الشمس حيث دارت دار عليه حظيرة من ثلج في الشتاء، وعليه في الصيف حظيرة من نار (¬1). ومن طرائف العقوبات: نقصان الخلقة بعد تمامها، وأول من نقصت خلقته عقوبة إبليس وقابيل؛ فإبليس عَوِر، وقابيل عَرِج. ولقد قلت: [من السريع] أَوَّلُ عُوْرِ الْخَلْقِ إِبْلِيْسُهُمْ ... وَأَوَّلُ الْعُرْجانِ قابِيْلُ وَمِنْ هُنا عانَدَ عُوْرُ الْوَرَى ... وَكانَ فِي الْعُرْجِ الأَباطِيْلُ وقلت مقرراً لما هو مشهور من أن نقصان الخلق يدل على نقصان العقل: [من الرجز] تَبارَكَ الدَّيَّانُ مِنْ مُصَوِّرٍ ... وَجَلَّ مِنْ مُهَيْمِنٍ مُقْتَدِرِ ما أَكْمَلَ اللهُ عَلا خَلْقَ امْرِئٍ ... حَتَّى تَراهُ كامِلاً فِيْ مَعْشَرِ إِلاَّ وَقَدْ أَكْمَلَ مِنْهُ عَقْلَهُ ... حَتَّى تَراهُ سالِمَ التَّصَوُّرِ وَجَعَلَ النُّقْصانَ فِي الْخَلْقِ دَلِيـ ... ـلاً دَلَّ ذا عَقْلٍ وَذا تَفَكُّرِ ¬
التنبيه الثاني
عَلى انْتِقاصِ عَقْلِ مَنْ يَنْقُصُهُ ... فِي عَقْلِهِ وَخَلْقِهِ الْمُقَدَّرِ آيَةُ ما قُلْتُ إِذا حَقَّقْتَهُ ... وُجُوْدُ حالِ النَّقْصِ وَالتَّهَوُّرِ مِنْ أَقْرَعٍ أَوْ أَطْرَشٍ أَوْ أَعْوَرٍ ... أَوْ أَحْوَلٍ أَوْ أَعْرَجٍ أَوْ أَبْصَرِ وَفِي اعْتِدالِ اللَّوْنِ عَدْلُ طَبْعِهِ ... وَمِنْ هُنا اعْوَجَّتْ طِباعُ الأَشْقَرِ إِنْ يَتَخَلَّفْ ذَاكَ فَالنَّادِرُ لا ... حُكْمَ لَهُ وَالْحُكْمُ حُكْمُ الأَكثَرِ التَّنْبِيْهُ الثَّانِي: روى الحافظ نعيم بن حماد في "الفتن" عن عبد الرحمن بن فَضَالة رحمه الله تعالى قال: لما قتل قابيل هابيل، مسخ الله تعالى عقله، وخلع فؤاده، فلم يزل تائهاً حتى مات (¬1). قلت: ولهذا يطيش عقل القاتل غالبًا، ويشتد رعبه، ويندم، وإذا طُلِب هرب. وقد قال الله تعالى: {فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)} [المائدة: 30]. وقَلَّ أن يقتل إنسان إنسانًا لغير ثأر، ويطمئن قلبه بعدها، ومن شذ عن هذه القاعدة فقتل ولم يرعب ولم يرهب، فقسوته أشد من قسوة قابيل. وقد روى أبو داود، والضياء في "المختارة" عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا فَاغْتَبَطَ بِقَتْلِهِ لَمْ ¬
17 - ومن أعمال قابيل وأخلاقه: انتهاك حرمة المسلم بعد موته، وعدم الاهتمام بمواراته وسائر ما يحتاج إليه من تجهيزه، وذلك كله من فروض الكفاية، إذا تركه كل من تعين عليهم أثموا.
يَقْبَلِ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلاً" (¬1). ثم روى أبو داود عن خالد بن دهقان قال: سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: فاغتبط بقتله، قال: الذين يقاتلون في الفتنة فيقتل أحدهم، فيرى أنه على هدى، فلا يستغفر الله (¬2). والصرف: النافلة، والعدل: الفريضة. وقيل غير هذا. والمعنى: أنه يحبط عمله. 17 - ومن أعمال قابيل وأخلاقه: انتهاك حرمة المسلم بعد موته، وعدم الاهتمام بمواراته وسائر ما يحتاج إليه من تجهيزه، وذلك كله من فروض الكفاية، إذا تركه كلُّ من تعين عليهم أثموا. ومن أصرح الأدلة على ذلك: ما روى الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْلا أَن لا تَدَافَنُوْا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ عَذَابَ الْقَبْرِ" (¬3). ووجه الاستدلال به أن علوم القبر وأحوال البرزخ علوم شريفة، وقد حُجبت عنا فلم نشاهدها بالحس خشية أن يحملنا الاطلاع عليها ¬
18 - ومنها: إزهاق روح الحيوان بغير ذكاة شرعية إلا ما جاز قتله، وأكل الموقوذة وسائر أنواع الميتة، وكل ذلك من العظائم إلا في حالة الاضطرار.
على ترك التدافن، فلولا أن يكون التدافن أمرًا واجبًا، لم يُحجب عنا هذا الفن من العلم مع شرفه خشية تركه. 18 - ومنها: إزهاق روح الحيوان بغير ذكاة شرعية إلا ما جاز قتله، وأكل الموقوذة وسائر أنواع الميتة، وكل ذلك من العظائم إلا في حالة الاضطرار. روى الإمام أحمد، والطبراني، والبيهقي في "السنن" عن عبد الله ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُوْرًا بِغَيْرِ حَقِّهِ سَأَلَهُ اللهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان وصححه، وآخرون عن الشَّريد بن سويد رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُوْرًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْه فَيَقُوْلُ: يَا رَبِّ! إِنَّ فُلاناً قتلَنِيْ عَبَثًا، وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفعَةٍ" (¬2). 19 - ومنها: تنفير الوحش في محل أمْنِه؛ لأن الأرض كانت أمناً للوحش، فلما فعل قابيل ما فعل فرَّت منه، واستوحشت. وكذلك من نفَّرَ صيد مكة والمدينة المشرفتين، كان أشبه الناس بقابيل. ¬
20 - ومنها: الإكباب على آلات اللهو، وشرب الخمر، والزنا، وارتكاب الفواحش.
وفي "صحيح مسلم" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَرَّمَ بَيْتَ اللهِ وَأَمَّنَهُ، وَإِنَّيْ حَرَّمْتُ الْمَدِيْنَةَ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا، لا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا، وَلا يُصَادُ صَيْدُهَا" (¬1). وفي رواية أبي داود بإسناد صحيح: "لا يُخْتَلَى خَلاهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا" (¬2). 20 - ومنهَا: الإكباب على آلات اللهو، وشرب الخمر، والزنا، وارتكاب الفواحش. وكل ذلك مما علمت أنه من قبائح الذنوب، ومرتكبه متشبه في ذلك بأولاد قابيل لأنهم أول من سنَّ ذلك. قال هشام بن محمد بن السائب في كتاب "ابتداء العيدان": أول من عمل العود وضرب به رجل من أولاد قابيل بن آدم يقال له: كمد عُمَّر زماناً طويلاً، ولم يولد له، فتزوج خمسين امرأة، وتسرَّى بمئتي جارية، فولد له غلام قبل موته بعشر سنين، ففرح به، فلما أتت على الغلام خمس سنين مات، فجزع عليه جزعًا شديدًا، فأخذه وعلقه في شجرة، وقال: لا تذهب صورته عن عيني، فجعل لحمه يقع، وعظامه تسقط حتى بقيت الفخذ بالساق والقدم والأصابع، فأخذ عموداً فشقَّه، وجعل يؤلف بعضه إلى بعض، وجعل صدره على صورة الفخذ، والعنق ¬
على صورة السَّاق، والإبريم على صورة القدم، والداري على صورة الأصابع، وعلق عليه أوتارًا كالعروق، وجعل يضرب عليه ويبكي. وهذا كاف في ذم العود الذي هو أفخر الآلات عند أهلها حيث كانت هذه بداية وضعه. ولا شك أن هذا من وحي الشيطان. وكذلك تجد أصل كل آلة محرمة من أمر الشيطان ووحيه. ولا تلتفت إلى فاسق عساه يمدح لك الآلات، ويدعوك إلى هذه الضلالات؛ فالحذر ثم الحذر من الإصغاء إلى شيء من ذلك. وقد روى الإِمام أحمد، وابن أبي الدنيا في "الملاهي"، والطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله بَعَثَنِي رَحْمَة وَهُدًى لِلْعَالَمِيْنَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيْرَ وَالْكَبَارَاتِ - يَعْنِي: الْبَرَابِطَ -وَالْمَعَازِفَ، وَالأَوْثَان الَّتِيْ كَانَتْ تُعْبَدُ فِيْ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَقْسَمَ رَبِي بِعِزَّتِهِ لا يَشْرَبُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيْدِي جُرْعَةً مِنْ خَمْر إِلاَّ سَقَيْتُهُ مَكَانها مِنْ حَمِيْمِ جَهَنَّمَ مُعَذَّبًا أَوْ مَغْفُوْرًا لَهُ، وَلا سَقَاهَا صَبِيًّا صَغِيْرًا إِلاَّ سَقَيْتُهُ مَكَانها مِنْ حَمِيْمِ جَهَنَّمَ مُعَذَّبًا أَوْ مَغْفُوْرًا لَهُ، وَلا يَدَعُهَا عَبْد مِنْ عَبِيْدِي مِنْ مَخَافَتِيْ إِلاَّ سَقَيْتُهُ إِيَّاهَا في حَظِيْرِةِ الْقُدْسِ" (¬1). ¬
وروى البخاري، وأبو داود، وآخرون عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري رضي الله تعالى عنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَيَكُوْنَنَّ فِيْ أُمَتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّوْنَ الْخَمْرَ وَالْحَرِيْرَ وَالْمَعَازِفَ (¬1)، وَلَيَنْزِلَنَ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ تَرُوْحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ، فَيَأتِيْهِمْ آتٍ لِحَاجَتِهِ فَيَقُوْلُوْنَ: ارْجَعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبيِّتُهُمُ اللهُ، وَيَقَعُ الْعَلَمُ عَلَيْهِمْ، ويُمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِيْنَ قِرَدَةً وَخَنَازِيْرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (¬2). وروى نعيم بن حماد في "الفتن" عن [قبيصة بن] مالك الكندي، [عن قبيصة بن ذؤيب] رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيَكُوْنَنَّ مِنْ هَذهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ قِرَدَةً، وَقَوْمٌ خَنَازيرَ، وَلَيُصْبِحُنَّ فَيُقَالُ: خُسِفَ بِدَارِ بنيْ فُلانٍ وَدارِ بنيْ فُلانٍ، وَبَيْنَمَا الرَّجُلانِ يَمْشِيَانِ يُخْسَفُ بِأَحَدِهِمَا بِشُرْبِ الْخُمُوْرِ، وَلِبَاسِ الْحَرِيْرِ، وَالضَّرْبِ بِالْمَعَازِفِ وَالزَّمَّارَةِ" (¬3)، وهي على وزن جبانة: ما يزمر به. وروى ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيَكُوْنَنَّ فِيْ هَذِهِ الأُمةِ خَسْفٌ وَقَذْفٌ وَمَسْخٌ، وَذَلِكَ إِذَا شَرِبُوْا الْخُمُوْرَ، وَاتَّخَذُوْا الْقَيْنَاتِ، وَضَرَبُوْا بِالْمَعَازِفِ". ¬
تنبيه
قال صاحب "القاموس": والمعازف؛ أي: بالعين المهملة والزاي: الملاهي؛ كالعود والطنبور، الواحد: عزف، أو معزف؛ كمنبر، ومِكْنسة، والعازف: اللاعب بها (¬1). وروى ابن أبي الدنيا، وابن عساكر عن الغاز بن ربيعة -مرسلاً- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيُمْسَخَنَّ قَوْمٌ وَهُمْ عَلَى أَريكَتِهِمْ قِرَدةً وَخَنَازيرَ؛ شُرْبَهُمُ الْخَمْرَ، وَضَرْبَهُمْ بِالْبَرَابِطِ وَالْقِيانِ" (¬2). والبرابط: جمع بربط؛ كجعفر: العود، معرَّب برمط؛ أي: صدور الأوز لأنه يشبهه؛ قاله في "القاموس" (¬3). * تنبِيْهٌ: قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت: 29]. روى ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: هما إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه (¬4). ¬
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت: 29]: ليكونا أشد عذابًا منا (¬1). وهذا واضح؛ فإنهما لا يشاركهما في عذابهما أحد، وهما مشاركان كل من اقتدى بهما في وزره؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي جحيفة "ومَنْ سَنَّ سُنَّةً سيئة فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَه، كان عَلَيْهِ وزْرُهَا وَمِثْلُ أَوْزَارِهِمْ مِنْ غَيرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا". رواه ابن ماجه (¬2). وروى مسلم وغيره نحوه من حديث جرير رضي الله تعالى عنه (¬3). وقد علم بذلك أنَّ إبليس أبو العصاة الأول، وقابيل أبوهم الثاني، وهذا وجه المناسبة في ذكرنا النهي عن التشبه بقابيل عقب النهي عن التشبه بالشيطان. *** ¬
فصل
فَصْلٌ كما ينبغي الحذر من موافقة قابيل، ينبغي الحرص على موافقة هابيل عليه السلام. وقد دل على ذلك حديث الحسن المتقدم "إنَّ ابني آدم ضربا لكم مثلًا، فتشبهوا بخيرهما, ولا تشبهوا بشرهما". وفي لفظ: "إِنَّ ابْنَيْ آدَمَ ضَربا مَثَلًا لَهَذهِ الأُمَّةِ، فَخُذُوا بِالْخَيِّر مِنْهُما". أخرجه عبد الرزاق، وابن جرير (¬1). أي: خذوا بأعمال الخيِّر منهما وأخلاقِه، وهو هابيل عليه السلام. وقد اشتملت مسايرته لأخيه على خِلال جميلة: 1 - منها: تقريب القربان لله تعالى. وفي معناه من شريعتنا الصدقة، والأضحية، والهَدْي، بل كل ما يتقرب به إلى الله تعالى فهو قربان، وأعظم قربان هذه الأمة بعد ¬
2 - ومنها: تقريب أجود ما عنده أو من أجود ما عنده.
التوحيد الصلاة؛ لقوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. ولحديث: "أَقْرَبُ مَا يَكُوْنُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِهِ إِذَا كَانَ سَاجِدًا" (¬1). وروى القضاعي في "مسند الشهاب" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الصَّلاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِي" (¬2). وروى أبو يعلى بإسناد حسن، عن جابر رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لكعب بن عُجرة رضي الله تعالى عنه: "يَا كَعْبُ بْنَ عَجرَةَ! الصَّلاةُ قُرْبَانٌ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيْئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، يَا كَعْبُ بْنَ عَجرَةَ! النَّاسُ غَادِيَانِ؛ فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوْبِقٌ رَقَبَتَهُ، وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعِتِقٌ رَقَبَتَهُ" (¬3). 2 - ومنها: تقريب أجود ما عنده أو من أجود ما عنده. وهذا من جملة التقوى التي هي سبب القبول كما أشار إليه بقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. ¬
تنبيه
فينبغي لكل مؤمن أن يحافظ على هذا الخلق من أخلاق هابيل عليه السلام. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلا يَقْبَلُ اللهُ إِلاَّ طَيِّبًا - فَإِنَّ الله عز وجل يَتَقَبَّلْهَا بِيَمِيْنِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيْهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُوْنَ مِثْلَ الْجَبَلِ" (¬1). * تنبِيْهٌ: قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]. وفي الحديث: "إِنَّ الله كتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ". رواه الإِمام أحمد، ومسلم، والأربعة عن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن كليب رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الله يُحِبُّ مِنَ الْعَامِلِ إِذَا عَمِلَ أَنْ يُحْسِنَ" (¬3). وأخرجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها, ولفظه: "إِنَّ الله يُحِبُّ ¬
إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ" (¬1). وروى ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ الله يُحِبُّ الْفَضْلَ فِيْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى في الصَّلاة" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير"، والحاكم وصححه، والخرائطي، وأبو نعيم، والبيهقي عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الله كَرِيْمٌ يُحب الْكَرَمَ، ويُحِبُّ مَعَالِيَ الأَخْلاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسافَها" (¬3). ورواه أبو نعيم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والبيهقي من حديث طلحة بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، ولفظهما: "إِنَّ اللهَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُوْدَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الأَخْلاقِ، ويُبْغِضَ سَفْسافَهَا" (¬4). ولا شك أن الكرم، والجود، والصدقة والهدية إذا قارنها الإحسان فيها والجودة كانت أعلى وأتم وأبلغ في تحصيل المقصود منها من ثواب، أو محبة، أو محمدة. وإذا كانت بما يكرهه الإنسان لنفسه كان بخلًا في نفس الكرم، ومنعاً في نفس العطاء، وعداوة في نفس الحب. ¬
وربما قال من أحسنت إليه بما أسأت فيه: إنما يريد هذا أن يهزأ بي ويسخر مني، ولولا مهانتي عنده لما خصَّني بهذا الرديء، وقابلني بهذا التافه؛ فإن هدية المهدي على قدر مقام المُهدَى إليه عنده، وعطية المعطي مشعرة بمكانة المعطى عنده، وإذا كان هذا مذموماً في معاملة الخلق للخلق، فكيف يكون في معاملة العبد لمولاه؟ وقد قال الله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} [النحل: 62]، أي: معجلون إلى النار، مقدمون إليها، أو متروكون فيها. وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} شامل للجعل دعوى؛ لأنهم كانوا يجعلون الإناث لله، ويكرهونهن، والغلمان لهم، وللجعل فعلًا؛ أي: يقدمون لله ما يكرهون كما قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]. روي أنهم كانوا يعينون شيئًا من الحرث والنتاج لله، ويصرفونه إلى الضِّيفان والمساكين، وشيئاً لآلهتهم، وينفقونه على سَدَنتها، ويذبحون عندها، ثم إنْ رأوا ما عينوا لله أزكى بدَّلوه بما لآلهتهم، وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لهَا. فالتقرب إلى الله تعالى بالرديء المكروه خلق جاهلي منشؤه من قابيل، والتقرب إليه بالحسن المحبوب خلق إيماني مبدؤه من هابيل،
3 - ومن أخلاق هابيل عليه السلام: التحدث بالنعمة، والتمدح بها؛
وهذا هو الكرم الخالص، وذاك بخل في صورة الكرم. وقد قلت: [من السريع] مَنْ جادَ بِالْمَكْرُوهِ كانَ الَّذِي ... جادَ بِهِ أَشْبَهَ بِالْبُخْلِ يا رُبَّ جُوْدٍ كانَ فِيْهِ الْجَوى ... وَرُبَّ مَنْعٍ كانَ في الْبَذْلِ إِنَّ الْهَدايا تُوْرِثُ الْحُبَّ إِنْ ... جادَتْ وَتُؤْوِي الْخِلَّ لِلْخِلِّ وَرُبَّما كانَتْ إِذا لَمْ تَجِدْ ... عَداوَةً تُبْنَى عَلى أَصْلِ الْحُسْنُ في الإِحْسانِ أَزْكَى يَدًا ... وَالْفَضْلُ في الإِفْضالِ وَالْفَضْلِ وَرُبَّ قُرْبانٍ قَضَى بِالنَّوى ... وَصَيَّرَ الْخِصْبَ إِلَى مَحْلِ مَنْ لَيْسَ يُهْدِي مِنْ جَمِيلِ الْحُبا ... جَمْلاً جَفاهُ الوَصْلُ مِنْ جَمْلِ وَباذِلٌ أَحْسَنَ ما عِنْدَهُ ... يَنالُ أَهْنَى الْعَيْشِ وَالْفَضْلِ في شَأْنِ هابِيْلَ وَقابِيْلَ ما ... دلَّ عَلى ما قُلْتُ مِنْ قَبْلِ 3 - ومن أخلاق هابيل عليه السلام: التحدث بالنعمة، والتمدح بها؛ فإنَّ قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، وقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28] فيه تمدح بالتقوى، والخوف من الله تعالى، وتحدث عن هذه النعمة التي هي أعظم النعم، وهذا مقبول إذا كان لغرض الشكر ونحوه لتهييج الغير للاقتداء به في التقوى والخوف وغيرهما من الطاعات، ولعل هابيل عليه السلام إنما قصد بتمدحه بالتقوى والخوف استمالةَ أخيه إلى التوبة والرجوع إلى الحق.
وقد قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]. روى ابن أبي حاتم عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما قال في الآية: إذا أصبت خيراً فحدِّث إخوانك (¬1). وروى ابن جرير عن أبي نضرة رحمه الله تعالى قال: كان المسلمون يرون أنها من شكر النعمة أن يحدث بها (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن فضيل بن عياض رحمه الله تعالى: كان يقال: من شكر النعمة أن يتحدَّث بها (¬3). وروى عبد الله ابن الإِمام [أحمد] (¬4) في "زوائد المسند"، والبيهقي بسند ضعيف، عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "التَّحَدُّثُ بِالنِّعْمَةِ شُكْر، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ" (¬5). ومحل ذلك إذا لم يقترن التحدث بالنعمة بالعجب والرياء، أو غيرهما من المعاصي القلبية التي يجمعها تزكية النفس؛ فإنه بذلك يكون كفراناً لا شكراناً، وفرق بين التحدث بالنعمة وتزكية النفس. قال الله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. ¬
4 - ومن أخلاق هابيل عليه السلام: التقوى، والوصية بها،
روى الطبراني عن أبي الأسود الدؤلي، وزادان الكندي رحمهما الله تعالى قالا: قلنا لعلي - رضي الله عنه -: حدِّثنا عن أصحابك، فذكر مناقبهم. قلنا: فحدِّث عن نفسك. قال: مهلاً، نهى الله تعالى عن التزكية. فقال رجل: فإن الله تعالى يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]. قال: فإني أحدِّث بنعمة ربي، كنت والله إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتُديت (¬1). وقد قلت: [من السريع] إِذا تَفَوَّهْنا بِفَضْلٍ إِلى ... مِنْ نِعَمِ الرَّحْمَنِ سُبْحانهُ فَذاكَ تَحْدِيْث بِنَعْمائِهِ ... وإنَّما نَقْصِدُ شُكْرانهُ وَلَمْ يَكُنْ عُجْباً فَإِنَّ التَّقِيْ ... إِنْ شابَهُ عُجْبٌ فَقَدْ شانَهُ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنَ الْمَرْءِ لا ... تَرْفَعُ يَوْماً فِي الورى شانهُ اللهُ أَدْرَى بِالَّذِي يتقِي ... وَبِالذِي يُخْلِصُ إِيْمانَهُ 4 - ومن أخلاق هابيل عليه السلام: التقوى، والوصيَّة بها، والإشارة بها؛ لأن قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] فيه إيماء إلى ذلك، كأنه يقول لأخيه: إنك لو كنت من المتقين لَمَا رُدَّ ¬
قربانك، فهو إرشاد إلى التقوى، وتنبيه على وبال الغفلة والمعصية. وقد قيل لسفيان الثوري رحمه الله تعالى: إن النَّاس يقولون: سفيان الثوري، وما نرى لك كثير اجتهاد؟ فقال: مَلاَك هذا الأمر التقوى (¬1)؛ يشير إلى أن التقوى إذا كانت في القلب لا يضر صاحبها قلة الأعمال. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل؟ (¬2) وقال فَضَالة بن عُبيد رضي الله تعالى عنه: لأن أكون أعلم أن الله تعالى يتقبل مني مثقال حبَّة من خردل أحب إليَّ من الدنيا وما فيها وما بينهما؛ يقول: فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. رواهما ابن أبي الدنيا في كتاب "التقوى" (¬3). وقال أبو الدرداء: لأن أستيقن أن الله تعالى تقبل مني صلاة واحدة أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛ إنَّ الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. رواه ابن أبي حاتم (¬4). وروى ابن أبي شيبة عن الحسن -مرسلاً- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
"إِنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ عَمَلَ عَبْدٍ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ" (¬1). وروى ابن عساكر عن هشام بن يحيى، عن أبيه قال: دخل سائل إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقال لابنه: أعطه دينارًا، فلما انصرف قال ابنه: تقبَّل الله منك يا أبتاه. فقال: لو علمت أنَّ الله تعالى تقبل مني سجدة واحدة، أو صدقة درهم لم يكن غائب أحب إليَّ من الموت، تدري ممن يتقبل الله؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (¬2). وقلت: [من السريع] مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلى عَبْدهِ ... تَوْفيْقُهُ لِلْعَمَلِ الصَّالحِ وَإِنَّما يَقْبَلُ مِنْ مُتقٍ ... أعْمالَهُ لا مُعْجَبٍ طالحِ فَلازِمِ التَّقْوى فَإِنَّ التُّقَى ... لِلْمُتَّقِيْ مِنْ كَسْبِهِ الرَّابحِ مَنْ كانَ يَدْرِي أَنَّ هَذا الْوَرى ... مِنْ كاتِمٍ لِلسِّرِّ أَوْ بائِحِ فَإِنَّما مَوْرِدُهُ الْمَوْتُ مِنْ ... غادٍ إِلى الأَمْرِ وَمِنْ رائِحِ فَكَيْفَ يَعْتاضُ بِمَرْجُوحِ دُنـ ... ـياهُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ الرَّاجِحِ انْظُرْ لِما تَعْمَلُ لا تَعْتَبِرْ ... بِسانِحٍ عنـ[ـه] وَلا بارِحِ ¬
5 - ومن أخلاق هابيل عليه السلام: الحلم، واحتمال الأذى، والصبر على المكروه، وترك الانتقام، وعدم مقابلة السيئة بالسيئة.
بِمَنْ تَشاءَمْتَ وَأَنْتَ الَّذِي ... ساءَكَ شُؤْمُ الْعَمَلِ الْفاضحِ يا كادحَ الْكَدْحِ إِلى رَبِهِ ... سَوْفَ تَرى أَخَرَةَ الْكادح لا يَحْمَدُ الْغِبُّ سِوى ذاهِبٍ ... لِرَبِهِ في الْمَنْهَجِ الْواضحِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحانهُ ... مَنْ ذا الَّذِي يَقْبَلُ مِنْ ناصِحِ 5 - ومن أخلاق هابيل عليه السلام: الحلم، واحتمال الأذى، والصبر على المكروه، وترك الانتقام، وعدم مقابلة السيئة بالسيئة. وكل هذه أخلاق نبوية. وفي وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة: لا يجزي بالسيئة عن السيئة، ولكن يعفو ويصفح (¬1). وقال بعضهم لبعض آل البيت في مغاضبة: لتسمعن مني مئة كلمة. قال: لكنك لا تسمع مني كلمة واحدة. وروى ابن أبي الدنيا، والديلمي، وابن النجار عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ اتَّقَى الله كَلَّ لِسَانُهُ، وَلَمْ يَشْفِ غَيْظَه" (¬2). ¬
6 - ومنها: الرجوع إلى الله تعالى في كل أحواله.
فما ذكر من الأخلاق، وسائر الأخلاق الكريمة فإنها -وإن كانت في طباع النفوس - فإن التقوى تثيرها وتنشرها، وتظهرها وتقوِّيها، وتنقلها من دائرة الغرائز إلى دائرة الكسب والأعمال، وتتحف أصحابها بالثواب. 6 - ومنها: الرجوع إلى الله تعالى في كل أحواله. ألا ترى أنه قرَّبَ القربان لله، وتأنق فيه إخلاصاً لله، ثم قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، ثم قال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28]. وكذلك المؤمن أوَّاب إلى الله رجَّاع إليه، معوِّل في كل أموره عليه. قال الله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 31 - 33]. 7 - ومنها: الخوف لقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28]. وفي وصفه سبحانه برب العالمين بيان وجه المخافة منه؛ فإن معنى رب العالمين: مالكهم، والألف واللام للاستغراق؛ أي: المالك لجميعهم، المحيط بهم، والمالك الحقيقي هو الله تعالى، وملكه لهم يستدعي الإحاطة بهم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، فهو حقيق بأن يُخاف ويُتَّقى.
وإن قلنا: الرب القائم بمصالح العباد، فمن مصالحهم أخذ حق المظلوم منهم من الظالم، فهو يأخذ حق المقتول من القاتل، والمغصوب منه من الغاصب، والمأخوذ من عرضه من الآخذ، فهو حري بأن يُخاف ويُحذر من هذه الحيثية أيضًا. وفي قوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28] إشارة إلى موعظة نفسه -وإن أراد موعظة أخيه- فإن العارف إذا ذكر غيره ذكر نفسه أيضًا، وإلا لم يكن عارفًا حكيمًا. ومن هذا القبيل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الصيام: "وإنِ امْرُؤ شَاتَمَهُ أَوْ خَاصَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ" (¬1). واعلم أنَّ في دعوى الخوف والخشية خطرًا عظيمًا لأنها تحتاج إلى أن يكون صاحبها متلبسًا بأعمال الخائفين، وإلا كان كاذبًا. ومن هنا قال بعض السلف: ما عَرضت نفسي على الكتاب والسنة إلا خشيت أن كون مكذبًا (¬2). وقال بعضهم: إذا قيل لك: هل تخاف الله؟ فأسكت؛ فإنك إن قلت: لا، كان كفراً، وإن قلت: نعم، فإنك لا تعمل أعمال الخائفين، فيكون كذباً (¬3). ¬
8 - ومنها: كلف الأذى عن أخيه مع احتمال الأذى منه
8 - ومنها: كلف الأذى عن أخيه مع احتمال الأذى منه. ألا ترى إلى قوله: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28]. روى ابن النجار في "تاريخه" عن عبد الرحمن الحبلي - قال: شكى رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاره، فقال: "كُفَّ عَنْهُ أَذَاكَ، وَاصْبِرْ عَلَى أَذَاهُ؛ فَكَفَى بِالْمَوْتِ مُفَرِّقًا" (¬1). وما كانَ بينَ متجاورَينِ أو متقارِبَينِ أو متصادقينِ أفضل من عشرة كُلِّ واحِد منهُما الآخرَ على الإنصافِ والاتِّفاق على الحقِّ وعدمِ الاختلافِ. وقد روى الخرائطي في "المكارم"، وأبو نعيم عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كَفَى بِهَا نِعْمَةً أَنْ يَتَجَاوَرَ الْمُتَجَاوِرَانِ، أَوْ يتَخَالَطَا، أَوْ يَصْطَحِبَا، فَيَفْتَرِقَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُوْلُ لِصَاحِبِهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا" (¬2). وقلت في عقد هذا الحديث: [من الطويل] تَصاحَبْتُما في مُدَّةٍ وَافْتَرَقْتُما ... وَكُلٌّ يَقُولُ الْخَيْرَ في وَصْفِ صاحِبِهْ فَما بَعْدَها مِنْ نِعْمَةٍ وَفَضِيْلَةٍ ... لِطالِبِ فَضْلٍ في الزَّمانِ وَكاسِبِهْ ¬
9 - ومنها: الاستسلام لقضاء الله تعالى.
9 - ومنها: الاستسلام لقضاء الله تعالى. ألا ترى إلى قوله: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28]؟ قال مجاهد رحمه الله تعالى: كان كُتِبَ عليهم إذا أراد الرجل يقتل الرجل تركه، ولا يمتنع منه. رواه ابن جرير (¬1). وأما في شرعنا فيجوز أن يدفع عن نفسه إجماعًا، وإنما الكلام في وجوبه كما قال القرطبي. قال: والأصح وجوب ذلك لما فيه من النهي عن المنكر. قال: وفي الحشوية قوم لا يجيزون للمَصول عليه الدفع (¬2). قلت: خلاف مثل هؤلاء لا يعد خلافًا، ومذهبنا أن دفع الصائل عن المال جائز، وعن البُضع له أو لأهله أو لأجنبي واجب. قال البغوي، والمتولي رحمهما الله تعالى: إن لم يخف على نفسه. وكذلك يجب الدفع عن النفس إن قصدها كافر، أو مهدر الدم، أو بهيمة، فإن قصدها مسلم محقون الدم فأظهر الأقوال أن الدفع جائز. وقيل: الاستسلام مستحب، وعليه استسلام عثمان رضي الله تعالى عنه لقاتليه (¬3). ¬
قال بعض الأنصار فيه: [من الطويل] وَكَفَّ يَدَيْهِ ثُمَ أَغْلَقَ بابَهُ ... وَأَيْقَنَ أَنَّ الله لَيْسَ بِغافِلِ وَقالَ لأَهْلِ الدَّارِ أَنْ لا تُقاتِلُوا ... عَفا اللهُ عَنْ ذَنْبِ امْرِئٍ لَمْ يُقاتِلِ فَكَيْفَ رَأَيْتَ الله ألقَى عَلَيْهِمُ الـ ... عَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ بَعْدَ التَّواصُلِ وَكَيْفَ رَأَيْتَ الْخَيْرَ أَدْبَرَ بَعْدَهُ ... عَنِ النَّاسِ إِدْبارَ النَّعامِ الْجَوافِلِ قلت: والذي أختاره الاستسلام أيام الفتنة؛ لما رواه الإِمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبحُ فِيْهَا الرَّجُلُ مُؤْمِنًا ويُمْسِي كَافِرًا، ويُمْسِي مُؤْمِنًا ويُصْبحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيْهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيْهَا خَيْر مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيْهَا خَيْر مِنَ السَّاعِي، فَكَسِّرُوْا سُيُوْفَكُمْ، وَقَطِّعُوْا أَوْتَارَكُمْ، وَاضْرِبُوْا بِسِيُوْفكُمُ الْحِجَارَةَ؛ فَإِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ" (¬1)؟ يعني: هابيل عليه السلام. وروى الإِمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه نحوه، وقال: قلت: يا رسول الله! إن دخل علي بيتي وأدخل يده ليقتلني؟ قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُنْ خَيْرَ ابْنَيْ آدَمَ"، وتلا هذه الآية: ¬
تنبيه
{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} [المائدة: 28] الآية (¬1). وروى الإِمام أحمد، والحاكم عن خالد بن عُرْفُطَةَ رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا خَالِدُ! سَيَكُوْنُ بَعْدِيَ أَحْدَاث وَفِتَنٌ؛ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُوْنَ عَبْدَ اللهِ الْمَقْتُوْلَ لا الْقَاتِلَ فَافْعَلْ" (¬2). والأحاديث في ذلك كثيرة. * تنبِيْهٌ: روى ابن أبي شيبة عن الحسن رحمه الله تعالى قال: أول من مات آدم عليه السلام (¬3). وتمسك به من قال: إن ابني آدم كانا من بني إسرائيل (¬4). ولعل مراده أول من مات موتاً بدون القتل، فلا معارضة بينه وبين ما تقدم: أن هابيل قتل في حياة أبيه. * تنبِيْهٌ آخَرُ: روى ابن جرير عن خيثمة رحمه الله تعالى قال: لما قَتَل ابن آدم ¬
أخاه نشَّفت الأرضُ دمه، فلُعنت، فلم تنشف الأرض دماً بعده (¬1). روى ابن عساكر عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: إن الأرض نشفت دم ابن آدم المقتول، فَلَعن آدم الأرض لأجل ذلك، لا تنشف الأرض دماً بعد دم هابيل إلى يوم القيامة (¬2). • • • ¬
(2) باب النهي عن التشبه بقوم نوح عليه الصلاة والسلام
(2) بَابُ النَّهْيِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِقَومِ نُوحٍ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
(2) بَابُ النَّهْيِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِقَومِ نُوحٍ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وهم أول من عبد الأصنام. روى ابن عساكر عن الحسن رحمه الله تعالى: أن نوحاً عَليه السَّلام أول رسول (¬1) بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض؛ قال: وذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] (¬2). وروى ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ نبِي أُرْسِلَ نُوْحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ" (¬3). لكن هذا معارَض بما رواه الحكيم الترمذي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ الرُّسُلِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ¬
وَآخِرُهُمْ محمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَوَّلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيْلَ مُوْسَى، وَآخِرُهُمْ عِيسَى، وَأَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ إدْرِيس عَلَيْهِمُ السَّلامُ" (¬1). قلت: أما كون آدم عليه السَّلام أول الأنبياء عليهم السَّلام فهذا مما أجمعوا عليه، وإنما الكلام في أنه أول الرسل أو نوح، والظاهر الأول. ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ظنَّ أن أول نبي أرسل نوح، ثم أعلم بسبق رسالة آدم إلى أولاده وأولاد أولاده. أو أراد في حديث أنس - رضي الله عنه -: أول نبي أرسل من بني آدم نوح. أو في حديث أنس تتمة حذفها بعض الرواة، ويؤيده ما في "تفسير القرطبي"، وغيره: أول رسول أرسل بتحريم الأخوات والعمات نوح عليه السلام (¬2). وروى ابن أبي حاتم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون؛ كلهم على شريعة من الحق (¬3). ¬
وقد جاء ما يدل على أن إدريس عليه السَّلام أرسل أيضًا، وهو متقدم على نوح عليه السلام، فروى الدِّينوري في "المجالسة" عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن إدريس أقدم من نوح عليهما السَّلام، بعثه الله عز وجل إلى قومه، فأمرهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، ويعملوا ما شاؤوا، فأبوا، فأهلكهم الله تعالى. وقد أخرجه ابن أبي حاتم (¬1). وأخرج عن السدي أنه قال: كان إدريس عليه السلام أول نبي بعثه الله في الأرض (¬2). وهذان الأثران إن صحَّا فحكمهما حكم الحديث المرفوع؛ فإن مثل ذلك لا يقال رأياً، فهو دليل كاف في إثبات رسالة إدريس، فأما نبوته فإنها ثابتة بالقرآن العظيم. وإنما اقتصر في شريعة إدريس عليه السَّلام على شهادة التوحيد؛ لأنها تَنهى مَنْ صدَّق بها عن الفحشاء والمنكر كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]؛ أي: أبلغ في النهي عن ذلك. وأيضًا فإن تقليل الشرائع -وإن كان من باب التيسير والتسهيل- ¬
فليس فيه كبير تكريم، وإلا لم يحرم على النبي - صلى الله عليه وسلم - أشياء لم تحرم على أمته، بل في تقليل الشرائع زيادة في نكال من عصى ولم يمتثل، وخصوصاً إذا اعتبر حاله مع حال من ابتلي بالشرائع الكبيرة فامتثل وأطاع. وقريب من قصة إدريس في تقليل الشريعة ما رواه الدينوري عن عبد الله بن عائذ رحمه الله تعالى أن نبياً من الأنبياء عليهم السلام بعث إلى قوم فقال لهم: قوموا من الشمس إلى الظل يغفرْ لكم، فأبوا (¬1). ثم إني تذكرت ما يدل على أن الناس في زمان إدريس عليه السلام كانوا مكلفين بتحريم القتل، والزنا، وشرب الخمر، وغير ذلك من الفساد، وهو قصة هاروت وماروت، وقد تقدمت قصتهما في التشبه بالملائكة عليهم السلام. وروى الثعلبي، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه تلا هذه الآية: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]: ما بين نوح وإدريس عليهما السَّلام، وكان ألف سنة، وإن بطنين من ولد آدم أحدهما كان يسكن السهل، والآخر الجبل، وكان رجال الجبل صِباحاً، وفي النساء دَمامة، وهم أولاد قابيل بن آدم، وكان نساء السهل صِباحا، وفي الرجال دمامة، وهم أولاد شيث عليه السلام، وإن إبليس أتى رجلًا من أهل السهل في صورة غلام، فآجر ¬
نفسه منه، فكان يخدمه، واتخذ إبليس شيئًا مثل ما يزمر به الرعاء، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله قط، فبلغ ذلك من حولهم، فانتابوهم ليسمعوا، فاتخذوه عيدًا يجتمعون إليه في السنة، فتتبرج النساء للرجال. وإن رجلًا من الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم، فرأى النساء وصباحتهن، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك، فتحولوا إليهم، فنزلوا معهم، فظهرت الفاحشة فيهم، فهو قول الله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]. وكان آدم عليه السلام أوصى ابنه شيث أن لا يناكح بين أولاده وأولاد قابيل، فلما تحول أولاد قابيل وهم أهل الجبل إلى أولاد شيث حملهم حسنُ نساءِ أولادِ شيث على طلب المناكحة، فمنعهم بعض أولاد شيث من ذلك عملًا بوصية آدم، فأخذه أولاد قابيل، وجعلوه في مغارة، وبنوا عليه حائطاً، ثم تناكح الطائفتان، وتناسلوا حتَّى ملئوا الأرض، وكثر الفساد فيهم، فبعث الله تعالى إليهم نوحا عليه السَّلام يدعوهم إلى الله تعالى، وينذرهم بأسه (¬1). وروى عبد بن حميد، وابن المنذر عن الحكم رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13]؛ قال: جاء نوح عليه الصلاة والسلام بالشريعة بتحريم الأمهات، ¬
والأخوات، والبنات (¬1). ومن هنا يجمع بين الآثار؛ فإن آدم عليه السلام أول من أرسل بالتوحيد وبعض الأحكام؛ كتحريم التوأمة على توأمها. ثم إدريس أول من أرسل بالتلفظ بلا إله إلا اله بحيث لا يقبل التوحيد والطاعة إلا ممن تلفظ بها. ونوح أول من أرسل بتحريم المحارم، وكانت المناكحة قبل سائغة لضرورة النسل، ثم لما كثر الناس حرمت المحارم. وذكر القرطبي في تفسير سورة الأعراف: أن نوحا عليه السلام أول الرسل بعد آدم عليه السلام بتحريم البنات، والأخوات، والعمات، والخالات. ولما بعث الله نوحا عليه السَّلام أخذ يأمرهم وينهاهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله تعالى ليلًا ونهاراً، فلم يزدهم دعاؤه إلا فراراً، وكانوا يدخلون عليه فيخنقونه، ويضربونه في المجالس حتى يُغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، وكان يكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه، ويجعل أصبعيه في أذنيه لكيلا يسمع شيئًا من كلامه، وكان يضرب ويلف في لبد، ويلقى بيته يرون أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم. وجاءه رجل منهم ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا، فقال: يا بني! ¬
انظر هذا الشيخ لا يغرنك. قال: يا أبت! مَكِّنِّي من العصا، فشجه شجة مُوضحة في رأسه، وسال الدم. قال نوح: رب! قد ترى ما يفعل بي عبادك، فإن يك لك في عبادك خير فاهدهم، وإن يك غير هذا فصبِّرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين. فأوحى الله تعالى إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، فأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن، فدعا عليهم (¬1). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى: أن نوحا عليه السلام لم يدع على قومه حتى نزلت عليه هذه الآية: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود: 36]، فانقطع رجاؤه عند ذلك منهم، فدعا عليهم عند ذلك. وأوحى الله تعالى إلى نوح بعد أن دعا عليهم أن يصنع الفلك، فصنعه من يومئذ، وهيأه حتى فار التنور، فركب في الفلك، وحَمَل فيه من أمر الله تعالى بحملهم من مؤمن بني آدم ومن كل زوجين اثنين، وأغرق الله الباقين في الطوفان. ¬
1 - فمنها: الكفر.
وليس غرضنا الآن بيان القصة بأطرافها، وإنما نذكر التنقيب على قوم نوح، والتفتيش على قبائح أفعالهم ليحذر المؤمن التشبه بهم فيها، ويتنزه عن مقارفتها وتعاطيها. 1 - فمنها: الكفر. كما شهد عليهم به نوح عليه السَّلام بقوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26، 27]. 2 - ومنها -وهو نوع مما قبله-: عبادة الأصنام، والتحريض عليها. قال الله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 21 - 23]. وقد تقدم في التشبه بالشيطان أنه هو الذي صور لهم هذه الأصنام على صورة أولاد آدم، وكانوا صالحين فعبدوا تلك الصور. وذى الثعلبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن نوحاً كان يحرس جسد آدم عليهما السلام على جبل بالهند يحول بين الكافرين وبين أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطان: إنما هو جسد، وأنا أصور لكم جسدًا تطوفون به، فنحَتَ خمسة أصنام، وحملهم على عبادتها؛ وهي: وُد، وسُول، وَيغوث، وَيعُوق، ونسر، فلما كان أيام الغرق دفن الطوفان تلك الأصنام وطمها التراب، فلم تزل حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب.
3 - ومنها: الزندقة، والانحلال عن الدين، وعدم التقيد بشريعة.
وكان ود لكلب، وسواع لآل ذي الكلاع، ويغوث لهمذان، ويعوق لأعلى وأنعم وهما من طي، ونسر لخثعم (¬1). وروى البخاري، وغيره عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب تُعبد؛ أمَّا ود فكانت لكلب بدُومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمذان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، ولما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلكت أولئك ونُسِخَ العلم عُبدت (¬2). 3 - ومنها: الزندقة، والانحلال عن الدين، وعدم التقيد بشريعة. وقال في "القاموس": الزنديق -بالكسر-: من الثنوية، أو القائل بالنور والظلمة، أو مَن لا يؤمن بالآخرة والربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، أو معرَّب زن دين؛ أي: دين المرأة، وجمعه زنادقة، وزناديق، وقد تزندق، والاسم الزندقة (¬3). روى البخاري في "تاريخه" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ¬
4 - ومنها: التكذيب باليوم الآخر، وإنكار البعث والنشور.
بعث الله نوحا فما أهلك أمته إلا الزنادقة، ثم نبي فنبي؛ وإنه لا يهلك هذه الأمة إلا الزنادقة (¬1). وروى ابن المنذر عن [زيد بن] رفيع فقيه أهل الجزيرة قال: بعث الله تعالى نوحاً، وشرع له الدين، فكان الناس في شريعة نوح عليه السَّلام ما كانوا، فما أطغاها إلا الزندقة، ثم بعث الله عز وجل إبراهيم عليه الصلاة والسَّلام، وشرع له الدين، فكان الناس في شريعة من بعد إبراهيم ما كانوا، فما أطغاها إلا الزندقة، ثم بعث الله عز وجل عيسى عليه السَّلام، وشرع له الدين، فكان الناس في شريعة عيسى ما كانوا، فما أطغاها إلا الزندقة (¬2). 4 - ومنها: التكذيب باليوم الآخر، وإنكار البعث والنشور. كما يشير إليه قول نوح عليه السلام: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 17، 18]. وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59]؛ يعني: يوم القيامة، وقيل: يوم الإغراق. {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: 60]؛ سموا ما جاء به من التوحيد والإنذار بيوم القيامة ضلالاً مبينًا. ¬
وهذا دليل على أنهم كانوا يكذبون بذلك، بل كل رسول أرسله الله تعالى أرسله بالإيمان بالله واليوم الآخِر وكذَّبه قومُه إلا من آمن منهم، وهم قليل كمَا قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ}؛ أي: قبل كفار هذه الأمة {قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 12 - 14]. وقد حكي قبل ذلك عنهم أنهم قالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا}؛ أي: نرجع بعد الموت والفناء كما يدل عليه قوله: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3]. فمن كذب باليوم الآخر فقد تشبه بهؤلاء كلهم. وفي الحديث: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ فَأَمَّا تَكْذِيْبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنيِّ لا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيْدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِيَ أَنْ أتَّخِذَ صَاحِبةً وَلا وَلَدًا". رواه البخاري من حديث ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما (¬1). وأخرجه هو والإمام أحمد، والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نحوه، وقال فيه: "وَأَمَّا تَكْذِيْبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَيْسَ يُعِيْدُنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادتِهِ" (¬2). ¬
5 - ومنها: عدم المبالاة بالله بحيث لا يرجى ولا يخاف، ولا يشكر له نعمة، ولا يستحيى، ولا يؤمن مكره.
5 - ومنها: عدم المبالاة بالله بحيث لا يرجى ولا يخاف، ولا يشكر له نعمة، ولا يستحيى، ولا يؤمن مكره. قال الله تعالى يحكي ما قاله نوح لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا تعلمون له عظمة. رواه ابن جرير، والبيهقي، وقال: لا تعرفون له حق عظمته (¬1). وزاد ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وقال: لا تخشون له عقاباً، ولا ترجون له ثوابا. رواه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ (¬2). فسره على إعمال اللفظ المشترك في معنييه؛ فإنه يقال: رجاء بمعنى الخوف، وبمعنى الطمع. وقال الحسن رحمه الله تعالى: ولا تعرفون له حقا, ولا تشكرون له نعمة (¬3). وقال مجاهد رحمه الله تعالى: لا تبالون لله عظمة (¬4). رواهما سعيد بن منصور، والبيهقي. وفي "مصنف عبد الرزاق": عن علي رضي الله تعالى عنه، أن ¬
6 - ومنها: الزنا.
النَّبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ناساً يغتسلون عراة ليس عليهم أزر، فوقف، فقال بأعلى صوته: "ما لَكُمْ لا تَرْجُوْنَ لِلَّهِ وَقاراً؟ " (¬1). 6 - ومنها: الزنا. وهو من أقبح الفواحش، وأعظم المعاصي، وهو مما أجمعت أهل الأديان على تحريمه. ومن محاسن شيخ الإِسلام والدي رحمه الله تعالى قوله: [من الطويل] ثَلاثَةُ أَلْفاظٍ تَساوَتْ لَدى الْخَطِّ ... وَلَيْسَ لَها خُلْفٌ سِوى حالَةَ النَّقْطِ رِباءٌ رِياءٌ وَالزِّناءُ كَبائِرٌ ... عَلَيْها وَعِيْدٌ بِالْعِقابِ مَعَ السُّخْطِ وَلَمْ يَأْتِ فِيها الْحِلُّ يَوْماً بِشِرْعَةٍ ... فَخُذْ عَنِّيْ ما قَدْ قُلتُ وَاعْتَمِدَنْ ضَبْطِي 7 - ومنها: تبرج النساء بالزينة. وهو إظهار زينتهن للرجال الأجانب، والتبختر في المشية، وهو حرام. قال الله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]. وقد علمت أنها ما بين آدم ونوح عليهما السلام. وروى ابن سعد، وابن أبي حاتم عن مجاهد رحمه الله تعالى ¬
قال: كانت امرأة تخرج فتمشي بين الرجال، فذلك تبرج الجاهلية الأولى (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن مقاتل رحمه الله تعالى قال: التبرج أن تلقي الخمار على رأسها ولا تشده، فيوازي قلادتها وقرطيها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها (¬2). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]؛ قال: تكون جاهلية أخرى. وفي لفظ: ما سمعت بأولى إلا لها آخرة. رواه ابن أبي حاتم (¬3). وروى البيهقي في "سننه" عن أبي (¬4) أذينة الصدفي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ نِسَائِكُمُ الْمُتَبَرِّجَاتُ، وَهُنَّ الْمُنَافِقَاتُ، لا يدخلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلاَّ مِثْلُ الْغُرَابِ الأَعْصَمِ" (¬5). وروى سعيد بن منصور عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن امرأة دخلت عليها وعليها خمار رقيق يشف جبينها، فأخذته عائشة فشقته، ثم ¬
قالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور؟ - تعني: قوله تعالى {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] الآية - ودعت لها بخمار فكستها إياه (¬1). وروى الإِمام أحمد، والنسائي، وصححه الحاكم، عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَخَرَجَتْ، فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوْا رِيْحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ" (¬2). وأصله عند أبي داود، والترمذي، وحسنه (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن ثابت البناني، عن أبي ثامر - رضي الله عنه -وكان أبو ثامر رجلًا عابداً ممن يغدو إلى المسجد- فرأى في المنام كأن الناس قد عُرضوا على الله، فجيء بامرأة عليها ثياب رقاق، فجاءت ريح فكشف الله تعالى عنها، وقال: اذهبوا بهَا إلى النار؛ فإنها كانت من المتبرجات، حتى انتهى الأمر إلى قال: دعوه؛ فإنه كان يؤدي حق الجمعة (¬4). ¬
8 - ومنها: اتباع المترفين، وإيثار محبتهم ومخالطتهم.
وروى عبد الرزاق عن ليث رحمه الله تعالى: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رأى امرأة متزينة أذن لها زوجها في البروز، فأخبر بها عمر، فطلبها فلم يقدر عليها، فقام خطيبا فقال: هذه الخارجة وهذا لمرسلها, لو قدرت عليهما لشترت بهما، ثم قال: تخرج إلى أبيها يكيد بنفسه، أو إلى أخيها يكيد بنفسه، فإذا خرجت فلتلبس معاوزها (¬1). قال الخطابي: قال أبو زيد: شترت -يعني: بالمعجمة، والمثناة فوق - بالرجل، وهجلت به، وقدرت، وسمعت به شتِيرًا وتهجيلاً: إذا أسمعته القبيح، وشتمته. وقوله: يكيد نفسه؛ أي: يسوق سياق الموت (¬2). ومعنى كلام عمر رضي الله تعالى عنه: أنه لم يأذن للمرأة أن تخرج إلا في ضرورة كموت أخيها وأبيها في ثياب بِذْلة من غير تزين ولا تعطر. 8 - ومنها: اتباع المترفين، وإيثار محبتهم ومخالطتهم. كما قال نوح عليه السلام: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} [نوح: 21]. واعلم أن عشرة المتخولين والأغنياء المترفين مُضِرَّة بالنفس والدين؛ لأن النفس تتحرك بمعاشرتهم إلى مشاركتهم فيما هم فيه ¬
ومضارعتهم، فيكون ذلك باعثاً للعبد على طلب مثلِ ما لهم، وازدراء ما أنعم الله عليه مما دون ذلك، فيركب في طلبه كل صعب وذَلُول، وربما لا يتوصل إليه إلا بالأسفار المُشِقة والأتعاب الشديدة؛ فإن المرء إذا هوي شيئًا طلبه ولو بالصين، وركب فيه المَهَامِه والقِفار ولو سنين كما قيل: [من السريع] وَكَمْ قَطَعْتُ اللَّيْلَ في مَهْمَهٍ ... لا أَسَدأ أَخْشَى وَلا ذِئْبا يَغْلِبُنِي شَوْقِي فَأَسْرِي السُّرَى ... وَلَمْ يَزَلْ ذُو الشَّوْقِ مَغْلُوبًا (¬1) وقد لا يتيسر مطلوبه من طريق مباح، فيرتكب الشبهات، ويقارف المحرمات، ثم إذا أصاب بغيته ولقى أمنيته فقد لا يحسن التصرف فيما أوتيه، وقد يؤدي به حصوله له إلى البطر والأشَر كما صار لقوم نوح، وإذا لم يتيسر له ما أراده، وأعمَلَ في طلبه اجتهاده، فإما أن يغلب جانبه الدين فيحتاج إلى تجرع الصبر، ومدافعة الغم والحصر، وإما أن يفتن في دينه، ويسخط فضل من جاد بإيجاده وتكوينه. واعتزال هؤلاء متعين على كل من خاف على نفسه من هذه الغوائل، ورغب في التخلص من هذه الرذائل. وقد قيل في المثل: عين لا تنظرُ قلبٌ لا يحزنُ. وروى أبو نعيم عن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: كنت أجالس الأغنياء، وكنت من أكثر الناس همًا ومن أكثرهم غماً، أرى ¬
9 - ومنها: المكر، وهو كبيرة.
مركبا خيراً من مركبي، وثويا خيراً من ثوبي فأهتم، فجالست الفقراء فاسترحت (¬1). وروى الإِمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انْظُرُوْا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوْا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوْا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيكُمْ" (¬2). ولقد قلت: [من المديد] في خلْطَةِ الأَغْنِياءِ خَطْبُ ... أَوْرَثَ قَلْبَ الْفَقِيْرِ حُزْنا يَحْسُدُهمْ في الَّذِي يَراهُ ... وَلا يَنالُ الَّذِي تَمَنَّى يَسْخَطُ مِنْ رَبِهِ عَطاءً ... قَدْ عَمَّهُ يَسْرَةً وَيمْنَى قَدْ كانَ في عَيْشِهِ مُهَنًّا ... فَصارَ مِمَّا رَأَى مُعَنَّى فَالْقَ الْمَساكِيْنَ وَاصْطَحِبْهُمْ ... تَشْكُرْ لِرَبِّ الْعِبادِ مَنَّا 9 - ومنها: المكر، وهو كبيرة. قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 22]. قال الحسن رضي الله تعالى عنه: أي: مكروا مكراً عظيمًا ¬
10 - ومنها: إضلال الناس، وإغواؤهم، ومنعهم عن الإيمان بالله تعالى، وعن طاعته، والدعوة إلى معصيته، واتباع الأئمة المضلين.
في الدين (¬1). والمكر عاقبته وخيمة. وحقيقته: حيلة يجلب بها لغيره المضرة. قال الله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]. وفي "مراسيل أبي داود" عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَكْرُ وَالْخَدِيْعَةُ وَالْخِيَانة فِيْ النَّارِ" (¬2). 10 - ومنها: إضلال الناس، وإغواؤهم، ومنعهم عن الإيمان بالله تعالى، وعن طاعته، والدعوة إلى معصيته، واتباع الأئمة المضلين. قال الله تعالى: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 24]. وقد دلت الآية أنه كان في قوم نوح الضُّلاَّل والمضلون. واتباع أهل الضلال مذموم منهي عنه في سائر الملل كما قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]. قيل: الإشارة بالأول إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، وبالثاني عن ضلالهم عما جاء به الشرع. ¬
وروى الإِمام أحمد، والطبراني عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةُ الْمُضِلُّوْنَ" (¬1). وروى الإِمام أحمد بإسناد جيد، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "غَيْرُ الدَّجَالِ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ مِنَ الدَّجَالِ". قيلَ: ومَا ذاكَ؟ قالَ: "أَئِمَّة مُضِلُّونَ" (¬2). وروى الإِمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ؛ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُسَاءَ جُهَّالاً فَسُئِلُوْا، فَأفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوْا وَأَضَلّوْا" (¬3). وفي لفظ: "إِن الله لا يَنْزِعُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ يُؤْتيَهُمْ إِيَّاهُ، وَلَكِنْ يَذْهَبُ بِذهابِ الْعُلَمَاء، فَكُلَّمَا ذهبَ عَالِم ذَهَبَ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْعِلْمِ، حَتَّى إِذا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ رُؤَسَاءُ جُهَّالٌ إِنْ سُئلُوْا أَفْتَوا بِغَيْرِ عِلْمٍ، ¬
11 - ومنها: الإعراض عن سماع الموعظة.
فَيَضِلُّون وَيُضِلُّونَ". 11 - ومنها: الإعراض عن سماع الموعظة. قال نوح عليه السلام: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7] الآية. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ}: غطوا بها وجوههم لكيلا يروا نوحًا ولا يسمعوا كلامه. رواه سعيد بن منصور، وابن المنذر (¬1). فالمعرض عن سماع الذكر والموعظة والنصيحة متشبه بقوم نوح، وهو يستوجب الإعراض عنه من الله تعالى. ومَنْ أقبل على الله أقبل الله عليه؛ لما روى الشيخان عن أبي واقد الليثي رضي الله تعالى عنه قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد والنَّاس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحدٌ، فوقفا على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: فأمَّا أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأمَّا الآخر فجلس خلفهم، وأمَّا الثَّالث فأدبر ذاهبا، فلمَّا فرغَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنْ الثَّلاثَةِ النَّفَرِ؛ أَمَّا أَحَدُهُمْ آوَى إِلَى اللهِ فآوَاهُ اللهُ، وَأما الآخَرُ فَاسْتَحْيى مِنَ اللهِ فَاسْتَحْيىَ اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ" (¬2). ¬
12 - ومنها: بغض النصحاء.
12 - ومنها: بغض النصحاء. قال في "الكشاف" في قوله: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7]: تغطوا بها لئلا ينظروه كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله (¬1). وقال عمر رضي الله تعالى عنه: لا خير في من لا يحب الناصحين. وأصل ذلك من الجهل. وفي المثل: من نصح جاهلًا عاداه. 13 - ومنها: الإصرار على المعصية، وترك التوبة والاستغفار. قال نوح عليه السلام: {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 7]. وأصل الإصرار العزم والإسراع والبعد؛ كأن العصر على الذنب فعله في الحال، وعزم عليه مرة أخرى، وأسرع إليه وفيه، ثم أسرع إليه ثانيًا، وبَعُدَ به عن الخير. والندم عليه والاستغفار منه رجوع عنه. ولقد أمرهم نوح عليه السلام بالاستغفار كما قال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]. فلم يستغفروا من ذنب أصروا عليه، وفروا من الله لا إليه كما قال: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح: 6]. فَفِرَّ إلى الله ولا تفر عنه، ولا تصر على معصيته والإبعاد منه، ¬
14 - ومنها: الاستكبار.
وإن كنت واقعًا في المعصية فلا تكن عاجزًا عن التوبة عنها والاستغفار منها كما كان قوم نوح كذلك، فوقعوا في المهالك. فليس ثبوت الشقاء والبلاء بمجرد وقوع الذنب والخطاء، والاستغفار منك مقصود، وباب التوبة عنك غير مردود، ولكن البلية والرزية في الإصرار على الذُّنوب بعد الوقوع في الإثم والحَوب، فقد ينهدم ركن الذَّنب بالاستغفار، وقد يكون عظم الخطيئة من الإصرار كما روى سعيد بن منصور في "سننه" عن ابن عبَّاس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا كَبِيْرَةَ مَعَ الاسْتِغْفَارِ، وَلا صَغِيْرَةَ مَعَ الإِصْرَارِ" (¬1). 14 - ومنها: الاستكبار. كما قال: {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 7]. وقد تقدم الكلام عليه في النهي عن التشبه بالشيطان. ولما نظر نوح عليه السَّلام أن الكبر هو الذي صرف قومه عن الإيمان كما صرف به عنه الشيطان؛ إذ لا يجتمع الكبر والإيمان في قلب إنسان بدليل الحديث: "لا يَدخلُ الْجَنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلا يدخلُ النَّارَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيْمَانٍ" (¬2) اقتصر ¬
15 - ومنها: مقابلة الإحسان بالإساءة.
نوح في وصيته لابنيه عليهم السَّلام على النهي عن الكبر والشرك كما روى الإِمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، وصححه الحاكم، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ نُوْحًا عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا ابْنَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي آمُرُكُمَا بِاثْنتَيْنِ، وَأَنْهَاكُمَا عَنِ اثْنتَيْنِ؛ أَنْهَاكُمَا عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ، وَآمُرُكُمَا بِلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَوْ وُضِعَتْ فِيْ كفَّةِ الْمِيْزَانِ وَوُضِعَتْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِيْ الْكَفَّةِ الأخْرَى لَكَانَتْ أَرْجَحَ مِنْهَا، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتْ حَلَقَةً فَوُضِعَتْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ عَلَيْهَا لَقَصمَتْهَا، وَآمُركُمَا بُسُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدهِ, فَإِنَّهَا صَلاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِهَا يُرْزَقُ كُلُّ شَيْءٍ" (¬1). 15 - ومنها: مقابلة الإحسان بالإساءة. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 25، 26]. فانظر إلى تودد نوح إليهم، ونصحه لهم بدعوته إيَّاهم إلى توحيد الله، وشفقته عليهم حتَّى خاف عليهم العذاب، ثم انظر كيف قابلوا هذا بما حكاه الله عنهم بقوله تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ¬
وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27]؛ فأنكروا فضله وفضل من تبعه في نصيحتهم، ثم كانوا يتجاوزون إلى إهانته وضربه. قال عبيد بن عمير رحمه الله تعالى: إن كان نوح ليضربه قومه حتى يغمى عليه، ثم يفيق فيقول: اهْدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون. رواه ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزُّهد" (¬1). وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كأني انظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيًا من الأنبياء قد ضربه قومه وهو يمسح الدَّم عن جبينه، وهو يقول: اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون (¬2). فسبحان الله ما أكرم أخلاق الأنبياء عليهم السلام كيف كانوا يحملون جفاء أقوامهم، ثم يعطفون عليهم. وكذلك أخلاق الأبدال من أولياء الله تعالى، ولسان حال البدل مع من يقابل نداه بأذاه يقول كما قلت: [من الوافر] أَخافُ عَلَيْكَ إِشْفاقًا عَلَيْكا ... وَأُهْدِي النُّصْحَ مِنْ كَرَمِي إِلَيْكا وَأَنْتَ تُسِيْءُ عَنْ لُؤْمٍ إِلَيْنا ... ألمْ تَذْكُرْ أَيادِينا لَدَيْكا وَقَدْ أَصْرَرْتَ لَكِنَّا صَبَرْنا ... فتبْ نَمْلأْ بِجَدْوانا يَدَيْكا وقد حكي أن البهلول كان الصبيان يضربونه بالأحجار حتى ¬
يدموه، فكان ينشد ويقول: [من الرمل] حَسْبِيَ اللهُ تَوَكَلْتُ عَلَيْهِ ... وَنَواصِي الْخَلْقِ طُرًّا فِي يَدَيْهِ رُبَّ رامٍ لِي بِأَحْجارِ الأَذَى ... لَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنَ الْعَطْفِ عَلَيْهِ (¬1) ثم قد يؤدي الإصرار على أذية أولياء الله تعالى إلى غضب الله تعالى، فتحق على المصر كلمة العذاب، إلا أن قوم نوح لما تمادوا في الطغيان والفجور، والسَّفَه عليه وعلى أصحابه المؤمنين، وإيذائهم كيف دمر الله آخراً عليهم، ونهاه عن العطف عليهم، فقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود: 36]. وقال تعالى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37]. فلم يسع نوحا عليه السَّلام بعد ذلك إلا أن قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]. ولذا قال الشيخ رضي الدين جَدي رحمه الله تعالى حيث يقول: [من السربع] أيُّها الْواقِفُ مَعْ نَفْسِهِ ... في مَقامِ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ ¬
16 - ومنها: الوقاحة، والتجري على الأكابر، وعدم توقيرهم، وتجرئة الصغار عليهم، وحمل الأطفال على قبائح الأعمال.
أَنْتَ وَاللهِ إِذا لَمْ تتب ... واقِعٌ في الْمَقْتِ وَالسَّخَطِ وقلت: [من الرجز] قَدْ يُوْحِشُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبارِي ... مَنْ لَيْسَ يَخافُ مِنْ عَذابِ النَّارِ ما يَجْتَلِبُ الرِّضَا كَالاسْتِغْفارِ ... وَالسُّخْطُ يَكُوْنُ آخِرَ الإِصْرارِ 16 - ومنها: الوقاحة، والتجري على الأكابر، وعدم توقيرهم، وتجرئة الصغار عليهم، وحمل الأطفال على قبائح الأعمال. كما في قصة الشيخ الذي أعطى الغلام العصا حتى شج نوحاً عليه السلام (¬1). وهذه الأمور كلها خلاف ما تعطيه الديانة، وليس للصغير أحسن من حفظه في أول أمره والصيانة. ولقد قلت: [من الكامل] وَلَدُ الأَدِيْبِ إِذا أَرادَ نَجاحَهُ ... فَإِذا أَساءَ أَخافَهُ مِنْ يَوْمِهِ إِنَّ الصَّغِيْرَ إِذا أتى بِقَبِيْحَةٍ ... قَدْ أَعْرَضَتْ عَنْها أَكابِرُ قَوْمِهِ أَفْضَى بِهِ إِعْراضُهُمْ عَنْهُ إِلَى ... أَمْرٍ عَظِيْمٍ لا يُزالُ بِلَوْمِهِ لا تَلْهَ عَنْ أَدَبِ الصَّبِيِّ فَإِنَّما ... تَسْمُو بِهِ عَمَّا يُشانُ بِسَوْمِهِ لا تَلْفَ مِنْهُ كَرًى يَصُدُّ عَنِ السَّرى ... إِلاَّ وَقَدْ نبَّهْتَهُ مِنْ نَوْمِهِ ¬
ولقد كان سبب توارث الشقاء في قوم نوح جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل مشاهدة الصغار لما عليه الكبار، بل حَمَلَ الكبيرُ صغيره على إساءة الأدب، وتدريبه على مواقعة الريب حتى تتابعت بهم العصور وهم في غرور وقصور، ووقاحة وفجور، لا يوقرون كبيرًا ولا يرحمون صغيراً، ولا يحسنون قليلاً ولا كثيرًا؛ فالعاقل من نَكَبَ عن هذا الطريق، وسأل من الله تعالى التوفيق. فروى الإِمام أحمد، والحاكم وصححه، عن عبادة بن الصَّامت رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَجِلَّ كَبِيْرَنَا، وَيرْحَمْ صَغِيْرَنَا، وَيعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ" (¬1). وروى الإِمام أحمد، والطبراني في "الكبير" -وإسناده حسن - عن عبد الله بن بُسر رضي الله تعالى عنه قال: قد سمعت حديثًا منذ زمان: إذا كنت في قوم -عشرين رجلًا، أو أقل أو أكثر - فتصفحت وجوههم، فلم تر فيهم من يُهاب في الله عز وجل، فاعلم أن الأمر قد رق (¬2). ¬
17 - ومنها: استبعاد اختصاص الله تعالى بعض عباده بفضيلة العلم والحكمة، أو نحو ذلك.
ولو أننا قابلنا ما نرى من أحوال الناس الآن على ما نروي من آثار السلف لرأينا المباينة بائنة، والسيرة غير موافقة، والطريقة غير مطابقة، والمنافقة نافِقة، والصدق عزيز، والمصادقة غير صادقة، ليس لهم سكينة إلا التماوت، ولا وقار إلا التغافل والتهافت، وإني لقائل: [من الكامل المذيّل] وَلَقَدْ أَرى أَنَّ السَّكِيْنَةَ لَمْ تَكُنْ ... تُرأى عَلَى أَهْلِ الشَّبابِ وَلا الْمَشِيْبْ وَأَراهُمْ ما وَقَّرُوا ذا حُرْمَةٍ ... حَتَّى لَقدْ رَكِبُوا مِنَ الأَمْرِ الْمَعِيْبْ لا يَبْرَحُوْنَ عَلى أُمُوْرٍ لَمْ تَكُنْ ... تَعْنِيْهِمْ لَدُنِ الصَّباحِ إِلَى الْمَغِيْبْ هَلْ آمَنُوا أَنَّ الإِلَهَ مُهَيْمِنٌ ... أَمْ آمَنُوا أَنَّ الإِلَهَ هُوَ الرَّقيبْ لَوْ أَنَّهم قَدْ آمَنُوا حَقًّا لَما ... أَمْسَوْا عَلى أَعْمالِ ذي شَكٍّ مَرِيْبْ مَنْ قالَ إِنَّ لِقاءَهُمْ لَمُصِيْبَةٌ ... وَوُجُوْدَهُمْ فَقْدٌ فَذاك هُوَ الْمُصِيْبْ إِنَّ الأَدِيْبَ إِذا تَظاهَر بَيْنَهُمْ ... أَضْحَى وَأمْسَى وَهْوَ في ذُعْرِ الْغَرِيْبْ إِنْ مَزَّقُوا عِرْضَ امْرِئٍ لَمْ يَسْتَطِعْ ... تَخْلِيْصَ جِلْدِ الشَّاةِ مِنْ أَنْيابِ ذِيْبْ إِنِّي عَجِبْتُ لِبَعْضِهِمْ في بُغْضِهِ ... مَرْأً وَإِنْ يُبْصِرْهُ قالَ أَتَى الْحَبِيْبْ يا وَحْشَة الْمَشْغُوْلِ في أيَّامِهِ ... بِالنَّاسِ حَتَّى ذُو الصَّداقَةِ وَالْقَرِيْبْ بِاللهِ أُنْسُ وَلِيِّهِ هُوَ حَسْبُهُ ... في كُلِّ ما قَدْ نابَهُ نِعْمَ الْحَسِيْبْ 17 - ومنها: استبعاد اختصاص الله تعالى بعض عباده بفضيلة العلم والحكمة، أو نحو ذلك. والله تعالى يقول: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269].
{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105]. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة: 4]. قال الله تعالى حكايته عن قوم نوح: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27]. وهذا غلط وقع فيه أكثر مكذبي الأمم، فنظروا إلى أن التساوي في البشرية يمنع الاختصاص، أو يرون أن الفضيلة تكون تابعة للنسب والحسب، أو لشرف الكسب، أو لكثرة العرض، أو للجاه، أو للعشيرة، أو لحسن الصورة، ولا يزول هذا الغلط إلا بمعرفة الله تعالى؛ فإنه الإله الحق والمالك المطلق، ومن وقع له شيء مما ذكر، وسكن إليه فما حَصَل على المعرفة. ومما قلته: [من مخلّع البسيط] اللهُ يَخْتَصُّ بِالنَّوالِ ... مَنْ شاءَ لا عَنِ احْتِيالِ كَمْ مِنْ حَسِيب بِلا نَصِيْبِ ... وَذِي جَمالٍ بِغَيْرِ مالِ ما الْفَضْلُ بِالْجِسْمِ وَالْهُيُولَى ... لَكِنْ بِتَوْفِيْقِ ذِي الْجَلالِ كَمْ مِنْ وَلِيٍّ يَمْشِي بِسُوْقٍ ... وإنَّهُ واحِدُ الرِّجالِ ما لِعَباءٍ وَلا قِباءٍ ... في النَّقْصِ فِعْلٌ وَلا الْكَمالِ
18 - ومنها: النظر إلى ظاهر الهيئة، واعتبار أن خسة الحرفة أو رثاثة الهيئة مانع من الاختصاص بالفضيلة.
في النَّاسِ ناسٍ وَذُو ذَكاءٍ ... بَرَزَ في الْفَضْلِ وَالْمَعالِي وَحاسِدُ النَّاسِ لا تَراهُ ... يَرْجِعُ إِلاَّ بِسُوْءِ حالِ يُنازِعُ الله ما قَضاهُ ... فَهْوَ حَرِيٌّ مِنْهُ بِالنَّكالِ في قَوْمِ نُوْحٍ أَيّ اعْتِبارٍ ... لَمَّا تَمادَوْا عَلى الضَّلالِ لَمْ يُبْقِ طُوفانهمْ صَغِيرًا ... وَلا كَبِيْرًا عَلى التَّوالِي لَوْلا حَذِرْنا عِقابَ مَوْلًى ... ما شاءَ يَفْعَلْ وَلا يُبالِي 18 - ومنها: النظر إلى ظاهر الهيئة، واعتبار أن خسة الحرفة أو رثاثة الهيئة مانع من الاختصاص بالفضيلة. وهو نظر قاصر وغلط ظاهر. قال الله تعالى حكايته عنهم: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27]. نظروا إلى خساسة الصناعة ودناءة الحرفة، ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانات. قال القرطبي: وفي الحديث: أنهم -يعني: أتباع نوح- كانوا حاكة وحجامين (¬1). العاقل لا ينظر إلى دناءة الحرفة، وإنما ينظر إلى زكاة النفس ¬
وتخلقها بمكارم الأخلاق. قال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: رأيت فتى وعليه أطمار رثة، فقذَرَتْه نفسي، وشهد قلبي له بالولاية، فبقيت بين قلبي ونفسي أتفكر، فاطلع الفتى على ما في سري، فنظر إليَّ وقال: يا ذا النون! لا تُبْصِرْني لِكَيْ تَرى خَلْقِي ... فَأَنا الدُّرُّ داخِلَ الصَّدَفِ (¬1) وقال القناد رحمه الله تعالى: رأيت الحسين بن منصور رحمه الله تعالى في حالة رثة، فقلت له: كيف حالك؟ فأنشأ يقول متمثلاً: [من الوافر] لأَنْ أَمْسَيْتُ فِيْ ثَوْبَيْ عَدِيْمِ ... لَقْدَ بَلِيا عَلى خُلُقٍ كَرِيْمِ فَلا يَحْزُنْكَ إِنْ أَبْصَرْتَ حالًا ... مُعَبِرَةً عَنِ الْحالِ الْقَدِيْمِ فَلِي نَفْسٌ سَتَتْلَفُ أَوْ سَتَرْقَى ... لَعَمْرُكَ بِي إِلى أَمْرٍ عَظِيْمِ (¬2) وروى أبو نعيم، وغيره عن أبي الحسن علي بن أحمد البصري قال: حدثني بعض شيوخنا قال: لما أشخص الشافعي رضي الله تعالى عنه إلى "سُرَّ مَن رأى" دخلها وعليه أطمار رثة، وطال شعره، فتقدم إلى مزيِّن فاستقذره لما نظر إلى زيه، فقال له: امض إلى غيري، فاشتد على الشافعي أمره، فالتفت إلى غلام كان معه فقال: إيش معك من النفقة؟ قال: عشرة دنانير. ¬
19 - ومنها: إنكار فضل ذوي الفضل.
فقال: ادفعها إلى المزين. فدفعها الغلام إليه، فولى الشافعي وهو يقول: [من الطويل] عَلَيَّ ثِيابٌ لَوْ تُباعُ جَمِيْعُها ... بِفَلْسٍ لَكانَ الْفَلْسُ مِنْهُنَّ أكْثرا وَفِيْهِنَّ نفسٌ لَوْ تُقاسُ بِمِثْلِها ... نُفُوْسُ الْوَرى كانَتْ أَجَلَّ وَأَخْطرا وَما ضَرَّ نصلَ السَّيْفِ إِخْلاقُ غِمْدهِ ... إِذا كانَ عَضباً حَيْثُ أَنْفَذْتَهُ بَرا فَإِنْ تَكُنِ والأيَّامُ أَزْرَتْ بِبزَّتِي ... فَكَمْ مِنْ حُسامٍ في غِلافٍ مُكَسَّرا (¬1) 19 - ومنها: إنكار فضل ذوي الفضل. كما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا لنوح وأتباعه: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27]. وروى الخطيب في "تاريخ بغداد" عن أنس، وابنُ عساكر في "تاريخ دمشق" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لأَهْلِ الْفَضْلِ أَهْلُ الْفَضْلِ" (¬2). 20 - ومنها: الاستنكاف عن مجالسة الفقراء، وأداني الناس من حيث الحرفةُ وظاهرُ الهيئة لا في الدين، وإزعاجهم من المجالس، ¬
وطلب إزعاجهم. قال نوح عليه السلام -وتقدم-: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 29، 30]. وهذا يدل على أنهم طلبوا منه أن يطرد المؤمنين، وينحيهم استنكافاً أن يجالسوهم. وقد اتفق مثل ذلك لأغنياء قريش مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]. فالاستنكاف عن مجالسة الفقراء خلق الهالكين، كما أن التواضع معهم والجلوس إليهم من أخلاق النَّبيين. وروى أبو نعيم بسند ضعيف، عن الحسن بن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اتَّخِذُوْا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ أَيَادِيَ؛ فَإِنَّ لَهُمْ دَوْلَة يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: سِيْرُوْا إِلَىْ الْفُقَرَاءِ، فَيُعْتَذَرُ إِلَيْهِم كَمَا يَعْتَذِرُ أَحَدُكُمْ إِلَىْ أَخِيْهِ فِيْ الدُّنْيَا" (¬1). وبلغني عن أخي الشيخ شهاب الدين أحمد، وكان ممن أجمع ¬
تنبيه
الناس على اعتماد علمه ودينه، وحبه وولايته، وكان له صلابة في الدِّين، ووسوسة في الطهارة، ووداد مع الناس، وكان بدمشق مجذوب مستغرق، وكان كل منهما يعتقد الآخر، غير أن المجذوب كان يقصد التقرب من الأخ، والأخ يبعد عنه حرصاً على النظافة، ففي بعض الليالي خرج الأخ إلى الجامع فرأى هذا المجذوب فقال له: يا شهاب الدين! هل لك في صلاة الفجر بمكة عند البيت؟ قال: نعم. فخرجا من باب البريد، فما أحس الشيخ إلا وهو بباب شبيكة، فشربا قهوة، ثم دخلا الحرم، وقد أذن للصبح، فصليا، وطافا، واختفى عنه المجذوب، ثم ظهر له بعد طلبه إياه، فقال له: يا شهاب الدين! هل تعود إلى جمع ثيابك عني؟ قال: لا. قال: فامض بنا إلى دمشق، فخرجا من مكة، فما أحس إلا وهو بدمشق. * تنبِيْهٌ: لم يأت بعد نوح أطغى منهم، ولا أظلم من الأمم لقوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} [النجم: 50 - 52]. وحكمة ذلك أنهم كانوا أول الأمم بدأوا بالظلم والطُّغيان.
وفي المثل: البادئُ أظلمُ. وقولنا: (من الأمم) احتراز عما لو انفرد واحد بظلم، وكان أظلم ممن سبق لأنه أتى بما لم يأت به غيره، ولا لحقه فيه غيره كعاقر الناقة، وقاتل عليٍّ والدَّجال. وروى ابن أبي حاتم، والبغوي، والبيهقي في "الدَّلائل" عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ رضي الله تعالى عنه: "أَلا أُحَدِّثُكَ بِأَشْقَى النَّاسِ؟ ". قال: بلى. قال: "رَجُلانِ؛ أُحَيْمِرُ ثَمُوْدٍ الَّذِيْ عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذَا -يَعْنِي: تَرْقُوته- حَتَّى تَبْتَل هَذهِ -يَعْنِي: لِحْيَته-" (¬1). • • • ¬
(3) باب النهي عن التشبه بكنعان بن نوح
(3) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِكَنْعَانَ بْنِ نُوحٍ
(3) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِكَنْعَانَ بْنِ نُوحٍ وهو أول من عرف بالنفاق من أولاد آدم. قال الله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} [هود: 42] أي: عن سفينة أبيه، أو عن دينه، أو عن طاعته. {يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 42، 43]. روى ابن أبي حاتم عن قتادة قال: كان اسم ابن نوح الذي غرق كنعان (¬1). وفي "القاموس": الكنعانيون أمة تكلمت بلغة تضارع العربية؛ أولاد كنعان بن سام بن نوح (¬2). ويجمع بينهما بأن كنعان هذا سمي باسم عمه الذي غرق، وهو ¬
من كنع: إذا اجتمع ولان، وكنعان الأول من كنع كنوعاً: انقبض، وانضم لأنه انضم عن أبيه وإخوته، واعتزل عنهم، فلم يكن معهم في السفينة. وروى ابن عساكر عن ابن عباس: أنَّ كنعان بن نوح هو الذي غَرِقَ، وأن العرب تسميه يام؛ أي: بالياء التحتية (¬1). ومن هنا قال في "الصحاح"، وتبعه في "القاموس": يام بن نوح غَرِقَ في الطوفان (¬2). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وغيرهم عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [هود: 42]؛ قال: وابنه -أي: لصلبه- غير أنه خالفه في النية والعمل (¬3). ورووا عن أبي جعفر محمَّد بن عليّ رحمه الله تعالى في قوله: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [هود: 42]؛ قال: بلغة طي، فيجوز للرَّجل أن ينسب ربيبه إليه على وجه التبني (¬4). ¬
وهذا أحد الوجوه في قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]. قال بعض المفسرين: كان نوح عليه السَّلام يظن أن ابنه مؤمن، ولم يعلم أنه كان كافرًا، ولو علم لم يقل: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45]؛ أي: بأنك تنجيني وأهلي إلا من سبق عليه القول منهم؛ أي: أن يكون كافرًا. ولم يكن قد علم أن ابنه كنعان كان قد سبق عليه القول بكفره، وإلا فليس من شأن نوح عليه السَّلام أن يسأل ربه هلاك الكفار واستئصالهم بحيث لا يبقى على الأرض منهم ديار، ثم يسأل نجاة بعضهم ولو كان ابنه، وكان كنعان يُظهر الإيمان ويبطن الكفر. قال الحسن رحمه الله تعالى: كان منافقاً (¬1). وفي قوله تعالى: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أقوال: قيل: إنه كان ابن زوجته من زوج آخر كما تقدم عن أبي جعفر. وقيل: بغت به أمه وهلكت معه؛ بدليل قوله تعالى عن امرأتَيْ نوح ولوط عليهما السَّلام: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10]. وهذا خطأ، والصواب أن خيانتهما كانت في الدِّين والنميمة، لا في الفراش. وروى عبد الرزاق، والمفسرون، وابن أبي الدُّنيا في "الصمت"، وصححه الحاكم، عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما في قوله: ¬
{فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10]؛ قال: ما زنتا؛ أما خيانة امرأة نوح فكانت تقول للناس: إنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف فتلك خيانتها (¬1). وروى ابن المنذر عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: ما بغت امرأة نبي قط (¬2). وروى ابن عساكر من غير حديثه مرفوعًا إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). والحق أن معنى قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}: ليس من أهل دينك بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]. وهو في قراءة يعقوب والكسائي: بكسر ميم عمل، وفتح لامه، بلا تنوين، وفتح راء غير؛ أي: ليس من أهلك لأنه عمل عملًا غير صالح. وقرأ الباقون بفتح الميم، وضم اللام منوناً، مع ضم راء غير على أنه وصف لعمل، وتقديره عند أكثر العلماء: إنه ذو عمل (¬4). ¬
والعرب يخبرون بالمصدر عن الذات مبالغة كما قالوا: زيد رضي، وزيد عدل. وقال الشاعر: [من الطويل] فَأَنْتَ النَّدى وَابْنُ النَّدى وَأَخُو النَّدى ... وَجَدُّ النَّدى ما لِلنَّدى عَنْكَ مَهْرَبُ (¬1) وقال قتادة: إنه -أي: سؤالك أن أنجي ابنك مع كفره- عمل غير صالح (¬2). والأول أولى. وعليه: ففيه إشارة على أنَّ النسب لا ينتفع به النسيب عند الله تعالى ما لم يكن عمله مقبولاً، بل على العبد الصالح أن يتبرأ ممن لا يجري على طريقته من أهله وأولاده بعد أن يبالغ في نصيحتهم كما فعل إبراهيم عليه السلام حيث بالغ في دعوة أبيه وقومه، ثم لما لم يؤمنوا تبرأ منهم، واعتزلهم. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]. وأنت خبير بأن أقرب أهل الإنسان إليه أصله وفرعه، وقد برَّأ الله ¬
تعالى إبراهيم من أصله، ونوحا من فرعه لمَّا لم يكونا على دينهما وملتهما. وتأمل ما رواه الطَّبراني عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آلُ مُحَمَّدٍ كُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ" (¬1). وروى الإِمام أحمد، والطَّبراني عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ آلَ بَنِي فُلانٍ لَيْسُوْا بِأَوْلِيَائِي، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِحُو الْمُؤْمِنِيْنَ" (¬2). وقد قيل: [من الطويل] عَلَيْكَ بِتَقْوى اللهِ في كُل حالَةٍ ... وَلا تَدَعِ التَّقْوى اتكالاً عَلى النَّسَبِ فَقَدْ رَفَعَ الإِسْلامُ سَلْمانَ فارِسٍ ... وَقَدْ وَضع الْكُفْرُ النَّسِيْبَ أَبا لَهبِ (¬3) ¬
1 - فمنها: النفاق.
وما أحسن قول الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض رحمه الله تعالى: [من الطويل] وخلع عذاري فيكَ فَرْضٌ وَإِن أَبَى ... اقْتِرابِيَ قَوْمِي وَالخلاعةُ سُنَّتِي وَلَيْسُوا بِقَوْمِيَ ما اسْتَعابُوا تَهَتُّكِي ... فَأَبْدَوا قِلًى وَاسْتَحْسَنوا فِيْكَ جَفْوتِي وَأَهْلِيَ في دِيْنِ الْهَوى أَهْلُهُ وَقَدْ ... رَضُوا لِي عاريَ وَاسْتَطابُوا فَضِيْحَتِي وَمَنْ شاءَ فَلْيَغْضَبْ سِواكَ فَلا أَذًى ... إِذا رَضِيَتْ عَنِّي كِرامُ عَشِيْرَتِي واعلم أن قوله تعالى في كنعان بن نوح: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] على القراءتين نص في ذم أعماله، وأنها سبب هلاكه ووباله، فيتعين على كل عاقل أن يتجنبها, ولا يتشبه به فيهَا فيرتكبها. 1 - فمنها: النفاق. وهو إبطان الكفر وإظهار الإيمان، وقريب منه إظهار المودة وإبطان العداوة، وسيأتي الكلام على ذلك. ولم ينفرد كنعان بالنفاق، بل شاركه بعض قومه كما روى عبد بن حميد عن حميد بن هلال رحمه الله تعالى قال: جعل نوح عليه السَّلام لرجل من قومه جُعلاً على أن يعينه على عمل السفينة، فعمل معه حتى إذا فرغ قال له نوح: اختر أي ذلك شئت؛ إما أن أوفيك أجرك، وإما أن ينجيك الله من القوم الظالمين. قال: حتى أستأمر قومي.
2 - ومنها: مخالفة الوالد في الدين والاعتقاد الحق.
فاستأمر قومه فقالوا: اذهب إلى أجرك فخذه، فأتاه فقال: أجري. فوفاه، فما جاوز ذلك الرجل إلى حيث ينظر إليه حتى أمر الله الماء بما أمره، فأقبل ذلك الرجل يخوض الماء، فقال: الذي جعلت لي. قال: لك ما رضيت به. فغرق فيمن غرق (¬1). 2 - ومنها: مخالفة الوالد في الدين والاعتقاد الحق. ومن هنا تعلم أن مخالفة الوالد، وكذلك الأستاذ غير محمودة إذا كان موثوقًا بعقله واستقامته على طلب الحق، والطهارة من سوء الاعتقاد. وقد روى الحاكم في "مناقب الشافعي" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يُشْبِهَ أَبَاهُ" (¬2). والمراد أن يشبهه في الخير، وحسن الخلق، وطلب الحق، فأما يشبهه في أضداده فمن شقاوته، بدليل ذم اتباع الآباء في الضلال في كتاب الله تعالى. أو المراد بالحديث مما يعده الناس سعادة أن يشبه الولد أباه. * تنبِيْهٌ: كانت أم كنعان كافرة، وكانت تقول عن نوح عليه السَّلام: إنه ¬
3 - ومنها: عدم المحافظة على ود الوالد والأستاذ.
مجنون لتوافق قومها، وفي طبع الولد ميل إلى والدته، وإذا تعارضا مال إلى أحدهما، وميل كنعان إلى أمه أرداه. وحكم الولد مع والديه إذا اختلفا في الدين أن يكون مع المسلم منهما، فإذا اتفقا في الدين والاعتقاد قدم أباه في الطاعة وأمه في البر؛ لأن الأم أضعف فناسبها زيادة البر، والأب أتم عقلاً فناسبه التقديم في الطاعة، وكثيراً ما ترى من هذه الأمة من يميل مع أمه على أبيه بغير عقل يرجع إليه، بل لمجرد موافقة هوى الأم، خصوصًا إذا تزوج غيرها، وفي ذلك تشبه بكنعان. 3 - ومنها: عدم المحافظة على ود الوالد والأستاذ. فإن كنعان خرج عن وداد أبيه بقوله: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43]؛ فإنه لو كان ودودًا لأبيه لما رضي مفارقته ولو كان في مهلكة؛ فإن المحب يفدي حبيبه بنفسه، ولا يرضى مفارقته ولو هلك معه، وإلا فقد رضي بمفارقته يومًا من الأيام، وذلك مناقض للمحبة، والعاقل يقطع بأن شفقة الوالد على الولد تقتضي النظر له والاجتهاد في نفعه، وإن عقل الوالد أتم من عقل الولد بحيث إن تقليد الولد له أنفع من تحقيقه هو لنفسه، وإذا كان الولد على خلاف ذلك كان أحمق. وَمِن أعجب الأحاديث التي في هذا المقام ما روى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن رفاعة بن رافع الزُّرقي رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل: يا رسول الله! كيف ترى رقيقنا؟ أقوام مسلمون يصلون صلاتنا
ويصومون صومنا نضربهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُوْزَنُ ذَنْبُهُمْ وَعُقُوْبَتُكُمْ إِيَّاهُمْ؛ فَإِنْ كَانَتْ عُقُوْبَتُكُمْ أكثَرَ مِنْ ذُنُوْبِهِمْ أَخَذُوْا مِنْكُمْ". قالَ: أرأيت سَبَّنا إياهم؟ قال: "يُوْزَنُ ذَنْبُهُمْ وَأَذَاكُمْ إِيَّاهُمْ؛ فَإِنْ كَانَ أَذَاكُمْ أكثَرَ أُعْطُوا مِنْكُمْ". قال الرجل: ما أسمع عدواً أقرب إلى منهم. فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]. فقال الرجل: أرأيت يا رسول الله وَلَدِي أَضْرِبُهُمْ؟ قال: "إِنَّكَ لا تُتَّهَم فِيْ وَلَدِكَ؛ فَلا تَطِيْبُ نَفْسًا تَشْبَعُ وَيَتَجَوَّعُ، وَلا تَكْتَسِيَ وَيعْرى" (¬1). وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الوالد لا يتهم في ولده إلا أن يكون المتهم له أحمق، أو خارجا عن طباع البشرية، أو يكون الوالد مختل العقل بهوى، أو سوء اعتقاد أو غيرهما، فيكون محلاً للتهمة، وما يوقعه الوالد الكامل بولده من عقوبة أو إهانة فإنما يريد تكميله، أو تأديبه، أو تهذيبه، أو صيانته عما يخشاه عليه من سوء العاقبة. ¬
واعلم أن الأصل في القرابة المودة، وكذلك التزاوج، فإذا نفِدت المودة لم تنفع القرابة، فإذا اجتمعت القرابة والمودة كانت قرة عين، وإذا كانت القرابة عداوة كانت سخنة عين. والمودة تجمع بين المتوادين في الدار الآخرة، لكن إذا كانا قريبين كانت الجمعية بينهما أخص. وقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام، وابن المنذر، وأبو الشَّيخ، والبيهقي -واللفظ له- عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قرابة الرحم تقطع، ومنة النعم تكفر، ولم نر مثل تقارب القلوب؛ يقول الله تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]. وذلك موجود في الشعر: [من الطويل] إِذا مَنَّ ذُو الْقُرْبَى عَلَيْكَ بِرَحْمَةٍ ... فَغَشَّكَ وَاسْتَغْنَى فَلَيْسَ بِذِي رَحِمِ وَلَكِنَّ ذا الْقُرْبَى الَّذِي إِنْ دَعَوْتَه ... أَجابَ وَمَنْ يَرْمِي الْعَدُوَّ الَّذِي تَرْمِي (¬1) ¬
4 - ومنها: الاستعداد بالرأي، والإعجاب به، وإيثار رأي النفس على الرأي الصواب، وعلى رأي الوالد والأستاذ والمرشد.
ومن ذلك قول القائل: [من الكامل] وَلَقَدْ صَحِبْتُ النَّاسَ ثُمَ سَبَرْتُهُمْ ... وَبَلَوْتُ ما وَصَلُوا مِنَ الأَسْبابِ فَإِذا الْقَرابَةُ لا تُقَرّبُ قاطِعاً ... وَإِذا الْمَوَدَّةُ أَقْرَبُ الأَحْبابِ (¬1) قال البيهقي: هكذا وجدته موصولًا يقول ابن عباس، ولا أدري قوله: (وذلك موجود في الشعر) من قوله أو من قول من قبله من الرواة (¬2). 4 - ومنها: الاستعداد بالرأي، والإعجاب به، وإيثار رأي النفس على الرأي الصواب، وعلى رأي الوالد والأستاذ والمرشد. وهذا ليس من شأن الصالحين، ومن فعل ذلك لم يؤل أمره إلى نجاح. قال حجة الإِسلام في آداب المتعلم من "الإحياء": ومهما أشار إليه المعلم بطريق في العلم فليقلده وليدع رأي نفسه؛ فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه. ثم قال: وبالجملة: كل متعلم استبقى لنفسه رأيًا واختيارًا وراء ¬
5 - ومنها: إيثار تدبير نفسه على تدبير الله تعالى،
اختيار المعلم فاحكم عليه بالإخفاق والخسران، انتهى (¬1). وفي الحديث: "ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: هَوًى مُتَّبَعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وإعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ". رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث أنس رضي الله تعالى عنه. وعنده نحوه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬2). ويدخل في الإعجاب بالنفس الإعجاب برأيها، وقد نص عليه في حديث آخر. 5 - ومنها: إيثار تدبير نفسه على تدبير الله تعالى، واختيار نفسه على اختيار الله ورسوله عليه السلام حيث يقول له أبوه: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42]، وهو يقول: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43]؛ فانظر كيف اختار كنعان من دون الله تعالى أمراً، فكان عاقبته فيه هلاكًا وخسراً. فقد حكي أنه كان راكباً على فرس قد نظر إلى نفسه وأعجب بها، فلما رأى الماء جاء إلى أبيه وقال: يا أبه! فار التنور، فقال له أبوه: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42]، فما استتم المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة فالتقمته هو وفرسه، وحيل بينه وبين أبيه، فغرق. وقيل: إنه اتخذ لنفسه بيتا من زجاج يتحصن فيه من الماء، فلما فار التنور دخل فيه وأقفله عليه من داخل، فلم يزل يتغوط فيه ويبول ¬
6 - ومنها: الالتجاء إلى غير الله تعالى في الشدة.
حتى غرق بذلك. ذكره القرطبي (¬1). 6 - ومنها: الالتجاء إلى غير الله تعالى في الشدة. ألا ترى إلى قوله: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43]؟ فاعتصم بغير الله ولم ينفعه قول أبيه في الإشارة إليه والتنبيه: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 43]. وإنما قيده نوح عليه السَّلام باليوم -مع أنه لا عاصم في كل وقت من أمر الله إلا بعصمة الله ورحمته - تقريبا لفهمه لضيق الوقت عن البيان والتفهيم؛ فإنه استقر في نفس كنعان ما هو في العادة من الاعتصام بالأسباب والاتقاء بالآلات، ومتى يفهم أن الأسباب والأدوات كلها من خلق الله تعالى وإفاضاته وإنعاماته، وهي مسخرات لمن يشاء بتسخيره، وهو على ما هو عليه من كفره؟ وأين حال كنعان من حال أبيه حيث يقول: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]؟ وحال يونس عليه السَّلام من قوله في ظلمات ثلاث: قعر البحر، وبطن الحوت، وظلمة الليل: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]؟ فانظر كيف سخر الله لنوح السفينة وهي سبب، لكنه مأذون فيه. وكيف سخر الله تعالى ليونس شجرة من يقطين وهي سبب، لكن ¬
تتمة
ممنون به. وانظر كيف لما كانت السفينة وهذه الشجرة من أمر الله تعالى وألطافه كيف ظفر نوح ويونس منهما بعناية الله وإسعافه. ولقد قلت: [من مجزوء الكامل] لا تَرْكَنَنَّ إِلَى نَسبْ ... مِنْ دُوْنِ رَبِّكَ أَوْ نَشَبْ ما دُونَ ذَلِكَ نافِعٌ ... نَسَبٌ يَخُصُّكَ أَوْ حَسَبْ إِنْ يَلْطُفِ اللهُ الْكَرِيْمُ ... يُبَلِّغِ الْعَبْدَ الأَرَبْ وَإِذا أَرادَ اللهُ أَمْراً ... هَيَّاَ اللهُ السَّبَبْ لا يَنْفَعُ التَّدْبِيْرُ مِنْ ... دُوْنِ الإِلَهِ وَلا التَّعَبْ هَلاَّ اسْتَرَحْتَ مِنَ اللُّغوبِ ... وَحُدْتَ عَنْ سَنَنِ النَّصَبْ دَأْبُ الْفَتَى في رَوْمِ ما ... لَمْ يُقْضَ مِنْ سُوْءِ الأَدَبْ * تَتِمَّةٌ: أخرج ابن أبي الدنيا في "العقوبات" عن الأعمش رحمه الله تعالى أنه قال: انظروا إلى أبناء الأنبياء عليهم السلام إلى ما صيرتهم المعاصي -وأراد مثل قابيل بن آدم، وكنعان بن نوح، وبني إسرائيل - وما أدت بهم المعاصي إلى الذلة، والمسكنة، والبواء بالغضب. وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن عطاء بن السائب، عن وهب ابن منبه رحمه الله تعالى قال: أعطى الله عز وجل موسى نوراً فقال: يكون
في الأرض بغير نار، فقال موسى لأخيه هارون عليهما السَّلام: إن الله -جل ثناؤه- وهب لي نوراً، وإني أهبها -أي: هذه الهبة والعطية- لك. قال: فقال هارون لابنيه: إن الله عز وجل وهب لعمِّكما نوراً، وإنه وهبها لي، وإني أهبها لكما. وكان الغلامان يقربان القربان لبني إسرائيل، ويسرجان في بيت المقدس، فأبطأت نار السماء، فاستضاءا بنار الأرض، فجاءت النار من السماء فأحرقت الغلامين. قال: فسمعت مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: لما احترق الغلامان ابنا هارون شَعَّثَ موسى وهارون عليهما السَّلام رؤوسهما، وأقاما حزينين بين يدي الله تعالى، وبكيا على الغلامين صَبابة إليهما، فأوحى الله عز وجل إليهما: هكذا أفعل بمن عصاني من أهل طاعتي، فكيف بمن عصاني من أهل معصيتي؟ (¬1) وروى ابنه في "زوائده" عن سالم بن أبي الجعد: أن ابْنَيْ هارون أمرا أن يُسْرِجا من زيت بيت المقدس فأسرجا من غيره، فثارت النار فأخذتهما، فجاء هارون يطفئ عنهما النار فلا تطفأ، فقال موسى: خل بين ربك عز وجل وبين ما أرادة فإنها مأمورة، فأوحى الله إلى موسى: هذا فعلي بمن خالفني من أوليائي، فكيف بمن خالفني من أعدائي؟ ¬
ومن هنا ينبغي للعلماء وأشراف الناس أن يتنبهوا لتأديب أولادهم ومن يليهم، ونهيهم عما يقع منهم من المخالفات؛ فإنهم أحق بذلك من غيرهم، وعتابهم في تركهم والإعراض عنهم أبلغ من عتاب غيرهم. وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى، عن لقمان قال: ضرب الوالد لولده كالسَّماد للزرع (¬1). وعن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى: أن سليمان بن داود قال لابنه عليهم السَّلام: يا بني! إن أحببت أن تغيظ عدوك فلا ترفع العصا عن ابنك (¬2). وفي "زوائد ابنه": فلا تبعد عن ابنك العصا. وفي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: "عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُ الْبَيْتِ". رواه أبو نعيم (¬3). وهو عند عبد الرزاق، والطبراني في "الكبير" من رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وزاد: "فَإِنَّهُ أَدَبٌ لَهُمْ" (¬4). ¬
وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى: أن رجلًا كان على مجامر بيت المقدس، فكان له ابنان، فبلغا، فجعلا يعبثان بالنساء. قال: فأوحى الله عز وجل إلى نبيِّهم عليه السَّلام أن فلانًا اطلع على ابنيه يعبثان بالنساء فلم ينكر عليهمَا، فبعزتي حلفت لأميتنهم ثلاثة في يوم واحد، ولأسلطن على أهله من بعده الفقر (¬1). وعن مالك بن دينار قال: كان حبر من أحبار بني إسرائيل يغشى منزله الرجال والنساء؛ يعظهم فيذكرهم بأيام الله، قال: فرأى بعض بنيه يومًا غمز النساء، فقال: مهلًا يا بني، مهلًا يا بني، فسقط من سريره، وانقطع نخاعه، وأسقطت امرأته، وقتل بنوه في الجيش، فأوحى الله إلى نبيهم أن أخبر فلانًا الحبر أني لا أُخرج مِنْ صُلبك صديقًا أبدًا ما كان غضبك لي إلا أن قلت: مهلاً يا بني، مهلاً يا بني (¬2). وعنه قال: مكتوب في التوراة: من كان له جار يعمل بالمعاصي فلم ينهه فهو شريكه (¬3)؛ والله الموفق. • • • ¬
(4) باب النهي عن التشبه بعاد
(4) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِعَادٍ
(4) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِعَادٍ وهم أول من تأنق في البنيان، ورفعه وأحكمه أملًا منهم. قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: 21]. وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65]. وهم أولاد عاد بن عوص بن آدم بن سام بن نوح، وهي عاد الأولى. قال تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} [النجم: 50]. قال في "الكشاف": عاد الأولى: قوم هود، وعاد الأخرى: إرم. وقيل: الأولى: القدماء؛ لأنهم أول الأمم هلاكاً بعد قوم نوح. وقيل: المقدمون في الدنيا الأشراف، انتهى (¬1). وروى ابن المنذر عن ابن جريج رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ¬
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} [النجم: 50]؛ قال: كانت الأخرى بحضرموت (¬1). وقال مجاهد رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 6، 7]؛ قال: القديمة (¬2). وقال السدي رحمه الله تعالى: عاد من إرم، نسبهم إلى جدهم الأكبر (¬3). وقال قتادة: كنا نتحدث أن إرم قبيلة من عاد، وكان يقال لها: ذات العماد، كانوا أهل عمود التي لم يخلق مثلها في البلاد (¬4). قال: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعا طولاً في السماء. رواها ابن المنذر، وغيره (¬5). قال في "القاموس": إرم كعنب؛ وسحاب، والد عاد الأولى أو الأخيرة، أو اسم بلدهم، أو أمهم، أو قبيلتهم، وإرم ذات العماد: دمشق، أو: الإسكندرية، أو: موضع بفارس، انتهى (¬6). وقال صاحب "الكشاف": وقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن ¬
سام بن نوح: عاد كما يقال لبني هاشم: هاشم، ثم قيل للأولين منهم: عاد الأولى، وإرم تسمية لهم باسم جدهم، ولمن بعدهم عاد الآخرة. قال ابن الرّقّيات: [من المنسرح] مَجْدًا تَلِيْدًا بَناهُ أَوَّلُهُ ... أَدْرَكَ عادًا وَقَبْلَها إِرَما ثم قال: وروي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد، فملكا وقهرا، ثم مات شديد، وخَلُص الأمر لشداد، فملك الدنيا ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها، فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمئة سنة، وكان عمره سبعمئة سنة، وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة، ولما تم أمرها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة أرسل الله تعالى عليهم صيحة من السماء فهلكوا. قال: وعن عبد الله بن قلابة رضي الله تعالى عنه: أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه مما تم، وبلغ خبره معاوية رضي الله تعالى عنه فاستحضره، فقص عليه، فأرسل إلى كعب رحمه الله تعالى فسأله, فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة،
فقال: هذا والله ذلك الرجل، انتهى (¬1). وكان هود عليه السلام أخا عاد في النسب، وهو هود بن عبد الله ابن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص. وقال ابن إسحاق: هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح (¬2). وروى ابن إسحاق، وإسحاق بن بشر، وابن عساكر عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما: أن عاداً كانوا أصحاب أوثان يعبدونها على مثال ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، واتخذوا صنماً يقال له: صمود، وصنما يقال له: الهتار، فبعث الله إليهم هودًا عليه السَّلام، فكان هود من قبيلة يقال لها: الخلود، وكان من أوسطهم نسبًا، وأصبحهم وجهًا، أبيض جيداً، بادي العنق، طويل اللحية، فدعاهم إلى الله تعالى، وأمرهم أن يوحدوه، وأن يكفوا عن ظلم الناس، ولم يأمرهم بغير ذلك، ولم يَدْعُهم إلى شريعة ولا صلاة، فأبوا ذلك وكذبوه، وقالوا: من أشد منا قوة؟ وذلك قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65] إلى قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ}؛ يعني: سكاناً في الأرض {مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}، فكيف لا تعتبرون فتؤمنون وقد علمتم ما نزل بقوم نوح من النقمة حين عصوا، {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً}؛ أي: طولًا وقوة، {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ}؛ يعني: هذه النعم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69]؛ أي: ¬
كي تفلحوا. وكانت منازلهم الأحقاف. والأحقاف: الرمل من عمان إلى حضرموت اليمن. وكانوا قد أفسدوا في الأرض، وقهروا أهلهَا بفضل قوتهم التي آتاهم الله، وكان من قوتهم كثرتهم وانتشارهم في الأرض، وسعة أجسامهم، وشدة بطشهم (¬1). روى ابن أبي حاتم عن الرَّبيع بن خُثيم رضي الله تعالى عنه قال: كانت عاد ما بين اليمن إلى الشَّام مثل الذَّرِّ -أي: في الكثرة- مع كبر الأجسام وطولها (¬2). قيل: كان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعاً. وقيل: سبعين ذراعاً. وقيل: الطويل مئة ذراع، والقصير ستون. وعن ابن عباس: ثمانون ذراعًا (¬3). وقد يجمع بين هذه الأقوال بأن عاداً كانوا أولهم مئة ذراع، ثم تناقص طول ذراريهم حتى صاروا إلى اثني عشر. ¬
أو هذا طول عاد الآخرة، وما فوقه طول عاد الأولى. وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من حجارة، ولو اجتمع عليه خمسمئة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها. رواه عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد"، وابن أبي حاتم (¬1). وقال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: كان الرجل ممن كان قبلكم بين منكبيه ميل. رواه ابن مردويه (¬2). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان الرجل من عاد في خلقه ثمانين باعاً، وكانت البرة فيهم ككلية البقرة، والرمانة الواحدة يقعد في قشرها عشرة نفر؛ أي: منكم. رواه الحكيم الترمذي في "نوادره" (¬3). وقال زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى: كان في الزمن الأول يمضي أربعمئة سنة ولم يسمع فيها جنازة. وقال ثور بن يزيد: جئت اليمن فإذا أنا برجل لم أر أطول منه قط، فعجبت؛ قالوا: تعجب من هذا؟ ¬
قلت: والله ما رأيت أطول من ذا قط. قالوا: والله لقد وجدنا ساقًا أو ذراعاً، فذرعناها بذراع هذا، فوجدناها ستة عشرة ذراعاً. وقال أيضًا: قرأت كتاباً: أنا شداد بن عاد، أنا الذي رفعت العماد، أنا الذي سددت بدراً عن بطن واد، أنا الذي كنزت كنزاً في البحر على تسع أذرع لا يخرجه إلا أمة محمَّد. رواهما الزبير بن بكار في "الموفقيات" (¬1). وقال هريم (¬2) بن حمزة رحمه الله تعالى: سأل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يريه رجلًا من عاد، فكشف الله له عن الغطاء، فإذا رأسه بالمدينة ورجلاه بذي الحليفة أربعة أميال طوله. رواه أبو الشيخ في "العظمة" (¬3). وذكر المفسرون أن الله تعالى بعث إليهم هوداً عليه السَّلام، فأمرهم بالتوحيد والاستغفار، والكف عن ظلم الناس، فأبوا عليه وكذبوه، وقالوا: من أشد منا قوة؟ وبنوا المصانع وأبراج الحمام، وبطشوا بطشة الجبارين، فأمسك الله المطر عنهم ثلاث سنوات، فبعثوا منهم جماعة إلى البيت الحرام يستمطرون لهم (¬4)، فرجعوا وقد ¬
بعث الله تعالى عليهم سحابا أسود وريحا فيها كشهب النار، فلما رأوه قالوا: هذا عارض ممطرنا، فقال الله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] الآية. وروى عبد بن حميد، وعبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد"، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن رحمه الله تعالى قال: لما جاءت الريح إلى قوم عاد قاموا، فأخذ بعضهم بيد بعض، وأخذوا يشتدون، وركزوا أقدامهم في الأرض، وقالوا لهود: من يزيل أقدامنَا من أماكنها إن كنت صادقاً؟ فأرسل الله عليهم الريح تنزع أقدامهم من الأرض كأنهم أعجاز نخل منقعر، وقال الله تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 6، 7] (¬1). ¬
وهي الأيام النحسات، وأيام الأعجاز، وأيام العجوز لأنها جاءت في عجز الشتاء، أو لأن عجوزاً من عاد اختبأت من الريح في سرب لها، فاقتلعتها الريح ودقَّت عنقها (¬1). روى ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7]، قال: كان أولها الجمعة (¬2)؛ أي: وآخرها ليلة الجمعة الثانية. فإن قلت: كيف يجمع بين هذا وبين ما ذكر في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19] أنه يوم الأربعاء؟ قلت: قد يجمع بينهما بأن الريح نشأت يوم الجمعة، ثم استمرت تعذبهم وتثرثرهم حتى هلكوا في يوم الأربعاء، ثم تكامل هلاكهم إلى صبيحة الجمعة الثانية. وجاء أن تلك الأربعاء كانت آخر أربعاء في الشهر؛ فقد روى وكيع في "الغرر"، والخطيب في "تاريخه" بسند ضعيف، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آخِرُ أَرْبِعَاءٍ في الشَّهْرِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ" (¬3). وكثيرًا ما يحتج به كثير من الحمقى في التطير بآخر أربعاء من الشهر حتى لا يتحركون فيه بحركة، ومنهم من لا يخرج فيه من بيته، ¬
ويرده الحديث الصحيح: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ" (¬1)، والحديث الصحيح: "لا طيَرَةَ" (¬2). والتحقيق أنه يوم نحس مستمر على أعداء الله تعالى، والمصرين على معاصيه دون أولياء الله تعالى وأهل تقواه؛ فإنه يوم سعد مستمر عليهم بدليل أن الله تعالى كما أهلك فيه قوم هود أنجاه هو والذين آمنوا معه فيه، فظفروا فيه بهلاك عدوهم، ونجاتهم في أنفسهم. ومنهم من يتطير بيوم الأربعاء مطلقا، وكأنه يحتج بحديث جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَوْمُ الأَرْبِعَاءِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ". رواه ابن المنذر (¬3). وهذا الحديث إن صح فإنما هو في حق من ذكر من أهل المعاصي، أو في حق من تطير. واللائق بالمؤمن أن لا يتطير من شيء أصلاً، بل إذا تطير يمضي ويعلم أن الطيرة على من تطير (¬4). ¬
وروى ابن مردويه عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنه سئل عن يوم الأربعاء فقال: يوم نحس مستمر. قالوا: كيف ذاك يا رسول الله؟ قال: "غَرِقَ فِيْهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَأَهْلَكَ عادًا وَثَمُوداً" (¬1). وإذا كان كذلك فينبغي أن يتيمَّن به أهل الإيمان ولا يتشاءموا، بل إن جاز التشاؤم والتطير بالأربعاء بهلاك عاد فيه فليجز التطير بسائر أيام الجمعة لما علمت بنص القرآن العظيم أنهم هلكوا في مجموع الأسبوع سبع ليال وثمانية أيام حسوم. ¬
ومعنى الحسوم: المتابعة كما صح تفسيرها عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما (¬1). وكذلك الآيات التي ترادفت على فرعون وقومه من الطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع إلى آخرها كانت تستمر عليهم أسبوعاً أسبوعاً. فإذا بطل التطير بأيام الأسبوع لما ذكر، فليبطل التطير بيوم الأربعاء. وروى ابن المنذر عن ابن جريج رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7]؛ قال: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله، فلما أمسوا اليوم الثامن ماتوا، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر، فذلك قوله: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8]، وقوله: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] (¬2). ويؤخذ من هذا مع ما مر عن الربيع بن أنس: أن العذاب بدأهم يوم الجمعة، وأهلكهم واستأصلهم يوم الجمعة الثانية، ولذلك كان يومًا مباركاً, ولقد بقيت آثار عذابهم ظاهرة في نظير هذه الأيام من كل عام، فنرى فيها من شدة البرد ويبس الريح كل سنة ما هو عبرة لذوي ¬
الاعتبار، وتبصرة لأولي الاستبصار مع سلامة هذه الأمة من سوئها. وكانت الريح التي أرسلت عليهم الدبور، وهي الغربية التي تضرب في دبر الكعبة، ومن عادتها أن تكون رحمة فانقلبت عليهم عذاباً مسخرة لهود كما سخرت القبول، ويقال لها: الصبا، وهي التي تضرب في قبل الكعبة لمحمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فكانت دافعة للأحزاب عنه ليلة الأحزاب، ولم تستمر، ولم تهلكهم لأنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وبقوا حتى خرج من أصلابهم أهل التوحيد. روى الإِمام أحمد، والشيخان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ" (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرِّيْحُ مَسْجُوْنةٌ فِيْ الأَرْضِ الثَّانِيَةِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُهْلِكَ عَادًا أَمَرَ خَازِنَ الرِّيْحِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ ريحًا تُهْلِكُ عَادًا، قَالَ: يَا رَبِّ! أَرْسِلْ مِنَ الرِّيْحِ قَدْرَ مِنْخرِ الثَّوْرِ، قَالَ لَهُ الْجَبَّارُ عز وجل؛ تِلْكَ إِذًا تَكْفِي الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ أَرْسِلُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ الْخَاتَمِ" (¬2). ¬
وروى ابن جرير عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: لم ينزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي ملك إلا يوم نوح؛ فإنه أذن للماء دون الخزان، فطغى الماء على الخزان فخرج، فذلك قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]، أي: غلب. ولم ينزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك إلا يوم عاد؛ فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت، فذلك قوله تعالى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6]؛ عتت على الخزان (¬1). وروي نحوه عن ابن عباس مرفوعًا (¬2). وروى أبو الشيخ في "العظمة" عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ". وهذه القطعة في "الصحيحين" كما سبق. زاد قال: ما أمر الخزان أن يرسلوا على عاد إلا مثل موضع الخاتم من الريح، فعتت على الخزان، فخرجت من نواحي الأبواب، فذلك قول الله تعالى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6]؛ قال: عتوها: عتت على الخزان، فبدأت بأهل البادية منهم فحملتهم بمواشيهم وبيوتهم، فأقبلت بهم إلى الحاضرة، قالوا: هذا عارض ممطرنا، فلما ¬
1 - فمنها: الكفر، وعبادة الأوثان، وتقليد الآباء في ذلك.
دنت الريح أظلتهم، فألقت البادية على أهل الحاضرة فقطعتهم، فأهلكوا جميعًا (¬1). واعلم أنه قد كان من عاد قبائح يتعين اجتناب التشبه بهم فيها. 1 - فمنها: الكفر، وعبادة الأوثان، وتقليد الآباء في ذلك. وقد تقدم نظائر ذلك في قوم نوح. 2 - ومنها: الابتداع في الدين أعم من أن يكون كفراً أو دونه. وقد علمت أن عاداً اتخذوا أصناماً زائدة على ود وأخواته، وقد أشار إلى ذلك مرثد بن سعد منهم، وكان ممن بعثهم عاد إلى مكة ليستسقوا لهم، ولكنه قال لهم: والله لا يستجاب دعاؤكم وتسقون إلا إن أطعتم هوداً -وكان ممن يكتم إيمانه - فقال: [من الوافر] عَصَتْ عادٌ رَسُوْلَهُم فَأَمْسَوا ... عِطاشاً ما تَبُلُّهُمُ السَّماءُ يُبَصِّرُنا الرَّسُوْلُ سبيلَ رُشْدٍ ... فَأَبْصَرْنا الْهُدى وَجَلا الْعَماءُ لَهُمْ صَنَمٌ يُقالُ لَهُ صَمُوْدٌ ... يُقابِلُهُ صَداةُ وَالْهباءُ وإنَّ إِلَهَ هُوْدٍ هُوْ إِلَهِي ... عَلَى اللهِ التَّوَكُّلُ وَالرَّجاءُ (¬2) وقال الله تعالى حكايته عن قوم هود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ ¬
3 - ومنها: الكذب، والتكذيب لأهل الصدق.
{مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 70 - 72]. وهذه الآية قد بينت أن سبب الرجس والغضب الشركُ، والمجادلة بالباطل، والابتداع في الدين، والإعراض عن الحق، وترك الاتباع، وآخر من هذا حاله قطع دابره، وإخلاء الأرض منه، ويقاء أخباره عبرة لمن بعده؛ وبالله التوفيق، ونعوذ بالله من الخذلان. 3 - ومنها: الكذب، والتكذيب لأهل الصدق. بل هو حال سائر الأمم إلا من آمن منهم. قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 12 - 14]. وقال: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 18 - 21] وإنما كرر هذه الجملة للتهويل. وقيل: الأول لما حاق بهم في الدنيا، والثاني لما يحيق بهم في الآخرة، كما قال في قصتهم أيضًا: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
4 - ومنها: العناد، والتصميم على الباطل بعد ظهور الحق.
وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} [فصلت: 16]. وقال تعالى حكايته عن هود عليه السَّلام: {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} إلى أن قال: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 50 - 53]. واعلم أن قبح الكذب مما علم بالضرورة في سائر الأديان إلا في الحرب ونحوه. وروى الترمذي، وأبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا كَذَبَ الْعَبْدُ كِذْبَةً تَبَاعَدَ عَنْهُ الْمَلَكُ مِيْلاً مِنْ نتَنِ مَا جَاءَ بِهِ" (¬1). 4 - ومنها: العناد، والتصميم على الباطل بعد ظهور الحق. ألا ترى إلى قولهم: {يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود: 53] بعد ما بين لهم أنه لا يريد إلا نصيحتهم بسبب أنه لا يسألهم الأجر؟ ¬
5 - ومنها: الأصرار على المعصية، وترك التوبة والاستغفار.
وهذا مما ينفي التهمة عن النذير الناصح؛ فإنه من حاول الأجر ممن أنذره فإنما يحاول مصلحة نفسه لا مصلحة المنذر. ومن هنا حذر العلماء من طلب الدُّنيا بالعلم والدين حتى قال بعض الحكماء من أهل العلم: طلب الدنيا بالدف والمزمار أخف إثماً من طلبها بالدين والعلم. وقد أجمع الأنبياء على بذل العلم وتعليم الدين بلا عوض من المبذول له؛ فليكن ورثتهم على طريقتهم. 5 - ومنها: الأصرار على المعصية، وترك التوبة والاستغفار. وقال هود عليه السَّلام: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 52، 53]. وأي إصرار بعد هذا الإصرار؟ روى ابن عساكر عن الضَّحَّاك رحمه الله تعالى قال: أمسك الله عن عاد القطر ثلاث سنين، فقال لهم هود: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52]، فابوا إلا تماديا (¬1). وقد دلت الآية على أن الإصرار يمنع الرزق كما أن الاستغفار يمنع العقوبة ويجلب المنافع؛ فإن الاستغفار يحل عقدة الإصرار. ¬
وقد سبق مثل ذلك في قوم نوح حيث قال لهم عليه السَّلام: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12]. وقال الثعلبي رحمه الله تعالى: خرج عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يستسقي، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فقيل له: ما رأيناك استسقيت؟ قال: طلبت المطر بمجاديح السَّماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52]. و{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] (¬1). والمجاديح -بتقديم الجيم -؛ قال في "النهاية": جمع مجدح مع زيادة الياء (¬2). والمجدح؛ كمنبر؛ قال في "القاموس": الدبران، أو نجم صغير تحته، والثريا. قال: ومجاديح السماء: أنواؤها (¬3). ¬
قيل: وهي ثلاثة كواكب كالأثافي، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر (¬1). وقول عمر رضي الله تعالى عنه: (لقد استقيت بمجاديح السماء) شبه الاستسقاء بالاستمطار بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفون لا قولاً بالأنواء، كأنه يشير إلى أن الاستسقاء بالاستغفار أولى من الاستمطار بالأنواء؛ فإن الاستغفار أحق ما تطلب به الحوائج، وترفع به النوائب. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَزِمَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيْقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبْ". رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الحاكم، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). وتأمل قول الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن يونس عليه السلام كان وعد قومه العذاب، وأخبره أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجاؤوا ¬
إلى الله عز وجل واستغفروه، فكف عنهم العذاب (¬1). وروى هو والمفسرون عن أبي الجلد رحمه الله تعالى قال: لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا: ما ترى؟ قال: قولوا: يا حي حين لا حي، ويا حي محيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت، فكشف عنهم العذاب (¬2). وروى هو وغيره عن أبي الجلد أيضاً: أن داود النبي عليه السلام أمر منادياً، فنادى بالصَّلاة جامعة، فخرج النَّاس وهم يرون أنه يكون منه يومئذ موعظة وتأديب، ودعا، فلما رأوا مكانه قال: اللهم اغفر لنا، وانصرف. فاستقبل آخر الناس أوائلهم قالوا: ما لكم؟ قالوا: إن النبي إنما دعا بدعوة واحدة، ثم انصرف. قالوا: سبحان الله! كنا نرجو أن يكون هذا اليوم يوم عبادة ودعاء، وموعظة وتأديب، فما دعا إلا بدعوة واحدة! قال: فأوحى الله إليه أن أبلغ عني قومك؛ فإنهم قد استقلوا دعاءك: إني من أغفر له أصلح له أمر آخرته ودنياه (¬3). ¬
6 - ومن أعمال عاد، وأخلاقهم: عصيان أولياء الأمور في طاعة الله تعالى، وبغض العلماء وأولياء الله تعالى، والرغبة عنهم، والاستنكاف عن مجالستهم ومعاشرتهم، والرغبة في عشرة الأشرار والمترفين، واتباعهم والانهماك معهم فيما هم فيه.
وعن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: قال المسيح عليه السلام: أكثروا ذكر الله، وحمده وتقديسه، وأطيعوه، وإنما يكفي أحدكم من الدعاء إذا كان الله عز وجل راضياً عنه أن يقول: اللهم اغفر لي خطيئتي، وأصلح لي معيشتي، وعافني من المكاره يا إلهي (¬1). 6 - ومن أعمال عاد، وأخلاقهم: عصيان أولياء الأمور في طاعة الله تعالى، وبغض العلماء وأولياء الله تعالى، والرغبة عنهم، والاستنكاف عن مجالستهم ومعاشرتهم، والرغبة في عشرة الأشرار والمترفين، واتباعهم والانهماك معهم فيما هم فيه. قال الله تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 59 - 60]. ومن لطائف الأستاذ حمدون القصار رحمه الله تعالى ما نقله عنه أبو عبد الرَّحمن السلمي في "حقائقه" أنه قال: من رغب في صحبة الأشرار حرم صحبة الأخيار. 7 - ومنها: أذية أنبياء الله وأوليائه، وانتقاصهم، ورميهم بالسُّوء، واعتقاد أن الجمادات تضر وتنفع، بل لا يضر وينفع حقيقة إلا الله تعالى، ومن نفع غيره فبتسخيره، ومن ضرَّ غيره فبتسليطه. ألا ترى إلى قولهم يخاطبون هوداً عليه السَّلام: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]؟ ¬
وهذا منهم غاية في السخف والحماقة، ولذلك خف أمرهم، واضمحل حالهم عند هود عليه السَّلام حتى أجابهم بما حكاه الله تعالى عنه: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 - 56]. أي: فإذا كانت الدَّواب مأخوذاً بنواصيها، فلا يكون منها حركة ولا أمر إلا بإرادة الله الآخذ بنواصيها، فكيف تزعمون إضراري بآلهتكم الجمادات؟ فأنتم ولو اجتمعتم على كيدي لا تستطيعون كيدي، وإنما قال لهم: واشهدوا مع أن من هذا مؤدَّى عقله لا يصلح للإشهاد، ولا يصح إشهاده على وجه التهكم، فهو أمر احتقار وتهكم واستهزاء بهم. ومن هنا يظهر لك أن من اعتقد أن شيخه أو معتقده ينتقم، أو يعطب من يعاديه، وهو مصر على المعصية والظلم، فهو أشبه الناس بقوم هود في سخافة العقل. نعَم، لا ينكر أن يكرم الله تعالى بعض أوليائه باستجابة دعوته في بعض أعدائه وإن لم يدع، ولا أن الله تعالى ينفع من يوالي ولياً لله تعالى به. وكذلك من يزعم أن شيخه يقتل محقون الدم بحاله، أو يضر مسلماً بعطبته إلا أن يغار لله تعالى إذا شاهد معصية فيكون غضبه لله
فائدة لطيفة
تعالى لا لمريده، ولا لمعتقده تنفيذاً لهواه؛ فإن أولياء الله منزهون عن الهوى، فإذا تنفس بدعاء أو فعل فإنه نتيجة غضبه لله تعالى، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله، فلا يقوم لغضبه شيء كما في الحديث (¬1). * فائِدَةٌ لَطِيْفَةٌ: روى ابن أبي حاتم عن يحيى بن سعيد رضي الله تعالى عنه قال: ما من أحد يخاف لصاً عادياً، أو سَبُعاً ضارياً، أو شيطاناً مارداً فيتلو هذه الآية: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] إلا صرفه عنه (¬2). قلت: وكذلك لو قصده عدو ولو جماعة، ولو أصحاب قوة وجاه. ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، ولكن هذا مورد الآية؛ ألا ترى أن هذا قاله هود عليه السلام لأشد الأمم قوة وبطشاً، وحمية وجاشاً. وقد ذكر بعض أهل الكشف أن هذه الآية تمنع وتدفع شر كل ذي شر توجه الصادق بتلاوتها إليه، وقرأها في مقابلته، والعارف يكفيه من ذلك التصديق بالآية بقلبه. وكذلك يتحظر بحظار عظيم من كل شر وسوء بكلمة الشهادة كما ¬
8 - ومنها: الإعجاب بالشباب والقوة، والفخر والخيلاء، والتطاول على الناس.
في الحديث القدسي: "لا إله إلا الله حصني" (¬1) فهي أمنه وهجِّيراه؛ فافهم! 8 - ومنها: الإعجاب بالشباب والقوة، والفخر والخيلاء، والتطاول على الناس. قال الله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]. وقال تعالى حكاية عن هود عليه السَّلام: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128 - 129]. أي: قصوراً مشيَّدة تفتخرون بها، كما ذكره القاضي البيضاوي رحمه الله تعالى (¬2). وروى الإمام عبد الله بن المبارك، والطبراني في "الكبير"، والأصفهاني في "الترغيب"، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَظْهَرُ هَذَا الدِّيْنُ حَتَّى يُجَاوِزَ الْبِحَارَ، وَحَتَّى يُخَاضَ الْبَحْرُ بِالْخَيْلِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، ثُمَّ يَأْتِيْ قَوْمٌ يَقْرَؤُوْنَ الْقُرْآنَ يَقُوْلُوْنَ: قَدْ قَرَأنا القُرْآنَ، فَمَنْ أَقْرَأُ مِنَّا؟ وَمَنْ أَفْقَهُ مِنَّا؟ وَمَنْ أَعْلَمُ مِنَّا؟ هَلْ فِيْ أَوْلَئِكَ مِنْ خَيْرٍ؟ " قالوا: لا. ¬
9 - ومنها: ظلم الناس، والبغي عليهم، وتمكيس أموالهم،
قَالَ: "فَأوْلَئِكَ مِنْ هَذهِ الأُمَّةِ، وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُوْدُ النَّارِ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" نحوه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬2). وروى أبو نعيم عن أبي تراب النخشبي رحمه الله تعالى قال: قال حاتم الأصم رحمه الله تعالى: لا أدري أيهما أشد على الناس؛ اتقاء العجب، أو الرياء؟ العجب داخل فيك، والرياء داخل عليك، العجب أشد عليك من الرياء، ومثلهما أن يكون معك في البيت كلب عقور، وكلب آخر خارج البيت، فأيهما أشد عليك؛ الداخل أم الخارج، أما الداخل فهو العجب، وأما الخارج فهو الرياء (¬3). 9 - ومنها: ظلم الناس، والبغي عليهم، وتمكيس أموالهم، وضربهم بغير حق، والفتك بهم، والتكبر والتجبر، والاغترار بالصحَّة، والقوة والجَلَد، والتطاول في البنيان، والتانق فيه وفي إحكامه فوق الحاجة، والتمرد، وإطالة الأمل، واللعب بالحَمَام الطَّيَّارة، والعبث بالناس، واللهو واللعب، والاسترسال فيها، وكفران النعم. قال الله تعالى حكاية عن هود عليه السلام مخاطباً لقومه: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا ¬
بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 128 - 130]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {بِكُلِّ رِيعٍ}؛ قال: طريق. وفي رواية: شرف. {آيَةً}؛ قال: علماً. {تَعْبَثُونَ}؛ قال: تلعبون (¬1). وقال في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}: كأنكم تخلدون (¬2). رواهما ابن جرير وغيره. وقال مجاهد رحمه الله تعالى في قوله: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ}؛ قال: بكل فج بين جبلين. {آيَةً}؛ قال: بنياناً. {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ}؛ قال: بروج الحمام. رواه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة. وكذلك أخرجه الفريابي وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر (¬3). ¬
وروى هؤلاء أيضا عنه في قوله: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ}؛ قال: قصوراً مشيدة، وبنيانا مخلداً؛ أي: مقصوداً للخلود (¬1). وقال قتادة رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ}؛ قال: مآخذ للماء (¬2). قال: وكان في بعض القراءة: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (¬3). وقال مجاهد رحمه الله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}؛ قال: بالسوط والسيف. رواهما عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬4). قال في "الكشاف": وقيل: الجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب. وعن الحسن: تبادرون تعجيل العذاب، لا تتثبتون متفكرين في العواقب (¬5). ثم قال لهم هود عليه السَّلام بعد تعريفهم بما صدر منهم وإنه مما ¬
يخشى عواقبه مذكراً لهم بالنعم محذراً من النقم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 131 - 138]. بالغ هود في تنبيههم على نعم الله تعالى بحيث أجملها، ثم فصلها مستشهداً بعلمهم ليوقظهم عن سنة غفلتهم، فلم يزدادوا إلا عَمَى وغفلة وإنكاراً للبعث والعقوبة، وكان ذلك سبب هلاكهم كما قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء: 139]. وقيل: إنهم كانوا يعبثون بمن يمر عليهم، وكان لهم مناطر على الطرقات يقعدون بها، ويسخرون بمن يمر بهم. وقال الكلبي: هو عبث العشَّارين بأموال من يمر بهم؛ وكانوا يمكسون. رواه الثعلبي، وغيره (¬1). وجميع هذه الأخلاق محرمة إلا ما كان من اللعب واللهو الذي ليس فيه أذى الغير؛ فإنه مكروه، وكذلك اللعب بالحمام. وروى ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" عن إبراهيم النَّخعي رحمه الله تعالى أنه قال: من لعب بالحمام الطيارة لم يمت حتى يذوق ألم الفقر (¬2). ¬
وكذلك البناء مباح في الأصل كاتخاذ القصور، والحصون، والمصاح، وإنما كان بناؤهم مذموماً لمعنى خارج عن كونه بناء؛ فإن مطلق البناء مباح، اللهم إلا أن يقال: إن بناء ما فوق الحاجة كان محرماً في شرعهم، وهو في شرعنا مكروه، وإذا انتهى إلى حد السرف وإضاعة المال كان محرماً، وكذلك إذا بني من مال حرام، وفي أرض مغصوبة، أو غُصب فيه البناؤون. ولعلهم إنما ذموا البناء لأنه كان من مال المُكْس والظلم، أو لأنه كان منهم طلباً للخلود وأملاً للبقاء كما يدل عليه قوله: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129]؛ أي: راجين للخلود؛ وهذا أقرب الاحتمالات. وفي حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، رفعه: "مَنْ بَنَى فَوْقَ مَا يَكْفِيْهِ كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَحْمِلَهُ" رواه الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم (¬1). وقال أنس رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَنَى بِنَاءً أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَانَ وَبَالاً عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬2). وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُل بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَىْ صَاحِبِهِ يَوْمَ ¬
الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَسْجِدًا" (¬1). رواهما البيهقي في "الشعب". بل روى أبو داود، وغيره عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يوماً ونحن معه فرأى قبة مشرقة، فقال: "مَا هَذه؟ ". فقال أصحابه: هذه لفلان؛ رجل من الأنصار. فسكت وحملها في نفسه، حتى إذا جاء صاحبها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سلم عليه في الناس، فأعرض عنه -صنع ذلك مراراً - حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى الصحابة، فقال: والله إني لأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: خرج فرأى قبتك. فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سوَّاها بالأرض. فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرها، فقال: "مَا فَعَلَتِ الْقُبَّةُ؟ " قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه، فأخبرناه فهدمها. فقال: "أَمَا إِنَّ كُلَّ بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَىْ صَاحِبِهِ إِلاَّ مَا لاَ، إلا ما لا" (¬2). أي: إلا ما لا بُدَّ لِلإنسَانِ مِنْهُ مِمَّا يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَيمْنَعُهُ مِنَ السُّرَّاقِ وَالسِّبَاعِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وروى الطبراني في "الكبير" بسند حسن، عن خباب بن الأرت ¬
رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُلُّ نَفَقَةٍ يُنْفِقُهَا الْعَبْدُ يُؤْجَرُ فِيْهَا إِلاَّ الْبُنْيَانُ" (¬1). واستثناء البنيان من النفقة دليل على إباحته في الأصل؛ لأن الإنفاق إنما يكون في الخير، فأما في الشر فيقال: خسرت وغرمت. وروى البيهقي في "الشعب" عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى -مرسلأ - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ نَفَقَةٍ يُنْفِقُهَا الْمُسْلِمُ يُؤْجَرُ فِيْهَا عَلَىْ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَعَلَى صَدِيْقِهِ، وَعَلَى بَهِيْمَتِهِ إِلاَّ فِيْ بِنَاءٍ إِلاَّ بِنَاءَ مَسْجِدٍ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ" (¬2). وروى أبو نعيم عن إبراهيم النخعي، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كل نفقة ينفقها العبد فإنه يؤجر عليها إلا بناء المسجد. قال ابن حمزة: فقلت لإبراهيم: أرأيت إنما كان بناء كفافاً؟ قال: لا أجر، ولا وزر (¬3). وكلامه محمول على ما لو تجرد عن النية؛ فإن اقترن بنية صالحة كإيواء العيال وسترهم ففيه أجر. ¬
وفي معنى بناء المسجد بناء مدارس العلم، ودور القرآن، والحديث، وخوانق الفقراء، والربط وبناء الحصون للرابطة، وبناء الخانات على طرق المسلمين لإيواء المسافرين وأبناء السبيل؛ فإن كل ذلك مما فيه أجر عظيم باق لبانيه بعد موته ما دام منتفعاً به. فإن كان بناؤه هذا بنية فاسدة كالمباراة والمراباة، وبناء الحصون لمناداة المسلمين، والاستعماء عليهم، وتحصين من يخرج عليهم، أو للتجبر ونحوه، كان حراماً. وكذلك بناء الخمارات وبيوت القمار. فأما بناء بيوت القهوات فإنه مباح كالأسواق، لكنه مكروه شديد الكراهة لِمَا استقر عليه أمر كثير ممن يدخلها من الإكباب على اللعب، والتعرُّض للمُرد، والمواعدة على السوء، والاجتماع عليه، فإنْ بنيت بهذه النية كان بناؤها محرماً قطعاً؛ فإنما الأعمال بالنيات. وما أشبه ذلك بحال عاد المعبر عنه بقوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام مخاطباً لهم: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129]. وقد أحسن الحافظ أبو الفضل ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في قوله: [من الطويل] خَلِيْلَيَّ وَلَّى الْعُمْرُ مِنَّا وَلَمْ نَتُبْ ... وَننوِي فِعالَ الصَّالِحِيْنَ وَلَكِنَّا وَحَتَّى مَتَى نَبْنِي قُصُوراً مَشِيْدَةً ... وَأَعْمارُنا مِنَّا تُهَدُّ وَما تُبْنا
وقلت: [من البسيط] يا بانِياً فَوْقَ ما يَكْفِيْهِ عَنْ أَملٍ ... وَقَدْ أَعَدَّ صُنُوْفَ الزَّهْرِ وَالْبانِ عَمَّا قَلِيْلٍ تَرَى الأَزْهارَ ذاوِيَة ... وَعَنْ قَلِيْل تَبِيْدُ الدَّارُ وَالبانِي لا يَمْنَعَنَّكَ مِنْ أَيْدِي الْحِمامِ حِمًى ... وَلَوْ بَنَيْتَ حُصُوناً فَوْقَ ذِي الْبانِ وَإِنْ تَقُلْ أَجْمَعُ الدُّنْيا وَآخِرَة ... فَلَسْتَ ثَمَّ وَهلْ لِلْمَرْءِ قَلْبانِ إِنَّ الَّذِي طَلَب الدُّنْيا وَفَرَّطَ فِي ... أُخْراهُ يَلْحَقْهُ بِالْمَوْتِ سلبانِ دُنياهُ فارَقَها أُخْراهُ ضَيَّعَها ... وَلَيْسَ يُجْدِيْهِ شَيئاً حَزْقُ أَسْنانِ إِنَّ الأَريبَ الَّذِي يَسْعَى لآخِرَةٍ ... تَبْقَى لَهُ غَيْرَ نظَّارٍ إِلَى الْفانِي وقوله: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] سبق تفسيره عن مجاهد. وقال في "القاموس": بطش به، يبطِش، ويبطُش: أخذه بالعنف والسطوة؛ كأبطشه. أو البطش: الأخذ الشديد في كل شيء، والبأس. والبطيش: الشديد البطش (¬1). وقال القاضي أبو بكر بن العربي: روى مالك عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه الضرب بالسياط (¬2). ¬
قال القرطبي: والبطشة تكون باليد، وأقله الوَكْز والدفع، ويليه السوط والعصا، ويليه الحديد؛ والكل مذموم إلا بحق. قال: والآية نزلت خبراً عن من تقدم من الأمم، ووعظاً من الله تعالى في مجانبة ذلك الفعل الذي ذمهم به وأنكره عليهم. إلى أن قال: وهذه الأوصاف المذمومة قد صارت في كثير من هذه الأمة لا سيما بالديار المصر منذ وليتها البحرية، فيبطشون بالناس بالسوط والعصا في غير حق (¬1). قال: وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك يكون كما في "صحيح مسلم" رحمه الله تعالى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمْ؛ قَوْم مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْناَبِ الْبَقَرِ يَضْرِبُوْنَ بِهَا النَّاسَ، وَنسَاءٌ كَاسِياتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلات مُمِيْلاتٌ رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ، لا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلا يَجِدْنَ رِيْحَهَا؛ وَإِنَّ رِيْحَهَا لَيُوْجَدُ مِنْ مَسِيْرَةِ كَذَا وَكَذَا" (¬2). قلت: وفي "صحيح مسلم" أيضاً عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُوْشَكُ إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ أَنْ تَرَى قَوْمًا ¬
بِأَيْدِيْهِمْ مِثْلُ أَذْناَبِ الْبَقَرِ؛ يَغْدُوْنَ فِيْ غَضَبِ اللهِ، وَيْرُوحُوْنَ فِي سَخَطِ اللهِ" (¬1). وقال الله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]. وفي هذه الآية أنه كان من أخلاقهم نسيان الله وقوته وسطوته، والغفلة عنه وعن انتقامه؛ فليحذر العبد من مثل غفلتهم ونسيانهم، ولا يأمن من مكر الله تعالى. وروى مسلم، وأبو داود، والترمذي عن أبي مسعود البدري رضي الله تعالى عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسَّوط، فسمعت صوتاً من خلفي، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو يقول: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُوْدِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلامِ". فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً. وفي رواية: فقلت: يا رسول الله! هو حرٌّ لوجه الله تعالى. فقال: "لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ" (¬2). ¬
10 - ومن أخلاق عاد: تسفيه ذوي الأحلام والعقول، وتجهيل أهل العلم، وتخطئة أهل الصواب.
10 - ومن أخلاق عَاد: تسفيه ذوي الأحلام والعقول، وتجهيل أهل العلم، وتخطئة أهل الصواب. ألا ترى إلى قولهم لهود عليه السلام: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66]. وفي ذلك من الجرأة على الأكابر وسوء الأدب في الخطاب ما لا يخفى. والسفاهة والسفاه -بالفتح -، والسفه -بالتحريك -: خفة الحلم، أو نقيضه، أو الجهل. ويقال: سفه نفسه ورأيه -بالتثليث-؛ أي: حمله على السفه. والسفيه: الذي يسيء التصرف في ماله بالتبذير لجهله، وخفة عقله. وقال في "الصحاح": سفه فلان -بالضم - سفاهاً، وسفاهة، وسفه -بالكسر- سفَهاً، لغتان؛ أي: صار سفيهاً (¬1). فإذا قالوا: سفه نفسه، وسفه رأيه لم يقولوا إلا بالكسر؛ لأن فعُل -أي: المضموم - لا يكون متعدياً. ومن العجب أن السفيه يرى العارف العاقل سفيهاً فيرميه بما هو متصف به. وجواب هود عليه السَّلام لقومه أحكم جواب حيث يقول: {يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ ¬
رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 67 - 68]. لم يقل أنتم السفهاء، أو ليست السفاهة إلا فيكم لما في هذا الجواب من الإيحاش في الخطاب المتسبب عن الضجر، وقلة الصبر المخالف للنصيحة. والعاقل لا ينبغي أن يقابل سفه السفيه وجهل الجاهل بمثله، بل يغضي ويحلم، كما قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. هذا ما دام في مقام النصيحة والدَّعوة، فإذا كان في مقام الولاية والعدل بين المتحاكمين إليه لم يكن منه إلا تأديب الظَّالم ونصر المظلوم من غير زيادة على استيفاء الحق. وليس من هذا قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] في جواب قولهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] لأن هذا إجابة من الله تعالى عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ورد عنه ونصرة له، فاللائق أن يكون جواباً رادعاً لهم، زاجراً مفصحاً عن جهلهم بالمبالغة فيه؛ فإن الجاهل بجهله الجازم بخلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله؛ فإن هذا ربما يعذر وينتفع بما ينذر. وبالجملة فليس بعد ظلمة الجهل ظلمة، إلا أن الجاهل بجهله في ظلمات بعضها فوق بعض بخلاف الحاس به؛ فإنه يلتمس النور،
وذاك يقتبس من الظلمة ظلمة يحسها نوراً. ولقد لطف الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في قوله: [من الوافر] وَمَنْزِلَةُ الْفَقِيْهِ مِنَ السَّفِيْهِ ... كَمَنْزِلَةِ السَّفِيْهِ مِنَ الْفَقِيْه فَهَذا زاهِد فِي عِلْمِ هَذا ... وَهَذا مِنْهُ أَزْهَدُ مِنْهُ فِيْهِ (¬1) وفي الحديث: "إِنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ مِنَ النَّاسِ أُوْلُو الْفَضْلِ" (¬2). عَزْلٌ للجاهل عن إدراك حقيقة العلم ومقام أهله، وشوف العقل وكرم أهله. [من البسيط] قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ ... وَيُنْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْماءِ مِنْ سَقَمِ وإنكار الفضل حرمان، والكِبر عن قول الحق خذلان، وسوء الأدب تعرض للعطب. ¬
11 - ومن أخلاقهم وأعمالهم: البطر، والإكباب على اللهو واللعب، وشرب الخمر، واستماع الغناء، واتخاذ القيان.
11 - ومن أخلاقهم وأعمالهم: البطر، والإكباب على اللهو واللعب، وشرب الخمر، واستماع الغناء، واتخاذ القِيان. قد حكي في قصتهم أنه لمَّا قحط المطر عندهم وجهدوا قالوا: جهزوا وفداً منكم إلى مكة ليستقوا لكم، فبعثوا ثلاثة من أعيانهم يقال لهم: قيل بن عَنز، ولقيم بن هزال، وعسل بن جند، فانطلقوا ومع كل واحد منهم رهط من قومه، حتى بلغ عدد وفدهم سبعين رجلاً، فنزلوا على معاوية بن بكر خارج مكة، وكانوا أخواله وأصهاره، فأنزلهم وكرمهم، فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر، وتغنيهم قينتان لمعاوية يقال لهما: الجرادتان، وكان مسيرهم شهراً أيضاً، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتغوثون من البلاء الذي أصابهم، واستحيى أن يأمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه وهم أضيافه، قال شعراً، وأمر الجرادتين أن تغنياه وهم يسمعون: [من الوافر] أَلا يا قِيْلُ ويحَكَ قُم فَهَيْنِمْ ... لَعَل اللهَ يُصْحِبَنا غَماما فَيَسْقِيْ أَرْضَ عادٍ إِنَّ عاداً ... قَدْ اَمْسَوْا ما يَبِيْنُونَ الْكَلاما منَ الْعَطَشِ الشَّدِيْدِ فَلَيْسَ نرجُو ... بِهِ الشَّيْخَ الْكَبِيْرَ وَلا الْغُلاما وَإِنَّ الْوَحْشَ تَأْتِيْهِمْ جَهاراً ... وَلا يَخْشَى لِعادِيٍّ سِهاما وَأَنْتُمْ هَاهُنا فِيْما اشْتَهَيْتُمْ ... نَهارَكُمْ وَلَيْلَكُمُ التَّماما فلمَّا غنتهم الجرادتان بذلك تنبهوا، ودخلوا الحرم، فاستقوا
لقومهم، فكان جواب دعائهم أن بعث الله تعالى عليهم الريح العقيم (¬1). وروى أبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ، فوضعته في دُبَّاء، ثم أتيته فقال: "اضْرِبْ بِهَذَا الْحَائِطَ؛ فَإِنَّ هَذَا شَرَابُ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" (¬2). وروى أبو يعلى عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَبِيْتُ قَوْمٌ مِنْ هَذهِ الأُمَّةِ عَلَىْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ لَهُمْ، فَيُصْبِحُوْنَ قِرَدَةً وَخَنَازيرَ، وَلَيُصِيْبَنَّهُمْ خَسْفٌ وَقَذْفٌ، فَيَقُوْلُوْنَ: لَقَدْ خُسِفَ اللَّيْلَةَ ببنِي فُلانٍ، وَخَسَفَ اللهُ بِبَنِي فُلانٍ، وَلَيُرْسِلَنَّ عَلَيْهِمُ الرِّيْحَ الْعَقِيْمَ الَّتِي أَهْلَكَتْ عَادًا بِشُرْبِهِمُ الْخَمْرَ، وَأَكْلِهِمُ الرِّبَا، وَاتّخَاذِهِمُ الْقَينَاتِ، وَلُبْسِهِمُ الْحَرِيْرَ، وَقَطْعِهِمُ الأَرْحَامَ" (¬3). قلت: وفي هذا الحديث إشارة إلى أن هذه المعاصي قديمة في الأمم؛ لأنه أخبر أن ممن يتعاطاها من يعذب بما عذبت به الأمم السَّالفة من مسخ، أو خسف، أو قذف، أو ريح عقيم بسبب هذه ¬
12 - ومن أعمال عاد، وأخلاقهم: الكيد.
المعاصي بأعيانها، وهي في شريعتنا كبائر. 12 - ومن أعمال عاد، وأخلاقهم: الكيد. وحقيقته إظهار المحبة والقبول، أو الإعراض عن قصد الكيد لمحبة أو غيرها، وإضمار السوء في طي ذلك ولو مآلاً. قال الله تعالى حكاية عن هود عليه السلام: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 54 - 55]. وهو أمر تهديد، وفيه إيماء إلى أنهم كان لهم كيد يقصدونه به، وإن كانوا يخالطونه بالمسالمة في كثير من الأحيان. * تَنْبِيْهٌ: وصف نوح عليه السَّلام قومه بالمكر، وهود عليه السلام قومه بالكيد، وهل بينهما فرق؟ والظاهر في الفرق أن المكر يكون مع إظهار المحبة، وإظهار البغض والعداوة؛ فإن هذا كان حال قوم نوح معه، والكيد لا يكون مع إظهار البغض، ومن هنا وصف النساء بالكيد، وكان منهن أبلغ، ووصفت إخوة يوسف عليه السلام بالكيد دون المكر. وإنما قال تعالى حكاية عن امرأة العزيز: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} [يوسف: 31]، فوصفن بالمكر بالنسبة إلى ما فعلن معها من قولهن: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 30] إلى آخره.
فكان ذلك غيبة لها أو لوماً، وذلك يكون في الغالب مع البغض؛ فإنه مناقض للمودة، وإنما أردن بذلك الحيلة في التوصل إلى مشاهدة يوسف، ومطالعة جماله. ومن هنا قال يوسف عليه السَّلام حين كوشف بحالهن: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33 - 34]. وفي ذلك إشارة إلى أن الدعاء من أنفع شيء يصرف الكيد عن المكيد، وقد حفظ الله تعالى يوسف عليه السَّلام من كيد إخوته، ثم من كيد النسوة، إلا أنه صرف عنه كيدهن بطلب منه، وكيد إخوته بلا طلب؛ لأن كيدهم له كان بمحض الظلم، والله تعالى أولى بنصرة المظلوم وإن لم يسأل النصر، وكيد النسوة لم يكن محض ظلم، وإنما بعثهن عليه الشهوة والطمع. ووجه آخر: وهو أن يوسف عليه السلام خشي على نفسه من كيد النساء لأنه يعلم أن الشهوة آخذة إليهن، فاستغاث بربه حتى طلب صرف كيدهن عنه ولو بالسجن، ولم يسأله أن يصرف عنه كيد إخوته مع قول أبيه له: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5] لِمَا علم أن كيد الإخوة يكون بمجرد إغواء الشيطان، وكيد الشيطان ضعيف، مع أن شفقة الإخوة وازعة عن الكيد في الجملة فاعتمد عليها، فلم يطلب النجاة من
كيدهم، وكيد النساء عظيم لأن الباعث عليه الشهوة من قبلهن، ومن قبل من يكدنه؛ فافهم! وقد يفرق بين المكر والكيد بأن الكيد يكون مع الضعف والقوة، والمكر لا يكون إلا مع القوة. ومن هنا وصفت النسوة حين قلن عن امرأة العزيز ما قلن بالمكر؛ لأنهن لم يقلن ذلك حتى اجتمعن، وكن كما روي أربعين امرأة، وما كانت واحدة منهن تستطيع أن تقول ذلك لولا تقويهن بالاجتماع. والكيد في نفسه قبيح، وعاقبته وخيمة إذا كان في التوصل إلى ما لا يرضى به الله من خيانة، أو ضرر لمسلم. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52]. وقال تعالى حكاية عن مشركي مكة: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 15 - 17]. وقال تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} [المرسلات: 38 - 39]، أي: كما كنتم تكيدون أوليائي في الدُّنيا. وقال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183]. وإنما اختير الكيد هنا دون المكر؛ لأن إسباغ النعم عليهم يوهمهم الرضا عنهم، فكان طي النقمة في النعمة أبلغ كيد بأبلغ آية.
13 - ومن أخلاق عاد: الغفلة عن الموت والعقوبة، واستبعاد موعود الله تعالى.
13 - ومن أخلاق عاد: الغفلة عن الموت والعقوبة، واستبعاد موعود الله تعالى. كما دل عليه قولهم لهود عليه السَّلام: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70]. وقال الله تعالى حكاية عنهم: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 36 - 37]. تقدم عن زيد بن أسلم قال: كان في الزمن الأول يمضي أربعمئة سنة لم يسمع فيها بجنازة. قال بعض العلماء: كان هذا في زمن عاد. قلت: وليس حال من أملي له بحيث كان يمكث الزمن الطويل لا يرى جنازة لقلة من يموت بأعجب من أحوالنا، ونحن في كل يوم نرى أو نسمع بعدة موتى ولا نتعظ، ولا نستيقظ؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون: [من مخلّع البسيط] لَوْ أَنَّنَا لا نَرَى وَنَسْمَعْ ... فِي كُلِّ يَوْمٍ يأتي بِمَصْرَعْ لَكانَ عُذْراً لَنا إِذا ما ... كانَ لَنا فِي الْبَقاءِ مَطْمَعْ لَكِنَّما الْمَوْتُ كُلَّ يَوْمٍ ... يُؤْوِي الْوَرَى فِي الثَّرى وَيَجْمَعْ وَإِنّنَا غافِلُوْنَ عَمَّا ... قَدْ هَدَّ مِنا الْقُوى وَأَوْجَعْ حتامَ نَرْعَوِي وَحَتَّا ... م نُطِعْ رَبَّنا وَنخْشَعْ
14 - ومن أخلاق عاد: انتظار المحبوب والثواب اعتمادا على حسن الظن بالنفس، ونسيان العقوبة على سوء العمل.
إِنَّ لَنا أَنْ نَرى اشْتِغالاً ... بِاللهِ عما سِواهُ أَنْفَعْ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِنَّ عَبْداً ... أَوَى حِماهُ هُوَ الْمُمَنَعْ ومن لطائف الآثار: ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "قصر الأمل"، وابن حبان في كتاب "الثقات"، وأبو نعيم من طريقه عن أبي عبيدة الباجي قال: دخلنا على الحسن رحمه الله تعالى في مرضه الذي مات فيه، فقال: مرحباً بكم وأهلاً، وحياكم الله بالسَّلام، وأدخلنا وإياكم دار المقام، هذه علانية حسنة، إن صبرتم وصدقتم، وأيقنتم فلا يكن حظكم من هذا الخير أن تسمعوه بهذه الأذن وتخرجوه من هذه الأذن؛ فإنه من رأى محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقد رآه غادياً ورائحاً، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، ولكن رفع له علم فشمر إليه، الوَحَاءَ الوَحَاءَ، النَّجَاءَ النَّجَاءَ علامَ تعرجون، أنتم ورب الكعبة كأنكم والأمر معاً، رحم الله عبداً جعل العيش عيشاً واحداً، وأكل كسرة، ولبس خَلِقاً، ولزق بالأرض، واجتهد في العبادة، وبكى على الخطيئة، وهرب من العقوبة، وابتغى الرحمة حتى يأتي أجله وهو على ذلك (¬1). 14 - ومن أخلاق عاد: انتظار المحبوب والثواب اعتماداً على حسن الظن بالنفس، ونسيان العقوبة على سوء العمل. ألا ترى حال عاد حين قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]. ¬
وأنشد الدينوري في المجالسة لبعضهم: [من الوافر] رَأَيْتُ سَحابَةً وَظَنَنْتُ غَيْثاً ... وَأَغْفَلْتُ الَّذِي صَنَعْتَ بِعادِ (¬1) وروى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في "الأم" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ما هبت ريح إلا جثا النبي - صلى الله عليه وسلم - على ركبتيه، وقال: "اللهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلا تَجْعَلْهَا عَذَابًا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِياحًا وَلا تَجْعَلْهَا رِيْحًا". قال ابن عباس - رضي الله عنه -: في كتاب الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [القمر: 19]. و{أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]. وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]. {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] (¬2). وروى أبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى ناشئاً في أفق السماء ترك العمل -وإن كان في صلاة - ثم يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا". فإن مُطِرَ قال: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ صَيِّبًا هَنِيًّا" (¬3). ¬
وفي "صحيح مسلم" عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عصفت الريح قال: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيْهَا، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيْهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ" (¬1). وروى أبو داود، وابن ماجه بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الرِّيْحُ مِن رَوْحِ اللهِ تَعَالَى، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوْهَا فَلا تَسُبُّوْهَا، وَاسْأَلوْا اللهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيْذُوْا بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا" (¬2). وروى ابن السني بإسناد صحيح، عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا اشْتَدَّتِ الرِّيْحُ فَقُوْلُوا: اللَّهُمَّ لَقْحًا لا عَقِيْمًا" (¬3). واللقح: الحاملة للماءِ؛ كاللقحة من الإبل. والعقيم: التي لا ماء فيها كالعقيم من الحيوانات، وهي التي لا تلد. وسب الريح مكروه؛ لأنها مرسلة بإرسال الله تعالى؛ تكون رحمة، وتكون عذاباً. ¬
15 - ومن أخلاق عاد: مكابرتهم، وتصميمهم على ما كانوا عليه من المعاصي مع مشاهدة الآيات، وملاحظة العقوبة، وعدم اتعاظهم بها.
15 - ومن أخلاق عاد: مكابرتهم، وتصميمهم على ما كانوا عليه من المعاصي مع مشاهدة الآيات، وملاحظة العقوبة، وعدم اتعاظهم بها. كما تقدم أنهم لما جاءتهم الريح أخذ بعضهم بيد بعض، وجعلوا يشتدون، وأركزوا أقدامهم في الأرض، وقالوا لهود: من يزيل أقدامنا؟ فاقتلعتهم الريح. فينبغي للإنسان إذا شاهد شيئاً من آيات الله تعالى من الرعد والبرق، والزلازل، واشتداد الرياح، والكسوف والخسوف، وغير ذلك أن يلزم الخوف والوَجَل، ويسأل الله تعالى أن يعيذه ويعافيه؛ فإن هذا هو المطلوب بإرسال الآيات كما قال الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]. ولا ينبغي له أن يعرض عن ذلك؛ فإن من أري الآية ليتأثر بها فلم يتأثر فقد ألحق نفسه بالجمادات، بل بالشياطين. بل يؤمن بالذي تقوم السماء والأرض بأمره، يبدل الأرض غير الأرض والسموات، وينسف الجبال نسفاً، ويسيِّرها فتكون سرابًا، فيعلم أنه قادر على كل ممكن، وعقوبة المعاصي من الممكنات المتكررات، فيخاف ويخشى، ويتعظ ويرعوي، ويتيقظ ويستوي. وقد روى ابن أبي شيبة عن شهر رحمه الله تعالى -مرسلاً- قال: زلزلت المدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ رَبَّكُم يَسْتَعْتِبُكُمْ
فَأعْتِبُوْهم" (¬1)؛ أي: يطلب منكم العُتبى؛ يعني: الرجوع إلى ما يرضيه. وروى البزار عن سمرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْكُمْ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ يَسْتَعْتِبُ بِهَا عِبَادَهُ لِيَنْظُرَ مَنْ يَخَافُهُ وَمَنْ يَذْكُرُهُ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ تعالى" (¬2). وروى الشيخان عن المغيرة، والنسائيُّ عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنهم: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمْرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا وَادْعُوا رَبَّكُمْ حَتَّى يَكْشِفَ مَا بِكُمْ" (¬3). وروى الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، والترمذي، والنسائي، والحاكم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع الرعد والصواعق قال: "اللَّهُمَّ لا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ" (¬4). ¬
زاد النسائي: وقال: "سُبْحَانَ الَّذِيْ يُسَبحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيْفَتِهِ". ثم يقول: "إِنَّ هَذَا الْوَعِيْدَ لأَهْلِ الأَرْضِ شَدِيْدٌ" (¬1). وروى الحاكم وصححه على شرط الشيخين، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لَهَواته، إنما كان يبتسم. قالت: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرِف في وجهه الكراهة، فقلت: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهة؟ فقال: "يَا عَائِشَةُ! مَا يُؤْمِنُنِي أَنْ يَكُوْنَ فِيْهِ عَذَابٌ؟ قَدْ عُذِّبَ قَوم بِالرِّيْحِ، وَقَدْ أتى قَوْمًا الْعَذَابُ"، وتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 4] (¬2). والأحاديث في هذا الكتاب كثيرة. والحاصل من ذلك أن من رأى من آيات الله تعالى العظيمة شيئاً يثبغي له أن يذكر الله تعالى ويخافه، ويتوب إليه، ويرجع عما كان عليه لينجو بما نجا هود عليه السلام ومن كان معه من قومه، كما روى ¬
تتمة
الدينوري عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: لما أرسل الله تعالى الريح على عاد اعتزل هود عليه السلام ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين به جلودهم وتلتذه الأنفس، وإنها لتمر بالعادي فتحمله بين السماء والأرض، وتدمغه بالحجارة (¬1). وكذلك نجَّا قوم يونس بالإيمان والتوبة عند رؤية الآية التي أنذرهم بها عليه السلام كما قال الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]. فإن أصر وتمادى في الضلال والعتو والعناد فقد هلك مع الهالكين، كما هلك قوم نوح وقوم هود في قرون آخرين. * تَتِمَّةٌ: من لطائف الآثار ما رواه الخِلَعِي في "فوائده" عن الهيثم بن عدي قال: أتي الحجاج بن يوسف برجل من الخوارج، فدخل عليه والحجاج يتغدى، فجعل الخارجي ينظر إلى حيطانه وما قد نجد، فجعل يقول: اللهم اهدم، اللهم اهدم، اللهم اهدم. فقال له الحجاج: هيه! كأنك لا تدري ما يراد بك؟ فقال للحجاج: هيه! نزع الله ماضغيك، وما عليك لو دعوتني إلى طعامك؟ أما إن فيك ثلاث خصال مما نعت الله به عاداً؛ فقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا ¬
بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشراء: 128 - 130]. فامتلأ الحجاج غيظاً، فأمر بقتله، فأخرجه الحرس إلى الرحبة ليقتلوه، فقال: دعوني أتمثل بثلاثة أبيات. فقالوا: تمثل بما شئت. فأنشأ يقول: [من المنسرح] ما رَغْبَةُ النَّفْسِ فِي الْحَياةِ وَإِنْ ... عاشَتْ طَوِيلاً وَالْمَوْتُ لاحِقُها أَوْ أَيْقَنَتْ أَنَّها لا تَعُوْدُ كَما ... كانَ بَراها بِالأَمْسِ خالِقُها إِنْ لا تَمُتْ غِبْطَةً تَمُتْ هَرَماً ... لِلْمَوْتِ كَأْسٌ فَالْمَرْءُ ذائِقُها ثم مد عنقه فضربت، فانصرف قاتلوه إلى الحجاج فأخبروه بقوله، فقال: لله دره ما كان أصرمَه في حياته، وعند وفاته. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "العقوبات" عن يحيى بن يعلى رحمه الله تعالى قال: قال هود عليه السلام لقومه لما عبدوا الأصنام وعملوا بالمعاصي: يا قوم! إني بعثة الله إليكم، وزعيمه فيكم، فاتقوه بطاعته، وأطيعوه بتقواه؛ فإن المطيع لله يأخذ من نفسه لنفسه بطاعة الله رضا اللهِ، وإن العاصي له يأخذ من نفسه لنفسه بمعصية الله سَخَطَ اللهِ، وإنكم من أهل الأرض، والأرض تحتاج إلى السماء، والسماء تستغني عن الأرض، فأطيعوا الله تستطيبوا حياتكم وتأمنوا ما بعدها، وإن الأرض العريضة تضيق عن البعوضة بسخط الله. وفي المعنى قلت: [من المديد]
إِيَّاكَ عِصْيانَ مَنْ تَعالَى ... تَكُنْ بِعِصْيانِهِ بَغِيْضَه فَالأَرْضُ مَعْ أَنَّها عَرِيْضَةٌ ... تَضِيْقُ بِالسُّخْطِ عَنْ بَعُوْضَه وقال المعافى بن زكريا في "الأنيس والجليس": حدثنا محمد ابن القاسم الأنباري، حدثني أبي قال: سمعت أحمد بن عبيد، عن المدائني قال عبد الملك بن عمير: عن رجل من أهل اليمن قال: أقبل سيل باليمن في ولاية أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فأبرز لنا عن باب البلق وهو الرخام، فظنناه كنزاً، فكتبنا إلى أبي بكر نعلمه، فكتب إلينا: لا تحركوه حتى يقدم عليكم أمناء من قبلي، قال: فلما قدم أمناؤه فتحناه، فإذا نحن برجل على سرير طوله سبعة عشر ذراعاً، وعليه سبعون حلة منسوجة بالذهب، وفي يده اليمنى لوح، وفي يده اليسرى محجن، وفي اللوح مكتوب ما هذه ترجمته: [من الوافر] إِذا خانَ الأَمِيْنُ وَكاتِباهُ ... وَقاضِي الأَرْضِ داهَنَ فِي الْقَضاءِ فَوَيْلٌ ثُمَّ ويلٌ ثُمَ ويلٌ ... لِقاضِي الأَرْضِ مِنْ قاضِي السَّماءِ قال: وإذا عند رأسه سيف أشد خضرة من البقل، وعلى السيف مكتوب: هذا سيف هود بن عاد بن إرم (¬1). وروى أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان ¬
عمر هود عليه السلام أربعمئة سنة واثنتين وسبعين سنة (¬1). وروى ابن عساكر عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: ذكر الأنبياء عليهم السلام عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما ذكر هود عليه السلام قال: "ذَاكَ خَلِيْلُ اللهِ" (¬2). وفيه دليل على أن الخلة لم تختص بإبراهيم عليه السلام -وإن كانت فيه أظهر-. أو كانت خلته بمظهر الرحمة، ومن هنا سمي خليل الرحمن. وثبت في "الصحيح": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن نفسه: "وَإنَّ صَاحِبَكُم خَلِيْلُ اللهِ" (¬3). وروى الإمام أحمد، وأبو يعلى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بوادي عُسفان فقال: "لَقَدْ مَرَّ بِهِ هُوْدٌ وَصَالِحٌ عَلَىْ بَكَرَاتٍ حُمْرٍ، خُطُمُهُنَّ اللِّيْفُ، أُزُرُهُمُ الْعَبَاءُ، وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ، يُلَبُّونَ وَيَحُجُّوْنَ الْبَيْتَ الْعَتِيْقَ" (¬4). وروى ابن عساكر عن ابن سابط قال: بين المقام والركن وزمزم ¬
قبر تسعة وسبعين نبيًّا، وإن قبر نوح، وهود، وشعيب، وصالح، وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة (¬1). وروى البخاري في "تاريخه"، وابن جرير، وابن عساكر عن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قبر هود عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر، عند رأسه سدرة (¬2). وروى ابن سعد، وابن عساكر عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قال: ما يعلم قبر نبي من الأنبياء إلا ثلاثة: قبر إسماعيل عليه السلام؛ فإنه تحت الميزاب بين الركن والبيت. وقبر هود عليه السلام؛ فإنه في حقف تحت جبل من جبال اليمن عليه شجرة، وموضعه أشد الأرض حراً (¬3). وروى ابن عساكر عن عثمان بن أبي العاتكة قال: قبلة مسجد دمشق قبرُ هود عليه السلام (¬4). وروى الزبير بن بكار في "الموفقيات" عن عبد الله بن عمرو بن ¬
العاص رضي الله تعالى عنهما قال: عجائب الدنيا أربعة: مرآة كانت معلقة بمنارة الإسكندرية، وكان يجلس الجالس تحتها فيبصر من القسطنطينية، وبينهما عرض البحر. وفرس كانت من نحاس بأرض الأندلس قائلاً بكفه كذا، باسطاً يده؛ أي: ليس خلفي مسلك، فلا يطأ تلك البلاد واحد إلا أكلته النمل. ومنارة من نحاس عليها راكب من نحاس بأرض عادة فإذا كانت الأشهر الحرم هطل منها الماء فشرب الناس، وسقوا وصبوا في الحياض، فإذا انقطعت الأشهر الحرم انقطع ذلك الماء. وشجرة من نحاس عليها سودانية من نحاس بأرض رومية؛ إذا كان أوان الزيتون صفرت السودانية التي من نحاس، فتجيء كل سودانية من الطيارات بثلاث زيتونات؛ زيتونتين برجليها، وزيتونة بمنقارها، حتى تلقيه على تلك السودانية النحاس، فيعصر أهل رومية ما يكفيهم لإدامهم وسرجهم شتويتَهم إلى قابل (¬1). ¬
(5) باب النهي عن التشبه بثمود
(5) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِثَمُوْدَ
(5) بَابُ النَّهْي عَنِ التَّشَبُّهِ بِثَمُوْدَ وكانوا أول من هلك بطاعة النساء. قال الله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59]. وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73] الآيات. وكان صالح عليه السلام أخاهم في النسب لا في الدِّين. وذكر ابن إسحاق، وغيره: أن عاداً لما هلكت وتقضَّى أمرها، عمِّرت ثمود بعدها، واستخلفوا في الأرض، فنموا فيها، وكثروا وعمروا حتَّى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل منهم حي، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً، وكانوا في سعة من معاشهم، فعتوا عن أمر ربهم، وأفسدوا في الأرض، وعبدوا غير الله تعالى، فبعث الله إليهم صالحاً عليه السلام وهو شاب، فدعاهم إلى الله عز وجل حتى شمط لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون، فلما ألح عليهم بالدعاء والتبليغ، وأنذرهم وَحذرهم، سألوه أن يريهم آية، فقال لهم: أي آيَة تريدون؟
قالوا: تخرج معنا غداً إلى عيدنا -وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة- تدعو إلهك، وندعو آلهتنا؛ فإن استجيب لك اتبعناك. فقال لهم صالح: نعم. فخرجوا، فدعَوا أوثانهم، وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعوبه. ثم قال قائلهم لصالح: ادع لنا ربك يخرجْ لنا من هذه الصخرة -عن صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها: الكاثبة- ناقةً مخترجة؛ وهي ما شاكل البخت جوفاء وبراء، فنؤمن لك ونصدق. فدعا الله تعالى، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، ثم انصدعت عن ناقة بالصفة التي ذكروا لا يعلم ما بين جنبيها عظماً إلا الله تعالى، ثم نتجت سقباً مثلها في العظم، فآمنت به طائفة من قومه، وهمَّ أكثرهم أن يؤمنوا فمنعهم أشرافهم. قال لهم صالح: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الشعراء: 155 - 156]، فكانت تعمهم بلبنها وخيرها، وكانت ربما أضرت بمواشيهم، ومنعتها المشتا والمصيف، وكان ممن تضرر منها امرأتان يقال لإحداهما: عنيزة بنت غنم، وكانت عجوزاً مسنة، لكنها كانت ذات مال وماشية وبنات حسان. [و] كان يقال للثانية: صدوف بنت المحيا، وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة، وكانت من أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام، وأحرصهم على عَقر الناقة، فدعت صدوف ابن عم لها يقال له:
مصدع بن مُهَرجِ بن المحيا، وجعلت له نفسها إن عقر الناقة، ودعَت عنزة رجلاً من ثمود يقال له: قَدَّار بن سالف -زعموا أنه كان ابن زنا، ولم يكن من سالف ولكن ولد على فراشه- وجعلت له أي بناتها شاء إن عقر الناقة، فانطلق هو ومصدعِ، واستغويا غواة ثمود، فاتبعهم سبعة نفر، وكانوا تسعة رهط، فانطلقوا ورصدوا الناقة حتى صدرت عن الماء، وكَمَن لها قدار في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها مصدع في طريق آخر، فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، ثم خرجت عنيزة فَأمرت إحدى بناتها أن تسفر لقدار خشية أن يجبن عن عقر الناقة، فكشف عرقوبها فخرت، فبعث الله العذاب على ثمود في ثلاثة أيام، فهلكوا (¬1). والقصة مفصلة في محالِّها، وهذا ملخصها. وروى ابن جرير، والحاكم في "المستدرك"، وغيرهما عن عمرو ابن حارثة رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَانَتْ ثَمُوْدُ قَوْمُ صَالِحٍ أَعْمَرَهُمُ اللهُ فِيْ الدُّنْيَا، فَأَطَالَ أَعْمَارَهُمْ حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَبْنِي السَّكَنَ مِنَ الْمَدَرِ، فَيَنْهِدِمُ وَالرَّجُلُ مِنْهُمْ حَيٌّ، فَلَمَّا رَأَوا ذَلِكَ اتَّخَذُوْا مِنَ الْجِبَالِ بُيُوْتاً، فَنَحَتُوْهَا وَجَابُوْهَا، وَخَرَّقُوْهَا، وَكَانُوْا فِيْ سَعَةٍ مِنْ مَعَايشِهِم، فَقَالُوْا: يَا صَالِحُ! ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا آيَةً نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُوْلُ اللهِ، فَدَعَا صَالِحُ رَبَّهُ فَأَخْرَجَ لَهُمْ آيَةً، فَكَانَ شِرْبُهَا يَوْمًا ¬
وَشِرْبُهُمْ يَوْمًا مَعْلُوْمًا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهَا خَلَّوا عَنْهَا وَعَنِ الْمَاءِ، وَحَلَبُوْهَا لَبَناً مَلؤوا مِنْهُ كُل إِنَاءِ وَوِعَاءٍ وَسَقَاءٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهِم صَرَفُوْهَا عَنِ الْمَاءِ فَلَمْ تَشْرَبْ مِنْهُ شَيْئاً، فَمَلَؤوا كُلَّ إِنَاءٍ وَوِعَاءٍ وَسَقَاءٍ، فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى صَالِحٍ: إِنَّ قَوْمَكَ سَيَعْقِرُوْنَ ناَقَتَكَ، فَقَالَ لهُمْ، فَقَالُوا: مَا كُنَّا لِنَفْعَلَ. فَقَالَ: إِنْ لا تَعْقِرُوْهَا أَنتُمْ يُوْشِكُ أَنْ يُوْلَدَ فِيْكُمْ مَوْلُوْدٌ يَعْقِرُهَا. قَالُوْا: فَمَا عَلامَةُ ذَلِكَ الْمَوْلُوْدِ؟ فَوَاللهِ لا نَجِدُهُ إِلاَّ قتلْنَاهُ. قَالَ: فَإِنَّهُ غُلامٌ أَشْقَرُ، أَزْرَقُ، أَصْهَبُ، أَحْمَرُ. وَكَانَ فِيْ المَدِيْنَةِ شَيْخَانِ عَزِيْزَانِ مَنِيْعَانِ لأَحَدِهِمَا ابْنٌ يَرْغَبُ بِهِ عَنِ النَّاكِحِ، وَلِلآخِرِ ابْنَةٌ لا يَجِدُ لَهَا كُفُؤًا، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا مَجْلِسٌ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُزَوِّجَ ابْنَكَ؟ فَقَالَ: لا أَجِدُ لَهُ كُفُؤًا. قَالَ: فَإِنَّ ابْنَتِيَ كُفُؤٌ لَهُ، فَأَنَا أُزَوِّجُكَ. فَزَوَّجَهُ، فَوَلَدُ بَيْنَهُمَا ذَلِكَ الْمَوْلُوْدُ، وَكَانَ فِيْ المَدِيْنَةِ ثَمَانِيَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُوْنَ فِيْ الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُوْنَ، فَلَمَّا قَالَ لهُمْ صَالِحٍ: إِنَّمَا يَعْقِرُهَا مَوْلُوْدٌ فِيْكُمْ اخْتَارُوْا ثَمَانِي نِسْوَةٍ قَوَابِلَ مِنَ القَرْيَةِ، وَجَعَلُوْا مَعَهُنَّ شُرَطًا، كَانُوْا يَطُوْفُوْنَ فِيْ الْقَرْيَةِ، فَإِذَا وَجَدُوْا الْمَرْأةَ تَمخضُ نَظَرُوا إِلَى وَلَدِهَا؛ إِنْ كَانَ غُلامًا قَلَبْنَهُ فَنَظَرُوْا مَا هُوَ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً أَعْرَضْنَ عَنْهَا، فَلَمَّا وَجَدُوْا ذَلِكَ الْمَوْلُوْدَ صَرَخَ النّسْوَةُ: هَذَا الَّذِيْ يُرِيْدُ
رَسُوْلُ اللهِ صَالِحٍ، فَأَرَادَ الشُّرَطَ أَنْ يَأْخُذُوْهُ، فَحَالَ جَدَّاهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَقَالا: لَوْ أَنَّ صَالِحًا أَرَادَ هَذَا قَتَلْنَاهُ. فَكَانَ شَرَّ مَوْلُوْدٍ، وَكَانَ يَشُبُّ فِيْ الْيَوْمِ شَبَابَ غَيْرِهِ فِيْ جُمْعَةٍ، ويَشُبُّ فِي جُمُعَةٍ شَبَابَ غَيْرِهِ فِي الشَّهْرِ، وَيَشُبُّ فِيْ الشَّهْرِ شَبَابَ غَيْرِهِ فِي السَّنَةِ، فَاجْتَمَعَ الثَّمَانِيَةُ الَّذِيْنَ يُفْسِدُوْنَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُوْنَ، فَقَالُوْا: اسْتَعْمِلُوْهُ عَلَيْنَا لِمَنْزِلَتِهِ وَشَرَفِ جَدَّيْهِ، فَكَانُوْا تِسْعَةً، وَكَانَ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ لا يَنَامُ مَعَهُمْ فِيْ الْقَرْيَةِ، كَانَ يَبِيْتُ فِي مَسْجِدِهِ، فَإِذَا أَصْبَحَ أتاهُمْ، فَوَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ، وَإِذَا أَمْسَى خَرَجَ إِلَى مَسْجِدِه فَبَاتَ فِيْهِ. قَالَ: وَأَرَادُوْا أَنْ يَمْكُرُوا بِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَمَشَوْا عَلَى شُرفِ طَرِيْقِ صَالِحٍ، فَاخْتَبَأَ فِيْهِ ثَمَانِيَةٌ، وَقَالُوْا: إِذَا خَرَجَ عَلَيْنَا قَتَلْنَاهُ، وَأتيْنَا أَهْلَهُ فَبَيَّتْنَاهُمْ. فَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى الأَرْضَ فَاسْتَوَتْ عَلَيْهِمْ، فَاجْتَمَعُوْا وَمَشَوُا إِلَى النَّاقَةِ وَهِيَ عَلَى حَوْضِهَا قَائِمَةٌ، فَقَالَ الشَّقِيُّ لأَحَدِهِمْ: ائْتِهَا فَاعْقِرْهَا، فَأَتَاهَا، فَتَعَاظَمَهُ ذَلِكَ، فَأَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ، فَبَعَثَ آخَرَ فَأَعْظَمَهُ ذَلِكَ، فَبَعَثَ فَجَعَلَ لا يَبْعَثُ رَجُلاً إِلاَّ تَعَاظَمَهُ أَمْرُهَا حَتَّى مَشَى إِلَيْهَا، وَتَطَاوَلَ فَضَرَبَ عُرْقُوْبَهَا، فَوَقَعَتْ، فَرَكَضَ فَرَأَى رَجُلٌ مِنْهُمْ صَالِحًا، فَقَالَ: أَدْرِكِ النَّاقَةَ فَقَدْ عُقِرَتْ، فَأَقْبَلَ وَخَرَجُوْا يَتَلَقَّوْنَهُ ويَعْتَذِرُوْنَ: يَا نبَيَّ اللهِ! إِنَّمَا عَقَرَهَا فُلانُ، إِنَّهُ لا ذَنْبَ لَنَا. قَالَ: فَانْظُرُوْا هَلْ تَدْرُكُوْنَ فَصِيْلَهَا؟ فَإِنْ أَدْرَكْتُمُوْهُ فَعَسَى اللهُ أَنْ
يَرْفَعَ عَنْكُمُ العَذَابَ. فَخَرَجُوْا يَطْلُبُوْنَهُ، فَلَمَّا رَأَى أُمَّهُ تَضْظَّرِبُ أتىْ جَبَلاً يُقَالُ لَهُ: الْقَارَّةُ قَصِيْرًا، فَصَعِدُوا وَذهبُوا لِيَأْخُذُوْهُ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى الْجَبْلِ فَطَالَ فِي السَّمَاءِ حَتَّىْ مَا تَنَالُهُ الطَّيْرُ، وَدَخَلَ صَالِحٍ الْقَرِيَةَ، فَلَمَّا رَآهُ الْفَصِيْلُ بَكَى حَتَّىْ سَألَتْ دُمُوْعُهُ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ صَالِحًا، فَرَغَا رَغْوَةً، ثُمَّ رَغَا أُخْرَى، ثُمَ رَغَا أُخْرَى، فَقَالَ صَالِحٍ لِقَوْمِهِ: لكُلِّ رَغْوَة أَجَلٌ، فَتَمَتَّعُوْا فِيْ دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامِ، ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوْبٍ. أَلا إِنَّ آيَةَ الْعَذابِ تصْبحُ وُجُوْهُكُمْ مُصْفَرَّة، وَالْيَوْمِ الثَّانِي مُحْمَرَّة، وَالْيَوْمِ الثالِثِ مُسْودَّة، فَلَمَّا أَصْبَحُوْا إِذَا وُجُوْهُهُمْ كَأَنَّهَا طُلِيَتْ بِالْخَلُوْقِ؛ صَغِيْرُهُمْ وَكَبِيْرُهُمْ، ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، فَلَمَّا أَمْسَوْا صَاحُوْا بِأَجْمَعِهِمْ: أَلا قَدْ مَضَىْ يَوْمٌ مِنَ الأَجَلِ، وَحَضَرَكُمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوْا الْيَوْمَ الثَّانِيْ إِذَا وُجُوْهُهُمْ مُحْمَرَّةٌ كَأَنَّهَا خُضِبَتْ بِالدِّمَاءِ، فَصَاحَوْا، وَضَجُّوْا، وَبَكَوْا، وَعَرفُوْا أَنَّهُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا أَمْسَوْا صَاحَوْا بِأَجْمَعِهِمْ: أَلا قَدْ مَضى يَوْمَانِ مِنَ الأَجْلِ وَحَضَرَكُمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوْا الْيَوْمَ الثالِثَ قَامُوْا وَوُجُوْهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ كَأَنَّمَا طُلِيَتْ بِالْقَارِ، فَصَاحَوْا جَمِيْعًا: أَلا وَقَدْ حَضَرَكُمُ الْعَذَابُ فتكَفَّنُوْا وَتَحَنَطُوْا، وَكَانَ حَنُوْطُهُمُ الصَّبْرُ وَالْمَغِرَةُ، وَكَانَتْ أَكْفَانُهُمْ الأَنْطَاع، ثُمَّ أَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ بِالأَرْضِ فَجَعَلُوْا يَقَلِّبُوْنَ أَبْصَارَهُمْ فَيَنْظِرُوْنَ إِلَى السَّمَاءِ مَرَّةً، وَإِلَى الأَرْضِ مَرَّةً، فَلا يَدْرُوْنَ مِنْ أَيْنَ يَأْتِيْهِمُ الْعَذَابُ؛ مِنْ فَؤْقِهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْ
الأَرْضِ، خَسْفًا أَوْ قَذْفًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوْا الْيَوْمَ الرَّابعَ أتتهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيْهَا كُلُّ صَاعِقَةٍ، وَصَوْتُ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ صَوْتٌ فِيْ الأَرْضِ، فَتَقَطعَتْ قُلُوْبُهُمْ فِيْ صُدُوْرِهِمْ، فَأَصْبَحُوْا فِيْ دِيَارِهِمْ جَاثِمِيْنَ" (¬1). وروى البخاري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عَجَنَّا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء (¬2). وعن نافع، عن ابن عمر: فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهريقوا ما استقوا من بيارها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة (¬3). وعن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مر بالحجر قال: "لا تَدْخُلُوا مَساكِنَ الَّذِيْنَ ظَلَمُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا باكِيْنَ أَنْ يُصِيْبَكُمْ ما أَصابَهُمْ"، ثم تقنَّع بردائه وهو على الرحل (¬4). وقال عبد الرزاق: عن معمر: ثم قنع رأسه، وأسرع حتى جاوز الوادي (¬5). ¬
1 - فمنها: الكفر، والتكذيب، وعبادة الأوثان، والزنا.
وفي ذلك دليل على استحباب التقنع والإسراع لمن مر بمقابر الكفار، وأماكن الكفر، ومواقع العذاب، وعلى كراهية الدخول إلى ديار الكفار والظالمين فضلاً عن استيطانها إلا أن يكون الداخل إليها باكياً معتبراً. وقد دل على إباحة النظر إليها على وجه الاعتبار قوله تعالى حكاية عن ثمود: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 52]. وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن دخول مساكن ثمود وأمثالهم إلا لمن كان باكياً وجِلاً معتبراً فما ظنك بالتشبه بهم فيما انطووا عليه وقد كانوا على خبائث؟ 1 - فمنها: الكفر، والتكذيب، وعبادة الأوثان، والزنا. كما تقدم نظائر ذلك في قوم نوح، وهود عليهما السَّلام. 2 - ومنها: محاجة أهل الحق في أصول الديانات ميلاً مع الهوى. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45]. قال قتادة: إذا القوم بين مصدق بالحق ونازل عنده، ومكذب بالحق وتاركه؛ في ذلك كانت خصومتهم (¬1). وقال مجاهد في قوله: {فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45]: ¬
مؤمن وكافر، قولهم: صالح مرسل من ربه، وقولهم: ليس بمرسل. رواهما عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وغيرهم (¬1). وقد بين الله تعالى من خصومتهم، فقال: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)} [الأعراف: 75، 76]. والمخاصمة في الباطل مذمومة. قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} [البقرة: 204]، الآيات. وروى الشيخان، والترمذي، والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلَدُّ الْخَصِيْمُ" (¬2). وروى الترمذي، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَفَى بِكَ إِثْمًا أَنْ لا تَزَالَ مُمَارِيًا، وَكَفَى بِكَ ظَالِمًا أَنْ لا تَزَالَ مُخَاصِمًا، وَكَفَى بِكَ كَاذِبًا أَلاَّ تَزَالَ مُحَدِّثًا إِلاَّ حَدِيْثًا فِيْ ذَاتِ اللهِ - عز وجل - (¬3). ¬
3 - ومنها: الأخذ بالرأي في مصادمة النص.
3 - ومنها: الأخذ بالرأي في مصادمة النص. وروى الخطيب البغدادي في كتاب "شرف أصحاب الحديث" عن أبي بكر أحمد بن عبد الرحمن النسفي المقرئ قال: كان مشايخنا يسمون أبا بكر بن إسماعيل أبا ثمود؛ لأنه كان من أصحاب الحديث، فصار من أصحاب الرأي؛ يقول الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] (¬1). قلت: وهذا استنباط حسن. أو معنى: {فَهَدَيْنَاهُمْ}: دلَلْناهم على الحق والخير بنبينا صالح، فكان ينص الدين لهم عن وحي، وهم يختارون رأي أنفسهم على نصه والاقتداء به، ولذلك قال الله تعالى حكاية عنه: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)} [هود: 63]. والبينة هي المشافهة بالوحي المفيدة لليقين، ومكافحة الحق. وقوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود: 63]؛ أي: بمخالفة الوحي. ففيه تربية لهم، وتخويف من العصيان الحاصل بمخالفة النص. ¬
4 - ومنها: بغض الناصحين، والأنفة من قول النصيحة.
4 - ومنها: بغض الناصحين، والأنفة من قول النصيحة. قال تعالى حكاية عن صالح عليه السلام: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)} [الأعراف: 79]. ذكر الحارث بن أسد المحاسبي في بعض كتبه: أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يقول: لا خير في قوم لا يكونون ناصحين، ولا خير في قوم لا يحبون الناصحين (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن من أكبر الذنب عند الله تعالى أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك؛ أنت تأمرني (¬2)؟ 5 - ومنها: طاعة المترفين والمفسدين، وموافقتهم على ما هم عليه. قال الله تعالى حكاية عن صالح عليه السَّلام: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)} [الشعراء: 150 - 152]. وإنما أكده بقوله: {وَلَا يُصْلِحُونَ} إشارة أن فسادهم مصمت لا صلاح معه، وليس لهم خصلة صالحة. قال في "الكشاف": استعير لامتثال الأمر، وارتسامه طاعة الآمر ¬
المطاع؛ إذ جعل الأمر مطابقًا على المجاز الحكمي، والمراد الآمر، ومنه قولهم: علي إمرة مطاعة، انتهى (¬1). وفيه من المبالغة ما لا يخفى؛ فإنه يدل على أن أمرهم صار أمرًا متعارفاً فيهم بحيث لا يحيدون عن طريقه، ولا يأخذون في أمر يخالفه. ومن هذا القبيل عصيان الأمر، ولذلك جمع بينهما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)} [طه: 90 - 93]. فوقع عصيان الأمر في كلام موسى عليه السلام كما وقعت طاعة الأمر في كلام أخيه عليهما السلام، وهو أبلغ من طاعة الآمر وعصيان الْمَعْصِيِّ. وأيضا في النهي عن طاعة أمر المسرفين النهي عن التشبه بهم في أمرهم - وإن غابوا أو هلكوا - فإنه مذموم مطلقًا، سواء كان الحامل عليه رجاؤهم إياهم وخوفهم منهم، أو استحسان أمرهم وموافقتهم في رأيهم. وقد أخبر الله - عز وجل - في كتابه بأن هلاك كل قرية كان من مكر أكابرهم، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)} [الأنعام: 123]. ¬
وإنما خصص الأكابر لأنه أقوى على استتباع الناس والمكر بهم، والناس يتبعونهم ما لا يتبعون غيرهم؛ إما رغبة فيما عندهم، وإما رهبة منهم. وقال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} [الإسراء: 16]. أي: أمرناهم بالطاعة، فحملتهم الأنفة على المخالفة والفسق، وإنما خصهم بذلك لأنهم أسرع إلى الحماقة، وأقدر على الفجور ابتلاء من الله تعالى لهم وبهم. ومن هنا جعل بعضهم قوله: {أَمَرنَا} منقولاً من أمرنا لهم إمارة، أو جعلناهم أمراً، واستدل له بقراءة يعقوب: "آمرنا" - بالمد -، والرواية عن أبي عمرو: "وأمَّرنا" - بالتشديد - (¬1). وقال الله تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)} [هود: 59]. فنص على أنهم اتبعوا أكابرهم، فهلكوا وأبعدوا كما قال: {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)} [هود: 60]. وشتَّان بين اتباع الأخيار واتباع الأشرار. ¬
6 - ومن أخلاق ثمود: التطير بأهل الخير واليمن، أو مطلق الطيرة والتشاؤم.
ولقد قلت: [من الرَّمل] إِنَّما كانَ هَلاكُ الْغابِرِيْنَ ... بِاتِّباعِ الْقَوْمِ أَمْرَ الْمُفْسِدِيْنَ كَمْ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ ما دُمِّرَتْ ... أَهْلُها إِلاَّ بِفِسْقِ الْمُتْرَفِيْنَ فَاعْتَزِلْ عَنْهُمْ وَلا تَمْشِ عَلَى ... ما مَشَوْا وَاسْلُكْ طَرِيْقَ الْعارِفِيْنَ قادَةٌ فِي الْخَيْرِ مَنْ يَسْلُكْ عَلى ... سَمْتِهِمْ يَقْفُ الْكِرامَ السَّالِفِيْنَ فَاتَّصِفْ ما كانَ فِي وَصْفِ الْهُدى ... غُنْيَةٌ دُونَ اتِّصافِ الْواصِفِيْنَ 6 - ومن أخلاق ثمود: التطير بأهل الخير واليُمن، أو مطلق الطيرة والتشاؤم. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)} [النمل: 45 - 47]. وكانوا قد قحطوا ومنعوا المطر، فقالوا: ما منعنا الغيث إلا بسبب صالح ومَنْ تَبِعه. وفي الحديث: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ". رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن عمران بن حصين رضي الله تعالى ¬
7 - ومنها: طاعة النساء.
عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ وَلا مَنْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ" (¬1). 7 - ومنها: طاعة النساء. فإن قدار ومصدعاً إنما حملهما على عقر الناقة طاعتهما لصدوف وعنيزة. ومن هنا كان عاقر الناقة أشقى الأولين كما قال تعالى: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)} [الشمس: 12]. وقاتل علي رضي الله تعالى عنه أشقى الآخرين، كما رواه الطبراني، وأبو يعلى بسند جيد، من حديث صهيب رضي الله تعالى عنه (¬2)؛ لأنهما اشتركا في أن الحامل لكل منهما على ما فعل طاعة النساء. أما عاقر الناقة فقد علمت، وأما قاتل علي فهو عبد الرحمن بن مُلجم المرادي سافر من مكة إلى الكوفة ليقتل عليًا - رضي الله عنه -، فلقي بها امرأة من تيم الرباب يقال لها: قطام بنت الشحنة، وقد قتل علي رضي الله تعالى عنه أباها وأخاها يوم النهروان، وكانت فائقة في الجمال، فلما رآها التبست بعقله ونسي حاجته التي جاء لها، فخطبها فأبت عليه إلا أن يجوز ¬
إليها ثلاثة آلاف، وعبداً وقينة، ويقتل علياً رضي الله تعالى عنه، وقالت: إن أصبته شفيت نفسك ونفسي، ونفعك معي العيش، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا. فقال: ما جاء بي إلى المصر إلا قتل علي، ثم شد عليه وهو رضي الله تعالى عنه في صلاة الصبح فضربه، ثم قتل ابن ملجم الملعون الخبيث، ولم يظفر بما طلب من نكاح قطام الخبيثة (¬1). وروى القضاعي، وابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "طَاعَةُ النِّسَاءِ نَدَامةٌ" (¬2). وروى ابن عدي نحوه من حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم (¬3). وروى الدارقطني في "الأفراد" عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَزَالُ الرِّجَالُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُطِيْعُوْا النِّسَاءَ" (¬4). ¬
8 - ومنها: الوقوع في المعصية والإثم والبلاء رغبة في ذوات الجمال.
8 - ومنها: الوقوع في المعصية والإثم والبلاء رغبة في ذوات الجمال. كما وقع لمصدع وقدار. وقلَّ أن يرغب أحد في نكاح امرأة لمالها، أو لجمالها، أو لعزها إلا كانت عليه فتنة في دينه، ولذلك جاء الشرع بالترغيب في ذات الدين إذا دار الأمر بين دَيِّنة غير جميلة، وجميلة غير ديِّنة. ويدل له حديث الأئمة الستة إلا الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تُنْكَحُ الْمَرْأةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحُسْنِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِيْنِهَا؛ فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّيْنِ تَرِبَتْ يَدَاكَ" (¬1)؛ أي: إن اخترت غيرها عليها لمال أو حسن أو جمال. ولعله إنما قدم المال لأن الناس في ذات المال أرغب، ثم في ذات الحسب، ثم في ذات الجمال، ورغبتهم في ذات الدين المجرد عما قبله قليلة. وكم من أحمق رماه الطمع في المال، أو الرغبة في الحسب، أو الغرام بالجمال في شوهاء، أو شمطاء، أو دفراء، أو ناقصة الخلقة، فوقع في البلاء المحيط والشر الدائم. وقد روى البزار عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالى ¬
9 - ومنها: القيادة، ودعوة المرأة الرجل إلى نفسها أو إلى غيرها.
عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -منهاِ قال في حديث: "وَلا عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوْا امْرَأَةً مِنْ أَجْلِ حُسْنِهَا فَقَلَّ أَنْ لا تَأْتِيَ بِخَيْر، وَلَكِنْ ذَوَاتُ الدِّيْنِ وَالأَمَانَةِ فَابْتَغُوْهُنَّ" (¬1). وروى الطبراني عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأةً لعِزِّهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ ذُلًّا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِمَالِهَا لَمْ يَزدْهُ اللهُ إِلاَّ فَقْرًا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِحَسَبِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ دَنَاءَةً، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأةً لَمْ يَتَزَوَّجْهَا إِلاَّ لِيَغُضَّ بَصَرَهُ، أَوْ يَحْفظَ فَرْجَهُ، أَوْ يَصِلَ رَحِمَهُ بَارَكَ اللهُ لَهُ فِيْهَا، وَبَارَكَ لَهَا فِيْهِ" (¬2). 9 - ومنها: القيادة، ودعوة المرأة الرجل إلى نفسها أو إلى غيرها. كما علمت من فعل عنيزة وصدوف قبحهما الله تعالى، وهذا من أكبر الكبائر لأنهما لم يدعوان مصدعًا وقدارًا إلى النكاح المباح، بل المحرم. والقيادة من النساء قبيحة جداً، لكنها من الرجال أقبح. وأول من قاد من خلق الله الشيطان، ومن أولاد آدم فيما بلغنا عنيزة بنت غنم الثمودية؛ قادت على بناتها لمصدع، ووعدته بهن إن ¬
10 - ومنها: الاغترار بالدنيا، والتأنق في جمعها وبنيانها، وإتقان البنيان وإحكامه أملا وأشرا.
عقر الناقة، وصدوف بنت المحيا قادت على نفسها لقدار، ووعدته بنفسها إن عقر الناقة. والمتشبهات بهما في ذلك ملعونات. 10 - ومنها: الاغترار بالدنيا، والتأنق في جمعها وبنيانها، وإتقان البنيان وإحكامه أملاً وأشراً. كما تقدم نظيره في عاد، لكن تميزت عنهم ثمود باتخاذ بيوتهم من الجبال؛ إذ كان الواحد منهم يبني البيت من المدر فكان ينهدم وبانيه حي، فاتخذوا من الجبال بيوتاً، وكانوا يغترون بطول الأعمار، وكثرة الزروع والثمار، وسعة الأموال، وحسن الحال، ولا يخافون هجوم الموت عليهم. ولذلك قال لهم أخوهم صالح عليه السَّلام: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)} [الشعراء: 146 - 148]؛ أي: ثمرها لطيف يانع نضيج {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)} [الشعراء: 149]. أي: حاذقين بنحتها وصناعتها. وهذه البيوت إلى هذا الوقت باقية في مدائن الحجر بطريق الحاج الشامي بين مبرك الناقة وقرية العلا، ينظر إليها الناس ويعتبر بها من كان من أهل البصائر والاعتبار. وقد أرشد الله تعالى السائرين في الأرض من هذه الأمة إلى النظر في آثار الأمم الماضية ليتذكروا ما صار لهم من الهلاك وخلو البلاد عنهم بعد ما عَمَروا وعمَّروا، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
11 - ومن قبائح ثمود: سوء الأعمال مع طول الأعمار.
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)} [الروم: 9]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [غافر: 21]. وقرأ ابن عامر (¬1): {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)} [غافر: 21، 22] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)} [يوسف: 109]. 11 - ومن قبائح ثمود: سوء الأعمال مع طول الأعمار. وكذلك حال قوم نوح، وقوم هود إلا أن قوم صالح تميزوا عنهم باتخاذ البيوت من الجبال كما قال تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)} [الفجر: 9]. ¬
12 - ومنها: الأشر والبطر، والفرح بالدنيا، والبخل بها، والتأنق في تحصيلها وتحصينها، والشره، والإعجاب بالنفس، وبما لها أو
قال مجاهد في تفسيرها: خرقوا الجبال فجعلوها بيوتاً. رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). وروى هؤلاء عن ابن عباس نحوه (¬2). وروى الترمذي، والحاكم وصححاه، والطبراني بإسناد صحيح، عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الناس خير؟ قال: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ". قال: فأي الناس شر؟ قال: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ" (¬3). وقلت: [من الطويل] أَلا إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ طالَ عُمُرُه ... وَقَدْ ساءَ مِنْهُ قَوْلُهُ وَفِعالُهُ فَبُعْداً لَهُ ما كانَ أَقْبَحَ حالَهُ ... وَأَقْبَحُ مِنْ دُنْياهُ حالًا ماَلُهُ 12 - ومنها: الأشر والبطر، والفرح بالدنيا، والبخل بها، والتأنق في تحصيلها وتحصينها، والشره، والإعجاب بالنفس، وبما لهَا أو ¬
مِنها، والأمن من مكر الله تعالى، وكفران نعمه. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)} [الحجر: 80 - 84]؛ أي: من الأموال والأملاك. وقوله: {آمِنِينَ}؛ أي: من عذاب الله وقضائه؛ يحسبون أن بيوتهم تمنعهم منه أو من مكره، أو من اللصوص والأعداء. وقال الله تعالى حكاية عن صالح عليه السَّلام يقول لقومه: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا} [الشعراء: 146]؛ أي: في الحجر، أو في الدنيا {آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)} [الشعراء: 146 - 149]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي: أَشِرين بَطِرين. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وقيل: فرحين. وقال مجاهد رحمه الله تعالى: شرهين. رواه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬2). ¬
والشره - بالتحريك - كما في "الصحاح": غلبة الحرص. ويقال منه: شره، وشرهان، كما في "القاموس" (¬1). وقال قتادة رحمه الله تعالى في الآية: معجبين بصنعكم. رواه عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬2). وفي القراءة الأخرى: {فَارِهِينَ}، وهو في "تفسير ابن عباس"، وغيره بمعنى: حاذقين (¬3). وقال عبد الله بن شداد رحمه الله تعالى: يتخيرون. وقال الضَّحَّاك رحمه الله تعالى: حاذقين: كيسين. رواهما عبد ابن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم (¬4). والكياسة والحذق بمعنى ذكاء القلب والظرافة، وبها يحصل تخير الشيء. وذلك أنهم كانوا يختارون في نحت البيوت ما هو الأوفق لنفوسهم من الهيئة، والصورة، والسعة والضيق. ¬
وحاصله أن حذقهم كان في دنياهم وما لا يجدي، وهذا حال أكثر الناس كما قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)} [الروم: 6 - 8]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7]: يعني: معايشهم؛ متى يغرسون، ومتى يزرعون، ومتى يحصدون. وفي رواية: يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وقال الحسن رحمه الله تعالى: ليبلغ من حذق أحدهم بأمر دنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه، وما يحسن يصلي. رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم. وكل ذلك من ثمرات البطر. قال أبو إسحاق الزجاج: والبطر: الطغيان بالنعمة (¬2). وهذا يرجع إلى كفران النعمة، أو هو أعظم أنواع الكفران، ¬
تنبيه
والكفران أشد أسباب زوال النعم، وهو بلاء سائر الأمم الهالكة كما قال الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)} [القصص: 58]. قلت: وفي الآية دليل على أن القوم وأهل القرية إذا بطروا المعيشة تهدَّموا وانفكَّ أمرهم، فلا يعودون إلى ما كانوا عليه، وقلما خربت قرية من القرى ورحل أهلها بسبب البطر فعادت إلى ما كانت عليه من العمارة - وإن رجعوا إليها - وهذا أمر مشاهد. * تنبِيْهٌ: في قول صالح عليه السلام: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)} [الشعراء: 146] إشارةٌ إلى أن الموت لا يترك أحداً؛ أي: أتتركون أنتم في الدنيا ولم يترك فيها قبلكم أحد، وهذا مما لا يكون. وقد كان بمكة شاب له أبوان مقعدان يقوم عليهما، ويحملهما إلى المسجد الحرام، فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَتْرُكُ الْمَوْتُ أَحَدًا لأَحَدٍ؛ لَوْ تَرَكَ أَحَداً لأَحَدٍ لترَكَ ابْنَ الْمُقْعَدَيْنِ". رواه البيهقي في "سننه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬1). ¬
13 - ومن أعمال ثمود، وأخلاقهم: تعيير أهل الدين بحرفتهم ونحوها مما تعده النفوس الطاغية نقصانا.
13 - ومن أعمال ثمود، وأخلاقهم: تعيير أهل الدين بحرفتهم ونحوها مما تعده النفوس الطاغية نقصاناً. ألا ترى إلى قولهم لصالح عليه السلام وقد قال لهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)} [الشعراء: 150 - 154]. قال في "الكشاف": المسَحَّر: الذي سحر كثيرًا حتى غلب على عقله (¬1). وروى عبد بن حميد عن [عاصم] أنه قرأ: {مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} مشدَّدةً، وقال: المسحر: السوقة الذي ليس بملك (¬2). وفي "القاموس": المسحر كمعظم: المحترف. واعلم أن من عير العالم أو الصالح بحرفته أو كسبه الذي لا يخالف فيه الشرع فهو أشبه الناس بثمود، وكذلك تعييره بالفقر أو بشيء من المباحات كتناول الطعام والشراب. وقد قيل في معنى قولهم لصالح: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)} [الشعراء: 185]: إنه من السحر - بالفتح وإسكان الحاء المهملة، وقد يضم أوله، ويقال بفتحتين أيضًا - وهو الرئة؛ أي: ممن لهم رئة يحتاجون إلى الطعام والشراب، وكل ذي رئة يكل ويشرب، وهو قريب من قول قريش: ¬
14 - ومنها: اكتساب الإثم، ورمي البريء به.
{مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] (¬1). 14 - ومنها: اكتساب الإثم، ورمي البريء به. فإن حالهم في الأشر والبطر مقرر بحيث إن الله تعالى أخبر به عنهم، ثم كانوا يرمون به صالحًا كما قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)} [القمر: 23 - 26]. وهذا الخُلق من شر الأخلاق، وأعظم الآثام. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)} [النساء: 112]. وقال بعض السلف: بحسب ابن آدم من الشر أن لا يكون صالحاً، ويقع في الصالحين. 15 - ومنها: الاستكثار من الشر. وقد قرئت الآية: {مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)} [القمر: 26] على صفة أفعل التفضيل. قال في "الكشاف": وهو الأبلغ في الشرارة. قال: والأَخْير والأَشَر أصل قولهم: هو خير منه وشر منه، وهو أصل مرفوض. ¬
16 - ومنها: الطغيان.
وقد حكى ابن الأنباري: تقول العرب: هو أخير وأشر، وما أخيره وما أشره (¬1). والشرارة والشرية نقيض الخير، كما في "القاموس" (¬2). ويقال فيه: شررت يا رجل - مثلثًا -. وقد روى ابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيْحُ لِلْخَيْرِ مَغَالِيْقُ لِلشَّرِ، وإنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيْحُ لِلشَّرِّ مَغَالِيْقُ لِلْخَيْرِ، فَطُوْبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيْحَ الْخَيْرِ عَلَىْ يَدَيْهِ، وَويلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيْحَ الشَرِّ عَلَىْ يَدَيْهِ" (¬3). واعلم أن الإكثار من الشر يوجب معرفة المكثر منه به كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: مَنْ أَكْثَرَ من شيء عُرِف به؛ كما رواه ابن أبي شيبة، والعسكري في "الأمثال" (¬4). 16 - ومنها: الطغيان. قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)} [الشمس: 11]. والطغوى، والطغو، والطغيان - بضم الطاء، وكسرها -: مجاوزة القدر، أو الغلو في الكفر، أو الإسراف في المعاصي والظلم، أو الارتفاع. ¬
قال في "الكشاف": والباء فيه؛ أي: في قوله تعالى: {بِطَغْوَاهَاَ} مثلها في: كتبت بالقلم (¬1)، يجعلها للاستعارة؛ أي: متقوية بطغواها. وقال القاضي: بسبب طغواها؛ يجعلها للسببية (¬2). قلت: ويحتمل أن تكون بمعنى مع، أو في؛ أي: كذبت متلبسة بطغياها مصاحبة له. وجعلها آخرون للتعدية؛ أي: بعذابها التي وعدت به (¬3). والطغوى اسم العذاب كالطاغية كما قال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)} [الحاقة: 5]؛ أي: الصيحة المجاوزة للحد في الشدة، والأخذ، والطغيان بسبب حلول الغضب والهلاك بالإنسان. قال الله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)} [طه: 81]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} يقول: لا تظلموا (¬4). وقال ابن زيد رحمه الله تعالى: الطغيان فيه أن يأخذه بغير حله. ¬
رواهما ابن أبي حاتم (¬1). واعلم أن الطغيان قد يكون في طلب المال كما فسرت به هذه الآية، فيكون تناول أموال الناس بالباطل. وقد يكون بسبب الغنى بالمال، ومنه قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7]. ولا أدري أي الطغيانين أشد إثمًا؛ لأن الأول سببه عدم الرضا بما قدره الله تعالى، والطمع فيما لم يأذن فيه الله، والثاني بسبب الطمع وعدم القناعة، والحسد، ومنازعة أمر الله تعالى، والكل مهلكات. ومن فتح عليه باباً من الطغيان يوشك أن لا يدع منه باباً إلا دخله، ولا حالًا إلا تلبس به، فيخشى عليه أن يهلك بالطاغية التي هلكت بها ثمود، أو ما يشاكلها. قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما: منهومان لا يشبعان: صاجا علم، وصاجا دنيا؛ فأما صاجا العلم فيزداد رضى الرحمن، ثم قرأ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان، ثم قرأ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7]. رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي موقوفًا (¬2). وروى صدره الطبراني، والقضاعي مرفوعاً عنه، والبزار عن ابن عباس، ¬
17 - ومنها: نقض عهد الله وميثاقه.
وابن عدي عن أنس رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْهُوْمَانِ لا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ، وَطَالِبُ دُنْيَا" (¬1). وقد مثل بعض الحكماء طلب الدنيا بشرب ماء البحر لا يروي (¬2). وأبلغ ما يشبه به الطغيان، وتناول أموال الناس واستملاؤها بالنار؛ كما ألقي فيها الحطب والحلفاء قويت، وكلما قويت أكلت ما ألقي فيها من ذلك، فهي تطلب في المرة الثانية من الأحطاب أكثر مما طلبت أولًا. 17 - ومنها: نقض عهد الله وميثاقه. وفي معنى ذلك عدم الوفاء بالنذر؛ فإن ذلك من أفعال ثمود حيث روح في القصة أنهم عاهدوا صالحاً عليه السلام إن أخرج لهم الناقة من الصخرة أن يؤمنوا به ويتبعوه، فلما أخرجها لهم أَنِفوا ¬
من قول الحق (¬1). وروى الحاكم وصححه، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: لما من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجر قال: "لا تَسْألُوا الآيَاتِ؛ فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالح فَبَعَثَ اللهُ لَهُمُ النَّاقَةَ، فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوا عَنْ أَمْرِ رَبِهِم، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ، فَأهْمَدَ اللهُ مَنْ تَحْتَ أَدِيْمِ السَّمَاءِ مِنْهُم إِلاَّ رَجُلاً وَاحِدًا كَان فِيْ حَرَمِ اللهِ تَعَالَى". قيل: من هو؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "أبَو رِغَالٍ". قال: "فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ" (¬2). ورغال - بكسر الراء، وبالغين المعجمة - قال في "القاموس": في "سنن أبي داود"، و"دلائل النبوة"، وغيرهما عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال: "هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ، وَهُوَ أَبُو ثَقِيْفٍ، وَكَانَ مِنْ ثَمُوْدَ، وَكَانَ بهَذَا الْحَرَمِ يَدفَعُ عَنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ الَّتِي أَهْلَكَت قَوْمَهُ بِهَذا الْمَكَانِ، فدُفِنَ فِيْهِ". الحديث. قال: وقول الجوهري: وكان دليلاً للحبشة حين توجهوا إلى مكة فمات في الطريق؛ غير جيد. قال: وكذا قول ابن سِيْده: وكان عبدًا لشعيب، وكان عشَّاراً ¬
18 - ومنها: تضييع الأمانة، والتعدي عليها.
جائراً، انتهى (¬1). وتمام الحديث الذي ذكره: "وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَب؛ إِنْ أَنتمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ". فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن (¬2). 18 - ومنها: تضييع الأمانة، والتعدي عليها. فإن الناقة كانت أمانة الله عندهم ووديعته لديهم، فخانوه فيها فعقروها، والمتعدي على الوديعة والأمانات ضامنٌ في شريعتنا، وآثم، ولعل هذا في سائر الملل؛ لأن حفظ الأمانة مكتوب على كل إنسان مكلف، بل لم يسقط الضمان فيها عن صغير ولا مجنون. وقد قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72]. وروى ابن جرير بسند ضعيف، عن الحكم بن عمير رضي الله تعالى عنه - وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الأمَانَةَ وَالْوَفَاءَ نزلا عَلَى ابنِ آدَمَ مَعَ الأنْبِيَاءِ، فَأُرْسِلُوا بِهِ؛ فَمِنهُمْ ¬
رَسُولُ اللهِ، وَمِنْهُمْ نبَيٌّ، وَمِنْهُمْ نبِيٌّ رَسُولٌ، وَنزلَ الْقُرْآنُ وَهُوَ كَلامُ اللهِ، وَنزلَتِ الْعَرَبِيَّةُ وَالْعَجَمِيَّةُ، فَعَلِمُوا أَمْرَ الْقُرْآنِ، وَعَلِمُوا أَمْرَ السُّنَنِ بِأَلْسِنَتِهِم، وَلَمْ يَدع اللهُ شَيْئًا مِنْ أَمْره مِمَّا يَأْتُوْنَ وَمِمَّا يَجْتَنِبُوْنَ - وَهِيَ الْحُجَجُ عَلَيْهِمْ - إِلاَّ بيَّنَهُ لَهُمْ، فَلَيْسَ أَهْلُ لِسَانٍ إِلاَّ وَهُمْ يَعْرِفُوْنَ الْحَسَنَ مِنَ الْقَبِيْحِ، ثُمَّ الأَمَانة أَوَّلُ شَيْءٍ يُرْفَعُ وَيَبْقَىْ أثَرُهَا فِيْ صُدُوْرِ قُلُوْبِ النَّاسِ، ثُمَّ يُرْفَعُ الْوَفَاءُ وَالْعَهْدُ وَالذِّمَمُ، وَتَبْقَىْ الْكُتُبُ؛ فَعَالِمٌ يَعْمَلُ، وَجَاهِل يَعْرِفُهَا ويُنْكِرُهَا وَلا يَحْمِلُهَا حَتَى وَصَلَ إِليَّ وإلَى أُمَّتِي، فَلا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلاَّ هَالِكٌ، وَلا يغْفلُهُ إِلاَّ تَارِكٌ، وَالْحَذَرَ؛ أَيُّهَا النَّاسُ، وإيَّاكُم وَالْوَسْوَاسَ الْخَنَاسَ؛ فَإِنَّمَا يَبْلُوْكُمْ؛ أَيُّكُم أَحْسَنُ عَمَلاً" (¬1). وروى البخاري في "تاريخه"، وأبو داود، والترمذي، والحاكم - وصححاه - عن أبي هريرة، والدارقطنيُّ عن أبي بن كعب، وهو والحاكم عن أنس، والطبرانيُّ عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنهم، كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَن خَانَكَ " (¬2). ¬
19 - ومنها: إقرار أهل المعاصي على معصيتهم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وروى الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا إِيْمَانَ لِمَنْ لا أَمَانة لَهُ، وَلا دِيْنَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَه" (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن علي رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثٌ لَيْسَ لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فِيْهِنَّ رُخْصَةٌ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، والوفاءُ بالعهد لمُسْلمٍ كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَأَدَاءُ الأَمَانَةِ إِلَىْ مُسْلِمٍ كَانَ أَوْ كَافِرٍ" (¬2). 19 - ومنها: إقرار أهل المعاصي على معصيتهم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإن عاقر الناقة واحد أو اثنان، أو هما مع مساعدة السبعة النفر، فنسب الله تعالى العقر إليهم أجمعين، فقال: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)} [الشمس: 14]، فسلط العذاب عليهم أجمعين لأنهم لم يأخذوا على يد الظالم منهم، بل كانوا راضين بعقر الناقة، والرضا بالمعصية عين المعصية. ¬
20 - ومنها: ذبح الحيوان الموقوف
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيْهِم بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ وَأَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ، ثُمَّ لَم يُغَيِّرُوْهُ إِلاَّ عَمَّهُمُ اللهُ مِنْهُ بِعَذَابٍ" (¬1). 20 - ومنها: ذبح الحيوان الموقوف لغير ضرورة داعية؛ كالشاة الموقوفة على الفقراء ليأكلوا من لبنها، والبعير الموقوف على من يحج من المساكين، والفرس الموقوفة على من يجاهد منهم، فليس لأحد أن يمسه بسوء، فمن فعل ذلك كان متشبهاً بثمود في عقر الناقة، وقد كان لبنها مسبلاً عليهم، والملك فيها كان لله وحده. وكذلك الموقوف من العقارات وغيرها في شريعتنا الملكُ فيها لله تعالى على الأصح، فالخيانة في الأوقاف بالإتلاف والتخريب والتعمير والبيع من هذا القبيل. بل كذلك الخيانة في الأموال المشتركة بين المسلمين كمال المصالح؛ كل ذلك فاعله متشبه بثمود في خيانتهم. 21 - ومنها: الاعتداء في الصدقة. روى الحاكم وصححه، والبيهقي من طريقه عن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه ساعياً ¬
فقال له: "لا تَخْرُجْ حَتَّىْ تُحَدِّثَ بِرَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ". فلما أراد الخروج أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا قَيْسُ! لا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىْ رَقْبَتِكَ بَعِيْرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لهَا خِوَارٌ، أو شَاةٌ لهَا يَعَارٌ، ولا تَكُنْ كأبي رِغَالٍ". فقال سعد: يارسول الله! وما أبو رغال؟ فقال: "مُصَدِّقٌ بَعَثَهُ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ فَوَجَدَ رَجُلاً بِالطَّائِفِ فِيْ غُنِيْمَةٍ قَرِيْبَةٍ مِنْ الْمِئَةِ شَصَاصٍ إِلاَّ شَاةً وَاحِدَةً، وَابْنٍ لَهُ صَغِيْرٍ لا أُمَّ لَهُ، فَلَبَنُ تِلْكَ الشَّاةِ عَيْشُهُ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الغَنَمِ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنا رسُوْلُ رسُوْلِ اللهِ. فَرَحَّبَ، وَقَالَ: هَذهِ غَنَمِي؛ فَخُذْ مَا أَحْبَبْتَ. فَنَظَر إِلَىْ الشَّاةِ اللَّبُوْنِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: هَذَا الْغُلامُ كَمَا تَرَى لَيْسَ لَهُ طَعَائم وَلا شَرَابٌ غَيْرُهَا. قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ اللَّبَنَ فَأَنَا أُحِبُّهُ. فَقَالَ: خُذْ شَاتَيْنِ مَكَانها، فَأَبَىْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يزِيْدَهُ وَيَبْذُلُ حَتَّى بَذَلَ لَهُ خَمْسَ شِيَاهٍ شَصَائِصَ مَكَانها، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَىْ عَمَدَ إِلَى قَوْسِهِ فَرَمَاهُ، فَقَتَلَهُ، وَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لأَحِدٍ أَنْ يَأْتِي رَسُوْلَ اللهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِهَذَا الْخَبَرِ قَبْلِي، فَأَتَى صَاحِبُ الْغَنَمِ صَالِحًا النَّبِيَّ، فَقَالَ صَالِحُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا رِغَالٍ، اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا رِغَالٍ".
فائدة
فَقَالَ سعد: يا رسول الله! أعف قيسًا من السعاية (¬1). * فائِدَةٌ: من عتو الحجاج بن يوسف: ما أخرجه المعافى بن زكريا في "الأنيس والجليس" عن عوانة قال: خطب الحجاج الناس بالكوفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل العراق! تزعمون أنا من بقية ثمود؟ وتزعمون أني ساحر؟ وتزعمون أن الله علمني اسمًا من أسمائه أقهركم به؟ وأنتم أولياؤه بزعمكم؟ وأنا عدوه؟ فبيني وبينكم كتاب الله - عز وجل -: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [هود: 66]، فنحن بقية الصالحين إن كنا من ثمود. وقال تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} [طه: 69]، والله أعدل في حكمه من أن يعلم عدواً من أعدائه اسمًا من أسمائه يهزم به أولياءه. ثم حمي وكثر كلامه، فتحامل على رمانة المنبر فحطمها، فجعل الناس يتلاحظون بينهم وهو ينظر إليهم: يا أعداء الله! ما هذا الترامز؟ إنا حُذيا الظبي السانح، والغراب الأبقع، والكوكب ذي الذنب. ثم أمر بذلك العود فأصلح قبل أن ينزل عن المنبر (¬2). ¬
والحُذَيا كالثريا من: حذوته - بالحاء المهملة، والذال المعجمة -: تَبعته، وعملت مثل عمله. قال ابن الأنباري: الحذيا أن يحذى الرجل الرجل، فيقول: افعل كذا حتى أفعله، ثم يفعل كفعل أخيه. ومعنى كلام الحجاج: إنا نفعل بالناس من الخير والشر ما يتوقعونه من سنوح الطير، وشؤم الغراب، وإشارة الكوكب المذنب؛ فإن الناس يرجون بالأول حصول الخير واليُمن، ويخافون من الثاني وقوع البلاء والسوء، ويستدلون بالثالث على حدوث النوائب والنوازل، فكان يقول: إن أمره محقق، وإنه ظاهر التأثير في الخير والشر، وهذا من غلوه في عتوه. ***
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ «وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ» تَألِيف العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة 977 هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة 1061 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى تَحقِيقَ وَدِرَاسَة لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ بِإِشْرَافِ نُورِ الدِّين طَالِب المُجَلَّد السَّابِعُ دَارُ النَّوادِرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ (7)
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 7 - 84 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
(6) باب النهي عن التشبه بالرهط التسعة من ثمود
(6) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالرَّهْطِ التَّسْعَةِ مِنْ ثَمُودَ
(6) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالرَّهْطِ التَّسْعَةِ مِنْ ثَمُودَ وهم يشتملون على ما ذكرنا من قبائح ثمود، ويزيدون عليها قبائح أخرى. قال الله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)} [النمل: 48]؛ أي: لا يتركون من الفساد شيئًا، ولا يفعلون من الصالحات شيئًا. قال الضحاك رحمه الله تعالى: كان هؤلاء التسعة عظماء المدينة (¬1). وروى عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى قال: كانوا يقرضون الدراهم والدنانير (¬2). ويروى مثله عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى (¬3). ¬
وهذا سفالة لا تليق بالعظماء والأكابر؛ فلعلهم كانوا يأمرون بذلك من يفعله، كما يفعله الآن في هذه الأمة فسَّاق الحكام، ينهون عن مثل ذلك جهراً ويأمرون به سراً ليختلسوا أموال الناس، كما يفعلون كذلك مع الصاغة والصناع الذين يضربون السكة (¬1) من مصانعتهم، وموافقتهم على الزَّغَل وزيادة العيار. وقال زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى: كانوا يكسرون الدراهم، وذلك من الفساد في الأرض (¬2). وقيل: كانوا يتبعون عورات الناس ولا يسترون عليهم (¬3). والظاهر أن الفساد أعم من ذلك، وما ذكر بعض أفراده. وقال في "القاموس": الفساد: أخذ المال ظلمًا (¬4). وقال حكاية عن صالح عليه السلام: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)} [الشعراء: 150 - 152]. يعني: التسعة رهط؛ لأن الله تعالى وصفهم بذلك في الآية السابقة، وكان الفساد متمحضًا فيهم لا يخالطه شيء من الصلاح، ولا سهم لهم فيه. ¬
قال في "الكشاف": وأسماؤهم عن وهب: الهُديد بن عبد ربه، غَنْم ابن غنم، رئباب بن مُهَرَّج، مِصْدَع بن مُهَرَّج، عُمير بن كُرْدبة، عاصم بن مخرمة، سُبَيط بن صدقة، سمعان بن صفي، قُدار بن سالف (¬1). والهديد مصغر. وغَنْم بن غنم: بفتح المعجمة، وإسكان النون فيهما. ورئباب: بكسر الراء بعدها همزة. ابن مهرج: بضم الميم، وفتح الراء مشددة. ومصدع: بكسر الميم، وفتح الدال المهملة. وعمير: مصغر. ابن كردبة: بضم الكاف، وإسكان الراء، والدال المهملة بعدها موحدة. وسبيط: بضم المهملة، وفتح الموحدة؛ مصغر. وصفي: فعيل غير مصغر. وقدار: بضم القاف، وتخفيف الدال المهملة؛ وقيل: بفتح القاف، وتشديد الدال، واقتصر عليه في "القاموس". وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في التسعة الرهط؛ قال: كان أساميهم: رعمى، ورعيم، وهرمى، وهريم، ¬
وذات، وهوات، ورباب، ومسطع، وقدار بن سالف عاقر الناقة (¬1). وهرمى على وزن حرمى، وهوات مشدَّد. وقال مجاهد، وغيره: إن ثمود لما عقروا الناقة وَعَدَهم صالح عليه السلام بالعذاب بعد ثلاثة أيام، فاتفق هؤلاء التسعة - وكان منهم عاقر الناقة - وتحالفوا على أن يأتوا دار صالح عليه السلام ليقتلوه وأهلَه، قالوا: فإن كان كاذبًا في وعيده أوقعنا به ما يستحق، وإن كان صادقًا كنا عجلناه قبلنا، وشفينا نفوسنا؛ فذلك قوله تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} [النمل: 49] أي: ما حضرنا قتلهم {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)} [النمل: 49، 50] (¬2). قال ابن عباس - رضي الله عنه -: أتى التسعة رهط إلى دار صالح عليه السلام شاهرين سيوفهم، فقتلتهم الملائكة عليهم السلام رضخاً بالحجارة، فكانوا يرون الحجارة ولا يرون من يرميها (¬3). وقال قتادة: خرجوا مسرعين إلى صالح عليه السلام، فسلط الله عليهم مَلَكًا بيده صخرة فقتلهم. وقال السُّدِّي في قوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ ¬
1 - فمنها: المكر والفتك.
أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} [النمل: 51] بالحجارة، أو بالصخرة، أو بالخسف {وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)} [النمل: 51] (¬1). أي: بالصيحة التي أهلكتهم؛ صاح جبريل عليه السلام بهم صيحة فخمدوا، وكان ذلك ضحوة يوم الأحد، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء (¬2). فقد اشتملت قصة هؤلاء الرهط التسعة على قبائح زيادة على ما تقدم من أعمال ثمود، ليتعين اجتنابها على كل مسلم. 1 - فمنها: المكر والفتك. قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)} [النمل: 50، 51]. وفيه إشارة إلى أن عاقبة المكر وخيمة. وفي كتاب الله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]. ومن عجيب أمر المكر أن صاحبه يمكر بالمسلم وهو يبصر من حيث يمكر، وكيف يتوصل إلى أذاه، ولا يبصر ما يترتب على مكره بأخيه من سوء العاقبة، بل قد يبصر ما يصلح به مكره من جهة، ولا يبصر ما يفسد مكره من جهة أخرى، ويبصر ما يضر به أخاه خفية، ¬
2 - ومنها: قرض الدينار والدرهم، وكسرهما.
ويخفى عليه ما ينساق إلى نفسه من ضرر فعله حتى ينفذ فيه أمر الله تعالى، ويظهر فيه سر مكره من حيث لا يشعر كما قال تعالى: {وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)} [النمل: 50]. ومن هنا يجب على العبد أن يكون خائفًا من مكر الله تعالى أبدًا خصوصًا في حال مخالفته لأمره مع انغماره في بره. 2 - ومنها: قرض الدينار والدرهم، وكسرهما. وهذا من أعظم الفساد في الأرض؛ فإن الدراهم والدنانير إذا كانت تامة صحاحاً قام معناها وظهرت فائدتها، وإذا قرضت أو كسرت صارت سلعة، وبطلت فائدتها، فأضر ذلك بالناس. وفي قرضها من اختلاس أموال الناس وإفساد معاملتهم ما لا يخفى. وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الحاكم عن عبد الله المزني رضي الله تعالى عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس (¬1). ومَرَّ سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى برجل قد جلد فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يقطع الدراهم والدنانير. قال: هذا من الفساد في الأرض، ولم ينكر جلده. ¬
3 - ومنها: اتباع عورات الناس، وتقصد فضيحتهم.
3 - ومنها: اتباع عورات الناس، وتقصُّد فضيحتهم. وذلك منهي عنه في شريعتنا. قال الله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]. وروى الإمام أحمد، وأبو داود عن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه، وأبو يعلى عن البراء - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ! لا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِم؛ فَإِنَّ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ أَخِيْهِ الْمُسْلِمَ يَتَّبِعُ اللهُ عَوْرتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرتَهُ يَفضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ" (¬1). 4 - ومنها: التعاون على الإثم، وخصوصاً على قتل المؤمن، والتحاض على ذلك، والتحالف عليه. وكل ذلك من أقبح المعاصي. روى الترمذي وحسنه، عن أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما كليهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِيْ دَمِ مُؤْمِنٍ لَكَبَّهُمُ اللهُ فِي النَّارِ" (¬2). ¬
5 - ومنها: العزم على القتل، والحلف عليه، والعزم على الكذب والجحود، والحلف عليهما.
وتقدم حديث: "مَنْ أَعَانَ عَلَىْ قَتْلِ مُسْلِمٍ وَلَوْ بِشطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللهَ مَكْتُوْبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِن رَحْمَةِ اللهِ" (¬1). 5 - ومنها: العزم على القتل، والحلف عليه، والعزم على الكذب والجحود، والحلف عليهما. وكل ذلك ليس من أفعال المؤمنين. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ لَيْسَ الْخِيَانة وَالْكَذِبَ" (¬2). وهذا وغيره من أنواع الفساد في الأرض فاشٍ في هذه الأعصار. وقد روى البيهقي في "الشعب" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى: أنه قرأ هذه الآية: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48] الآية؛ قال: وكم اليوم في كل قبيلة من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون (¬3). ¬
وإذا كان هذا في أيام مالك بن دينار وزمانه، فما ظنك بزمانك وإخوانه؟ والعاقل من لا يغتر بترهات الزمان، ولا يثق من زمانه بعهد ولا أمان، بل يعلم أن الموت ولو بعد حين آت، وأنه كادح إلى ربه كدحاً فملاقيه، ويعتبر بأحوال الأمم السالفة كيف لم يَدفع الموت عنهم قواهم، ولا أبعد الحِمام عنهم ثراؤهم وغناهم، وما انتفعوا بطول الأعمار ولا بسَعة الديار، ملكوا البلاد بَرهة، وفتكوا بنواحيها، ثم هلكوا فكأنْ لم يغنَوا فيها. وقد روى الدينوري في "المجالسة" عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: أنه كان يستحسن شعر عدي بن زيد حيث يقول: [من الخفيف] أَيْنَ أَهْلُ الدِّيارِ مِن قَوْمِ نُوحٍ ... ثُمَّ عادٌ مِنْ بَعْدِهِم وَثَمُودُ بَيْنَما هُم عَلى الأَسِرَّةِ وَالأَنْـ ... ـماطِ أَفْضَتْ إِلى التُّرابِ الْخُدُودُ ثُمَّ لَمْ يَنْقَضِ الْحَدِيْثُ وَلَكِنْ ... بَعْدَ ذا الْوَعْدُ كُلُّهُ وَالْوَعِيْدُ وَأَطِبَّاءُ بَعْدَهَمُ لَحِقُوهُمْ ... ضَلَّ عَنْهُمْ سُعُوْطهُمُ واللّدُودُ وَصَحِيْحٌ أَضَحَى يَعُوْدُ مَرِيضًا ... وَهْوَ أَدْنىَ لِلْمَوْتِ مِمَّنْ يَعُوْدٌ (¬1) وفي معنى البيتين الأخيرين ما رواه أبو نعيم وغيره: أن الربيع بن خثيم رحمه الله تعالى أنه أصابه فالج، فقيل له: لو تداويت؟ ¬
تنبيه
فقال: هممت، ثم ذكرت عاداً وثمود، وقرونا بين ذلك كثيرًا؛ كانت فيهم الأوجاع، وكان فيهم الأطباء، فهلك المُدَاوي والمُدَاوى (¬1). ويروى لأبي العتاهيَة: [من الكامل] إِنَّ الطَّبِيبَ بِطِبِهِ وَدَوائِهِ ... لا يَسْتَطِيع دِفاعَ مَكْرُوهٍ أَتَى ما لِلطَّبِيْبِ يَمُوتُ بِالدَّاءِ الَّذِي ... قَدْ كانَ يُبْرِي مِنْهُ فِيما قَدْ مَضى ذَهَبَ الْمُداوَى وَالْمُداوِي وَالَّذِي ... جَلَبَ الدَّواءَ وَباعَهُ وَمَنِ اشْتَرَى وقد ذكرنا في التشبه بالأنبياء عليهم السَّلام أن استحسان التداوي، أو ترك التداوي إنما هو باعتبار النية، لأن الأعمال بالنيات؛ والله الموفق. * تَنْبِيْهٌ: ليس في كتاب الله تعالى ما يدل على أن الله تعالى كلَّف قومَ نوح، أو قوم هود، أو قوم صالح بالصَّلاة مع قطع النظر عن كون الصلاة ذات ركوع وسجود وقيام وقعود أو لا. بل دل الكتاب على أن هؤلاء لم يقبلوا الإيمان بالكلية، ولا صدقوا الرَّسل في كونهم مرسلين، وإنما تكون الشرائع بعد قبول الإيمان، ومن ثَمَّ قال دانيال عليه السَّلام في نعت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: يصلون صلاة لو صلاها قوم نوح ما غرقوا، أو عاد ما أرسلت عليهم ¬
الريح العقيم، أو ثمود ما أخذتهم الصيحة. رواه عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في تفسير قوله تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} [المعارج: 22، 23]؛ قال: ذكر لنا أن دانيال عليه السلام نعت هذه الأمة فقال؛ وذكره. قال قتادة: فعليكم بالصلاة؛ فإنها خُلُق من أخلاق المؤمنين حَسَنٌ (¬1). وروى الدينوري في "المجالسة" عن عبد الرحمن بن الحارث، عن عمر بن حفص؛ قال: وكان رحمه الله تعالى من خيار الناس قال: كان عند أبي وجدي ورقةٌ يتوارثونها قبل الإسلام بزمان، فيها: بسم الله، وقوله الحق، وقول الظالمين في تباب: هذا الذكر لأمة تأتي في آخر الزمان يأتزرون على أوساطهم، ويغسلون أطرافهم، ويخوضون في البحر إلى عدوهم، فيهم صلاة لو كانت في قوم نوح ما هلكوا بالطُّوفان، وفي قوم ثمود ما هلكوا بالصيحة. قال: فأخبرني أنهم جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمرهم أن يحتفظوا بها (¬2). والظاهر أن أول ما شُرعت الصلاة ذات الفعال - وإن لم يكن على مثل صلاة هذه الأمة سواء - لإبراهيم عليه السلام. ¬
روى ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ما ابتلي بهذا الدين فقام به كله إلا إبراهيم عليه السلام؛ قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]. قيل: ما الكلمات؟ قال: سهام الإسلام ثلاثون سهمًا؛ عشرة في براءة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة: 112]، إلى آخرها، وعشرة في أول سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} [المؤمنون: 1]، {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج: 1]، {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)} [المعارج: 26] الآيات، وعشرة في الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات} [الأحزاب: 35]، إلى آخر الآية، فأتمهن كلهن، فكتب له براءة؛ قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: 37] (¬1). وروى الحاكم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: إن الله تعالى أنزل على إبراهيم عليه السلام مما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة: 112] إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوية: 112]، و {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} [المؤمنون: 1] إلى قوله تعالى: {فِيهَا خلِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11]، {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية، والتي في سأل: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} [المعارج: 23]، فلم يف بهذه السهام إلا إبراهيم، ومحمد صلى الله عليهما وسلم (¬2). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وأبو نعيم عن نوف البَكَالي رحمه الله تعالى قال: قال إبراهيم عليه السلام: يا رب! إنه ليس في الأرض أحد يعبدك غيري. فأنزل الله تعالى ثلاثة آلاف ملك، فأمَّهم ثلاثة أيام (¬1). أي: أمَّهم في الصلاة كما تقدم [عن] (¬2) كعب رحمه الله تعالى أن الله تعالى أنزل ملائكة يصلون مع إبراهيم عليهم السلام. فالظاهر أن أول من كلف بالصلاة فأقامها إبراهيمُ عليه السلام وآل بيته، وأول من كلف بها فلم يقمها قومُه. فالمقيم الصلاةَ متشبه بإبراهيم وآل بيته عليهم السلام، وتاركها متشبه بقوم إبراهيم فمن بعدهم ممن كلف بها فتركها. وإنما قيدنا الصلاة بذات الأفعال احترازاً عن الصلاة بمعنى الدعاء والاستغفار؛ فإنها مشروعة لسائر الأمم، ولذلك أمر نوح وهود وصالح عليهم السلام أقوامهم بالاستغفار، فمن ترك الاستغفار إصراراً على العصيان فهو متشبه بقوم نوح فمن بعدهم من الأمم المصرة. *** ¬
(7) باب النهي عن التشبه بنمرود وقومه
(7) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِنَمْرُودَ وَقَوْمِهِ
(7) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِنَمْرُودَ وَقَوْمِهِ وهو بضم النون، وداله مهملة كما في "القاموس" (¬1). وهو كما رواه ابن أبي حاتم عن السدي رحمه الله تعالى: نمرود ابن كوش بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام. وهو أول ملكٍ ملكَ في الأرض شرقها وغربها (¬2). وهو أول من لبس التاج، وأول من دعا إلى عبادة نفسه قبحه الله تعالى. وروى عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة رحمه الله تعالى قال: كنا نحدَّث أن ملكاً يقال له: نمرود بن كنعان هو أول ملك تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل (¬3). وروى ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258]؛ قال: ¬
نمرود بن كنعان، يزعمون أنه أول من ملك في الأرض (¬1). وقوله: نمرود بن كنعان، نسبه إلى جده ليجمع بينه وبين ما سيق عن السدي، وهو أحد الملكين الكافرين اللذين ملكا الأرض. قال مجاهد رحمه الله تعالى: ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة: مؤمنان وكافران؛ فالمؤمنان: سليمان بن داود عليهما السلام، وذو القرنين، والكافران: بخت نصر، ونمرود، لم يجمع ملكها غيرهم؛ أي: لم يملك جميعها غيرهم. رواه عبد بن حميد، وابن جرير (¬2). قال القرطبي: وهو أول من صلب، وأول من قطع الأيدي والأرجل (¬3). قيل: وكان له كهَّان ومنجِّمون، فقالوا له: يولد في بلدك هذا في هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض، ويكون هلاكك وزوال ملكك على يده. وقيل: وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام. وقيل: رأى منامًا فعبر بذلك، فأمر بعزل النساء عن الرجال، ووكل بكل رجل رجالاً، وإذا حاضت المرأة خلِّي بينها وبين بعلها، ¬
وكانوا لا يجامعون في الحيض، فإذا طهرت حيل بينهما، فرجع آزر والد إبراهيم إلى امرأته، فوجدها قد طهرت، فواقعها، فحملت بإبراهيم عليه السلام (¬1). قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما حملت أم إبراهيم عليه السلام به قالت الكهان لنمرود: إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملت أمه الليلة، فأمر بقتل الغلمان، فلما دنت ولادة أم إبراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يظفروا به فيقتلوه، فلما وضعته لفَّته في خرقة، وتركته في نهر يابس في حلفاء، ثم رجعت فأخبرت به بعلها، فانطلق إليه أبوه وحفر له سرباً، فواراه فيه، وسد عليه بصخرة مخافة السباع، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه، وكان يشب كل يوم كشهر، وكل شهر كسنة، فلما بلغ خمسة عشر شهراً قال لأمه: أخرجيني، فأخرجته عشاء، فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني، وأطعمني وسقاني لربي الذي لا إله غيره. وقيل: مكث في السرب سبع سنين. وقيل: ثلاث عشرة. وقيل سبع عشرة. ثم نظر في السماء فرأى كوكباً، فناظر أمه أو أباه في ألوهيته ¬
وألوهية القمر والشمس حتى أبطلها (¬1). وقيل: كانت هذه المناظرة مع قومه حين برز للناس فوجدهم يعبدون الكواكب، وناظر أباه في عبادة الأصنام، وكان أبوه يصنع الأصنام ويعطيها لإبراهيم ليبيعها، فيذهب بها إبراهيم وينادي عليها: من يشتري ما يضره ولا ينفعه، فلا يشتريها أحد، فإذا باتت عنده ذهب بها إلى نهر فضرب رؤوسها، فقال: اشربي استهزاءً بأبيه وقومه، وما هم عليه من الضلالة والجهالة (¬2). وبالغ في نصيحتهم باللطف تارة، وبالعنف أخرى، وآخرًا تبرأ منهم. وكان من مناظرته لهم في عبادة الأصنام أن قال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)} [الأنبياء: 52 - 54]؛ أي: في خطأ بيِّن {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)} [الأنبياء: 55 - 57]. قال مجاهد، وقتادة: إنما قال ذلك إبراهيم سراً من قومه، ولم يسمع ذلك منه إلا رجل واحد، فأفشاه عليه، وهو القائل: {قَالُوا ¬
سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)} [الأنبياء: 60]. رواه عنهما ابن جرير، وابن المنذر، وغيرهما (¬1). قال السدي رحمه الله تعالى: كان لهم في كل سنة عيد، وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها، ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان العيد قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم! لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فخرج معهم إبراهيم عليه السلام، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه، وقال: إني سقيم؛ يقول: أشتكي رجلي. ذكره الثعلبي، وغيره (¬2). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصافات: 89]: مطعون. رواه ابن جرير (¬3). وقال سفيان رحمه الله تعالى: طعين. قال: وكانوا يفرون من الطاعون. رواه ابن أبي حاتم (¬4). فلما مضوا عنه نادى في آخرهم - وقد بقي ضعفاء الناس - فقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] إلى آخره، فسمعوه منه. ثم رجع إلى بيت الأصنام فإذا قد جعلوا طعامًا فوضعوه بين يديها، وقالوا: إذا رجعنا وقد برَّكت الآلهة طعامنا أكلنا، فلما نظر ¬
إبراهيم عليه السلام إليهم وإلى مما بين أيديهم من الطعام قال لهم استهزاء: {أَلَا تَأْكُلُونَ (91)} [الصافات: 91]، فلما لم يجيبوه قال: {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)} [الصافات: 92، 93]، وجعل يكسرها بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الكبير؛ علق الفأس في عنقه، ثم خرج كما قال الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} [الأنبياء: 58]؛ أي: حطامًا {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)} [الأنبياء: 58]، فلما رجعوا من عيدهم، ورأوا أصنامهم مكسرة {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا} [الأنبياء: 59 - 61]؛ كرهوا أن يأخذوه بغير بينة (¬1). قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى: لعلهم يحضرون عقابه نصرة لآلهتهم (¬2). فلما جاؤوا به {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)} [الأنبياء: 62، 63]. غضب على الأصنام، ولم يرض أن تعبد الصغار معه، فكسرهم وأراد إظهار الحجة عليهم كما قال: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا ¬
عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)} [الأنبياء: 65 - 68]. فلما اجتمعوا لحرق إبراهيم عليه السلام حبسوه في بيت، وبنوا له بنيانًا كالحظيرة، ثم جمعوا له الحطب شهراً، وأوقدوا على الباب أيامًا، فلما تأججت النار لم يقدروا على إلقائه فيها، فجاءهم الشيطان وعلَّمهم عمل المنجنيق فعملوه، ووضعوه، وألقوه في النار، فصارت عليه بردًا وسلاماً. قال مقاتل: ولما أخرج نمرود إبراهيم ليحرقه بالنار قال له: يا إبراهيم! من ربك الذي تدعوننا إليه؟ قال: ربي الذي يحمى ويميت؛ أي: يوجد ويعدم. قال: أنا أحيي وأميت .. إلى آخر المناظرة (¬1). وقال غير مقاتل: كانت هذه المناظرة قبل ذلك. قال بعضهم: كان نمرود يحتكر الطعام، وكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه، فإذا دخلوا عليه سجدوا له، فدخل إبراهيم عليه السلام ولم يسجد، فقال له: مالك لا تسجد؟ قال: أنا لا أسجد إلا لربي. ¬
1 - فمنها: لباس ما هو من زي النساء من التاج المتخذ من الحرير المكلل بالدر والياقوت وغير ذلك، ومن الأردية والأقبية المتخذة من ذلك مما يحرم على الرجال.
قال له نمرود: فمن ربك؟ قال إبراهيم: ربي الذي يحيى ويميت (¬1). واعلم أني لم أرد أن أذكر القصص بأطرافها في هذا الكتاب، وإنما أذكر مَحالًّا يقع الانتقاد فيها على تلك الأمم ليجتنب التشبه بهم فيها، وقد اشتمل ما ذكرناه فيها عن نمرود وقومه على أمور قبيحة: 1 - فمنها: لباس ما هو من زي النساء من التاج المتخذ من الحرير المكلل بالدر والياقوت وغير ذلك، ومن الأردية والأقبية المتخذة من ذلك مما يحرم على الرجال. وقد حكى ابن دقيق العيد عن بعضهم: أن الحكمة في تحريم الحرير التشبه بالكفار. واستَدَلَّ له الحافظُ زين الدين العراقي بحديث حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تَلْبَسُوا الدِّيْبَاجَ وَالْحَرِيْرَ، وَلا تَشْرَبُوْا فِيْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضةِ، وَلا تأْكُلُوْا فِيْ صِحَافِهَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ". رواه الأئمة الستة (¬2). وروى الشيخان، وأبو داود، والنسائي عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رأى حلة سيراء عند باب المسجد فقال: ¬
2 - ومنها: الدعوة إلى عبادة النفس، وإعطائها فوق حقها.
يا رسول الله! لو اشتريت هذه ولبستها يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذهِ مَنْ لا خَلاقَ لَه" (¬1). 2 - ومنها: الدعوة إلى عبادة النفس، وإعطائها فوق حقها. ونمرود في ذلك أسبق من فرعون، والمتشبهون بهما في ذلك هم الدجاجلة، وهم على قسمين: فمنهم من يدعو إلى اتباعه جهارًا. إما لدعوة النبوة كالدجاجلة الثلاثين المشار إليهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -."إِنَّ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ ثَلاثِيْنَ دَجَّالاً كَذَّابًا". رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬2). روي أن هؤلاء يدَّعون النبوة. وفي حديث آخر: إنهم سبعون (¬3). وإما لدعوى الألوهية كالأعور الذي يقتله عيسى عليه السلام، وهو الذي أنذر به كلُّ ذنبي كما روى الترمذي عن أنس رضي الله تعالى ¬
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ نبَيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أَنْزَرَ أُمَّتَهُ الأَعْوَرَ الْكَذَّابَ، أَلا إِنَّهُ أَعْوَرٌ وَإِن رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَر، مَكْتُوْب بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَفَرَ" (¬1). ومنهم: من يدعو إلى اتباعه وعبادته بالمعنى المفهوم من حاله كمن يريد من الناس أن يرفعوه في المجالس، ويعظِّموه في الخطاب لتزكية نفسه لا لغرض ديني، وهذا حال أكثر المفترين الجاهلين أقدارهم، المتعدين أطوارهم، بل هو حال كل ذي نفس إلا ما رحم ربي. قال سهل بن عبد الله التستَري رحمه الله تعالى: للنفس سر، وما ظهر ذلك السر على أحد إلا على فرعون حيث قال: أنا ربكم الأعلى (¬2). وقد بيَّن شيخ الإسلام الجد رحمه الله تعالى هذا السر، فقال في التحذير من النفس في ألفيته المسماة بِـ: "الجوهر الفريد في أدب الصوفي والمريد": [من الرّجز] مَطْلُوبُها بِأَنْ نكُوْنَ ضِدَّا ... لِلَّهِ فِي مَطْلُوْبِهِ وَندَّا قَدْ طَلَبَ الثَّناءَ وَالْمَدْحَ لَه ... وَهْيَ تُرِيْدُ أَنْ تَكُوْنَ مِثْلَه وَطالَبَ الْعِبادَ أَنْ يَجْتَنِبوا ... خِلافَهُ وَهْيَ كَذَاكَ تَطْلُبُ وَطَلَبَ الْوَصْفَ بِجُودٍ وَكَرَم ... وَطَلَبَتْ ذَاكَ لَها وَلا جَرَم ¬
3 - ومن أخلاق نمرود: التجبر - وهو التكبر - وقهر الغير، والاستيلاء عليه، أو على ماله، أو عرضه.
وإنَّهُ مالِكُهُم عَزَّ وَجَل ... وَطَلَبَتْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجَل وقد زدنا هذه الأبيات إيضاحًا في "منبر التوحيد". 3 - ومن أخلاق نمرود: التجبر - وهو التكبر - وقهر الغير، والاستيلاء عليه، أو على ماله، أو عرضه. والجبار: كل عات متمرد. والمتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقًا، فهو بين الجبرية [والجبرياء - مكسورتين - والجبرية] (¬1) - بكسرات - والجبروة، والجبروتي، والجبروت [- محركات -] (¬2)، والتجبار، والجبروة - مفتوحات - والجبروة، والجبروت - مضمومتين - كما في "القاموس" (¬3). والتجبر إنما يظهر ممن في قلبه القسوة والاحتقار للغير، والاستصغار له، ورؤية الفضل لنفسه فقط، ودعوى الحول والقوة لها. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْجَبَرُوْتُ فِيْ الْقَلْبِ". رواه الحافظ أبو بكر بن لال في "مَكَارِمِ الأَخْلاقِ"، وأبو نعيم عن جابر رضي الله تعالى عنه (¬4). وكان نمرود أول ملك تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ¬
ببابل. أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة (¬1). وروى عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أن أول جبار كان في الأرض نمرود، كان جباراً أربعمئة سنة، فعذبه الله تعالى ببعوضة دخلت منخره، فمكث أربعمئة سنة يضرب رأسه بالمطارق؛ أي: ليسكن إليه، وأرحم الناس به من جمع يديه ثم ضرب بهما رأسه (¬2). والتجبر من أعظم الكبائر. قال الله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)} [إبراهيم: 15]. وروى الترمذي، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي عن أسماء بنت عُميس رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ وَاخْتَالَ، وَنسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَال، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ وَاعْتَدَى، وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الأَعْلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَا وَلَهَا، وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ عَتَا وَطَغَى، وَنَسِيَ الْمُبْتَدَا وَالْمُنتهَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتل الدُّنْيَا بِالدّينِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتل الدّينَ بِالشُّبُهَاتِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوًى يُضِلُّهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّه" (¬3). ¬
وتخيل، واختال بمعنى: تكبر، والعطف تفسيري. والمعنى أنه لم يدع من الخيلاء بابًا حتى دخله، أو تخيل تكلف الخيلاء، واختال فعلها من غير تكلف. ويختل الدنيا بالدين؛ أي: يطلبها بعمل الآخرة. ويختل الدين بالشبهات؛ أي: يروغ عنه، ويخادع فيه. وروى ابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني رحمه الله تعالى قال: آية الجبار القتل بغير حق (¬1). وعن عكرمة رحمه الله تعالى قال: لا يكون الرجل جباراً حتى يقتل نفسين (¬2). كأنه أخذه من قوله تعالى حكاية عن القبطي لموسى: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 19]. وروى ابن جرير عن الشعبي رحمه الله تعالى قال: من قتل رجلين فهو جبار، ثم تلا الآية (¬3). وروى ابن أبي حاتم عن سفيان رحمه الله تعالى قال: الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب (¬4). ¬
وعن العوَّام بن حَوشب رحمه الله تعالى قال: إنك لا تكاد تجد عاقاً إلا تجده جبارًا، ثم قرأ هذه الآية: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)} [مريم: 32] (¬1). وكذلك شأن الأنبياء عليهم السلام كلهم. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَرَأَيْتُمْ سُلَيْمَانَ وَمَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنْ مُلْكِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَىْ السَّمَاءِ تَخَشُّعَا للهِ تَعَالَى حَتَّى قَبَضَهُ الله". أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد عن سلامان بن عامر الشيباني بلاغًا (¬2). وقال الله تعالى لأفضلهم - صلى الله عليه وسلم -: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]؛ أي: لست عليهم بمسلَّط تفعل بهم ما تريد، إنما أنت داع، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} [ق: 45]. ونظيره قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 21، 22]؛ أي: بمتسلط. ويقال: منه سوطر عليهم، ويسيطر، وتسطير. ويقال: تصيطر - بالصاد - بمعناه. ومعنى قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]، النهي -وإن ¬
كان لفظه الخبر - ولذلك قال مجاهد في تفسيره: لا تتجبر عليهم (¬1). وقال قتادة في الآية: إن الله كره لنبيكم الجبرية، ونهى عنها، وقدم فيها (¬2). رواهما ابن جرير، وابن المنذر. وروى الحاكم في "المستدرك" عن جرير - رضي الله عنه - قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل تَرْعُد فرائصه فقال: "هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّمَا أنا ابْنُ امْرَأةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيْدَ فِي هَذهِ الْبَطْحَاءِ"، ثم تلا جرير: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] (¬3). وكذلك ينبغي للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء التواضع، والتنزه عن التكبر والتجبر؛ فإن منشأهما الجهل بالأمور، وخصوصاً الجهل بمعرفة النفس. والأنبياء أعرف الناس بأخلاق النفوس، ومع ذلك قال قائلهم: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]. وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التعوذ من شر النفس (¬4)، فالعالم إذا جهل بنفسه تكبر، ثم تجبر، فإذا علم بنفسه تواضع. ¬
ومن هنا قال - صلى الله عليه وسلم -: "تَوَاضَعُوا لِمَن تَعْلَّمُوْنَ مِنْهُ، وَتَوَاضَعُوْا لِمَن تُعَلّمُوْنَ، وَلا تَكُوْنُوا جَبَابِرَةَ الْعُلَمَاءِ". أخرجه الخطيب في "الجامع" (¬1). وقال عمر رضي الله تعالى عنه: لا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يفي علمكم بجهلكم (¬2). قال حجة الإسلام رحمه الله تعالى في "الإحياء": ما أعز على بسيط الأرض عالما يستحق أن يقال: إنه عالم، ثم إنه لا يحركه عز العلم وخيلاؤه، فإن وجد ذلك فهو صديق زمانه، فلا ينبغي أن يفارق، بل يكون النظر إليه عبادة، فضلاً عن الاستفادة من أنفاسه وأحواله. قال: ولو عرفنا ذلك - ولو في أقصى الصين - لسعينا إليه رجاء أن تشملنا بركته، وتسري إلينا سيرته وسجيته، وهيهات، فأنى يسمح آخر الزمان بمثلهم، بل يَعِزُّ في زماننا عالم يختلج في نفسه الأسف والحزن على فوات هذه الخصلة، فذلك أيضًا إما معدوم وإما عزيز، ولولا بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِعُشْرِ ¬
مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ نَجَا" (¬1) لكان جديراً بنا أن نقتحم - والعياذ بالله - ورطة اليأس والقنوط مع ما نحن عليه من سوء أعمالنا. قال: ومن لنا أيضًا بالتمسك بعشر ما كانوا عليه، وليتنا تمسكنا بعشر عشره، فنسأل الله تعالى أن يعاملنا بما هو أهله، وأن يستر علينا قبائح أعمالنا كما يقتضيه كرمه وفضله، انتهى (¬2). وهذا الذي قاله رضي الله تعالى عنه لا يتوصل إلى فهمه الآن كما فهمه إلا بقوارع الوعيد لمن وفقه الله تعالى، ونبهه لإيرادها على نفسه الأمَّارة بالسوء حتى تنزجر عن الطغيان والجبروت. وقد روى الترمذي وحسنه، وغيره عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَكَبَّرُ وَيَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّىْ يُكْتَبَ فِي الْجَبَّارينَ، فَيُصِيْبَهُ مَا أَصَابَهُمْ" (¬3)؛ أي: من العذاب والفتنة والهلاك. ¬
وروى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَحَاجَّت النَّارُ وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِرِينَ وَالْمُتَجَبِرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لا يَدْخُلُنِي إِلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسقَطُهُمْ وَعجزُهُم؟ فَقَالَ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمْ مِلْؤُهَا". الحديث (¬1). وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ، وَأُذْناَنِ تَسْمَعَانِ، وَلِسَان يَنْطِقُ يَقُوْلُ: إِنِّي وُكّلْتُ بِثَلاثَةٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَالْمُصَوّرِينَ" (¬2). وعن محمد بن واسع رحمه الله تعالى قال: دخلت على بلال بن أبي بردة فقلت له: يا بلال! إن أباك حدثني عن أبيه؛ يعني: أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ فِي جَهَنَّمَ وَادِيًا فِي الْوَادِي بِئْرٌ يُقَالُ لَهُ: هَبْهَب، حَقًّا عَلَىْ اللهِ أَنْ يُسْكِنَهُ كُلَّ جَبَّارٍ، فَإِيَّاكَ يَا بِلالُ أَنْ ¬
تَكُوْنَ مِمَّنْ يَسْكُنُهُ". أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وسنده حسن (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن عمرو بن شعواء - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ستةٌ لعَنتهم، وكلُّ نبيٍّ مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذِّب بقدَرِ الله، والمستحِلّ من عِترتي ما حرَّم الله، والتارك لسنتي، والمستأثر بالغي، والمتجبر بسلطانه ليعِزَّ من أذلَّه الله، ويُذِلّ من أعزَّه الله" (¬2). وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "البر والصلة" عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام: يا معشر الجبابرة! كيف تصنعون إذا وضع المنبر للقضاء؟ يا معشر الجبابرة! كيف تصنعون إذا لقيتم ربكم الجبار فرادى (¬3)؟ وروى أبو نعيم في "الحلية" عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: عليك بالقصد في معيشتك، وإيّاك أن تتشبه بالجبابرة، وعليك بما تعرف من الطعام والشراب، واللباس، والمركب، ولتكن أهل مشورتك أهل التقوى، وأهل الأمانة، ومن يخشى الله (¬4). ¬
ويحصل التشبه بالجبارين بكل فعل أو قول يشعر برؤية النفس، ورؤية ما لها دون ما عليها، والإعجاب برأيها وحالها كالتبختر، ورفع الصدر، والمرح في المشي، وتصعير الخد للناس، والتقدم عليهم في المجالس، والطعن عليهم بما في طيه تبرئة النفس منه، وكالتحجب والتمتع بالخُدَّام والأعوان، وغير ذلك. قال ابن وهب: جلست إلى عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، فمس فخذي فخذه، فنحيت بسرعة، فأخذ ثيابي فجرني إلى نفسه، وقال لي: لم تفعلون بي ما تفعلون بالجبابرة، وإني لا أعرف رجلاً منكم شراً مني. نقله في "الإحياء" (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: أول من مشت الرجال معه وهو راكب: الأشعث بن قيس الكندي، ولقد أدركت السلف وهم إذا نظروا إلى رجل راكب ورجل تحصر معه قالوا: قاتله الله؛ جبارٌ (¬2). وعن سليمان بن عنز: أنه لقي كريب بن أبرهة راكباً وراءه غلام له، فقال: سمعت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه يقول: لا يزال العبد يزداد من الله بعداً كما مُشي خلفه (¬3). وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: أمَ والله لئن تدقدقت ¬
لهم الهماليج، ووطئت الرجال أعقابهم؛ إن ذل المعصية في قلوبهم، ولقد أبى الله أن يعصيه عبد إلا أذله (¬1). وروى الحاكم وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره أن يطأ أحد عقبه، ولكن يمين أو شمال (¬2). وروى الإمام أحمد عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل متكئاً، ولا يطأ عقبه رجلان (¬3). وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدفع عنه الناس، ولا يضربون عنه (¬4). وكل هذه الأمور الظاهرة على الجوارح والهيئات إنما تنشأ عن جبروت القلب، وكلما تمكن الجبروت من القلب ظهرت تلك الأمور على الجوارح، وهي المعبَّر عنها بالتجبر، وعن فاعلها بالجبار، وإنما تَعَظَّم وتكثر بعظمة الجبروت في القلب، وبقدر عظمة وظهور تلك الأمور الناشئة عنه تكون العقوبة لارتكاب العبد الذليل المخلوق من غير شيء، ثم من شيء تافه حقير، ثم نزع إلى ما لا يليق به من صفات ¬
المربوب، وتوسَّع في طلبها، فاستوجب أوسع العقوبة كما قال تعالى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)} [مريم: 67 - 69]؛ أي: تكبراً وتجبراً {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)} [مريم: 70]. وهذه العقوبة التي يظهر سلطانها في الآخرة تظهر أماراتها في الدنيا بالطبع على القلوب بحيث إن ذويها لا يهتدون إلى خير، ولا تظهر عليهم آثار الرحمة لانتزاعها من قلوبهم، بل تظهر منهم آثار القسوة والجبروت. قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} [غافر: 35]. وقرأ أبو عمرو، وابن ذكوان هذه الآية بتنوين قلب على وصفه بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما، كما يقال: سمعت أذني، ونظرت عيني، ووعى قلبي (¬1). وهو أحسن من حَمْلِه على حذف المضاف؛ أي: على كل ذي قلب؛ فإن القلب في الحقيقة هو المتكبر الجبار؛ فإن الجوارح كالرعية له المنقادة إليه، فقد يبعثها في مقتضى طبعه وخلقه، فتظهر منها آثار جبروته، وقد ينطوي بطبعه وخلقه دونها لضعفه وعدم تمكنه بما يعرض عليه من عجز أو فقر، ثم لا يخفى منه ذلك الخلق حتى تظهر ¬
منه فلتات عند إمكانه الغرض، فيعلم من حاله أنه لولا العجز والقصور لتبسط في إظهار تلك الآثار كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ابن منيع، وابن أبي أسامة، وأبو الشيخ عن علي رضي الله تعالى عنه: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيُكْتَبُ جَبَّاراً وَما يَمْلِكُ غَيْرَ أَهْلِ بَيْتِهِ" (¬1). وروى أبو نعيم في "حليته" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق، ومرت امرأة سوداء، فقال لها رجل: الطريق. فقالت: الطريق؟ الطريق يَمْنة وَيسْرة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوْهَا؛ فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ" (¬2). وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر في طريق وامرأة جالسة تسأل من مر بها، فقال لها بعض أصحابه: الطريق، الطريق. فقالت: إن شاء أخذ يمنة أو يسرة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تَزْعُمُ أَنَّهَا مِسْكِيْنَةٌ". فقالَ: "إِنَّ ذَاكَ فِي قَلْبِهَا". ¬
4 - ومن أعمال نمرود وقومه ما لم يرد الشرع به من العقوبات، وخصوصا لمن لا يستحق عقوبة، والمثلة، وتعذيب الناس في غير قصاص ولا تأديب مأذون فيه.
فقد أطلت في هذا الفصل استغناء به عن عقد باب في النهي عن التشبه بالجبارين، ونمرود كان من أشدهم جبروتًا، وسائر أعماله الآتية ناشئة عن جبروته قبحه الله تعالى. 4 - ومن أعمال نمرود وقومه ما لم يرد الشرع به من العقوبات، وخصوصًا لمن لا يستحق عقوبة، والمُثلة، وتعذيب الناس في غير قصاص ولا تأديب مأذون فيه. فإن هذا من جملة التمرد، والعناد، والظلم، والعتو، والفساد كما يقع كثيرًا من ظَلمة الولاة وعُتاة الأجناد. وقد روى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود عن هشام بن حكيم ابن حزام: أنه من بالشام على أناس وقد أقيموا في الشمس، وصبَّ على رؤوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل: يعذبون في الخراج. فقال: أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِيْنَ يُعَذّبُوْنَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا". وفي رواية: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه فحدثه، فأمر بهم فحُلوا. وفي رواية أن هشام بن حكيم رضي الله تعالى عنهما وجد رجلًا وهو على حمص يشمِّس ناسًا من القبط في أداء الجزية (¬1). ¬
5 - ومنها: أخذ الرجل بذنب غيره.
5 - ومنها: أخذ الرجل بذنب غيره. وهذا يقع لحكام هذا العصر كثيرًا؛ ربما تغيَّب الرجل فأخذوا أباه أو أمه، أو أخاه، أو قريبه، وربما أخذوا جاره وألزموه بإحضاره. روى الإمام البيهقي في "سننه" عن عمرو بن أوس قال: كان الرجل يؤخذ بذنب غيره حتى جاء إبراهيم عليه السلام؛ قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: 37]؛ قال: بلغ {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)} [النجم: 38] (¬1). وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الولي بالولي حتى كان إبراهيم عليه السلام، فبلغ: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)} [النجم: 38]؛ لا يؤخذ أحد بذنب غيره (¬2). وذكر ابن عبد ربه في كتاب "العقد" عن الشيباني قال: ورد على الحجاج بن يوسف سليك بن سلكة فقال: أصلح الله الأمير! أعرني سمعك، واغضض عني بصرك، واكفف عني غربك (¬3)؛ فإن سمعت خطأ أو زللاً فدونك والعقوبة. قال: قل. قال: عصى عاصٍ من عرض العشيرة، فحلق على اسمي، وهدم منزلي، وحرم عطائي. ¬
6 - ومنها: اتخاذ الشرط والجلاوزة، ومن يأخذ الناس ويروعهم.
قال: هيهات أو ما سمعت قول الشاعر: [من الكامل] جانِيكَ مَنْ يَجْنِي عَلَيْكَ وَقَدْ ... تُعْدِي الصِّحاحَ مَبارِكُ الجُربِ وَلَرُبَّ مَأخُوْذٍ بِذَنْبِ عَشِيْرَةٍ ... وَنَجا الْمُقارِفُ صاحِبُ الذَّنْبِ فقال: أصلح الله الأمير! إني سمعت الله يقول غير هذا. قال: وما ذاك؟ قال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)} [يوسف: 78، 79]. فقال الحجاج: علي بيزيد بن أبي مسلم. فمثل بين يديه، فقال: افكك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابن له منزله، وأمر منادياً ينادي: صدق الله وكذب الشاعر (¬1). 6 - ومنها: اتخاذ الشرط والجلاوزة، ومن يأخذ الناس ويروعهم. وهذا يتفق في هذه الأمة، وقد جاء أنه من أشراط الساعة. ولا بأس للوالي باتخاذ من يرسله وراء الخصوم، ومن يباشر بين يديه الحدود والتعزيرات، وإنما المنكر ترويع البرآء، وأخذ الناس بالظلم والعنف، ومعاقبتهم بالتمثيل والتنكيل، وحمل الجلاوزة للأسواط التي هي مثل أذناب البقر ونحوها لترويع الناس. ¬
7 - ومنها: التنجيم والتكهن، وتصديق المنجم والكاهن.
وأول من اتخذ الأعوان والشرط في الظلم والجور: نمرود. وقد روى أبو نعيم في "الحلية" عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى: أنه مر ومعه بعض صحابه بشرطي نائم، وقد حان وقت الصلاة، فذهب صاحبه يحركه، فصاح سفيان به، فقال: يا أبا عبد الله! يصلي. قال: دعه لا صلى الله عليه، فما استراح الناس حتى نام هذا. وعنه أنه قال: إن استرشدك أحد من هؤلاء الطريق فلا ترشده (¬1). 7 - ومنها: التنجيم والتكهن، وتصديق المنجم والكاهِن. وهذا هو الغالب الآن على أكثر الولاة والحكام حتى القضاة، بحيث إن من يتكهن لهم أو ينجم متسترًا بالتجفر والأوفاق (¬2)، خصوصًا إذا وافق ما يخبرهم به قدرًا ولو في أمر جزئي يحبونه ويعظمونه، ويصلونه ويكرمونه، ولو كذب في عشر رجاء أن يصح خبره في واحدة. وإنما يباح من علم النجوم ما يعرف به أوقات الصلاة ومراسم العبادة، وما عدا ذلك فهو من أعمال الجاهلية. وأول من خاض في ذلك بغير علم: نمرود وقومه. قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصافات: 88، 89]. ¬
أوهم قومه أنه يعتقد ما يعتقدونه في النجوم من نسبة النفع والضرر، والصحة والسقم إليها. قال زيد بن أسلم: أرسل إليه ملكهم؛ يعني: نمرود فقال: إن لنا عيدًا فاخرج إليه، قال: فنظر إلى نجم فقال: إن ذا النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي، فتولوا عنه مدبرين. أخرجه ابن أبي حاتم (¬1). وقال سعيد بن المسيب: كايد نبي الله عن دينه. أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬2). قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تعلَّموا من النجوم ما تهتدوا به في ظلمات البر والبحر، ثم أمسكوا (¬3). وأخرجه ابن السني، والديلمي من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعًا، ولفظه: " تَعَلَّمُوْا مِنْ أَمْرِ النّجُوْمِ مَا تَهْتَدُوْنَ بِهِ فِيْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَانتهوا" (¬4). وقال منصور الفقيه فيما ذكره عنه الخطيب في كتاب "القول في النجوم ": [من المتقارب] ¬
8 - ومنها: منع أحد الزوجين عن الآخر خشية حصول الولد،
إِذا كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ النُّجُو ... مَ تَضُرُّ وَتَنْفَعُ مَنْ تَحْتها فَلا تُنْكِرَنَّ عَلى مَنْ يَقُو ... لُ بِأَنَّكَ بِاللهِ أَشْرَكْتَها (¬1) وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُوْلُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَىْ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أتى كَاهِنًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، حُجِبَتْ عَنْهُ التَّوْبَةُ أَرْبَعِيْنَ لَيْلَةً؛ فَإِنْ صَدَّقَهُ بِمَا قَالَهُ كَفَرَ" (¬3). 8 - ومنها: منع أحد الزوجين عن الآخر خشية حصول الولد، وهو تعنت ممنوع منه، والعزل في معناه، وهو مكروه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَاكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ". رواه مسلم (¬4). ودليل الجواز قول جابر رضي الله تعالى عنه: كنا نعزل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا. رواه مسلم أيضًا (¬5). ¬
9 - ومنها: قتل الأطفال، والأمر بقتلهم.
9 - ومنها: قتل الأطفال، والأمر بقتلهم. وهو من أقبح أنواع القتل المحرم، ومن ثم لا يباح قتل ذراري المشركين، وقد أوجب الشرع الشريف في الجنين الغرة، مع أنه لم تتحقق له حياة لعظم إتلاف النفوس عند الله تعالى. وأما قتل الخضر عليه السلام للغلام فشيء أمره الله تعالى به لما سبق في علم الله تعالى من أنه لو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفراً. 10 - ومنها: القتل من حيث هو، والأمر به ما لم يكن قصاصاً ولا حداً. وهذا معلوم من أحوال نمرود وغيره من جبابرة الملوك. روى الإمام أحمد عن مرثد بن عبد الله، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القاتل والآمر، فقال: "قُسِّمَت النَّارُ سَبعِيْنَ جُزْءًا؛ لِلآمِرِ تِسْعَةٌ وَسِتُوْنَ جُزْءًا، وَلِلْقَاتِلِ جُزْءٌ، وَحَسْبُهُ (¬1)؛ أي: ويكفيه جزؤه. وقوله: "قُسِّمَتِ النَّارُ"؛ أي: المعدَّه في عقوبة القتل. 11 - ومنها: عبادة الكوكب، واعتقاد أنهَا مؤثرة، وأنها تضر وتنفع. وقال منصور الفقيه كما رواه عنه ابن السبكي، وغيره: [من مجزوء الرَّجز] ¬
12 - ومنها: اتخاذ الأصنام، وعبادتها.
مَنْ كانَ يَخْشَى زُحَلاً ... أَوْ كانَ يَرْجُو الْمُشْتَرِي فَإِنّنَي مِنْهُ وَلَوْ ... كانَ أَبِي الأَدْنى بَرِي (¬1) 12 - ومنها: اتخاذ الأصنام، وعبادتها. وهو من أقبح أنواع المعاصي، وأشد الكفر. وقريب من اتخاذها عمل آلات اللهو المحرمة، وقد علمت أن أول من اتخذها أولاد قابيل. 13 - ومنها: اعتقاد أن الحذر يدفع القدر. وقد روى الديلمي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ" (¬2). ورواه الحاكم في "المستدرك"، ولفظه: "لا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ" (¬3). 14 - ومنها: الفرار من الطاعون مع أنه لا يرد شيئًا من قدر الله تعالى. قال الله تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)} [الأحزاب: 16]. ¬
وذكر أبو الحسن المدائني: أنه قلما فر من الطاعون أحد فسلم. واستنبطه الشيخ تقي الدين السبكي من هذه الآية، وهو ظاهر. وقال ولده الشيخ تاج الدين: إنه مجرب، وليس ببعيد أن يجعل الله تعالى الفرار منه سببًا لقصر العمر. وقال ابن قتيبة في "مختلف الحديث": حدثني سهل قال: حدثني الأصمعي عن بعض البصريين: أنه هرب من الطاعون، فركب حماراً ومضى بأهله نحو سفوان، فسمع حاديًا يحدو خلفه وهو يقول: [من الرَّجز] لَنْ يُسْبقَ الله عَلى حِمارِ ... وَلا عَلى ذِي ميعةٍ طَيَّارِ أَوْ يأتِي الْحَتْفُ عَلى مِقْدارِ ... قَدْ يُصْبحُ اللهُ أَمام السَّارِي ثم وقع به الطاعون قبل الصباح، فهلك منه (¬1). وروى الشيخان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بِسَرْغ لقيه أمراء الأجناد؛ أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فد عوتهم، فاستشارهم، فاختلفوا، فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم، فاختلفوا، فقال: ارتفعوا عني. ¬
فقال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجِرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف عليه رجلان؛ فقالوا: نرى أن نرجع بالناس ولا ندعهم على هذا الوباء. فنادى عمر رضي الله تعالى عنه في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة - رضي الله عنه -: أفرارًا من قدر الله؟ [فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله] (¬1)، أرأيت لو أن لك إبلاً كثيرة فهبطت واديًا له عُدْوتان؛ إحداهما خصبة، والأخرى جَدْبة، ألست إن رعيت الخصبة رعيتها بإذن الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه - وكان متغيباً في بعض حاجته - فقال: إن عندي من هذا لعلمًا؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بأَرْضٍ فَلا تَقْدُمُوْا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ". قال: فحمد اللهَ عمرُ، ثم انصرف (¬2). وسرغ - بفتح السين المهملة، وإسكان الراء، وبالغين المعجمة - مدينة بالشام افتتحها أبو عبيدة بن الجراح هي واليرموك، والجابية، والرمادة متصلة. ¬
وفي "المطالع" عن مالك: أن سرغ قرية بوادي تبوك من طريق الشام، وهي آخر عمل الحجاز (¬1). قال أبو عمر بن عبد البر: الطاعون موت شامل لا يحل لأحد أن يفر من أرض نزل فيها إذا كان من ساكنيها، ولا أن يقدم عليه إذا كان خارجًا عن الأرض التي نزل بها. وقال ابن السبكي: مذهبنا - وهو الذي عليه الأكثر - أن النهي عن الفرار منه للتحريم؛ قال: واتفقوا على جواز الخروج لشغل غرض غير الفرار (¬2). ويدل للتحريم ما رواه الإمام أحمد، وغيره عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْفَارُّ مِنَ الطَّاعُوْنِ كَالفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ" (¬3). ورواه الإمام أحمد، وابن خزيمة في "صحيحه" عن جابر - رضي الله عنه -، وزاد فيه: "وَالصَّابِرُ فِيْهِ كَالصَّابِرِ فِي الزَّحْفِ" (¬4). وقد علم من قصة عمر المارَّة رضي الله تعالى عنه: أن الامتناع من دخول بلد الطاعون ليس من الفرار منه ولا فيه معناه، وإنما هو من باب الأخذ بالحزم والحذر، والدفع للأوهام المشوشة، والخوف عليه ¬
من سوء الاعتقاد. ومن هذا الباب حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: "لا يُوْرَدُ مُمْرِضٌ عَلَىْ مُصِحٍّ". رواه الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، وابن ماجه (¬1). وحديثه أيضًا: "لا عَدْوَى، وَلا طَيَرَةَ، وَلا هَامَّةَ، وَلا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُوْمِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ". رواه البخاري (¬2). وفي قوله: "مِنَ الْمَجْذُومِ" بعد نفي الطيرة والعدوى إشارةٌ إلى أن ذلك ليس من هذا الباب، وكذلك الحديث. قيل: بل هو من باب الخوف على ضعفاء الأمة من سوء الاعتقاد، وإلا فقد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد مجذوم فوضعها مَعَهُ في القصعة، وقال: "كل بسم الله، ثقةً بالله، وتوكلاً عليه". رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬3). وأمَّا وجه النهي عن الفرار من بلد الطاعون فقال بعض العلماء: إن الطاعون إذا وقع في البلد عمَّ جميعَ من فيه بمداخلة سببه، فلا يفيد الفرار منه مع ما ينضاف إلى ذلك من مشقات السفر المزعجة للبدن، المضاعِفة للألم، ومن ثم كان الأصح أن تصرفات الصحيح في بلد الطاعون حال وقوعه كتصرفات المريض مرض الموت. ¬
15 - ومن قبائح قوم نمرود: تسمية الحق والعدل ظلما في قولهم: {من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين (59)} [الأنبياء: 59].
وأيضاً لو توارد الناس على الخروج من البلد بقي من وقع به الطاعون عاجزاً عن الخروج، فضاعت مصالح المرضى لفقد من يتعهدهم، والموتى لفقد من يجهزهم؛ والله أعلم. 15 - ومن قبائح قوم نمرود: تسمية الحق والعدل ظلماً في قولهم: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)} [الأنبياء: 59]. وفي معناه محمد المعروف منكرًا، والقيام بالحق تعديًا، كما يتفق لحكام زماننا من إنكار فسقتهم على من ينكر أخذ المكوس، أو يعرض إليهم في رفع الظلامات، ويقولون: إنه خائن في مال السلطان، مقصر في أمر الخزينة، وربما كان هذا ذنبًا عظيمًا عندهم، وربما جعلوه سببًا لعزل كثير من الولايات. والحاصل أنهم يسمون الأمانة خيانة، والخيانة أمانة، وهذه من أقبح أخلاق النماردة. 16 - ومنها: حضور من يضرب، أو يقتل، أو يهان ظلماً حيث قالوا: {فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)} [الأنبياء: 61] كما تقدم عن ابن إسحاق. وهذا محرم في شريعتنا لمن لا يقدر على الدفع عن المظلوم، وهو حال غوغاء الناس ورذالهم في اتباع من يمثل به ويطاف به ليقتل أو ليعزر، وهو لا يستحق شيئًا من ذلك، وكذلك مشاهدة كل منكر من غير إنكار لمن يمكنه التغيب عنه أو الإنكار. وقد روى البيهقي بسند حسن، عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقِفَنَّ عِنْدَ رَجُلٍ يُقْتَلُ مَظْلُوْمًا؛ فَإِنَّ اللَّعْنَةَ تَنْزِلُ عَلَى مَن حَضَرَه". قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْبَغِي لامْرِئٍ شَهِدَ مَقَامًا فِيهِ حَقٌّ إِلاَّ تَكَلَّمَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يُقَدمَ أَجَلُهُ، وَلَنْ يَحْرِمَهُ رِزْقًا هُوَ لَهُ" (¬1). قال في "الإحياء": وهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز دخول دُور الظلمة والفسقة، ولا حضور المواضع التي يشاهد المنكر فيها ولا يقدر على تغييره. قال: ولا يجوز له مشاهدة المنكر من غير حاجة اعتذارًا بأنه عاجز. قال: ولهذا اختار جماعة من السلف العزلة لمشاهدتهم المنكرات في الأسواق والأعياد والمجامع، وعجزهم عن التغيير، وهذا يقتضي لزوم الحجرة، انتهى (¬2). ومن هنا يعرف تحريم الدوران في الأسواق حين تزين بالحرير والصور لبشارة ونحوها للنظر إليها، والتنزه فيها. وقد نص على تحريمه ابن الرفعة، وغيره؛ وإن وقع ذلك ممن يتظاهر في أزمنتنا بالعلم فلا يعتد به لأنهم ليسوا بقدوة، ولا تورطهم ¬
17 - ومن أعمال النماردة: الردة وجحود الحق بعد الاعتراف به.
في ذلك يعارض به منقول المذهب؛ والله الموفق. 17 - ومن أعمال النماردة: الردة وجحود الحق بعد الاعتراف به. ألا ترى أنهم نكسوا على رؤوسهم بعد ما رجعوا إلى أنفسهم، وقالوا: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)} [الأنبياء: 64]؟ والردة من أعظم أنواع الكفر، ويكفي في تهويل أمرها أن المرتد لا يقر بعهد ولا أمان، ولا يقبل منه إلا الإسلام أو يقتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين. روى الإمام أحمد، والبخاري، والأربعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوْهُ" (¬1). ورواه الطبراني من رواية عصمة بن مالك رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "مَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِيْنِهِ" (¬2). 18 - ومنها: العقوبة بحرق النار. ويحرم في شريعتنا تعذيب الحيوان بالنار فضلاً عن الإنسان ¬
19 - ومنها: الإشارة بالأمر من غير روية ولا تأمل، والإشارة بالسوء وبما لا يحل فعله.
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ". رواه أبو داود عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬1). والمراد برب النار الذي خلقها قطعًا. وما روي عن الخلفاء الأربعة من تحريق اللوطي بالنار فإنه كان حين لم يبلغهم الحديث. 19 - ومنها: الإشارة بالأمر من غير رَوِيَّة ولا تأمُّل، والإشارة بالسوء وبما لا يحل فعله. ألا ترى إلى قولهم: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 68]؛ فإن هذا كان إشارة من بعضهم حين تجاوزوا في أمر إبراهيم عليه السلام، وتشاوروا فيه. وروى ابن جرير عن مجاهد قال: تلوت هذه الآية على عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال: أتدري يا مجاهد من الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام بالنار؟ قلت: لا. قال: رجل من أعراب فارس؛ يعني: الأكراد (¬2). ¬
20 - ومنها: التقليد لغير من هو قدوة، وضعف الرأي،
وقرأت بخط والدي رحمه الله تعالى: أن الكردي الذي أشار بالتحريق يقال له: هِزَر. وقال "الكشاف": إن الذي أشار بإحراقه نمرود (¬1). 20 - ومنها: التقليد لغير من هو قدوة، وضعف الرأي، والاسترواح في الدين لما وقع في محاورتهم لإبراهيم عليه السلام حين قال لهم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)} [الأنبياء: 52، 53]. قال في "الكشاف" عند هذه الآية: ما أقبح التقليد، والقول المتقبَّل بغير برهان! وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حتى استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل، وعفَّروا بها جباههم، وهم معتقدون أنهم على شيء، وجادون في نصرة مذهبهم، مجادلون لأهل الحق على باطلهم، وكفى أهل التقليد سُبة أن عبدة الأصنام منهم، انتهى (¬2). ولم يكن التقليد مخصوصًا بقوم إبراهيم عليه السلام، بل هو شأن سائر الأمم يدعوهم إليه مترفوهم، ويحتجون به لهم وعنهم؛ لأن بطرهم وإترافهم منعهم من النظر في الأمور، وأخذها من أدلتها مستروحين إلى التقليد لأنهم يجدونه أهون عليهم. ولقد حكى الله تعالى التقليد عن الأمم بعد أن ذم به قريشًا، فقال: ¬
21 - ومنها: الجهل، والحيرة، والحماقة.
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف: 22، 23]. وإنما قالت قريش: مهتدون، ولم يقولوا كالأمم: مقتدون زعمًا منهم أنهم أرباب العقول كآبائهم، وأنهم لم يقلدوهم إلا في هدى، وهم كاذبون في ذلك، ولذلك رد الله عليهم بقوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)} [الزخرف: 24]. إنما قال: {بِأَهْدَى} على وجه إرخاء العنان للخصم ليظهر عليه الحجة كأن يقول: هب أن ما أنتم عليه وآباؤكم من قبلكم هدى -وإن كان ليس من الهدى في شيء- فلو جئتكم بأهدى منه أكنتم تتبعونه وتؤمنون به؟ وفيه دليل على أن الأهدى والأصح أولى بالعمل به، بل لا يعدل عنه: {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)} [الزخرف: 24]. وهذا غاية العناد، ونهاية الامتناع عن قبول الحق، وإغراق في الحمية، وغلو في التهالك والضلال؛ فلذلك عوجلوا بالعقوبة بالقحط والقتل كما قال تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)} [الزخرف: 25]. 21 - ومنها: الجهل، والحيرة، والحماقة. قال ابن جريح: خرج إبراهيم عليه السلام من النار يعرق لم
22 - ومنها: الاحتكار.
تحرق النار إلا وثاقه، فأخذوا شيخًا منهم، فجعلوه على نار كذلك، فاحترق. ورواه ابن المنذر، وأخرجه عنه ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: 70]: ألقوا شيخاً في النار منهم لأن يصيبوا نجاته كما نجا إبراهيم، فاحترق (¬1). أراد ابن جريح أن الله تعالى رد كيدهم في نحورهم، فخسروا صاحبهم حين رأوا النار صارت برداً وسلامًا على إبراهيم، فحسبوها أنها كذلك على غيره، فألقوا صاحبهم فيها ليبصروا نجاته منها، وأي غباوة وجهل أعظم من هذا؛ يرون الوثاق قد احترق، وإبراهيم قد نجا، والبصيرة تشهد بذلك أن نجاته مع احتراق الوثاق إنما هي معجزة له تصديقًا لما جاء به من الحق، وإبطال أمر آلهتهم، فزعموا أن هذه الخصوصية لكل من ألقي في تلك النار. وقيل: إن ذلك الشيخ المحترق أبو لوط عم إبراهيم، قال: إن النار لم تحرق إبراهيم من أجل قرابته مني، فأرسل الله عنقاً من النار فأحرقته. رواه عبد بن حميد عن سليمان بن صرد (¬2). 22 - ومنها: الاحتكار. وهو شراء القوت في زمن الغلاء، وحبسه ليبيعه عندما تمس حاجة الناس إليه بأغلى من ثمنه الذي اشتراه به؛ وهو حرام. ¬
وذهب بعض العلماء إلى تحريم الاحتكار في كل شيء العموم أكثر الأحاديث. روى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ، وَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللهِ وَرَسُوْلهِ" (¬1). وروى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنِ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئ مِنَ اللهِ، وَبَرِئ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ" (¬2). وروى الحاكم وصححه عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُحْتَكِرُ مَلْعُوْنٌ". وروى ابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْجَالِبُ مَرْزُوْقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُوْنٌ " (¬3). وعنه رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬
لطيفة
"مَنِ احْتَكَرَ عَلى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللهُ بِالجُذَامِ والإِفْلاسِ" (¬1). وروى ابن عساكر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَمَنَّى عَلَى أُمَّتِي الْغَلاءَ ليْلَةً وَاحِدًةً أَحْبَطَ اللهُ عَمَلَهُ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً" (¬2). والأحاديث في هذا الباب كثيرة. * لَطِيْفَةٌ: روى الثعلبي وإسناده، وذكره القرطبي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ اللهَ امْتَنَّ عَلَى ابْنِ آدَمَ بِثَلاثٍ بَعْدَ ثَلاثٍ: بِالرِّيْحِ بَعْدَ الرُّوحِ؛ فَلَوْلا أَنَّ الرِّيْحَ تَقَعُ بَعْدَ الرُّوْحِ مَا دَفَنَ حَمِيْمٌ حَمِيْمًا، وَبِالدُّوْدَةِ فِي الْحَبَّةِ؛ فَلَوْلا أَنَّ الدُّوْدَةَ تَقَعُ فِي الْحَبَّةِ لاكْتَنَزَهَا الْمُلُوْكُ وَكَانَت خَيْرًا لَهُمْ مِنَ الدَّنَانِيْرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَبِالْمَوْتِ بَعْدَ الْكِبَرِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْبُرُ حَتَّىْ يَملَّ نَفْسَهُ وَيَملَّهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ وَأَقْرِبَاؤُهُ، فَكَانَ الْمَوْتُ خَيْرًا لَهُ"، وفي رواية: "أَسْتَرَ لَهُ" (¬3). ¬
23 - ومنها: السجود لغير الله تعالى.
23 - ومنها: السجود لغير الله تعالى. كما يفعله الأجناد مع ملوكهم من تقبيل الأرض بين أيديهم المستلزم لسجودهم، وكما يفعله بعض الناس لبعضٍ من الانحناء كالرَّاكع. وقد نقل الحافظ ولي الدين العراقي الإجماع على تحريمه، فإن قصدوا بذلك العبادة كان كفراً. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كُنْتُ آمُرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا". رواه الإمام أحمد عن معاذ - رضي الله عنه -، والترمذي عن أبي هريرة، وابن ماجه عن عبد الله بن أبي أوفى، والحاكم وصححه، واللفظ له، عن بريدة، وأبو داود، والحاكم وصححه عن قيس بن سعد رضي الله تعالى عنهم أجمعين (¬1). وسيأتي الكلام على ذلك في النهي عن التشبه بأهل الكتاب أيضًا؛ والله الموفق. * لَطِيْفَةٌ: انظر في حكمة الله تعالى كيف بلغ نمرود الغاية في التجبر والقوة، فقتله الله تعالى بما بلغ الغاية في الضعف وهو البعوض، فقد ¬
ثبت أن بعوضة دخلت دماغه، ودامت فيه حتى قتلته. ولطف أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني في قوله: [من الكامل] قَدْ كُنْتُ لا أَقْوى عَلى حَمْلِ ... وَبكَ اسْتَعَنْتُ عَلى الضعِيْفِ الْمُوْذي ماَ لي بَعَثْتَ إِلَيَّ أَلْفَ بَعُوضَةٍ ... وَبَعَثْتَ واحِدَةً إِلى نَمْرُوذِ وقد استعمل نمروذ بالذال المعجمة، والذي في "القاموس" أنه بالمهملة، ولعلهما جائزان، أو هو باللغة السريانية بالمعجمة، فعرب بالمهملة (¬1). ونظير ما ذكرناه في نمرود تعذيب فرعون وقومه بالجراد، والقمل، والضفادع؛ وما يعلم جنود ربك إلا هو - عز وجل -. *** ¬
(8) باب النهي عن التشبه بقوم لوط عليه السلام
(8) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِقَومِ لُوطٍ عَلَيهِ السَّلَام
(8) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِقَومِ لُوطٍ عَلَيهِ السَّلَام وهم أول من أتى في الدُّبر، وهي أشنع فعلة فعلوها بعد الكفر بالله تعالى. قال الله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} [الأعراف: 80]. أي: واذكر لوطًا، وهو ابن أخي إبراهيم عليهما السلام، أو ابن عمه، وهو لوط بن هاران بن تارخ المسمى في القرآن العظيم: آزر. وكان من أمر لوط عليه السلام أنه هاجر مع عمه إبراهيم عليه السلام من أرض الكوفة إلى الشام، فنزل إبراهيم فلسطين، ولوط الأردن، فأرسله الله تعالى في أهل سَدوم وأربع قرى تليها، وكانوا من أخبث الناس وأشدهم كفراً. قال ابن إسحاق: كان لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها، فقصدهم الناس، فآذوهم، فعرض لهم إبليس لعنه الله في سورة شيخ، فقال: إن فعلتم بهم كذا وكذا - يعني: إتيان الدبر - تنحوا
1 - منها: الكفر بالله تعالى.
عنكم، ففعلوا، واستحكم فيهم ذلك (¬1). قال الحسن: وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء (¬2). وقال آخرون: إنما فعلوا ذلك لطلب اللذة وقضاء الشهوة. وتقدم عن الكلبي: أن أول من فعل به ذلك إبليس قبحه الله حين أخصبت بلادهم، وكان لوط عليه السلام ينهاهم، ويؤنب عليهم، وهو دائمون على طغيانهم حتى أهلكهم الله تعالى؛ أمر جبريل عليه السلام فرفع مدائنهم حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب، ثم قلبها بهم، وأتبعوا بحجارة من سجيل منضود مسوَّمة. وقد اشتملوا على خبائث: 1 - منها: الكفر بالله تعالى. - ومنها: عمل الفاحشة المشهورة عنهم؛ أعني: إتيان الذكور، وهي من أكبر الكبائر. وحد فاعلها عند الشافعي رضي الله تعالى عنه كحد الزنا، وعلى المفعول به الجلد. وقال مالك، وأحمد رضي الله تعالى عنهما: يرجم اللوطي؛ أُحْصِنَ، أم لا (¬3). ¬
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ينظر أعلى شاهق في القرية فيلقى منه منكسًا، ثم يتبع بالحجارة (¬1). وبه قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه (¬2). ومهما أطلق عمل قوم لوط فالمراد به ذلك، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَلْعُوْنٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوْطٍ" - ثلاثًا -. رواه الإمام أحمد، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وصححه ابن حبان (¬3). ولا ينبغي أن يراد به سائر أعمالهم الآتية؛ لأن منها ما هو حرام في شريعتنا. ولم يسبق قوم لوط إلى هذه الفعلة أحد بنص القرآن العظيم. وقال عمرو بن دينار رحمه الله تعالى: ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا حتى كان قوم لوط. أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، والبيهقي، وغيرهم (¬4). وهذا يدل على أنهم سبقوا البهائم التي سيأتي عنها أنها تعمل ¬
عمل قوم لوط كالخنزير، والحمار. ولقائل أن يقول: إنما سبقوا إليها غيرهم من الناس أو من الثقلين كما يدل عليه قوله تعالى: {مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} [الأعراف: 80] لأن أحداً مخصوص بالعقلاء، وكذلك العالمون. وذلك من البهائم وإن كان غير المعهود منها إنما يتعجب منه، ولا يطلب فيه الإنكار على سبيل التعييرة؛ لأنها غير مكلفة. وذهب بعض الملاحدة إلى أن قوم لوط سُبقوا إلى ذلك - أي: من البشر - وهو ضلال ومصادمة للقرآن العظيم. ولا يقال: إن إبليس سبقهم إلى ذلك حين دعاهم إلى نفسه كما نقلناه عن الكلبي، بل نقول: إن الذي في القرآن أنهم لم يسبقوا إلى ذلك من حيث الفاعلية لا من حيث المفعولية، فهم أول من فعل ذلك، وإبليس أول من فعل به ذلك، وأول ما فعلوا ذلك هم بإبليس لعنه الله وإياهم. وأمَّا ما رواه أبو أحمد العسكري في كتاب "المواعظ والزواجر" عن خالد بن يزيد قال: سئل وهب بن منبه عن قوله - عز وجل -: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 94]: ما فسادهم؟ قال: كانوا يلاوطون الناس (¬1). ¬
فهو محمول على أن يأجوج ومأجوج كانوا بعدهم، أو في زمانهم لما رواه أبو بكر بن مردويه عن عبيد بن عمير: أن ذا القرنين حج ماشياً، فسمع به إبراهيم عليه السلام، فتلقاه (¬1). فهذا الأثر يدل على أنهم كانوا وقوم لوط في زمان واحد؛ فإن إبراهيم عليه السلام بقي زمانًا بعد هلاك قوم لوط. ولا يَرِدُ على ذلك ما ذكر في الأثر مما يدل على أن يأجوج ومأجوج أمتان قديمتان لأنا نقول: إنهم - وإن تقدموا قوم لوط زمانًا - فإن هذا الفساد لم يكن منهم حتى فعله قوم لوط. وعلى ما ذكره وهب في تفسير قوله تعالى حكاية عن القوم الذين وجدهم الإسكندر ذو القرنين: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)} [الكهف: 94]: هذه إشارة إلى أن من غلب عليه عمل قوم لوط إذا لم يهلكه الحد أو يصلحه فينبغي أن يُهجر، ويطرد، ويحبس عن مخالطة السالمين من ذلك لئلا يفسدهم؛ ألا ترى أن ذلك كان سبباً لسد ذي القرنين على يأجوج ومأجوج؟ ومن هنا قال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه بتعذيب اللوطي كالزاني. ¬
بل روى البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال: أول من اتهم بالأمر القبيح - يعني: عمل قوم لوط - اتهم به رجل على عهد عمر رضي الله تعالى عنه، فأمر عمر بعض شباب قريش أن لا يجالسوه (¬1). وقيل: إن فساد يأجوج ومأجوج أنهم كانوا يأكلون الناس. أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن حبيب الأوصابي (¬2). وممَّا لم أجده منقولًا، وهو مما يتعين بيانه أنك إذا تأملت القرآن وجدته مصرحًا بذم الفاعلية؛ ألا ترى قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)} [الأعراف: 80، 81]؟ وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)} [الشعراء: 160 - 166]؟ وقوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)} [النمل: 54، 55]؟ ¬
وقوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)} [العنكبوت: 28، 29]؟ فقد وقع التصريح في كتاب الله تعالى بذم الفاعلية، ولم يقع التصريح بذم المفعولية مع أنها أفحش لِوجوه: أحدها: أن ذم المفعولية مفهوم بالأولوية؛ فإنه إذا ذم ذلك فاعلية والذكر محل الفاعلية من حيث عدول الفاعل عن المأتي المأذون له فيه فكيف بالمفعولية، والذكر ليس بمحل لها بالكلية؟ الثاني: أن الوجه فيه أنهم إنما كانوا يفعلونه بالغرباء لما سبق عن الحَسَن، ثم فشا فيهم حتى دعتهم الشهوة إلى فعل بعضهم ببعض. الثالث: أن المفعولية - وإن كانت أقبح - إلا أن الفاعلية أسبق، وهي داعية للمفعولية، فإن اعتياد الذَّكَر أن يفعل به الفاحشة يؤدي به إلى مرض الأُبْنة، فيصير طالباً للمفعولية بعد ما كان مطلوبًا، أو مكرهًا عليها، فكان الفاعل عليه إثم فعله، وإثم ما أدى إليه فعله من انتهاء المفعول فيه إلى طلب المفعولية وانقلاب حاله. الرابع: أن الفاعلية ربما عدها الجاهل محمودة منه، بل ربما أدى به الجهل إلى التمدح بها والإنكار على من ينكر عليه؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)} [النمل: 56]، {وَمَا
كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)} [الأعراف: 82]؟ أي: يمتنعون عن إتيان الذُّكران، ويستنكفون منه، ويعدونه طهارة. وإنما أطلقوا التطهر على امتناعهم منه تهكمًا واستهزاء، فكان ذلك منهم أقبح من فعلهم، فقد أساؤوا عملاً، وقولاً، وأدبًا، واستطالوا على البرآء من فواحشهم، ولذلك امتن الله تعالى على لوط عليه السلام بهلاكهم، فقال تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)} [الأنبياء: 74، 75]. ونسب عمل الخبائث إلى القرية، وأراد أهلها مجازاً مبالغة في التنفير عن الخبائث من حيث إن المكان الذي تعمل فيه صار مذموماً، تُعَدُّ النجاة منه والبعد عنه نعمة ومنة، فكيف بالفاعل؟ ! وقال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)} [الأعراف: 83]؛ أي: الباقين حتى هلكت معهم لأنها كانت ترضى عملهم، وتدلهم على الغرباء، ودلتهم على أضياف لوط، ولذلك قال تعالى للوط عليه السلام: {إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81]. ولقد كانت نجاته بطلب منه إلى الله تعالى، ولجأ إليه حين واجهوه بالسوء كما قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)} [الشعراء: 167، 168]؛ أي: المبغضين غاية البغض {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا
يَعْمَلُونَ (169)} [الشعراء: 169]؛ أي: من شؤمه وعذابه. قال تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)} [الشعراء: 170 - 173]. أي: مطرًا عظيمًا هائلاً فظيعاً، وهو الحجارة كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: 82، 83]؛ أي: من الظالمين بمثل جريرتهم، أو مطلقًا من هذه الآية ببعيد. وفيه إيماء إلى أن من يعمل عملهم حري بمثل هلاكهم، وهو وعيد شديد للمتلوطين. والآثار والنصوص المشيرة إلى النهي عن ذلك، والتنفير منه كثيرة. ومن غُرر الأخبار ما روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِن بَعْدِي عَمَلَ قَوْمِ لُوْطٍ " (¬1). وروى أبو داود الطيالسي، والطبراني، والبيهقي عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أتى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ " (¬2). ¬
وروى الخطيب عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَاتَ مِن أُمَّتِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوْط نقَلَهُ اللهُ إِلَيْهِمْ حَتَّى يُحْشَرَ مَعَهُمْ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللهُ سَبْعَة مِنْ خَلْقِهِ مِنْ فَوْقِ سَبع سَمَاوَاتِهِ، وَرَدَّدَ اللَّعْنَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلاثًا، وَلَعَنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَعْنَةً تَكْفِيهِ، فَقَالَ: مَلْعُون مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، مَلْعُون مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، مَلْعُونٌ مَنْ أتَى شَيْئًا مِنَ الْبَهَائِمِ، مَلْعُونٌ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ، مَلْعُونٌ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأةٍ وابْنَتِهَا، مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ حُدُودَ الأَرْضِ، مَلْعُون مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ" (¬2). وروى ابن الجوزي في كتاب "ذم الهوى" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَبَّلَ غُلامًا بِشَهْوَةٍ عَذَّبَهُ اللهُ بِالنَّارِ ألفَ سَنَةٍ، وَمَنْ جَامَعَهُ لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ - وَريحُهَا يُوْجَدُ مِنْ ¬
مَسِيْرَةِ خَمْسِمئَةِ عَامٍ - إِلاَّ أَنْ يَتُوْبَ" (¬1). وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: يحشر اللوطيون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير (¬2). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من خرج من الدنيا على حالٍ خرج من قبره على تلك الحال؛ حتى إن اللوطي يخرج يعلق دبره على دبر صاحبه مفتضحين على رؤوس الخلائق يوم القيامة (¬3). وقال فضيل بن عياض - رضي الله عنه -: لو أن لوطيًا اغتسل بكل قطرة من السماء لقي الله تعالى غير طاهر (¬4). وقال مجاهد رحمه الله تعالى: لو أنه اغتسل بكل قطرة في السماء وكل قطرة في الأرض لم يزل نجسًا (¬5). رواهما ابن الجوزي في "ذم الهوى ". وروى فيه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَمْ يَعْلُ فَحْلٌ فَحْلاً حَتَّىْ كَانَ قَوْمُ لُوْطٍ؛ فَإِذَا عَلا الفَحْلُ الْفَحْلَ ¬
ارْتَجَّ أَوْ اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ - عز وجل -، فَاطَّلَعْتِ الْمَلائِكَةُ تَعْظِيْمَا لفِعْلِهِمَا؛ قَالُوا: يَا رَبِّ! أَلا تَأمُرُ الأَرْضَ أَنْ تُعَزِّرَهُما، وَتَأْمُرُ السّمَاءَ أَنْ تَحْصِبَهُمَا؟ فَيَقُوْلُ: إِنِّي حَلِيْمٌ لا يَفُوْتَنِي شَيْءٌ" (¬1). وروى الطبراني عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا كَثُرَتِ اللّوْطِيَّةُ رَفَعَ اللهُ تَعَالَى يَدَهُ عَنِ الْخَلْقِ فَلا يُبَالِي فِي أَيِّ وَادٍ أَهْلَكَهُمْ" (¬2). وقلت ملمِّحاً بالحديثين ذامًّا للوطية: [من الرمل] يا لِقَوْمِ هَلَكوا إِذْ سَلَكُوا ... طُرقًا ضَلُّوا بِها وَارْتَبَكُوا أَخَذُوا فِي سُوْءِ أَفْعالٍ بِها ... حُرماتُ الدِّيْنِ مِنْها انتهَكوا إسْتَباحُوا الْمُرْدَ لَمَّا أَنَّهُم ... لِمُباحاتِ الْعَذارى تَرَكُوا وَتَفاشَوا بَيْنَهُم أَسْرارَ ما ... كانَ حَتْماً سَتْرُهُ وَانْهَتَكُوا وَعَصَوْا رَبَّهُمُ مَعْصِيَةً ... عَرْشُهُ مِنْ قُبْحِها يَحْتَرِكُ فَاسْتَحَقُّوا الْمَقْتَ لَمَّا اقْتَحَمُوا ... لُجَّةَ الإِثْمِ وَفِيها اعْتَرَكُوا قالَ خَيْرُ الْخَلْقِ: مَهْما كَثُرَتْ ... فِي الْوَرى اللاَّطَةُ مِنْهُمُ أَفِكُوا رُفِعَتْ عَنْهُمُ يَدُ اللهِ إِذاً ... لا يُبالِي أَيَّ وادٍ هَلَكُوا ¬
فائدة زائدة وتنبيه لطيف
* فائِدَةٌ زائِدَةٌ وَتنبِيْهٌ لَطِيْفٌ: ورد أن العرش يهتز لأمور أخرى غير ما ذكر. فروى ابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة"، وأبو يعلى، والبيهقي في "الشعب" عن أنس، وابن عدي في "الكامل" عن بريدة قالا رضي الله تعالى عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا مُدِحَ الفَاسِقُ غَضبَ الرَّبُّ، وَاهْتَزَّ لِذَلِكَ الْعَرْشُ" (¬1). وروى ابن عدي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْيَتِيْمَ إِذَا بَكَى اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِبُكَائِهِ" (¬2). وذكره الذهبي في كتاب "العلو" وضعفه، من طريق عمرو بن يوسف القطعي، عن عمر - رضي الله عنه -، وزاد فيه: "يَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى لِمَلائِكَتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ: مَنْ أَبْكَى عَبْدِيَ وَأَنَا أَخَذْتُ أَبَاهُ وَوَارَيْتُهُ فِيْ التُّرَابِ؟ ¬
فَيَقُوْلُوْنَ: رَبُّنَا أَعْلَمُ بِهِ، فَيَقُوْلُ: اشْهَدُوْا: لَمَنْ أَرْضَاهُ أُرْضِيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (¬1). وروى ابن عدي أيضا عن علي أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَزَوَّجُوا وَلا تُطَلِّقُوا؛ فَإنَّ الطَّلاقَ يَهْتَزُّ مِنْهُ الْعَرْشُ" (¬2). وقال أبو طالب المكي رحمه الله تعالى في "القوت": يقال: إن العرش يهتز ويغضب الله تعالى لثلاثة أعمال: قتل النفس بغير نفس، وإتيان الذكر الذكرَ، وإتيان الأنثى الأنثى (¬3). وروى الحافظ أبو جعفر محمد بن عثمان العبسي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ما من شيء كان في بني إسرائيل إلا سيكون في هذه الأمة مثل أن رجلًا من بني إسرائيل كانت له امرأة جميلة فأولع به رجل، يخبره عنها أنها كذا وكذا بالفحش، قال: كيف أصنع ولها علي دين؟ قال: أنا أسلفك ما عليك. فطلقها، ثم تزوجها ذاك الرجل بعده، فلما تزوجها أخذه بدينه، فاشتد عليه، فقال: اتق الله؛ فإنك لم تزل بي حتى فعلت، فلم يقلع عنه حتى أجَّره نفسه، فبينما هو ذات يوم وأكلا طعامًا، فجعل يصب عليهما ¬
تنبيه
الماء بكى، اهتز العرش، فقال تعالى: رحمتي سبقت غضبي (¬1). والمراد من اهتزاز العرش لهذه الأمور المبالغة في تهويلها كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)} [مريم: 88 - 90]. ويجوز أن يكون اهتزاز العرش على حقيقته، وله وجهان: الأول: أن هذه الأمور لشدة كراهية الله تعالى لها يغضب، فتضطرب الملائكة عليهم السلام لغضبه، فيهتز العرش بسبب اضطرابهم؛ فإن حملة العرش منهم وهم أقرب الملائكة إلى الله تعالى - ولا أعني قرب المسافة - فهم أشد غضبًا لله، واضطرابًا لغضبه. والثاني: أن الله تعالى لا يبعد على قدرته أن يخلق في العرش إدراكاً لهذه الأمور وقبحها، فيضطرب لذلك. وفي العزم تأليف جزء لطيف في هذا المعنى. * تَنْبِيْهٌ: قال الله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام قال: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)} [الشعراء: ¬
168 - 170] الآية؛ وفيه أمران: الأول: أن بغض هذه الفاحشة من أخلاق الأنبياء عليهم السلام، بل هو من أخلاق الله تعالى لأن الله تعالى لعن فاعل ذلك ثلاثاً كما في الحديث السابق، وسماه فاحشة وخبيثة. بل ينبغي لكل ذي طبع سليم بغض هذا العمل فاعليةً؛ لأنه عدول عن محل الحرث، وإلمام بمحل الأذى، ومفعوليةً لأنه على خلاف الحكمة، وعكس الوضع الإلهي لأن الله تعالى خلق الذكر للفاعلية، والأنثى للمفعولية، وإذا انبعث كل منهما لما خلق له الآخر فقد خالف الأمر، وعارض الحكمة. فينبغي للعبد - وإن كان بغض كل معصية واجباً عليه - أن يكون لهذه المعصية أشد بغضًا ومقتًا وكراهية، وعنها أشد بعداً وإبعاداً ونفاراً؛ فإن هذا واجب على كل مسلم مكلف. ثم يجب عليه بغض من فعله، أو عزم على فعله، وبُغض من أصر عليه، وأكب عليه أشد وجوباً. وإنما قال لوط عليه السلام لقومه: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)} [الشعراء: 168] إشارة إلى أن المعصية هي التي توجب بغض مرتكبها، ولم يصرح ببغضهم لأنه كان يستضعف نفسه عن مقاومتهم، فلو قال: إني لكم من القالين، أو: إني أبغضكم، فواجههم بالقلى والبغض، لقابلوه بالشتم وغيره؛ ألا ترى إلى جرأتهم عليه وقولهم له قبل ذلك: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)} [الشعراء: 167]، ولذلك قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ
آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)} [هود: 80]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما بعث الله تعالى نبيًّا بعد لوط عليه السلام إلا في عز من قومه. رواه سعيد بن منصور، وأبو الشيخ (¬1). وروى البخاري في "الأدب المفرد"، والترمذي وحسنه، وآخرون، وصححه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَ اللهُ لُوْطًا؛ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيْدٍ - يَعْنِي اللهَ - عز وجل - فَمَا بَعَثَ اللهُ بَعْدَهُ نبِيًّا إِلاَّ فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ" (¬2). وليس في هذا الحديث حط من رتبة لوط عليه السلام، بل فيه تنزيل له في رتبته، فإن كل نبي فالله تعالى ركنه إلا أنهم متفاوتون؛ فمنهم أولو العزم من الرسل، وهؤلاء لا يبالون بالناس كثروا أم قلوا، وهم خمسة: محمد، وإبراهيم، وموسى، ونوح، وعيسى عليهم السلام. وأما غيرهم فلا يضرهم أن يأخذهم ما يأخذ البشر؛ فإن في طبع كل إنسان - وإن كمل يقينه وإيمانه - أن يستضعف نفسه إذا كان وحده ¬
أو في جماعة عن عدوه إذا كان شديد العداوة شديد القوة، كثير العدد قوي العُدد. ومن ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فَمَا بَعَثَ اللهُ بَعْدَهُ نبِيًّا إِلاَّ فِيْ ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ". والثروة كثرة العدد من الناس، وكذلك من المال. الأمر الثاني: قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)} [الشعراء: 169] فيه أوجه: أحدها: أن يكون معناه: نجني وأهلي من شؤم عملهم وعذابه. وعليه اقتصر البيضاوي (¬1)، وذلك لأن النجاة بمعنى الخلاص، فلو أراد الخلاص من نفس أعمالهم لأشعر بصدور شيء منها أو من أهله، وهم براء من ذلك. والوجه الثاني: أن يكون (نجني) مضمنًا معنى: أجنبني، وقِني. وعليه: فالمعنى أن لوطًا عليه السلام سأل من ربه أن يجنبه وأهله، ويطهرهم من الوقوع في هذا العمل، وذلك لا يناقض عصمة الأنبياء - عليهم السلام - لأنهم لا يأمنون مكر الله. والوجه الثالث: أن يكون معناه: نجني من مشاهدة أعمالهم الخبيثة؛ فإنهم كانوا يتظاهرون بها فعلاً وحكاية، وذلك لأن لوطًا - عليه السلام - ما كان يمكنه المهاجرة عنهم، ولا الخروج من بين ¬
أظهرهم لأنه مأمور بدعوتهم، فطلب النجاة مما هو فيه بما شاءه الله تعالى. ويدل على هذا الوجه قوله تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)} [الأنبياء: 74، 75]. وقد قيل: في الآية حذفُ مضافٍ تقديره: في أهل رحمتنا. قال الزهريّ رحمه الله تعالى: إن لوطاً عليه السلام لما عذَّبَ اللهُ تعالى قومَه لَحِقَ بإبراهيم عليه السلام، فلم يزل معه حتى قبضه الله إليه. أخرجه ابن عساكر، وغيره (¬1). وفيه إشارة إلى أن مَنْ أبغضَ أعداءَ الله، وقَلاهُم، وعاداهم، واستوحش منهم، وطلب من الله تعالى أن يخرجه من بينهم، وأخلص في ذلك، عوضه الله تعالى بصحبة أوليائه والكينونة معهم. وفيه إشارة إلى أن من آوى الله تعالى آواه الله تعالى إليه، وكيف لا يكون لوطاً قد آوى إلى ركن شديد وقد آوى إلى الله تعالى بقوله: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)} [الشعراء: 169]. وإلى هذا أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله في الحديث: "رَحِمَ اللهُ لُوْطًا؛ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيْدٍ" (¬2). ¬
2 - ومن أخلاق قوم لوط: البخل بالحقوق الواجبة، ومنع أبناء السبيل حقوقهم، وترك الصدقة.
2 - ومن أخلاق قوم لوط: البخل بالحقوق الواجبة، ومنع أبناء السبيل حقوقهم، وترك الصدقة. روى ابن عساكر، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن الذي حمل قوم لوط على إتيان الرجال دون النساء أنهم كانت لهم ثمار في منازلهم وحوائطهم، وثمار خارجة على ظهر الطريق، وأنهم أصابهم قحط وقلة من الثمار، فقال بعضهم لبعض: إنكم إن منعتم ثماركم هذه الظاهرة من أبناء السبيل كان لكم فيها عيش. قالوا: بأي شيء نمنعها؟ قال: اجعلوا سنتكم: من أخذتم في بلادكم غريباً سننتم فيه أن تنكحوه، وأغرموه أربعة دراهم؛ فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك. فذلك الذي حملهم على الخبث العظيم الذي لم يسبقهم إليه أحد من العالمين (¬1). 3 - ومنها: النكاية باللواط، والسطوة بالأعراض. كما يدل عليه أثر ابن عباس هذا المذكور، وربما وقع مثل ذلك من كثير من فساق الجبابرة إذا أرادوا نكاية من ناوأهم وعاداهم، فربمَا احتالوا عليه حتى تمكنوا منه، فربما أمروا فساق عُلُوجهم ورجال خَدَمهم باللواطة به، وهذا من أشنع الظلم وأقبح الفسق، لا يتجرأ عليه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان. ¬
4 - ومن أعمال قوم لوط القبيحة، ودأبهم الخبيث
4 - ومن أعمال قوم لوط القبيحة، ودأبهم الخبيث: النظر إلى الأمرد الجميل، ومصافحته، وتقبيله، وغمز أعضائه، والحديث معه بما يؤدي إلى طلب ذلك الفعل به، وكلُّه حرام. ومن هذا القبيل طلب بعض الفساق من الأمرد المتصدي لسقي القهوة وغيرها زمزمة الفنجان منه بأن يتقدم من يسقيه بارتشاف شيء مما في الفنجان استسقاءً لريقه، وربما احتج بعض فساقهم بالحديث: "سُؤْرُ الْمُؤْمِنِ شِفَاءٌ" (¬1). وهذا من أضل الضلال، وإن كان على سبيل المزاح والدعابة. روى ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" عن أبي سهل رضي الله تعالى عنه قال: سيكون في هذه الأمة قوم يقال [لهم] (¬2) اللوطيون على ثلاثة أصناف: صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون ذلك العمل (¬3). وهذا الأثر في حكم الحديث المرفوع؛ لأن مِثْلَه لا يقال من قبل الرأي. ¬
وإذا تأملت وجدت الأصناف الثلاثة موجودة الآن. وروى ابن أبي الدنيا أيضًا عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى أنه قال: لو أن رجلًا عبث بين أصبعين من أصابع رجل يريد الشهوة لكان لواطًا (¬1). وروى ابن عساكر في "تاريخه" عن منصور الحمصي قال: كنا في مجلس الفضل بن زياد ومعنا محمد بن الفيرزار الصوفي، فنظر إلى رجل من أصحاب الحديث بين يديه محبرة، وهو ينظر في دفتر يلاحظ غلاما جميلًا، ويضحك أحيانا في وجهه، فقال له: يا فتى! أقبل إلي. فأقبل، قال: هل كتبت الحديث؟ قال: نعم، قد كتبت منه كثيرًا، ووعيت منه علمًا. قال: فما تحفظ في تكرار النظر شيئًا؟ قال: لا. قال: سبحان الله! ونسيت ما يجب عليك أن تذكره، وضيعت ما ينبغي لك أن تحفظه؟ هل تحفظ ما سأل جرير البجلي رضي الله تعالى عنه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفُجاءة، قال: فأمرني أن أصرف بصري عنه، وفي بعض الحديث أنه قال: "الأُوْلَى لَكَ، وَالأُخْرَى عَلَيْكَ" (¬2). ¬
5 - ومنها: التجاهر باللواط فعلا أو حكاية،
قال: صدقت. قال: أفما لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة، وفي قوله قدوة؟ إني لك من الناصحين، وعليك من المشفقين؛ إن كنت تريد أن تنظر إلى الحور الحسان، وتسكن القصور والخيام، وتطوف عليك الغلمان والولدان، فاحفظ طرفك عن نظر لا تأمن عاقبته وضرره عليك في معادك (¬1). وروى أبو نعيم عن أبي عصمة قال: كنت عند ذي النون رحمه الله تعالى وبين يديه فتى حسن يملي عليه شيئًا، قال: فمرت امرأة ذات جمال وخلق؛ قال: فجعل الفتى يسارق النظر إليها، قال: ففطن ذو النون، فلوى عنق الفتى، وأنشأ يقول: [من البسيط] دَعِ الْمَصُوْغَاتِ مِنْ ماءٍ وَمِنْ طِيْنِ ... وَاشْغَلْ هَواكَ بُحُورٍ خُرْدٍ عِيْنِ (¬2) 5 - ومنها: التجاهر باللواط فعلاً أو حكاية، أو بما يلازم الجماع من رهز، أو شخير؛ ولو على وجه المزاح، أو التمسخر كما يفعله بعض الفسقة، بل التجاهر بالمعصية مطلقا. قال الله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)} [النمل: 54]؛ أي: وأنتم تعلنون بها فيبصر بعضكم بعضاً. ¬
تنبيه
قال الثعلبي، وغيره: كانوا لا يستترون عتوًا منهم، وتمردًا (¬1). وروى عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] قال: كانوا يعملون الفاحشة في المجالس (¬2). ورويا وسعيد بن منصور، وابن أبي حاتم، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" عن مجاهد في الآية قال: كان يجامع بعضهم بعضاً في المجالس. وفي رواية: في مجالسهم. ونقله الشعبي في "تفسيره" (¬3). ونقل عنه في كتاب "العرائس" قال: كان الرجال يجامعون الرجال في الطريق، ويشخرون. * تنبِيْهٌ: روى أبو نعيم من طريق الإمام أحمد في "الزهد" عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: ما أتى قوم في ناديهم المنكر إلا عند هلاكهم (¬4). ¬
6 - ومنها: تعييب وتعيير من يتحرج عن إتيان الذكران، وشتمه بالإعراض عن الصبيان إلى النسوان، واستقلال عقله واستضعاف رأيه.
6 - ومنها: تعييب وتعيير من يتحرج عن إتيان الذكران، وشتمه بالإعراض عن الصبيان إلى النسوان، واستقلال عقله واستضعاف رأيه. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)} [الأعراف: 82]. قال مجاهد: أي: عن أدبار الرجال وأدبار النساء؛ يقولون ذلك استهزاء بهم. أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وقال قتادة: عابوهم واللهِ بغير عيب، وذموهم بغير ذم بأنهم يتطهرون من أعمال السوء. أخرجه ابن جرير، وأبو الشيخ (¬2). واعلم أن ذلك يتفق كثيرًا في زمانك في مجالس الفسقة المرتكبين لذلك المرتبكين في مهاوي المهالك، فربما عابوا من يميل إلى النساء، وذكروه في موضع السخف والإزراء، ولا شك أنهم في هذا الفعل موافقون لقوم لوط، مطابقة النعل بالنعل. وقد قلت في ذلك: [من الرجز] ¬
7 - ومنها: قطع الطريق، والظلم، وتغريم المال بغير حق، والإكراه على الفاحشة، والحكم بالباطل، وإلزام من دعي إلى فاحشة أن يجيب داعيه إليها.
إِنْ قُلْتَ لِمَنْ يَلُوطُ يَوْمًا هَلا ... كُنْتُمْ مِمَّنْ يُراقِبُونَ الإلاَّ عَنْ ذاكَ غِنًى بِفِعْلِ ما قَدْ حَلاَّ ... ما كانَ جَوابَ قَوْمِ لُوطٍ إِلاَّ 7 - ومنها: قطع الطريق، والظلم، وتغريم المال بغير حق، والإكراه على الفاحشة، والحكم بالباطل، وإلزام من دعي إلى فاحشة أن يجيب داعيه إليها. قال الله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} [العنكبوت: 28، 29]. قال البيضاوي: تتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال، أو بالفاحشة حتى انقطعت الطريق، أو تقطعون سبيل النسل بالإعراض عن الحرث، وإتيان ما ليس بحرث، انتهى (¬1). وروى الثعلبي عن معاوية رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى، فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه، فأيهم أصابه كان أولى به، وذلك قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] (¬2). وقوله: كان أولى به؛ أي: كان أولى بنكاحه وتغريمه من غيره عندهم، فأي رجل منهم أصاب غريبًا أخذه وغرَّمه ثلاث دراهم، ثم ¬
نكحه، فإن امتنع هو عَليه أو خاصمه فيه أحدٌ قضى قاضيهم به لمن أصابه حصاه، ولذلك قيل في المثل: أظلم أو أجور من قاضي سدوم (¬1). نقله الوالد رحمه الله تعالى في "تفسيره". فاعلم أن زمانك مشحون بمن يتشبه بقوم لوط من ظلمة الأجناد في الإكراه على اللواط، واسترقاق الأحرار، وربما تنازع جنديان أو سكمانيان في غلام حر يقضى به لأحدهما، وربما حكم بالولد لغير والده، حتى إن الشرع ربما عجز عن انتقاذ غلام ممن يستولي عليه منهم، وعن دفع صولته عنه، وهل هذا إلا إرقاق أو استرقاق للأحرار، واقتحام في النار. وكذلك من يلجئ مملوكه إلى طاعته في ذلك فإنه مقتحم في النار، هالك مستهلك، فإن اعتقد حل ذلك فإنه كافر، وكذا لو تأول عليه قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] يكفر كما نص عليه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني في كتاب "الرد على ابن تيمية". وما أحق من يفعل هذه الخبائث بالوعيد في قوله تعالى: {وَمَا هِىَ} حجارة قوم لوط {مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83]. وفي الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل عليه السلام عن هذه الآية، فقال: يعني: ظالمي أمتك؛ ما من ظالم منهم إلا وهو يعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة. ذكره البيضاوي، وغيره (¬2). ¬
8 - ومن أعمال قوم لوط: إتيان المرأة في دبرها.
قال ربيعة الرأي: رمى الله تعالى قوم لوط بحجارة من سجيل، فلا ترفع هذه العقوبة عن من عمل عملَ قوم لوط. أخرجه ابن المنذر (¬1). 8 - ومن أعمال قوم لوط: إتيان المرأة في دبرها. قال الله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)} [الشعراء: 165، 166]. فإن (من) في قوله تعالى {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 166] يجوز أن تكون بيانية، ويجوز أن تكون تبعيضية. وعليه: فيكون فيه إشارة إلى المحل المباح من الزوجة، فيكون فيه تعريض بأنهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم. وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)} [الشعراء: 166]؛ أي: متجاوزون عن محل الحرث إلى الدبر. ويؤيده قول مجاهد في قوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 166]: تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال وأدبار النساء. أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬2). ¬
وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى حكاية عن قوم لوط: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)} [الأعراف: 82]: من أدبار الرجال، ومن أدبار النساء. أخرجه ابن جرير، وابن المنذر (¬1). ونحوه عن مجاهد (¬2). وروى البيهقي عن أبي المعتمر قال: سألت عليًا رضي الله تعالى عنه وهو على المنبر عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: سفلت سفل الله بك؛ أما سمعت قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} [الأعراف: 80] (¬3)؟ وروى هو وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال على المنبر: سلوني. فقال ابن الكواء: تؤتى النساء في أعجازهن؟ فقال علي: سفلت سفل الله بك؛ ألم تسمع إلى قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} [الأعراف: 80] (¬4)؟ ¬
ففهم أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه أن إتيان المرأة في الدبر قبيح، وأنه من أعمال قوم لوط من مسمى الفاحشة. وإنما كان ذلك ولو من الحليلة فاحشة لأنه محل القذر والأذى، ولذلك حرم إتيان الحائض بنص القرآن العظيم مع أن الدبر ليس محلاً لطلب الولد الذي هو أصل مشروعية النكاح. وروى الإمام أحمد، والبزار - ورجالهما رجال الصحيح - والنسائي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي المرأة في دبرها قال: "تِلْكَ اللُّوْطِيَّةُ الصُّغْرَى" (¬1). قلت: وتسميتها بالصغرى لا يقتضي أنها من الصغائر كما لا يقتضي تسمية الرياء بالشرك الأصغر أنه صغيرة، بل هما من الكبائر، وسميا أصغر وصغرى بالنسبة إلى الشرك الذي هو الكفر، وإلى إتيان أدبار الذكران. وإنما لم يجب الحد بالتلوط بالحليلة، بل التعزير لشبهة التمتع، والحد يدرأ بالشبهة. وروى الطبراني - ورواته ثقات - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أتَى النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ فَقَدْ كَفَرَ" (¬2)؛ ¬
9 - ومن أعمال قوم لوط: إتيان المرأة المرأة.
أي: قارب أن يكفر، أو هو محمول على استحلال ذلك كما في حديث: "مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ كَفَرَ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن أبي صخرة جامع بن شداد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ اللِّوَاطُ فِي النِّسَاءِ قَبْلَ أَنْ يَكُوْنَ فِي الرِّجَالِ بِأرْبَعِيْنَ سَنَةٍ" (¬2). وسئل طاوس عن الرجل يأتي المرأة في عجيزتها، قال: إنما بدأ قوم لوط ذاك؛ صنعَهُ الرجال بالنساء، ثم صنعَهُ الرجال بالرجال. أخرجه ابن أبي الدنيا، وابن عساكر (¬3). 9 - ومن أعمال قوم لوط: إتيان المرأة المرأة. وهو خلاف ما في حديث الحسن الآتي، لكن يدل عليه ما رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي، وابن عساكر عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: إنما حقَّ القول على قوم لوط حتى استغنى النساء بالنساء، والرجال بالرجال (¬4). ¬
وما روى هؤلاء عن محمد بن علي - رضي الله عنه - أنه سئل: هل عذب الله نساء قوم لوط بعَمل رجالهن؟ قال: إن الله أعدل من ذلك؛ استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن الزهريّ قال: كنت في مجلس عروة، فأتانا سالم بن عبد الله فقال: استأذنت على امرأتان، فقالت الصغرى: أرأيت المرأة تضطجع إلى جنب المرأة فتصيب منها من اللذة ما تصيب من زوجها؟ قال: فأمرت بإخراجهما. فقلت: قد أهلك الله قومًا ركب بعضهم بعضًا، ولو وليت من هذا الأمر شيئًا لرجمتهما بالحجارة. قال عروة: ولكني لو وليت من هذا الأمر شيئًا لضربتهما ضربًا مبرحًا. قال الزهريّ: والقول ما قاله عروة. قلت: وكذلك مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه: أن عليهما التعزير إذا كانتا مختارتين (¬2). ¬
وأما ما رواه البيهقي في "السنن" عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سِحَاقُ النِّسَاءِ زِنًا بَيْنَهُنَّ" (¬1)، فإنما سماه زنا من حيث الحرمة لا من حيث الحد. ورواه ابن أبي الدنيا بلفظ: "سِحَاقُ النِّسَاءِ بَيْنَهُنَّ لِوَاطٌ " (¬2)، وهو شاهد لطيف لما ذكرناه من أن السحق من أعمال قوم لوط، ومن هنا أخذ سالم ما تقدم عنه. وأما حديث الحسن الآتي أن إتيان النساء بعضهن لبعض زادته هذه الأمة على قوم لوط، فإن صح فهو محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يعلم أن هذه الفعلة كَانت من أعمَال قَوم لوط أيضًا. على أن هذه الأمة مسبوقة بهذه الخصلة من غير قوم لوط، فقد روى ابن أبي الدنيا عن جعفر بن محمد بن علي رضي الله تعالى عنهم: أنه جاءته امرأتان قد قرأتا القرآن، فقالتا: هل تجد غشيان المرأة المرأة في كتاب الله تعالى؟ فقال: نعَم، هن اللواتي كن على عهد تُبَّع، وهن صواحب الرَّسِّ، يقطع لهن سبعون جلباباً من نار، ودرع من نار، ونطاق من نار، وتاج من نار، وخفاف من نار، ومن فوق ذلك ثوب غليظ جاف جلف منتن من نار؛ أَعْلِموا هذا نساءكم (¬3). ¬
وفي كلامه إشارة إلى أنهم سموا أصحاب الرس بفعل نساءهم، والمشهور أنهم سموا باسم بئر لهم. والرس: البئر المطوية بالحجارة. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الرس بئر بأذربيجان. أخرجه ابن أبي حاتم (¬1). وعنه: الرس قرية من ثمود. أخرجه ابن جرير (¬2). وعنه: أنه سأل كعبًا عن أصحاب الرس؛ قال: صاحب يس الذي قال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)} [يس: 20]، فرَسَّه قومه؛ أي: دفنوه في بئر بالأحجار. أخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر (¬3). وقومه أهل أنطاكية. وقال قتادة: أصحاب الرس قوم شعيب. أخرجه ابن المنذر، وابن عساكر (¬4). وقال عكرمة: أصحاب الرس رسوا نبيهم بالبئر. أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬5). ورسُّوا نبيهم؛ بمعنى دفنوه؛ أي: أخفوه في البئر، وحبسوه فيها. ¬
وروى ابن إسحاق، وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقيَامَةِ الْعَبْدُ الأَسْوَدُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ نبِيًّا إِلَىْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدٌ إِلاَّ ذَلِكَ الأَسْوَدُ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْقَرْيَة عَدَوْا عَلَى النَّبِي فَحَفَرُوْا لَهُ بِئْرًا فَأَلْقَوْهُ فِيْهَا، ثُمَّ أَطْبقُوْا عَلَيْهِ بِحَجْرٍ ضَخْم فَكَانَ ذَلِكَ الأَسْوَدُ يَذْهَبُ فَيْحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِ؛ ، ثُمَّ يَأْتيْ بِحَطَبِهِ فَيَبِيْعُهُ، فَيَشْتَرِي طَعَامًا وَشَرَابًا، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ إِلَىْ تِلْكَ الْبِئْرِ، فَيَرْفَعُ تِلْكَ الصَّخْرَةَ، فَيُعِيْنُهُ اللهُ تَعَالَىْ عَلَيْهَا، فَيُدْلِي طَعَامَهُ وَشَرَابَه ثُمَّ يَرُدُّهَا كَمَا كَانَت، فَكَانَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُوْنَ، ثُمَّ إِنَّهُ ذَهَبَ يَوْمًا يَحْتَطِبُ كَمَا كَانَ يَصْنعُ، فَجَمَعَ حَطَبَهُ وَحَزَمَ حُزْمَتَهُ وَفَرَغَ مِنْهَا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَهَا وَجَدَ سِنَةً، فَاضْطَجَعَ فَنَامَ، فَضَرَبَ اللهُ تَعَالَى عَلَى أُذُنِهِ سَبع سِنِيْنَ ناَئِمًا، ثُمَّ إِنَّهُ هَبَّ فتَمَطَّى يَتَحَوَّلُ لِشِقِّهِ الآخَرِ، فَاضْطَجَعَ فَضَرَبَ اللهُ تَعَالَى عَلَىْ أُذُنِهِ سَبع سِنِيْنَ أُخْرَى، ثُمَّ إِنَّهُ هَبَّ فَاحْتَمَلَ حُزْمَتَهُ وَلا يَحْسِبُ إِلاَّ أَنَّهُ نَامَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَجَاءَ إِلَى الْقَرْيَةِ فَبَاعَ حُزْمَتَه ثُمَّ اشْتَرَىْ طَعَامًا وَشَرَابًا كَمَا كَانَ يَصْنعَ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْحُفْرَةِ فِي مَوَضِعِهَا الَّتِي كَانَتْ فِيْهِ، فَالْتَمَسَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَقَدْ بَدَا لِقَوْمِهِ فِيْهِ بدَاء، فَاستخْرَجُوْهُ فآمَنُوْا بِهِ وَصَدَّقُوْهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يَسْألُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الأَسْوَدِ: مَا فَعَلَ؟ فَيقُوْلُوْنَ لَهُ: مَا نَدرِي حَتَّى قُبِضَ ذَلِكَ النَّبِيُّ، فَأَهَبَّ اللهُ الأَسْوَدَ مِنْ نومَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ إِنَّ ذَلِكَ الأَسْوَدَ لأَوَّلُ مَنْ يَدْخلُ الْجَنَّةَ" (¬1). ¬
10 - ومن أعمال قوم لوط
وذكر هذا الحديث الشيخ مجد الدين الفيروز أبادي في "القاموس"، وذكر أن ذلك الأسود كان يقال له: عبود - على وزن سفود - وأنه يضرب به المثل لمن نام طويلاً (¬1). وبما ذكرته هنا استغنيت عن عقد باب، أو فصل في النهي عن التشبه بأصحاب الرس. 10 - ومن أعمال قوم لوط: أمور اشتملت عليها أحاديث، وآثار نذكرها هنا. فروى ابن عساكر، والخطيب في "تاريخيهما" بسند ضعيف، عن الحسن البصري - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَشْرُ خِصَالٍ عَمِلَهَا قَوْمُ لُوْطٍ أُهْلِكُوْا بِهَا، وَتَزَيْدهَا أُمَّتِي بِخصْلَةٍ: إِتْيَانُ الرّجَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَرَمْيُهُم بِالْجَلاهِقِ، وَالْخَذَفُ، وَلَعبُهُمْ بِالْحَمَامِ، وَضَرْبُ الدُّفُوْفِ، وَشِرْبُ الْخُمُوْرِ، وَقَصُّ اللّحْيَةِ، وَطُوْلُ الشَّارِبِ، وَالصَّفِيْرُ، وَالتَّصْفِيْقُ، وَلِبَاسُ الْحَرِيْرِ، وَتَزِيْدُها أُمَّتِي بِخصْلَةِ: إِتْيَان النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"، والبيهقي عن سفيان رحمه الله تعالى قال: سمعت أن لعباً بالجلاهق، ولعباً بالحمام هو من ¬
عمل قوم لوط (¬1). والْجُلاهِق - بضم الجيم، وتخفيف اللام، وكسر الهاء، وبالقاف -: البندق الذي يرمى به، وهو فارسي معرب. وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] قال: الصَّفر، ولعب الحمام، والجلاهق، وحل أزرار القباء (¬2)؛ وكأنهم كانوا يفعلون ذلك ولا إزار عليهم ولا سراويل، فيكون سبباً لكشف العورة. وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا هلكَتْ سَدُوْمُ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى حَتَّىْ اسْتَاكُوا بِالْمِسْواكِ، وَمَضَغُوا العلْكَ فِي الْمَجَالِسِ" (¬3). وإنما ذم الاستياك من حيث فعلُه في المجالس على وجه الاحتقار لمن فيه، وعدم الاعتناء بالجليس، وترك الحياء منه. وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والمفسرون، وصححه الحاكم، عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله تعالى عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] قال: "كَانُوا ¬
يَجْلِسُوْنَ بِالطرِيْقِ، فَيَخْذِفُوْنَ أَبْنَاءَ السَّبِيْلِ، وَيَسْخَرُوْنَ مِنْهُمْ " (¬1). ورواه الثعلبي، ولفظه: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] ما المنكر الذي كانوا يأتون؟ قال: كانوا يخذفون أهل الطريق ويسخرون بهم (¬2). وروى ابن مردويه عن جابر رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف، وهو قول الله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29]. ونحوه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬3). والخَذْف - بفتح الخاء المعجمة، وإسكان الذال المعجمة، وبالفاء -: رميك بحصاة، أو نواة، أو نحوهما تأخذ بين سبابتيك تخذف بها؛ قاله في "القاموس" (¬4). وقال الجوهري: الرمي بالحصا (¬5)؛ أي: ونحوه بالأصابع. ¬
وروى ابن أبي الدنيا عن علي رضي الله تعالى عنه قال: من أخلاق قوم لوط الجلاهق، والصفير، والخذف، ومضغ العلك (¬1). وروى الثعلبي عن مكحول قال: عشرة في هذه الأمة من أخلاق قوم لوط: مضغ العلك، وتطريف الأصابع بالحناء، وحل الإزار، وتنقيض الأصابع؛ أي: تفقيعها، والعمامة التي تلف بها على الرأس، والسُّكينية، ورمي الجلاهق، والصفير، والخذف، واللوطية (¬2). وروى الديلمي - بسند واه - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَشْرَةٌ مِنْ أَخْلاقِ قَوْمِ لُوْطٍ: الْخَذْفُ فِيْ النَّادِي، وَمَضْغُ الْعِلْكِ، وَالسِّوَاكُ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيْقِ، وَالصَّفِيْرُ فِي الْحَمامِ، وَالْجلاهِقُ، وَالْعَمَامَةُ الَّتِيْ لا يَتَلَحَّى بِهَا، وَالسُّكِيْنيةُ، وَالتَّطْرِيْفُ بِالْحِنَّاءِ، وَحَلُّ إِزَارِ الأَقْبِيَةِ، وَالْمَشي بِالأَسْوَاقِ وَالأَفْخَاذُ بَادِيَةٌ" (¬3). وما أشبه هذه الأخيرة بعادة الدروز، والتيامنة، والنصيرية، ومن والاهم من ترك السراويل والإزار، ورفع أذيال الثياب إلى الركبة. وروى البخاري في "تاريخه"، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله تعالى عنها في قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ¬
الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29]؛ قالت: الضراط (¬1). وروى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم: أنه سئل عن المنكر في الآية؛ قال: كانوا يتضارطون في مجالسهم، يضرط بعضهم على بعض (¬2). ويحتمل التضارط في كلامه حقيقة الضراط. ويحتمل أنه أراد الإضراط بالفم؛ كان يفعله بعضهم بحضور الآخرين، وهذا يفعله في هذه الأزمان كثير من المساخر والمضحكين. وذكر شيخ الإسلام والدي في تفسير المنكر زيادة على ما تقدم: الفساء؛ أي: في المجالس، وكشف العورة، وتشبيك الأصابع، واللعب بالنرد، ولباس المصبغات، وتشبه الرجال بالنساء، وتشبه النساء بالرجال - أي: في الأفعال والهيئات - والتشاتم، والمُكس. وقال الطرشوشي في "سراج الملوك": روي أن قوم لوط كانت فيهم عشر خصال فأهلكهم الله تعالى بها: كانوا يتغوطون في الطرقات، وتحت الأشجار المثمرة، وفي المياه الجارية، وفي شطوط الأنهار، وكانوا يخذفون الناس بالحصا فيعورونهم، وإذا اجتمعوا في المجلس ¬
أظهروا المنكر بإخراج الريح منهم، واللطم على رقابهم، وكانوا يرفعون ثيابهم قبل أن يتغوطوا؛ أي: قبل وصولهم إلى الغائط، ويأتون بالطامة الكبرى؛ وهي اللوطية، ويلعبون بالحمام، ويرمون بالجلاهق، وضرب الدفوف، وقص اللحية، وتطويل الشارب، والتصفق، ولبس الحمرة، انتهى (¬1). وقوله: واللطم على رقابهم يحتمل أنه كان يفعله الواحد منهم فيصك نفسه بنفسه ليضحك غيره، أو كان يصفعه غيره فيرضى، ويثبت لذلك ليضحك الحاضرين. وكلاهما مذموم يفعله الآن مساخر الناس ومضحكوهم، ولا ينكره منكر منهم. وقد اشتمل ما ذكرناه هنا عن قوم لوط على نحو أربعين خصلة؛ منها ما هو محرم في شريعتنا، ومنها ما هو مكروه أو خلاف الأولى، وليس منها ما هو مندوب إليه إلا ما كان من العمامة كما وقع في أثر مكحول؛ فإنها سيما المسلمين كما علمت. وما وقع من ذكر العمامة في كلامه مطلقاً محمول على تكبير العمامة زيادة عن العادة، أو تلطيفها وتزيينها، والتأنق في لفها وتكويرها، أو تعويجها، أو الميل بها إلى زي النساء كما يفعله كثير ممن لا خَلاق لهم؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬
أو المراد يقول مكحول: التي يلف بها على الرأس: أن تكور على الرأس، وتلف عليه شيئًا فشيئاً، ولعله خلاف الأولى، ولم أر فيه نصًا سوى كلام مكحول هذا. وحمله بعض العلماء على العمامة الصَّمَّاء، وهي التي ليست مُحَنَّكَة ولا لها ذؤابة. وروى أبو عبيد في "الغريب": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط (¬1). وفسر هو والجوهري، وابن كثير وغيرهم الاقتعاط: بأنه شد العمامة على الرأس من غير أن يجعل منها شيئًا تحت الحنك، وهو موافق لقوله في حديث ابن عباس: والعمامة التي لا يتلحى لها. وسئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن النهي عن الاقتعاط، فأجاب بأنه محمول على الكراهة دون التحريم. ونقل القاضي أبو الوليد بن رشد من أئمة المالكية أن مجاهداً نظر يومًا إلى رجل قد اعتم ولم يتحنك، فقال: اقتعاط كاقتعاط الشيطان؟ تلك عمامة الشيطان، وعمائم قوم لوط (¬2). وروى أبو بكر الخلال عن عمران المنقري قال: هذه الأعمة التي لا تجعل تحت الحنك عمةُ قوم لوط (¬3). ¬
11 - ومن أخلاق قوم لوط وأعمالهم: النميمة، وبها هلكت امرأة لوط.
لكن نقل الشيخ جمال الدين يوسف بن عبد الهادي في كتاب "رفع الملامة عن استخراج أحكام العمامة": أن الصحيح من مذهب الإمام أحمد عدم كراهية العمامة التي لم تحنك إذا لم تكن صماء بأن كان لها ذؤابة بعد أن قرر ثبوت ذلك من فعله - صلى الله عليه وسلم -. قال: والأَقْعَطُ هُو الأصمُّ الَّذي لا يخرج منه شيء. يقال: حمار أقعط: إذا كان مقطوع الذنب. وأما السكينية في حديث ابن عباس ومكحول فهي - بضم السين المهملة، وفتح الكاف، وياء النسبة - فهي الطرة السكينية، وهي طرة العمامة تخرج منها على غير الطريقة المسنونة من سدلها بين الكتفين كأن تخرج من أحد الجانبين يتشبه الرجال بها بالنساء. وفي "الصحاح"، و"القاموس" أن الطرة السكينية منسوبة إلى سكينة بنت الحسين، والمراد أنها كانت تؤثرها وتستحبها فنسبت إليها، لا أنها أول من ابتدعتها، أو هي أول من ابتدعها من نساء هذه الأمة (¬1). وروي في حديث مكحول السكينة - بفتح السين من غير ياء النسبة -، وحمل على تكلفها تصنعًا ورياء؛ والصواب الأول. 11 - ومن أخلاق قوم لوط وأعمالهم: النميمة، وبها هلكت امرأة لوط. وروى البيهقي، وابن عساكر، وأبو القاسم الأصبهاني في ¬
12 - ومنها: إقرار المنكر، وترك النهي عنه وترك الأمر بالمعروف، بل كانوا ينهون عنه ويأمرون بالمنكر.
"الترغيب"عن الضحاك في قوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10]؛ قال: إنما كانت خيانتهما النميمة؛ يعني: امرأة نوح، وامرأة لوط (¬1). وروى عبد الرزاق، وابن أبي الدنيا، والمفسرون، والحاكم وصححه، والأصبهاني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه قال في قوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10]: لم يكن زنا، ولكن امرأة نوح كانت تخبر أنه مجنون، وامرأة لوط كانت تخبر بالضيف إذا نزل (¬2). ولا شك أن نمها ذلك كان ضرباً من القيادة على المرد، وذلك كان حال قومها، فالقيادة على المرد من أقبح أعمالهم قاتلهم الله تعالى، وهي من أقبح الحرام، ولعلها أقبح من القيادة على النساء. 12 - ومنها: إقرار المنكر، وترك النهي عنه وترك الأمر بالمعروف، بل كانوا ينهون عنه ويأمرون بالمنكر. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)} [هود: 78]: ينهاكم. أخرجه أبو الشيخ (¬3). ¬
ورواه ابن أبي حاتم عن أبي مالك (¬1). وذكر الثعلبي في "العرائس" عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: إنما كان الذي عمل الفاحشة من قوم لوط ثلاثين رجلاً ونيفاً لا يبلغون الأربعين، فأهلكهم الله جميعاً؛ أي: لعدم إنكار الباقين على المرتكبين. وفي قوله: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)} [هود: 78] استفهام إنكاري معناه: لا رشيد فيهم؛ إذ لو كان لنهاهم، فلما تتابعوا في الغي هَلَكوا. وعن ابن عباس: لو كان في قوم لوط أربعة يصلون رفع عنهم العذاب. ومن هنا أوحى الله تعالى إلى لوط عليه السلام أن يسري بأهله بقطع من الليل ليتمحضوا للشر، فلا يبقى فيهم من يدفع الله بهم عنهم، وكان أهل لوط أربعة عشر نفسا منهم امرأته، فلما أصابها ما أصاب القوم وهلكت؛ كانوا ثلاثة عشر مؤمناً نجوا بإيمانهم مع لوط عليه السلام، كما رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى (¬2). وروى عبد بن حميد، وابن المنذر عن وهب بن منبه رحمه الله ¬
تعالى قال: إن الله تعالى ليحفظ بالعبد الصالح القبيل من الناس (¬1)؛ والله الموفق. *** ¬
(9) باب النهي عن التشبه بقوم شعيب عليه السلام
(9) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِقَومِ شُعَيبٍ عَلَيْهِ السَّلَام
(9) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشبُّهِ بِقَومِ شُعيْبٍ عَلَيهِ السَّلَام وهم أول المطففين. قال الله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 85] الآية. روى ابن عساكر عن إسحاق بن بشر عن ابن القطامي، وكان نسَّابة عالماً بالأنساب؛ قال: هو يثروب بالعبرانية، وشعيب بالعربية ابن عيفا بن يَوْبَب بن إبراهيم عليه السلام (¬1). ويثروب: بمثناة تحتية مفتوحة، ومثلثة ساكنة، وراء، وواو بَعْدَها موحدة. وعيفا: بمهملة مفتوحة، وتحتية ساكنة، وبالفاء. ويوبب على وزن جعفر: أوله مثناة تحتية، وبعد الواو موحدتان. وقيل: اسمه في التوراة: ميكائيل، واسمه بالسريانية: جرير، ¬
وبالعبرانية: شعيب بن سخر بن لاوى بن يعقوب عليه السلام. وقيل: شعيب بن يوبه - بهاء عوض الموحدة الثانية - ابن مدين ابن إبراهيم. وقيل: شعيب بن صفوان بن عيفا بن ثابت بن مدين. وقيل غير ذلك. وكان ابن بنت لوط عليه السلام (¬1). وقيل: كان زوجًا لبنت لوط عليه السلام (¬2). وروى ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه بعث بعد يوسف بن يعقوب عليهم السلام، بعثه الله تعالى إلى مدين، وهم أصحاب الأيكة، وهي الغَيضة المُخْصِبة. وقيل: هما طائفتان. وقيل: بعث إليهما وإلى أصحاب الرس. وكان قومه يعبدون الأصنام، ويقطعون السبيل، ويطففون المكيال والميزان، ويأكلون أموال الناس بالباطل، فلما تمادوا في ذلك أهلكهم الله تعالى بالصيحة والظُّلة. وقيل: أهلك الله مدين بالصيحة، وأصحاب الأيكة بالظلة. رواه ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن عكرمة، والسدي، وقالا: ¬
ما بعث الله تعالى نبياً مرتين إلا شعيباً عليه السلام (¬1). قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فلما عتا أهل مدين على الله تعالى أخذتهم الرجفة، وذلك أن جبريل عليه السلام صاح عليهم صيحة رجفت منها الجبال والأرض، فخرجت أرواحهم من أبدانهم، فذلك قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف: 78]. أخرجه ابن عساكر، وغيره (¬2). وروى ابن عسكر أيضاً عن جبلة بن عبد الله قال: بعث الله تعالى جبريل عليه السلام إلى أهل مدين شطر الليل ليأفكهم بمغانيهم، فألفى رجلاً قائماً يتلو كتاب الله، فهابه أن يهلكه فيمن يهلك، فرجع إلى المعراج، فقال: اللهم أنت سبوح قدوس، بعثتني إلى مدين لأفك مغانيهم، فأصبت رجلاً قائماً يتلو كتاب الله، فأوحى الله تعالى إليه: ما أعرفني به! هو فلان بن فلان، فابدأ به؛ فإنه لم يدفع عن محارمي إلا موادعاً (¬3). وفي هذا الأثر إطلاق المعرفة على الله تعالى، وقد منعها الأكثرون لعدم الورود. والمراد بالكتاب الذي كان يتلوه: صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ¬
وقد روى إسحاق بن بشر، ومن طريقه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن شعيبا عليه السلام كان يقرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى على إبراهيم عليه السلام (¬1). وروى أيضاً أنه قال في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [الحجر: 80] قال: كانوا أصحاب غيضة بين ساحل البحر إلى مدين {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء: 177]، ولم يقل أخوهم، أي: كما قال في أهل مدين: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85] لأنه لم يكن من جنسهم {أَلَا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 177] (¬2). وقال في قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189]: أرسل الله عليهم سموماً من جهنم، فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم الحر، فحميت بيوتهم، وغلت مياههم في الآبار والعيون، فخرجوا من منازلهم ومجالسهم هاربين والسموم معهم، فسلط الله تعالى عليهم الشمس من فوق، فغشيتهم حتى تقلقلت منها جماجمهم، وسلط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم، ثم نشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء، فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا تحتها جميعاً أطبقت عليهم، فهلكوا ونجَّى الله شعيباً عليه السلام والذين آمنوا معه (¬3). ¬
وكلام ابن عباس هذا والذي سبق عنه مُشْعِران بأن أهل مدين غير أصحاب الأيكة، وأنهما أمتان بعث الله تعالى إليهما شعيباً عليه السلام، غير أن مخازيهما وقبائحهما متشابهة. وعلى قول من يقول: إنما بعث مرة إلى أمة واحدة هم أهل مدين، وهم أصحاب الأيكة، فقال محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى: إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب: أخذتهم الرجفة في دارهم حتى خرجوا منها، فلما خرجوا منها أصابهم فزع شديد، فَفَرَقوا أن يدخلوا البيوت أن تسقط عليهم، فأرسل الله تعالى عليهم الظلة، فدخل تحتها رجل فقال: ما رأيت كاليوم ظلة أطيب ولا أبرد؛ هلموا أيها الناس، فدخلوا جميعاً تحت الظلة، فصاح فيهم جبريل عليه السلام صيحة واحدة، فماتوا جميعاً. أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). وقال أبو عبد الله البجلي: أبو جاد، وهواز، وكلمن، وسعفص، وقرشت أسماء ملوك مدين، وكان ملكهم في زمن شعيب كلمن، فقالت أخت كلمن تبكيه: [من مجزوء الرمل] كَلمُنْ قَدْ هَدَّ رُكْنِي ... هُلْكُهُ وَسْطَ الْمَحَلَّة سَيِّدُ الْقَوْمِ أَتاهُ الـ ... ــحَتْفُ نارٌ وَسْطَ ظُلَّة جَعَلَتْ نارٌ عَلَيْهِمْ ... دارَهُمْ كَالْمُضْمَحِلَّة (¬2) ¬
1 - منها: الكفر بالله تعالى
واعلم أن قوم شعيب عليه السلام انطووا على عظائم بها هلكوا. 1 - منها: الكفر بالله تعالى، وعبادة الأوثان: وهو أقبحها. 2 - ومنها: كفران النعم كالصحة، والفراغ، والأمن، والخصب، ورخص الأسعار، وعدم رعاية النعم بالطاعة، وعدم الخوف من تحولها عنهم اغتراراً بالله تعالى، وبَطَراً وأَشَراً. قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84]. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْر} قال: رخص السعر {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84] قال: غلاء السعر. رواه ابن جرير، وأبو الشيخ (¬1). قلت: في قوله تعالى: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْر} تذكير بالشكر، والحذر من الكفر، وكأنه أراد: إني أراكم بخير؛ فاشكروه بالطاعة، وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط بكم عذابه إن كفرتم نعمة ذلك الخير، وأعرضتم عن شكره كما تقول لمن يشكو إليك من الدهر ونقصان الحظ: أنت بنعمةٍ مِنَ الله وخيرٍ؛ فلا يليق بك أن تشكو، بل يليق بك أن تشكر. وأقول: [من الوافر] ¬
3 - ومنها: الخيانة في المكيال والميزان - وهو من الكبائر - ومثله الخيانة في الذرع، ونحوه.
وَكَمْ لِلَّهِ مِنْ نِعَمٍ عَلَيْنا ... عَجِزْنا أَنْ نَقُوْمَ لَها بِشُكْرِ فَكَيْفَ لَنا الشِّكايَةُ مِنْ بَلاءٍ ... وَأَوْلَى أَنْ نُقابِلَهُ بِصَبْرِ فَبِالشُّكْرِ الْمَزِيْدُ مِنَ الْعَطايا ... ثَواباً لا نُعادِلُهُ بِأَجْرِ فَقَدْ سَلَكَ الأُوْلَى عُرِفُوا بِشُكْرٍ ... وَقَدْ هَلَكَ الأُوْلَى عَجِلُوا بِكُفْرِ فَصَبْراً يا أَخا الْبَلْوى وَصَبْراً ... فَإِنَّ الصَّبْرَ مَقْرُونٌ بِنَصْرِ 3 - ومنها: الخيانة في المكيال والميزان - وهو من الكبائر - ومثله الخيانة في الذَّرْع، ونحوه. قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين 1 - 6]. روى النسائي، والطبراني، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، فأحسنوا الكيل بعد ذلك (¬1). وقال السدي: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وبها رجل يقال له: جهينة، له مكيالان يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فأنزل الله ¬
لطيفة
تعالى هذه الآية (¬1). وروى ابن ماجه، والحاكم وصححه، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ - وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُمْرِكُوهُنَّ -: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِم الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا ركَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولهِ إِلا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأخَذوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ يَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَخيَّرُوا فِيْمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ" (¬2). * لَطِيْفَةٌ: مما اتفق لنا في بعض المجالس وكنت قد ذكرت هذا الحديث أن قلت: سبحان الله! لو قلت لغني مُثرٍ مِنْ مَنَعَةِ الزكاة: هل لك في أكلة أو شربة وأنت بها في خفارتي وشفاعتي، أو صدقة مني عليك؟ لغَضِبَ واستنكف عن أكلها، ولم يغضب على نفسه إذ جعلته في خفارة كلاب عصره وحمير مصره لأنه استوجب بمنع الزكاة أن ¬
تنبيه
لا يرزق ولا يمطر، ولولا الكلاب والحمير وأمثالها لم يمطر، فهو في صدقتها ومنتها في كل رزق تمطره السماء أو تنبته الأرض؛ فافهم! * تنبِيْهٌ: يتناول وعيد المطففين من طفف لنفسه، ومن طفف لغيره، وهو أخبث منه، ومن رضي أن يطفف له. روى ابن مردويه - وأصل الحديث عند التّرمذي - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مَعْشَرَ الْمَوَالِي! إِنَّ اللهَ خَصَّكُمُ بِخصْلَتَيْنِ بِهِمَا هَلَكَت الْقُرُوْنُ مِنْ قَبْلِكُمُ: الْمِكْيَالَ، وَالْمِيْزَانَ". وفي رواية: "يَا مَعْشَرَ التُّجَارِ! وُلِّيْتُمْ أَمْرَيْنِ" (¬1). قال بعض العلماء: إنما نادى الموالي على الرواية الأولى لأن التجار جرت عادتهم بأن مواليهم وخدمهم يتولون لهم الكيل والوزن، فناداهم لأنهم هم المباشرون، وذنبهم أعظم لأنهم ممن يبيع دينه بدنيا غيره. ونادى التجار على الرواية الثانية لرضاهم بما يفعله مواليهم، وفعل مواليهم ناشئ عن أمرهم في الغالب. ¬
وروى الحاكم في "المستدرك" عن عبد الرحمن الأعرج قال: رأيت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقرأ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]، وهو يبكي؛ قال: هو الرجل استأجر الرجل أو الكيَّال، وهو يعلم أنه يحيف في كيله، فوزره عليه (¬1). وروى (¬2) ابن ماجه عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِه" (¬3). وروى الخِلَعي في "فوائده" من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "شر البرية" (¬4). ومن التطفيف: الأخذ بصنجة، والإعطاء بغيرها. قال خلف بن حوشب: هلك قوم شعيب عليه السلام من شعيرة إلى شعيرة؛ كانوا يأخذون بالرزينة، ويعطون بالخفيفة (¬5). قلت: وهذا حال كثير من تجار هذه الأعصار حتى لا يكاد يوافق ميزان لميزان، ولا مثقال لمثقال. ¬
4 - ومن أعمال قوم شعيب عليه السلام: البخس.
ومن التطفيف: أن يشتري بنقد، ثم يعطي عنه نقد غيره يحصل بدفعه عنه تفاوت ولو في دانق ونحوه، خصوصاً إذا خرج الحاكم على الناس في الصرف، وخالف النقد تخريجه بزيادة أو نقص، وذلك ما لم يجعل من القابض رضى ومسامحةٌ ظلمٌ، وأكلُ مال أخيه بالباطل. 4 - ومن أعمال قوم شعيب عليه السلام: البخس. وهو أعم من إخسار المكيال والميزان. قال الله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام يخاطب قومه: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85]. قال القرطبي: البخس النقص. قال: وهو يكون في السلعة بالتعييب، والتزهد فيها، والمخادعة عن القيمة، والاحتيال في التزيد في المكيال والنقصان منه، وكل ذلك من أكل المال بالباطل، وهو منهي عنه في الأمم المتقدمة على ألسنة الرسل عليهم السلام، انتهى (¬1). وروى ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن قوم شعيب كانوا قوماً طغاة بغاة يجلسون على الطريق يبخسون الناس أموالهم حتى يشتروها، وكان أول من سن ذلك هم، وكانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه ويقولون: دراهمك زيوف، فيقطعونها، ثم ¬
5 - ومنها: الإفساد في الأرض.
يشترونها منه بالبخس؛ يعني: بالنقصان، فذلك قوله: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 85] (¬1). 5 - ومنها: الإفساد في الأرض. قال تعالى حكاية عن شعيب يخاطبهم: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85]. وقد علمت أن ابن عباس حمله على بخس الناس خصوصاً الغرباء، وهو تفسير للإفساد ببعض أنواعه، وهو شامل لسفك الدماء، والنميمة، والعمل بالمعاصي. وتقدم نظيره في تسعة رهط. وفي قوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي: الانكفاف عن الإفساد، والبخس، وإيفاء الكيل بما يبعث الله لكم من الكسب الخالي عن ذلك خير لكم من طلب زائد عن ذلك بطريق البخس والإفساد. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ أي: مصدقين بقدر الله تعالى، وأنه لا يكون لكم من ذلك إلا ما قَسَمه لكم وقدَّره. ونحوه قوله: {وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود: 85، 86]. ¬
6 - ومنها - وهو من جنس ما قبله -: قطع الطريق.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: رزق الله. وقال قتادة: حظكم من ربكم خير لكم. أخرجه ابن جرير (¬1). 6 - ومنها - وهو من جنس ما قبله -: قطع الطريق. قال الله تعالى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86]؛ أي: ممن قبلكم من قوم لوط ومن قبلهم، وكيف هلكوا. وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب، فيتوعدون من أراد المجيء إليه، ويصدونه عنه، ويقولون: إنه كذاب فلا تذهب إليه كما كانت قريش تفعله بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬2). وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: هذا نهي عن قطع الطريق، وأخذ السَّلَب، وكان ذلك من فعلهم. نقله الثعلبي، وغيره (¬3). وقطع الطريق وإخافته من الكبائر. ¬
7 - ومنها: الجلوس في طرقات المسلمين وممارهم بقصد أذيتهم،
وروى ابن جرير عن أبي هريرة، أو غيره - شك أبو العالية (¬1) - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به على خشبة في الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته، ولا شيء إلا خرقته قال: "ما هَذا يا جِبْرِيْلُ؟ ". قال: مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه، ثم تلا: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} [الأعراف: 86] الآية (¬2). 7 - ومنها: الجلوس في طرقات المسلمين ومَمارِّهم بقصد أذيتهم، والوقوع فيهم، والنظر إلى ما لا يحل النظر إليه، وغير ذلك. وهذا قد صار الآن في أكثر الناس وعادتهم خصوصاً على أبواب بيوت القهوة المُحْدَثة. وقد صدق عليه تمثيلهم في الحديث بالخشبة التي على الطريق تعلق بثوب من يمر بها فتخرقه. وقد روى الشيخان، وأبو داود عن أبي سعيد - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ". قالوا: يا رَسولَ الله! ما لنا بدٌّ من مجالسِنا نتحدَّث فيها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَهُ". قالوا: وما حقُّه؟ ¬
قال: "غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَر" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن مالك بن التيهان رضي الله تعالى عنه قال: اجتمعت منا جماعة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: يا رسول الله! إنا أهل سافلة وأهل عالية نجلس هذه المجالس، فما تأمرنا؟ قال: "أَعْطُوْا الْمَجَالِسَ حَقَّهَا". قلنَا: وما حقُّها؟ قالَ: "غُضُّوْا أَبْصَارَكُمْ، وَرُدُّوْا السَّلامَ، وَأَرْشِدُوْا الأَغْمَارَ، وَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوْفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَر" (¬2). والأغمار - جمع غمر؛ بضم المعجمة - وهو: الجاهل الغِرُّ الذي لم يجرِّب الأمور. وفي حديث البراء رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: "فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَجْلِسُوْا فَاهْدُوْا السَّبِيْلَ، وَرُدُّوْا السَّلامَ، وَأَعِيْنُوْا الْمَظْلُوْمَ". رواه ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والترمذي (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن أبي الهذيل رحمه الله تعالى قال: كانوا ¬
8 - ومنها: المكس، وأخذ العشور التي لم يأت بها الشرع.
يكرهون أن يتخذوا المجالس أن يعدوها للسفهاء (¬1). وأنت خبير بأن المجالس الآن إنما تعد وتتخذ للسفهاء، وهو خلاف ما كان عليه السلف. 8 - ومنها: المكس، وأخذ العشور التي لم يأت بها الشرع. روى أبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف: 86] قال: هم العُشَّار (¬2) - بضم المهملة، وتشديد الشين المعجمة -: جمع عاشر، وهو من يعشر الناس؛ أي: يأخذ عشر أموالهم. والعَشَّار - بالفتح، والتشديد - قابض العشر. ولا يحل منه إلا عشر ما فيه الزكاة بشرطه، وما سواه مكس وظلم. قال القرطبي - بعد أن نقل عن السدي في الآية أن قوم شعيب كانوا عشارين متقبلين -: قال علماؤنا: ومثلهم اليوم هؤلاء المكَّاسون الذين يأخذون من الناس ما لا يلزمهم شرعاً من الوظائف المالية بالقهر والحبس، فضمنوا ما لا يجوز ضمان أصله من الزكاة، والمواريث، والملاهي، انتهى (¬3). ¬
والمكس ظلم مرتب على شيء لم يرتبه الشرع، فيدخل في ذلك ما يأخذه القاضي من أحد الخصمين وإن لم يكتب له صكاً، وقد نوَّعوه وأحدثوا له أسماء كحجة الدعوى، وحجة الكفالة، وحجة الوكالة، وأجرة المقدم، والخدمة، فرتبوه على أمور أحدثوها لا يوافقها الشرع ربما سموه محصولاً. ومن ذلك أن القاضي يأخذ ممن استحق وصية من ميت ثلث ما يأخذه، وربما أخذوا لخدامهم غلمانية، أو صبيانية، أو أمانة، أو مهردارية، وصارت هذه الأمور متعارفة عندهم لا ينكرونها. وكذلك ما يأخذه القضاة رسماً على الأنكحة ومحاسبة على مال اليتيم وقسمه. والذي يقره الشرع من ذلك ما كان في مقابلة القسمة بين الورثة الطالبين لها، أو لو كان فيها يتيم ولم يطلب الباقون فيأخذون أجر مثله ممن يقسم له، وكذلك أجرة مثل محاسبته لو حاسب بالطريق المذكور، فأما ما يؤخذ للقاضي والمباشر لذلك نائبه فلا أعرف لأخذهم له وجهاً، وكذلك ما يؤخذ للوالي من الديات، ويسمونه عشر الدم، بل ربما أخذوه من أهل المحلة أو القرية التي يقتل فيها القتيل عمداً أو خطأ، أو من أهل القتيل. وأقبح منه ما يأخذه القاضي كشفاً، ويتجاوزون فيه، وإنما يباح منه أجرة مثل الكاشف ممن طلب الكشف، وما يؤخذ للوالي أيضاً من الزاني، أو السارق، أو الشارب ولو بالتهمة، أو من كل مَن عزَّره
القاضي، وكذلك اليسق الذي يؤخذ على الديون التي تثبت عند القاضي، ومن الأسواق، ومَن يمر بها من الجلاَّبين ببضاعة أو غيرها، وما يؤخذ على الفواكه وسائر المبيعات من قوت أو حيوان أو ثياب، وما يؤخذ عداداً على المواشي التي ترعى في كلأ مباح، وما يؤخذ من حانات الخمر وبيوت القمار، وكذلك ما يأخذه البوابون على أبواب المدن أو الخانات، وكذلك ما يجمع للعرفاء وشيوخ الحِرف والحارات لكونهم كذلك، وما يأخذه بعض من يعزر بهم من المعزر على كل سوط درهماً، ونحو ذلك من الغرامات، فكلُّ هذا مُكس محرم، ومرتكبه مرة واحدة فاسق معذب بالنار إلا أن يتوب أو يعفو الله تعالى عنه، فإن اعتقد حله كان كافراً مخلداً في النار. قال الحافظ الذهبي في كتاب "الكبائر": وجابي المكس، وكاتبه، وآخذه من جندي وشيخ وصاحب زاوية شركاءُ في الإثم، أكَّالون للسُّحت، انتهى (¬1). وحرمة ذلك بنص القرآن. قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42]. ¬
9 - ومن أعمال قوم شعيب: تلقي الركبان للبيع، وتغرير الجلابين والغرباء.
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه، عن عقبة ابن عامر رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مكْسٍ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" عن نَوف البَكَالي قال: بايتُّ علياً رضي الله تعالى عنه، فأكثر الخروج والدخول والنظر في السماء، وقال: إن نبي الله داود عليه السلام قال: إن هذه ساعة لا يسأل الله فيها عبد مسلم شيئاً إلا أن يكون شاعراً، أو عريفاً، أو عاشراً، أو شرطياً، أو صاحب كوبة - وهي الطبل - أو صاحب عرطبة - وهي الطنبور - (¬2). والمراد بالشاعر الذي يأثم بشعره. 9 - ومن أعمال قوم شعيب: تلقي الركبان للبيع، وتغرير الجلابين والغرباء. وهو داخل في معنى البخس. وتقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنهم كانوا طغاة بغاة، يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم حتى يشتروها، وكان أول من سن ذلك هم. ¬
10 - ومنها: قرض الدرهم والدينار، وكسرها بغير غرض صحيح.
10 - ومنها: قرض الدرهم والدينار، وكسرها بغير غرض صحيح. قال ابن وهب في قوله تعالى: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]: قال مالك رحمه الله تعالى: كانوا يكسرون الدراهم والدنانير. قال القرطبي: وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين؛ كسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم. قال: وكسرهما ذنب عظيم (¬1). وتقدم نظير ذلك من أعمال التسعة رهط. وروى أبو الشيخ عن ربيعة بن أبي هلال: أن ابن الزبير عاقب في قرض الدراهم (¬2). وقال محمد بن كعب القرظي: عذب قوم شعيب في قطعهم الدراهم، وهو قوله تعالى: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]. رواه ابن جرير، وابن المنذر (¬3). وقال ابن زيد: نهاهم شعيب عليه السلام عن قطع هذه الدنانير والدراهم، فقالوا: إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء؛ إن شئنا قطعناها، ¬
تنبيه
كان شئنا طرحناها. رواه ابن جرير، وأبو الشيخ (¬1). وهو يدل على أن من أعمالهم مقابلة النص بالرأي والمقايس، كما فعل إبليس قبحهم الله تعالى. وقال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: قطع الدراهم والدنانير المثاقيل التي قد جازت بين الناس، وعرفوها من الفساد في الأرض. رواه عبد الرزاق، وابن المنذر، وأبو الشيخ (¬2). وخرَّجا نحوه عن زيد بن أسلم (¬3). * تَنْبِيهٌ: من الفساد في الأرض الزَّغل، وضرب مثل السكة التي يضربها الإمام، إلا أن الزاغل يُدخل في الذهب والفضة غيرهما من المعادن كالفضة في الذهب، والنحاس فيهما، لكن ما يدخله أكثر ما يدخله ضارب السك الإمام، وهو من أشد الحرام. ولفظ الزغل - بمنقوطتين - مُحْدَث مأخوذ من: زغله؛ كمنعه؛ أي: صبَّه ومجَّه؛ لأن الزاغل يصب على النقدين غيرهما، ويمجه فيهما. ¬
11 - ومنها: السخرية والاستهزاء بالمؤمنين، وبالمصلين وحملة القرآن، وأهل العلم، والتهكم عليهم، والتكبر عليهم، واحتقارهم.
أو: من أزغل الطائر فرخه: إذا زقه. 11 - ومنها: السخرية والاستهزاء بالمؤمنين، وبالمصلين وحَمَلة القرآن، وأهل العلم، والتهكُّم عليهم، والتكبر عليهم، واحتقارهم. وكل ذلك حرام. قال الله تعالى: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]. قال قتادة: قالوا: إنك لأنت الحليم الرشيد استهزاء به. رواه ابن جرير، وغيره (¬1). وقال الأحْنف بن قيس: إن شعيباً عليه السلام كان أكثر الأنبياء عليهم السلام صلاة. أخرجه ابن عساكر (¬2). وقال الأعمش في قوله: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ}؛ قال: أقراءتك. رواه عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬3). سميت القراءة صلاة لأنها عمدتها. ¬
12 - ومنها: التعيير بالأمراض ونحوها من بلاء الله تعالى إذا مس المؤمن تمحيصا لذنوبه يعده الفاجر عيبا للمؤمن ونقصا، وكذلك التعيير بالفقر وقلة الشر.
ونظيره الحديث الآخر: "يَقُوْلُ اللهُ: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيني وَبَيْنَ عَبْدِي" (¬1)؛ يعني: الفاتحة. وقال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} [الأعراف: 88] الآية. وقد سبقهم إلى الاستكبار والسخرية بأولياء الله تعالى قوم نوح عليه السلام كما قال تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} مِنَّا {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 38 - 39]. 12 - ومنها: التعيير بالأمراض ونحوها من بلاء الله تعالى إذا مسَّ المؤمن تمحيصاً لذنوبه يعده الفاجر عيباً للمؤمن ونقصاً، وكذلك التعيير بالفقر وقلة الشر. قال الله تعالى: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91]. روى ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} قال: كان ضرير البصر (¬2). ¬
وروى أبو الشيخ عن سفيان رحمه الله تعالى في الآية قال: كان أعمى. وكان يقال: خطيب الأنبياء عليهم السلام (¬1). وروى هو وابن عساكر عن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه قال في الآية: كان أعمى، وإنما عَمِيَ من بكائه من حب الله - عز وجل - (¬2). وروى الواحدي من حديث شدَّاد بن أوس رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَكَى شُعَيْبُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن حُبِّ اللهِ حَتَّى عَمِيَ، فَردَّ اللهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ" (¬3). ولعل تعبير قوله: (كان) قبل ردّ بصره إليه، ويجوز أن يكون بعده، والعدو قد يستصحب من عدوه حالة بلاء تقدمت له فيعيِّره به وإن عوفي منه. وكذلك قد ينسب العدو ما يراه من عدوه من كمال أو قوة إلى غيره لأنه يريد غيظه كيفما كان، كما قال قوم شعيب له: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية: فو الله ¬
تنبيه
الذي لا إله غيره ما هابوا جلال ربهم، ما هابوا إلا العشيرة. أخرجه أبو الشيخ (¬1). وروى الترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الأيْمَانُ إِلَىْ قَلْبِهِ! لا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِيْنَ وَلا تُعَيِّرُوْهُمْ "، الحديث (¬2). * تنبِيْهٌ: روى الطبراني في "الأوسط"، وابن مردويه في "تفسيره" بإسناد صحيح، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "إِنَّ نَاسًا مِن أُمَّتِيْ يُعَذَّبُوْنَ بِذُنُوْبِهِمْ فَيَكُوْنُوا فِي النَّارِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُوْنُوْا، ثُمَّ يُعَيِّرُهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ: مَا نَرَى مَا أَنتمْ فِيْهِ مِنْ تَصْدِيْقِكُمْ يَنْفَعُكُمْ، فَلا يَبْقَىْ مُوَحِّدٌ إِلاَّ أَخْرَجَهُ اللهُ مِنَ النَّارِ". ثُمَّ قَرَأَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] (¬3). ففي هذا الحديث دليل أن تعيير الفاجر المؤمن وغيره من الأخلاق الذميمة تبقى مع أهل النار في النار. ¬
تنبيه ثان
ويدل له أيضًا قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]. والحكمة في ذلك: أن تكون أخلاقهم معهم شاهداً عليهم باستحقاقهم ما هم فيه من العذاب ليكون سبب عذابهم خالداً، فيخلد معهم عذابهم. وفي الحديث أيضا إشارة إلى أن المُعَيَّر ببلاء الله تعالى يكون تعييره سبباً لنجاحه وتمام إسعاده حتى يكون ذلك نافعاً للموحدين وهم في نار جهنم، ينفعهم تعيير الكفار لهم بعذاب الله الذي ما نزل بهم إلا تمحيصاً لذنوبهم، فيكون تعييرهم إياهم سبباً لخروجهم من النار، وهو زيادة نكال للمعيرين لهم، وعند ذلك تشتد ندامتهم على ما فرطوا فيه من الإيمان والتوحيد والإسلام، فيودون لو كانوا مثلهم. وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد"، وابن أبي شيبة، والبيهقي في "البعث"، وغيرهم عن ابن عباس، وأنس - رضي الله عنه - أنهما تذاكرا هذه الآية: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2]، فقالا: هذا حيث يجمع الله تعالى بين أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار، فيقول المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون، فيغضب الله لهم، فيخرجهم بفضل رحمته (¬1). * تنبِيْهٌ ثانٍ: قال الله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ ¬
تنبيه ثالث
شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89]. وهذا فيه إشارة إلى أن التحذير من أعمال الأمم السالفة، والتنفير عن التشبه بهم خلق نبوي قديم، وأَن التذكير بالأمم الماضية ليس إلا للتنفير عن مثل أعمالهم التي كانت سبباً لهلاكهم، وأن الشقاق والجدال من أخلاق قوم شعيب وأعمالهم، وأنه يفضي بصاحبه إلى التصميم على رأي النفس ومتابعة الهوى حتى يكون ذلك مانعًا للمرء عن اتباع الحق، فيكون من الهالكين. وفي قوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} تلميح بأنهم كانوا مرتكبين مثل أعمالهم. وقد سبق أن عمل قوم لوط كان فاشياً في أصحاب الرَّسِّ، وهم أصحاب الأيكة على بعض الأقوال، وهذا غير بعيد لأن الشر متى فتح بابه تتابع الناس عليه لميلهم إلى التقليد، وبذلك يشتد طمع الشيطان فيهم، ولا تجد باباً من الشر فُتح إلا واتسع بعد فتحه خرقُه، وبَعُد على كل مؤمن رتقُه. * تنبِيْهٌ ثالِثٌ: الخصال التي توارد عليها الأمم الهالكة عشر: الكفر، وقسوة القلب، والظلم، والبطر، والجرأة، والإصرار، والأمن من مكر الله، ونقض المواثيق والعهود، وكفران النعم، والاغترار بالله. قال كعب الأحبار لأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: في التوراة:
من يظلم يخرب بيته. فقال أبو هريرة: وذلك في كتاب الله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52] (¬1). وروى الدينوري في "المجالسة": أن هذه القصة صارت بين كعب وابن عباس رضي الله تعالى عنهم (¬2). وروى أبو نعيم عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه قال: إنما هلك من كان قبلنا لحبسهم الحق حتى يشترى منهم، وبسطهم الظلم حتى يفتدى منهم (¬3). وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ}؛ أي: فلم يؤمنوا ولم يجيبوا، {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأنعام: 42]. البأساء: الشدة والفقر، والضراء: الضر والآفات. وروى أبو الشيخ عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى في قوله: {بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}؛ قال: خوف السلطان، وغلاء الأسعار (¬4). وما ذكرته شامل لهذا ولغيره. {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]؛ أي: يتذللون لنا فيتوبون إلينا. ¬
{فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]. قال قتادة رحمه الله تعالى في الآية: عاب الله عليهم القسوة عند ذلك - أي: عند بأس الله - فتضعضعوا لعقوبة الله تعالى بارك الله فيكم، ولا تتعرضوا لعقوبة الله - أي: ثانياً - بالقسوة؛ فإنه عاب ذلك على قوم قبلكم. رواه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ (¬1). والبأس: العذاب، والبأساء: نوع منه، أو أبلغ منه لزيادة الساء. فإن قلنا بالأول فالوجه في قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} [الأنعام: 43]، ولم يقل: بأساؤنا أن التضرع والاستكانة إلى الله تعالى مطلوبان مأمور بهما عند كل نوع من أنواع البلاء والشدة والعذاب، لا يختص بنوع منه دون نوع، ومن ثم استحب الاسترجاع إذا انقطع شِسع النعل. وإن قلنا بالثاني فالوجه فيه أن التضرع والاستكانة مطلوبان عند كل بأس وإن كان قليلاً، لا يختص به الشديد البالغ منه؛ فإن البلاء إذا نزل بالعبد فإنما يُنزله الله به تذكرة له وتنبيهاً، فإذا لم ينتبه ولم يتذكر دلَّ ذلك على خذلانه، ومن ثم قال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}؛ أي: من الرخاء وسعة الرزق وكثرة النعم. ¬
{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]. قال محمد بن النضر الحارثي رحمه الله تعالى في قوله: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}؛ قال: أُمهلوا عشرين سنة. رواه ابن أبي حاتم، وغيره (¬1). والمبلس: الآيس، المكتئب، المُجْهَد، والمكروب المتغير الوجه الذي نزل به من الشر ما لا يدفعه، ومنه سمي إبليس. قال تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45]؛ أي: على استئصالهم بالعذاب. روى البيهقي في "الشعب" عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ مُقِيْمٌ عَلَىْ مَعَاصِيْهِ مَا يُحِبُّ فَإنَّمَا هُوَ اسْتِدرَاجٌ"، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44]، الآية، والآية التي بعدها (¬2). وقال الله - عز وجل -: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ}؛ أي: فكذبوه أو عصوه {إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}؛ أي: فيرجعوا عن المعاصي {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} قال ابن عباس: مكان الشدة الرخاء {حَتَّى عَفَوْا}؛ قال: حتى كثروا وكثرت ¬
أموالهم. رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). وعن قتادة: حتى كثروا. وعن مقاتل: بطروا ولم يشكروا ربهم. رواهما الثعلبي (¬2). {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف: 95]؛ قال قتادة في الآية: قالوا: قد أتى على آبائنا مثل هذا فلم يكن شيئاً. {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 94 - 95]؛ قال: بَغَتَ القومَ أمرُ اللهِ، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكونهم، وغرتهم، ونعمتهم؛ فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. رواه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم (¬3). ثم قال تعالى مشيراً إلى أنهم لو قابلوا النعمة بالشكر الذي هو الطاعة، ولم يغتروا بها، ولم يبطروا، ولم ينسوا نعمها، لدامت عليهم وزادت، وبورك فيها: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا}؛ أي: آمنوا بالله ورسله، واتقوا المعاصي. {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: بالمطر، والنبات الكثيرين النافعين. ¬
{وَلَكِنْ كَذَّبُوا}؛ أي: وعصوا {فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}؛ أي: فدعاهم الأمن إلى التمادي في الغرور والضلال ليلاً ونهاراً. {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 96 - 99]. ووضع الظاهر موضع المضمر تفخيمًا وتهويلاً لأمر الأمن من المكر. قال هشام بن عروة: كتب رجل إلى صاحب له: إذا أصبت من الله شيئاً يسرُّك فلا تأمن أن يكون فيه مكر، وإنّه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. أخرجه ابن أبي حاتم (¬1). ثم قال تعالى محذِّراً لهذه الأمة من مثل ما نزل بالأمم: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100]. ونقل البغوي عن قتادة، ويعقوب أنهما قرءا: (أوَلم نهد) - بالنون - (¬2). والمعنى - والله أعلم -: أوَلَم يتبين لمن وَرِثوا الأرض بعد الأمم الهالكة بسبب التمادي في المعاصي - والوارثون هم هذه الأمة - ¬
فاقتدوا بهم، وعملوا مثل أعمالهم، أنهم متعرضون بذلك لمثل ما نزل بالأمم من العذاب. أو المعنى: أولم يتبين لمن ورث أرضاً من بعد أهلها؛ فإن كل ذي أرض مملوكة مشتملة على مساكن ومزارع ومنافع لا بد أن يذهب ويتركه، فيرثها غيره. والاستفهام للتوبيخ؛ أي: أيليق ويحسن لمن ورث أرضاً هلك عنها صاحبها بعد بطره وغروره، وكان هلاكه بسبب إصراره على معاصيه أن يقلدوه في الغرور والتمادي في الذنوب، ويعمل مثل عمله؟ إنه متعرض لمثل ما نزل به أن ينزل به، فلو نشاء أن نؤاخذه بذنوبه ما كان له عمل صالح يدفع عنه العقوبة والعذاب. وقوله: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأعراف: 100] معطوف عطف الجملة بعضها على بعض؛ أي: ونحن نطبع على قلوبهم فلم يهتدوا إلى هذا الأمر، فهم لا يسمعون الترهيب فيرهبوا، ولا الترغيب فيرغبوا، ولا المواعظ فيتعظوا. والحاصل: أن من تشبه بأحد من الهالكين فيما هلكوا فقد عرض نفسه لمثل ما هلكوا به إلا أن يلطف الله به فيتوب؛ نسأل الله تعالى التوبة والمغفرة، فإنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه. وأما ما ذكرناه عن الأمم الهالكين مما اتفقوا عليه من الجرأة والإصرار، فمن تأمل قصصهم وما كانوا يجيبون به رسلهم، وإغلاظهم
لهم، ومناقضة أوامرهم، والمبادرة إلى تكذيبهم، والمداومة منهم على ذلك كله، تحقق جرأتهم على الله، وإصرارهم على معاصيه، وسبب ذلك كله الجهل؛ فإن الجرأة إنما تكون على من يملك المجترئ منه ضرر أو أذى يوصله إليه، وهذا محال؛ فإن الله تعالى ذو البطش الشديد، والفعَّال لما يريد، وهو من وراء خلقهم كلهم محيط بكبيرهم وصغيرهم، منزَّه عن صفات الحَدَث، ووصول الضرر، متعال عن كل ضرر وسوء وأذى، وهو الضار النافع، المعطي المانع، المنعم المنتقم، فالمجترئ عليه لم يدع من الجهل شيئاً. وقد روى الدينوري في "المجالسة" عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم: أنه سمع رجلاً يقول: ما أجرأَ فلانًا على الله! فقال القاسم: إن ابن آدم أهون وأضعف من أن يكون جريئاً على الله تعالى، ولكن ما أقلَّ معرفتَه بالله (¬1)! وكذلك الإصرار أصله الجهل بالله، والجهل بعذابه وانتقامه مع استحسان ما عليه المُصِرُّ من الضلال، وإعجابه بما له من الرأي الخالي عن الحكمة؛ كَشَفَ اللهُ تعالى عنَا غَمْرةَ الجهل، ورفع عنا سَكْرة الهوى. ¬
(10) باب النهي عن التشبه بفرعون وقومه
(10) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِفِرْعَونَ وَقَوْمِهِ
(10) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِفِرْعَونَ وَقَوْمِهِ وهو أول من خضَّب بالسَّواد، وسخر النَّاس في الأعمال الشَّاقة، وبنأنه بالآجر، وصلب، وقطع الأيدي والأرجل من خِلافٍ ظلماً. وفرعون في الأصل: اسم لكل من ملك مصر. وقيصر: لمن ملك الروم. وكِسْرى: لمن ملك الفرس. والنَّجاشي: لمن ملك الحبشة. وتُبَّع: لمن ملك اليمن. ويقال فرعون لكل عاتٍ متمرد؛ كأنَّه مأخوذ من اسم فرعون. ومنه قولهم: تفرعن، إن تخلَّق بخلق الفراعنة، كما في "القاموس" (¬1). ومنه سُمي أبو جهل: فرعون هذه الأمة، كما في الحديث (¬2)؛ ¬
ونبه عليه الجوهري (¬1). وقال صاحب "الكشاف": ولعتو الفراعنة اشتقوا: تفرعن فلان: إذا عتى وتجبر (¬2). ومن لطائف الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، وهو من مشاهير شعره: [من البسيط] إِنِّي امْرؤٌ ليْسَ في دِيْنِي لغَامِزَةٌ ... لِينٌ وَلَسْتُ عَلَى الإسْلامِ طَعَّاناً فَلا أَسُبُّ أَبا بَكرٍ وَلا عُمَراً ... وَلنْ أَسُبَّ مَعَاذَ الله عُثْمَانَا ولا الزُّبيرَ حَوَاريَّ الرَّسُولِ ولا ... أهْدِي لِطَلْحَة شَتْمًا عزَّ أوْ هَانا ولا أقولُ عَلِيٌّ فِي السَّحَابِ إذاً ... قَدْ قُلْتُ واللهِ ظُلْماً ثُمَّ عُدْوَانا ولا أقولُ بِقَولِ الجَهْمِ إنَّ لَه ... قَولاً يُضَارعُ أَهْلَ الشِّرْكِ أَحْيَانا ¬
ولا أقولُ تَخلَّى عَنْ خَلِيقَتِهِ ... ربُّ العبادِ وَوَلَّى الأَمْرَ شَيْطَانا ما قالَ فِرْعَونُ هذا في تَجَبُّرِهِ ... فِرْعَونُ مُوسَى وَلا هَامَانُ طُغْيَانا (¬1) قال وهب بن مُنبِّهٍ رحمه الله تعالى: فرعونُ موسى هو فرعونُ يوسف: عاش حتى بعث الله إليه موسى. وقال الأكثرون: هو غيره (¬2). وتأولوا قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر: 34] على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد، وكان اسم فرعون موسى - وهو المراد عند الإطلاق -: مصعب بن الوليد، وكان قصيراً. روى ابن قتيبة في "مختلف الحديث" عن الحسن رحمه الله تعالى: ما كان طول فرعون إلا ذراعاً، وكانت لحيته ذراعاً (¬3). وروى أبو الشيخ بن حيان في كتاب "النتف والنوادر" عن الحسن ¬
قال: كان فرعونُ عِلجاً من أهل أصبهان طولُهُ أربعةُ أشبارٍ (¬1). وعن أبي حُبابٍ قال: كانت لحية فرعون طولها سبعة أشبار، وكانت خضراء (¬2). وروى الطَّبراني في "الأوسط" عن أبي بكر الصِّديق رضي الله تعالى عنه قال: أُخبرتُ أن فرعون كان أثرم (¬3). والثرم - بفتح المثلثة، والراء -: سقوطُ الثنيَّةِ؛ يُقال: ثَرِمَ كفَرِحَ. وعن مجاهدٍ قال: كان فرعون من أهل إصطخر. وأخرجه ابن أبي حاتم، ولفظه: كان فارسياً من أهل إصطخر (¬4). وأخرج عن الحسن قال: كان فرعون علجاً من همدان (¬5). وعن ابن لهيعة: أن فرعون كان من أبناء مصر (¬6). وعن عليِّ بن أبي طلحة: أن فرعون كانَ قبطياً ولد زنا، طوله سبعة أشبار (¬7). وروى هو وأبو الشيخ عن محمَّد بن المنكدر رحمه الله تعالى قال: عاش فرعون ثلاثمئة، منها مئتان وعشرون سنة لم ير فيها ما يُقْذِي عينه، ¬
ودعاه موسى عليه السلام ثمانين سنة (¬1). وروى أبو الشَّيخ عن إبراهيم بن مقسم الهُذلي قال: مكث فرعون أربعمئة سنة لم يصدع له رأس. وعن أبي الأشرس قال: مكث فرعون أربعمئة سنة في الشباب، يغدو فيه ويروح (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير رحمه الله تعالى قال: كان يُغْلَقُ دونَ فرعون ثمانون باباً (¬3). قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 96، 97]. فانظر كيف ذم الله تعالى فرعون وذم أتباعه، وبين أنَّ أمره غير رشيد، فلا يليق التشبه في أمره حيث ذمه الله تعالى، وأخبر أنه ليس برشيد. وقال تعالى ناهياً موسى وهارون عليهما السَّلام عن اتباع طريق فرعون وقومه: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس: 89]. وكان من أمر فرعون أنه كفر بالله تعالى، وادَّعى الربوبية لنفسه، ¬
1 - الكفر بالله تعالى، وعبادة ما سواه، ودعوى الألوهية والربوبية.
واستعبد بني إسرائيل، وذبح أبناءهم حين قيل له: يولد في هذا العام من بني إسرائيل مولود يكون ذهاب ملكك على يديه، فأمر بذبح الأبناء، وأخفى الله تعالى حَمْلَ أمِّ موسى عنه، ولما ولدته ألهمها الله تعالى أن تضعه في التابوت فتلقيه في اليم، ففعلت، فالتقطه آل فرعون، ثُمَّ رباه الله تعالى في بيت فرعون بعد أن رجعه إلى أمه فأرضعته كما قصَّ الله تعالى ذلك في الكتاب العزيز، ثم لما كبر موسى عليه السَّلام وبلغ ثلاثين سنة، وَكَزَ القِبطيَّ فقضى عليه، ثم خرج من المدينة خائفاً يترقب حتَّى ورد ماء مدين، فسقى لِبِنتي شعيب عليه السلام، ثم تزوج بإحداهما، وسار بأهله بعد عشر حِجج، فآنس من جانب الطُّور ناراً فكلمه الله تعالى، ثم أرسله إلى فرعون، وأرسل معه أخاه هارون يدعوانه إلى الله تعالى، ويأمرانه أن يرفع العذاب عن بني إسرائيل ويرسلهم معهما، والقصة طويلة جداً، وليس الغرض بيانها هنا، وإنَّما المراد سبر قبائح فرعون وقومه تحذيراً من التشبه بهم فيها. فمن قبائح فرعون وقومه: 1 - الكفر بالله تعالى، وعبادة ما سواه، ودعوى الألوهيَّة والربوبية. وذلك غاية الجهل إذ زعم أنَّه رب وعبد. قال الله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]، فهذه الآية دالة على أن فرعون كان له آلهة يعبدها.
قيل: كان يعبد الشمس. وروى ابن أبي حاتم عن سليمان التيمي: أنه سأل الحسن رحمهما الله تعالى: أكان فرعون يعبد شيئاً؟ قال: إي والله؛ إنَّما كان يعبد. قال سليمان: بلغني أنَّه كان يجعل في عنقه شيئاً يعبده. قال: وبلغني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنَّه كان يعبد البقر (¬1). زاد الثعلبي عن ابن عباس: أن فرعون كان إذا رأى بقرة حسناء يعبدها (¬2). وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان لفرعون آلهة يعبدها (¬3). قلت: ولا يمنع ذلك أن يكون له آلهة يعبدها علانية كما يعرف من الآية، إذ لو لم يعرف الملأ منه ذلك لم يقولوا له: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]، ولعله كان يُسِرُّ عبادتها عن العوام، ويبديها للخواص. وذكر الثعلبي عن الحسن: أنَّ فرعون كان يعبد تَيْساً (¬4). ¬
وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: كان صَنَعَ فرعون لقومه أصناماً صغارًا، وأمرهم بعبادتها، وقال: أنا ربكم، وهذه الأصنام، فذلك قوله: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24] (¬1). والمشهور عن ابن عبَّاس أنّه كان يقرأ: {ويذروك وإلهتك} - أي: بكسر الهمزة، وفتح اللام، والألف بعدها - وكان يفسرها: وعبادتك (¬2). تبعه المفسرون، وابن الأنباري في المصاحف (¬3). وروى ابن جرير، وابن الأنباري عن الضَّحَّاك نحوه (¬4). وروى ابن عساكر عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَلِمَتَانِ قَالَهُمَا فِرْعَونُ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] إِلَى قوْلهِ {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] كانَ بَيْنَهمَا أَرْبَعُوْنَ عَامًا، فَأخَذَهُ اللهُ نكَالَ الآخِرَةِ وَالأُوْلَى" (¬5). وروى الدّينوري في "المجالسة" عن محمَّد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى قال: لما قال فرعون لقومه: ما علمت لكم من إله غيري ¬
نشر جبريل عليه السَّلام أجنحة العذاب، فأوحى الله تعالى إليه: أَنْ مَهْ يا جبريل؛ إنَّما يعجل بالعقوبة من يخاف الفوت، فأمهل بعد هذه المقالة أربعين سنة حتَّى قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، فذلك قوله: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات: 25] حين غَرَّقه الله وجنوده (¬1). وروى عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات: 25]؛ قال: عقوبة الدنيا والآخرة (¬2). وروى عبد بن حميد، وابن المنذر عن الحسن مثله (¬3). وهذا بناء على أن فرعون معاقب في الآخرة عقوبة الكفار؛ فإنه مات على الكفر، ولا ينفعه قوله حين أدركه الغرق: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]؛ نكب عن الإيمان أوان القبول، وبالغ فيه حين لا يقبل. وفي الحديث عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما في الآية: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قالَ لِي جِبْرِيْلُ: يَا مُحَمَّد! لَو رَأيتَنِي وَأنَا آخِذٌ مِن ¬
حَالِ البَحْرِ فَأُدْنِيهِ فِي فِيهِ". وفي رواية: "فِي فِيِّ فِرعونَ مَخَافةَ أنْ تُدرِكَهُ الرَّحمَةُ". رواه الإمام أحمد، والترمذي؛ وحسنه باللفظ الأول، وصححه باللفظ الثاني هو وابن حبان، والحاكم (¬1). وهذا لم يكن من جبريل إلا بأمر الله تعالى، أو لما علم أنَّه ليس من أهل أن يرحم، ويدل عليه حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ لِي جِبْرِيْلُ: مَا أَبْغَضْتُ شَيْئاً مِن خَلْقِ اللهِ مَا أَبْغَضْتُ إِبْلِيْسَ يَوْمَ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَأَبَى أَنْ يَسْجُدَ، وَمَا أَبْغَضْتُ شَيْئاً أَشَدَّ بُغْضًا مِن فِرْعَونَ، فَلَمَّا كَانَ يَومُ الغَرَقِ خِفْتُ أَنْ يَعْتَصِمَ بِكَلِمَةِ الإِخْلاصِ فَينْجُو، فَأَخَذْتُ قَبْضَةً مِن حَمْأَةٍ فَضَرَبْتُ بِهَا فِي فَمِهِ، فَوَجَدْتُ اللهَ عَلَيْهِ أَشَدَّ غَضَبًا مِنِّي، فَأمَرَ مِيْكَائِيْلَ عليه السَّلام ليُعَيّرَهُ، فَقَالَ: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] ". أخرجه أبو الشيخ (¬2). وبهذا علم أن قوله: "مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ" لم يكن كراهة للإيمان، ولا رضى بالكفر؛ فإن الرضى بالكفر كفر. ¬
ولمَّا فهم ذلك الزمخشري حمله فهمه أن أنكر هذه اللفظة في الحديث، وقال: إنَّها من زيادات الباهتين لله ولملائكته (¬1)، وليس كما قال، وهو مخطئ فيه؛ فقد صحت هذه اللفظة في الحديث، وأطبقت عليها رواية الثقات من حديث ابن عباس، ومن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. "قَالَ لِي جِبْرِيْلُ عَلَيْه السَّلام: لَوْ رَأَيْتَنِي يَا مُحَمَّد وَأَنَا أَغُطُّ فِرعَونَ بِإِحْدَى يَدَيَّ، وَأَدُسُّ مِن الْحَال فِي فِيْهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ رَحْمَةُ اللهِ فَيُغْفَرَ لَه". أخرجه ابن جرير، والبيهقي في "شعب الإيمان" (¬2). وفي لفظ: "قَالَ لِي جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ شَيْءٌ أَبغَضَ إِليَّ مِنْ فِرْعَونَ، فَلمَّا آمَنَ جَعَلْتُ أَحْشُو فَاهُ حَمْأَةً، وَأَنَا أَغُطُّهُ خَشيَةَ أَنْ تُدرِكَهُ الرَّحْمَةُ". أخرجه الطَّبراني في "الأوسط" (¬3). وقوله: "خَشْيَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ" بهذه اللفظة. وأنكر الزمخشري هذه اللفظة، ولا وجه لإنكاره مع ثبوته، ولا فرق في المعنى بين الخشية والمخافة. وأخرجه ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ولفظه: ¬
قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قَالَ لِيْ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلام: مَا غَضِبَ ربُّكَ عَلَى أَحَدِ غَضَبَهُ عَلَى فرْعَوْنَ إذْ قَالَ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] وَإِذْ قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، فَلمَّا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ اسْتَغَاثَ وَأَقْبَلْتُ أَحْشُو فَاهُ مَخَافَةَ أَنْ تُحْرِكَهُ الرَّحْمَةُ" (¬1). وهذه الرواية توضح ما ذكرناه أن ذلك كان لعلم جبريل عليه السلام بأنَّ فرعون ليس من أهل الرحمة لعلمه بغضب الله تعالى عليه أشد الغضب. وأشد الغضب إنما يستحقه الكافر الذي حيل بينه وبين الإيمان، أو كان مأموراً بفعل ذلك به، ففعل ذلك مخافة أن يسبقه فرعون بإيمان صادق نافع، فتحق المعصية على جبريل عليه السَّلام بمخالفة الأمر. هذا ومن زعم أنَّ فرعون اَمن إيماناً نافعاً له في الآخرة منقذاً له من النَّار فقد صادم النُّصوص، وخالف الإجماع. وما يحتج به بعض الجهال الضلال مما وقع في كلام الشيخ محيى الدين بن عربي في "الفصوص"، وغيره فليس بحجة بعد ثبوت خلافه بالحجج القاطعة. وبناء كلام ابن العربي على اصطلاح الصوفية من إطلاق صفة الفرعونية على النفس الرَّدية حتى إذا أطلقوا اسم فرعون أرادوا به النفس ¬
أخذاً من قول سهل التستري رضي الله تعالى عنه: للنفس سر؛ لم يظهر ذلك السر إلا على فرعون حيث يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] (¬1). وعلى هذا يجب حمل كلام ابن العربي، وقد رد عليه من فهم كلامه على ظواهره، وشنع لمخالفة نصوص الشريعة، وما ذكرته هنا متعين (¬2). ¬
2 - ومن قبائح فرعون وقومه، وأخلاقهم: الجهل بالله تعالى.
وقد روى الإمام أحمد بإسناد جيد، والطَّبراني في "معجمه الكبير"، و"الأوسط"، وابن حبان في "صحيحه": أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذكر الصَّلاة يوما فقالَ: "مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَت لَهُ نُوْرًا وبُرهَاناً وَنَجَاةً يَوْمَ القِيَامَةِ، ومَن لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلا بُرْهَانٌ وَلا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَومَ القِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ، وَفِرعَونَ وَهَامَانَ، وَأُبَىِّ بْنِ خَلَفٍ" (¬1). وهو أحد الأحاديث التي احتج بها من يقول: إن ترك الصَّلاة كفر مطلقاً؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه يوم القيامة مع هؤلاء الكفار. وهذا الحديث، ونحوه محمول عند الجمهور على من تركها جحوداً لوجوبها. 2 - ومن قبائح فرعون وقومه، وأخلاقهم: الجهل بالله تعالى. وهو حال سائر الأمم المكذبين، ولكن لم يظهر من الجهل من أحد ما ظهر من فرعون من قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]؟ ومن ثم استعاذ موسى عليه السَّلام من الجهل لمَّا قال له بنو إسرائيل: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]. وقد كان وصفهم بالجهل سبب تقليد فرعون في عبادة الأصنام حين تذكروا ما كانوا عليه من عبادتها، وقد مروا على قوم من العمالقة ¬
يعبدونها كما قصه الله تعالى عنهم بقوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}؛ أي: بعد غرق فرعون. {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]. فاستعاذ موسى من الجهل لما رأى شؤمه في فرعون، ثمَّ في بني إسرائيل، وكذلك استعاذ من الجهل نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، والاستعاذة منه من أهم الأمور. وروى أبو داود بإسناد صحيح، عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: ما خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من بيتي إلَّا رفعَ طَرْفَه إلى السَّماءِ فقالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلُ عَلَيَّ". رواه الترمذي وصححه، ولفظه: كانَ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خرجَ مِن بيتِهِ قالَ: "بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ ... " إلى آخره (¬1). ورواه الإمام أحمد، والنَّسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، ولفظهم: كان إذا خرج من بيته قال: "بِسْمِ اللهِ، رَبِّ أَعُوْذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَزِلَّ، أَوْ أَضِلَّ، أَوْ أُظلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ، أو يُجْهَلَ عَلَيَّ" (¬2). ¬
3 - ومن قبائحه: التجسيم، واعتقاد الجهة كما يفهمه قوله: {وما رب العالمين} [الشعراء: 23].
زاد ابن عساكر: "أو أَنْ أَبْغِيَ، أو يُبْغَى عَلَيَّ" (¬1). ورواه الطَّبرانى بنحوه من حديث بريدة - رضي الله عنه - (¬2). وهذا الدُّعاء من أعظم الأدعية، وأنفعها وأجمعها. 3 - ومن قبائحه: التجسيم، واعتقاد الجهة كما يُفْهِمه قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]. وقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص: 38]. وليس شيء أدفع لظواهر التجسيم من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. ولقد أحسن القائل: [من الوافر] وأَيُّ الأَرْضِ تَخْلَو مِنْكَ حَتَّى ... تَعَالوا يَطْلُبُونَكَ في السَّماء تَرَاهُم يَنْظُرونَ إِلَيْكَ جَهْراً ... وَهُم لا يُبْصِرونَ من العمَاء (¬3) ¬
4 - ومنها: ترك الصلاة والسجود لله تعالى، بل ترك الطاعة في سائر الأمور.
4 - ومنها: ترك الصَّلاة والسجود لله تعالى، بل ترك الطَّاعة في سائر الأمور. فإن من ينكر الربوبية ويدَّعيها لنفسه لا يطيع الله أصلاً، فتارك الصلاة والطاعة جاحداً لوجوبها أشبه النَّاس بفرعون. وروى محمَّد بن نصر المروزي في كتاب "الصَّلاة"، والأصفهاني في "الترغيب" عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّهُ ذكرَ الصلاةَ يوماً فقالَ: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ مَن حَافَظَ عَلَيهِنَّ كُنَّ لَهُ نُورًا وَبُرهَانًا وَنَجَاةً يَومَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُنْ لهُ نُورًا ولا بُرهانٌ ولا نَجاةٌ، وَكانَ يَومَ القِيَامَةِ مَعَ فِرعَونَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ". وفي رواية: "وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ" وقد صححه ابن حبان بنحوه، وتقدم قريباً (¬1). 5 - ومنها: التكبر، والتعاظم، والتجبر، والتعمق في الأمور، والبغي. قال الله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص: 39، 40]. وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4]. قال ابن عباس: استكبر. ¬
وقال مقاتل: تعاظم، نقلهما الثعلبي (¬1). وقال السُّدي: تجبر. وقال قتادة: بغى. رواهما ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬2). وتقدم نظير ذلك في نمرود، وكل ذلك حرام، وأكثرها كبائر. روى البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو يعلى، والطَّبرانيُّ في "الكبير" عن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ: "ثَلاثة لا يُسأَلُ عَنْهُم: رَجُلٌ يُنازِعُ اللهَ إزَارَهُ، وَرَجُلٌ يُنازعُ الله رِداءَهُ؛ فإنَّ رِدَاءَهُ الكِبْرِيَاءُ، وَإِزَارَهُ العزُّ، وَرَجُلٌ شَكَّ فِي أمْرِ اللهِ" (¬3). وروى الترمذي وحسنه، عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يَزَالُ الرَّجُلُ يتَكبَّرُ ويَذهَبُ بنفْسِهِ حَتَّى يُكتَبَ فِي الجبَّارِينَ، فَيُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُم" (¬4). وروى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن إبراهيم النَّخعيِّ رحمه الله تعالى ¬
6 - ومنها: الإسراف.
أن رجلاً من قريش تزوج، ثم جلس على سرير وعليه ثياب حمر، فقام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال للمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه: اتبعني، فدخل عليه، فضربه بدرته، فقام الرَّجل هارباً وهو يقول: على كرسي ككرسي فرعون، ثم التفت إلى المغيرة فقال: هلا كنت منعتني منه؟ فقال: لو كنت أعلم أنك تريد ذلك لفعلت. قال: فلأي شيء اتبعتني؟ . 6 - ومنها: الإسراف. وهو مجاوزة الحد في سائر الأمور؛ بعضه مكروه، وبعضه حرام. قال الله تعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83]. قال عون بن عبد الله رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]: المسرف الذي يأكل مال غيره. وقال محمَّد بن كعب رحمه الله تعالى: المسرف أن لا يعطي في حق؛ أي: بل يعطي في غير الحق. رواهما ابن أبي حاتم (¬1). والإسراف بالمعنيين حرام، وكلاهما من فعل فرعون. وسئل إياس بن معاوية رحمه الله تعالى عن السرف، فقال: ما تجاوزت به أمر الله تعالى فهو سرف. رواه أبو الشيخ (¬2). ¬
وأما السرف المجاوز للاقتصاد في المباحات فهو مكروه، وعليه قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]؛ فإن تجاوز إلى حد يستضر به، فهو حرام. وأمَّا في الإنفاق في الطَّاعة فإنَّه مندوب إليه، إلا أن يفعل ذلك وعليه دين مستغرق، أو يؤدي به ذلك إلى ما لا يطيقه، وعليه قول بعض السلف: لا سرف في الخير؛ جواباً عن قول القائل: لا خير في السرف (¬1). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن جريج رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه جذَّ نخلاً، فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى وليست له تمرة، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] (¬2). وقال السدي في قوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا}: لا تعطوا أموالكم كلها وتقعدوا فقراء. رواه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ (¬3). وإذا كان سبحانه لا يحب المسرفين في الإنفاق في الطَّاعات، فكيف بالإسراف في المباحات؟ وقد قال في هذا أيضاً: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ¬
الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]؛ أي: في المآكل والمشارب، وغيرهما من المباحات كالملابس والمراكب - وإن كانت في الأصل مباحة - فإن المجاوزة فيها عن قدر الحاجة سرف مكروه من سائر النَّاس، وهو من أهل العلم والديانة أشد كراهية. وقد دخل حاتم الأصم رحمه الله تعالى على محمَّد بن مقاتل قاضي الرَّي يعوده، وكان قد نظر إلى باب داره فإذا هو مشرف حسن، فبقي حاتم متفكراً يقول: يا رب! عالم على هذا الحال؟ ثم لما دخل إذا دار قوراء، وإذا ثمرة وسعة وستور، فبقي حاتم متفكراً، ثم نظر إلى المجلس الذي هو فيه فإذا فرش وطِيَّةٌ، وهو راقد عليها وعند رأسه غلام ومذبة، فوقف حاتم متفكراً، فأومأ إليه ابن مقاتل أن اجلس، فقال: لا أجلس. فقال: لعل لك حاجة؟ قال: نعم. قال: ما هي؟ قال: مسألة أسألك عنها. قال: سلني. قال له حاتم: علمك هذا من أين أخذته؟ قال: الثقات حدَّثونا به. قال: عن من؟
قال: عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن من؟ قال: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن من؟ قال: عن جبريل عليه السَّلام، عن الله - عز وجل -. قال حاتم: ففيما أداه جبريل عن الله إلى رسول الله؟ وأداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه؛ وأصحابه إلى الثقات؟ والثقات إليك؟ هل سمعت في العلم: مَنْ كانَ فِي دارِاً أَمِيْراً، وَكانَتْ سَعَتُهُ أكثَرَ، لَهُ عِنْدَ اللهِ الْمَنْزِلَةُ أكثَر؟ . قال: لا. قال: فكيف سمعت؟ قال: سمعت: مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيا وَرَغِبَ فِي الآخِرَةِ وَأَحَبَّ الْمَساكِيْنَ وَقَدَّمَ لآخِرَتِهِ كانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ الْمَنْزِلَةُ. قال حاتم: فأنت بمن اقتديت؟ أبالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الصَّالحين؟ أم بنمرود وفرعون أولِ من بنى بالجص والآجر؟ يا علماء السُّوء! مثلكم يراه الجاهل المكالب على الدُّنيا الرَّاغب فيها، فيقول: العالم على هذه الحالة، لا أكون أنا شراً منه. وخرج من عنده. ذكره حجة الإسلام في "الإحياء" (¬1). ¬
7 - ومنها: تسخير الناس، واستخدامهم إجبارا
7 - ومنها: تسخير النَّاس، واستخدامهم إجباراً بغير وجه شرعي، ولا سيَّما الضُّعفاء والفقراء، وخصوصاً في الأعمال الشَّاقة والأشغال المزرية لهم. قال الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص: 4]؛ يعني: بني إسرائيل. وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]. وذلك أنَّ فرعون لما قتل أبناء بني إسرائيل في العام الذي قيل له: يولد فيه من بني إسرائيل مولود يذهب بملكك، تسلَّط على قتلهم حتَّى بعث إليه موسى عليه السَّلام، وكان من أمره ما كان، فقال فرعون: أعيدوا عليهم القتل. فشكا بنو إسرائيل ذلك إلى موسى عليه السَّلام، فقال لهم: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} [الأعراف: 128، 129]. وما ذكرته هنا أخرجه عبد بن حميد عن قتادة رحمه الله تعالى (¬1). ¬
تنبيه
وكانت أذية فرعون لبني إسرائيل ما ذكره الثعلبي، وغيره عن وهب: أنَّه صنَّفهم أصنافاً؛ فأما ذوو القوة منهم فيسلخون السواري من الجبال؛ قد قرحت أعناقهم، وعواتقهم، وأيديهم، ودبرت ظهورهم من قطع ذلك ونقله. وطائفة أخرى يبنون له القصور من الحجارة والطِّين. وطائفة يبنون اللبن ويطبخون الآجر. وطائفة نجَّارون وحدَّادون. والضعفة منهم عليهم الخراج ضريبة. وأمَّا النساء فيغزلن الكتان وينسجْنَه (¬1). ولا يخفى أن أجناد زمانك وأمراعه مشتملة على هذه الأخلاق الفرعونية. وقد روى أبو نعيم في "الحلية" عن وهب قال: قرأت في التَّوراة: أيَّما دار بنيت بقوة الضعفاء جعلت عاقبتها الخراب، وأيما مال جمع من غير حل جعلت عاقبته الفقر (¬2). * تنبِيْهٌ: في قول موسى عليه السلام لبني إسرائيل لما شكوا إليه بغي فرعون، ¬
وظلمه، وتسخيره: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف: 128] إلى آخره، إشارةٌ إلى أن لكل ظالم حيناً من الدَّهر لا بدَّ أن يستوفيه، فلا يسع المظلوم في ذلك الحين المحدود إلا الصبر حتى يأتي الله بأمره. وفي ذلك زيادة تدمير للظالم، وتمحيص ورفعة للمظلوم؛ إذ ينال فضيلة الصبر وانتظار الفرج. وفي الحديث: "انْتِظَارُ الفَرَجِ عِبَادَةٌ". رواه ابن أبي الدُّنيا، وابن عساكر عن علي - رضي الله عنه -، والقضاعيُّ عن ابن عباس، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم (¬1). وروى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن وهب بن منبه في قوله تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} [الأعراف: 129] الآية؛ قال: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السَّلام: كان فرعون يكلفنا اللبن قبل أن تأتينا، فلما جئتنا كلفنا التبن مع اللبن أيضاً. فقال موسى عليه السَّلام: يا رب! أهلك فرعون؛ حتى متى تبقيه؟ فأوحى الله تعالى إليه: إنهم لم يعملوا الذَّنب الذي أهلكهم به (¬2). ¬
8 - ومن أعمال فرعون وقومه: اتخاذ الشرط لتسخير الناس وتعذيبهم.
روى أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب "النوادر والنتف" عن يحيى ابن أبي عمرو الشيباني قال: كانت امرأة تقتل الأنبياء عليهم السلام؛ قتلت سبعين نبياً، فشكى ذلك أرميا عليه السلام إلى الله - عز وجل -، فأوحى الله تعالى إليه أن فر من قُدَّامها حتى تمضي أيامها (¬1). 8 - ومن أعمال فرعون وقومه: اتخاذ الشُّرَط لتسخير الناس وتعذيبهم. وقد تقدم نظيره في نمرود. قال الله تعالى: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء: 36]. قال الزمخشري، والبيضاوي: شُرَطاً يحشرون النَّاس (¬2). وروى ابن أبي شيبة، والمفسرون من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء: 53] قال: الشرطة (¬3). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن ابن شهاب قال: كنت ليلاً مع سفيان الثَّوريِّ، فرأى ناراً من بعيد فقال: ما هذا؟ فقلت: نار صاحب الشرطة. ¬
9 - ومنها: الظلم، والإفساد في الأرض.
فقال: اذهب بنا من طريق آخر؛ لا نستضيء بنارهم (¬1). 9 - ومنها: الظلم، والإفساد في الأرض. قال الله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 103]. وقوله: {فَظَلَمُوا بِهَا}؛ أي: أشركواة لقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. أو أراد مطلق الظلم، والباء للسببية؛ أي: فظلموا النَّاس بسببها بمنعهم عن الإيمان بها وصدهم. وإنما قال: {وَمَلَئِهِ} وهم أشراف قومه؛ لأنَّ الناس تبع لأشرافهم وعرفائهم، فإذا انقادوا اتَّبعهم عوام الناس. وفيه إشارة إلى أنَّ منشأ الظُّلم أكابر الناس، وعظماؤهم، ووجوههم. وقال الله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص: 40]. وذلك أن الملأ منهم ظلموا، وأطاعهم عوامهم، وتبعوهم فيه، فكان آخر الأمر أن هلكوا كلهم، وعاقبة الظلم وخيمة، والآيات والأخبار الواردة في الظلم كثيرة، ولو لم يكن على الظَّالم من الوبال إلا حرمانه هدايةَ اللهِ لكفى؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ ¬
الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86]؟ وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42]. قال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: كفى بهذه الآية وعيداً للظالم وتسلية للمظلوم. وفي رواية: هي تعزية للمظلوم، ووعيد للظالم. أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (¬1). وإنما قال الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42] لأن الناس يرون الظالم يتمادى في ظلمه وغشمه، وهو على أمنه وصحته، ونعمته وسعته، فربما ظن سخفاء العقول ضعفاء النفوس أن أمره خفي عن الله تعالى، فعرفهم أنه أعلم بالظالم وبظلمه منهم، إلا أن له مدة يستوفيها ثم يأخذه الله تعالى ويعاقبه؛ إن لم تكن عقوبته في الدنيا، وإلا فالآخرة وراء كل ظالم، ولذلك قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]. وفي هذا اليوم يظهر وبال كل ظلم على أنه بصدد العقوبة تصدر في كل وقت. وفي "شعب الإيمان": عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: ¬
كان في بني إسرائيل رجل عقيم لا يولد له، وكان يخرج، فإذا لقي غلاماً من غلمان بني إسرائيل عليه حلي يخدعه حتى يدخله داره، فيقتله ويلقيه في مطمورة له، فبينا هو كذلك إذ لقي غلامين أخوين عليهما حلي لهما، فأدخلهما فقتلهما، وكانت له امرأة مسلمة تنهاه عن ذلك، فتقول له: إني أحذرك النقمة من الله - عز وجل -. وكان يقول: لو أن الله أخذني على شيء أخذني يوم فعلت كذا وكذا. فتقول: إن صاعك لم يمتلئ بعد، ولو قد امتلأ صاعك أخذت. فلما قتل الغلامين الأخوين خرج أبوهما يطلبهما، فلم يجد أحداً يخبره عنهما، فأتى نبياً من أنبياء بني إسرائيل، فذكر ذلك له، فقال له النبي: هل كانت لهما لعبة يلعبان بها؟ قال: نعم، كان لهما جرو. فأتى بالجرو، فوضع النبي خاتمه بين عينيه، ثم خلَّى سبيله، فقال: أول دار يدخلها فيها تبيان. فأقبل الجرو يتخلل الدور به حتى دخل داراً، فدخلوا خلفه، فوجدوا الغلامين مقتولين مع غلام قتله، فطرحهم في المطمورة، فانطلقوا به إلى النبي، فأمر به أن يصلب، فلما رفع على خشبة أتته امرأته فقالت: يا فلان! قد كنت أحذرك هذا اليوم، وأخبرك أن الله تعالى غير تاركك، وأنت تقول: لو أن الله أخذني على شيء أخذني يوم فعلت كذا وكذا، فأخبرك أن صاعك بعد لم يمتلئ؛ ألا وإن هذا قد امتلأ صاعك (¬1). ¬
وأنشدوا: [من السريع] يا رَاكِبَ الذَّنْبِ أَمَا تَستَحِي ... واللهُ في الخَلوةِ ثَانِيكَا غَرَّكَ من مَولاكَ إِمْهَالُهُ ... وَسَتْرُهُ كُلَّ مَسَاويكَا (¬1) وروى الشيخان، والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬2). وروى الديلمي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الظَّلَمَةُ وأَعْوَانُهُمْ فِي النَّار" (¬3). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْجَلاوِزَةُ، وَالشُّرَطُ، وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ كِلابُ النَّار" (¬4). وقال الطرطوشي: أنشدنا قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني ببغداد: [من المتقارب] إِذَا مَا هَمَمْتَ بِظُلْمِ العِبَادِ ... فَكُنْ ذَاكِرًا هَوْلَ يَوْمِ الْمَعادِ ¬
10 - ومنها: القتل، والعزم عليه، والتمثيل بالمقتول بالصلب، وبقطع الأيدي والأرجل بغير حق، والربط بالأوتاد، وغير ذلك.
فإنَّ المظَالِمَ يَومَ القِصَاصِ ... لِمَنْ قَدْ تَزَوَّدَهَا شَرُّ زَادِ (¬1) روى أبو نعيم في "الحلية" عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: مر نوح عليه السلام بالأسد فضربه برجله، فبات ساهراً، فشكا نوح ذلك إلى الله - عز وجل -، فأوحى الله إليه: إني لا أحب الظلم (¬2). 10 - ومنها: القتل، والعزم عليه، والتمثيل بالمقتول بالصلب، وبقطع الأيدي والأرجل بغير حق، والربط بالأوتاد، وغير ذلك. قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر: 25، 26]. أي: فينقذه منِّي إذا كان صادقاً. والقتل المشار إليه بقولهم: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 25] غير القتل الأول الذي كان في سنة ميلاد موسى عليه السلام، كما رواه عبد بن حميد عن قتادة (¬3). وقال تعالى حكاية عن فرعون مخاطباً للسحرة: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)} [الأعراف: 124]. روى ابن المنذر، وغيره عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: ¬
أول من قطع من خلاف، وأول من صلب في الأرض فرعون (¬1). وروى هو وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه (¬2). وروى الحاكم وصححه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} [الفجر: 10]؛ قال: وتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد، ثم وضع على ظهرها رحا عظيمة حتى ماتت (¬3). وروى أبو يعلى، والبيهقي بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها (¬4). زاد عبيد بن حميد في رواية: وأَضْجَعها على ظهرها، ووضع على صدرها رحا، واستقبل بها الشمس، فرفعت رأسها إلى السماء، فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)} [التحريم: 11]، ففرَجَ الله لها عن بيتها في الجنة، فرأته (¬5). ¬
ويجمع بين قول أبي هريرة، وقول ابن مسعود أن فرعون كان يربطها من أربعتها في الأوتاد الأربعة تارة مكفية على وجهها والرحا على ظهرها، وتارة مضجعة على ظهرها والرحا على صدرها. وروى ابن أبي شيبة، والمفسرون، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشُّعب" عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: كانت امرأة فرعون تعذَّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان فرعون يعذِّب بالأوتاد (¬2). وروى الثعلبي بإسناده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنَّ فرعون إنما سمي ذا الأوتاد: أنه كان امرأة خازنه حزبيل بن يوحابيل، وكان مؤمناً كاتم إيمانه مئة سنة، وكان لقي من لقي من أصحاب يوسف عليه السلام، وكانت امرأته هذه ماشطة بنت فرعون، فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها، فقالت: تعس من كفر بالله - عز وجل -. فقالت بنت فرعون: هل لك من إله غير أبي؟ ¬
فقالت: إلهي، وإله أبيك، وإله السموات والأرض واحدٌ لا شريك له. فقامت ودخلت على أبيها وهي تبكي، فقال: وما يبكيك؟ قالت: الماشطة امرأة خازنك تزعم أنَّ إلهها، وإلهك، وإله السموات والأرض واحدٌ لا شريك له. فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت: صدقت. فقال لها: ويحك! اكفري به. لهك، وأقري أني إلهك. فقالت: لا أفعل. فمدها بين أربعة أوتاد، ثم أرسل إليها الحيات والعقارب، فقال لها: اكفري بالله وإلاَّ عذبتك بهذا العذاب شهرين. فقالت: والله لو عذبت سبعين شهراً ما كفرت بالله - عز وجل -. قال: وكان لها ابنتان، فجاء بابنتيها فذبح الكبرى على فيها، وقال لها: اكفري بالله وإلا ذبحت ابنتك الصغرى على فيكِ، وكانت طفلة رضيعة تجد بها وجداً شديداً. قالت: لو ذبحت ملء الأرض على فيَّ ما كفرت بالله - عز وجل -. قال: فأتى ببنتها، فلمَّا قدمت منها وأضجعت على صدرها، وأرادوا ذبحها، جزعت المرأة، فأطلق الله لسان ابنتها؛ تكلمت - وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالاً - فقالت: يا أماه! لا تجزعي؛ فين الله قد بنى لك بيتاً في الجنة، اصبري؛ فإنَّكَ تفضين إلى رحمة الله تعالى.
قال: فذبحت، فلم تلبث أن ماتت فأسكنها الله الجنة. قال: وكان فرعون قد تزوج بامرأة من أجمل النساء، وكانت من بني إسرائيل اسمها آسية بنت مزاحم، فرأت ما صنع فرعون بالماشطة، فقالت: كيف يسعني أن أصبر على ما يأتي فرعون وأنا مسلمة وهو كافر؟ فبينا هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فقالت: يا فرعون! أنت شر الخلق وأخبثه؛ عمدت إلى الماشطة فقتلتها؟ قال: فلعلَّ بك الجنون الذي كان بها؟ قالت: ما بي من جنون؛ فإن إلهي، وإلهها، وإلهك، وإله السموات والأرض واحدٌ لا شريك له. فبزق عليها، وضربها، وأرسل إلى أبويها فدعاهما، فقال لهما: ألا تريان الجنون الذي كان بالماشطة أصابها؟ فقالت: أعوذ بالله من ذلك، إنَّي أشهد أنَّ ربي وربك ورب السموات والأرض واحدٌ لا شريك له. فقال لها أبوها: يا آسية! ألست خير نساء العماليق، وزوجك إله العماليق؟ فقالت: أعوذ بالله من ذلك؛ إن كان ما يقول حقاً فقولا له يتوجني بتاج تكون الشمس أمامه، والقمر خلفه، والكواكب حوله.
فقال لهما فرعون: اُخرجا عنِّي؛ فقذفها بين أربعة أوتاد فعذبها، وفتح الله - عز وجل - لها باباً إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون، فعند ذلك: {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ}؛ تعني: من جماع فرعون {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11]؛ تعني: فرعون وشيعته، فقبض الله روحها، وأسكنها الجنة (¬1). وروى الحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمْ يَتَكلَّمْ في المَهْدِ إِلاَّ عِيْسَى، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وابنُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَونَ" (¬2). وفي "الصحيحين" من حديثه: "لَمْ يَتكلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلاثةٌ" (¬3). وهذا محمول على أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يعلم بالزائد، وكذلك حديث الحاكم. وإلاَّ فقد وردت أخبار تدل على أنَّ المتكلمين في المهد أزيد من هذه العدة - وإن كان بعضها ضعيفاً -. وقد عدَّهم السيوطي رحمه الله تعالى أحد عشراً نفساً، وقال جامعاً لهم: [من الطويل] ¬
11 - ومن أعمال فرعون وقومه: السحر، والأمر بتعلمه وتعليمه، والعمل به.
تَكَلَّمَ فِي المَهْدِ النَّبيُّ مُحَمَّدٌ ... وَيَحْيى وَعِيْسى وَالْخَلِيلُ وَمَرْيَمُ ومُبْري جُريجِ ثُمَّ شَاهِدُ يُوْسُف ... وطِفْلٌ لَدَى الأُخْدُودِ يَرْويهُ مُسْلِمُ وَطِفْلٌ عَلَيهِ مُرَّ بالأَمَةِ الَّتِي ... يُقَالُ لهَا تَزْني وَلا تَتَكَلَّمُ ومَاشِطَةٌ فِي عَهْدِ فِرْعَونَ طِفْلُهَا ... وَفِي زَمَنِ الهادِي المُبَارَك يَخْتِمُ (¬1) 11 - ومن أعمال فرعون وقومه: السحر، والأمر بتعلُّمِه وتعليمِه، والعمل به. والآيات الشاهدات بذلك معروفة، وقد تقدم الكلام عليها في التشبه بالشيطان. وقد روى عبد الرزاق، والمفسرون عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان السحرة - يعني: الذين اتخذهم فرعون لمقاومة موسى عليه السلام - سبعين رجلاً؛ أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء (¬2). وهذا العدد محمول على رؤسائهم؛ فقد روى ابن جرير، وابن ¬
المنذر، وابن أبي حاتم عن القاسم بن أبي بزة رحمه الله تعالى قال: سحرة فرعون كانوا سبعين ألف ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل، وسبعين ألف عصا حتى جعل موسى عليه السلام يُخيَّل إليه من سحرهم أنَّها تسعى، فأوحى الله إليه: يا موسى! ألقِ عصاك، فألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ فاغرٌ فاه، فابتلع حبالهم وعصيهم، فألقي السحرة عند ذلك سُجَّداً، فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار، وثواب أهلها (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب رحمه الله تعالى قال: كانت السحرة الذين توفاهم الله تعالى مسلمين ثمانين ألفاً (¬2)، فرجع أمر هؤلاء إلى سبعين، وعلى ذكرهم اقتصر ابن عباس. ثم كان أمر هؤلاء إلى أربعة كما روى ابن أبي حاتم عن ابن إسحاق قال: كان رؤوس السحرة الذين جمع فرعون لموسى عليه السلام: سابور، وعازور، وحَطْجَطْ، ومصفى؛ أربعة، وهم الذين آمنوا حين رأوا سلطان الله، فآمنت معهم السحرة جميعاً (¬3). وقول ابن إسحاق: حين رأوا سلطان الله؛ أي: معجزته التي آتاها موسى في العصا حتى تلقف جميع ما صنعوه كما قال تعالى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} أي: ثبت وظهر، {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 118]؛ أي: من الإفك والباطل. ¬
ومن هنا كان للذكر والاستعاذة بالله تأثير عظيم في دفع السحرة كما رقى جبريل عليه السلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سحر بالمعوذتين، كما أخرجه البيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬1). وقول ابن عباس في السحرة: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء؛ أي: في يوم واحد، وهو يوم التقوا مع موسى عليه السلام، فألقوا وألقى. قال قتادة: ذكر لنا أنَّهم كانوا أول النَّهار سحرة وآخره شهداء. أخرجه ابن جرير (¬2). أي: علماء شاهدين عن علم ويقين بأنَّ ما جاء به موسى هو الحق، أو شهداء بما صنع بهم فرعون. وليس في القرآن ما ينص على أنهم قتلوا، إنَّما فيه وعيد فرعون لهم وتهديده إياهم، ومن هنا ذهب جماعة منهم الإمام فخر الدين الرازي، وأبو حيان إلى رد ما قيل: إن فرعون قتلهم وصلبهم مستدلين بقوله تعالى: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35]، ورجحه والدي في "تفسيره" (¬3). والاعتبار في قصة السحرة أنهم دعوا بشرطة فرعون وأعوانه ملجئين ¬
12 - ومن أخلاق فرعون وقومه: الكهانة، وتصديق الكهان والمنجمين.
إلى مساحرة موسى، وكان في ذلك سعادتهم، وفي ذلك من تقرير القضاء والقدر ما هو في غاية الوضوح، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكم من خائض في بحار العصيان وهو يراعى بعين الرضوان حتى يأتي الإِبَّان وإذا بالسرِّ قد سطع وبان. ولقد قلت: [من المنسرح] قدْ عَجِبْنَا لعُصْبَةٍ سَحَرَة ... وَهُمْ عِنْدَ رَبهِّم بَرَرَة أَدْرَكَتْهُمْ سَعَادةٌ سَبقتْ ... لَيْسَ بالسَّعْي تُدْرِكُ الْمَهَرَة وَفَقَ اللهُ مَنْ يَشَاءُ لِما ... هُوَ في سَبْقِ عِلْمِه زَبَرَه حَسْبِيَ اللهُ لا شَرِيْكَ لَه ... لَيْسَ لِلْعَبدِ دُونَهُ خِيَرَة هُوَ فِي كُلِّ حَالَةٍ ثِقَتِي ... مَنْ يَكُنْ واثِقاً به جَبَره مَنْ يُطعْهُ يَقْبَلْهُ عَنْ كَرَمٍ ... وَهْوُ لَنْ يَعْصِ أمْرَهُ سَتَرَه حَمْدُناَ كُلُّهُ لخَالِقِنَا ... كُلُّ نَفْسٍ إِلَيْهِ مُفْتَقِرَه رَبِّ نِعْمَ الوَكِيْلُ أنْتَ لَنَا ... لَيْسَ نَخْشَى عَدْوى وَلا طِيَرَة كَيْفَ نَخْشَى وَأنْتَ مَوْئلُنا ... نَوْبَ خَطْبٍ يَمَسُّنَا ضَرَرَه صَلِّ رَبِّ عَلَى النَّبِيْ وَعَلَى ... آلِهِ وَالصَّحَابَةِ العَشَرَة 12 - ومن أخلاق فرعون وقومه: الكهانة، وتصديق الكهان والمنجمين. كما تقدم نظيره في نمرود.
13 - ومنها: التطير.
13 - ومنها: التطير. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 130، 131]. أي: إن ما يصيبهم من عند الله، وقد يكون بسبب سوء أعمالهم لا بشؤم موسى وأصحابه، كما أن الحسنة إذا جاءتهم إنما تكون بمحض الفضل من الله تعالى لا بخصوصية فيهم كما يزعمون بقولهم: لنا هذه؛ أي: مختصة بنا، ونحن مستحقونها. قال تعالى: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132]. مع ما حكاه من قول فرعون: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 34، 35]. فبين أنهم تخوفوا من شؤمه ومن سحره، وهذا غاية الوهن من فرعون وقومه مع أنهم الجبابرة وهو يدعي الألوهية، فما بعد هذه الحماقة حماقة، ولا بعد هذا الخَوَر خور. ومن هنا يعلم أنَّ من أخلاق فرعون وقومه الحماقة والجبن. ويعلم أنَّ القوة كل القوة في الإيمان، والبصارة كل البصارة للمؤمنين، وكم من جبان عنيد يسفك الدَّماء ويتمرد على إله الأرض
14 - ومنها: معاداة أولياء الله تعالى، وإيذاؤهم، والوقيعة فيهم، وعيبهم، والاستهانة بهم، وتعييرهم بما في البدن من عاهة ونحوها.
والسماء، وهو يخاف من حية تبدو له، أو فأرة تنفر عنده، فلا أضعف من مخلوق، ولا أقوى من الخالق. 14 - ومنها: معاداة أولياء الله تعالى، وإيذاؤهم، والوقيعة فيهم، وعيبهم، والاستهانة بهم، وتعييرهم بما في البدن من عاهة ونحوها. قال الله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 51، 52]؛ يعني: موسى عليه السلام. وكانت لموسى لثغة في لسانه كما رواه ابن المنذر عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما (¬1)، ولا ينافي هذا قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السَّلام: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27]، مع قوله - عز وجل -: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36]؛ فإنَ هذا محمول على أنَّ فرعون عير ببقاء أثر اللثغة بعد أن أزيلت شدتها التي كانت تمنع من تفقه كلامه وتفهمه الذي هو مطلوب موسى عليه السلام بقوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27، 28] على أنَّ اللَّثغة اللَّطيفة لا تُشين صاحبها، وقد تستحسن منه. وقد حكي أنَّ للحسين بن عليٍّ رضي الله تعالى عنهما رتة لطيفة لا تشينه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِن الْحُسَيْنَ وَرِثَها مِنْ عَمِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ" (¬2). ¬
تنبيه
والعدو يعيب عدوه بما لا يعد عيباً، أو كان فرعون يعلم اللَّثغة من موسى عليه السلام إمَّا لأنَّها كانت في أصل الخلقة، أو لمَّا كان موسى عليه السَّلام صغيراً في حجر فرعون تناول لحيته، فغضب فرعون وأراد قتله، وقال: هذا عدوي. فقالت له آسية بنت مزاحم امرأة فرعون: إنَّه صغير لا يعقل، وأمرته أن يقدم له الجمر والتمر، فتناول جمرة بيده فوضعها في فيه، فاحترقت يده ولسانه، فبقي أثر ذلك في لسانه (¬1). وكان فرعون يعهد هذا من موسى، ولم يعلم أنَّ الله تعالى عافاه منها أو عيَّره بها بعد زوالها. وكثير من الحمقى يعيرون أعداءهم ونظرائهم بما تقدم لهم من نقص وعيب وإن زال. وفرعون كان في أعلى طبقات الحماقة. وقيل: كانت لموسى عليه السَّلام حدة، فكان يتردد في الكلام إذا ابتدأ، ثم يفصح، فعابه فرعون بذلك، ولذلك قال فرعون: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52]، ولم يقل: ولا يُبيِّن. * تنبِيهٌ: مُعادي أولياء الله تعالى ومُؤْذيهم متعرض للهلاك إلَّا أن يتوب؛ ¬
فإنه إمَّا أن يعرض الولي عنه ويحلم، ويغار الله تعالى لوليه، ويغضب له عليه فيأخذه. وفي الحديث الصحيح: "مَنْ عَادَى لِي وَليًّا فَقَدْ آذَنتهُ بِالحَرْبِ" (¬1). وما أحسن قول الشيخ رضي الدين جَدِّي: [من الرجز] مَنْ بَارزَ الرِّجَالَ بالأَذَى وَلَم ... يَخْشَ وَلَمْ يَخَفْ عِقَابَ رَبِّهِ ويلٌ لَهُ دنْيَا وَأُخْرَىَ كَيْفَ لا ... واللهُ قَد آذَنَهُ بحَربِه وإما أن يتنفس عليه الولي بدعوة فتحرقه وتمحقه، ويطمس على دنياه، ويحرم خير عقباه، كما اتفق لموسى وهارون عليهما السَّلام بعد أن صبرا على فرعون وقومه أربعين سنة، دعوا عليهم، فأهلكهم الله تعالى واستأصلهم. قال الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس: 88، 89]. وإنما قال: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} والداعي موسى فقط؛ ¬
15 - ومن أخلاق فرعون قبحه الله تعالى: النظر إلى عيب غيره، والغفلة عن عيب نفسه.
لأنَّ هارون عليه السَّلام كان يؤمِّن على دعاء أخيه عليهما السَّلام. قال ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما: دعا موسى، وأمَّن هارون. رواه أبو الشيخ عنه، وعن أبي هريرة بنحوه (¬1). ولم يكن التأمين لغير هذه الأمة إلا لموسى وهارون عليهما السَّلام دون قومهما. وقال مجاهد رحمه الله تعالى في قوله؛ قال: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} بعد أربعين سنة. رواه الحكيم الترمذي (¬2). 15 - ومن أخلاق فرعون قبحه الله تعالى: النظر إلى عيب غيره، والغفلة عن عيب نفسه. وهذا وإن شاركه أكثر أولاد آدم كما قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يُبْصِرُ أَحَدُكُمُ القَذَى في عَيْنِ أخِيهِ وَيَنسَى الجِذْع - أو قالَ: الجِذْلَ - في عَيْنهِ". رواه الإمام عبد الله بن المبارك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬3). إلَّا أنَّ أمر فرعون فيه عجيب؛ فإنَّه قد كان في طول أربعة أشبار، ولحيته أطول منه، وكان أثرم مكسور الثنايا كما سبق، ويقول عن موسى عليه السَّلام: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52]. ومن ثم: من عهد فرعون لا يكون بالغ القصر إلَّا رأى في نفسه أنَّه ¬
16 - ومنها: إطالة الأمل، وإنكار البعث والنشور.
أكمل من غيره، وكان في سخافة عقله وحماقته وقلة رأيه عجباً. وكمال الخُلُق غالباً يتبع كمال الخَلق، ومن ثم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَبْعَةً من الرجال بين الطويل والقصير (¬1). ومن كمال العبد أن يطالع عيب نفسه، ويغض عن عيب غيره، كما قال محمود الوراق رحمه الله تعالى: [من السريع] يَشْغَلُنِي عَنْ عَيْبِ غَيْرِي الَّذِي ... أُبْصِذرُهُ في مِنَ العَيْب فَإنَّنَي أَرْتَابُ في عَيْبِهِ ... وَلَسْتُ مِنْ عَيْبِيَ فِي رَيْبِ 16 - ومنها: إطالة الأمل، وإنكار البعث والنشور. قال الله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} [القصص: 39]. واعلم أن طول الأمل أصل كل فتنة، ومنه أتى كل هالك. ومن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَيكُم خصْلَتَانِ: الْهَوَى وطُولُ الأَمَلِ؛ فأمَّا الْهَوَى فَيَصُدُّ عنِ الحقِّ، وأمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَة". رواه ابن أبي الدُّنيا في "كتاب الأمل" عن جابر رضي الله تعالى عنه. ¬
وله نحوه من حديث عليٍّ - رضي الله عنه - (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزُّهد"، وأبو نعيم في "الحلية" عن يحيى ابن أبي كثير رحمه الله تعالى أنَّ أبا بكر الصِّديق - رضي الله عنه - كان يقول في خطبته: أين الوُضَاة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم؟ أين الملوك الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان؟ أين اللذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب؟ قد تضعضع بهم الدَّهر فأصبحوا في ظلمات القبورة الوحاء الوحاء، النجاء النجاء (¬2). وروى أبو نعيم عن سعيد بن أبي هلال رحمه الله تعالى: أنَّ أبا الدَّرداء رضي الله تعالى عنه كان يقول: يا معشر أهل دمشق! ألا تستحيون؟ ! تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تبلغون، قد كان القرون من قبلكم يجمعون فيوعون، ويأملون فيطيلون، ويبنون فيوثقون، فأصبح جمعهم بوراً، وأملهم غروراً، وبيوتهم قبوراً، هذه عاد قد ملأت ما بين عدن إلى عمان أموالاً وأولاداً، فمن يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين؟ (¬3). والأخبار والآثار في ذلك واسعة جداً. ¬
17 - ومنها - وهو من جنس ما قبله -: إطالة البنيان، وإحكامه، وتجصيصه.
17 - ومنها - وهو من جنس ما قبله -: إطالة البنيان، وإحكامه، وتجصيصه. قال الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38]. قال سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه في قوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ}: أوقد لي على الطين حتى يكون آجراً (¬1). وقال مجاهد في قوله: على الطين على المدر يكون لبناً مطبوخاً (¬2). وقال قتادة: بلغني أنَّ فرعون أول من طبخ الآجر. أخرجه ابن المنذر (¬3). وروى ابن أبي حاتم عن قتادة قال: كان فرعون أول من طبخ الآجر، وصنع له الصَّرح (¬4). قال في "الكشاف": روي أنَّه لمَّا أمر ببناء الصَّرح جمع هامان العمال حتَّى اجتمع خمسون ألف بنَّاء سوى الأتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص، ونجر الخشب، وضرب المسامير [فشيدوه] ¬
حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق. وكان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه يبني، فبعث الله - عز وجل - جبريل عليه السَّلام عند غروب الشمس، فضربه بجناحه، فقطعه ثلاثة قطع؛ وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألفِ رجل، ووقعت قطعة في البحر، وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد من عماله إلَّا قد هلك (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن السدي قال: لمَّا بُني له الصرح ارتقى فوقه، فأمر بنشابة فرمى بها إلى السماء، فرُدَّت إليه وهي ملطخة دماً، فقال: قتَلتُ إلهَ موسى (¬2). وقول قتادة: إنَّ فرعون أول من صُنِع له الصرح يَرِدُ عليه ما رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26]؛ قال: هو نمرود بن كنعان حين بنى الصَّرح (¬3). وأخرجه ابن أبي شيبة، وغيره عن مجاهد (¬4). ¬
وروى عبد الرَّزاق، وابن جرير عن زيد بن أسلم قال: أول جبَّار كان في الأرض نمرود، فبعث الله تعالى عليه بعوضة فدخلت في منخره، فمكث أربعمئة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم النَّاس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه، وكان جبَّاراً أربعمئة سنة، فعذَّبه الله تعالى أربعمئة سنة كملكه، ثم أماته الله تعالى. قال: وهو الذي كان بنى صرحاً إلى السَّماء الذي قال الله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26] (¬1). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي: أنَّ نمرود بعد أن هاجر من أرضه إبراهيم ولوط عليهما السَّلام حلف ليطلبنَّ إله إبراهيم، فأخذ أربعة فراخ من أفراخ النُّسور، فربَّاهنَّ بالخبز واللَّحم، حتى إذا كبرن وغلظن واستعلجن، فربطهن بتابوت، وقعد في ذلك التابوت، ثم رفع رِجْلاً من لم لهن، حتى إذا وَهِم في السماء أشرف فنظر إلى الأرض، وإلى الجبال تَدُب كدبيب النمل، ثم رفع لهن اللحم، ثم نظر فرأى الأرض محيطًا بها بكر كأنَّها فلكة في ماء، ثم رفع طويلاً فوقع في ظلة، فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته، فألقى اللحم، فاتبعته منقضات، فلما رأى الجبال إليهن قد أقبلن منقضات، وسمعن خفقهن، فزعت الجبال وكادت أن تزول من أمكنتها، ولم يفطن؛ قال فذلك قوله: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ ¬
لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46]. وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: وإن كاد مكرهم؛ يعني: بالدال. قال: فلما رأى أنه لا يطيق شيئاً أخذ في بنيان الصرح، فبنى حتى أسنده إلى السماء ارتقى فوقه ينظر يزعم إلى إله إبراهيم، فأحدث ولم يكن يحدث، وأخذ الله بنيانه من القواعد (¬1). ففي هذا الأثر أنَّ نمرود اتخذ الصَّرح قبلُ، وأنَّه هو الذي سخر النُّسور لما أراد. وعن علي رضي الله تعالى عنه: أنَّه إنما سخر نسرين فقط. رواه ابن جرير (¬2). وروى ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد: أن بخت نصر جوَّع نسوراً، ثم جعل عليهن تابوتاً، ثم دخله، وجعل رماحاً في أطرافه واللحم فوقها، فقلَّت، فذهبت نحو اللحم حتى انقطع بصره من الأرض وأهلها، فنودي: أيها الطاغية! أين تريد؟ فَفَرَق، ثم سمع الصوت فوقه، فصوَّب الرماح، فتصوبت النسور، ففزعت الجبال من هدتها، وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك، فذلك قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46] (¬3) ¬
كذا قرأها مجاهد؛ أي: بالدال كما سبق عن ابن مسعود، وهي قراءة عمرَ بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب، وأبى بن كعب كما أخرج ذلك ابن الأنباري، وابنِ عباس كما أخرجه أبو عبيد، وابن المنذر. ورويا قراءة عمر رضي الله تعالى عنه أيضاً (¬1). وروى ابن جرير عن مجاهد أنه قرأها: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} بالنون {لَتزول} بفتح اللام، وبالرفع كما قرأها الكسائي (¬2). وقيل: إن على القراءة المشهورة نافية، واللام مؤكدة لها كقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. ولا معارضة بين قول مجاهد: إن صاحب النسور بخت نصر، وقول السدي: إنه نمرود، ورواه ابن جرير عن علي - رضي الله عنه -، بل هما محمولان على أن نمرود فعل أولاً، ثم تابعه عليه بخت نصر، أو تواردا عليه وتوافقا كما توارد نمرود وفرعون على بناء الصرح، أو تبعه فرعون. وهؤلاء الثلاثة رؤوس الملوك الجبابرة، وقد علمت ما فعلوه، ثم ما صاروا إليه من الهلاك. ثم إنَّ الجبابرة والظالمين بعدهم يوم القيامة وبالهم عظيم، ولا يبعد أن يزاد فيه على عذاب هؤلاء الثلاثة لأنهم علموا ما نزل بهم ¬
ولم يتعظوا؛ ألا تسمع وتصغي إلى قول الله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 44 - 46]؟ أي: إذ كانوا ليزيلونها، أو ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتاً وتمكناً بمكرهم. قال تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47] أي: يملي للظالمين، وكيده متين، ثم إذا انتقم انتقم بقدرة، وإذا آن أوان الانتقام لم يمنع الظالم من نقمة الله صرحه ولا حصنه، ولم يخلَّد المترف في نعيمه قصره ولا أمنه، فالسَّعيد من وُعِظَ بغيره. روي أنَّ عمر رضي الله تعالى عنه نظر في طريق الشام إلى صرح قد بني بجص وآجر، فكبَّر وقال: ما كنت أظن أن يكون في هذه الأمة من يبني بنيان هامان وفرعون (¬1). وروى البيهقي عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال: ¬
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ نَفَقَةٍ يُنفِقُهَا المُسلِمُ يُؤْجَرُ فِيهَا - عَلى نَفْسِهِ، وَعَلَى عِيَالِهِ، وَعَلى صَدِيقِهِ، وَعَلَى بَهِيمَتِهِ - إلاَّ في بِنَاءٍ، إِلَّا بِنَاءَ مَسْجِدٍ يُبْتَغَى فِيْهِ وَجْهَ اللهِ" (¬1). وله شاهد من حديث خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه. أخرجه ابن ماجه (¬2). وروى أبو داود بإسناد جيد، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "كُل بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إِلاَّ مَا لا" (¬3)؛ يعني: ما لابد منه. والأحاديث في ذلك كثيرة. وقيل في قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 83]: العلو: الرياسة والتطاول في البنيان. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: يأتي قوم يرفعون الطين، ويضعون الدين، ويستعملون البراذين، يصلُّون إلى قبلتكم، ويموتون على غير دينكم (¬4). ¬
فائدة لطيفة
وكان السلف يحبون الاقتصار في البنيان. وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: ما أنفقتُ درهماً في بناء. رواه أبو نعيم (¬1). وقال الدينوري: حدَّثني ابن أبي الدنيا قال: حدثَّني عبد الله بن محمد قال: قرأت على دار مشيَّدة: لَو كُنْتَ تَعْقِلُ يَا مَغْرُور مَا رقأت ... دُمُوعُ عَينَيكَ مِن خَوفٍ ومِن حَذَرِ مَا بَال قَوْمٍ سِهَامُ الموتِ تَخْطَفُهُمْ ... يُفَاخِرُونَ بِرَفْعِ الطيْنِ والْمدَرِ (¬2) * فائِدَةٌ لَطِيْفَةٌ: روى ابن عساكر عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: لمَّا بنى داود عليه السلام مسجد بيت المقدس نهى أن يدخل الرُّخام بيت المقدس لأنه الحجر الملعون؛ فخرَ على الحجارة فلعن (¬3). * تَنْبِيْهٌ: قال في "القاموس": الصرح: القصر، وكل بناء عالٍ، وقصر لبخت ¬
نصر قرب بابل، انتهى (¬1). وهذا يدل على أنَّ بخت نصر تابع نمرود وفرعون على بناء الصرح، إلَّا أنه قد يقال: إنَّ صرحه إنَّما كان قصراً يسكنه؛ فإنه لم يثبت أنه ادَّعى الألوهية. لكن روى ابن عساكر عن الحسن رحمه الله تعالى: أنَّه لما قتل بني إسرائيل، وهدم بيت المقدس، وسار بسباياهم إلى أرض بابل، أراد أن يتناول السماء، فطلب حيلة يصعد بها، فسلَّط الله تعالى عليه بعوضة، فدخلت منخره، فوقفت في دماغه، فلم تزل تأكله وهو يضرب رأسه بالحجارة (¬2). فهذا الأثر يدل على أنه وافق نمرود في اتخاذ الصرح لبلوغ السماء، وفي الموت ببعوضة، وهي من أضعف الخلق، وهو كان من أعظم الجبابرة. وفي حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: "إِنَّ اللهَ مَلَّكَ بخت نصَّر سَبْعَمِئَةِ سَنَةٍ، وإنَّهُ حاصَرَ بَني إِسْرائِيْلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقتلَ مِنْهُمْ سَبْعِيْنَ ألْفاً عَلى دَمِ يَحْيى عَلَيْهِ السَّلامُ، وَسَلَبَ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ". أخرجه ابن جرير (¬3). ¬
وأخرج عن ابن زيد: أنه أحرق التوراة حتى لم يترك منها حرفاً، فقتله الله تعالى بخلق من أضعف خلقه عقوبة لكفره وجبروته (¬1). والمؤمن ينجو بإيمانه، ولين عريكته، ولِجائِهِ إلى الله تعالى مما هلك فيه الفجار والجبارون. وقد ذكر الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي في كتاب "الدعاء" عن مطرف بن عبد الله بن مصعب المزني رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على المنصور فرأيته مغموماً، فقال: يا مطرف! طرقني من الهم ما لا يكشفه إلا الله تعالى، فهل من دعاء أدعو به عسى يكشفه الله تعالى عني؟ قلت: يا أمير المؤمنين! حدثني محمد بن ثابت عن عمرو بن ثابت البصري قال: دَخَلتْ في أذن رجل من البصرة بعوضة حتى دخلت إلى صماخه، فأنصبته وأسهرته، فقال له رجل من أصحاب الحسن البصري: ادعُ بدعاء العلاء بن الحضرمي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: وما هو؟ قال: بعث العلاء بن الحضرمي رضي الله تعالى عنه إلى البحرين، فسلكوا مفازة، وعطشوا عطشاً شديداً حتى خافوا الهلاك، فنزل فصلى ركعتين، ثم قال: يا حكيم! يا عليم! يا علي! يا عظيم! اسقنا. فجاءت سحابة، فأمطرت حتى ملؤوا الآنية وسقوا الركاب. ¬
ثم انطلقوا إلى خليج من البحر ما خيض قبل ذلك اليوم، فلم يجدوا سفناً، فصلى ركعتين، ثم قال: يا حكيم! يا عليم! يا علي! يا عظيم! أجزنا. ثم أخذ بعنان فرسه، ثم قال: جُوزوا باسم الله. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فمشينا على الماء، فو الله ما ابتل لنا قدم، ولا خف، ولا حافر، وكان الجيش أربعة آلاف. قال: فدعا الرجل بهما، فو الله ما خرجنا حتى خرجت البعوضة من أذنه لها طنين حتى صكت الحائط، وبرئ. فاستقبل المنصور القبلة، ودعا بهذا الدعاء ساعة، ثم انصرف بوجهه إلي، وقال: يا مطرف! قد كشف الله ما كنت أجده من الهم. وقد روى في صرح بخت نصر وموته روايةٌ أخرى، وذلك أن رجلاً صالحاً من بني إسرائيل أري في منامه، وكان قرأ قول الله تعالى لهم في كتابه: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4] إلى قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7] فقال: ربِّ! أما الأولى فقد فاتتني، فأرني الآخرة. فأتى وهو قاعد في مصلاه قد خفق رأسه، فقيل له: الذي سألت عنه سائل مسكين، واسمه بخت نصر، فذهب إلى بابل بمال يقسمه على المساكين، فجعل يقسمه رجلًا رجلًا، حتى أتى على ذكر بخت نصر،
وكان أكثرهم فاقة، وهو مقعد في خيمة يحدث فيها، يمر عليه السارون فيلقي إليه أحدهم الكسر ويأخذ بأنفه، فأتاه فقال له: ما اسمك؟ قال: بخت نصر. قال: أرأيت إن ملكت يوماً من دهر أتجعل لي أن لا تعصيني؟ قال: أي سيدي! لا يضرك أن لا تهزأ بي. فأعاد عليه: إن ملكت مرة أتجعل لي أن لا تعصيني؟ قال: أما هذه فلا أجعلها لك، ولكن سوف أكرمك كرامة لا أكرمها أحداً. قال: دونك هذه الدنانير، ئم انطلق فلحق بأرضه، فقام بخت نصر فاستوى على رجليه، ثم انطلق فاشترى حماراً وأرساناً، ثم جعل يستعرض تلك الأجم فيجزها، فيبيعه، ثم قال: إلى متى هذا الشقاء؟ فباع الحمار والأرسان، فاكتسى كسوة، ثم أتى باب الملك، وكان ملك بابل إذ ذاك يقال له: الفرخان، وكان كافراً، فجعل يشير عليهم بالرأي، وترتفع منزلته حتى انتهى إلى بواب الفرخان الذي يليه، فقال له الفرخان: ذكر لي رجل عندك فما هو؟ قال: ما رأيت مثله قط. قال: ائتني به. فكلمه، فأعجب به. قال: إن بيت المقدس تلك البلاد قد استعصوا علينا، وإنَّا باعثون
إليهم بعثاً، فابعث إلى البلاد من يختبرها. فنظر البواب إلى رجال من أهل الأدب والمكيدة، فبعثهم جواسيس، فلما فصلوا إذا بخت نصر قد أتى بخرجيه على بغلة، قال: أين تريد؟ قال: معهم. قال: أفلا آذنتني فأبعثك عليهم. قال: لا. ثم لما أتوا بيت المقدس تفرقوا، وسأل بخت نصر عن أفضل أهل البلد، فأتاه، فقال: ألا تخبرني عن أهل بلادك؟ قال: على الخبير سقطت؛ فهم قوم فيهم كتاب لا يقيمونه، وأنبياء لا يطيعونهم، وهم يتفرقون. فكتب ذلك في ورقة ألقاها في خرجه، ثم رحل مع قومه، فرجعوا إلى الفرخان، فجعل يسأل الرجل منهم فيقول: أتينا بلاد كذا ولها حصن كذا. قال: يا بخت نصر! ما تقول؟ قال: قدمنا أرضاً على قوم لهم كتاب لا يقيمونه، وأنبياء لا يطيعونهم، وهم متفرقون. فأمن الفرخان، فبعث إليهم بسبعين ألفًا، وأمَّر بخت نصر عليهم، فساروا حتى علوا في الأرض أدركهم البريد أن الفرخان قد مات ولم يستخلف أحداً، فقال بخت نصر لمن معه: مكانَكم، ثم أقبل على
البريد حتى قدم بابل، فقال: كيف صنعتم؟ قالوا: كرهنا أن نقطع أمراً دونك. قال: إن الناس قد بايعوني. فبايعوه، ثم استخلف عليهم، وكتب بينهم كتاباً، ثم انطلق إلى أصحابه، فأراهم الكتاب، فبايعوه، ثم سار بهم إلى بيت المقدس، فتفرق بنو إسرائيل، فخرب بيت المقدس، وسلب وسبى أبناء الأنبياء فيهم دانيال، وأتاه ذلك العبد الصالح فعرفه، فأدنى مجلسه وأكرمه، ولم يشفعه في شيء، ثم عاد إلى بابل لا ترد له راية، فكان كذلك ما شاء الله، ثم رأى رؤيا أفظعته؛ رأى كأن رأسه من ذهب، وصدره من فخار، ووسطه من نحاس، ورجليه من حديد، فعبرها له أبناء الأنبياء الذين عنده، فقالوا: رأيت كان رأسك من ذهب؛ هذا ملكك يذهب عند رأس الحول من هذه الليلة. قال: ثم مه؟ قال: يكون بعدك ملك يفخر على الناس، ثم يكون ملك يخشى على الناس شدته، ثم يكون ملك لا يقله شيء، إنما هو مثل الحديد؛ يعني: فأمر بحصن فبني له بينه وبين السماء، وهو الصرح، ثم جعل ينطقه بمقاعد الرجال والأحراس، ثم لما كانت الليلة التي تم فيها الحول قال لهم: إنما هي هذه الليلة لا يجوزن عليكم أحد - وإن كان أنا بخت نصر - إلا قتلتموه مكانه، فقعد كل الناس في مكانهم الذي وكلوا به، واهتاج بطنه من الليل، فكره أن يرى مقعده هناك، وضرب على أصمخة
18 - ومن أخلاق فرعون وقومه: حب الدنيا، والاغترار بها،
القوم، فاستثقلوا نوماً، فأتى عليهم وهم نيام، فقضى حاجته، ثم عاد فأتى عليهم، فاستيقظ بعضهم، فقال: من هذا؟ قال: بخت نصَّر. قال: هذا الذي جن إلينا فيه الليلة. فضربه فقتله، فأصبح الخبيث قتيلاً. رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وابن جرير عن سعيد بن جبير، وعن السدي، وعن وهب بن منبه (¬1). 18 - ومن أخلاق فرعون وقومه: حب الدنيا، والاغترار بها، والافتخار بها، ولبس الحلي لغير النساء، والأعجاب بالنفس، وامتهان الغير واحتقاره خصوصاً الفقراء، واعتياد نوع من الزينة والسمت المخالفَين للشريعة خصوصية لذوي المناصب لتمييزهم عن غيرهم. قال الله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 51 - 53]. قال مجاهد: كانوا إذا سوَّدوا رجلاً سوَّروه وطوَّقوه بطوق من ذهب ¬
يكون ذلك دلالة لسيادته، وعلامة لرياسته. ذكره الثعلبي، وغيره (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح ذباب ما سقى فرعون منها شَربة ماء (¬2). وروى الترمذي وصححه، وابن ماجه عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوْضةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ" (¬3). وقال الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] الآية. روى عبد الرزاق، وغيره عن قتادة في الآية قال: بلغني أن زروعهم وأموالهم تحولت حجارة (¬4). وقال بعض العارفين في قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا}؛ أي: على ما أمرتكما به من الزهد في الدنيا، والاكتفاء منها بقدر الحاجة، {ولَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس: 89] في اقتناء ¬
الأموال والتعلق بها لئلا تشغلكما عن الله - عز وجل - كما صار لفرعون وملئه. وروى أبو الفرج بن الجوزي في "صفة الصفوة" عن أبي عبد الله النباجي رحمه الله تعالى قال: إذا كان عندك ما أعطى الله نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمداً - صلى الله عليه وسلم - لا تراه شيئًا، وإنَّما تريد ما أعطى الله نمرود، وفرعون، وهامان؛ فمتى تفلح؟ (¬1) وقال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 38، 39]. وكان اسم هذا المؤمن حزقيل، كما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس (¬2)، أو: حبيب، كما رواه عبد بن حميد عن أبي إسحاق (¬3). والقرآن ناطق بأنه من الناجين لقوله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45]. قال قتادة: كان قبطياً من قوم فرعون، فنجا مع موسى وبني إسرائيل حين نجوا. أخرجه عبد الرزاق (¬4). وفيه إيماء إلى أنه نجا بزهده وإيمانه، والإيمان يدعو إلى الزهد. ¬
19 - ومنها: الاعتزاز بالملك، والاغترار به، والاعتماد عليه والثقة به، أو بشيء من الدنيا.
وقد روى ابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَجَا أَوَّلُ هَذهِ الأُمَّةِ بِالْيَقِيْنِ وَالزُّهْدِ، وَيهْلَكُ آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالأَمَلِ" (¬1). 19 - ومنها: الاعتزاز بالملك، والاغترار به، والاعتماد عليه والثقة به، أو بشيء من الدنيا. ولقد أحسن القائل: [من الطويل] وإِنَّ امْرَأً دُنيَاهُ أَكْبَرُ هَمِّه ... لَمُسْتَمْسِكٌ مِنْهَا بِحَبْلِ غُرُورِ قال الله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51]. قال ابن جريج رحمه الله تعالى: ليس هو المنادي بنفسه، ولكن أمر أن يُنادى. أخرجه ابن المنذر (¬2). يعني: إنَّ معنى قوله: {وَنَادَى}: أمر بأن ينادى بذلك في قومه؛ كما يقال: قتل السلطان فلانًا؛ أي: أمر بقتله، وضرب اللص؛ أي: أمر بضربه. ويحتمل أنه نادى بذلك في عظماء القبط وهم عنده، ثم نشروا ¬
ذلك عنه. وقوله: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}؛ يعني: أنهار النيل. ومعظمها أربعة أنهر: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر بلبيس. وقيل: ذلك عن العساكر التي تحت أمره؛ شبهها بالأنهار كما يقال: عسكر كالسيل. وذكر الزمخشري في "الكشاف" عن الرشيد: أنَّه لما قرأ هذه الآية قال: لأولينَّها أخس عبيدي، فولاها الخصيب، وكان على وضوئه. وعن عبد الله بن طاهر: أنَّه وُليها فخرج إليها، فلما شارفها وقع عليها بصره، قال: أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ}؟ والله لهي أقل عندي من أن أدخلها، فَثَنَى عنانه (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن الأسود بن يزيد قال: قلتُ لعائشة رضي الله عنها: ألا تعجبين من رجل من الطُّلقاء ينازع أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في الخلافة؟ قالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمئة سنة (¬2). ¬
20 - ومنها: الاعتزاز بالقوة والجلد، والعافية وصحة الجسد.
20 - ومنها: الاعتزاز بالقوة والجلَدِ، والعافية وصحة الجسد. ذكر الثعلبي، وغيره أن فرعون كان لا يسعل، ولا يتمخط، ولا تصيبه آفة مما يصيب الناس، وكان يقوم في كل أربعين يومًا مرة واحدة، وكان أكثر ما يأكل الموز لئلاَّ يكون له تفل فيحتاج إلى القيام، وكان ذلك مما زُيِّن له حتى قال ما قال. وعن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: تملك فرعون أربعمئة سنة لا يرى مكروهاً يومًا، ولو كان في تلك المدة حُمَّ يومًا أو اتَّجع يومًا لما ادَّعى الربوبية (¬1). وروى الثعلبي بإسناده عن كعب رحمه الله تعالى قال: إنِّي لأجد في بعض الكتب: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكللت رأس الكافر بإكليل، فلا يصدع ولا ينبض له عرق يوجع (¬2). وروى الحاكم وصححه، وابن السني، وأبو نعيم؛ كلاهما في "الطب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دخل أعرابي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ لهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَخَذَتْكَ أُمُّ ملْدَمٍ؟ ". قالَ: وما أمّ ملدم؟ قال: "حَرٌّ يَكُوْنُ بَيْنَ الجِلْدِ وَالَّلحْمِ". قالَ: ما وجدتُ هذا قطُّ. ¬
21 - ومنها: الخضاب بالسواد في الرأس واللحية.
قال: "أَخَذَكَ الصُّدَاع؟ ". قال: وما الصُّداعُ؟ قال: "عِرْق يَضْرِبُ الإنْسَانَ في رَأْسِه". قال: ما وجدتُ هذا قطُّ. قال: "مَن أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِن أَهْلِ النَّارِ فَلْينظُرْ إِلَى هَذَا" (¬1). 21 - ومنها: الخضاب بالسواد في الرأس واللحية. وهو حرام على الرجل والمرأة إلا للغزو للرجل. قال في "الإحياء": وخضب بعض العلماء بالسواد لأجل الغزو، وذلك لا بأس إذا صحَّت النيَّة (¬2). وممن صرَّح بإباحته للمجاهد -أي: في الجهاد- وتحريمه لغيره الماوردي في "الحاوي"، وفي "الأحكام السلطانية" (¬3). روى الديلمي، وابن النجار في "تاريخه" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ مَن خَضبَ بِالحِنَّاءِ وَالكَتْمِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَأوَّلُ مَنِ اخْتَضَبَ بِالسَّوَادِ فِرْعَوْنُ" (¬4). ¬
وروى ابن أبي شيبة، وابن عساكر في كتاب "الخضاب" عن مجاهد قال: أول من خضب بالسواد فرعون (¬1)؛ قال له موسى عليه السلام: إن أنت آمنت بالله سألته لك أن يردَّ عليك شبابك، فذكر ذلك لهامان، فخضَّب هامان بالسواد، فقال له موسى: ميعادك ثلاثة أيام، فلما كان ثلاثة أيام نصل خضابه، فكل خضاب ينصل في ثلاثة أيام (¬2). وروى ابن عساكر أيضًا عن الأوزاعي قال: الصفرة خضاب أهل الإيمان, والحمرة خضاب أهل الإِسلام، وأول من سوَّد آل فرعون. وروى الطبراني، والحاكم في "المستدرك" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الصُّفْرَةُ خِضَابُ المُؤْمِنِ، وَالحُمْرَةُ خِضَابُ المُسْلِمِ، وَالسَّوَادُ خِضَابُ الكَافِرِ" (¬3). وروى الإِمام أحمد، وأبو داود، والنسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يَكُوْنُ في آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَخْضِبُوْنَ بِهَذَا السَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الحَمَامِ؛ لا يرِيحُوْنَ رَائِحَةَ الجَنَّة" (¬4). وروى ابن عدي في "الكامل"، والطبراني في "الكبير" عن أبي ¬
22 - ومنها: اللعب بالحمام الطيارة.
الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ سَوَّدَ اللهُ وَجْهَهُ يَوْمَ القِيَامة" (¬1). وروى ابن عساكر عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه، عنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ صَبَغَ بِالسَّوَادِ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَة" (¬2). وعن الزهريّ قال: مكتوب في التوراة: ملعون من غيرها بالسواد؛ يعني: اللحية (¬3). 22 - ومنها: اللعب بالحَمَام الطيَّارة. روى ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"، والبيهقي في "الشعب" عن أيوب؛ يعني: السختياني قال: كان ملاعب آل فرعون الحَمَام (¬4). وقد علمت أنَّ ذلك من عمل الشيطان، ومن أعمال قوم هود وقوم لوط. * فائِدَةٌ: روى ابن أبي الدنيا عن إبراهيم النخعي قال: من لعب بالحَمَام ¬
23 - ومنها: كما ذكره ابن الحاج في "المدخل" عن أهل
الطيَّارة لم يمت حتى يذوق ألم الفقر (¬1). قلتُ: وهذا أمر مشهود مشهور. وروى ابن أبي الدنيا: أن شريح رحمه الله تعالى كان لا يجيز شهادة صاحب حَمَام، ولا حَمَّام (¬2)؛ يعني: الدَّلاك؛ لأنه يتعرض لكشف العورة من نفسه، واستكشافها من غيره، لا يبالي ما وقع له من ذلك. 23 - ومنها: كما ذكره ابن الحاج في "المدخل" عن أهل مصر من مضاربتهم بالجلود وغيرها يوم كسر النيل، حتى لو زُهقت روح أحد، أو سُلب ماله لم يحكم عليه الوالي، وربما فعله بعض من ينسب إلى العلم، ويعد ذلك حسن خلق، حتى ربما عدُّوا الاشتغال بالدرس وغيره من الأشغال الضرورية هجنة، بل يشتغلون باللعب واللهو وأنواع الشهوات، وربما انضم إلى ذلك مفاسد كالزنا، وشرب الخمر، واختلاط النساء بالرجال (¬3). ومن هذا القبيل ما يفعله كثير من الناس في كثير من البلاد في أيام الأفراح، والأعياد، ونحوها من الملاعب بالضرب، والكلام الفاحش، وتشكيل الرجل في صورة المرأة، وعكسه، وسائر ما يترتب عليه العقاب شرعًا؛ كل ذلك أفعال فرعونية. ¬
24 - ومنها: اللعب على الحبال بالمشي عليها.
24 - ومنها: اللعب على الحبال بالمشي عليها. ويقال لمن يفعل ذلك: بلهوان، وكأنَّه مأخوذ من قولهم: فلان في بلهنية من العيش -بضم الموحدة- أي: سعة ورفاه؛ لأنَّ تبسط الإنسان في ملاهيه إلى تدريب النفس إلى ذلك إنَّما نشأ عن الفراغ، والتوسع في الإرفاه، والبطالة، أو لأنه لا يرغب في النظر إلى من هذا فعله إلَّا أهل الرفاهة والفراغ والاستهزاء. وأنا أقول: بالهوان -بكسر الباء الموحدة- لأن من يعتاد ذلك فقد عرض نفسه إلى السقوط من حباله العالية فيتكسر، فكأنَّه باع نفسه بالهوان. وربما قالوا: بهلوان. وبالجملة فهو لفظ موَّلد غير عربي. والدليل على أنه من فعل قوم فرعون ما رواه ابن جرير، والمفسرون، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} [ص: 12] في سورة (ص)، قال: كانت له أوتاد، وأرسان، وملاعب يلعب له عليها (¬1). والأرسان جمع رسن -بالتحريك-: وهو الحبل كما في "القاموس" (¬2). ¬
25 - ومنها: التلهي بسائر الملاهي، ونسيان ذكر الله في حالة الرخاء.
25 - ومنها: التَّلهِّي بسائر الملاهي، ونسيان ذكر الله في حالة الرخاء. روى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} [الفجر: 10] قال: ذي البناء (¬1). قال: وحدَّثنا سعيَد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنَّه كان له مظال يلعب له تحتها، وأوتاد كان تضرب له (¬2)؛ أي: لأجل بناء تلك المظال. وهي جمع مظلَّة، وهي كما في "القاموس" -بالكسر وبالفتح-: الكبير من الأخبية (¬3). وفي معناها حلَق الملاعب من ترقيص القردة وما معها، والتمويه بالسيمياء، والشعبذة، والملابخة بالعصي ونحوها دون المصارعة لثبوتها في السنَّة، ولأنَّها في الغالب على السلامة. وروى ابن أبي شيبة عن الضحاك بن قيس رحمه الله تعالى قال: اذكروا الله في الرخاء يذكرْكم في الشدَّة؛ فإن يونس عليه السلام كان عبدًا صالحًا ذاكرًا لله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143، 144]، وأنَّ فرعون كان عبدًا طاغياً ناسياً، فلما أدركه الغرق قال: {قَالَ آمَنْتُ ¬
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]، فقيل له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] (¬1). أشار الضحاك إلى انتفاع يونس عليه السلام بسالف إحسانه بذكر الله تعالى، واستضرار فرعون بسالف سيئه تهييجًا إلى المبادرة بالإحسان, والأعمال الناشئة عن ذكر الله تعالى قبل نزول البلاء خشية من نزوله بالعبد وهو في غفلته، فلا يمكنه التدارك، ولا ينفعه العمل حينئذ، ولا بلاءً أشد من وقوع بوادر الموت والعبد على غير أُهْبَةٍ. وقد قال الحسن رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143، 144]: لتعلم والله أن التضرع في الرخاء استعداد لنزول البلاء، ويجد صاحبه مشتكى إذا نزل به، وأن سالف السيئة يُلحق صاحبها وإن قدمت. رواه عبد بن حميد (¬2). ومن هنا قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "بَادرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعاً؛ مَا تَنْتَظِرُوْنَ إلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مجهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ؛ فَإِنَّهُ شَرُّ مُنتظَرٍ، أَوِ السَّاعَةَ؛ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ". رواه الترمذي، والحاكم، وصححه (¬3). وبعض هذه الأمور - وإن لم يكن مانعًا من قبول التوبة كالغنى ¬
والفقر - فإنه قد يكون شاغلاً عن الإتيان بها؛ ألا ترى أنَّ الغني كثيرًا ما يشغله إصلاح ماله، والفقير كثيرًا ما يشغله طلب ما يحتاج إليه؟ فيسوِّفُ العبد بالتوبة والعمل الصالح من وقت إلى وقت رجاء الفراغ، فلا يحس بنفسه إلا وقد وقع في محذوره. وفي حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ هَرَمًا نَاغِضًا، وَمَوْتًا خَالِسًا، وَمَرَضًا حَاِبسًا، وَتَسوِيْفًا مُؤيِسًا". أخرجه البيهقي في "الشعب" (¬1). وحين وقوع هذه الأمور بالعبد، أو بعضها فيمنعه [أن] ينتفع بما سبق له قبل ذلك من الإحسان, وأما إذا لم يسبق له فإنه تشتد حسرته ويظهر حسارته، ولا ينفعه التدارك كما لو غص بالموت وغرغر بالروح، وفي مثل هذه الحالة كان فرعون حين أدركه الغرق فقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]، فقيل له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]. وسبق قول جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -. يا محمَّد! فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدنيه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة. وحال البحر الطين الأسود الذي يكون في أرضه. وإنما كان ذلك من جبريل عليه السلام تنفيذاً لما سبق في علم الله من شقاوة فرعون، وكان فرعون همَّ أن يقول تلك الكلمة قبل أن يلجمه الغرق فيغرغر بالموت؛ فإن قول كلمة الشهادة قبل الغرغرة ينفع. ¬
26 - ومن أخلاق فرعون وقومه: كفران نعم الله تعالى، وهو أشدهم كفرانا.
وقال بعض العلماء: إنما لم يقبل إيمانه لأنَّه قلد بني إسرائيل من غير جزم بما لله تعالى من الصفات التي لا بدَّ من التصديق بها, ولو قال: لا إله إلا الله جازمًا بها لنفعه، لاشتماله على ذلك. قلت: ويدل لهذا القول ما رواه الترمذي وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذكر: "أنَّ جبرِيلَ عليهِ السَّلام جعل يَدُسُّ في فيِّ فِرعونَ الطينَ خَشيَةَ أن يقولَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ فَيَرحَمَهُ اللهُ" (¬1). وإجماع الأمة إلا من شذ أن فرعون مات على الكفر، وأنه خالد مخلد في النار. وروى ابن عدي في "الكامل"، والطبراني في "الكبير"، واللالكائي في "السنة" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "خَلَقَ اللهُ تَعَالَى يَحْيَى بنَ زكَرِيَّا في بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا، وَخَلَقَ اللهُ فِرْعَوْنَ في بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا" (¬2). 26 - ومن أخلاق فرعون وقومه: كفران نعم الله تعالى، وهو أشدهم كفرانا. ذكر القرطبي عن عبد الله بن عمرو، وابن عباس، وكعب - رضي الله عنهم -: ¬
أن الله تعالى أمسك نيل مصر عن الجريان في زمان فرعون، فقالت له القبط: إن كنت رباً فأجر لنا الماء. فركب وأمر بجنوده قائداً قائداً، وجعلوا يقفون على درجاتهم، وقعد حيث لا يرونه، ونزل عن دابته، ولبس ثياباً له أخرى، وسجد وتضرع إلى الله تعالى، فأجرى الله له الماء، فأتاه جبريل عليه السلام وهو وحده في هيئة مُسْتَفْتٍ، فقال: ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سيد له غيره، فكفر نعمه وجحد حقه، وادعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون: يقول أبو العباس الوليد بن مصعب بن الريان: جزاؤه أن يغرق في البحر. فأخذه جبريل ومر، فلما أدركه الغرق ناوله جبريل خطه (¬1). وكفران النعمة -سواء كانت النعمة من الله تعالى، أو من غيره، وكلها سواء، نعمة من نعمه سبحانه وتعالى- مذمومٌ مؤاخذ به، ومرتكبه متعرض به للنقمة ولو بزوال تلك النعمة. وفي الحديث "ثَلاثٌ مُتَعَلِّقَاتٌ بِالْعَرْشِ؛ الرَّحِمُ تَقُوْلُ: اللهُمَّ إِنِّي لَكَ فَلا أُقْطَعُ، وَالأَمَانَةُ تَقُوْلُ: اللهُمَّ إِنِّي لَكَ فَلا أُخَانُ، وَالنِّعْمَةُ تَقُوْلُ: اللهُمَّ إِنِّي لَكَ فَلا أكْفَرُ". رواه البزار من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه مرفوعًا (¬2). ¬
27 - ومنها: نكث العهود، وعدم الوفاء بالنذر.
27 - ومنها: نكث العهود، وعدم الوفاء بالنذر. قال الله تعالى حكاية عن فرعون وقومه: {قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 134، 135]. قال السدي: ينكثون ما أعطوا من العهود. أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وروى أبو الشيخ في "مسنده"، وابن مردويه، والخطيب في "التاريخ" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ فَهْيَ رَاجِعَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا: البَغْيُ، وَالمَكْرُ، وَالنَّكثُ" (¬2). وقد أثنى الله تعالى على أبرار هذه الأمة بقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]. ومن اللطائف ما أخرجه المعافى بن زكريا في "الجليس والأنيس" عن أبي بكر الهذلي: أنَّ أبا العباس الخليفة سألهم عن يهودية مرضت، ¬
28 - ومن أخلاق فرعون: المن بما تقدم من الإحسان.
فنذرت في مرضها: إنِ اللهُ سلَّمها لتسرجن في كنيسة من كنائس اليهود، ولتطعمن مساكين من مساكينهم. قال: فقامت من مرضها وقد أسلمت. قال: فسكت القوم، فقلت: يا أمير المؤمنين! سألت عنها الحسن ابن أبي الحسين، فقال: تسرج في مسجد من مساجد المسلمين، وتطعم مساكين من مساكينهم. وسالت قتادة وهو إلى جانبه، فقال مثل مقالة الحسن. فلقيت محمَّد بن سيرين، فسألته عن ذلك، فقال: ليس عليها شيء؛ هدم الإِسلام ما كان قبله. فلقيت الشعبي، فسألته عن ذلك وأخبرته بما قال الحسن وقتادة، فقال لي: فأين أنت عن الأصم ابن سيرين؟ فقلت له: قد سألته عن ذلك، فقال: ليس عليها شيء هدم الإِسلام ما قبله. فقال: أصاب الأصم، وأخطأ الحسن وقتادة (¬1). 28 - ومن أخلاق فرعون: الْمَنُّ بما تقدم من الإحسان. ألا ترى إلى قوله لموسى عليه السلام حين بلغه إرساله إليه: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 18، 19]، أي: لإحساننا إليك وإنعامنا عليك. ¬
29 - ومن أخلاق فرعون وقومه: الأشر، والبطر، والعجب،
قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى في الآية: مَنَّ فرعون على موسى حين رباه بقوله: كفرت نعمتي. رواه ابن أبي حاتم (¬1). والمن لا يليق إلا بالله عز وجل، وهو من المُكلف من أشد الحرام، وهو خلق من أخلاق اللئام. وقال الله تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]. قيل: المن: أن يستخدمه بالعطاء، والأذى: أن يعيره بالفقر. وإنما أراد فرعون تقريع موسى واستخدامه بنعمته، ومن ثم قال: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22]، فأشار إلى أن فرعون جمع بين المن والأذى؛ وأي أذية أعظم من إهانة قومه واسترقاق حَيِّه؟ 29 - ومن أخلاق فرعون وقومه: الأشر، والبطر، والعجب، والأمن من مكر الله تعالى، والاستخفاف بآياته؛ وكلها عظائم. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ ¬
لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 46 - 51] الآية. وهذه الآيات تدل على اتصاف فرعون بما ذكرناه. وقولهم: {يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} يدل على أنهم كانوا في أعلى طبقات الحماقة؛ إذ أساءوا في خطابه، وأفحشوا في سبابه وهم يطلبون منه أن يدعو لهم. أو هو محمول على الاستخفاف به والتهكم عليه، وما كانوا يعتقدون فيه أنه مستجاب الدعوة. أو كانوا يرون أن السحر فضيلة والوصف به مدحة. وكل ذلك يدل على خبث طويتهم، وقوة شكيمتهم، وعومهم في بحابح الجهل. وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى: أن الله تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى فرعون قال له: أنت جند عظيم من جنودي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي، وأمن مكري، وغرته الدنيا عني حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، وعبد دوني، وزعم أنه لا يعرفني، وإني أقسم بعزتي! لولا العذر والحجة اللتان وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض، والجبال والبحار؛ فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه هان علي وسقط من عيني، ووسعه حلمي، واستغنيت بما
عندي، وحق لي أني أنا الغني لا غني غيري، فبلِّغْه رسالاتي، وادْعُه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي، وحذِّرْه نقمتي وبأسي، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي، وقيل له فيما بين ذلك قولًا لينا لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أنِّي إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا؛ فإن ناصيته بيدي، ليس يطرف ولا ينطق ولا يتنفس إلا بإذني، قل له: أجب ذلك؛ فإنه واسع المغفرة، فإنه قد أمهلك أربعمئة سنة، وفي كلها أنت مبارز لمحاربته، تشبه وتمثل به، وتصد عباده عن سبيله، وهو يمطر عليك السماء، وينبت لك الأرض، لم تسقم، ولم تهرم، ولم تفتقر، ولم تغلب. قال: وجاهده بنفسك وأخيك، وأنتما محتسبان بجهاده؛ فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة -ولا قليل مني- تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، ولا تعجبكما زينته ولا ما متع به، ولا تمُدَّا إلى ذلك أعينكما؛ فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين، وإني لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت، ولكن أرغب بكما عن ذلك، وأزويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، وقديمًا ما خرت لهم في ذلك؛ فإني لأذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مواقع الهَلَكة، وإني لأجنبهم سلوتها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك العمرة؛ وما ذاك لهوانهم عليَّ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي
تنبيه
سالماً موفرًا لم تملكه الدنيا, ولم يُطْغِه الهوى (¬1). * تنبِيْهٌ: الوزير ركن عظيم للولاية ليكون واسطة بين الوالي والرعية، ومن ثم قالوا: ينبغي أن يكون الوزير ذا عقل يوازن عقل الملك وعقول الرعية ليأخذ منه، ويؤدي إليه ما ينفعهم. وكان هارون عليه السلام بهذه الصفة. وإذا كان الوزير ناصحاً أمينًا يشرك مستوزره في خيره؛ ألا ترى كيف شرك الله بين موسى وهارون في الخير والنبوة؟ وكان ذلك بدعاء موسى عليهما السلام. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا} [طه: 32، 33] الآية: نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى عليهما السلام. وقال عروة: إن عائشة رضي الله تعالى عنها سمعت رجلًا يقول: إني لأدري أيَّ أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه من موسى حين سأل لأخيه النبوة؟ فقالت: صدق والله. أخرجه ابن أبي حاتم (¬2). وروى ابن المنذر عن ابن عباس قال: كان هارون أكبر من موسى عليهما السلام (¬3). ¬
وروى الحاكم عن وهب قال: كان هارون فصيحًا بيِّنَ المنطق، يتكلم في تؤدة، ويقول بعلم وحلم، وكان أطول من موسى طولًا، وكبرهما في السن, وأكثرهما لحما، وأبيضهما جسمًا، وأعظمهما ألواحًا، وكان موسى عليه السلام جعدًا، آدم، طوالًا كأنه من رجال شنوءة (¬1). وأين وزارة هارون لموسى عليهما السلام من وزارة هامان لفرعون عليهما اللعنة؛ فإن هامان كان من أغش الوزراء لأمرائها، وأظلمهم لنفسه وللرعية، بل هو أظلم من فرعون لأنه كان يظلم لغيره. وكل وزير ظالم غاش فهو متشبه بهامان، فكيفما أشار على أميره بما يبعده عن الخير والقرب إلى الله تعالى فهو على أخلاق هامانية، وكم من ملك أو إمارة كان سبب تكونه وزواله وزراءُ السوء. وقد روى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] قال: قال موسى: يا فرعون! هل لك في أن أعطيك شبابك فلا تهرم، وملكك لا ينزع منك، وترد إليك لذة المناكح، والمشارب والمطاعم، والركوب، وإذا مت دخلت الجنة، وتؤمن بي؟ فوقعت في نفسه هذه الكلمات، وهي اللينات؛ قال: كما أنت حتى يأتي هامان. فلما جاء هامان أخبره، فعجزَه هامان، وقال: تصير عبدًا تَعْبُدُ ¬
بعد أن كنت ربًا تُعْبَدُ؟ فذلك حين خرج عليهم وجمعهم، فقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] (¬1). وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِالأَمِيرِ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَزيرَ صِدْقٍ؛ إِنْ نسِيَ ذَكَّرَهُ، وإنْ ذَكَرَ أَعَانه، وإِذَا أَرَادَ اللهُ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ جَعَلَ لَهُ وَزِيْرَ سُوْءٍ؛ إِنْ نسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ، وإنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ". رواه أبو داود، وابن حبان (¬2). وقوله: "إن نسي، وإن ذكر"، أي: إن نسي الله، وإن ذكره، أو إن ذَكَرَ خيراً، أو: ما ينفعه، أو ما فيه مصلحة. وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ وَالٍ إِلاَّ لَهُ بِطَانتَانِ: بِطَانةٌ تأمُرُهُ بِالمَعْرُوْفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ المُنْكَرِ، وَبِطَانةٌ لا تألُوهُ خَبَالاً؛ فَمَنْ وُقِيَ شَرَّهَا فَقَدْ وُقِيَ، وَهْوَ إِلَى مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا" (¬3). وهذا -وإن كان بتيسير الله تعالى لإرادته الخير أو الشر بالأمير كما يدل عليه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها- إلا أن للعبد فيه اختياراً، ومن ثم نهى الله تعالى عنه، عليه. ¬
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ}؛ أي: من غير أبناء جنسكم من المؤمنين {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118]؛ أي: عَنتكم، وهو الضرر والمشقة، وأصلهما: انهياض العظم بعد جبره. والبطانة: مَنْ كان محل المشاورة والسر من وزير وكاتب وغيرهما؛ استعير من بطانة الثوب كما يقال: فلان شعاري. ومن هنا: لا يجوز أن يستوزر أهل الذمة، ولا يتخذ منهم كاتب ولا عامل -وإن كان عمل أمراء الوقت على خلاف ذلك- فإنَّا لله وإنا إليه راجعون. وقد قال الحسن رحمه الله تعالى: معنى حديث أنس مرفوعًا: "لا تَسْتَضيْئوا بِنارِ الْمُشْرِكِيْنَ" (¬1): لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم. قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118]، أخرج البيهقي في "الشعب" (¬2). وروى ابن أبي شيبة، وغيره: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قيل له: إن هنا غلاما من أهل الحيرة حافظاً كاتبا، فلو اتخذته كاتباً. ¬
قال: قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين (¬1). وقد حكي أن الحاكم العبيدي -قبحه الله تعالى- أقام لهم وزيرين؛ أحدهما يهودي، والآخر نصراني، فجعلا يحكمان في المسلمين، فكتب شخص رقعة ورفعها إليه، وفيها: بالذي أعز اليهود بوزيرك فلان، والنصارى بوزيرك فلان، وأذل المسلمين بك! إلا رفعت هذه المظلمة. فطلب الوزيرين، وقتلهما في الحال، واستوزر مسلما (¬2). وصحح الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ عِصَابَةٍ وَفِيْهِمْ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ الله وَرَسُوْلَهُ وَالمُؤْمِنِيْنَ" (¬3). وصحح أيضًا - وأصله عند الإِمام أحمد - عن يزيد بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه قال: قال لي أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حين بعثني إلى الشام: يا يزيد! إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذاك أكبر ما أخاف عليك بعد ما قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ وَليَ مِنْ أَمْرِ المُسْلِمِيْنَ ¬
30 - ومن أعمال فرعون وقومه: منع الناس من الصلاة في المساجد،
شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَداً مُحَافَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، وَلا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلاً حَتَّى يَدْخُلَ جَهَنَّمَ" (¬1). وقد اكتفيت بما هنا عن عقد باب في النهي عن التشبه بهامان وبوزراء السوء. وقد كان هامان وضيعاً، وهو عند الأكثرين قبطي. وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد: أن هامان كان فارسيا من أهل إصطخر. وروى ابن عبد الحكم في "فتوح مصر" عن خالد بن عبد الله عن من حدثه: أنه كان نبطياً -أي: بالنون-، والأنباط من رذائل الناس (¬2). وقيل كان من العماليق. 30 - ومن أعمال فرعون وقومه: منع الناس من الصلاة في المساجد، وتخريبها، والمنع من ذكر الله فيها، وذلك من أشد ما يكون. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114] الآية. وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ¬
31 - ومنها: الغفلة عن ذكر الله تعالى، وعن آياته، وترك التفكر فيها.
وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأكثر المفسرين: كان بنوا إسرائيل لا يُصلُّون إلا في مساجدهم وكنائسهم، وكانت ظاهرة، فلما أرسل موسى عليه السلام أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخُرِّبت كلها، ومنعهم من الصلاة، فأمروا أن يتخذوا مساجدهم في بيوتهم، ويصلوا فيها خوفا من فرعون. نقله الثعلبي، وغيره (¬1). 31 - ومنها: الغفلة عن ذكر الله تعالى، وعن آياته، وترك التَّفكر فيها. قال الله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136]. أي: كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله، وترك تفكرهم فيها حتى غفلوا عنها. روى الطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسولُ - صلى الله عليه وسلم -: "الغَفْلَةُ في ثَلاثٍ؛ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَحِيْنَ يُصَلَّى الصُّبْح إِلَى طُلُوْعِ الشَّمْسِ، وَغَفْلَةُ الرَّجُلِ عَنْ نَفْسِهِ في الدَّيْنِ حَتَّى يَرْكَبَهُ" (¬2). ¬
32 - ومنها: الإصرار على المعاصي، وعدم الاتعاظ بآيات الله،
وقوله: "الغَفْلَةُ"؛ أي: البالغة المحذورة، أو التي يُهتم بالحذر منها. 32 - ومنها: الإصرار على المعاصي، وعدم الاتعاظ بآيات الله، وترك التضرع عند نزول النبلاء، والاستكانة، والتجلد على قضاء الله تعالى. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130]؛ أي: فلم يتذكروا أنه تنبيه من الله تعالى. بل حالهم كما قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 131 - 135]. وهذا غاية ما يكون في الإصرار. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا
آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ}: الجوع (¬1). قال قتادة: عامًا فعامًا، وكان الجوع في باديتهم وأهل مواشيهم. {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 130]: في أمصارهم وقراهم (¬2). وقال رجاء بن حيوة: حتى كانت لا تحمل النخلة إلا بُسْرًا واحدة. أخرجه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وغيرهما (¬3). وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما أخذ الله آل فرعون بالسنين يَبس كل شيء لهم، وذهبت مواشيهم حتى يَبس نيل مصر، واجتمعوا إلى فرعون فقالوا له: إن كنت كما تزعم فأتنا في نيل مصر بماء. قال: غدوة يصبحكم الماء. فلما خرجوا من عنده قال: أي شيء صنعت؟ أنا أقدر أن أجري في نيل مصر ماء؟ غدوة أصبح فيكذبوني. فلما كان في جوف الليل قام واغتسل، ولبس مدرعة صوف، ثم خرج حافياً حتى أتى نيل مصر، فقام في بطنه، فقال: اللهم! إنك تعلم ¬
أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء، فاملأه ماءً. فما علم إلا بخرير الماء مقبل، فخرج وأقبل النيل يزخ بالماء لما أراد الله لهم من الهلكة (¬1)؛ أي: من هلاكهم باعتقاد أن فرعون هو الذي أجراه لهم. وفي هذه القصة أن الخارق قد يظهر على يد الكاذب لأجل فتنته أو فتنة غيره، والله يفعل ما يشاء في ملكه، وليس في ذلك كرامته، بل إنهاؤه إلى حضيض ضلالته المقدرة له؛ إذ الفرق بين الكرامة والفتنة: أن الخارق إن اقترن بالطاعة فإما أن يكون مع التحدي، وهو دعوى النبوة وهو المعجزة، أو لا، وهو الكرامة. وإن اقترن بالمعاصي والعظائم فهو إما فتنة واستدراج، وإما سحر، وهو من جملة الفتنة. ومن هذا القبيل ما يتفق للظلمة والخوارج من التمكين والنصرة، وفتح الكنوز، وتسخير الناس، وغير ذلك، ثم يؤُول أمرهم إلى الهلاك والدمار، وخراب الديار كما وقع لفرعون. ومن أعجب ما وقع له ولقومه أنَّ الله تعالى عذبهم بالماء نضوبًا، وعذبهم به طوفانا على ما ستعلم. قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن إسحاق -على ما نقله الثعلبي وغيره-: لما آمنت السحرة لموسى عليه السلام رجع فرعون ¬
مغلوباً، ثم أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله تعالى عليهم الآيات، وأخذهم بالسنين، ونقص من الثمرات، ولم يؤمنوا، وقال موسى عليه السلام: يا رب! إنَّ عبدك فرعون علا في الأرض، وبغى وعتا، بن قومه قد نقضوا عهدك، وأخلفوا وعدك، فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدهم من الأمم الباقية آية وعبرة، فبعث الله عليهم الطوفان (¬1). روى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطُّوْفَانُ المَوْتُ" (¬2). وروى أبو الشيخ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: الطوفان الغرق (¬3). وروى هو وابن أبي حاتم عنه قال: أرسل الله على قوم فرعون الطوفان، وهو المطر (¬4). قال: أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا أن يهلكوا، وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة، فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، ولم يدخل بيوت بنو إسرائيل من الماء قطرة، وفاض الماء على أراضيهم فمنعهم من الحرث والعمل، ودام ذلك عليهم سبعة ¬
أيام من السبت إلى السبت، فقالوا لموسى عليه السلام: ادع لنا ربك يكشف عنا المطر لنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا ربه، فرفع عنهم الطوفان، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، وعادوا شراً مما كانوا، وأنبت الله لهم شيئًا لم ينبته قبل ذلك، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، وما كان هذا إلا نعمة علينا وخصبا. فأقاموا شهرًا في عافية، فبعث الله عليهم الجراد، فأكلت عامة زروعهم وثمارهم، وأوراق الشجر، حتى كانت تأكل الأمتعة والثياب، والسقوف والأبواب حتى خربت بيوتهم. قال عطاء رحمه الله تعالى: بلغني أنَّ الجراد لما سلط على القبط أكل أبوابهم حتى أكل مساميرهم. رواه أبو الشيخ (¬1). قالوا: وابتلى الجراد بالجوع، فجعل لا يشبع، غير أنَّه لم يدخل بيوت بني إسرائيل، ولم يصبهم منه شيء، فعجوا وضجوا إلى موسى عليه السلام، وعاهدوه على الإيمان إن كشف الله تعالى ذلك عنهم، فدعا موسى عليه السلام، فكشف الله تعالى عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام، وكانت قد بقيت من زروعهم وغلاَّتهم بقية، فقالوا: قد بقي لنا ما هو كافينا، فما نحن بتاركي ديننا، وعادوا إلى أعمالهم السوء، فأقاموا شهرًا في عافية، ثم بعث الله تعالى عليهم القُمَّلَ، وهو السوس الذي يكون في الحنطة. رواه ابن جرير، وابن المنذر عن سعيد ¬
ابن جبير (¬1). وكان أحدهم يخرج عشرة أقفزة إلى الرحا، فلا يرد منها ثلاثة أقفزة. وقيل: هو الْجُعل. رواه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن حبيب بن أبي ثابت (¬2). وقيل: صغار الجراد، وهو الدبا الذي لا أجنحة له. رواه أبو الشيخ عن عكرمة (¬3). وقرأ الحسن: القَمْلَ -بفتح القاف، وإسكان الميم-. وروى ابن أبي حاتم عنه أنه فسره به (¬4). وقيل: هو البراغيث. رواه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن زيد، عن بعضهم (¬5). وقيل: نوع من القراد. قيل: أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يمشي إلى كثيب أعفر بقرية يُقال لها: عين شمس، فمشى إليه، وضربه بعصاه، فانثال عليهم، ¬
فملأ، فتتبع ما بقي من زروعهم وأشجارهم فأكله، ولحس الأرض كلها، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده، ويأكل أحدهم فيمتلئ طعامه قملاً، وأخذ القمل شعورهم وحواجبهم وجفونهم، ولزم جلودهم كأنَّه الجدري، ومنعهم النوم والقرار، فاستغاثوا بموسى عليه السلام، فدعا لهم، فكشف الله تعالى البلاء عنهم بعد ما أقام عليهم سبعة أيام، فنكثوا، وعادوا لأخبث أعمالهم، وقالوا: ما كنَّا أحق أن نستيقن به ساحراً منَّا اليوم؛ يجعل الكثيب دوابًا! وعزة فرعون لا نصدقه أبدًا، ولا نتبعه. فأرسل الله تعالى عليهم الضفادع بعد ما أقاموا شهرًا في عافية، فدخلت عليهم دورهم، وامتلأت منها أفنيتهم وأطعمتهم، وكان أحدهم يجلس في الضفادع إلى ذقنه، ويضطجع فتكون عليه ركامًا، ويفتح فاه لأكلته فتسبق الضفاع لقمته، ولا يعجن عجينا إلا شدخت فيه، ولا يطبخ قدراً إلا امتلأت ضفادع (¬1). روى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت الضفادع برِّية، فلما أرسلها الله تعالى على آل فرعون سمعت وأطاعت، فجعلت تقذف بنفسها في القدور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور، فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء -وفي رواية: والثرى- إلى يوم القيامة (¬2). ¬
ورواه ابن أبي حاتم بنحوه عن ابن عمرو، وقال: فأبدلهنَّ الله تعالى أبرد شيء نعلمه؛ الماء، وجعل نقيقهنَّ تسبيحاً (¬1). قالوا: فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى، وقالوا: هذه المرة نتوب ولا نعود، فدعا ربه، فكشف عنهم الضفادع بعد ما أقامت عليهم سبعة أيام، فأقاموا شهرًا في عافية، ونقضوا العهد، وعادوا لكفرهم، فدعا عليهم موسى عليه السلام، فأرسل الله تعالى عليهم الدم. قال زيد بن أسلم: وهو الرعاف. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم (¬2). وقال سعيد بن جبير: الطاعون (¬3). وقال الأكثرون: سأل النيل عليهم دمًا، وصارت مياههم كلها دماً عبيطاً، وكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي على الإناء الواحد، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء، وما يلي القبطي دماً، حتى إن المرأة من القبط كانت تقول للمرأة من بني إسرائيل: اسقيني من مائك، فتصب لها من القربة أو الجرة، فيعود الماء دماً، وكانت تقول لها: اجعليه في فيكِ ومجِّيه في فيَّ، فتأخذ الماء في فيها، فإذا مجته في فيها صار دماً عبيطاً، وهو الرِّجز الذي قال الله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} [الأعراف: 134] الآية (¬4). ¬
وقوله تعالى: {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} [الأعراف: 133] حالٌ من مفعولِ: أرسلنا. قال ابن عباس في قوله: {مُّبَيِّنَاتٍ} (¬1): بعضها على أثر بعض لتكون الحجة لله عليهم. رواه ابن أبي حاتم (¬2). وعنه: يتبع بعضها بعضا، تمكث فيهم الآية سبتًا إلى سبت، ثم ترتفع عنهم شهرًا. أخرجه ابن المنذر (¬3). فتكون الآيات التسع دون السنة، وهو قول الأكثرين. وقال زيد بن أسلم رحمه الله تعالى: الآيات التسع في تسع سنين، في كل سنة آية (¬4). وقال نوف الشَّامي: مكث فيهم موسى عليه السلام بعد غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات التسع. أخرجهما ابن أبي حاتم (¬5). وقد يجمع بين هذا وبين ما سبق عن الأكثرين؛ فإنها كانت تتابع فيهم عشرين سنة، كل سنة تتابع مرة في الأسابيع والشهور، وهو أبلغ، فلما تابع الله تعالى عليهم هذه الآيات فلم يؤمنوا، اشتدَّ عليهم غضب الله تعالى آخراً، فأغرقهم كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا ¬
كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 135، 136]. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: اليم: البحر (¬1). والمشهور أنه بحر القُلْزُم -كقنفذ-: بلدة بين مصر ومكة قرب جبل الطور، وإليها يضاف البحر لأنها على طرفه، أو لأنَّه يبلع من ركبه. والقلزمة: الابتلاع كالتقلزم؛ كما ذكره في "القاموس" (¬2). وقيل: بل أغرق فرعون في النيل، وهو اليم كما في قوله تعالى: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص: 7] (¬3). وقيل: هو بحر وراء مصر يقال له: أساف. حكاها شيخ الإِسلام والدي في "تفسيره" (¬4). وقال الله تعالى حكايته عن فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 54 - 56]. ¬
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {آسَفُونَا}: أغضبونا (¬1). وفي رواية: أسخطونا (¬2). رواهما ابن جرير، وابن أبي حاتم. وقال مجاهد رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا}: هم قوم فرعون، كفارهم سلف لكفار أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. {وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}؛ قال: عبرة لمن بعدهم. رواه ابن جرير (¬3). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن محمَّد بن كناسة قال: سمعت عمر بن ذر رحمه الله تعالى يقول: آنسك حلمه فوثبت على معاصيه، أفأسفه تريد؟ أما سمعته يقول: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}. ثم قال: أيها الناس! أجلُّوا مقام الله بالتنزه عما لا يحل؛ فإن الله عز وجل لا يؤمن إذا عصى (¬4). وروى الشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الله لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، وقرأ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى ¬
وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (¬1). وهذه الآية ذكرها الله تعالى بعد أن ذكر الأمم المكذبة من قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه. وقبلها: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100]؛ أي: منها ما يرى مقامه وأثره، ومنها ما عفا أثره ودُرِس. {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}؛ أي: بارتكاب المعاصي. {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ}؛ أي: ما قدرت أن تدفع عنهم أو تنفعهم آلهتهم. {الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ}؛ أي: نقمته وعذابه. {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]؛ أي: تخسير وهلاك. {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} [هود: 102] الآية. روى ابن جرير عن ابن زيد قال: إن الله تعالى حذر هذه الأمة سطوته بقوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (¬2). وروى أبو الشيخ عن أبي عمران الجوني رحمه الله تعالى أنه قال: لا يغرنكم طول النسيئة ولا حسن الطلب؛ فإن أخذه أليم شديد (¬3). ¬
والمعنى -والله أعلم-: وكما أمهل الله هذه الأمم ثم أخذهم فلم يفلتهم، كذلك يملي للظالم ثم يأخذه فلا يفلته، فلا ينبغي الاغترار بالله تعالى. وروى الإِمام أحمد، وابن أبي حاتم، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه: أَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إِذَا رَأَيْتَ الله يُعْطِي العَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيْمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدرَاجٌ" (¬1). زاد ابن أبي حاتم، ثم تلا: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55]. وروى ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ، والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] قال: نسبغ عليهم النعم، وننسيهم الشكر (¬2). وروى أبو الشيخ عن يحيى بن المثنى رحمه الله تعالى في الآية قال: كلما أحدثوا ذنبا جدَّدنا لهم نعمة تنسيهم الاستغفار (¬3). ¬
وروى ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن ثابت البناني رحمه الله تعالى أنه سئل عن الاستدراج فقال؛ هو مكر الله بالعباد المضيعين (¬1). ونقل السلمي في "حقائقه"، وغيره: أنه قيل لذي النون رحمه الله تعالى: بِمَ يخدع العبد؟ قال: بالألطاف والكرامات، ثم تلا الآية (¬2). وروى الإِمام عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن الحسن قال: كم من مستدرج بالإحسان إليه! وكم من مفتون بالثناء عليه! وكم من مغرور بالستر عليه! (¬3). وروى البيهقي في "الشعب" عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إِذا رَأَيْتَ كُلَّمَا طَلَبْتَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ وَابْتَغَيْتَهُ يُسِّرَ لَكَ، وَإِذَا رَأَيْتَ كُلَّمَا أَرَدْتَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا وَابْتَغَيْتَهُ عُسِّرَ عَلَيْكَ فَاعْلَمْ أَنَّكَ عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ، وإِذَا رَأَيْتَ كُلَّمَا طَلَبْتَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ وَابْتَغَيْتَهُ عُسِّرَ عَلَيْكَ، وإِذَا طَلَبْتَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا يُسِّرَ لَكَ فَأَنْتَ عَلَى حَالٍ قَبِيْحَة" (¬4). ¬
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأتِي عَلى النَّاسِ زَمَانٌ يَخْلَقُ فِيْهِ القُرْآنُ في قُلُوْبِ الرجَالِ كَمَا تَخْلَقُ الثيَابِ عَلَى الأَبْدَانِ، يَكُوْنُ أَمْرُهُمْ كُلُّهُ طَمَعًا لا خَوْفَ مَعَهُ، إِنْ أَحْسَنَ أَحَدهمْ قَالَ: يُتَقَبَّلُ مِنِّي، وَإِنْ أَسَاءَ قَالَ: يُغْفَرُ لِي" (¬1). قلت: والمراد بقوله: يتقبل مني: أن يقول ذلك على سبيل الجزم والثقة من العمل، والاعتماد عليه، فإن قال ذلك على سبيل الرَّجاء والاستبشار مع التَّبرِّي من الحول والقوة فهذا من أخلاق المؤمنين. روى الطبراني عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنتهُ، وَسَاءَتْهُ سَيْئتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ" (¬2). وروى ابن ماجه، والبيهقي في "الشعب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعُو: "اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِيْنَ إِذَا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا، وإِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا" (¬3). ¬
فائدة لطيفة
ولا شك أن الاستغفار يرفع عن العبد الصفات الفرعونية من التمرد والإصرار لأنه يحل عقدة الإصرار كما قال بعض السلف. وفي الحديث: "مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وإنْ عَادَ في اليَوْمِ سَبْعِيْنَ مَرَّة". رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما من حديث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مرفوعًا (¬1). ويروى موقوفًا عليه، وهو المشهور. * فائِدَةٌ لَطِيْفَةٌ: قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]. فلا ينبغي استصغار شيء من خلق الله تعالى إلا من حيث أذن الله في استصغاره؛ فإن الله تعالى إذا سلط أضعف خلقه على أشدهم أهلكه كما سلط البعوض على نمرود فأهلكه بها، وكما سلط الجراد، والقمل، والضفادع على فرعون وقومه. وقد روى أبو نعيم في "الحلية" عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: بينما موسى عليه السلام جالس عند فرعون إذ نَقَّ ضفدع، فقال موسى عليه السلام: ماذا يصيبكم من هذا؟ فقالوا: وما عسى أن يكون هذا وأذاه؟ قال: فأرسل الله عليهم الضفادع (¬2). ¬
فائدة أخرى
قلت: ولعل الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 47، 48]؛ أي: يتوبون. * فائِدَةٌ أُخْرَى: في هذه الآية دليل وبرهان، وبيان -وأَيُّ بيانٍ- على أن الله تعالى ليس بعد كرمه كرم، ولا بعد حلمه حلم؛ كيف كان فرعون وقومه يتمادون في التمرد والطغيان وهو يعاودهم بالآيات طلبًا لرجوعهم إليه وتوبتهم إليه، فكيف يكون فعله بأوليائه وإن صدرت منهم الزلات وتواترت منهم الغَفَلات، وكيف لا يفهم المؤمن -والمؤمن كيِّسٌ فَطِنٌ- من ذلك أنَّه وإن أبعد المضمار والشرود عن الله تعالى، فإنه متى ما عاد إليه قبله وعفا عن جَفَواته. وما أحسن ما أنشده الأستاذ أبو القاسم القشيري في "عيون الأسئلة": [من السريع] ارْجِعْ إِلى الوَصْلِ الّذِي بَيْنَنا ... وَكُلُّ ذَنْبٍ لَكَ مَغْفُورُ * فائِدَةٌ أخرى ثالِثةٌ: متى نظر العبد إلى ملك نمرود، وفرعون، وبخت نصَّر، وسائر الجبابرة من كفار وفسَّاق، وما خوّلهم الله فيه، فَهِمَ من ذلك حكمًا بالغة. منها: أن الملك لا يتوقف على إيمان وتقوى.
فائدة رابعة
وأنَّ ملك الدنيا إلى زوال، فلا ينبغي الاغترار به ولا الإعجاب به. وأنَّه ليس من الفضائل، بل من البلايا والرزايا، وهو إلى حمل الأثقال والوبال أقرب منه إلى تحصيل الفضل والأفضال، وربما آل بصاحبه إلى الوبال. وقد روى ابن أبي حاتم عن الأسود بن يزيد رحمه الله تعالى قال: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في الخلافة؟ قالت: وما تعجب من ذلك؛ هو سلطان الله يؤتيه البَر والفاجر، وقد مَلَكَ فرعونُ أهلَ مصرَ أربعمئة سنة (¬1). وفيه من الحِكَم أنه لا ينبغي للعاقل أن يغتر بما حصل له من ملك الدنيا, ولا يهتم بما فاته منه، وما فاته منه خير مما حصل له. وإن شئت فاعتبر حال أبي إسحاق إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه؛ أعرض عن ملك بلخ، فاكتسب الشرف الباقي إلى الأبد (¬2). * فائِدَةٌ رابِعَةٌ: قال قتادة رحمه الله تعالى: كان مع موسى عليه السلام -يعني: حين سار بقومه إلى بحر القُلْزُم- ستمئة ألف، واتَّبعهم فرعون على ألف ¬
ألف ومئتي ألف حصان. وقال زيد بن أسلم: بلغني أن مقاتلة بني إسرائيل يومئذ ستمئة ألف، وأن مقدمة فرعون كانوا ستمئة ألف على خيل دهمِ سودِ غُر محجَّلة، ليس فيها شية مخالفة لذلك. رواهما الدينوري في "المجالسة" (¬1). وروى الفريابي، وابن جرير عن مجاهد في قوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54]؛ قال: هم يومئذ ستمئة ألف، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون (¬2). وروى ابن مردويه -بإسناد وَاهٍ- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ فِرْعَوْنُ عَدُوُّ اللهِ حَيْثُ غَرَّقَهُ اللهُ هُوَ وَأَصْحَابَهُ في سَبْعِيْنَ قَائِدٍ، مَعَ كُل قَائِدٍ سَبْعُونَ ألفًا، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ سَبْعِيْنَ ألفًا حِيْنَ عَبَرُوا البَحْرَ" (¬3). وهذه الحالة التي أخذ عليها فرعون من القوة والكثرة تقرب إليك أمر الله تعالى، وأن لا يقوم لأمره شيء وإن عَظُم؛ فليكن العبد أشد الناس حذرًا وخوفا من مكر الله تعالى وسطوته. واعتبر قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 41، 42]. وهو الذي إذا انتقم لا يخاف أن يسبق، كما رواه عبد الرزاق، ¬
فائدة خامسة
وغيره عن قتادة (¬1). * فائِدَةٌ خامِسَةٌ: ثبت في الحديث -على ما سيأتي- أنَّ الله تعالى أَغرق فرعون يوم عاشوراء. وروى ابن مردويه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأيام، وسئلَ عن يومِ الأربعاءِ فقالَ: "يَوْمُ نَحْسٍ". قالوا: كيف ذاك يا رسول الله؟ قال: "غَرَّقَ اللهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَأَهْلَكَ عَادًا وَثَمُودًا" (¬2)؛ يعني: يوم الأربعاء. وفي هذا الحديث بيان معنى الحديث الآخر: "يَوْمُ الأَرْبِعاءِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٌّ". أخرجه ابن المنذر، وابن مردويه عن جابر، وعن علي، وعن عائشة رضي الله تعالى عنهم مرفوعًا (¬3). وذلك أنَّه يوم نحس مستمر على الفجَّار، ويوم سعد مستمر على الأخيارة ألا ترى إلى اليوم الذي هلك فيه فرعون نجا فيه موسى وقومه، وكان يوم عاشوراء، ولذلك صامته اليهود شكرًا. وكان والدي رحمه الله تعالى لا يرى لأموره المهمة أقرب إلى ¬
فائدة سادسة
اليُمن والبركة من يوم الأربعاء، وهو خلاف ما عليه سفهاء الناس من التطير به -خصوصا آخر أربعاء في الشهر-. وقد روى وكيع في "الغرر"، والخطيب في "تاريخه" بسند ضعيف، عن ابن عباس الحديث بلفظ: "آخِرُ أَرْبِعَاءَ في الشَّهْرِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٌّ" (¬1). * فائِدَةٌ سادِسَةٌ: قال الله تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات: 25]؛ أي: كلمتيه؛ إحداهما قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، والثانية قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]؛ أي: جمع الله تعالى له بين النكالين وعاقبه على الذنبين، ولو اعترف له في موضع الآخرة بالربوبية، وأقر له على نفسه بالعبودية، لغفر له الأولى، والإيمان يَجُبُّ ما قبله. وقد روى ابن عساكر عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَحْسَنَ في مَا بَقِيَ غُفِرَ لَهُ مَا مَضَى، وَمَنْ أَسَاءَ فِيْمَا بَقِيَ أُخِذَ بِمَا مَضَى وَمَا بَقِي" (¬2). وروى الإِمام أحمد، والشيخان، وابن ماجه عن ابن مسعود ¬
فائدة سابعة
رضي الله تعالى عنه، وابن قانع عن شرحبيل بن حسنة رضي الله تعالى عنه، والبزار عن جابر رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قال: "مَنْ أَحْسَنَ في الإِسلامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ في الجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ مِنْكُمْ في الإِسْلامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ" (¬1). ولعل المراد بالإساءة في الإِسلام: الكفر والرِّدة عنه؛ لأن الإِسلام إذا جبَّ ما قبله فإن المعصية دون الكفر لا تقوى على إعادة ما هدمه الإِسلام. وأما الردة إذا أقام عليها العبد حتى يلقى ربه عز وجل فإنه يحبط جميع عمله كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. * فائِدَةٌ سابِعَةٌ: روى ابن أبي حاتم عن السدي: أنَّ فرعون لما نظر إلى البحر منفلقًا قال: ألا ترون إلى البحر فَرَقَ مني، فانفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم (¬2). فلما قام فرعون على أفواه الطرق التي فتحها الله لبني إسرائيل ¬
فائدة ثامنة
أبت خيله أن تقتحم، فنزل جبريل على ماذيانه، فَتَشَامَتِ الحصين ريح الماذيانة، فاقتحمت في أثرها، حتى إذا هَمَّ أول قوم فرعون أن يخرج ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن كعب رحمه الله تعالى: أن الريح الشمال جالت حين أتى فرعون البحر، وتحت جبريل عليه السلام فرسٌ وَرِيقٌ، وميكائيل عليه السلام يسوقهم لا يشذ منهم شاذ إلا خمسة (¬2). فتأمل غباوة فرعون؛ شهد الخارق الذي رآه في البحر لهيبته، ونشي هيبة الله تعالى، ولم يتفطن لمكره به، وأعظم ما ينزل بالمُصِر المأخوذ على عصيانه وإصراره عليه أن يؤخذ على غِرَّته. * فائِدَةٌ ثامِنةٌ: في الحديث: "نُصِرْتُ بِالصَّبا، وَأُهْلِكَتْ عادٌ بِالدبورِ" (¬3). وفي أثر كعب هذا: أن غرق فرعون كان بريح الشمال (¬4). وروى أبو الشيخ في كتاب "العظمة" عن ابن عباس رضي الله ¬
تعالى عنهما قال: الماء والريح جندان من جنود الله تعالى، والريح جند الله الأعظم (¬1). قلت: وقد سخرهما الله تعالى معاً في هلاك فرعون، والله تعالى يسخرها كيف يشاء؛ فيجعلها رحمة، ويجعلها عذاباً، ومن هنا جاء النهي عن سبِّها. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرّيْحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، تأتِي بِالرَّحْمَةِ وَبِالْعَذَابِ؛ فَلا تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا الله مِنْ خَيْرِهَا، وَعُوْذُوا باللهِ مِنْ شَرِّهَا". رواه الإِمام الشافعي، والإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى -مرسلاً- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَلا الشَّمْسَ وَلا القَمَرَ، وَلا الرِّيْحَ؛ فَإِنَّهَا تُبْعَثُ عَذَابًا عَلَى قَوْمٍ، وَرَحْمَةً عَلَى آخَرِيْنَ" (¬3). ¬
فائدة تاسعة
* فائِدَةٌ تاسعَةٌ: قال الله تعالى مخاطبا لفرعون عند غرقه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92]. يحتمل أن يكون قد قال له ذلك قبل خروج روحه، فيكون على سبيل الاستهزاء به وإطماعه في النجاة زيادة في عذابه، فلما طمع في النجاة قيل له: {بِبَدَنِكَ}، فآيسه من النجاة. ويحتمل أن يكون إنما قيل له ذلك بعد موته، فيكون على حد قوله - صلى الله عليه وسلم - لقتلى بدر: "وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبى حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًا" (¬1). والعرب تنادي الموتى، والطلول، والديار على وجه التدله، والتذكرة، والإنذار، والاعتبار. وقوله: {لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}؛ يعني: بني إسرائيل، أو إياهم وغيرهم ليصدقوا بموته. قال مجاهد: كذَّب بعض بني إسرائيل بموت فرعون، فَألقِي على ساحل البحر حتى يراه بنو إسرائيل أحمر قصيراً كأنه ثور. رواه المفسرون، وابن الأنباري في "المصاحف" (¬2). ¬
أو ليعتبروا ببدن ملقى حقيراً لا حراك به، ولا أمر ولا نهي له بعد ما كان متحركاً، أمَّاراً نهَّاءً، جبَّاراً عنيداً. قال محمد بن كعب رحمه الله تعالى في قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ} [يونس: 92] قال: بدرعك. قال: وكانت درعهم من لؤلؤ يلاقي فيها الحروب. رواه ابن الأنباري (¬1). ولا شك أن المتمادي في ظلمه إذا طالت أيامه وغشمه فيها، ثم مات استبعد كثير من الناس موته حتى لا يصدقوا الخبر به، فلا يذهب ذلك عنه إلا المعاينة؛ فإن فيه ما ليس في الخبر من اليقين. وإطلاق النجاة على إلقاء بدنه على شاطئ البحر ليعاينوه على سبيل التَّهكم والاستهزاء به، وإن كان ذلك بعد الموت كما يقال للمصلوب: ما أرفعَ مكانَه! أو: مَنْ رفع هذا على الناس؟ وروى أبو الشيخ عن يونس ابن حبيب النَّحوي: أنَّ معنى: {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92]: نجعلك على نجوى من الأرض لينظروا إليك فيعرفوا أنك مت (¬2). وروى ابن الأنباري عن محمد بن السميقع اليماني، ويزيد البربري أنهما قرآ: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ} [يونس: 92]-بحاء غير معجمة- (¬3). ¬
فائدة عاشرة
* فائِدَةٌ عاشِرَةٌ: قال الله تعالى ممتناً على بني إسرائيل: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50]. وهذا صريح في أن بني إسرائيل نظروا إلى فرعون، أو إليه وإلى قومه وهم يغرقون، وهذا كيف يكون مع ما سبق أن منهم من كذَّب بموته؟ والوجه في ذلك أنهم شاهدوا غرقهم وانطباق البحر عليهم، لكنهم ظنوا أنهم يخرجون سالمين، أو ظنوا أنَّ فرعون لم يغرق معهم، أو أنَّه لجبروته وقوَّته وإن غرق يخرج سالماً، فأراد الله تعالى أن يشهدهم موته، فأخرج لهم بدنه حتى نظروا إليه فصدَّقوا، وسكنت خواطرهم. * فائِدَةٌ حادِيَةَ عَشْرةَ: كان في غرق فرعون تصديق لموسى عليه السلام عند بني إسرائيل حيث قال لهم: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]. فلأجل ذلك أظهر لهم بدن فرعون تحقيقاً لما رجاهم إياه موسى عليه السلام، وبشَّرهم به. ثم تأمل كيف ظهرت فِراسة موسى عليه السلام في بني إسرائيل المشار إليها في قوله: {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]؛ فإنك
فائدة ثانية عشرة
ستنظر إلى ما يتنبه من أفعالهم وقبائحهم. وفي الحديث الصحيح: "إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مسْتَخْلِفُكُمْ فِيْهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" (¬1). ونقل في "الكشاف" عن عمرو بن عبيد - وهو رأس القدرية، وكان من زهَّادهم - دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان، فطلب زيادة لعمرو، فلم يوجد، فقرأ عمرو هذه الآية، ثم دخل عليه بعدما استخلف فذكر له ذلك، فقال: قد بقي: {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف 129] (¬2). * فائِدَةٌ ثانِيَةَ عَشْرةَ: قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ}؛ يعني: بني إسرائيل {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)} {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 - 6]. وكذلك فعل سبحانه وتعالى؛ أدار لبني إسرائيل على القبط، فأراهم هلاكهم، ثم مكنوا في الأرض واستخلفوا فيها، وأورثوها. فمن عوائد الله تعالى التي تجري كثيراً: أنَّ العبد بين ضرَّاءٍ وسرَّاء، وأن المستضعف قد يقوى ويستخلف، فينبغي للإنسان مع من ¬
فائدة ثالثة عشرة
قدر عليه بالانتقام أن يُبقي للصلح موضعاً؛ فإن فرعون لمَّا لم يُبْقِ مع موسى عليه السلام للصلح موضعاً لم ينتفع بموسى عليه السلام. وكذلك جرى لقارون على ما سيأتي. بل كل منهما لم يبق للصلح موضعاً مع الله تعالى، وكان في ذلك دمارهم. وكذلك حال الجبَّارين؛ نعوذ بالله من فتنة المفتونين. * فائِدَةٌ ثالِثَةَ عَشْرةَ: روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال موسى عليه السلام: يا رب! أمهلت فرعون أربعمئة سنة وهو يقول: أنا ربكم الأعلى، ويكذب بآياتك ورسلك؟ فأوحى الله تعالى إليه: كان حسن الخلق، سهل الحجاب، فأحببت أن أكافيه (¬1). والمعنى: أحببت أن أكافيه في الدنيا على هاتين الخصلتين بإطالة المدة في الملك والنَّعمة - بفتح النون -. {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]. وكذلك من عادته سبحانه أن يحبط ما للكفار من أعمال الخير كصلة الرحم والسخاء، وحسن الخلق بأن يكافئهم عنها في الدنيا بما يخولهم فيه من المطعم والمشرب، والملبس، والمنكح، والمسكن، ¬
والأمتعة، والمال والولد، فإذا كان يوم القيامة أدخلهم النار كما قال الله تعالى بعد ذكر المجرمين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105]. ومن هذا القبيل ما روي: أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: لا تقتل السامري؛ فإنه سَخِيٌّ (¬1). وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إشارة إلى ذم التحجب من الملوك والحكام، ومدح من لم ينحجب. وقد روى أبو داود - واللفظ له - والترمذي، والحاكم وصححه، عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله تعالى عنه: أنه قال لمعاوية رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "مَنْ وَلاَّهُ اللهُ شَيْئاً مِنْ أُمُورِ المُسْلِمِيْنَ فَاحْتَجَبَ دُوْنَ حَاجَتِهِمْ وَخُلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ احْتَجَبَ اللهُ تَعَالَى دُوْنَ حَاجَتِهِ وَخُلَّتِهِ وَفَقْرِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فجعل معاوية رجلاً على حوائج المسلمين (¬2). ¬
وروى الإمام أحمد نحوه من حديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه بإسناد جيد (¬1). وروى أبو سعيد النقاش في كتاب "القضاة" عن أبي مريم الأزدي (¬2) رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُوْرِ المُسْلِمِيْنَ شَيْئًا فَأَغْلَقَ بَابَهُ دُوْنَ ذَوِي الفَقْرِ والحَاجَةِ، أَغْلَقَ اللهُ عَنْ فَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ بَابَ السَّمَاءِ". وهو عند الطبراني، والحاكم، والبيهقي بنحو حديث عمرو بن مرة رضي الله تعالى عنه (¬3). وروى ابن منده في "الصحابة" عن عبدة بن رباح، عن أبيه رضي الله تعالى عنه: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "مَنِ احْتَجَبَ عَن النَّاسِ لَمْ يُحْجَبْ عَنِ النَّار" (¬4). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن القاسم بن مُخَيمرة رحمه الله ¬
تعالى الله تعالى قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وفي صدري حديث يتجلجل فيه أريد أن أقذفه إليه، فقلت: بلغنا أنه من ولي على الناس سلطاناً فاحتجب عن حاجتهم وفاقتهم احتجب الله عن حاجته وفاقته يوم يلقاه. قال: فقال: ما تقول؟ ثم أطرق طويلاً، قال: فعرفتها فيه؛ فإنه برز للناس (¬1). والحاصل: أن المحتجب من الولاة والحكام والقضاة عن حوائج المسلمين أبلغ في التجبر من فرعون إلا أن يكون سهل الحجاب. وقد قلت: [من السريع] يا مَنْ تَعَدَّى إِذْ تَوَلَّى عَلى ... أُمُورِ خَلْقِ اللهِ بِالاحْتِجابْ إِنْ رُمْتَ أَنْ تَبْقى بِلا نَكْبَةٍ ... فِي مُلْكِكَ الْفانِي وَتُوْقَى الْعَذابْ لا تَحْتَجِبْ عَنْهُمْ وإِنْ كانَ لا ... بُدَّ فَسَهِّلْ وارْعَ لُطْفَ الْخِطابْ قَدْ دامَ فِرْعَوْنُ عَلى مُلْكِه ... سِنِيْنَ لَمَّا كانَ سَهْلَ الْحِجابْ ¬
فائدة رابعة عشرة
* فائِدَةٌ رابِعَةَ عَشْرةَ: اشتهر على ألسنة الناس أن الملك يدوم - أي: تطول مدته - مع الكفر، ولا يدوم مع الظلم. وهذا ليس بحديث، وهو منتقض بنمرود، وفرعون، وبخت نصر؛ فإنهم - وإن كانوا كفاراً - فإنهم ظالمون، بل من أظلمهم، والكفر ظلم وزيادة، وهم مع الظلم العظيم البالغ طالت مدة ملكهم، وإنما يقال ذلك تنفيراً من الظلم، وترغيباً للملوك في الكف عنه. نعم، ورد ما يدل أن العدل يمد في العمر، فقد روى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، والديلمي في "مسند الفردوس"، وابن النجار في "تاريخه" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أَنَّ النَبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُوْرِ المُسْلِمِيْنَ شَيْئًا فَحَسُنَتْ سَرِيْرَتُهُ، رَزَقَهُ اللهُ الهَيْبَةَ فِي قُلُوْبِهِم، وَإِذَا بَسَطَ يَدَهُ لَهُمْ بِالمْعَرُوْفِ رُزِقَ المَحَبَّةَ مِنْهُمْ، وَإِذَا وَفَّرَ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُم وَفَّرَ اللهُ عَلَيْهِ مَالَهُ، وَإِذَا أَنْصَفَ الضَّعِيْفَ مِنَ القَوِيِّ قَوَّى اللهُ سُلْطَانَهُ، وَإِذَا عَدَلَ فِيْهِم مَدَّ فِي عُمُرِهِ" (¬1). وفي الحديث المتقدم: "إنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِم" ما يدل على خلاف ما سبق. وقد يكون إطالة مدة الظالم لزيادة نكاله وتحقق وباله، وقد تكون لزيادة ابتلاء المظلوم ليوصله الله تعالى إلى مقامه المرقوم. ¬
فائدة خامسة عشرة
وقد قال مِسْعر بن كدام رحمه الله تعالى: أَناَة الله جَبَرت قلوب المظلومين، وحلم الله بسط آمال الظالمين. أخرجه الدينوري في "المجالسة" (¬1). نعم، الظالم بصدد النقمة في كل وقت حتى يميل قَبانَهُ، ويأتي إبانه، وتنقضي أيامه، وتتم آثامه. وما أحسن موعظة مؤمن آل فرعون وقوله لقومه: {يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر: 29]. فانظر كيف أدخل نفسه معهم في الحذر والخوف بقوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر: 29] ليفهمهم أنه ساهمهم فيما يخشاه عليهم ليقبلوا على كلامه، وتقبل نصيحته وموعظته. وفيه إشارة إلى أن الملك إن لم يحطه صاحبه بالعدل والإنصاف، والكف عن الجور والانكفاف، فهو متعرض لزوال ملكه، بل لنزول هلكه؛ فافهم! * فائِدَةٌ خامِسَةَ عَشْرةَ - وهو من اللطائف -: روى الدينوري عن محمد بن إسحاق قال: كل نخلة على وجه الأرض فمنقولة من الحجاز، نقلها النماردة إلى المشرق، ونقلها الكنعانيوون إلى الشام، ونقلها الفراعنة إلى باب البون، وفي أعمالها وحملها التبابعة في مسيرهم إلى اليمن، وعمان، والشحر وغيره (¬2). ¬
تتمة
* تَتِمَّةٌ: قال الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ}؛ قال ابن جريج: عبادتكم. {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]؛ قال: أن يقتل هو وقومه أبناءكم، ويستحيي نساءكم كما كنتم تفعلون بهم. رواه ابن المنذر (¬1). وكان ذلك على طريقة الملوك من مقابلة الانتقام بالانتقام. وهذا يدل على غباوة فرعون وقلة إنصافه؛ فإنه عدَّ من خصمه فساداً ما كان يراه من نفسه صلاحاً على ما فسر كلامه به ابن جريج. وكذلك كل معجب برأيه في خصومته. حكي أنه لما قال ذلك قال له بعض قومه: لا تقتله؛ فإنه ساحر، فإذا قتلته ظن الناس أنك عجزت عن قطعه بالحجة، بل ناظره. وعندي: أن قول فرعون إن كان قد قاله قبل نظره إلى معجزة العصا فهو على حقيقته؛ فإنه كان يظن أنه قادر على قتل موسى لقوة سلطانه في نفسه، واعتقاده في نفسه الربوبية. وإن كان بعد ظهور المعجزة ونظره إليها فهذا قاله على سبيل التشجيع لنفسه وإظهار القوة عند قومه، وهو في نفسه قد مُلِئ منه رعباً. أو قاله وهو يظن أن أمر العصا سحر، وأن سحر الساحرين يقابله ويغلبه. ¬
ومع ذلك فإن موسى عليه السلام لم يغتر بتلاشي فرعون عنده بما عنده من اليقين حذراً من مكر الله تعالى، ولم يقابل قول فرعون بمثل تمرده، فأظهر في بني إسرائيل مثل ما أظهره فرعون في قومه من القوة والسطوة، بل فزع إلى الدعاء كما حكى الله تعالى عنه بقوله عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى}؛ يعني: في إسرائيل حين بلغته مقالة فرعون: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر: 27]. أكد عياذه بِـ: إن، والجملة الاسمية إشارةً إلى أنه لا ينبغي الاستعاذة بغيره، وأنه لا شيء من الأسباب في منع الأعداء ودفع شررهم أبلغ من العياذ بالله تعالى. وجاء بذكر الرب مضافاً إلى ضمير نفسه مبتدأً به، ثم إلى ضمير قومه على عادة الأنبياء عليهم السلام من البداءة بأنفسهم في الدعاء، وإشارة إلى أن الاجتماع على الدعاء واتفاق الأرواح على التوجه والطلب أبلغ في إنجاح الحاجات، ولذلك شرعت الجماعة في الصلوات. وصفة الربوبية المشعرة بالحفظ والتربية للتوسل بها إلى الله تعالى خصوصية عظيمة في إنجاح المطالب لما فيها من التملُّق والتعطف، والانضياف إلى الله تعالى بأخص أنواع التقرب، على أنه أتى بها متحققاً بالتعلق بها من حيث أطلقها فرعون في قوله: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر: 26] على وجه التهكم والاستهزاء، فاستظهر بتعلقه بها وثقته بها على عكس ما ظنه فرعون. وقد أراد موسى عليه السلام بتشريكه قومه معه في إضافة الرب
سبحانه إليهم استجلابهم إلى الاعتماد على الله تعالى، وشغلهم باللجاء إليه، وحثهم على موافقته حرصاً على الاستجابة. وأيضاً أراد أن يشاركوه في هذا الخير؛ إذ كمال إيمان العبد أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وبهذا يتخلق العبد بالودودية، وليس في العباد أود لهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقوله: {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} [غافر: 27] لم يُسَمَّ فرعون، بل أعاذ من كل موصوف بالتكبر وإنكار البعث، فتكون استعاذته من جميع القبط، بل مِن كل مَن هذه صفته؛ فإن من يتكبر عن الحق الذي منه الاعتراف بربوبية الله تعالى المستلزم للخوف منه، وينكر أنه مبعوث محاسب لا يبالي ما بطش بك وبغيرك، ولذلك قال بعض الحكماء: من لا يخاف من الله تعالى خَفْ أنت منه. ولعلك تعلم وتفهم من دعاء موسى هذا في مقابلة قول فرعون، وهو يعلم أنه محفوظٌ منه لقوله تعالى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] أن العبد لا ينبغي له أن يغفل عن ذكر الله تعالى عند كل قليل وكثير، واللجاء إليه في كل خطب حقير وجليل، ولذلك أوحى الله تعالى إلى موسى وهارون عليهما السلام بقوله: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 42 - 46]. وهو مع تعريفه إياهما أنه معهما بالحفظ والكَلأَة أمرهما بإلانة
القول له إشارة إلى أن الرفق حتى مع الأعداء له فعل وتأثير. وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}: كَنِّياه. أخرجه ابن المنذر (¬1). وروى هو وعبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه قال في الآية: كَنِّياه يا أبا مرة (¬2). ومن هنا تعلم أن لفرعون كنية، وأنه يوافق إبليس في كنيته. ومن ثم أيضاً قيل: إذا عرض لك عند الكلب حاجة فقل له: يا أبا المنذر. وروى ابن أبي حاتم عن الفضل بن عيسى الرقاشي رحمه الله تعالى: أنه تلا قوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} فقال: يا من يتحَبَّبُ إِلَى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه (¬3). ثم قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}؛ أي: حين قال فرعون ذروني أقتل موسى {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28]. روى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لم يكن مؤمن من آل فرعون غيره، وغير امرأة فرعون، وغير المؤمن الذي أنذر موسى عليه السلام الذي قال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ ¬
بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] (¬1). قال ابن المنذر: وأخبرت أن اسمه حزقيل (¬2). وهؤلاء الذين ذكرهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مستثنون من آل فرعون، والتشبه بهم مطلوب، ولذلك ضرب الله المثل بامرأة فرعون في كتابه العزيز. ولقد قام أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مقام مؤمن آل فرعون فيما رواه البخاري عن عروة قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بفِناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي مُعيط، فأخذ بمنكب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه، ودفعه، ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] (¬3). ورويت القصة من طريق أنس، وأسماء بنت أبي بكر، وعلي رضي الله تعالى عنهم. قال علي رضي الله تعالى عنه: يا أيها الناس! أخبروني من أشجع الناس؟ ¬
قالوا: أنت. قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس. قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر رضي الله تعالى عنه، لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذته قريش بهذا يجؤه، وهذا يثلته، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً؟ قال: فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر رضي الله تعالى عنه يضرب هذا، ويثلثل هذا، وهو يقول: ويلكم {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28]. ثم رفع علي رضي الله تعالى عنه بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلَّت لحيته، ثم قال: أنشدكم أمؤمن آل فرعون خير أَمْ أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فو الله لساعة من أبي بكر رضي الله تعالى عنه خير من مؤمن آل فرعون؛ ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه. رواه البزار، وأبو نعيم في "الصحابة" (¬1). واعلم أن مؤمن آل فرعون قد عرض رحمه الله تعالى لقومه النصيحة تعريضاً كالصريح، فحذرهم من الإسراف والارتياب، وذكرهم بنعمة الله تعالى وما آتاهم من الملك، وخوفهم من سطوته، وذكَّرهم بما صنع في الأمم السابقة، وبأن الدنيا متاع يزول، وأن الآخرة هي دار القرار، ¬
وفوض أمره إلى الله تعالى. وكل ذلك من أفضل الأعمال، فمن قام بمثل ما قام به في ظلمة الزمان وفِتْرَةِ الناس، واعتزل ما الناس فيه، كان متشبهاً به له الأمن من الفتنة في الدنيا ومن النار في الآخرة، ألا ترى كيف قال الله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 45]. وقد روى ابن أبي الدنيا في "العزلة" عن جعفر بن سليمان رحمه الله تعالى قال: قال لي الحرث بن نبهان رحمه الله تعالى: يا أبا سليمان! لا تخرجن إلى أحد في هذا الزمان، وكن كمؤمن آل فرعون (¬1). والله سبحانه وتعالى هو الموفق. * * * ¬
(11) باب النهي عن التشبه بأهل الكتاب
(11) بَابُ النَّهْي عَنِ التَّشَبَّهِ بِأَهْلِ الكِتَابِ
(11) بَابُ النَّهْي عَنِ التَّشَبَّهِ بِأَهْلِ الكِتَابِ وهم اليهود والنصارى. وإنما جمعنا بين الكلام على التشبه باليهود والكلام على التشبه بالنصارى لاختلاط أعمالهم غالباً، وتقابلها إما اتحاداً كحالهم في عدم تغيير الشيب، وإما تضاداً كما في مباشرة الحائض؛ فإن اليهود مُفْرِطون في الاجتناب، والنصارى مُفَرِّطون معه بالوقاع. وقد جمع الله تعالى بين أحوال اليهود وأحوال النصارى كثيراً في كتابه العزيز. واعلم أن الآيات الناطقة بالنهي عن التشبه باليهود والنصارى خاصة، والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة. قال الله تعالى مكلماً لأوليائه المؤمنين: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7]. روى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن عبد الله بن شقيق، عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: أنَّ رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ هؤلاءِ المَغضوب علَيهم؟ فأشار إلى اليهودِ.
قال: فمَنْ هؤلاء الضَّالون؟ قال: "النَّصَارَى" (¬1). وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن شقيق، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، وأنه هو السائل (¬2). وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، وابن حبان في "صحيحه" عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "اليَهُودُ مَغْضُوْبٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّصَارَى ضُلاَّلٌ" (¬3). وروي هذا التفسير عن كثير من الصحابة والتابعين حتى قال ابن أبي حاتم: لا أعلم عنهم فيه خلافاً (¬4). واستنبطه القرطبي وغيره من القرآن؛ فإن الله تعالى وصف اليهود بالغضب عليهم كثيراً كقوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61]. وقوله تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90]. وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ¬
وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] الآية. وقال تعالى في النصارى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] (¬1). وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]. قال العلماء: الخطاب في ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والمراد أمته كما في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. أراد بهم اليهود والنصارى لافتراقهم إلى أكثر من سبعين فرقة كما سيأتي. والمعنى لستَ مشاركاً لهم في شيء، إنما أنت متبرئ من جميع أمورهم. فينبغي لمن كان متبعاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكون متبرئاً منهم كتبري متبوعه منهم، ومن كان موافقاً لهم في شيء فهو مخالف للنبي -صلى الله عليه وسلم- بقدر موافقته لهم. ¬
وقال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]. قال أكثر المفسرين: وهم اليهود والنصارى (¬1). وهو مروي عن جابر رضي الله تعالى عنه (¬2). وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]. قرأ الجمهور الآية: {وَلَا يَكُونُوا} [الحديد: 16]- بالياء التحتية - على معنى، وكذلك: {أَلَمْ يَأْنِ} [الحديد: 16] لهم؛ أي: لا يكونوا كأهل الكتاب. وفي ذلك توبيخ لكل مؤمن في كل وقت أن يجتهد على أن لا يكون كأهل الكتاب في قسوة القلب لطول الأمد والعهد. وقرأ رويس: {وَلَا تَكُونُوا} - بالفوقية - على النهي على طريقة الالتفات من الغيبة للخطاب (¬3). وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142]. ¬
فهذا نهي من موسى لأخيه هارون عليهما السلام أن يوافق مفسدي بني إسرائيل، فما ظنك بموافقتهم بعد تبديل كتابهم، أو بعد نسخ ما لم يبدل منه؟ وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} [المجادلة: 14]. عاب المنافقين الذين تولوا اليهود. إلى قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]. وقد استدل عمر رضي الله تعالى عنه بهذه الآية على المنع من الاستعانة بهم في شيء من الولايات. فروى الإمام أحمد بسند صحيح، عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قلت لعمر -رضي الله عنه-: إن لي كاتباً نصرانياً. فقال: ما لك قاتلك الله؟ أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]؟ ألا اتخذت حنيفاً. قال: قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته، وله دينه.
قال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذا أذلهم الله، ولا أُدْنيهم إذ أقصاهم الله (¬1). أشار عمر رضي الله تعالى عنه إلى أن الرجل الشريف الكبير إذا استعان بالذمي بكتابته أو غيرها فإن انتسابه إليه بسبب ذلك يلجئ الناس إلى إكرامه وإعزازه وتقريبه، وذلك عين توليه. ولمَّا خالف هذا الأصل أُمراء هذا الزمان فاتخذوا الكتاب والعمال يهود أو نصارى، لزم منه خدمة المسلمين لهم بالإكرام ودفع الأموال وغير ذلك، وفي ذلك إذلال المسلمين. وإذا كان هذا حال توليهم فكيف التشبه بهم الناشئ عن استحسان ما هم عليه؟ وكيف يوالون أو تُرضى أعمالهم وقد لعنهم الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- كما روى الإمام أحمد عن أسامة بن زيد، والشيخان، والنسائي عن عائشة، وابن عباس معاً، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم: أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَعَنَ اللهُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوْا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" (¬2). ¬
ومن المشهور على ألسنة كثير من العوام: لعن الله اليهود، ثم اليهود، ثم أموات النصارى. وليس هذا بحديث أصلاً، وإن وقع في فتاوى الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الحق المصري ما يوهم أنه حديث؛ فإني تفحصت عنه كثيراً فلم أجده، وسمعت بعضهم يوجهه: بأن النصارى لهم قرب من الإسلام، كأنه يستدل بقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً} [المائدة: 82] الآية. قال: ولذلك يسلم منهم كثير بخلاف اليهود، فقد قال تعالى: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]. وهذا فيه نظر لأن قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] إنما نزلت في النجاشي وأصحابه، وهم مسلمون (¬1). ولأن اللفظ الجاري على الألسنة المذكور آنفاً يعارضه الحديث الصحيح المتقدم: "لَعَنَ اللهُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى"، فجمع بينهم في اللعنة لاجتماعهم في الكفر. وقد قيل: إن كفر النصارى أشد من كفر اليهود. نعم، روى عبد الكريم بن السمعاني في "تاريخه" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا ¬
يَتَصَدَّقُ بِهِ فَلْيَلْعَنِ اليَهُودَ" (¬1). وأخرجه الخطيب في "تاريخه"، والديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: "مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ صَدَقَةٌ فَلْيَلْعَنِ اليَهُودَ؛ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ" (¬2). وروى أبو الشيخ بن حيان في كتاب "الثواب"، والديلمي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُوْلِكَ، وَعَلَى المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ، وَالمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ؛ فَهُوَ لَهُ زَكَاةٌ" (¬3). واعتبر؛ كما يطلب منك أن تتشبه بمن أمرت بالصلاة عليهم، طُلبَ منك أن تنتهي عن التشبه بمن أمرت أن تلعنهم. وأما الأحاديث الواردة في النهي عن التشبه باليهود والنصارى فستأتي مفرقة في محالِّها. ومن أعمها: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي عن ¬
هُلْب رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَخْتَلِجَنَّ فِي صَدْرِكَ شَيْءٌ ضَارَعْتَهُ" (¬1)؛ أي: شابهت فيه النصرانية. فإن قيل: ما تصنع بقول الأكثرين - وإن كان أكثر المحققين على خلافه -: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يدل شرعنا على خلافه؟ وبحديث "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يسْدِلُونَ أَشْعَارَهُم، وَكَانَ المُشْرِكُونَ يُفَرِّقُونَ شُعُورَهُم، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الكِتَابِ فِيْمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، فَسَدَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ فَرَقَ" (¬2). وحديثهما عنه: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قدِم المدِينةَ فوجدَ اليهودَ صياماً يومَ عاشوراءَ فقال لهُم: "مَا هَذَا الْيَومُ الَّذِي تَصُومُونهُ؟ " قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ أنجى اللهُ تعالى فيهِ موسى عليه السَّلام وقومه، وغرَّق فيةِ فرعونَ وقومهُ، فصامهُ موسَى شكراً، فنحن نصومه تعظيماً له. فقالَ رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُم". فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمر بصيامه (¬3). فالجواب: أنَّ شرع من قبلنا إنما يكون شرعاً لنا عند من يقول به ¬
فيما لم يكن له في شرعنا بيان خاص إمَّا بالموافقة أو بالمخالفة، ثم لا نأخذ به إلاَّ إن ثبت أنَّه شرع سابق بطريق يفيد العلم لا بمجرد نقل أهل الكتاب، ولا بالرجوع إلى ما في كتبهم. وفي الحديث الصحيح: "إِذَا حَدَّثَكُم أَهْلُ الْكِتَابِ فَلا تُصَدِّقُوهُم وَلا تُكَذِّبُوهُم" (¬1). وأمَّا قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء (¬2). ولعلَّ محل ذلك فيما لو دار أمره بين أمرين أحدهما يوافق فيه المشركين، والآخر يوافق فيه أهل الكتاب؛ لأنَّه كان يرجو أن يكون موافقاً لما لم يكن مُغيَّراً من كتابهم، وهذا كما في الفرق والسدل، ثم أمر بالفرق ففرق. أو يقول: كان من شِرْعه -صلى الله عليه وسلم- موافقته لأهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم نسخ ذلك وأمر بمخالفتهم، ولذلك كان يسدل ثم فرق، وصار الفرق شعارَ المسلمين. وهذا كما كان -صلى الله عليه وسلم- يستقبل بيت المقدس موافقة لأهل الكتاب، ثم نسخ ذلك وأمر باستقبال الكعبة. وقد روى ابن عدي في "الكامل" عن ابن عمر رضي الله تعالى ¬
عنهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اِخْتَضِبُوا وَافْرُقُوْا، وَخَالِفُوا اليَهُودَ" (¬1). ثم لو فرضنا أن موافقته لهم فيما لم يؤمر فيه بشيء لم ينسخ، فلنا أن نقول: إنَّه -صلى الله عليه وسلم- هو الذي كان له أن يوافقهم لأنه يعلم حقهم من باطلهم، ونحن نوافقه ونتَّبعه. فأمَّا نحن فليس لنا أن نأخذ عنهم شيئاً من الدين، لا من أقوالهم ولا من أفعالهم. وأمَّا موافقته -صلى الله عليه وسلم- لليهود في صوم عاشوراء فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يصومه قبل أن يهاجر إلى المدينة، فلما هاجر صامه وأمر بصيامه، كما ثبت في "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (¬2). وأيضاً فقد روى ابن أبي شيبة بسند صحيح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قالَ رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صُوْمُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ؛ يَومٌ كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ تَصُوْمُهُ، فَصُومُوْهُ" (¬3). فصام النبي -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء، ولم يكن لموافقة اليهود، بل كان لموافقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حيث أعلمه الله تعالى أنهم كانوا يصومونه، ولذلك قال كما في حديث ابن عباس: "نَحْنُ أَحَقُّ ¬
وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُم" (¬1)، فأشار إلى أنَّ صومه إنما كان تشبهاً بموسى عليه السلام، واقتداء به لا بهم، ولذلك أمر -صلى الله عليه وسلم- آخر الأمر أن يصام قبله يوماً وبعده يوماً ليكون بذلك مخالفاً لليهود، كما روى الإمام أحمد، والبيهقي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صُوْمُوا يَوْمَ عَاشُوْرَاءَ، وَخَالِفُوا فِيهِ اليَهُودَ، وَصُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا" (¬2). ورواه سعيد بن منصور، ولفظه: "وَصُوْمُوا يَومًا قَبْلَهُ وَيَومًا بَعْدَهُ". وروى البخاري عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيداً؛ قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "فَصُومُوا أَنْتُم" (¬3). وروى مسلم عنه قال: كان يوم عاشوراء تعظِّمه اليهود وتتخذه عيداً. وفي لفظ له: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً، ويُلبسُون نساءهم فيه حليهن، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "فَصُوْمُوهُ أَنْتُم، وَلا تتَّخِذُوهُ عِيْدًا" (¬4). ¬
والحاصل: أنَّ الذي استقر عليه الأمر أنَّ التشبه بأهل الكتاب منهي عنه في الجملة، وأنَّ مخالفتهم في هَدْيِهِم مشروعة وجوباً أو ندباً، في أصل الفعل أو في هيئته. فإن كان الأمر المشروع عندهم مشروعاً عندنا كصوم يوم عاشوراء ودفن الميت، خالفناهم في صفة ذلك الأمر، فنصوم يوماً قبل عاشوراء أو بعده، ونختار في الدفن اللَّحد حيث اختاروا الشق كما سيأتي. وإن كان المشروع عندهم منسوخاً عندنا كالسبت، والامتناع من أكل الشحوم، خالفناهم في أصل ذلك الأمر، ولم نكتف بمخالفتهم في الوصف. وكذلك فيما لم يكن مشروعاً عندهم ولا عندنا مما ابتدعوه؛ كمحاباة اليهود الأشراف في الحدود، وتحويل النصارى صوم رمضان إلى أيام الربيع، وزيادة الصوم فيه على ثلاثين يوماً، بل موافقتهم في ذلك أقبح من موافقتهم فيما كان مشروعاً عندهم، ثم نسخ عندنا، وإن كان الكل قبيحاً لأنَّا مأمورون بمخالفة المبتدعة من أهل الملة، فكيف بالمبتدعة من غيرهم. * تَنْبِيْهٌ: ما ينهى عن التشبه فيه بأهل الكتاب هو ما تَلَبَّسُوا به مما نهاهم عنه أنبياؤهم قبل نسخ دينهم أو مما ابتدعوه ولم يكن مشروعاً، ثم نسخ. فأما ما لم يقبل النسخ، واتَّفقت عليه الأمم كالتوحيد وأصول
العقائد المتفق عليها، فهذا دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يصح النهي عنه بحال. وأمَّا ما يقبل النسخ ولم ينسخ؛ كمحاسن الآداب، ومكارم الأخلاق كإجلال مَنْ يُجل واحترامه، والجود، والحلم، والحياء، فهذا يتشبه فيه بصالحي أهل الكتاب وغيرهم ما لم يثبت في شريعتنا خلافه كسجود التحية، فيجتنب. * تَتِمَّةٌ: بان لك أن التشبه بأهل الكتاب على قسمين: مذمومٌ منهي عنه: وهو التشبه بضُلاَّلهم. ومحمودٌ ومأمور به أو مندوب إليه: وهو التشبه بهُدَاتهم. قال الله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113 - 114]. وقد تقدم الكلام على هذه الآية في التشبه بالصالحين. وقال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 55 - 57]. قال العلماء: المراد بالذين اتبعوا عيسى صالحوا أمته إلى عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن بعده، فالمراد بهم من آمن منهم بعيسى ومحمد -صلى الله عليه وسلم-، وتديَّن بدين محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن عيسى بشَّرهم به، وعرَّفهم بعموم رسالته. وفي "الصحيحين" عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ - وفي لفظٍ: لهم أَجرَانِ -: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم فآمَنَ بِهِ، وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَ بِهَا فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ سَيِّدِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ" (¬1). ومصداق هذا الحديث في مؤمني أهل الكتاب قولُه تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54]. وقال تعالى في النَّجاشي وأصحابه، وغيرهم من مؤمني النصارى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} إلى قولى تعالى: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82 - 83]. ¬
قال: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 85] الآية. * تَنْبِيْهٌ: ممن وفق لموافقة الحنيفية ومخالفة اليهود والنصارى قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- زيد بن عمرو بن نفيل، وهو والد سعيد بن زيد أحد العشرة -رضي الله عنهم -. روى محمد بن سعد في "طبقاته" عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل: شاممت النصرانية واليهودية فكرهتهما، فكنت بالشام وما والاها حتى لقيت راهباً في صومعة، فوقفت عليه، فذكرت له اعتزالي عن قومي، وكراهتي عبادة الأوثان، واليهودية والنصرانية، فقال له: أراك تريد دين إبراهيم، يا أخا أهل مكة! إنَّك لتريد ديناً ما يوجد اليوم، وهو دين أبيك إبراهيم، كان حنيفاً، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، كان يصلي ويسجد إلى هذا البيت الذي ببلادك، فَالْحَق ببلدك؛ فإن الله يبعث من قومك في بلدك من يأتي بدين إبراهيم الحنيفية، وهو أكرم الخلق على الله تعالى (¬1). وقد ذكر البخاري، وغيره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش! والله ما منكم أحد على دين إبراهيم غيري، وكان يحيى الموؤدة (¬2). ¬
وذكر آخرون أنَّه كان يصلي إلى الكعبة، وكان يحج ويقف بعرفة، ويقول في تلبيته: لبيك لا شريك لك ولا ندَّ لك، ويقول: لبيك حقاً حقاً، تعبُّداً ورِقًّا، عُذْت بما عاذ به إبراهيم عليه السلام. وكان لا يأكل مما ذُبحَ على النُّصُب، ومن ثم قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وقد سئِلَ عَنهُ: "ذَاكَ يُحْشَرُ أُمَّةً وَحْدَهُ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيْسَى". أخرجه ابن عساكر بإسناد جيد، عن جابر (¬1). وأخرج الإمام أحمد نحوه من حديث ولده سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهم (¬2). وقالَ -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ رَأَيْتُهُ فِي الجَنَّةِ يَسْحَبُ ذُيُوْلاً". أخرجه الواقدي عن عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه (¬3). فانظر ما استوجبه زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله تعالى عنه بسبب اجتناب قبائح اليهود والنصارى والمشركين. ¬
* تنبِيْهٌ: وإذ قد علمت مما سبق أنَّ التشبه بأهل الكتاب منه محمود ومنه مذموم، وهو مؤدَّى قول حذيفة رضي الله تعالى عنه: نِعْمَ الإخوة لكم بنو إسرائيل؛ كانت فيهم المُرَّة وفيهم (¬1) الحلوة. رواه أبو نعيم (¬2). فلعلك تقول: لو أشرت إلى الترغيب في التشبه بصالحيهم؟ فأقول لك في الجواب: يغني عن ذلك ما ذكرناه في القسم الأول من التشبه بالصالحين فمن فوقهم لاندراجهم فيهم. ثم إنَّ الاعتناء بالتحذير من التشبه ببني إسرائيل وسائر أهل الكتاب، بل وبغيرهم من الأمم من أهم ما يعتنى به، ويهتم بشأنه لأن النفوس أخوات، والناس أشباه تميل أخلاقهم لمثل ما مالت إليه أسلافهم، فتعيَّن التحذير مما هلكت به وعليه الأسلاف. وقد روى الإمام مالك في "الموطأ"، والإمام أحمد، والشيخان، وابن ماجه عن أبي سعيد، والطبراني في "الكبير" عن سهل بن سعد، وابن أبي شيبة، والحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِيْنَ مِن قَبْلِكُم شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ". قالوا: يا رسولَ اللهِ! اليهود والنَّصارى؟ ¬
قال: "فَمَن؟ " (¬1). وروى البزار بسند صحيح، والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُم دَخَلَ جحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُم، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُم جَامَعَ أُمَّهُ لَفَعَلْتُم" (¬2). وروى الطبراني عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أَنَّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "إِنَّكُمْ أَشْبَهُ الأُمَمِ بِبَنِي إِسْرَائيْلَ؛ لَتَرْكَبُنَّ طَرِيقَهُمْ حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، حَتَّى لا يَكُونَ فِيْهِم شَيْءٌ إِلاَّ كَانَ فِيكُم مِثْلَهُ، حَتَّى إِنَّ القَوْمَ لتمُرُّ عَلَيْهِمُ المَرْأَةُ فَيَقُومُ إِلَيْهَا بَعْضُهُم فَيُجَامِعُهَا، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَضْحَكُ إِلَيْهِم وَيَضْحَكُونَ إِلَيْهِ" (¬3). وإنما خصص أهل الكتابين بعد التعميم في ركوب سنن الأولين ¬
لأنهم أقرب عهد إلى هذه الأمة. وخصص بني إسرائيل في هذا الحديث لطول مدتهم واشتهار قبائحهم. وعمَّم فيما رواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد صحيح، عن المستورد بن شداد رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لا تَتْرُكُ هَذهِ الأُمَّةُ شَيْئاً مِنْ سَنَنِ الأَوَّلِيْنَ حَتَّى تَأتِيَهُ" (¬1). والمراد بالسنن في هذه الأحاديث سيئاتها، وسنن فسَّاقها وضُلاَّلها؛ لأن المقام الذي أوردت فيه مقام تهويل وتوبيخ وتحذير. وقد وقع بيان ذلك فيما رواه الإمام أحمد، والطبراني عن شداد ابن أوس رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيحْمِلَنَّ شِرَارُ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى سَنَنِ الَّذِينَ خَلَوا مِن أَهْلِ الكِتَابِ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ" (¬2). وروى الطبراني بسند جيد، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الأُمَمِ". ¬
فقالوا: يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال: "الأَشَرُ، وَالبَطَرُ، وَالتَّدَابُرُ، وَالتَّنَافُسُ، وَالتَّبَاغُضُ، وَالبُخْلُ حَتَّى يَكُونَ البَغْيُ ثُمَّ يَكُونَ الهَرْجُ" (¬1). * تَنْبِيْهٌ: روى ابن أبي شيبة عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: لتركبنَّ سنن بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، غير أني لا أدري تعبدون العجل أم لا (¬2). لكن روى الديلمي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لِكُلِّ أُمَّةٍ عِجْلٌ يَعْبُدُونهُ، وَعِجْلُ هَذِهِ الأُمَّةِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّناَنِيْرُ" (¬3). وعنده من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "لِكُلِّ شَيْءٍ آفَةٌ تُفْسِدُهُ، وَأَعْظَمُ الآفَاتِ آفَةٌ تُصِيْبُ أَمَّتِي حُبُّهُمُ الدُّنْيَا، وَحُبُّهُمُ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ؛ يَا أَبَا هُرَيْرَة! لا خَيْرَ فِي كَثِيْرٍ مِمَّنْ جَمَعَهَا إِلاَّ مَنْ سَلَّطَهُ اللهُ ¬
عَلَى هَلَكَتِهَا فِي الحَقِّ" (¬1). واعلم أن الخصلة التي كانت سبباً لضلال اليهود والنصارى وهلاكهم التهاون بالطاعات، واحتقار الصغائر من المعاصي، وكانوا يتركون الدين شيئاً فشيئاً حتى رق دينهم وهان أمرهم، ثم ارتكبوا العظائم، ثم كفروا وأشركوا، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]. بيَّنت الآية أن سبب ذلتهم ومسكنتهم وبوائهم بالغضب الكفر، وقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنَّ سبب وقوعهم في الكفر المعصية والتهاون بها، واعتياد العدوان على الناس، فَجَزَّهم قليل الشر إلى كثيره. وروى أبو نعيم في "الحلية" عن طارق بن شهاب، عن حذيفة رضي الله تعالى عنهما قال: قيل له: في يوم واحد تركت بنو إسرائيل دينهم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عنه ركبوه، حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه (¬2). واعلم أنَّ قبائح اليهود والنصارى، وأعمالهم وأخلاقهم التي أمرنا بمخالفتهم فيها كثيرة جداً. ¬
1 - فمنها - وهو أعظمها -: الكفر.
1 - فمنها - وهو أعظمها -: الكفر. وهذا متظافرة عليه نصوص القرآن العظيم، ومنقول بالتواتر عن النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-. وقد نص العلماء على أنَّ من شكَّ في كفر اليهود والنصارى فهو كافر مهدر الدم، ولا ينفع اليهود ولا النصارى ولا غيرهما ممن يتدين بدين غير دين الإسلام عمل ولا اجتهاد، ولا حسن خلق ولا بِرٌّ حتى يؤمن بوحدانية الله تعالى، ويصدق محمداً -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء به. قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَلا يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ". رواه الإمام أحمد، ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). وفي "صحيح البخاري"، وغيره عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: أنه قال في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105]؛ قال: هم اليهود والنصارى (¬2). وروى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن علي رضي الله تعالى عنه ¬
في الآية قال: هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"، والحاكم عن أبي عمران الجوني قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه براهب فوقف، ونودي الراهب فقيل له: هذا أمير المؤمنين، فاطَّلَع فإذا إنسان به من الضر والاجتهاد وترك الدنيا، فلما رآه عمر بكى، فقيل له: إنَّه نصراني. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: قد علمت، ولكنْ رَحِمْتُهُ، وذكرت قول الله تعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 3 - 4]، فَرَحِمْتُ نَصَبَه واجتهاده وهو في النار (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية: 2 - 3] قال: اليهود والنصارى؛ تخشع ولا ينفعها عملها (¬3). وعلم من كلام عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن خشوعها وعملها ونصبها الموصوفة به كانت في الدنيا، إلا أنها لا تنتفع به في الآخرة. ¬
2 - ومنها - وهو داخل فيما قبله -: التجسيم، والحلول، والإلحاد، والتشبيه.
وفي الآية قول آخر: إن ذلك تتصف به في الآخرة. أخرجه ابن جرير عن ابن عباس أيضاً؛ قال: تعمل وتنصب في النار (¬1). وقال قتادة: {خَاشِعَةٌ} [الغاشية: 2] ذليلة في النار. {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية: 2]، قال: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله عز وجل، فأعملها وأنصبها في النار. أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬2). [وقول ثالث أخرجه ابن أبي حاتم] (¬3) عن عكرمة؛ قال: عاملة في الدنيا بالمعاصي، تنصب في النار يوم القيامة (¬4). 2 - ومنها - وهو داخل فيما قبله -: التجسيم، والحلول، والإلحاد، والتشبيه. قال الله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148]. وقال تعالى: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 85]. {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ ¬
مُوسَى فَنَسِيَ} [طه: 88] الآية. وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: جاء يهودي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أخبرني عن ربك من أي شيء هو، أمن لؤلؤ أم ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأخذته، فأنزل الله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] (¬1). وروى ابن جرير، وابن المنذر عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: أتى رهط من اليهود النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا له: يا محمد! هذا الله خلق الخلق؛ فمن خلقه؟ فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى انتقع لونه، ثم ساورهم غضباً لربه، فجاءه جبريل عليه السلام فسكَّنه، وقال له: خفِّض عليك جناحك، وجاءه من الله تعالى جواب ما سألوه عنه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4]. فلما تلاها عليهم قالوا: صف لنا ربك كيف خَلْقُه؟ وكيف ذراعه؟ فغضب -صلى الله عليه وسلم- أشد من غضبه الأول، وساورهم غضباً، فأتاه جبريل ¬
عليه السلام، فقال له مثل مقالته الأولى، وأتاه بجواب ما سألوه عنه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] (¬1). وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]. ما حكاه الله تعالى عن النصارى كان مشهوراً فيهم بحيث لا ينكرونه. وأما ما حكاه عن اليهود، فروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سلام بن مشكم، ونعمان بن أبي أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتَّبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أنَّ عُزيراً ابن الله؟ فأنزل الله تعالى الآية (¬2). وروى ابن المنذر عن ابن جريج: أنَّ قائل ذلك فنحاص بن عازوراء (¬3). وكل هؤلاء من مشاهير اليهود. ونقله الثعلبي عن عبيد بن عمير رحمه الله تعالى (¬4). ¬
وقال آخرون: فَقَدَ بنو إسرائيلَ التابوتَ، وتقادم عهدهم حتى مات حملة التوراة، ونسخت من صدورهم، وكان عُزير عليه السلام من علمائهم، فابتهل إلى الله في ذلك، فنزل إليه نور، ودخل جوفه، فألهمه الله التوراة، فتعلموها منه زماناً، ثم رجع إليهم التابوت، فنظروا ما فيه، فوجدوه مطابقاً لما أتاهم به عُزير، فقالوا: ما آتى الله عُزيراً هذا إلاَّ لأنَّه ابنه (¬1). وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 72 - 73]. وقد حُكِيَ أنَّ النصارى افترقوا إلى ثلاث فرق (¬2): - يعقوبية: وهم القائلون: المسيح ابن الله، وهم القائلون أيضاً باللاهوت والناسوت. - ونسطورية: وهم القائلون: إن عيسى وأمه والإله كانوا ثلاثة، وربما قالوا: الأب والابن وروح القدس؛ يعنون بالأب: الذات، ¬
فائدة
والابن: العلم، وروح القدس: الأم. -ومالكانية: وهم القائلون: إن الله هو المسيح. وقيل: إنَّ المالكانية مثلِّثون أيضاً، وإنهم القائلون بالأقانيم الثلاثة. وكلهم كفار. قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171]. * فائِدَةٌ: في هذه الآيات دليل على جواز حكاية الكفر لمن يحكيه منكراً له، مستعظماً إياه كما نبَّه عليه القاضي أبو بكر بن العربي (¬1)، ونقله الإمام الوالد في "التفسير" عنه. * فائِدَةٌ أُخْرى: ضارعت بعض طوائف الشيعة في عليٍّ النصارى في عيسى، كما ضارعت بعض الخوارج والناصبة فيه اليهود، وكان ذلك معجزة للنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- في قولهِ: "يَا عَلِيُّ! إِنَّ فِيْكَ مِنْ عِيْسَى مَثَلاً أَبْغَضَتْهُ اليَهُودُ ¬
فائدة ثالثة
حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ، وَأَحَبَّتْهُ النَّصَارَى حَتَّى أَنْزَلُوهُ بِالمَنْزِلَةِ الَّتِي لَيْسَ بِهَا". رواه أبو نعيم في "فضائل الصحابة"، وغيره، وهو في "مستدرك الحاكم" (¬1). لكن تعقب، وسيأتي بيان قبائحهم في محله. * فائِدَةٌ ثالِثَةٌ: روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد"، وابن أبي شيبة عن غالب بن عجرد قال: حدَّثني رجل من فقهاء أهل الشام في مسجد منى، قال: إن الله خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر، ولم يكن أحد من بني آدم يأتي شجرة إلا أصاب منها خيراً، أو كان له خير، فلم تزل الشجر كذلك حتى تكلمت فَجَرة بني آدم بالكلمة العظيمة؛ قولهم: اتخذ الله ولداً، فاقشعرت الأرض، فشاك الشجر (¬2). واعلم أنَّ منشأ ما ذكرناه هنا عن اليهود والنصارى من الكفر حتى ادَّعوا ما ادَّعوا، وقالوا ما قالوا إنَّما هو من اعتقاد التشبيه، وتأولهم لما في كتابهم من آيات الصفات على قدر آرائهم من غير ملاحظة للتنزيه، ¬
ولذلك ضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحك تهكُّم على ذلك الحَبر الذي جاء فيما رواه الشيخان عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: جاء حَبْر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد! إن الله يضع السماء على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر والأنهار على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يقول: أنا الملك. فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] ". وفي رواية فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه تصديقاً للحبْر، ثم قرأ الآية (¬1). أي: تصديقاً له في اعتقاد القبضة، وتعجباً من حيث حمل هذه الصفة على ما فهم من التشبيه. قال الحسن: إن اليهود نظروا في خلق السموات والأرض والملائكة، فلما فرغوا أخذوا يقدِّرونه، فأنزل الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]. رواه ابن أبي حاتم (¬2). وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: مرَّ يهودي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه، والأرض على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه - وأشار بعض الرواة بخنصره أولاً، ثم تابع حتى بلغ الإبهام -؟ ¬
فأنزل الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] (¬1). وروى ابن جرير، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن اليهود أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألته عن خلق السماوات والأرض، فقالَ: "خَلَقَ اللهُ الأَرْضَ يَومَ الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الجَبَالَ يَومَ الثُّلاثَاءِ وَمَا فِيْهِنَّ مِن مَنَافِعَ، وَخَلَقَ يَومَ الأَرْبِعَاءِ الشَّجَرَ وَالمَاءَ، وَالمَدَائِنَ وَالعُمْرَانَ وَالخَرَابَ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، فَقَالَ عَزَّ مِن قَائِل: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9 - 10]. وَخَلَقَ يَومَ الخَمِيْسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَومَ الجُمُعَةِ النُّجُومَ، والشَّمْسَ والقَمَرَ، والمَلائِكَةَ إِلَى ثَلاثِ سَاعَاتٍ بَقِيْنَ مِنْهُ، فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ السَّاعَاتِ الثَّلاثَة الآجَالَ حِيْنَ يَمُوتُ مَن مَاتَ، وفِي الثَّانِيةِ أَلْقَى الآفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ وَأسْكَنَهُ الجَنَّةَ، وَأَمَرَ إِبْلِيْسَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ". ثمَّ قالت اليهودُ: ثمَّ ماذا يا محمَّد؟ قال: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ". قالوا: قد أصبت لو أتممت؛ قالوا: ثم استراح. قال: فغضب النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- غضباً شديدًا، فَنَزَلَت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ¬
{السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق: 38 - 39] (¬1). قال قتادة: قالت اليهود: إنَّ الله خلق السماوات والأرض ما بينهما في ستة أيام، وفرغ من الخلق يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فأكذبهم الله تعالى فقال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]. رواه عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر (¬2). وقال مجاهد في الآية: اللغوب: النَّصَبُ؛ يقول اليهود: إنَّه أُعيي بعدما خلقها. رواه ابن جرير، والبيهقي (¬3). وروى الخطيب البغدادي في "تاريخه": عن العَوَّام بن حوشب قال: سألتُ أبا مجلز عن الرَّجل يجلس فيضع إحدى رجليه على الأخرى، فقال: لا بأس به؛ إنَّما كره ذلك اليهود زعموا أنَّ الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثمَّ استراح يوم السبت، فجلس ¬
تلك الجلسة، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] (¬1). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنَّ رهطاً من نجران قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم السَّيد والعاقب، فقالوا: ما شأنك لم تذكر صاحبنا؟ قال: "مَنْ هُوَ"؟ قالوا: عيسى عليه السلام، تزعم أنَّه عبد الله. فقال: "أَجَل". فقالوا: هل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: قل لهم إن أتوك: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} إلى قوله: {مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 59 - 60] (¬2). وروى ابن جرير عن السدي رحمه الله تعالى: أنَّ أربعة من أهل نجران سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما تقول في عيسى عليه السلام؟ قال: "هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرُوْحُهُ وَكَلِمَتُهُ". قالوا: لا، ولكنه هو الله نزل من ملكه، فدخل جوف مريم، ¬
وخرج منها، فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط إنساناً خلق من غير أب؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59] (¬1). فعلم من ذلك أن النصارى إنما عبدوا عيسى من حيث انفرادُه بخصوصية كونه من غير أب، ولا أب لله، فدخل التشبيه عليهم من هذه الحيثية، وهذا نظر في غاية الفساد فإنهم يقولون: إنَّ الإله لا والد له، ثم يقولون: إنَّه ابن الله، وهذا يستلزم بطلان أُلُوهِيَّتِه؛ فسبحان من وصف نفسه بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. وروى اللالكائي في "السنة" عن نعيم بن حمَّاد رحمه الله تعالى قال: من شبَّه الله تعالى بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ورسوله بتشبيه (¬2). وروى فيه عن يزيد بن هارون رحمه الله تعالى قال: إنَّ الجهمية غلت تفرعت في غلوها إلى أن نفت، وأنَّ المشبِّهة غلت تفرعت في غلوها إلى أن مثَّلت (¬3). ¬
ومن هنا كان السلف لا يؤولون آيات الصفات وأحاديثها، ويقولون: أمُّرِوها كما جاءت (¬1)، مع اعتقاد التنزيه. وتأولها جماعة من الخلف بما يليق بها مع اعتقاد التنزيه أيضاً. قال الشيخ الجد في ألفيته "الجوهر الفريد": [من الرجز] وَنُثْبِتُ الَّذِي أَتَى مِنْ مُشْكِلِ ... فِي سُنَّةِ وَفِي كِتابٍ مُنْزَلِ مُنَزِّهِينَ اللهَ عَنْ تَمْثِيلِ ... مُقَدِّسِينَ فِيهِ عَنْ تَعْطِيلِ كَالْيَدِ وَالْوَجْهِ وَسَمْعٍ وَبَصَرْ ... وَالرَّوْحِ وَالنَّفْسِ وَعَيْنِ وَنَظَرْ وَهَلْ يُفَوَّضُ إِلَيْهِ الْمُشْكِلُ ... سُبْحانَهُ مِنْ ذاكَ أَوْ يُؤَوَّلُ وَالأَعْلَمُ التَّفْوِيْضُ مَذْهَبُ السَّلَفْ ... وَالأَحْكَمُ التَّأْوِيْلُ مَذْهَبُ الْخَلَفْ ¬
فائدة لطيفة
وَلَيْسَ شَيْءٌ مِثْلَهُ مُحَقَّقا ... وَهُوَ السَّمِيع وَالْبَصِيرُ مُطْلقاً وأجاد الحافظ العلامة جلال الدين السُّيوطي رحمه الله تعالى في قوله: [من مجزوء الكامل المرفَّل] فَوِّضْ أَحادِيْثَ الصِّفا ... تِ وَلا تُشَبِّهْ أَوْ تُعَطِّلْ إِنَّ الْمُفَوِّضَ سالِمٌ ... مِمَّا تَكَلَّفَهُ الْمُؤَوِّلْ (¬1) * فائِدَةٌ لَطِيْفَةٌ: روى الديلمي في "مسند الفردوس"، وابن النَّجار في "تاريخه" عن جابر رضي الله تعالى عنه، عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "كَانَ عِيسى بنُ مَريَمَ عَليْهِمَا السَّلامُ يَسِيْحُ، فَإِذَا مَشَى أَكَلَ بَقْلَ الصَّحْرَاءِ، وَشَرِبَ مَاءَ القُرَاحِ، وَتَوَسَّدَ التُّرَابَ". ثمَّ قال: "عِيسى بْنُ مَرْيَمَ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ مخرب وَلا وَلَدٌ يَمُوتُ، طَعَامُهُ بَقْلُ الصَّحْرَاءِ، وَشَرَابُهُ مَاءُ القُرَاحِ، وَوِسَادُهُ التُّرَابُ، مَرَّ بِوَادٍ فَإِذَا فِيْهِ رَجُلٌ أَعْمَى مُقْعَدٌ مَجْذُومٌ قَدْ قَطَعَهُ الجُذَامُ، السَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِ وَالوَادِي مِنْ تَحْتِهِ، وَالثَّلْجُ عَنْ يَمِيْنِهِ، وَالبَرَدُ عَنْ يَسَارِهِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: ¬
تنبيه
الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالمِيْنَ ثَلاثاً. فَقَالَ لَهُ عِيْسَى بنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ: يَا عَبْدَ اللهِ! عَلام تَحْمَدُ الله؟ أَنْتَ أَعْمَى مُقْعَدٌ مَجْذُوْمٌ وَقَد قَطَعَكَ الجُذامُ، السَّمَاءُ مِنْ فَوقِكَ وَالأَرضُ مِنْ تَحْتِكَ، وَالثَّلْجُ عَنْ يَمِيْنِكَ، وَالبَرَدُ عَن يَسَارِكَ! قَالَ: يَا عِيسَى! أَحْمَدُ اللهَ إِذْ لَمْ أكُنِ السَّاعَةَ مِمَّن يَقُولُ: إِنَّكَ اللهُ، أَو: ابْنُ اللهِ، أَوْ: ثَالِثُ ثَلاثَةٍ". * تَنْبِيْهٌ: روى ابن أبي شيبة عن كعب رحمه الله تعالى قال: أول ما نزل من التوراة عشر آيات: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] إلى آخر الآيات (¬1). وروى أبو الشيخ: أنَّ كعباً سمع رجلاً يقرأ؛ يعني: من سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]، فقال: والذي نفس كعب بيده! إنها لأول آية في التوراة (¬2). وقد جاء عن كعب أيضاً: أنَّ آخر آية في التوراة: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ¬
3 - ومن كفر اليهود لعنة الله عليهم: نسبة الله تعالى إلى الظلم، وإلى الفقر، وإلى البخل.
{الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] (¬1). وفي "مسند الإمام أحمد" عن معاذ بن أنس [-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "آية العز؛ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} الآية كلها (¬2). وروى ابن السني] (¬3) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده -رضي الله عنه- قال: كان الغلام إذا أفصح من بني عبد المطلب علَّمه النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية سبع مرات: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 111] (¬4). والحكمة في ذلك تمرين الولد على اعتقاد التوحيد، ونفي الولد والشريك والولي من الذل عن الله المجيد؛ فاعلم! 3 - ومن كفر اليهود لعنة الله عليهم: نسبة الله تعالى إلى الظلم، وإلى الفقر، وإلى البخل. قال الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ ¬
أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آل عمران: 181]. وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64]. قال مجاهد: لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] قالت اليهود: إنَّ الله فقير ونحن أغنياء. ذكره الثعلبي (¬1). وروى ابن أبي حاتم، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بيت المدارس، فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص، فقال فنحاص: ما بنا إلى الله من فقر، وأنه إلينا لفقير؛ فلو كان غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم. فغضب أبو بكر فضرب وجهه، فذهب فنحاص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: انظر يا محمد ما صنع صاحبك بي. فقال: "ما حَمَلَكَ يا أَبا بَكْرٍ عَلى ما صَنَعْتَ؟ " فقال: يا رسول الله! قال قولاً عظيماً؛ يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء. فجحد فنحاص، فأنزل الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا} [آل عمران: 181] فكانت الآية تصديقاً لأبي بكر (¬2). ¬
وروى الطبراني - ورواته ثقات - عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رجل من اليهود يقال له: الشاس بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ} [المائدة: 64] الآية (¬1). وروى أبو الشيخ، وغيره عن عكرمة: أن قائل هذا فنحاص بن عازوراء وأصحابه، وكان لهم أموال، فلما كفروا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- قَلَّ مالهم، فقالوا: إن الله بخيل، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء (¬2). وروى الديلمي عن أنس -رضي الله عنه-، عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ يَحْيَى بنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلامُ سَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ: يَارَبِّ! اِجْعَلْنِي مِمَّنْ لا يَقَعَ النَّاسُ فِيْهِ، فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: يَا يَحْيَى! هَذَا شَيْءٌ لَمْ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي، كَيْفَ أَجْعَلُهُ لَكَ؟ اِقْرَأْ فِي المُحْكَمِ تَجِدْ فِيْهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] , وقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] , وقالوا وقالوا" (¬3). وقوله: "اقرأ في المحكم" يحتمل أن يكون من قول الله تعالى ليحيى عليه السلام، وعليه: فيكون هذه الأقوال تقدمت عنهم من أسلافهم قديماً، ثم تكلم بها أخلافهم. ¬
ويحتمل أن يكون من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنس، أو من قول أنس للراوي عنه. وفي الحديث: "إِنَّ مَنْ طَلَبَ السَّلامَةَ مِنْ ألْسِنَةِ النَّاسِ فَقَدْ طَلَبَ مَا لا يَكُوْنُ". وفي "حلية أبي نعيم": عن وهب قال: قال موسى عليه السلام: يا رب! احبس عني كلام الناس، فقال الله عَزَّ وَجَل: لو فعلت هذا بأحد لفعلته بنفسي (¬1). وعن جعفر بن محمد قال: إذا بلغك عن أخيك شيء يسوؤك فلا تغتم؛ فإنه إن كان كما يقول كانت عقوبة عجلت، وإن كان على غير ما يقول كانت حسنة لم تعملها. قال: وقال موسى عليه السلام: يارب! أسألك أن لا يذكرني أحد إلا بخير. قال: ما فعلت ذلك لنفسي (¬2). وقلت: [من السريع] تُرِيْدُ أَنْ تَسْلَمَ فِي هَذِهِ الـ ... ــــــــدُّنْيا بِلا قَوْلٍ مِنَ النَّاسِ ¬
وَهُمْ لَقَدْ قالُوا عَلى اللهِ ما ... قالُوا فَكُنْ مِنْ ذا عَلى يَاسِ وقلت مستوفياً لمعاني هذه الآثار: [من السريع] تُرِيْدُ أَنْ تَسْلَمَ مِنْ أَلسُنٍ ... تَوَدُّ ما قَدْ قِيلَ لَوْ لَمْ يُقَلْ وَذَلِكَ الأَمْرُ الَّذِي رَبُّنا ... لِنَفْسِهِ سُبْحانَهُ ما فَعَل فَاصْبِرْ عَلى أَقْوالِ هَذا الْوَرَى ... تَنَلْ مِنَ الْخَيْرِ جَزِيْلَ النَّفَلْ إِنْ قِيْلَ ما فِيْكَ فَقَدْ عُجِّلَتَ ... عُقُوْبَةُ الذَّنْبِ الَّذِي قَدْ حَصَلْ أَوْ غَيْرَ ما فِيْكَ تَفُزْ بِالَّذِي ... لَمْ تَأْتِهِ مِنْ حَسَناتِ الْعَمَلْ وقلت قديماً: [من السريع] مَنْ رامَ أَنْ يُكْفَى كَلامَ الْوَرَى ... فَإِنَّهُ حاوَلَ ما لا يَكُوْنْ قَدْ قالَ أَهْلُ الْكُفْرِ فِي رَبِّهِمْ ... ما عَنْهُ قَدْ نزَّهَهُ الْمُؤْمِنُونْ
4 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: إنكار القدر، والتنازع فيه
وَما يُقَلْ فِيْكَ فَكَفَّارَةٌ ... إِنْ كانَ صِدْقاً كُلُّ ما يَذْكُرُونْ أَوْ لا فَأَجْرٌ لَكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ ... تَعْمَلَ تَلْفَى بِالَّذِي يَفْتَرُونْ فَاصْبِرْ عَلى النَّاسِ وَلا تَبْتَئِسْ ... بِذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي يَمْتَرُونْ 4 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: إنكار القدر، والتنازع فيه (¬1) روى اللالكائي في "السنة" عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، عن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا هَلَكَتْ أُمَّةٌ قَطُّ إِلاَّ بِالشِّرْكِ بِاللهِ، وَمَا أَشْرَكَتْ أُمَّةٌ حَتَّى يَكُوْنَ بَدْءُ شِرْكِهَا التَّكْذِيْبَ بِالقَدَرِ" (¬2). وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً؛ منهم نبينا -صلى الله عليه وسلم- (¬3). ¬
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن بني إسرائيل كانوا على شريعة ومنهاج ظاهرين على من ناوأهم حتى تنازعوا في القدر، فلما تنازعوا اختلفوا، وتباغضوا وتلاعنوا، واستحل بعضهم حرمات بعض، فسلط الله عليهم عدوهم، فمزَّقهم كل ممزق (¬1). وروى الطبراني، وابن عدي، واللالكائي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اِتَّقُوا هَذَا القَدَرَ؛ فَإِنَّهُ شُعْبَةٌ مِنَ النَّصْرَانِية" (¬2). وقال ابن عباس: اتقوا هذا الإرجاء؛ فإنه شعبة من النصرانية (¬3). وروى اللالكائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: جاء العاقب والسيد، وكانا رأس النصارى بنجران، فتكلما بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلام كثير في القدر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ساكت ما يجيبهما بشيء حتى انصرفا، فأنزل الله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} الذين كفروا وكذبوا بالله من قبلكم، {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} الأول في أول الكتاب، {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} إلى قولى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} الذين كفروا, ¬
5 - ومنها: الاحتجاج بالمشيئة والقدر في الاعتذار عن البخل.
وكذبوا بالقدر من قبلكم، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} يعني: متذكر، {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} الأول أم الكتاب، {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 43 - 53]؛ يعني: مكتتب. إلى آخر السورة (¬1). وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: القدرية يهود. وقال الشعبي: القدرية نصارى (¬2). وقال حرب بن شريح البزاز: قلت لمحمد بن علي رحمهما الله تعالى: إن لنا إماماً يقول في القدر. فقال: يا ابن الفارسي! انظر كل صلاة صليتها خلفه أعدها، إخوان اليهود والنصارى، قاتلهم الله أنى يؤفكون (¬3). وقال الأوزاعي رحمه الله تعالى: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن، كان نصرانياً فأسلم ثم تنصر، أخذ عنه سعيد الجهني، وأخذ غيلان عن سعيد (¬4). روى هذه الآثار اللالكائي. 5 - ومنها: الاحتجاج بالمشيئة والقدر في الاعتذار عن البخل. وهو مضاد لقولهم: لا قدر. ¬
6 - ومنها: الإرجاء.
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]. المراد بالذين كفروا في الآية: اليهود. رواه ابن أبي حاتم عن الحسن (¬1)، وابن المنذر عن إسماعيل بن خالد (¬2). وروى عبد الرزاق، والمفسرون عن قتادة أنها نزلت في الزنادقة؛ كانوا لا يطعمون فقيراً، فعاب الله ذلك عليهم وعيَّرهم (¬3). 6 - ومنها: الإرجاء. وهو اعتقاد أن الإيمان مجرد قول: لا إله إلا الله بدون التصديق بالقلب وعمل الجوارح، أو مجرد القول والمعرفة. وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: أنه شعبة من النصرانية. وروى اللالكائي عن سعيد بن جبير -صلى الله عليه وسلم- قال: المرجئة يهود القبلة (¬4). بل روى أبو مضر ربيعة بن علي العجلي في كتاب "عدم الاعتزال"، والرافعي في "تاريخ قزوين" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن ¬
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَهُودُ أُمَّتِي الْمُرْجِئَةُ" (¬1). وروى اللالكائي عن عطاء بن السائب قال: ذكر سعيد بن جبير المرجئة، فضرب لهم مثلاً فقال: مثلهم مثل الصابئين؛ إنهم أتوا اليهود فقالوا: ما دينكم؟ فقالوا: اليهودية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: التوراة، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة. ثم أتوا النصارى فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالو ا: عيسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة. قالوا: فنحن بين دينين (¬2). وروى البخاري في "التاريخ"، والترمذي وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وابن ماجه عنه، وعن جابر رضي الله تعالى عنه، والخطيب، واللالكائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قالوا: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُمَا فِي الإِسْلامِ نَصِيْبٌ: ¬
المُرْجِئَةُ، وَالقَدَرِيَّةُ" (¬1). ورواه الطبراني في "الأوسط" عن واثلة بن الأسقع، وعن جابر، وأبو نعيم في "الحلية" عن أنس رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لا تَنَالُهُم شَفَاعَتِي: المُرْجِئَةُ، وَالقَدَرِّيةُ" (¬2). وروى الطبراني عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صِنْفَانِ مِن أُمَّتِي لا يَرِدَاْنِ عَلَى الحَوْضِ، وَلا يَدْخُلانِ الجَنَّةَ: القَمَرِيَّةُ، وَالمُرْجِئَةُ" (¬3). ¬
7 - ومنها: ترك السنة شيئا فشيئا، والابتداع في الدين.
وروى اللالكائي عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: لقد لُعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً آخرهم محمد -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وعن أبي نوفل الهذلي، عن أبيه قال: كان عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود من آدب أهل المدينة وأيقظهم، وكان مرجئاً، ثم رجع فأنشأ يقول: [من الوافر] لأَوَّلُ ما نُفارِقُ غَيْرَ شَكٍّ ... نُفارِقُ ما تَقُوْلُ الْمُرْجِئُونا وَقالُوا مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ جَوْرٍ ... وَلَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ بِجائِرِينا وَقالُوا مُؤْمِنٌ دَمُهُ حَلالٌ ... وَقَدْ حَرُمَتْ دِماءُ الْمُؤْمِنِينا (¬2) 7 - ومنها: ترك السنة شيئاً فشيئاً، والابتداع في الدين. روى الأصبهاني في "الترغيب" عن عبد الله؛ يعني: ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان أهل الكتاب أول ما يتركون السنة، وآخر ما يتركون الصلاة، وكانوا يستحيون من ترك الصلاة (¬3). وتقدَّم عن حذيفة: أنَّ بني إسرائيل لم يتركوا دينهم في يوم واحد، بل كانوا يخالفون الأمر والنهي حتى انسلخوا من دينهم. ¬
8 - ومنها: الإيغال في البغض كالخوارج، وفي الحب كالروافض.
8 - ومنها: الإيغال في البغض كالخوارج، وفي الحب كالروافض. فإن اليهود أفرطوا في حب عزير عليه السلام حتى قالوا فيه ما قالوا، وفي بغض عيسى عليه السلام حتى قالوا: إنه ولد لغير رشدة. وأفرطت النصارى في حبه حتى زعموه إلهاً. وروى البخاري عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تطْرُوْنِي كَمَا أَطْرَى النَّصَارَى عِيْسَى بنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ، فَقُوْلُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُه" (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى أنه قال: أحِبُّوا هَوناً، وأبغضوا هَوناً؛ فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا، لا تفرط في حب ولا تفرط في بغض (¬2). وروى عبد الله في "زوائد المسند"، والبزار، وأبو يعلى، والحاكم عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال لي النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ فِيْكَ مِنْ عِيْسَى مَثَلاً أَبْغَضَهُ اليَهُوْدُ حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ، وَأَحَبَّتْهُ النَّصَارَى حَتَّى أَنْزَلُوهُ بِالمَنْزِلَةِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهُ" (¬3). ¬
قال علي رضي الله تعالى عنه: ألا وإنه يهلك فيَّ اثنان: محب مفرط ففرطني بما ليس فيَّ، ومبغض يحمله شقاقي على أن يبهتني (¬1). وكان الأمر كذلك، فهلكت في علي رضي الله تعالى عنه الروافض، فقدموه على الشيخين، وسبوهما، ووقعوا بسبب غلوهم فيه في عائشة، وفي طلحة، والزبير، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وأبي موسى، ثم تجاوزوا إلى عظائم أخرى. وهلكت فيه الخوارج -ويقال لهم: الحرورية- فكفَّروه، وكفَّروا أصحابه، وقاتلوه في النهروان، وكفَّروا معاوية وأصحابه. وروى ابن أبي شيبة، واللالكائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنَّه ذكر عنده الخوارج وما يلقون عند تلاوة القرآن، فقال: ليسوا بأشد اجتهاداً من اليهود والنصارى (¬2). وقد وقع إلحاق الخوارج والروافض باليهود والنصارى في كلام السلف. فروى ابن أبي شيبة عن مصعب بن سعد (¬3) رحمه الله تعالى: أنَّه سئل عن الخوارج فقال: فأمَّا الخوارج: هم قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم (¬4). ¬
فائدة لطيفة
قلت: وبذلك وصف الله تعالى بني إسرائيل فقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5]. وروى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين رحمه الله تعالى: أنَّ رجلاً أتاه فقال: إنَّ عندي غلاماً لي أريد بيعه، قد أُعطيت به ستمئة درهم، وقد أعطاني به الخوارج ثمانمئة درهم، أفأبيعه منهم؟ قال: كنت بايِعَهُ من يهودي أو نصراني؟ قال: لا. قال: فلا تبعه منهم (¬1). * فائِدَةٌ لَطِيْفَةٌ: روى اللالكائي عن أبي العباس الأصم رحمه الله تعالى قال: كان خارجيان طافا بالبيت، فقال أحدهما لصاحبه: لا يدخل الجنة من هذا الخَلْق غيري وغيرك. فقال له صاحبه: جنة عرضها كعرض السموات والأرض بنيت لي ولك؟ فقال: نعم. ¬
قال: هي لك، وترك رأيه (¬1). وأما الروافض فروى اللالكائي عن الشعبي رحمه الله تعالى أنه قال: احذروا المُضلة، وشرها الروافض؛ إن منهم يهود يغمسون الإسلام ليتجاوزوا ضلالتهم كما يغمس طولس بن شاول ملك اليهود، لم يدخلوا الإسلام رغبة ولا رهبة من الله تعالى، ولكن مقتاً لأهل الإسلام، وطعناً عليهم، فأحرقهم علي بن أبي طالب بالنار، ونفاهم من البلدان؛ منهم عبد الله بن سبأ نفاه إلى ساباط، وعبد الله بن شباب نفاه إلى حازر، وأبو الكروش وابنه. وذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود: قالت اليهود: لا يصلح الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة: لا يصلح الملك إلا في آل علي. وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الدجال أو ينزل عيسى من السماء، وقالت الرافضة: لا جهاد حتى يخرج المهدي، ثم يُنادي مناد من السماء. واليهود يؤخرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة. والحديث عن رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى الفِطْرَةِ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ حَتَى تَشْتَبِكَ النُّجُوْمُ" (¬2). ¬
واليهود يحولون عن القبلة شيئاً، وكذلك الرافضة. واليهود تسدل أثوابها، وكذلك الرافضة. ومرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجل قد سدل ثوبه فضمه عليه. واليهود حرفوا التوراة، وكذلك الرافضة حرفوا القرآن. واليهود يستحلون دم كل مسلم، وكذلك الرافضة. واليهود لا يرون الطلاق ثلاثاً شيئاً، وكذلك الرافضة. واليهود لا يرون على النساء عدة، وكذلك الرافضة. واليهود يبغضون جبريل عليه السلام، ويقولون: هو عدونا من الملائكة، وكذلك صنف من الرافضة يقولون: غلط بالوحي إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-. قال: وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين: سُئِلت اليهود: من خير أهل أمتكم؟ قالوا: أصحاب موسى عليه السلام. وسُئِلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواري عيسى عليه السلام. وسُئِلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: حواري محمد -صلى الله عليه وسلم-. أُمروا بالاستغفار لهم فسبُّوهم، فالسيف مسلول عليهم إلى يوم
9 - ومن قبائح اليهود والنصارى: إنكار البعث على ما جاء به الشرع.
القيامة، لا يثبت لهم قدم، ولا تقوم لهم راية، ولا تجتمع لهم كلمة، دعوتهم مدحوضة، وجمعهم متفرق، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله عز وجل (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "المنامات" قال: حدثنا أبو بكر الصيرفي قال: مات رجل كان يشتم أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، ويرى برأي جهم، فأريه رجل في النوم كأنه عريان على رأسه خرقة سوداء، وعلى عورته أخرى، فقال: ما فعل الله بك؟ قال: جعلني مع بكر القس وعون بن الأعسر، وهذان نصرانيان (¬2). 9 - ومن قبائح اليهود والنصارى: إنكار البعث على ما جاء به الشرع. قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف: 103 - 105]. قال مجاهد: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب لأنهم لم يؤمنوا بالبعث على ما هو عليه. ذكره الثعلبي، وغيره (¬3). ¬
10 - ومنها: التكذيب برؤية الله تعالى في الآخرة، وطلبها في الدنيا شكا واستبعادا.
وروى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبخاري، والنسائي، والمفسرون عن مصعب بن سعد قال: سألت أبي رضي الله تعالى عنه عن هذه الآية: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 103]: أَهُمُ الحرورية؟ قال: لا، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى؛ أما اليهود فكذبوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وأما النصارى فكذبوا بالجنة، فقالوا: ليس فيها طعام ولا شراب. قال: والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. وكان يسميهم: الفاسقين (¬1). 10 - ومنها: التكذيب برؤية الله تعالى في الآخرة، وطلبها في الدنيا شكاً واستبعاداً. فقد علمت أن قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف: 105] نزل في أهل الكتاب. ومن العلماء من فسر اللقاء بالرؤية، وهو استعمال مشهور، وكذلك رجحه الوالد في "تفسيره" (¬2). وقال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ¬
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} [البقرة: 55]. وذلك أن موسى عليه السلام لمَّا اختار قومه سبعين رجلاً، وذهب بهم فأسمعهم كلام الله تعالى، فلما سمعوا الكلام قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]، فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم بعثهم الله تعالى بدعوة موسى عليه السلام، فإن قولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] بعد سماع كلام الله تعالى شك منهم في الله تعالى، أو في أنه المتكلم، أو في إمكان رؤيته. وطلبهم لرؤيته مبني على شك وكفر. فإن قلت: فقد سأل موسى عليه السلام الرؤية، فكيف تأوَّل ذلك؟ قلت: فرق بين الطلبين؛ فإن موسى عليه السلام طلب الرؤية شوقاً، وهم طلبوها شكاً؛ ألا ترى قوله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]؟ فدل طلب موسى عليه السلام للرؤية على إمكانها؛ إذ لا يطلب مستحيلاً، ولذلك علق الله تعالى الرؤية على ممكن، وهو استقرار الجبل. وأمَّا عقوبتهم على طلبها فلا يدل على عدم الإمكان لأنهم إنما عوقبوا على الشك والسؤال عبثاً. ومذهب أهل السنة رضي الله تعالى عنهم: أن رؤية الله سبحانه وتعالى جائزة في الدنيا والآخرة، واقعة في الآخرة لا في الدنيا إلا
لطيفة
لمحمد -صلى الله عليه وسلم- على الأصح في المستثنى، واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة. وأما المعتزلة فقالوا: الرؤية غير جائزة ولا واقعة لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فَهم أقرب الطوائف شبهاً بأهل الكتابين في ذلك كما علمت. * لَطِيْفَةٌ: قال بعض العلماء: جزاء من كذب بالرؤية والشفاعة إذا رأى المؤمنين يشفع لهم يوم القيامة، وينظرون على أرائكهم وجه ربهم، وطلب حظه من ذلك أن يقال له: قد كنت تنكر الشفاعة والرؤية في دار الدنيا، واليوم تعامل بموجب قولك، فلا يشفع لك عند ربك، ولا تراه. قلت: جاء في الحديث ما يدل على ذلك، فروى الطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ بَلَغَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى فَضِيْلَةَ فَلَمْ يُصَدِّقْهَا لَمْ يَنَلْهَا" (¬1)؛ نسأل الله تعالى العافية. 11 - ومنها: الاحتجاج بالقدر على المعصية. قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ¬
آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: 148]. قال القرطبي: وقد أنِسَت المعتزلة بقوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 148]، فقالوا: قد ذم هؤلاء الذين جعلوا شركهم بمشيئته. وتعلقهم بذلك باطل؛ لأن الله تعالى إنما ذمهم على ترك اجتهادهم في طلب الحق، وإنما قالوا ذلك على وجه الهُزء واللعب. نظيره: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]. فرد عليهم بقوله: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20] كما رد عليهم مقالتهم هنا بقوله: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149]. قال: ولو قالوا على جهة التعظيم والإجلال والمعرفة لما عابهم لأن الله تعالى يقول: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107]، و {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111]، انتهى (¬1). وذكر الثعلبي عن الحسين بن الفضل قال: لو أُخبروا بهذه المقالة تعظيما وإجلالاً لله تعالى ومعرفة منهم به لَمَا عابهم، ذلك لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107]، ولكنهم قالوا ذلك تكذيباً، وتحريفاً، وجدلاً من غير معرفة بالله تعالى وبما يقولون، ¬
12 - ومنها: التحليل والتحريم بمجرد الرأي من غير دليل واتباع الأكابر في ذلك.
والمؤمنون يقولونه لعلمهم بالله تعالى، انتهى ملخصاً (¬1). وقد روى عبد الرزاق، والمفسرون، وصححه الحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قيل له: إن ناساً يقولون: ليس الشر بقدر؟ فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} إلى قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149]. قال ابن عباس: والعَجْزُ والكَيْسُ من القدر (¬2). وهذا الذي ذكرناه هنا من أهم ما ينبغي لكل مؤمن أن يحققه في زماننا هذا؛ فإن المحتجين بالقدر المجادلين بالمشيئة من غير معرفة بالله تعالى أكثر الناس في هذه الأعصار. 12 - ومنها: التحليل والتحريم بمجرد الرأي من غير دليل واتباع الأكابر في ذلك. قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. ومعنى: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} [آل عمران: 64]: لا يتبعه ¬
في تحليل شيء أو تحريمه من غير دليل شرعي. قال ابن جريج في الآية: لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله. قال: ويقال: إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة - وإن لم يصلوا لهم -. رواه ابن جرير، وابن المنذر (¬1). وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. روى الترمذي وحسنه، وغيره عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يَا عَدِي! اِطْرَحْ عَنْكَ هَنا الوَثَنَ". قال: وسمعته يقرأ في براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. قال: "أَما إِنَّهم ما كانُوا يَعْبُدُونهم وَلَكِنَّهُم كانُوا إِذا حَلَّلُوا شَيْئاً اسْتَحَلُّوهُ وَإِذا حَرَّمُوا شَيْئا حَرَّمُوهُ" (¬2). وذكر الثعلبي عن الربيع قال: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله عَزَّ وَجَلْ ما أُمِروا به ¬
تنبيهان
ونُهوا عنه، فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء؛ فما أمرونا بشيء ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا لقولهم، واستنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. وقال الإمام عبد الله بن المبارك: [من المتقارب] وَهَلْ أَهْلَكَ الدِّيْنَ إِلاَّ الْمُلُوكُ ... وَأَحْبارُ سُوءٍ وَرُهْبانُها (¬1) * تَنْبِيهانِ: الأَوَّلُ: روى ابن المنذر عن ابن جريج رحمه الله تعالى قال: الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى (¬2). وعن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: الأحبار العلماء، والرهبان النصارى (¬3). وروى هو وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: أحبارهم قراؤهم، ورهبانهم علماؤهم (¬4). الثَّانِي: في الآيتين المتقدمتين دليل على بطلان الاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي. ¬
13 - ومنها: طاعة الملوك والرؤساء في معصية الله تعالى، وإن كانوا يدعون العلم.
وفيهما رد على الروافض القائلين بوجوب اتباع الإمام في كل ما يقول من غير بيان مستند شرعي، وبأن له أن يحل ما حرم الله من غير أن يبين دليلاً شرعياً، وهذا ضلال. والأدلة على بطلانه كثيرة. 13 - ومنها: طاعة الملوك والرؤساء في معصية الله تعالى، وإن كانوا يدَّعون العلم. بل العالم إذا استتبع الناس إلى المعصية كان أسوء حالاً من الملوك في ذلك. روى أبو الشيخ، والبيهقي في "الشعب" عن حذيفة رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة: 31] قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم أطاعوهم في معصية الله (¬1). وفي الحديث: "لا طَاعَةَ لأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ". أخرجه الشيخان، وأبو داود، والنسائي من حديث علي -رضي الله عنه- (¬2). وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن عمران بن حصين، والحكم بن عمرو الغفاري؛ قالا رضي الله تعالى عنهما: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم -: ¬
14 - ومنها: السجود للأحبار والرهبان والملوك تكريما وتعظيما.
"لا طَاعَةَ لِلْعَبْدِ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ" (¬1). 14 - ومنها: السجود للأحبار والرهبان والملوك تكريماً وتعظيماً. وهو حرام كما سبق، فإن قصد به العبادة كان كفراً. قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]: إنهم كانوا يسجدون لهم. وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن عكرمة رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} [آل عمران: 64] قال: سجود بعضهم لبعض (¬2). وروى أبو داود، والحاكم وصححه، عن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق أن يسجد له. قال: فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك. قال: "أَرَأَيْتَ إِنْ مَرَرْتَ بِقَبْرِي أَكُنْتَ تَسْجُدُ لَهُ؟ " ¬
قلت: لا. قال: "فَلا تَفْعَلُوا؛ لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ النِّساءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لأَزْوَاجِهِن لِمَا جَعَلَ اللهُ عَلَيْهِنَّ مِنَ الحَقِّ" (¬1). وروى البزار بإسناد صحيح، عن معاذ رضي الله تعالى عنه: أنه أتى الشام فرأى النصارى يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، ورأى اليهود يسجدون لأحبارهم ورهبانهم وفقهائهم، فقال: لأي شيء تفعلون هذا؟ قالوا: هذه تحية الأنبياء. قلنا: فنحن أحق أن نصنع بنبينا -صلى الله عليه وسلم-. فلمَّا قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- سجد له، فقال: "ما هَذا يا مُعاذُ؟ " قال: إني أتيت الشام فرأيت النصارى يسجدون لأساقفتهم وقسِّيسيهم ورهبانهم وبطارقتهم، ورأيت اليهود يسجدون لأحبارهم وفقهائهم وعلمائهم، فقلت: ولأي شيء تصنعون هذا، أو تفعلون هذا؟ قالوا: هذه تحية الأنبياء. قلت: فنحن أحق أن نصنع بنبينا. فقال نبيُّ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِم كَمَا حَرَّفُوا كِتَابَهُم، لَو أَمَرْتُ أَحَدًا يَسْجُدُ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ، وَلا تَجِدُ امْرَأَةً حَلاوَةَ الإِيْمَانِ حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا وَلَو سَأَلَهَا ¬
نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى ظَهْرِ قَتَبٍ" (¬1). وروى البزار، والطبراني هذا الحديث بنحو هذا اللفظ عن صهيب رضي الله تعالى عنه، فذكر قصة معاذ رضي الله تعالى عنه (¬2). وفي معنى السجود: الانحناء كالركوع. وقد نقل الحافظ زين الدين العراقي الإجماع على تحريمهما كما تقدم. وروى ابن ماجه عن أنس -رضي الله عنه- قال: قلنا: يا رسول الله! أَيَنحَني بعضُنَا لبعضٍ؟ قال: "لا". قلنا: أيعانق بعضنا بعضاً؟ قال: "لا" وَلَكِنْ تَصَافَحُوا" (¬3). وروى الترمذي بنحوه، وصححه (¬4). ¬
15 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: الاغترار بالله تعالى،
والنهي عن المعانقة في هذا الحديث محمول على الكراهة، ومحله فيما لو كان على وجه التملق، فأما عند طول العهد بالصاحب، والقدوم من السفر، وعند التوديع فإنها سنة. وكذلك التقبيل لأنه -صلى الله عليه وسلم- اعتنق جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لما قدم من الحبشة. رواه الدارقطني، وصححوه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (¬1). وفعل كذلك بزيد بن حارثة -رضي الله عنه- كما رواه الترمذي عنه، وحسنه (¬2). نعم اعتناق الأمرد الجميل، وتقبيله، وغمز أي عضو كان من أعضائه حرام، إلا أن يكون محرماً ولا شهوة، وفعل ذلك بالشهوة مع غير الحليلة حرام مطلقاً. 15 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: الاغترار بالله تعالى، وطلب الأماني مع الفتور عن الطاعة والتواني، والقطع لأنفسهم بدخول الجنان مع الإقامة على العصيان، والأمن من مكر الله تعالى والخذلان. ومعتقد المؤمنين أنه لا بد من الخوف، ولا بد من الرجاء، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يقطع بالجنة لمن مات طائعاً، ولا بالنار لمن مات عاصياً بغير الشرك إلا مَنْ نَصَّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ¬
في الجنة فهو من أهلها. قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 - 112]. وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18]. ولم يريدوا بنوة النسب، وإنما أرادوا أنَّ الله تعالى يبرهم ويودهم كبِرِّ الوالد بالأولاد. وقال تعالى في بني إسرائيل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 168 - 169] قيل: كانوا يقولون: ما عملناه بالنهار كفَّر عنا بالليل، وما عملناه بالليل كفَّر عنا بالنهار (¬1). ولا شك أن مثل ذلك يوجد كثيراً في هذه الأمة. ¬
روى الدارمي عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه قال: سيبلى القرآن في قلوب قوم كما يبلى الثوب فيتهافت، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا: سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا: سيغفر لنا؛ لا نشرك بالله شيئاً (¬1). وروى أبو الشيخ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في الآية: هم أقوام يقبلون على الدنيا فيأكلونها، ويتبعون رُخَصِ القرآن ويقولون: سيغفر لنا، لا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه، ويقولون: سيغفر لنا (¬2). وأشار معاذ، وابن عباس إلى أن ذلك يقع في هذه الأمة كما وقع في أهل الكتابين، لا أن ذلك لم يكن فيهم، بل هم سلف هذه الأمة فيه، وهم كانوا في أنفسهم خلف سوء. قال مجاهد رحمه الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف: 169] هم النصارى، ويأخذون ما أشرفَ لهم من شيء من الدنيا حلالاً أو حراماً، ويتمنون المغفرة. أخرجه ابن أبي شيبة، والمفسرون (¬3). وروى البيهقي في "الشعب" عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى ¬
في الآية قال: كانوا يعملون بالذنوب، ويقولون: سيغفر لنا (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن عطاء في الآية قال: يأخذون ما عرض لهم من الدنيا، ويقولون: نستغفر الله ونتوب إليه؛ أي: فيغفر لنا (¬2). وروى أبو الشيخ عن السدي رحمه الله تعالى قال: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلا ارتشى في الحكم، فإذا قيل له قال: سيغفر لي (¬3). وهذا حال قضاة هذا الزمان ومن والاهم كما قال الشيخ جلال الدين السيوطي، ورويناه عن والدي عنه رحمهما الله مقتبساً: [من الخفيف] قَدْ بُلِينا فِي عَصْرِنا بِقُضاةٍ ... يَظْلِمُونَ الأَنامَ ظُلْماً عَمَّا يَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمَّا ... ويُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (¬4) ومهما عرضت لهم بالنصيحة والنهي عن الرشوة احتجوا عليك بأن الله غفور رحيم، ورحمته واسعة مع الإصرار على ما هم عليه، وعدم التوبة إلا دعوى بألسنتهم ليست من التوبة في شيء؛ لأن من شرط التوبة أو من أركانها رد المظالم إلى أهلها، وكيف لهم وأنى ¬
16 - ومنها: ترويج باطلهم الذي كانوا عليه بانتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام، وهو منهم بريء.
لهم ولأمثالهم بردها مع كثرة أهليها. ولقد قلت: [من الرجز] قُلْ لِلَّذِي بَغَى مُصِرًّا وَعَتا ... وَجالَ فِي غَيْرِ صَوابٍ حَدْسُهُ وَقالَ إِنَّ رَبَّنا يَغْفِرُ لِي ... وَأَطْمَعَتْهُ بِالْجِنانِ نَفْسُهُ لِلَّهِ جَلَّ رَحَمْةٌ واسِعَةٌ ... وَلا يُرَدُّ عَنْ ظَلُومٍ بَأْسُه يُدْخِلُ مَنْ يشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ... وَالظَّالِمِيْنَ اقْرَأْ يُفِدْكَ درْسُهُ وَاتَّقِ يَوماً خَشَعَتْ فِيْهِ الْوَرَى ... بِحَيْثُ لا يُسْمَعُ إِلاَّ هَمْسُهُ طُوْبَى لِمَنْ لَمْ يَظْلِمِ النَّاسَ شُفَا ... فَضَمَّهُ إِلَى نَعِيْمٍ رَمْسُهُ 16 - ومنها: ترويج باطلهم الذي كانوا عليه بانتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام، وهو منهم بريء. روى البيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى: ما كان إلا
تنبيه
نصرانياً، فأنزل الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)} [آل عمران: 65] (¬1). * تنبِيْهٌ: من كان على باطل في الاعتقاد فنسب باطله إلى أحد من أولياء الله تعالى ومشاهير أئمة المؤمنين ليروج باطله، فهو أشبه الناس باليهود والنصارى في هذه الخصلة؛ كمن ينتحل التجسيم فينسبه إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أو الإرجاء فينسبه إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، أو الاتحاد أو الحلول فينسبه إلى الشيخ محي الدين بن العربي، أو الشيخ زين الدين بن الفارض رحمهما الله تعالى. 17 - ومنها: الخوض فيما لا يعلمون، والدعاوى الفاسدة، والاحتجاج للرأي من غير روية ولا برهان، بل مسارعة إلى الانتصار لشدة غلبة الهوى. ومن يفعل ذلك فهو حري بالتكذيب والتبكيت، ولا بأس أن تنقلب دعواه وتصير حجته حجة عليه كما صار لليهود والنصارى حين تحاجوا في إبراهيم عليه السلام، فأبطل الله تعالى دعواهم بقوله: {لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 65] الآية. فاليهود يزعمون أنه منهم، وما أنزلت التوراة التي كان يتدين بها ¬
18 - ومنها: الأعجاب بالرأي.
اليهود إلا من بعده، والنصارى يزعمون أنه منهم، وما أنزل الإنجيل الذي يتدين به النصارى إلا من بعده؛ فإن التوراة أنزلت بعد إبراهيم بألف سنة، والإنجيل بعده بثلاثة آلاف سنة، فكانت دعوى كل من الطائفتين ملحقة بالجنون، فلذلك قال تعالى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65]؛ أي: فيمنعكم عقلكم من هذه الدعوى الفاسدة، وأمثالها. {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 66 - 68]. وسيأتي الكلام على هذه الآية في ترك اليهود والنصارى لخصال الفطرة. 18 - ومنها: الأعجاب بالرأي. قال الله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]. قال مجاهد: هؤلاء أهل الكتاب فرقوا كتب الله قطعاً. وقال الحسن: تقطعوا كتاب الله بينهم، فحرفوه وبدَّلوه. وقال ابن زيد في قوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]: معجبون برأيهم. رواها (¬1) ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬2). ¬
19 - ومنها: دعوى محبة الله، وغيرها من الأحوال المنيفة
19 - ومنها: دعوى محبة الله، وغيرها من الأحوال المنيفة والمقامات الشريفة مع الإقامة على العصيان، والسبح في بحار الطغيان. قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. ذكر الثعلبي عن ابن عباس أن اليهود قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]؛ أنزل الله هذه الآية، فلما نزلت عرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على اليهود، فأبوا أن يقبلوها (¬1). وروى ابن إسحاق، ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: لما قَدِمَ وفد نجران على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسألوه عن عيسى بن مريم عليهما السلام، نزلت فيهم فاتحة آل عمران إلى رأس الثمانين منها (¬2). وروى ابن إسحاق، وابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31] قال: نزلت في نصارى أهل نجران، وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده حباً لله وتعظيماً له، فقال الله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] (¬3). وقد بين الله تعالى في هذه الآية أن علامة حب الله تعالى اتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم-. ¬
20 - ومنها: دعوى أن الله تعالى يحبهم ويواليهم، وأنهم أولياء
وروى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء، وابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنهما: أنهما قالا في قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]: على البر والتقوى، والتواضع، وذل النفس (¬1). ورواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، وأبو نعيم في "الحلية" من طريق أبي الدرداء مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬2). 20 - ومنها: دعوى أن الله تعالى يحبهم ويواليهم، وأنهم أولياء الله، وأن الدار الآخرة لهم والجنة، وهم على خلاف طريق أولياء الله تعالى وأهل الجنة. قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]؛ أي: لو كنتم أحباءه كما تزعمون لم يعذبكم لأن المحب لا يعذب حبيبه. قال الحسن رحمه الله تعالى قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللهِ لا يُعَذِّبُ اللهُ حَبِيْبَهُ، وَلَكِنْ قَدْ يَبْتَلِيْهِ فِي الدُّنْيَا".رواه الإمام أحمد في "الزهد" (¬3). وفي "المسند" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفر من أصحابه وصبي في الطريق، فلما رأتْ أمُّه القومَ خشيت على ¬
ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني، فسعت وأخذته، فقال القوم: يا رسول الله! ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار. فقال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا وَاللهِ، وَلا يُلْقِي حَبِيْبٌ حَبِيْبَهُ فِي النَّارِ" (¬1). وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6 - 7]. وفيه تلميح بأنهم ليس لهم وجه مقابلة لأن الولي موافق غير مخالف، وإذا بقي على الوفاق أحب التلاقي، وإذا كان على المخالفة لم يكن معه وجه مقابلة. وروى ابن جرير عن أبي العالية: أن اليهود والنصارى لما قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111]، وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] أنزل الله تعالى {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 94 - 95]. قال: فلم يفعلوا (¬2)؛ أي: منعهم من تمني الموت ما قدمته أيديهم ¬
21 - ومنها: قولهم: سمعنا وعصينا.
من المعاصي والمخالفات. قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّ اليَهُودَ تَمَنَّوُا المَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ". رواه البخاري، والترمذي، والنسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬1). ومن هنا قيل: علامة المؤمن المخلص الصادق في الله تعالى أن يحب الموت شوقاً إلى الله تعالى. وقال قتادة في الآية: إن سَيِّئَ العمل يكره الموت شديداً. رواه ابن المنذر، وغيره (¬2). 21 - ومنها: قولهم: سمعنا وعصينا. وللعلماء في ذلك قولان. الأول: أنهم قالوا ذلك بألسنتهم جهراً. والثاني: أنهم قالوا بلسان قالهم: سمعنا، وبلسان حالهم: عصينا (¬3). قلت: ويؤيده قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21]. ¬
واعلم أن المتشبهين باليهود والنصارى في ذلك كثير، فربما نصحت جاهلاً في أمر وعذلته فيه، وعرَّفْتَهُ أنه معصية، أو أمرته بمعروف، وعرَّفْتَهُ أن فيه النجاح والخير، فيقول لك: قد سمعت ما تقول، ولكني لا أفعل، أو يعدك بامتثال نصيحتك وقبول وصيتك، ثم يخالف إلى ما نهيته عنه، وليس هذا من شأن أهل الدين والخير. وروى الإمام أحمد، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما نزلت: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] اشتد ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم [فأتوا] (¬1) النبي -صلى الله عليه وسلم- فجثوا على الركب، قالوا: قد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال: "أترِيْدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَما قالَ أَهْلُ الْكِتابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنا وَعَصْينا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيْرُ". فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] الآية. فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] إلى آخرها (¬2). ¬
22 - ومنها: تذليل الناس، وفتنهم عن دينهم، وإرادة الكفر والفسق منهم.
وفي ذلك إشارة إلى أنَّ مَنْ انقاد إلى طاعة الله، واستسلم يسَّر الله له طاعته، وسهل الله طريقها إليه، ومن أنف من الطاعة، وأباها شددت عليه، ونال مقت الله تعالى. ومن هنا أمرنا أن نقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. 22 - ومنها: تذليل الناس، وفتنهم عن دينهم، وإرادة الكفر والفسق منهم. قال الله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]. قال كثيرٌ: إنها في النصارى (¬1). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد: أنَّها في اليهود (¬2). وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99]. روى ابن جرير عن الحسن أنه قال في الآية: هم اليهود والنصارى (¬3). وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ¬
الْحَقُّ} [البقرة: 109]. روى عبد الرزاق، وابن جرير عن الزهري، وقتادة قالا في قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ} [البقرة: 109] قالا: كعب بن الأشرف (¬1). وإنما أطلق عليه كثير وهو واحد؛ لأنه كان رأس أحبار يهود تهويلاً لفتنته، وإشارة إلى أن من كان رأساً من العلماء مضلاً كان قائماً في الفتنة والإضلال مقام جمع كثير. ومن ثم قيل: إذا زل العالِم زل بزلته عالَمٌ كثير (¬2). وما أحسن ما قيل: [من الطويل] وَلَيْسَ كَثِيراً أَلْفُ خِلٍّ وَصاحِبٍ ... وَإِنْ عَدُوًّا واحِداً لَكَثِيْرُ (¬3) روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنه-: أنَّ نفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهم بعد وقعة أُحُد: لو كنتم على الحق ما هُزِمْتم، فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلاً منكم. ¬
فقال لهم عمار: فكيف نقض العهد فيكم؟ فقالوا: شديد. قال: إني عاهدت أن لا أكفر بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ما عشت. فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ. وقال حذيفة رضي الله تعالى عنه: أمَّا أنا فقد رضيت بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخواناً. ثم أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبراه بذلك، فقال: "أَصَبْتُمَا الخَيْرَ". فأنزل الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 109] الآية (¬1). وقال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72]. روى ابن إسحاق، والمفسرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف بعضهم لبعض: نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدواً، ونكفر به عشية حتى نُلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع، فيرجعون عن فى دينهم، فأنزل الله تعالى فيهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ ¬
{بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 73 - 121] (¬1). وذكر الثعلبي وغيره عن مجاهد، وغيره: أن هذه الآية نزلت في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة، فشق ذلك على اليهود لمخالفتهم، فقال كعب بن الأشرف لأصحابه: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} [آل عمران: 72]، وصَلُّوا إلى الكعبة، واكفروا بذلك آخر النهار، فارجعوا إلى قبلتكم لعلهم يرجعون إلى قبلتنا، ويقولون: هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم منا (¬2). وروى عبد بن حميد، والمفسرون عن مجاهد أن يهود صلَّت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر، وكفروا آخر النهار مكراً منهم ليروا الناس منه الضلالة بعد أن كانوا تبعوه (¬3). وروى ابن المنذر عن سفيان: أن الآية نزلت في نصارى نجران (¬4). وعن قتادة: أنها في أهل الكتابين (¬5). ¬
تنبيه
* تَنْبِيْهٌ: من كان على فسق فزيَّنه لغيره لئلا ينتقصه هو وغيره بفسقه، أو زَيَّنه له استحساناً للفسق، أو ليحتج به فيه، أو نحو ذلك من الأغراض الفاسدة، فهو متشبه بأهل الكتابين فيما ذكر. 23 - ومنها -وهو من جنس ما قبله-: لَبْس الحق بالباطل، وخلط الصدق بالكذب. وقال الله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة: 42]. قال ابن عباس في قوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42]: لا تخلطوا الصدق بالكذب (¬1). وقال ابن زيد: الحق التوراة، والباطل الذي كتبوه بأيديهم. أخرجه ابن جرير (¬2). وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} [آل عمران: 71]. 24 - ومنها: الاستهزاء بالدين، وما اشتمل عليه من صلاة وأذان وغيرها. وهو مما كفروا به. ¬
تنبيه
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 57، 58]. قيل: كان إذا نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة، وقام إليها المسلمون، قالت اليهود: قاموا لا قاموا، صلوا لا صلوا، ركعوا لا ركعوا، سجدوا لا سجدوا، استهزاءً وضحكوا، فنزلت هذه الآية فيهم (¬1). أخرج البيهقي في "الدلائل" نحوه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي رحمه الله تعالى: أنها نزلت في رجل من النصارى بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: حرق الكاذب. فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو قائم وأهله نيام، فتطايرت منها شرارة في البيت، فاحترق هو وأهله (¬3). * تَنْبِيْهٌ: أشبه الناس باليهود والنصارى في هذه الخصلة الدروز والتيامنة، ¬
25 - ومنها: الدعاء على المسلمين.
وهم أهل وادي التيم من ضواحي دمشق، وهم طائفة كفار مرتدون. أفتى شيخ الإسلام تفي الدين البلاطنسي، وغيره بكفرهم، وإباحة دمائهم إن لم يسلموا بحيث لا يقرون بعهد ولا أمان لما تواتر عنهم من أنهم لا يعتقدون الصلاة، ويهزؤون بالمصلين، ولا الصيام، ولا الحج، ويستحلون لحم الحنزير، والميتة في غير حال الاضطرار، ويستبيحون نكاح المحارم، ويعتقدون ألوهية الحاكم بأمر الله تعالى أحد الملوك العُبيديين بمصر، ويذكرونه بما فيه إشعار بالألوهية، فيقولون: عز وجل، ويحلفون بالحكمة المشتقة من لقبه يشيرون إلى ألوهيته، ويعتقدون تناسخ الأرواح، وأن لا بعث ولا نشور. وكل واحدة من هذه الخصال مما لا يشك أنه كفر وانحلال عن الدين. 25 - ومنها: الدعاء على المسلمين. كما تقدم أن اليهود كانوا إذا قام المسلمون للصلاة يقولون: قاموا لا قاموا، صلوا لا صلوا ... إلى آخره. والدعاء على المسلمين حرام، إلا أنَّه يجوز لعن أصحاب الأوصاف المذمة ودينهم كقولك: لعن الله الظالمين، وقطع الله دابرهم. ولا يجوز لعن الواحد بعينه إلا من علمنا أنه مات على الكفر كأبي جهل، وأبي لهب، وفرعون، وهامان؛ لأن اللعنة هي الإبعاد عن رحمة الله تعالى، ولا يدرى ما يختم به لهذا الفاسق، أو الكافر كما نقله
النووي في "الأذكار" عن الغزالي، وأقرَّه (¬1). قال: ويقرب من اللعن الدعاء على الإنسان بالشر حتى الدعاء على الظالم كقولك: لا أصح الله جسمه، ولا سلَّمه الله، وكل ذلك مذموم، انتهى (¬2). والمراد الدعاء على الظالم ونحوه بعينه. أمَّا الدعاء على من ظلم المسلمين مطلقاً، أو من خالف الحكم الشرعي عناداً، أو من ظلم الداعي وحده فيجوز، كما نص عليه النووي في نفس "الأذكار" في باب آخر (¬3). وقد ثبت في "الصحيحين" دعاء سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه على من كَذَب عليه إلى عمر رضي الله تعالى عنه (¬4)، ودعاء سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه على أروى الظالمةِ له في شبر أرض (¬5). ويحرم سب المسلم من غير سبب شرعي يُجَوِّز ذلك. ويستحب الدعاء للمسلم المذنب بالمغفرة والتوبة. ¬
ويكره الدعاء للظالم بطول البقاء ونحوه. ويستحب الدعاء للمسلمين عموماً، وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. وروى الطبراني في "الكبير" عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَالَ كُلَّ يَوْمٍ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، أُلْحِقَ بِهِ مِنْ كُلِّ مُؤْمِنٍ حَسَنةٌ" (¬1). وعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ كُتِبَ لَهُ بِكُل مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ حَسَنَةٌ" (¬2). وروى الخطيب في "تاريخه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ دُعَاءٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ رَحْمَةً عَامَّةً" (¬3). ¬
26 - ومن قبائح أهل الكتاب وأعمالهم: تبديل الكتاب وتحريفه، والكذب على الله تعالى.
وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعًا وَعِشْرِيْنَ مَرَّةً كَانَ مِنَ الَّذِيْنَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ، وَيُرْزَقُ بِهِ أَهْلُ الأَرْضِ" (¬1). وهذا من صفة الأبدال. ويقرب منه ما روي عن معروف الكرخي رحمه الله تعالى أن من قال كل يوم [عشر مرات]: اللهم أصلح أمة محمد، اللهم فرج عن أمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد، كتب من الأبدال (¬2). 26 - ومن قبائح أهل الكتاب وأعمالهم: تبديل الكتاب وتحريفه، والكذب على الله تعالى. قال الله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] إلى قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 75 - 79]. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنها نزلت ¬
في أحبار يهود وجدوا صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة: أكحل، أَعْين، رَبْعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فمحوه حسداً وبغياً، وقالوا: نجده طويلاً، أزرق، سبط الشعر (¬1). وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78]. الآية. قال الأكثرون: هي في اليهود (¬2). وتقدم عن أبي أمامة، وغيره: أن أول سورة آل عمران إلى ثمانين آية نزلت في نصارى نجران. وعليه: فهذه القبائح في النصارى أيضاً. وجاء في الأثر ما يدل أن الكفر إنما دخل على النصارى من تحريف بعض ألفاظ كتابهم. فروى إسحاق الختلي في "الديباج" عن حماد بن سلمة رحمه الله تعالى: أن نصرانيا استأذن عليه فقال: يا أبا سلمة! إني قرأت في الإنجيل: يا عيسى! أنت بُنَيَّ، وأنا ولدتك. قال: فقلت: كذبت، إنما قرأت: يا عيسى! أنت نبي، وأنا ولَّدتك؛ يعني: بتشديد اللام. فقال: صدقت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ¬
تنبيه
فما برح حتى أسلم. وقال الله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41]. وقال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: يقرؤها: يحرفون الكلام. ويقول: كانوا يقرؤون: يا بني أحباري، فحرفوا ذلك، فجعلوه: يا بني أبكاري. أخرجه أبو الشيخ (¬1). * تَنْبِيْهٌ: وقع في كلام كعب رحمه الله تعالى في معنى التحريف أنه كفران النعمة وإنكارها، وهو من جملة أخلاق أهل الكتاب، ومن ثم ذكرهم الله تعالى كثيرًا بنعمته كما في قوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40]. فروى الإمام أحمد في "الزهد" عن كعب قال: إن من خير العمل سبحة الحديث. فقال له بعض القوم: وما سبحة الحديث؟ فقال: تسبح والقوم يتحدثون. قال: ومن شر العمل التحريف. فقال له بعض القوم: وما التحريف؟ ¬
27 - منها: التقرب إلى قلوب الأراذل، ومسألة الناس وغيرهم
قال: يكون الناس بخير فيسألون كيف أنتم؟ فيزعمون أنهم بِشَرٍّ (¬1). 27 - منها: التقرب إلى قلوب الأراذل، ومسألة الناس وغيرهم لتحصيل الجاه عندهم، والأموال بما يلائمهم من العلم، ويستميلهم إليهم كالتحديث بالرُّخص، وحمل النصوص على خلاف ظواهرها تغييراً للأحكام. روى البيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن أحبار يهود كانت لهم مآكل تطعمهم إياها السفلة لقيامهم على التوراة، فخافوا أن تؤمن السفلة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فتنقطع تلك المآكل عنهم، فغيروا صفته في كتابهم (¬2). وروى ابن جرير عنه: أنهم كتبوا كتاباً بأيديهم ثم قالوا: هذا من عند الله (¬3)، وفيه إشارة إلى أن زيف علماء السوء إنما يروج على رعاع الناس وضعفاء العقول دون ذوي العقول وأولي الألباب. وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضاً في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79]؛ قال: عرضاً من الدنيا. {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]؛ قال: فالعذاب لهم ¬
28 - ومنها: كتمان العلم عند الحاجة إليه.
من الذي كتبوه بأيديهم من ذلك الكذب. {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]؛ يقول: مما يأكلون من السفلة، وغيرهم (¬1). 28 - ومنها: كتمان العلم عند الحاجة إليه. قال الله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ} [البقرة: 146]؛ أي: من أهل الكتاب {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160]. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدَّثت أحداً بشيء أبداً، ثم تلا هذه الآية. رواه البخاري، وابن ماجه، وغيرهما (¬2). وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن سعد ابن معاذ، ومعاذ بن جبل، وخارجة بن زيد الأنصاري سألوا اليهود عن مسائل في التوراة، فكتموها عنهم، فنزلت هذه الآية (¬3). ¬
وعن مجاهد، وعن قتادة فى الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] قالا: هم أهل الكتاب. وأخرجه ابن أبي حاتم عن أبي العالية رضي الله تعالى عنه (¬1). وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)} [البقرة: 174]. روى ابن جرير عن عكرمة: أنها نزلت في اليهود (¬2). وهي -وإن نزلت فيهم- فإنها وعيد لمن حذا حذوهم في كتمان العلم عند الحاجة إليه. وقد روى الخِلَعي في "فوائده" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا آتَى اللهُ عَالِمًا عِلْمًا إِلاَّ أَخَذَ عَلَيْهِ مِنَ الْمِيْثَاقِ مَا أَخَذَ مِنَ النَبِيِّينَ أَنْ يُبَيِّنَهُ وَلا يَكتُمَهُ" (¬3). وروى أبو نعيم في "فضل العالم العفيف" نحوه من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬4). ¬
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]. روى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنها نزلت في اليهود والنصارى؛ كتموا صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل ونبذوها (¬1). وهذا الميثاق مأخوذ على كل عالم بحكم الله تعالى. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدَّثتكم، وتلا الآية. رواه عبد بن حميد، والثعلبي (¬2). وقال الحسن رحمه الله تعالى: لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدَّثتكم بكثير مما تسألون عنه. رواه ابن سعد (¬3). وقال علي رضي الله تعالى عنه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا. رواه الثعلبي (¬4). وأخرجه الديلمي مرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬
وروى أبو داود، والترمذي وحسَّنه، وابن ماجه، وابن حبَّان في "صحيحه"، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَومَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نَّارٍ" (¬1). وأخرجه ابن النجار في "تاريخه" من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، ولفظه: "ثُمَّ كتَمَهُ" (¬2). وإنما يحرم كتمان العلم إذا كان كتمه لطمع في الدنيا كما تدل عليه هذه الآية، أو إذا سئل عنه سؤال حاجة واستفادة لا سؤال تعنُّت وامتحان، وحينئذ: فالبيان فرض كفاية إن كان في الناحية من يفيد ذلك غيره، وإن لم يكن فيها غيره كان البيان فرض عين عليه، وحرم عليه الكتم حينئذ، إلا إذا كان المسئول عنه مما لا يحتمله عقل السائل، أو كان السائل يريد بما يسأل عنه التوصُّل إلى باطل ليزجر عن السؤال، ومتى ترتب على البيان فتنة أو ضرر على السائل سقط عنه الوجوب. روى ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 187]؛ قال: كتموا وباعوا، ¬
فلا يبدون إلا بثمن (¬1). وروى أبو داود عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَتَمَ عِلْماً يَنْفَعُ اللهُ بِهِ النَّاسَ فِي أَمْرِ الدِّيْنِ أَلْجَمَهُ اللهُ بِلِجَامٍ مِن نارٍ" (¬2). وروى أبو يعلى -ورجاله رجال الصحيح- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ جَاءَ يَومَ القِيَامَةِ مُلْجَماً بِلِجَامٍ مِن نَارٍ" (¬3). وهو عند الإمام أحمد، وأبي داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "أَلجَمَهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نارٍ" (¬4). وعند الطبراني في "الكبير"، والخطيب حديث ابن عباس، وقال: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ ناَفِعٍ" (¬5)؛ أي: في أمر الدين؛ وقع التصريح به في حديث أبي سعيد. وروى الطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" نحو حديث ابن عباس ¬
عن ابن عمرو - رضي الله عنهما -، ورجاله رجال الصحيح (¬1). وروى في "الكبير" بسند ضعيف، عن ابن عباس: أنه حمل حديث: "من كتم علماً" على كتمان الشهادة (¬2)؛ وهو من أخلاق اليهود والنصارى أيضاً. وروى البيهقي عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: انطلِقْ فَأفْتِ الناس وأنا لك عون، فمن جاءك يسألك عما يعنيه فَأَفْتِه، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تُفْتِه؛ فإنَّك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس (¬3). وروى الدارمي عن وهب بن عمرو الجمحي رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَعْجَلُوا بِالبَلِيَّةِ قَبْلَ نزولِهَا، لا يَنْفَكُّ المُسْلِمُونَ فِيْهِم إِذَا هِيَ نزَلَتْ مَنْ إِذَا قَالَ وُفِّقَ وَسُدِّد، وإنِّكم إِنْ تَعْجَلُوهَا تَخْتَلِفْ بِكُمُ الأَهْوَاء, فَتَأخُذُوا هَكَذَا وَهَكَذَا" (¬4). وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ رجلاً سأل عن شيء فقال له: لا تسأل عما لم يكن؛ فإني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يلعن من يسأل عما لم يكن (¬5). ¬
29 - ومنها: تفسير الكتاب بالرأي.
وروى البخاري عن علي - رضي الله عنه - قال: حدِّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله؟ (¬1). ورواه الديلمي مرفوعاً (¬2). وروى ابن عساكر بسند ضعيف، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أَنْتَ مُحَدِّثٌ قَوْماً حَدِيْثاً لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُم إِلَّا كَانَ عَلَى بَعْضِهِم فِتْنَةً" (¬3). 29 - ومنها: تفسير الكتاب بالرأي. قال القرطبي، وغيره في قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]: معناه: يتأولونه على غير تأويل (¬4). قلت: وهذا حاصل التأويل بالرأي، وهو حرام. روى أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن جندب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ فِي القُرآنِ بِرَأيِهِ فَأصَابَ فَقَد أَخْطَأ" (¬5). ¬
30 - ومنها: الأخذ بالرأي مع وجود النص القائم، والقياس الفاسد والإفتاء بذلك.
وروى الترمذي وحسَّنه، وغَيْرُه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ فِي القُرآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" عن عمر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكْثَرُ مَا أتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي مِن بَعْدِيَ رَجُلٌ يَتَأَوَّلُ القُرآنَ يَضَعُهُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ، وَرَجُلٌ يَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ غَيْرِه" (¬2). 30 - ومنها: الأخذ بالرأي مع وجود النص القائم، والقياسُ الفاسد والإفتاء بذلك. روى البزار -بإسناد حسَّنه ابن القطَّان- عن عبد الله بن عمرو (¬3) رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَم يَزَلْ أمْرُ بَنِي إِسْرَائِيْلَ مُعْتَدِلاً حَتَّى بَدَا فِيْهِم أَبْنَاءُ سَبَايَا الأُمَمِ، فَأفْتَوا بِالرَّأْيِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" (¬4). ورواه ابن ماجه، ولفظه: "لَم يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إِسرَائِيلَ مُعْتَدِلاً حتَّى ¬
نَشَأ فِيهِمُ الْمُوَلَّدُوَن وَأبنَاءُ سَبَايَا الأُمَمِ الَّتِي كَانتْ بَنُو إِسرَائيلَ تَسبِيْهَا، فَقَالُوا بِالرَّأيِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" (¬1). وروى البزار -ورجاله رجال الصحيح- والطبراني في "الكبير" عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِيْنَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيْسُونَ الأُمُورَ بِرَأيِهِم، فَيُحِلُّونَ الحَرَامَ ويُحَرِّمُونَ الحَلالَ" (¬2). وقوله: "يقيسون الأمور برأيهم"؛ أي: المجرد من غير دليل يدل عليه كالتخصيص بغير مخصص، كما كانت اليهود تفعل يحممون الزاني من غير أن يرجموه وهو محصن، وإذا سرق فيهم الشريف لا يقطعونه، ويقطعون مَنْ دونه. وروى الشيخ نصر المقدسي رضي الله تعالى عنه في كتاب "الحجَّة" عن الحميدي قال: سأل رجل الشافعي رضي الله تعالى عنه عن مسألة فأفتاه فيها، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا. قال الرجل: أتقول بهذا؟ فقال الشافعي رحمه الله تعالى: أرأيت في وسطي زنَّاراً؟ أرأيتني ¬
31 - ومنها: الجهل بالله تعالى، وبحقائق الأمور.
خرجت من كنيسة؟ يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء ولا أقول به؟ (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" القصة بلفظ آخر (¬2). 31 - ومنها: الجهل بالله تعالى، وبحقائق الأمور. ومن شك في جهل اليهود والنصارى فهو من الجهل على جانب عظيم. ولمَّا كان قول بني إسرائيل لموسى عليه السلام حين قال لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] مبنياً على الجهل {قَالَ} [البقرة: 67] موسى عليه السلام: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]؛ عَرَّض بجهلهم، وصرَّح لهم به حين قالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] كما قال الله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} [الأعراف: 138]. قال في "الكشاف": تعحب من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى، فوصفهم بالجهل المطلق، وأكَّده لأنَّه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع، انتهى (¬3). ¬
وقال الله تعالى بعد ذكر عيسى عليه السلام: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]. فقد فسر بعض العلماء الشك بالجهل. والمختلفون في عيسى عليه السلام اليهود والنصارى معاً؛ فإنه عليه السلام لما ألقي شبهه على رجل من اليهود أو من غيرهم على الروايتين، ورفع اختلف اليهود فيه، فمنهم من قال: قتلنا عيسى. ومنهم من قال: إن كنتم قتلتم عيسى فأين صاحبكم؟ ومنهم من قال: الوجه وجه عيسى، والبدن بدن صاحبكم. واختلف فيه النصارى فقالوا: المصلوب ناسوت عيسى، وأما لاهوته فرفع. وقال بعضهم غير ذلك. فالوصف بالجهل وقع على الطائفتين قبحهما الله تعالى. قال الدميري في "حياة الحيوان": ولله درُّ أبي منصور موهوب الجواليقي إمام المقتفي لما دخل عليه أول دخلة قال: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال له الطبيب هبة الله بن صاعد ابن التلميذ النصراني: ما هكذا يُسلم على أمير المؤمنين يا شيخ. فلم يلتفت إليه ابن الجواليقي، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين! سلامي ما جاءت به السنة النبوية.
وروى له خبراً في صورة السلام، ثم قال له: يا أمير المؤمنين! لو حلف حالف أن يهودياً أو نصرانياً لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه المعتبر لما لزمته كفارة الحنث؛ لأن الله تعالى ختم على قلوبهم، ولن يفك ختمه إلا الإيمان. فقال: صدقت وأحسنت. فكأنما ألقم ابن التلميذ بحجر (¬1). وفي "الكشاف": عن علي - رضي الله عنه -: أن يهودياً قال له: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه. قال: قلتم: اجعل لنا إلها، ولمَّا تجف أقلامكم (¬2). وهذا أورده علي رضي الله تعالى عنه على وجه الجدل تبكيتاً بإليهود، ومقابلة له بمثل ما اعترض به، وليس فيه تسليم لاعتراضه؛ فإنَّ اختلاف هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - رحمة، ومنشأه العلم المقتضي للاهتمام بأمر الخلافة ونحوها من أمور الدين ليقع على السداد. وأمَّا قول بني إسرائيل: يا موسى اجعل لنا إلهًا وأقلامهم لم تجف من حوض البحر المفروق لهم، وقد شاهدوا انطباق البحر عقبهم على أعدائهم لم يبق بعده من الجهل شيء. هذا ونبيهم بين ظهرانيهم. ¬
فائدة
وأمَّا اختلاف هذه الأمة فما كان إلا بعد نبيهم، ما كان إلا في طلب الحق، كل منهم مجتهد في طلبه، وهم مجمعون على اعتقاد التوحيد والإخلاص والصدق. * فائِدَةٌ: روى أبو نعيم في "الحلية" عن محمد بن منصور الطوسي رحمه الله تعالى قال: ست خصال يُعرف بها الجاهل: الغضب في غير شيء، والكلام في غير نفع، والعظمة (¬1) في غير موضعها، وإفشاء السر، والثقة بكل أحد، ولا يعرف صديقه من عدوه (¬2). وقد قلت في عقد ذلك: [من السريع] عَلامَةُ الْجاهِلِ سِتٌّ بِها ... تُمَيِّزُ الْجاهِلَ مِنْ عاقِلِ كَلامُهُ فِي غَيْرِ نَفْعٍ كَما ... يَغْضَبُ لا عَنْ مُوجِبٍ حاصِلِ أَسْرارُهُ تُفْشَى لَهُ مَؤْثِقٌ ... بِمَنْ يَرى فِي النَّائِبِ النَّازِلِ وَلا صَدِيْقاً مِنْ عَدُوٍّ دَرى ... فَلا تَسَلْ عَنْ حالِهِ الْحائِلِ تَعاظَمَ يَبْدُو عَلَى نَفْسِهِ ... فِي مَوْضعٍ لَمْ يَكُ بِالْقابِلِ وسيأتي فصل مستقل في النهي عن التشبه بالجاهلين. ¬
32 - ومن أعمال اليهود والنصارى: خوض الإنسان فيما لا يعلم،
32 - ومن أعمال اليهود والنصارى: خوض الإنسان فيما لا يعلم، وإفتاء الناس بغير علم، وأخذ العلم عن العوام الذين لا يضبطون. ومن هذا القبيل رواية الناس الحديث، وتفسير القرآن العظيم ما لم يأخذه عن من يوثق به من العلماء، وهو موثوق بحفظه وضبطه. قال الله تعالى في بني إسرائيل: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)} [البقرة: 78]. وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113]. قال مجاهد: يعني: عوام النصارى (¬1). وروى الشيخان عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنتزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إذا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً، فَأفْتَوا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" (¬2). وروى الإمام أحمد، والطبراني -وإسناده حسن- عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في حجة الوداعِ فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ! خُذُوا مِنَ العِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ العِلْمُ، وَقَبْلَ أَنْ يُرْفَع". قالوا: يا رسول الله! كيف يرفع العلم منا وبين أيدينا المصاحف، ¬
33 - ومنها: تعلم العلم للدنيا، وأخذ العوض على العلم،
وقد تعلمنا ما فيها، وعلمنا بها نساءنا وذرارينا؟ قال: فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه وقد علت وجهه حمرة من الغضب، فقال: "أَي ثَكِلَتْكُم أُمُّكُم! وَهَذه اليَهُودُ وَالنَّصَارَى بَيْنَ أَظْهُرِهِمُ الْمَصَاحِفُ لَمْ يُصْبِحُوا يَتَعَلَّقُونَ مِنهَا بِحَرْفٍ مَا جَاءَتْهُم بِهِ أَنْبِيَاؤُهُم، أَلا وَإِنَّ ذَهَابَ العِلْمِ ذَهَابُ حَمَلَتِه -ثلاث مرات-" (¬1). 33 - ومنها: تعلم العلم للدنيا، وأخذ العوض على العلم، وإظهار الزهد والنسك مصاداً للدنيا، وحيلة على تحصيلها. قال الله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] إلى قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 40 - 41]. قال أبو العالية رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41]: لا تأخذوا عليه أجراً. قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم! علِّم مجاناً كما عُلِّمت مجاناً (¬2). ¬
وفي رواية قال: لا تأخذوا على ما علَّمتم أجراً؛ فإنما أجر العلماء والحكماء على الله، وهم يجدونه عندهم. يا ابن آدم! علم مجاناً كما علِّمت مجاناً (¬1). رواه ابن جرير باللفظ الأول، وأبو الشيخ باللفظ الثاني. ومن هنا كره أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وغيرُه أخذ الأجرة على تعليم القرآن. وذهب مالك، والشافعي، وأحمد رضي الله تعالى عنهم إلى جوازه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الصحيحين: "إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُم عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ" (¬2) (¬3). وأجيب عن احتجاج الأولين بالآية بأنها في بني إسرائيل. أو المراد يأخذ الرشوة على الحكم، أو على كتم العلم ميلاً إلى الدنيا، أو عن المحتاج إليه ليبذل الدنيا. وكل ذلك مما لا يشك في تحريمه، وعليه تحمل سائر النصوص الواردة في ذلك كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} إلى قوله تعالى: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ¬
فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] والاشتراء في هذه الآية والتي قبلها بمعنى الاستبدال؛ لأن الباء في الشراء إنما تدخل على المأخوذ الذي هو الثمن، اللهم إلا أن نقدر ذا ثمن قليل، فيكون الشراء على أصل استعماله. وقال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الأعراف: 169]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة: 34]. وسبق أن الأحبار العلماء والرهبان العباد، وإنما قدم الأحبار لأنهم قادة، فالرهبان يبنون على ما يبني عليه الأحبار. قيل: كانوا يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضاً باسم الكنائس والبيع، وغير ذلك ما يوهمونهم أن النفقة فيه لله تعالى، والأمر خلاف ذلك (¬1). والمتشبهون بهم ممن ينسب إلى العلم والتصوف من هذه الأمة كثيرون. قال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: من فسد من علمائنا كان فيه شَبَهٌ من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا كان فيه شبه بالنصارى (¬2). ¬
وروى ابن جهضم رحمه الله تعالى عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إنما هما عالمان: عالم دنيا، وعالم أُخْرَى؛ فعالم الدنيا علمه منشور، وعالم الآخرة علمه مستور؛ فاتبعوا عالم الآخرة واحذروا عالم الدنيا، لا يصدكم سكره. ثم تلا: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، قال: والأحبار: العلماء، والرهبان: الزهَّاد (¬1). وروى أبو الشيخ عن الضحاك في قوله: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ} [التوبة: 34]، قال: يعني: علماء اليهود، {وَالرُّهْبَانِ} [التوبة: 34]؛ يعني: علماء النصارى {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة: 34]؛ قال: الباطل، كتبٌ كتبوها لم ينزلها الله تعالى، فأكلوا بها الناس (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: كان في بني إسرائيل رجال أحداث الأسنان، مغمورون فيهم، قد قرأوا الكتاب، وعَلموا علماً، وإنهم طلبوا بقراءتهم الشرف والمال، وإنهم ابتدعوا بدعاً أخذوا بها الشرف والمال في الدنيا، فضلوا وأضلوا (¬3). وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن عمران الكوفي ¬
رضي الله تعالى عنه قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام للحواريين: لا تأخذوا ممن تعلمون [من الأجر] إلا مثل الذي أعطيتموني. ويا مِلْحَ الأرض لا تفسدوا؛ فإن كل شيء إذا فسد فإنما يداوى بالملح، وإن الملح إذا فسد فليس له دواء. واعلموا أن فيكم خصلتين من الجهل: الضحك من غير عجب، والصبحة من غير سهر (¬1). وقلت مشيراً إلى هاتين الخصلتين في علامة جهل العالم من وزن الأبيات المتقدمة، وقافيتها: [من السريع] يا عَجَباً لِلْعالِمِ الْجاهِلِ ... يَضْحَكُ لا عَنْ عَجَبٍ نازِلِ يَنامُ فِي الصُّبْحَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ ... يَسْهَرَ بِاللَّيْلِ عَلى طائِلِ تَعُجُّ أَرْضُ اللهِ مِنْ عالِمٍ ... يَنامُ بَعْدَ الصُّبْحِ يا سائِلِي وأشرت بالبيت الأخير إلى ما ذكره الإمام محيي السنة أبو محمد البغوي في "شرح السنة"، ونقله عنه النووي في "الأذكار" عن علقمة ابن قيس رحمه الله تعالى قال: بلغنا أن الأرض تعج إلى الله تعالى من نومة العالم بعد صلاة الصبح (¬2). ¬
لطيفة
* لَطِيْفَةٌ: روى الإمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: لما بعث عيسى بن مريم عليهما السلام كبَّ الدنيا على وجهها، فلما قبض عيسى عليه السلام رفعها الناس بعده (¬1). يعني: بعد زمان من رفعه، فلا ينافي هذا أن يكون منهم من بقي بعد موته على ما هو عليه. روى البزار بإسناد جيد، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "لَقَدْ قُبِضَ داوُدُ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ فَمَا فُتِنُوا وَمَا بَدَّلُوا، وَلَقَدْ مَكَثَ أَصْحَابُ المَسِيْحِ عَلَى هَدْيِهِ وَسَنَنِهِ مئَتَي سَنَة" (¬2). وفي معنى كلام مالك بن دينار: ما رواه ابن أبي الدنيا عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: قال عيسى عليه السلام: بطحت لكم الدنيا، وجلست على ظهرها، فلا ينازعكم فيها إلا الملوك والنِّساء؛ فأما الملوك فلا تنازعوهم الدنيا فإنهم لم يعرضوا ¬
لطيفة أخرى
لكم، وأما النساء فالقوهنَّ بالصوم والنِّساء (¬1) (¬2). * لَطِيْفَةٌ أُخْرى: روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد"، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن خالد (¬3) بن حوشب قال: قال عيسى عليه السلام للحواريين: كما ترك لكم الملوك الحكمة فدعوا لهم الدنيا (¬4). وروى ابن أبي الدنيا، والبيهقي في "الزهد" عن زكريا بن عدي رحمه الله تعالى قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام للحواريين: يا معشر الحواريين! ارضوا بدنيء الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدنيء الدين مع سلامة الدنيا (¬5). وفي معناه ما روي عن خلف بن تميم قال: سمعت إبراهيم بن أدهم: [من البسيط] ¬
أَرى أُناساً بِأدْنىَ الدِّينِ قَدْ قَنِعُوا ... وَلا أَراهُمْ رَضُوا فِي الْعَيْشِ بِالدُّونِ فَاسْتَغْنِ بِاللهِ عَنْ دنْيَا الْمُلُوكِ كَمَا اسْـ ... تَغْنَى الْمُلُوكُ بِدُنْياهُمْ عَنِ الدِّيْنِ (¬1) وهذا مطلوب من كل الناس، وأحق الناس به العلماء لأنهم شُرِّفوا بالعلم ورُفعوا به، فلا ينبغي لهم التنزل إلى حضيض الدنيا، ولأنهم قادة الناس، فإذا رغبوا في الدنيا حسب الناس أن رغبتهم فيها لشرفها أو فضلها فيرغبون، ولذلك كانت أصل موعظة عيسى عليه السلام في ذلك للحواريين، وهم وجوه الناس وعلماؤهم. ومن ألطف ما يناسب ما هنا: ما رواه ابن عساكر عن محمد بن عبد الله البعلبكي قال: سمعت عن محمد بن يزيد يقول: كنت مع ابن المبارك ببغداد إذ رأى إسماعيل بن عُليَّة راكباً بغلة له على باب السلطان، فأنشأ يقول: [من السريع] يا جاعِلَ الْعِلْمِ لَهُ بازِياً ... يَصْطادُ أَمْوالَ السَّلاطِيْنِ لا تَبعِ الدِّينَ بِدُنْيا كَما ... تَفْعَلُ ضُلاَّلُ الرَّهابِيْنِ ¬
تنبيه
احْتَلْتَ لِلدُّنْيا وَلَذَّاتِها ... بِحِيْلَةٍ تَذْهَبُ بِالدِّيْنِ وَعُدْتَ مَجْنُوناً بِها بَعْدَ ما ... كُنْتَ دَواءً لِلْمَجانِيْنِ تَفَكَّرَ النَّاسُ جَمِيْعاً بِأَنْ ... زَلَّ حِمارُ الْعِلْمِ فِي الطيْنِ (¬1) * تَنْبِيْهٌ: إنما طلب أحبار يهود ورهبان النصارى الدنيا ليسودوا بها، فدخلوا في طلبها كل مدخل حتى تجاوزوا الحق إلى الباطل، فنودي عليهم في كتاب الله تعالى بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]. ولو تركوها بغضاً لها وإعراضًا عنها لسادوا بتركها، وعزوا برفضها لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فطالبها أحقر الطالبين همة، وأرذلهم طريقة. دخل محمد بن علقمة على عبد الملك بن مروان فقال له: من ¬
سيد الناس بالبصرة؟ قال: الحسن. قال: مولى أم عربي؟ قال: مولى. قال: ثكلتك أمك، مولى سادَ العرب؟ قال: نعم. قال: بم؟ قال: استغنى عما في أيدينا من الدنيا، وافتقرنا إلى ما عنده من العلم. قال: صفه لي. قال: آخذ الناس بما أُمر به، وأتركهم لما نُهي عنه. ذكره ابن حمدون في "تذكرته" (¬1). ثم قال: وروي أن بدوياً قدم البصرة فقال لخالد بن صفوان: أخبرني عن سيد هذا المِصْر؟ قال: هو الحسن بن الحسن. قال: عربي أم مولى؟ قال: مولى. قال: وبم سادهم؟ ¬
34 - ومن أخلاق أهل الكتابين: ترك العمل بالعلم.
قال: احتاجوا إليه في دينهم، واستغنى عن دنياهم. قال البدوي: كفى بهذا سؤدداً (¬1). 34 - ومن أخلاق أهل الكتابين: ترك العمل بالعلم. قال الله تعالى في خطاب بني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة: 44]. روى ابن ماجه عن زياد بن لبيد رضي الله تعالى عنه قال: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فقال: "ذَلِكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ العِلْمِ". قلت: يا رسول اللهِ! وكيف يذهب العلم ونحنُ نقرأُ القرآنَ ونقرئه أَبناءنا وتقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يومِ القيامة؟ فقال: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ زِيادُ! إِنْ كُنْتُ لأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالمَدِيْنَةِ، أَوَلَيْسَ هَذه اليَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَؤُونَ التَّورَاةَ وَالإِنْجِيلَ لا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيْهَا؟ " (¬2). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن محمد بن واسع رحمه الله تعالى قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: أعيذكم بالله أن تكونوا عاراً على أهل الكتاب، يا بني إسرائيل! قولكم شفاء يذهب بالداء، وأعمالكم لا تقبل الشفاء (¬1). وعن سفيان رحمه الله تعالى قال: قال عيسى عليه السلام: إني ليس أحدثكم لتعجبوا، إنما أحدثكم لتعملوا (¬2). وعن زياد بن أبي عمرو قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال: إنه ليس بنافعك أن تعلم بما لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت، إن كثرة العلم لا تزيد العالم إلا كبراً إذا لم يعمل به (¬3). وروى هو والبيهقي عن عبد العزيز بن ظبيان رحمه الله تعالى قال: قال المسيح عليه السلام: من علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماء (¬4). وعن هشام الدستوائي: أن في حكمة عيسى عليه السلام: ويحكم علماء السوء! الأجر تأخذون، والعمل تضعون، توشكون أن تخرجوا من الدنيا إلى ظلمة القبر وضيقه (¬5). ¬
تنبيه
وروى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، والبزار، وابن أبي داود في "البعث"، وابن حبان في "صحيحه"، وأبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "الشعب"، وغيرهم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالاً تُقْرَضُ شِفَاهُهُم بِمَقَاريضَ مِن نَّارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قالَ: هَؤلاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، كَانوُا يَأمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُم وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلا يَعْقِلُون" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب رحمه الله تعالى: أنه كان يحدث: أن الرب تعالى قال لبني إسرائيل: تفقهون لغير الدين، وتعلمون لغير العمل، وتبتغون الدنيا بعمل الآخرة، تلبسون مُسُوك الضأن، وتخفون أنفس الذئاب، وتنفون القذا من شرابكم، وتبلعون أمثال الجبال من المحارم، وتثقلون الدين على الناس أمثال الجبال، ولا تعينوهم برفع الخناصر، تبيضون الثياب، وتطيلون الصلاة، تنقصون بذلك مال اليتيم والأرملة، فبعزتي حلفت لأضربنكم بفتنة يضل (¬2) فيها رأي ذي الرأي، وحكمة الحكيم (¬3). * تَنْبِيْهٌ: وروى الدينوري في "المجالسة" عن الشعبي رحمه الله تعالى قال: ¬
35 - ومنها: التكبر بالعلم، ودعوى الاستغناء عن علم الغير.
شرار أهل كل دين علماؤهم إلا المسلمين (¬1). 35 - ومنها: التكبر بالعلم، ودعوى الاستغناء عن علم الغير. قال الله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88]. روى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: مملوءة علماً لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره. وقال عطية: أوعية للحكمة (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي قلابة رحمه الله تعالى: أنه قيل للقمان: أي الناس أعلم؟ قال: من يزداد من علم الناس إلى علمه (¬3). * تَنْبِيْهٌ: سبب كبر العلماء بالعلم أمران: الأول: أن يكون اشتغال العالم بغير العلم النافع، وهو ما تورثه الخشية. والثاني: أن يخوض في العلم وهو خبيث الدخلة، رديء النفس، سئ الأخلاق. ¬
36 - ومنها: الاختلاف في الدين هوى، والجدال فيه، والابتداع.
وعليه أولاً أن يبدأ في تعلم ما يهذب أخلاقه، ويزكي نفسه؛ فإن بقي على خبث جوهره وخاض في أي علم كان صادف العلم من قلبه منزلاً خبيثاً، فلم يَطِبْ ثمره، ولم يظهر في الخير أثره كما نبه على ذلك حجة الإسلام في "الإحياء" قال: وقد ضرب وهب لهذا مثلاً فقال: العلم كالغيث ينزل من السماء حلواً صافياً، فتشربه الأشجار بعروقها، فتحوله على قدر طعومها، فيزداد المُرُّ مرارة، والحلو حلاوة، فكذلك العلم يحفظه الرجال فتحوله على قدر همتها وأهوائها، فيزيد المتكبر كبراً، والمتواضع تواضعاً؛ فإن من كانت همته الكبر وهو جاهل، فإذا حفظ العلم وجد ما يتكبر به، فازداد كبراً، وإذا كان خائفاً مع جهله، فازداد علما، علم أن الحجة تأكدت عليه، فيزداد خوفاً وتواضعاً. قال حجة الإسلام: ما أعرف على بسيط الأرض عالماً يستحق أن يقال: إنه عالم لا يحركه عز العلم وخيلاؤه، فإن وجد ذلك فهو صديق زمانه، فلا ينبغي أن يفارق (¬1). 36 - ومنها: الاختلاف في الدين هوى، والجدال فيه، والابتداع. قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]. وهم اليهود والنصارى كما تقدم. وقال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ ¬
فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] إشارة إلى مجادلة اليهود ونصارى نجران في إبراهيم عليه السلام. وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في الآية: حبل الله الجماعة. أخرجه ابن جرير، والطبراني، وغيرهما (¬1). وقال: أيها الناس! عليكم بالطاعة والجماعة؛ فإنها حبل الله الذي أمر به. أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬2). وروى الإمام أحمد، وأبو داود عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِن أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي ديْنِهِم عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِيْنَ مِلَّةً - يعني: الأهواء - كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَة، وَهِيَ الجَمَاعَة". قالَ: "وَيخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تتَجَارَى الأَهْوَاءُ بِهِم كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ، فَلا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مِفْصَلٌ إِلا دَخَلَهُ" (¬3). ¬
والكَلَب -بفتحتين-: داء يصيب الكلاب، وهو جنونها الذي يعتريها من أكل لحم الإنسان، وداء يعتري الإنسان من عضة الكلب الكَلَب يشبه جنون الكلاب. وروى ابن مردويه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ادْخُلُوا عَلَيَّ، وَلا يَدْخُلْ عَلَيَّ إِلاَّ قُرَيْش". فقال: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْش! أَنْتُمُ الوُلاةُ بَعْدِي لِهَذَا الدِّين؛ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتم مُسْلِمُونَ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] , {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] , {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5] (¬1). وروى اللالكائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أمر الله تعالى المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم بما هلك به من كان قبلهم بالمِراء والخصومات (¬2). وعن الحسن رضي الله تعالى عنه قال: أهل الأهواء بمنزلة اليهود والنصارى (¬3). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد", واللالكائي عن خالد بن ثابت الربعي رحمه الله تعالى قال: بلغني أنه كان في بني إسرائيل رجل شاب قد قرأ الكتاب، وعلم علماً، وكان مغموزاً (¬1) فيهم، وأنه طلب بعلمه وقراءته الشرف والمال، وأنه ابتدع بدعاً فأدرك الشرف والمال في الدنيا، ولبث كذلك حتى بلغ سناً، وأنه بينما هو نائم ليلة على فراشه إذ تفكر في نفسه فقال: هؤلاء الناس لا يعلمون ما ابتدعت، أليس الله عز وجل قد علم ما ابتدعت، وقد اقترب الأجل، فلو أني تبت. قال: فبلغ من اجتهاده في التوبة أن عمد فخرق ترقوته وجعل فيها سلسلة، ثم أوثقها آسية من أواسي المسجد -أي: سارية من سواريه- قال: لا أبرح مكاني هذا حتى ينزل الله تعالى فيَّ توبة، أو أموت موت الدنيا. قال: وكان لا يستنكر الوحي في بني إسرائيل. فأوحى الله في شأنه إلى نبي من أنبيائهم: إنك لو كنت أصبت ذنباً بيني وبينك لتبت عليك بالغاً ما بلغ، ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فماتوا فأدخلتهم جهنم، فلا أتوب عليك. قال عوف: حسبته قال: يقال: إن اسمه بَرسيا -بفتح الموحدة، وإسكان الراء، وكسر السين المهملة، وتشديد المثناة تحت- (¬2). ¬
37 - ومنها: كثرة السؤال شكا أو تشكيكا، أو تعنتا، أو امتحانا.
قلت: وكأن هذا من جملة التشديدات التي كانت على بني إسرائيل. وأمَّا في هذه الشريعة فإن توبة المبتدع مقبولة. 37 - ومنها: كثرة السؤال شكاً أو تشكيكاً، أو تعنتاً، أو امتحاناً. قال الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 108]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] الآيات. وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتْرُكُونِي مَا تَرَكتُمْ، فَإِذَا حَدَّثتكُم فَخُذُوا عَنِّي؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِم، وَاخْتِلافِهِم عَلَى أَنْبِيَائِهِم". وأصله في "الصحيح" (¬1). وهذا الحديث، ونظائره محمول على زمانه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنهم كانوا لا يزالون يسألونه عن الشيء وهو حلال حتى يحرم عليهم، كما ورد في الحديث. وأما بعد زمانه فإنما يكره من كثرة السؤال ما يفضي بالمسؤول إلى الملل والتبرُّم، أو ما كان على سبيل التعنت والتغليط، أو العبث. ¬
38 - ومنها: اقتناء الكتب، وحملها، وجمعها والاهتمام بتحسينها وتحليتها، والمغالاة فيها.
وقد تقدم حديث النهي عن الأغلوطات، وهي معضلات المسائل. وفي "الصحيحين": عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُم عُقُوْقَ الأُمهَاتِ، وَوَأدَ البَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُم قِيْلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ" (¬1). 38 - ومنها: اقتناء الكتب، وحملها، وجمعها والاهتمام بتحسينها وتَحْلِيَتِها، والمغالاة فيها. وهو في ذلك عارٍ مما فيها، أجنبي منه، غير متضلع من علومها، أو تعلمها وتعليمها، مُعْرِضٌ عن العمل بها، ومخالف لما فيها. وعلى ذلك حمل قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} [الجمعة: 5]. وهذه الآية في اليهود كما رواه عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس، ولم يخالفه في ذلك غيره (¬2). وقوله: {يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، قال مجاهد: كتباً لا يعلم ما فيها، ولا يعقلها. وقال الضحاك: كتباً لا يدري ما فيها، ولا يدري ما هي. فضرب الله تعالى بهذه الآية معنى المثل لتتعظ هذه الأمة؛ أي: ¬
39 - ومنها: أخذ العلم من الكتب، والاعتماد على الكتاب دون الرواية وحسن الروية.
وأنتم إن لم تعملوا بهذا الكتاب كان مثلكم كمثلهم. وقال ابن جريج في قوله: {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5]: أمرهم أن يأخذوا بما فيها فلم يعملوا به. أخرج هذه الآثار ابن المنذر (¬1). 39 - ومنها: أخذ العلم من الكتب، والاعتماد على الكتاب دون الرواية وحسن الروية. وقد روي في الأخبار: من وصف هذه الأمة: أناجيلهم في صدورهم (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَتبُوا كِتَابًا فَاتَّبَعُوهُ، وَتَرَكُوا التَّوْرَاةَ" (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين قال: إنما ضلت بنو إسرائيل بكتب وَرِثوها عن آبائهم (¬4). ¬
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أتي بصحيفة فيها حديث، فدعا بماء فمحاها، ثم غسلها، ثم أمر بها فأحرقت، ثم قال: بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (¬1). وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: كنا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج علينا فقال: "مَا هَذَا تَكْتبوْنَ؟ " فقلنا: ما نسمع منك. فقال: "أَكِتَابٌ مَعَ كِتَابِ اللهِ؟ امْحَضُوا كِتَابَ اللهِ وَأخْلِصُوا" (¬2). واعلم أن كتابة العلم وتقييده مما استقر عليه أمر المسلمين بحيث صار إجماعاً، وإنما نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة ما يسمعونه منه أولاً حذراً أن يخلط ما ليس بالقرآن به كما في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، ثم أذن في الكتابة بعد. وأما ما كان عليه جماعة من الصدر الأول من النهي عن كتابة الحديث، فإنما كان حذراً من الاتكال على الخط، وعدم الاجتهاد في حفظ العلم حتى قيل: ¬
ما الْعِلْمُ إِلاَّ ما وَعاهُ الصَّدْرُ ... وَلَيْسَ بِالَّذِي حَوى الْقِمَطْرُ وبالجملة فإذا تثبت الكاتب، ولم يكتب إلا ما صح الأخذ به من الكتاب والسنة، فهذا مثاب على كتابته -سواء كان ناسخاً، أو مصنفاً إذا كان فيه أهلية لذلك- وهي مما مدحت به هذه الأمة حتى قال القاضي أبو بكر بن العربي في "المعارف" (¬1): ولم يكن قط في الأمم من انتهى إلى حد هذه الأمة من التصرف في التصنيف والتحقيق. ثم ما كان بعد زمانه من ذلك لا شك أنه أوسع وأكثر مما رآه أو سمع به. ولقد جاء بعده أمم من العلماء اتسعت تصرفاتهم، وانتشرت تصنيفاتهم وتأليفاتهم. وقرأت بخط الشيخ برهان الدين بن جماعة ما قرأه بخط صاحبه الشيخ أبي عبد الله محمد بن مرزوق التلمساني قال: سئل شيخنا الإمام أبو عبد الله التلمساني الآبلي عن كثرة تصانيف هذه الأمة واشتغالها بالتآليف، فقال: هذا من فوائد تحريم الخمر عليها، انتهى. قلت: ووجهه أن شارب الخمر يصرف مدة من الزمان في الشرب والطرب، وتذهب عليه مدة في السكر والغيبة، فمن كان عالماً توفرت ¬
عليه هذه الأوقات إذا لم يلعب به الهوى، فتكون مصروفة في الجمع والتأليف، والترتيب والتصنيف إن وفقه الله تعالى لذلك. وأيضاً فإن الخمر مضرة بالعقول، والتصنيف يحتاج إلى عقل رصين، وقد سلمت علماء هذه الأمة إلا من ضربه الله تعالى بسوط الخذلان حتى مده في الغي الشيطان؛ نسأل الله العافية فيما بقي، ونحمده عليها فيما مضى. وكتابة العلم وتصنيفه في الكتب مما عليه إجماع الأمة، وهو من أعظم أدلة الدين، وفي الكتاب والسنة ما يؤيد هذا الإجماع الرصين. قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} [الأحقاف: 4]. روى الإمام أحمد -ورجاله رجال الصحيح- والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4] قال: "الْخَطُّ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط"، ولفظه: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه سئل عن الخط فقال: "هُوَ أثَارةٌ مِنْ عِلْمٍ" (¬2). ¬
وروى الحاكم في "المستدرك" عن ابن عباس موقوفاً (¬1) في قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4] فقال: جودة خط (¬2). وهذا الأثر، وقد أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: "حُسْنُ الخَطِّ" (¬3). يشير إلى أن المراد بالخط الكتابة، ولا تكرار عليه لأنه أراد بقول: بكتاب: ما نزاع، وبأثارة: ما قيد به العلم. وقيل: أراد به التنجيم، وخط الرمل. والأثارة -بفتح الهمزة-: من مادة: أث ر، وهي والأُثرة - بالضم -: بقية العلم. وقد روى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنه قال في قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4]: بينة من الأمر (¬4). وهي شاملة للعلم المكتوب. والمعنى والله سبحانه أعلم: ائتوني بكتاب منزل على نبي من ¬
قبل هذا القرآن، أو بخط جيد ثابت عن من يؤخذ عنهم الدين إن كنتم صادقين. ففي ذلك إشارة إلى الاحتجاج بالخط، ومعنى جودته، وحسن ضبطه، والتثبت فيه، ومن ثم اعتبر المحدثون الكتابة، والوِجادة، ومناولة الكتب كما هو مقرر في محله. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. فأمر بكتابة الدَّين حفظاً له من الضياع، فكتابة العلم تقييداً له أولى. وروى ابن أبي شيبة، وأبو داود عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: كنت كتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتكلم في الرضا والغضب؟ قال: فأمسكت، وذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأشار بيده إلى فِيْهِ فقال: "اُكْتُبْ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ مَا يَخْرُجُ مِنِّي إِلاَّ حَقٌّ" (¬1). وروى الإمام أحمد -وأصله في الصحيح- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب بيده ويعيه بقلبه، وكنت أعيه ¬
بقلبي ولا أكتب بيدي، واسْتَأْذَنَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الكتابة فأذن له (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اِستَعِنْ بِيَمِيْنِكَ عَلَى حِفْظِكَ" (¬2). وفيه إيماء إلى أن الكتابة تكون باليمين، وهي مكروهة بالشمال. وروى ابن أبي شيبة، والدارميُّ، والحاكم وصححه، عن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قَيِّدوا العلم بالكتاب (¬3). وروى الطبراني -ورجاله رجال الصحيح- عن ثُمامة قال: قال لنا أنس رضي الله تعالى عنه: قيدوا العلم بالكتاب (¬4). وروى ابن أبي شيبة عن مسلمة (¬5)، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬6). ¬
تنبيه
ورواه الطبراني في "الكبير"، والحاكم في "المستدرك"، والدارقطني في "الأفراد"، والخطيب في كتاب "تقييد العلم" عن عبد الله بن عمرو، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، والخطيب عن أنس؛ كلاهما مرفوعًا قالا رضي الله تعالى عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَيِّدُوا العِلْمَ بِالْكِتابِ" (¬1). ورُوي أيضًا من حديث أبي بريدة، وابن عمر، وغيرهما رضي الله تعالى عنهم (¬2). * تنبِيْهٌ: روى الخطيب في كتاب "شرف أصحاب الحديث" عن البيهقي أنَّه قال: بلغني أن الله تعالى خصَّ هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب (¬3). وعن محمد بن حاتم بن المظفر قال: إن الله تعالى أكرم هذه الأمة، وشرَّفها، وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمهم وحديثهم ¬
إسنادٌ، وإنما هي صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارَهم، وليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل مما جاءهم به أنبياؤهم، ولا تمييز ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوها عن غير الثقات. قال: وهذه الأمة إنما تنص الحديث من الثقة المعروف في زمانه، المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثمَّ يبحثون إليه البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط (¬1). قلت: وعلم الحديث على ما هو مبين في كتبه مفقود منذ ذهب شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر العسقلاني وأقرانه، ثمَّ خلفهم جماعة قليلون كانوا على بقية منه كالبقاعي، والسخاوي، وأبي نبهان، وأبي الفتح المزني، وابن الشويخ، والقلقشندي، والبرهان الناجي، والفخر الإيجي، والحافظ الجلال السيوطي، والتقي الأوجاقي، وآخرهم القاضي زكريا الأنصاري، فكان على بقية مما ترك أصحاب الحديث، ثمَّ غلب على جماعة القاضي زكريا علم الفقه، ولم ينبل منهم في الحديث إلا شيخ الإسلام والدي بالشام، وشيخ الإسلام نجم الدين الغيطي بمصر مع براعتهما في غيره، ثمَّ انتهى أمر علم الحديث بعد والدي رحمه الله تعالى؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون. ¬
40 - ومن أعمال بني إسرائيل، ومن بعدهم: القصص.
وليس من روى الأحاديث على منابر الوعظ، وعقد حلقة للتدريس في كتاب من الحديث بمحدِّثٍ حتى يتصف بما ذكروه في وصف المحدث فضلًا عن أن يكون حافظًا، فالمقصود من كل من وفقه الله تعالى فنظر في أحوال نفسه، ورام تكميلها أن يلتفت إلى إحياء ما أمكنه مما درس من علم الحديث، ولا أقل من أن يعتني برواية كتبه التي قرأها على شيخه، ولا سيما ما حفظه من المسائل والفوائد والتعليقات؛ فإن الأسانيد أنساب الكتب كما قالوا في آداب المتعلم. والمقصود الأعظم من ذلك أن لا تنقطع هذه الخصوصية من هذه الأمة المحمدية، وتصان الأخبار والآثار عن الانقطاع والاندثار. وإذا اعتنى بالرواية فلا بد من التثبت فيها، وإلا هلك وأهلك، كما في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "هَلاكُ أُمَّتِي في ثَلاثٍ: في القَدَرِيِّةِ، والعَصَبِيَّةِ، والرِّوايَةِ مِنْ غير تَثَبُّتٍ. رواه البزار عن ابن عباس، والطبراني عن أبي قتادة - رضي الله عنه - (¬1). 40 - ومن أعمال بني إسرائيل، ومن بعدهم: القصص. روى الطبراني -ورجاله موثقون- عن خباب رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ بَنِي إِسْرائِيْلَ لَمَّا هَلَكُوا قَصُّوا" (¬2). ¬
وإنما أنكر القصص من أنكره من السلف وذمه لأمور
وقد وردت أحاديث وآثار تدل على ذم القصص، حتى قال إبراهيم النخعي: الحمد لله الذي لم يجعلنا ممن يذهب إلى قاصٍّ، ولا إلى بيعة، ولا إلى كنيسة. رواه أبو الفرج بن الجوزي في كتاب "القصاص والمذكرين" (¬1). وقال أبو إدريس الخولاني رحمه الله تعالى: لأنَّ أرى في ناحية المسجد نارًا تأجج أحب إلى من أن أرى في ناحيته قاصًا يقص (¬2). وإنما أنكر القصص من أنكره من السلف وذمَّه لأمور: أحدها: أنَّه يشغل عما هو أهم منه من تعلم القرآن وتلاوته، ورواية الحديث، والتفقه في الدين. الثاني: أن في القرآن والسنة من الموعظة ما يغني عما سواه. الثالث: أنهم لما رأوا القُصَّاص لا يتحرَّون الصواب، ولا يتحرَّزون من الخطأ أنكروه. ولفظ أثر أبي إدريس في رواية أبي نعيم في "الحلية": لأنَّ أرى في ناحية المسجد نارًا تَقِدُ أحب إلي من أن أرى فيها رجلًا يقص ليس بفقيه (¬3). الرابع: أن القصاص لا يجتمع عليهم في الغالب إلا العوام، فربما ¬
أدخل الواحد منهم في قصصه ما يفسد قلوبهم. الخامس: أن القصاص ربما حملوا عن أهل الكتاب في حق الأنبياء عليهم السلام ما هم منزهون عنه كما يذكر في قصة يوسف من المحالات. السادس: أنهم ربما رغبوا في استمالة قلوب الناس إليهم فتوسعوا في أحاديث الرقائق، فوقعوا في الكذب؛ ولا سيما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. السابع: أنهم ربما رأوا اجتماع الناس عليهم، فرأوا لهم فضلًا ومزية، فهلكوا. ولما كان القصص مظنة هذه الآفات قال يزيد بن أبي حبيب رحمه الله تعالى: القاص ينتظر الفتنة. وقال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: القاص ينتظر المقت من الله تعالى. رواهما ابن المبارك في "الزهد" (¬1). وروى الطبراني بسند ضعيف، عن مجاهد، عن العبادلة رضي الله تعالى عنهم؛ وهم: ابن عمر، وابن عمرو، وابن الزبير، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم؛ قالوا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "القَاصُّ يَنْتَظِرُ المَقْتَ، والمُسْتَمِعُ يَنتظِرُ الرَّحْمَةَ" (¬2). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي المليح رحمه الله تعالى قال: ذكر ميمون القاص فقال: لا يخطئ القاص ثلاثًا: إما أن يُسَمِّن قوله بما يهزل دينه، وإما أن يعجب بنفسه، وإما أن يأمر بما لا يفعل؛ قال: فلهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "القاصُّ يَنْتَظِرُ المَقْتَ" (¬1). ولهذا توقف عمر رضي الله تعالى عنه في الإذن لتميم الداري رضي الله تعالى عنه حين استأذنه في القصص، ثمَّ أذن له. فروى الطبراني بسند جيد، عن عمرو بن دينار: أن تميمًا الداري رضي الله تعالى عنه استأذن عمر في القصص، فأبى أن يأذن له، ثمَّ استأذنه فأبى أن يأذن له، ثمَّ استأذنه فقال: إن شئت -وأشار بيده؛ يعني: الذبح- (¬2). وروى الإمام أحمد بسند صحيح، عن الحارث بن معاوية الكندي: أنَّه ركب إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فسأله عن القصص، فقال له: ما شئت -كأنه كره أن يمنعه-. قال: إنما أردت أن أنتهي إلى قولك. قال: أخشى عليك أن تقص، ثمَّ ترتفع في نفسك، ثمَّ تقص فترتفع في نفسك حتى يُخَيَّل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا، فيضعك الله تحت ¬
أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك (¬1). وقال الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد": أنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع: أن تميمًا الداري رضي الله تعالى عنه استأذن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه في القصص، فقال: إنه على مثل الذبح. قال: إني أرجو العافية. فأذن له، فجلس إليه -يعني: عمر- فقال تميم في قوله: اتقوا زلة العالم. فكره عمر رضي الله تعالى عنه أن يسأله فيقطع بالقوم، وحضره منه فئام، فقال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا فرغ فاسأله: ما زلة العالم؟ ثمَّ قام عمر، فجلس ابن عباس، فغفل غفلة، ففرغ تميم رضي الله تعالى عنه، وقام يصلي، وكان يطيل الصلاة، فقال ابن عباس: لو رجعت ثمَّ أتيته، وطال على عمر رضي الله تعالى عنه، فأتى ابن عباس فسأله، فقال: ما صنعت؟ فاعتذر إليه، فقال: انطلق؛ فأخذ بيده حتى أتى تميمًا الداري رضي الله تعالى عنهم، فقال له: ما زلة العالم؟ قال: العالم يزل بالناس فيؤخذ به، فعسى أن يتوب منه العالم، والناس يأخذون به. ¬
ومن ثمَّ تعلم أن القصص لم يكره لذاته؛ فإن عمر أتى تميمًا وهو يقص بعد أن أذن له فيه. وقال الحافظ المزي في "تهذيب الكمال": روى حماد بن سلمة عن ثابت قال: أول من قص عبيد بن عمير على عهد عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - (¬1). وإنما كرهه من كرهه لما يخشى على القاص من الآفات لا مطلقًا؛ فإن القرآن العظيم مشحون بالقصص. وقال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] وقال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]. وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]. وقال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21]. وقال -عز وجل -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]. وروى ابن أبي شيبة عن أوس رضي الله تعالى عنه قال: إنا لقعود عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقص علينا ويذكرنا (¬2). ¬
وروى الإمام أحمد بإسناد حسن، عن رجل من أهل بدر رضي الله تعالى عنهم: أنَّه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لأَنْ أَقْعُدَ في مِثْلِ هَذَا المَجْلِسِ أَحَبَّ إِليَّ مِنْ أَنْ أعْتِقَ أَرْبَعَ رِقابٍ". قال شعبة فقلت: أي مجلس تعني؟ قال: كان قاصًا (¬1). وروى الشيخان عن أبي وائل قال: كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يذكرنا في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن! لوددت أنك لو ذكرتنا كل يوم. فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بها مخافة السآمة علينا (¬2). وروى الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" بإسناد جيد، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قاص يقص فأمسك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قُصَّ؛ فَلأَنْ أقْعُدَ غُدْوَةً -ولفظ الطبراني: قُصَّ فَلأَنْ أَقْعُدَ هَذَا المَقْعَدَ مِنْ حِيْنَ تُصَلِّي الغَدَاةَ- إِلَى أَنْ تُشْرِقَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَ رِقابٍ، وَبَعْدَ العَصْرِ حَتَّى ¬
تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَ رِقابٍ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أنَّه قال: ما تصدق مؤمن قط بصدقة أحب إلى الله من موعظة يعظ بها قومًا، فيتفرقون قد نفعهم الله بها (¬2). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن فرقد السبخي قال: قال عيسى ابن مريم عليهما السلام: طوبى للناطق في آذان قوم يستمعون كلامه؛ إنه ما تصدق رجل بصدقة أعظم أجرًا عند الله -عز وجل - من موعظة قوم يصيرون بها إلى الجنة (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقوم كل خميس وجمعة فيتكلم (¬4). وروى الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن محمَّد بن عبادة بن زياد ¬
المعافري قال: كنا عند أبي شريح وكثرت المسائل، فقال أبو شريح: قد درنت قلوبكم منذ اليوم، فقدموا إلى أبي حميد - رضي الله عنه - أصفوا قلوبكم، وتعلموا هذه الرغائب؛ فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجر الصداقة، وأقلوا المسائل إلى ما نزل؛ فإنها تقسي القلب، وتورث العداوة (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى قال: جلست مع سفيان الثوري في مسجد صالح المري، فرأيت سفيان الثوري يبكي، وقال: ليس بقاص؛ هذا نذير قوم (¬2). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: رأيت تميمًا الداري يقص في عهد عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه (¬3). وقال مغيرة: كان إبراهيم التيمي يذكر في منزل أبي وائل، فجعل أبو وائل ينتفض كما ينتفض الطير (¬4). وقال أيضًا: كان الحسن يقص، وكان سعيد بن جبير يقص (¬5). وقال مجاهد: كان بريد بن شجرة يقص، وكان يوافق قوله فعله (¬6). ¬
وقال أيضًا: كنا نفخر الناس بأربعة: بفقيهنا، وقاصنا، وبمؤذننا، وبقارئنا. فقيهنا: ابن عباس، ومؤذننا: أبو محذورة، وقاصنا: عبيد بن عمير، وقارئنا: عبد الله بن السائب (¬1). روى هذه الآثار ابن أبي شيبة. فإن قلت: ما تصنع بما رواه ابن ماجه بسند حسن، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: لم يكن القصص في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا زمن أبي بكر، ولا زمن عمر - رضي الله عنهما - (¬2). وروى الإمام أحمد عن السائب بن يزيد بنحوه (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن نافع قال: لم يكن قاص في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا في زمن أبي بكر، ولا زمن عمر، ولا زمن عثمان رضي الله تعالى عنهم (¬4). ¬
وروى ابن عديّ عن الأعمش رحمه الله تعالى قال: اختلف أهل البصرة في القصص، فأتوا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه فسألوه: أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقص؟ فقال: لا (¬1). فالجواب: أنا قدمنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقص، وقد أمر قاصًّا أن يقص، وأن تميمًا والحارث بن معاوية وعبيد بن عمير كانوا يقصون في عهد عمر رضي الله تعالى عنهم؛ والمثبت مقدم على النافي. ثمَّ إن القصص الذي أنكر ابن عمر ونافع كونه في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - ليس هو مجرد القص لما ثبت في الكتاب والسنة؛ إذ لا يمكن نفيه أصلًا، وإنما أنكروا ونفوا ما أحدثه القصاص من الاجتماع في وقت معين للقصص، وارتفاع الأصوات، والدعاء للأمير، ونحو ذلك. وإن هذا لم يكن في عهده - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد خلفائه - رضي الله عنهم -، وإنما حدث في زمان معاوية رضي الله تعالى عنه كما رواه الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" عن نافع وغيره. وكذلك لم يقص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على هذه الهيئة المخصوصة، بل كان يحدث أصحابه ويذكرهم ويعلمهم وكأن على رؤوسهم الطير، وعليه يحمل قول أنس رضي الله تعالى عنه. على أن أبا طالب المكي ذكر عن حبيب بن أبي ثابت عن زياد ¬
النميري قال: أتيت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه وهو بالراوية، فقال لي: قُصَّ. فقلت: كيف أقص والناس يزعمون أنَّه بدعة؟ فقال: ليس شيء من ذكر الله بدعة. قال: فقصصت، فجعلتُ أكثَر قصصي دعاءً رجاءَ أن يؤمِّن. قال: فجعلت أقص وهو يؤمِّن (¬1). فعلم من هذا أن القصص إذا خلا عما يفعله القصاص لم يكن مذمومًا، وإنما المذموم ما أحدثوه. وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي عثمان قال: كتب عامل لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إن ها هنا قومًا يجتمعون، فيدعون للمسلمين وللأمير، فكتب إليه عمر - رضي الله عنه -: أقبل وأقبل بهم معك، فأقبل، فقال عمر للبواب: أعرني سوطًا، فلما دخلوا على عمر أقبل على أميرهم ضربًا بالسوط (¬2). وروى ابن الجوزي عن أبي التياح قال: قلت للحسن: إمامنا يقص، فيجتمع الرجال والنساء، فيرفعون أصواتهم بالدعاء. فقال الحسن: إن القصص بدعة، وإن رفع الصوت بالدعاء لبدعة، وإن مد الأيدي بالدعاء لبدعة، وإن اجتماع الرجال والنساء لبدعة (¬3). ¬
وقد عنَّ لي أن أذكر هنا فصلًا في آداب القاص والمذكر والواعظ، وهي ألفاظ متقاربة؛ فالواعظ: القائم بمنصب الوعظ، وهو تخويف يرق له القلب. والمذكر: القائم بمنصب التذكير، وهو تعريف الناس بنعم الله عليهم وما يجب عليهم من الحقوق. والقاص: القائم بمنصب القصص، وهو تتبع الأخبار والآثار عن من سلف، وإيرادها عن القوم؛ فإن كان لغرض صحيح كالموعظة والذكرى كان حسنًا مقبولًا، وإن كان لغير ذلك كان مردودًا؛ وليس من ذلك ذكر الأكاذيب، والخرافات، والأحاديث الموضوعة أصلًا؛ فإن تسمية ذلك كذبًا وخوضًا في الباطل أقرب من تسميته قصصًا، وهو واستماعه حرام باتفاق. ومن القصص المحمود: قصص القرآن العظيم كما قال الله تعالى في سورة هود عليه السلام بعد ذكر قصَص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]. ثمَّ المذكر والواعظ قد يكون وعظه وتذكيره بالقصص، وقد يكون بغيره، وهما محمودان على كل حال. وأمَّا القاص فقد تكون قصصه للوعظ والتذكير، والدعوة والإرشاد إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون محمودًا.
ثمَّ اعلم أنَّ الذي حضرني الآن من آداب الواعظ والمذكر والقاص عشرون أدبًا: أحدها: أن تستأذن في ذلك الإمام أو نائبه كما استأذن تميم والحارث بن معاوية من عمر رضي الله تعالى عنهم. وروى ابن ماجه بسند صحيح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقُصُّ عَلَى النَّاسِ إِلَّا أَمِيْرٌ، أَوْ مَأمُورٌ، أَوْ مُراءٍ" (¬1). وفي الباب عن عوف بن مالك، وعبادة بن الصامت، وكعب بن عياض، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم. وروى الإمام أحمد عن عبد الجبار الخولاني قال: دخل رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد، فإذا كعب يقص؛ قال: من هذا؟ قالوا: كعب يقص. قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يَقُصُّ إِلَّا أَمِيْرٌ، أَوْ مَأْمُوْرٌ، أَوْ مُخْتالٌ". قال فبلغ ذلك كعبًا، فما رئي يقص بعد (¬2). الثاني: حسن النية. ¬
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الأَعْمالُ بِالنِّياتِ" (¬1). فليخلص ولا يرائي ولا يتطلَّع إلى شهرة ولا إلى شيء من أغراض الدُّنيا. وروى أبو بكر المروزي في كتاب "العلم" عن سفيان بن عيينة قال: قيل لطاوس رحمه الله تعالى: ذَكِّرنا. فقال: لم تحضرني حسبة في ذلك (¬2)؛ أي: نية صحيحة. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن صفوان بن عمرو قال: كان خالد بن معدان رحمه الله تعالى إذا عظمت حلقته قام فانصرف. قيل لصفوان: ولم كان خالد يقوم؟ قال: كان يكره الشُّهرة (¬3). وروى أبو الشُّيخ عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى: أنَّه قرأ هذه الآية: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88]، قال: بلغني أنَّه يدعى يوم القيامة بالمذكِر الصالح فيوضع على رأسه تاج الملك، ثمَّ يُؤمر به إلى الجنَّة، فيقول: إلهي! إنَّ في مقام القيامة أقوامًا كانوا يعينوني في الدُّنيا على ما كنت عليه. ¬
قال: فيفعل بهم مثلَما فعل به، ثمَّ ينطلق يقودهم إلى الجنَّة لكرامته على الله تعالى (¬1). فحسن نية المذكِّر سبب لسعادته وسعادة من يتذكر به؛ وناهيك بهذا مقامًا! وأحب للمذكر والمدرس، والمفتي والناصح أن يستعين بهذه الآية على أمره. قال أبو إسحاق الفزاري رحمه الله تعالى: ما أردت أمرًا قط فتلوت عنده هذه الآية إلَّا عُزم على الرشد: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. أخرجه أبو الشيخ (¬2). الثالث: أن يكون عالمًا بالأحكام الشَّرعية، عارفًا بالناسخ والمنسوخ وغيرهما من علوم التفسير والحديث، ومن لم يتأهل لذلك وتعاطى الوعظ والقص، فقد ظلم نفسه، وعرَّضها للمقت. روى ابن أبي شيبة، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، وغيرهما عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى قال: مرَّ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - برجل يقص فقال: أعرفت الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. ¬
قال: هلكت وأهلكت (¬1). وروى الطَّبراني نحو ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). وسبق قول أبي إدريس الخولاني: لأنَّ أرى في ناحية المسجد نارًا تقد أحب إليَّ من أن أرى فيها رجلًا يقص ليس بفقيه. الرابع: أن لا يخلو مجلسه من الفقه وبيان الأحكام الشرعية لأنَّ العامة أكثر ما يعتبرون قول من هذا منصبه. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: دخلت المسجد فإذا حميد بن عبد الرَّحمن يذكر العلم، وإذا بسعيد بن عبد الرَّحمن يقص في ناحية، فقلت: إلى أيهما أجلس؟ قال: فلم أقعد إلى واحد منهما، ووضعت رأسي إلى سارية، فنمت، فأتاني آتٍ في المنام فقال لي: أمثلت بينهما؟ لئن شئت لنرينَّك مقعد جبريل عليه السَّلام من حميد بن عبد الرَّحمن؛ يعني: الحميري (¬3). وروى الخطيب عن يزيد الرَّقاشي، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأَنْ أَجْلِسَ مَعَ قَومٍ يَذْكُرُونَ اللهَ مِنْ غُدْوَةٍ إلَى طُلُوعِ ¬
الشَّمسِ أَحَبُّ إِليَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمسُ، وَمِنَ العَصْرِ إلَى غُرُوْبِها أَحَبُّ إليَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا" (¬1). قال يزيد: كان أنس إذا حدَّث بهذا الحديث أقبل عليَّ وقال: والله ما هو بالذي تصنع أنت وأصحابك، ولكنهم قوم يتعلمون القرآن والفقه (¬2). الخامس: معرفة علم المعاملات، وإصلاح القلوب. روى أبو نعيم في "الحلية" عن شريح قال: كنت مع عَليِّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في سوق الكوفة، فانتهى إلى قاص يقص، [فقال: أيها القاص تقص] (¬3) ونحن قريبو العهد! أما إني أسألك، فإن خرجت عما أسألك وإلا أدبتك. قال القاص: سل يا أمير المؤمنين عما شئت. فقال عليٌّ رضي الله تعالى عنه: ما ثبات الإيمان وزواله؟ فقال القاص: ثبات الإيمان الورع، وزواله الطَّمع. قال عليٌّ رضي الله تعالى عنه: صدقت (¬4). ¬
وفي "الإحياء"، وغيره: إن هذا القاص هو الحسن البصري (¬1). ويجب عليه أن لا يستكثر من ذكر الرخص، وأحاديث الرَّجاء بحيث يؤمنهم من مكر الله تعالى، ولا يخوفهم تخويفًا يقنطهم من رحمة الله تعالى، بل ينبغي أن يكون تارة في ترجيه، وتارة في تخشيه، ولا بأس بتغليب جانب الخوف شيئًا على جانب الرَّجاء، خصوصًا إذا كان بحضرة العوام وأهل التخليط، وهو اللائق في هذا الزمان. روى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن المعلى بن زياد قال: سمعت المغيرة بن مخارش قال للحسن: يا أبا سعيد! إنَّ لنا علماء ومذكِّرين يخوفونا حتى يكادوا يخلعون قلوبنا، وآخرين في حديثهم سهولة. فقال الحسن: أيها الرجل! إن من خوفك حتى تلقى الأمن خير لك ممن أمنك حتى تلقى المخافة. وليس مراد الحسن رحمه الله تعالى أن يغلب جانب الخوف إلى أقصاه بحيث يُقَنِّط المخوف من رحمة الله تعالى، بل يخوف تارة، ويرجي أخرى مع ترجيح جانب الخوف. وفي "مسند ابن وهب" عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَلا أُنْبِئُكُمْ بِالفَقِيْهِ كُلِّ الفَقِيْهِ؟ ". قالوا: بلى. قال: "مَنْ لا يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلا يُؤَيِّسهُم مِنْ رَوْحِ الله، ¬
وَلا يُؤَمِّنَهُم مِنْ مَكْرِ اللهِ، ولا يَدَعُ القُرآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلَى ما سِواهُ، أَلا لا خَيْرَ في عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيْها تَفَقُّهٍ، وَلا عِلْمٍ لَيْسَ فِيْهِ تَفَهُّمٍ، وَلا قِراءَةٍ لَيْسَ فِيْهَا تَدَبُّرٍ" (¬1). السادس: أن لا يعدل في قصصه عن الكتاب والسنة، ويحترز عما في كتب الوعظ والقصص والتواريخ مما تساهل فيه مؤلفوها. روى البزار، وأبو يعلى، والمفسرون، وابن حبَّان في "صحيحه"، والحاكم وصححه، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: أُنزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتلاه عليهم زمانًا، فكأنهم ملوا، فقالوا: يا رسول الله! لو حدَّثتنا، فأنزل الله تعالى قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] الآية. فقالوا: يا رسول الله! لو قصصت علينا، فأنزل الله -عز وجل -: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] الآية. فقالوا: يا رسول الله! لو ذكرتنا ووعظتنا، فأنزل الله -عز وجل -: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] (¬2). وروى عبد بن حميد عن قيس بن سعد قال: جاء ابن عبَّاس ¬
رضي الله تعالى عنهما حتَّى وقف على عبيد بن عمير وهو يقص، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41]، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} [مريم: 54] الآية، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} [مريم: 56] الآية، حتَّى بلغ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [مريم: 58]. قال ابن عبَّاس: ذكِّرنا بأيام الله، وأثنِ على من أثنى الله عليه (¬1). وقال عبد الرَّزَّاق: عن معمر قال: أخبرني من سمع الحسن يقص يقول في قصصه: [من الخفيف] لَيْسَ مَنْ ماتَ فاسْتَراحَ بِمَيْتٍ ... إِنَّما الْمَيْتُ مَيِّتُ الأَحْياءِ قال معمر: ورأيت عطاء الخراساني يقص بالسنن (¬2). وفيه: أنَّه لا بأس بإنشاد القاص والمذكر الشعر المشتمل على الموعظة. السابع: أن لا يتكلم في مجلسه بما لا تحتمله عقول جلسائه. قال الحافظ زين الدين العراقي في كتاب "الباعث على الخلاص من حوادث القصاص": ومن آفاتهم أن يحدِّثوا لكثير من العوام مما لا تبلغه عقولهم، فيقعوا في الاعتقادات السيئة. ¬
هذا إذا كان صحيحًا، فكيف إذا كان باطلًا (¬1)؟ وقد قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ما أنت تحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. رواه مسلم في مقدمة "صحيحه" (¬2). وروى الدينوري في "المجالسة" عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أنَّه قال: لو حدَّثت الناس بكل ما أعلم لقالوا: رحم الله قاتل سلمان (¬3). الثامن: أن يحترز من الكذب في الأحاديث النبوية والآثار. وَقَلَّ أن يسلم قاص من ذلك، فمن ثمَّ قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه: كذب الناس السُّوَّال والقصاص (¬4). وروى البخاري، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه: إنه ليمنعني أن أحدِّثكم حديثا كثيرًا: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (¬5). ¬
التاسع: أن لا يروي حديثاً ولا أثرًا حتى يتثبت فيه، وإن أشكل عليه شيء منه قال: أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -. روى الدارمي، وابن ماجه، والدَّارقطني عن ابن سيرين قال: كان أنس رضي الله تعالى عنه قليل الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان إذا حدَّث عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ففرغ منه قال: أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وروى الدارمي، والدارقطني عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه: أنه كان إذا فرغ من الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا أو نحوه، أو شبهه، أو شكله (¬2). وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه نحو ذلك (¬3). العاشر: أن لا يروي حديثًا سمعه من غير علماء الحديث، أو نظره في كتاب حتى يتثبت فيه ويعلم من أي أصل هو. قال العراقي: ثمَّ إنهم -يعني: القصاص- ينقلون حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير معرفة بالصحيح والسقيم. قال: وإن اتفق أنه يذكر حديثاً صحيحاً كان آثمًا في ذلك لأنه ينقل ما لا علم به، وإن صادف الواقع كان آثمًا بإقدامه على ما لا يعلم. قال: وأيضًا فلا يحل لأحد ممن هو بهذا الوصف أن ينقل حديثًا ¬
من الكتب ولو من "الصَّحيحين" ما لم يقرأه على من يعلم ذلك من أهل الحديث. قال: وقد حكى الحافظ أبو بكر بن خير اتفاق العلماء أنَّه لا يصح لمسلم أن يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا حتى يكون عنده ذلك القول مرويًا ولو على أقل وجوه الروايات؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ" (¬1). وفي بعض الروايات: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ" من غير تقييد (¬2). وروى عبد الكريم بن السمعاني في "ذيله على تاريخ بغداد" عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى قال: قال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: إذا وجد أحدكم كتاباً فيه علم لم يسمعه من عالم فَلْيَدعُ بإناء وماء، وينقعه فيه حتى يختلط سواده ببياضه (¬3). الحادي عشر: التخفيف وعدم الإكثار، والتخول بالموعظة من غير إملال؛ لحديث ابن مسعود المتقدم - رضي الله عنه -. و[روى] البيهقي في "المدخل": أن عمر بن الخطاب - صلى الله عليه وسلم - قال على المنبر: يا أيها الناس! لا تبغضوا الله في عباده. قال: فقال قائل: وكيف ذلك أصلحك الله؟ ¬
قال: يجلس أحدكم قاصًا فيطول على النَّاس حتى يبغض إليهم ما هم فيه (¬1). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالت: من هذا؟ فقال: أنا عبيد بن عمير. قالت: قاص أهل مكة؟ قال: نعم. قالت: خفف؛ فإن الذكر ثقيل (¬2). ولا ينبغي المبالغة في التخفيف بحيث يسرد أشياء ويقوم، بل يختصر بما يؤدي ويتأنى فيه. ولا بأس بتكرار ما يهتم بتفهيمه ثلاثًا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تكلم بكلمة رددها ثلاثًا. رواه البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬3). وفي رواية: أعادها ثلاثًا فتعقل عنه (¬4). وروى البخاري عن عروة قال: جلس أبو هريرة إلى جنب حجرة عائشة رضي الله عنها، فلما قضت صلاتها قالت لابن أختها: ألا تعجب ¬
إلى هذا وحديثه؟ إن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما كان يحدِّث حديثًا لو عدَّه العادُّ أحصاه (¬1). وروى مسلم عن عروة: أن عائشة قالت: ألا يعجبك أبو هريرة؟ جاء فجلس إلى جنب حجرتي يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسمعني ذلك، وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يسرد الحديث كسردكم (¬2). وفي رواية ابن المبارك: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسرد الحديث كسردهم؛ إنما كان حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلًا تفهمه القلوب (¬3). والأولى الأحسن أن يكون كلام المذكر، بل كلام العالم مطلقًا قصدًا بين الإفراط والتفريط، لا إسهاب ممل، ولا إيجاز مخل، ولا خدرفة لا تفهم. ولعل ضرر الإفراط هنا أشد من ضرر التفريط. روى ابن أبي الدُّنيا في "المداراة" عن محمَّد بن سعيد قال: بلغني أن قاصًا قصَّ على بني إسرائيل حتى أملَّهم، فلُعن ولُعنوا (¬4)؛ أي: لعن بسبب إملاله إياهم، ولعنوا بسبب تبرمهم من الذِّكر وملالهم. ¬
وروى فيه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدِّث القوم ما أقبلت عليك قلوبهم، فإذا انصرفت قلوبهم فلا تحدِّثهم. قيل له: ما علامة ذلك؟ قال: إذا حدقوك بأبصارهم، فإذا تثاءبوا أو اتكأ بعضهم على بعض فقد انصرفت قلوبهم، فلا تحدِّثهم (¬1). وروى أبو نعيم عن الزُّهريِّ رضي الله تعالى عنه قال: إذا طال المجلس كان للشَّيطان فيه نصيب (¬2). الثاني عشر: أن يرى نفسه واحدًا من أهل المجلس، ولا يجد لنفسه على أحد منهم مزية. روى ابن عساكر عن بكير: أن تميمًا الدَّاريَّ استأذن عمر رضي الله تعالى عنه في القصص، فقال له عمر: أتدري ما تريد؟ إنك تريد الذبح؛ ما يؤمنك أن ترفعك نفسك حتى تبلغ السماء، ثمَّ تضعك (¬3). وتقدم: أن عمر قال للحارث بن معاوية قريبًا من هذا. وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزُّهد" عن الحسن رحمه الله تعالى -مرسلًا - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَغُزَّنَّ الرَّجُلَ مِنْ نَفْسِهِ ¬
كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلَهُ" (¬1). الثالث عشر: أن لا يتصنع لمجلس الوعظ بتحسين ثياب، ولا بتخشينها زيادة عن عادته، ولا يظهر البكاء والخشوع إلا إذا غلبه البكاء، ولا يتشدق في الكلام، ولا يسجعه، ولا يقبل على بعض السامعين دون بعض إلا إن اقتضت حكمة أو نصيحة خاصة لما في الرياء والتصنع من الإثم. وروى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن السني بإسناد صحيح، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: إياك والسَّجع، فإن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - كانوا لا يسجعون (¬2). وروى ابن أبي شيبة عنها أنها قالت لابن أبي السَّائب قاصِّ مكةَ: اجتنب السَّجع في الدُّعاء؛ فإنِّي عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وهم لا يفعلون ذلك (¬3). وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري عن أبي عثمان قال: قال أبو حفص -يعني: النيسابوري-: إذا جلست للناس فكن واعظًا لقلبك ¬
ولنفسك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك؛ فإنهم يراقبون ظاهرك، والله رقيب باطنك (¬1). وقال الدِّينوري في "المجالسة": حدَّثنا إبراهيم الحربيُّ قال: ثنا داود بن رشيد قال: كان ابن السَّمَّاك يعظ النَّاس يومًا فطول، فلمَّا فرغ دخل إلى منزله وكانت له جارية عاقلة، فقال لها: كيف رأيت كلامي؟ فقالت: حسن لولا أنك تكرر وتردد. فقال لها: أنا أكرر وأردد حتى يَفْهَمَهُ من لا يَفْهَمُه. فقالت: إلى أن تُفْهِمَهُ من لا يَفْهَمُهُ! قد نسي من قد فَهِمَهُ. فعجب من حسن قولها ومن فطنتها (¬2). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن حبيب بن أبي ثابت قال: إن من السنَّة إذا حدَّث الرَّجل القوم أن يقبل عليهم جميعًا، ولا يختص أحدًا دون أحد (¬3). الرابع عشر: أن لا يحث المستمعين على رفع الصَّوت ولا يستثيرهم لذلك، بل ينبغي أن يعلمهم السَّكينة والوقار. ففي الحديث عن عليٍّ رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان لا ترن في مجلسه الأصوات. رواه الترمذي في "الشَّمائل" (¬4). ¬
وروى ابن السكن في "معرفة الصَّحابة" عن الحسن قال: أول من قص هنا -يعني: بالبصرة- الأسود بن سريع، فارتفعت أصواتهم، فجاء مجالد بن مسعود السلمي الصَّحابي - رضي الله عنه - فقال الأسود: وسِّعوا لأبي عبد الله. فقال: والله ما أتيتكم لأجلس، لكني رأيتكم صنعتم اليوم شيئًا أنكره المسلمون؛ فإياكم وما أنكر المسلمون (¬1). ورواه ابن المبارك في "الزهد"، ولفظه: كان الأسود بن سريع من أول من قص في هذا المسجد -يعني: مسجد البصرة- وكان يقص في مؤخر المسجد، فارتفعت أصواتهم يومًا، فانتهرهم أهل مقدم المسجد، فأقبل مجالد بن مسعود السلمي رضي الله تعالى عنه حتى قام عليهم، فوسَّعوا له، فقال: ما جئت لأجلس -وإن كنتم جلساء صدق- ولكن علت أصواتكم فانتهركم أهل المسجد؛ فإياكم وما أنكر المسلمون رحمكم الله تعالى. قالوا: رحمك الله! نقبل نصيحتك (¬2). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن حبيب بن أبي ثابت قال: إنَّ من السنة إذا حدَّث الرجل القوم أن يقبل عليهم جميعًا (¬3). ¬
الخامس عشر: أن يقطع طمعه عن من حضره فلا يجمع منهم دراهم، ولا يتشوف منهم إلى شيء؛ لأنَّ العلم والهدى لا يؤخذ عليه أجر ولا طمع. والآيات والأحاديث في ذلك معروفة. وروى ابن لال في "مكارم الأخلاق" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَكْتُوبٌ في الكِتَابِ الأَوَّلِ: يَا ابنَ آدَمَ! عَلِّم مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا" (¬1). وروى ابن الجوزي عن أبي زرعة الرازيِّ رحمه الله تعالى: أنَّ قاصًا بعث إليه يسأله أن يقبله، ويقول: أنا على مذهبك، وأنا رجل نوَّاح أنوح وأنوح. فقال أبو زرعة: إنما النَّواح لمن يدخل بيته ويغلق بابه، وينوح على ذنوبه، فأمَّا أن تخرج إلى أصبهان وفارس، وتجول الأمصار في النَّوْح فأنا لا أقبل هذا منك، هذا من أفعال المتأكلة الذين يطلبون الدَّراهم والدَّنانير، ولم يقبله (¬2). وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" عن محمَّد بن محمَّد بن الأشعث البيكندي أنَّه قال: من تكلم في الزهد، ووعظ الناس، ¬
ثمَّ رغب في مالهم، نزع الله حب الآخرة من قلبه (¬1). السادس عشر: أن يجلس في مجلس التذكير مستقبل القبلة، مقبلًا على القوم في تؤدة ووقار، يغضب لله تعالى إذا أورد ترهيبًا أو وعيدًا فيما الناس فيه من المخالفات والمنكرات، غير ملاحظ لأحد من الحاضرين، ولا مراع له في شيء يخالف الدين والشرع، ولا متصفصف في هيئة، ولا في إيراد، ولا متصنع، مراقبًا لله تعالى في جميع حركاته وسكناته، غير شاهد لنفسه كمالًا ولا حالًا ولا مقامًا. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه كأنه منذر جيش؛ يقول: "صَبَّحَكُم مَسَّاكُم" كما رواه ابن ماجه، وابن حبَّان، والحاكم -وصححاه- عن جابر رضي الله تعالى عنه (¬2). وتقدم قول سفيان وقد حضر صالحًا المري رحمهما الله تعالى في قصصه: هذا ليس بقاص، هذا نذير قوم. السابع عشر: أن يختار للتذكير يوم الخميس كما كان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يصنع، وهو في "الصَّحيحين" كما تقدَّم. أو يوم الجمعة لما روى ابن عساكر عن حميد بن عبد الرحمن: أن تميمًا الدَّاريَّ استأذن عمر رضي الله تعالى عنهما في القصص، فأبى ¬
أن يأذن له، فأذن له في يوم واحد، فلمَّا أكثر عليه قال: ما تقول؟ قال: أقرأ عليهم القرآن، وآمرهم بالخير، وأنهاهم عن الشَّر. قال: قال عمر: ذلك الذَّبح. ثمَّ قال: عِظْ قبل أن أخرج إلى الجمعة. وكان يفعل ذلك يومًا واحدًا في الجمعة (¬1). وإنما وقع الاختيار على هذين اليومين؛ لأنَّ يوم الجمعة كانوا يتفرغون فيه للآخرة خصوصًا أوَّل النهار، ولا شك أن سماع الذكر من أعمال الآخرة. وأمَّا يوم الخميس فكانوا يتأهبون فيه للجمعة، وسماع الذكر والوعظ والحث على أخذ أهبتها. الثامن عشر: أن يختار للتذكير أوَّل النهار إلى ارتفاع الشَّمس، أو آخره إلى أن تغرب. ودليل هذا الأدب حديث أبي أمامة المتقدم. وإنما وقع الاختيار على هذين الوقتين؛ لأنهما وقت تفرغ النَّاس من الأشغال الدُّنيوية، فيكون القلب أوعى لما يفرغ فيها، ولأن أوَّل النَّهار يرشد فيه إلى تلافي ما فات بالليل، وتدارك العمل الصَّالح فيما يستقبل من النهار، وآخره يرشد إلى تلافي ما فات فيه، واستقبال الليل بالعمل الصالح الممكن فيه. ¬
التاسع عشر: أن يحضر المجلس على طهارة حسية ومعنوية، تائبًا مقلعًا، غيرَ ناوٍ سوءًا ولا غشًا، متواضعًا مستكينًا، غيرَ معجَبٍ ولا مختال، ولا راءٍ لنفسه مقامًا ولا حالًا. ثمَّ يبدأ بحمد الله، والشَّهادتين، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويختم بالحمد والصَّلاة والسلام، ولا يذكر شيئًا حتَّى ينوي العمل به وتقوى الله فيه، وليحرض على التقوى ما أمكنه فتكون موعظته مؤثرة، وإذا حضر الوعظ ينوي موعظة نفسه قبل الحاضرين. وأدلة الابتداء بما ذكر معروفة. وروى أبو نعيم في "الحلية" عن عباد بن جرير، وغيره من المشايخ قال: كنا نجلس إلى صالح المُرِّي رحمه الله تعالى، فكان أول ما يبتدئ به فيقول: الحمد لله؛ فإذا أَعْيُنُ الناس قد سألت (¬1). وروى الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن محمَّد بن علي الحصريِّ رحمه الله تعالى قال: إن الرجل إذا جلس يعظ القوم نادت ملائكته: يا عبد الله! عظ نفسك بما تعظ به أخاك، واستحي من سيدك؛ فإنَّه يراك (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السَّلام: أن يا عيسى! عظ نفسك، ¬
فإن اتعظت فعظِ الناس؛ وإلا فاستحي مني (¬1). وعن أبي وائل قال: قلت لعلقمة: ألا تقص علينا؟ قال: أكره أن أقول لكم ما لا أفعل. وروى ولده عبد الله في "زوائده" عن مالك بن دينار قال: إن العالم أو القاص الذي إذا أتيته فلم تجده في بيته، قَصَّ عليك بيتُهُ؛ ترى حصيرة للصلاة، ترى مصحفًا، ترى أَجَّانة الوضوء، ترى أثر الآخرة (¬2). وروى الدِّينوري في "المجالسة" عن مالك بن دينار أيضًا قال: قال عيسى بن مريم عليهما السَّلام: طوبى لمن سمعت أذناه ما يقول لسانه (¬3). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن ابن السَّمَّاك قال: قال ذر لأبيه عمر بن ذر رحمهم الله تعالى: ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد، فإذا تكلمت سمع البكاء من ها هنا ومن ها هنا؟ فقال: يا بني! ليست النائحة المستأجرة كالنائحة لنفسها (¬4). ¬
وما أحسن ما قيل: [من البسيط] يا واعظَ النَّاسِ قَدْ أَصْبَحْتَ مُتَّهَمًا ... إِذْ عِبْتَ مِنْهُمْ أُمُورًا أَنْتَ تَأْتِيها (¬1) وقال آخر: [من الكامل] عَوِّدْ لِسانَكَ قِلَّةَ اللَّفْظِ ... وَاحْفَظْ لِسانَكَ أيَّما حِفْظِ إِيَّاكَ أَنْ تَعِظَ الرِّجالَ وَقَدْ ... أَصْبَحْتَ مُحْتاجًا إِلَى الْوَعْظِ (¬2) تمام العشرين: أن يلزم الخوف إذا انتهى من التذكير؛ حذرًا أن يكون قد وقع في المجلس ما عليه عهدته من سبق لسانه إلى شيء مما يحذر. ثمَّ يلزم الاستغفار، ويسأل الله تعالى أن يكون المجلس مقبولًا، ويستعيذ مما يحبطه، ويسأله أن يوفقه إلى العمل بما علم وذكر به، ولا يخالف إلى ما نهى عنه. ¬
[ويلزم] (¬1) قبل ذلك وبعده: التقوى والحزن. قال الله تعالى حكايته عن شعيب عليه السَّلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. روى أبو الشَّيخ عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى: أنَّه قرأ هذه الآية: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ} [هود: 88]، فقال: بلغني أنَّه يدعى يوم القيامة بالمُذَكِّر الصادق فيوضع على رأسه تاج الملك، ثمَّ يؤمر به إلى الجنة، فيقول: إلهي! إن في مقام القيامة أقوامًا قد كانوا يعينوني في الدنيا على ما كنت عليه، قال: فيفعل بهم مثلما فعل به، ثمَّ ينطلق يقودهم إلى الجنَّة (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي السوار رحمه الله تعالى: أنهم أتوا جندب بن سمرة رضي الله تعالى عنه في قراء البصرة، فقال: أرى هديًا حسنًا وسمتًا حسنًا؛ فإياكم وهذه الأصوات. ثمَّ قال: مثل الذي يُعلِّم الناس ولا يعمل، كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه (¬3). وروى ابنه في "زوائده" عن صفوان بن محرز رحمه الله تعالى قال: ¬
نزل عليَّ جندب البلخي، فسمعته يقول: إنَّ مثل الذي يعظ الناس وينسى نفسه كمثل المصباح يضيء لغيره ويحرق نفسه (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم التَّيمي رحمه الله تعالى -وكان ممن قص وآثروا قصصه- أنَّه قال: والله ما عرضت على قولي عملي إلا خفت أن أكون مكذبًا (¬2). وذكر في "الإحياء" عن يحيى بن أبي كثير: أن داود عليه السَّلام كان إذا ناح على نفسه، وذكر بني إسرائيل فأخذ في الدُّعاء، خرَّ مغشيًا عليه، فيأتيه سليمان عليه السَّلام بسرير فيحمله عليه، ثمَّ إذا أفاق داود عليه السَّلام قام ووضع يده على رأسه، ودخل بيت عبادته، وأغلق بابه وقال: يا إله داود! أغضبان أنت على داود؟ ولا يزال يناجي ربه، فيأتي سليمان عليه السَّلام، ويقعد على الباب، ويستأذن، ثمَّ يدخل ومعه قرص من شعير، فيقول: يا أبتاه! تقوَّ بهذا على ما تريد، فيأكل من ذلك القرص ما شاء الله، ثمَّ يخرج إلى بني إسرائيل فيحكم بينهم (¬3). ¬
واعلم أني إنما بسطت الكلام في هذا المقام لشدة الاحتياج إليه، وقد كنت أردت أن أؤلف في هذا المعنى مؤلفًا مستقلًّا، فاستغنيت بهذا الفصل عن استئناف كتاب مستقل؛ ولله الحمد.
وهذا فصل آخر في آداب المستمع لتتم الفائدة
وهَذَا فَصْلٌ آخرُ في آدَابِ المُسْتَمِعِ لِتَتِمَّ الفَائِدَة الأوَّل: أن يقدم بين يدي حضوره حسن النية والإخلاص، فينوي أن يسمع كلمة حكمة تدل على هدى، أو ترده عن رَدَى، وأن يطلب العلم ومجالس أهل الخير، وينظر إلى وجه العالم، ونحو ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" (¬1). الثاني: أن يجعل سماعه ممن اشتهر بالفقه وتعليم الأحكام الشرعية، والكلام على إصلاح القلب في تهذيب الباطن لأنه أنفع لهم وأهم، و"من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ويلهمه رشده" (¬2) كما في الحديث. وقد تقدم عن ابن سيرين: أنَّه أرشد في منامه إلى الجلوس في مجلس حميد بن عبد الرَّحمن؛ لأنه مجلس علم وفقه دون مجلس القصص الصرف. الثالث: أن يقصد بسماعه وأخذه من اشتهر بالسنة والاتباع دون ¬
من اشتهر بشيء من الابتداع؛ فإن للصحبة تأثيرًا، وللكلام في القلوب نفوذًا، فلا يشرب قلبه إلا بما يرضى به ربه -عز وجل -. روى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: ثلاثة لا تبلونَّ نفسك بهن: لا تدخل على سلطان وإن قلت: آمره بطاعة الله، ولا تدخل على امرأة وإن قلت: أعلِّمها كتاب الله، ولا تصغين بسمعك إلى ذي هوى؛ فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه (¬1). وسيأتي في النهي عن التشبه بأهل البدع ما فيه غُنية. الرابع: أن يحذر من اشتهر بالفسق وعَدم التحرز عن الحرام، أو بالدخول على السَّلاطين والأمراء، والتواضع لأهل الدُّنيا من غير ضرورة تدعوه إلى ذلك؛ فإن العالم إذا آثر الحياة الدُّنيا زلت موعظته عن القلوب، أو بالتصنع والسَّجع في الكلام تكلفًا؛ فإن موعظته قليلة الجدوى. وليرغب في العالم الصَّالح النافع المستغني عن النَّاس المكتفي بما يرزقه الله تعالى من غير دخول في شيء مما ذكر، وإذا لم يتيسر له من هذا وصفه، فيكفيه أن يكون مستورَ الحال غيرَ متجاهرٍ بشيء مما ذكر. وفي الحديث: "المَرْءُ عَلَى دِيْنِ خَلِيْلِهِ" (¬2). ¬
وروى أبو نعيم في "الحلية" -وسنده ضعيف- عن جابر رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لا تَجْلِسُوا عِنْدَ كُلِّ عَالِمٍ إِلَّا عَالِمًا يَدْعُوْكُمْ مِنْ خَمْسٍ إلَى خَمْسٍ، مِنَ الشَّكِ إلَى اليَقِيْنِ، وَمِنْ الرِّيَاءِ إلَى الإِخْلاصِ، وَمِنَ الرَّغْبَةِ إلَى الزُّهْدِ، وَمِنَ الكِبْرِ إلَى التَّواضُعِ، وَمِنَ العَداوَةِ إلَى النَّصِيْحَةِ" (¬1). الخامس: أن يحسن اعتقاده فيمن يجلس إليه بعد أن يجتهد في الاصطفاء والاختيار، ولا يبحث عن عيوبه؛ فإن ذلك يحرمه الانتفاع به، وما ظهر له مما يخالف اعتقاده فيه تأوله بما يوافق الشرع ما أمكنه، وإلا سكت عنه، ولا يشتغل بغيبته لأنَّ هذا أمر مهلك، ثمَّ ينتفع بحكمته ويعرض عن زلته. السادس: أن يجلس إذا حضر المذكر مستقبلًا وجهه، وإن أمكنه استقبال وجهه واستقبال القبلة فعل، وهو أحسن. وقد روى عبد الرزاق عن معمر، عن الأزرق بن قيس قال: كنت جالسًا عند ابن عمر رضي الله تعالى عنهما والنَّاس يسألونه، وعبيد بن عمير يقص، فقال ابن عمر: خلوا بيننا وبين مذكرنا (¬2). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: الواعظ قبلة (¬1). السابع: أن يجلس على طهارة حسِّية ومعنوية، ويتنزه عن الوسخ وأكل ما فيه رائحة كريهة لئلا يؤدي جلساءه. الثامن: أن ينوي حضور مجلس العلم والاعتكاف حيث كان في مسجد لما ورد في ذلك من الفضل. قال عطاء الخراساني: إن مثل المعتكف مثل المحرِم، ألقى نفسه بين يدي الرَّحمن تبارك وتعالى فقال: والله لا أبرح حتى ترحمني. رواه البيهقي في "الشعب" (¬2). وفي الحديث: "إِنَّ المُعْتَكِفَ يَجْرِي لَهُ مِنَ الأَجْرِ كَأَجْرِ عامِلِ الحَسَنَاتِ كُلِّها". رواه ابن ماجه، والبيهقيُّ، وضعفه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬3). التاسع: أن يجلس ساكتًا ساكنًا خاضعًا متدبرًا لما يملى عليه ويلقى إليه، ولا يلفظ، ولا يكثر التَّلفت إلى الحاضرين، وليحذر من تشتيت نظره صونًا لطرفه أن يقع على أمرد جميل، أو على من يكون نظره إليه داعيًا إلى خوض فكره في غيبة مسلم أو إساءة الظَّن به، وهو في كل ¬
وقت مندوب إلى الإعراض عما لا يعنيه، وهنا آكد. وقد روى البيهقي في "المدخل" عن أسامة [بن شريك] رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطَّير (¬1). العاشر: أن يكون تدبره فيما يعود نفعه عليه مهما سمع ترغيبًا أو ترهيبًا، فإن سمع بفضل سأل الله تعالى التوفيق له، أو بمكروه سأله العياذ منه راجيًا خائفًا وَجِلًا، تائبًا منيبًا، سائلًا من الله تعالى حسن الخاتمة. روى أبو عبد الله حسين المروزي في "زوائد الزهد" لابن المبارك عن يوسف بن مَاهِك قال: رأيت ابن عمر وهو عند عبيد بن عمير، وعبيد يقص، وابن عمر عيناه تهرقان دمعًا (¬2). وتقدم نحو ذلك عن سفيان الثوري في مجلس صالح المري. وروى البيهقي عن مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه قال: إن مجالس العلم تُحتضن بالخشوع والسَّكينة والوقار (¬3). الحادي عشر: أن لا يتشوف في المجلس إلى وقوع شيء من ¬
الواعظ يذيعه عنه، ولا من أحد من الحاضرين كما يفعله كثير من الأسافل الذين لا يحضرون مجالس الخير إلا لذلك. روى الإمام أحمد، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثَلُ الَّذِي يَجْلِسُ يَسْمَعُ الحِكْمَةَ وَلا يُحَدِّثُ عَنْ صاحِبِهِ إِلَّا بِشَرِّ مَا سَمِعَ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِيًا فَقَالَ: يَا رَاعِي! اجْزُرْ لِي شَاةً مِنْ غَنَمِكَ، قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ بِأُذُنِ خَيْرِهَا شَاةً، فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الغَنَمِ" (¬1). وروى ابن جهضم عن يحيى بن معاذ الرَّازي رحمه الله تعالى قال: لا يحضر مجالس الذِّكر إلا ثلاثة: راغب، وطالب، وعائب. فالراغب يريد بحضوره ما عند الله تعالى. والطَّالب يريد بحضوره العلم والأدب. والعَّائب يريد بحضوره إصابة عيب فيذيعه. فلباب المجلس للرَّاغب، وفوائده للطَّالب، ووباله للعائب. الثاني عشر: أن يعمل بما وُعِظَ به، ولا يقنع برقة قلبه ودمعة عينه في المجلس، فإذا قام منه نسي ما كان فيه، فإنما ثمرة العلم العمل. قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66 - 68]. ¬
41 - ومن أعمال بني إسرائيل وأخلاقهم، بل سائر أهل الكتاب
وقوله: {تَثْبِيتًا} [النساء: 66]، أي: تصديقًا، كما رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي (¬1). وفي الآية دليل على أن العمل بالموعظة التي يسمعها العبد تفيده زيادة الإيمان، والأجر العظيم في الآخرة، والتوفيق لعملٍ آخر صالح في الدنيا. وأسعد الحاضرين بالمواعظ والقصص من كان بعد قيامه من المجلس أزهد منه في الدنيا قبل حضوره، وأرغب في الآخرة. وروى الدينوري في "المجالسة" عن جعفر قال: كنت إذا أصبت من قلبي قسوة أتيت محمَّد بن واسع رحمه الله تعالى فنظرت إليه نظرة. قال: فكنت إذا رأيت وجهه رأيت وجه ثَكْلى. قال: وسمعته يقول: أخوك من وعظك برؤيته قبل أن يعظك بكلامه (¬2). فهكذا ينبغي أن يكون المذكِّر والسَّامع، ومن خرج عما ذكرناه فهو مفتون، ومن لم يكن كما وصفناه فهو مغبون. 41 - ومن أعمال بني إسرائيل وأخلاقهم، بل سائر أهل الكتاب: ذِكْر الله تعالى بالألسنة والقلوب لاهية، أو والنفوس ظالمة. روى أبو نعيم في "الحلية" عن مالك بن دينار قال: بلغني أن بني ¬
42 - ومن أعمال أهل الكتاب: ترك خصال الفطرة.
إسرائيل خرجوا إلى مخرج لهم فقيل لهم: يا بني إسرائيل! تدعونني بألسنتكم وقلوبكم بعيدة مني؟ باطل ما تذهبون (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أوحى الله -عز وجل- إلى داود عليه السلام: قل للظَّلمة لا يذكروني؛ فإن حقًا عليَّ أن أذكر من ذكرني، وإن ذكري إياهم أن ألعنهم (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنَّه قيل له: أرأيت قاتل النَّفس، وشارب الخمر، والفاسق، والزَّاني يذكر الله تعالى وقد قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]؟ قال: إذا ذَكَرَ اللهُ هذا ذَكَرَهُ بلعنته حتى يسكت (¬3). 42 - ومن أعمال أهل الكتاب: ترك خصال الفطرة. وهي: الختان، وقص الشَّارب، وإعفاء اللحية، وفرق الشَّعر، والسِّواك، والمضمضة، والاستنشاق، وغسل البراجم، وتنظيف الرواجب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء؛ وهو الاستنجاء. فإن هذه الخصال من ملة إبراهيم عليه السَّلام، والله تعالى برَّأهم ¬
منه، وقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67]. قال المفسرون: الحنيف الذي يوحِّد، ويحجُّ، ويضحِّي، ويختتن (¬1). نعم، اليهود يختتنون، ولكن لا يقع الختان منهم على وفاق إبراهيم عليه السَّلام. وكذلك ما فعلوه هم والنصارى من خصال الفطرة كقلم الأظفار فإنه لا يقع منهم على موافقة الحنيفية. ومن المعلوم بأن النَّصارى لا يختتنون، وإنما يغمسون الولد في المعمودية، ويقولون: قدَّسه ماء المعمودية وصبغه، فصار نصرانيًا حقًا كما يزعمون أن ذلك يغنيهم عن الختان. ومِثْلُهم في ذلك الروافض في غمسهم لكل شيء يريدون تطهيره في ماء الكر المتخلف المتغير كما هو معروف منهم مشهور عندهم. وكذلك أحوال أهل الكتاب في الاستنجاء بالماء - وإن اتفق منهم تعاطيه - فلا يتفق الإتيان منهم على بابه؛ فإنهم لا يفرقون بين الماء المطهَّر وغيره، فربما تبقى نجاستهم عليهم وتنتشر منهم. وقد أثنى الله تعالى على أهل قباء بقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ ¬
يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]، فسألهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن طهورهم الذي أثنى الله عليهم به، فقالوا: إنا نغسل أثر الغائط والبول بالماء. كما رواه أبو داود عن قتادة، والدارقطني عن أبي أيوب، وجابر، وأنس، وكلهم من الأنصار رضي الله تعالى عنهم (¬1). وقد كان أهل قباء مجاورين لليهود، فلو كانوا يشاركونهم في ذلك ما استحقوا هذا الثناء. وكذلك كانت اليهود يَسْدُلون، فوافقهم النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قدم المدينة، ثمَّ خالفهم وفرق كما تقدم أوَّل الباب. وتقدم في التشبه بالأنبياء عليهم السلام عن ابن عباس: أن الفرق من سنة إبراهيم عليه السَّلام. وكذلك السِّواك، والأخذ من الشعور، وإعفاء اللحى ليس من آداب أهل الكتاب، كما روى ابن عساكر عن علي - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "اغْسِلُوا ثِيابَكُم، وَخُذُوا مِنْ شُعُورِكُمْ، واسْتاكُوا وَتَزيَّنُوْا؛ فَإِنَّ بَني إِسْرائِيْلَ لَمْ يَكُوْنُوْا يَفْعَلُونَ فَلِكَ فَزَنَتْ نِساؤُهُمْ" (¬2). ¬
فائدة
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قلنا: يا رسول الله! إنَّ أهل الكتاب يقصون عثانيهم ويوفرون سبالهم؟ فقال: "قُصُّوا سِبالَكُمْ، وَوَفِّرُوا عَثانِيكُمْ، وَخالِفُوا أَهْلَ الكِتابِ" (¬1). والعثانين: جمع عثنون؛ وهو اللحية؛ أي: ما فضل عن العارضين، أو: ما نبت على الذقن. والسبال -بالكسر-: جمع سبلة؛ وهي ما على الشارب من الشعر. وروى الإمام أحمد أيضًا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اعْفُوا اللِّحَى، وَجزُّوا الشَّوارِبَ، وَغَيِّرُوا شَيْبَكُم، وَلا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ" (¬2). ورواه الطَّحاوي في "معاني الآثار" من حديث أنس رضي الله تعالى عنه بمعناه (¬3). * فائِدَةٌ: حلق العانة من فطرة إبراهيم عليه السلام كما تقدم. وروى البيهقي في "الشُّعب" بإسناد صحيح، عن أبي هريرة ¬
43 - ومن أخلاق أهل الكتاب: ترك خضاب اللحية والرأس.
رضي الله تعالى عنه قال: كان إبراهيم عليه السلام أول من اختتن، وأول من رأى الشيب، وأول من جزَّ شاربه، وأول من قصَّ أظافيره، وأول من استحدَّ (¬1). والاستحداد: حلق العانة. وتقدم أن سليمان عليه السَّلام أول من صنعت له النورة والحمام، فمن تنور أو استحد فهو متشبه بنبي، ولكن الاستحداد أفضل؛ لأنَّ إبراهيم عليه السَّلام أقدم من سليمان عليه السَّلام وأفضل، ولأن الحلق أقرب إلى التنظيف، والتنور أقرب إلى التلذذ والتنعم. 43 - ومن أخلاق أهل الكتاب: ترك خضاب اللحيَة والرأس. روى الشَّيخان، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اليَهُودَ والنَّصارَى لا يَصْبَغُوْنَ فَخالِفُوْهُم" (¬2). وروى الإمام أحمد، وابن حبَّان في "صحيحه" عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "غَيِّرُوا الشيْبَ، وَلا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَلا بِالنَّصارَى" (¬3)؛ ¬
تنبيه
أي: لا في إبقاء الشيب أبيض، ولا في غير ذلك. قال العلماء: يستحب الخضاب ولو مرة لمخالفة أهل الكتاب في ذلك. * تنبِيْهٌ: علة اليهود لعنهم الله تعالى في عدم الصَّبغ: أن الله تعالى لا يصبغ، فهم لا يصبَغون. وهذا مبني على ما كانوا عليه من التجسيم والتشبيه لعنة الله عليهم. وروى أبو نعيم في "الحلية" عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السَّلام: أينام ربك تعالى؟ فقال موسى: اتقوا الله. فقالوا: أيصلِّي ربك؟ قال موسى: اتقوا الله. فقالوا: هل يصبغ ربك؟ قال موسى: اتقوا الله. فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السَّلام: إن بني إسرائيل سألوك أينام ربك؟ فخذ زجاجتين فضعهما على كفيك، ثمَّ قم اللَّيل. قال: ففعل موسى، قال: فلما ذهب حين من الليل نعس موسى، فوقع لركبتيه، فقام، فلما أدبر الليل نعس موسى أيضًا، فوقع لركبتيه، فوقعت الزجاجتان فانكسرتا، فقال الله -عز وجل -: لو نمت لوقعت السماوات
44 - ومن أخلاق اليهود، وربما شاركهم النصارى: تقذير الثياب، والأفنية، والساحات، وترك تنظيفها.
على الأرض، فهلك كل شيء كما هلكت هاتان. قال: وفيه أنزلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]. قال: وسألوك أيصبغ ربك؟ فانا أصبغ الألوان كلها الأحمر، والأبيض، والأسود. وسألوك: أيصلي ربك؟ فأنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي (¬1). 44 - ومن أخلاق اليهود، وربما شاركهم النصارى: تقذير الثياب، والأفنية، والساحات، وترك تنظيفها. كما في حديث علي رضي الله تعالى عنه (¬2). وكما روى التِّرمذي عن صالح بن أبي حسان قال: سمعت سعيد ابن المسيَّب رحمه الله تعالى يقول: إن الله طيِّبٌ يحب الطيب، نظيف يحب النَّظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود؛ فنظِّفوا -أراه قال-: أفنيتكم، ولا تشبَّهوا باليهود. قال: فذكرت ذلك لمهاجر بن مسمار، فقال: حدثنيه عامر بن سعد، عن أبيه رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثله إلا أنه قال: ¬
45 - ومن أعمال اليهود والنصارى: لباس الزي المخصوص بهم كالغمار، والزنار فوق الثياب.
[نظفوا أفنيتكم" (¬1)]، "طيَبُوا ساحاتِكُم؛ فَإِنَّ أَنتُنَ السَّاحاتِ سَاحَاتُ اليَهُودِ" (¬2). 45 - ومن أعمال اليهود والنَّصارى: لباس الزي المخصوص بهم كالغمار، والزنَّار فوق الثياب. ومن ذلك: العمائم الصفر والزرق؛ فإنها كانت شعار اليهود والنصارى نحواً من مئتي عام ببلاد الشام، ومصر، وبلاد الروم وما والاها حتى أمروا بلبس البرانط من الجوخ الأحمر لليهود، والأسود للنصارى في عام نيف وتسعين وتسعمئة بأمر السُّلطان مراد خان بن عثمان رحمه الله تعالى. فعلى المؤمن أن يجتنب زيهم، وقد نص علماء الحنفية: أن المسلم لو شد الزنَّار على وسطه -أي: على هيئة أهل الذِّمة- كفر، ولو وضع قَلَنْسُوة المجوسي على رأسه فكذلك (¬3). ونقل ابن الرفعة عن القاضي حسين من أئمة الشافعية أنه لو تقلنس المسلم بقَلَنْسُوة المجوسي، أو تزنَّر بزنَّار النَّصراني صار كافراً؛ لأنَّ الظّاهر أنه لا يفعل ذلك إلا عن عقيدة الكفر (¬4). ¬
46 - ومن أعمال اليهود: لباس المزعفر والمعصفر.
وعن الإمام أحمد: أنه كره العمامة إلا أن تكون مُحَنَّكة، وقال: إنما يعتم مثل ذلك ها هنا اليهود والنصارى والمجوس (¬1). ولعله يقال: إن هذه العادة قد بطلت، وتغير زيهم عن ذلك بالبرانط، فلا مشابهة بين المسلمين وبينهم. وروى أبو نعيم عن أبي العالية أنه قال: زارني عبد الكريم أبو أمية وعليه ثياب صوف، فقلت: هذا زي الرهبان؛ إن المسلمين إذا تزاوروا تجملوا (¬2). ومن هنا استحب التَّجَمُّل للجمع والأعياد، ولا سيما بالبياض. 46 - ومن أعمال اليهود: لباس المزعفر والمعصفر. ونص الإمام الشافعي - رضي الله عنه - على تحريم الأول، وكره الثَّاني. لكن بحث البيهقي أن مقتضى مذهب الشَّافعي تحريمه لصحَّة الحديث بالنَّهي عنه، وهو الذي رجحه أكثر المتأخرين (¬3). وروى الشَّيخان عن عبد الله بن عمر [و] رضي الله تعالى عنهما قال: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليَّ ثوبين معصفرين فقال: "إِنَّ هَذَا مِنْ ثِيابِ الكُفَّارِ فَلا تَلْبَسْهُمَا" (¬4). ¬
وقال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى عن قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79]: في القرمز. ذكره الثعلبي (¬1). وذكر عن الحسن، وإبراهيم أنهما قالا: في ثياب حمر وصفر. أخرجه ابن المنذر (¬2). وروى أثر الحسن ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم (¬3). وقال مجاهد: على براذين بيض عليها سروج من أرجوان حمر، عليهم ثياب معصفرة (¬4). وقال زيد بن أسلم: في سبعين ألفًا عليهم المعصفرات. قال: وكان ذلك أول يوم في الأرض رئيت فيه المعصفرات (¬5). رواهما ابن أبي حاتم. ¬
47 - ومنها: الزهو والغلو.
47 - ومنها: الزهو والغلو. روى الإمام أحمد، والنسَّائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِيَّاكُم والغُلُوَّ في الدِّيْنِ؛ فَإنمَّا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم بِالغُلُو في الدِّينِ" (¬1). وروى الطَّبراني عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إِيَّاكُمْ والغُلُوَّ والزُّهُوَّ؛ فَإنَ بَنِي إِسْرائِيْلَ قَدْ غَلا كَثِيْرٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَانَتِ المَرْأةُ القَصِيْرَةُ تتَّخِذُ خُفَّيْنِ مِنْ خَشَبٍ تَحْشُوْهُما، ثُمَّ تُدْخِلُ فِيْها رِجْلَيْها، ثُمَّ تَعْمَدُ إِلَى المَرْأة الطَّوِيْلَةِ فتَمْشِي مَعَها، فَإِذا هِيَ قَدْ سَاوَتْ بِها وَكانَتْ أَطْوَلَ مِنْهَا" (¬2). وروى مسلم عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانَت امْرَأةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيْلَ قَصِيْرَةٌ تَمْشِي مَعَ امْرَأتيْنِ طَوِيْلَتَيْنِ، فاتَخَذَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَب وَخاتَماً مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقٍ وَطِيْنٍ، ثُمَّ حَشَتْهُ مِسْكاً وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيْبِ، فَمَرَّتْ بَيْنَ المَرْأتيْنِ فَلَمْ يَعْرِفُوها، فَقالَتْ بِيَدِها هَكَذا" (¬3). ¬
48 - ومنها: اتخاذ القبقاب، والنعال لغرض فاسد كالزهو، وتشوف المرأة للرجال كما سبق.
قال النَّووي في "شرح مسلم": وأما اتخاذ المرأة القصيرة رجلين من خشب حتى مشت بين الطويلتين فلم تعرف، فحكمه (¬1) في شرعنا أنها إن قصدت به مقصودًا شرعياً بأن قصدت ستر نفسها لئلا تعرف فتقصد بالأذى، أو نحو ذلك فلا بأس به، وإن قصدت به التعاظم والتشبه بالكاملات تزويرًا على الرِّجال وغيرهم، فهو حرام، انتهى (¬2). قلت: وكذلك لو قصدت به التَّبرج والظهور للرجال ليستشرفوها، أو الخيلاء حرم. ولعل هذا محل سياق الحديث. وأنت تجد أكثر نساء الزَّمان يسلكن هذا المسلك، وما أقبح ما يبلغنا عنهن من الزهو في كل شيء؛ في اللِّباس، والزي، والعَراقي الصغار جدًا في رؤوس رؤوسهن كأسنمة البخت كما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وفي تثخين الأثواب على الأرداف، واتخاذ النَّعل والقبقاب من ذهب أو فضة، واتخاذ الأواني الفضيِّة لماء الورد، والغالية والبخور، وغيرها، وكل ذلك من الزهو والغلو اللذين كانا في اليهود. 48 - ومنها: اتخاذ القبقاب، والنعال لغرض فاسد كالزهو، وتشوف المرأة للرجال كما سبق. روى عبد الرزاق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كن نساء ¬
بني إسرائيل يتخذن رِجْلاً من خشب يتشوفن الرجال في المساجد، فحرم الله عليهن المساجد، وسلَّطت عليهن الحيضة (¬1). وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعًا، وكانت المرأة لها الخليل تلبس القالبين تطول بها لخليلها، فألقي عليهن الحيض (¬2)؛ يعني: الاستحاضة. واعلم أن اتخاذ القبقاب إن كان لغرض مما تقدم ونحوه مما لا يجيزه الشرع حرم، وإن كان لغرض النَّظافة والاحتياط عن التَّضمخ بنجاسات الشَّارع وقاذوراته في زمن الشتاء، لا سيما في البلاد المطيرة كدمشق، ونحو ذلك من الأغراض المحبوبة شرعًا فهو حسن؛ فإن الأمور بمقاصدها. ومن القسم الأول ما بلغني عن بعض جهلة المتعبدين من إيثار القبقاب على النَّعل، والخروج به إلى المزارات البعيدة والجبال؛ فهذا من باب الغلو في الدين، وسيأتي أنه من فعل النَّصارى. وغلا بعض هؤلاء حتى بلغني أنه حجَّ بالقبقاب ماشيًا، وهذا، وإن تكلَّفنا التأول له فكان عليه تركه لو سلم له أنه من باب الكرامة، أو من الاعتياد على ذلك لئلا يقتدي به من يفقد فيه هذا المعنى فيهلك. ¬
49 - ومنها: وصل شعور النساء.
وسيأتي الكلام على التشديد في الدِّين في محله إن شاء الله تعالى. والقبقاب كان في الأصل: قاب قاب؛ اسم صوته، فَسُمي باسم الصَّوت كتسمية الغراب: غاق، والبغل: عدس. 49 - ومنها: وصل شعور النساء. روى الشَّيخان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أنه سمع معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهم عام حجَّ وهو على المنبر، وتناول قَصَّة من شَعْر كانت في يد حرسي يقول: يا أهل المدينة! أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن مثل هذه ويقول: "إِنَّما هَلَكَتْ بَنُو إِسْرائِيْلَ حِيْنَ اتَّخَذَ هَذهِ نِساؤُهُم" (¬1). وروى النَّسائي عن سعيد بن المسيب قال: قدم معاوية المدينة فخطبنا، وأخذ كبة من شعر وقال: ما كنت أرى أحداً يفعله إلا اليهود، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغه فسماه الزور (¬2). وروى عبد الرَّزّاق عن عكرمة قال: أخبرت أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ نِسَاءَ بَنِي إِسْرائِيْلَ وَصَلْنَ أَشْعارَهُنَّ فَلَعَنَهُنَّ اللهُ، وَمَنَعَهُنَّ أَن يَدْخُلْنَ بَيْتَ المَقْدِسِ". فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ الوَاصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ" (¬3). ¬
50 - ومنها: القزع.
وآخر هذا الحديث في "الصحيحين" من حديث أسماء بنت أبي بكر، وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم (¬1). 50 - ومنها: القَزَع. وهو بفتح القاف وفتح الزاي: حلق بعض الرَّأس دون بعضه، وهو مكروه. روى الشَّيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن القَزَعِ (¬2). وفي رواية: وهو أن يحلق الصبي، ويترك له ذؤابة (¬3). وروى عبد الرَّزاق، وغيره عنه: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى غلاماً قد حلق بعض رأسه وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: "إِما أَنْ تَحْلِقُوا كُلَّهُ، أَوْ تَتْرُكُوا كُلَّهُ" (¬4). قال النَّووي: ومذهبنا كراهته مطلقاً للرجل والمرأة لعموم الحديث (¬5). قلت: وعليه: فيدخل في التشبه بنساء بني إسرائيل ما يفعله كثير من ¬
جهلة النساء من الأخذ من شعور الرأس تكبيراً للوجه، وهو من الزور. وفي الحديث: "لَعَنَ اللهُ النَّامِصَةَ والمُتَنَمِّصَةَ" (¬1). قال النَّووي رحمه الله تعالى: قال العلماء رحمهم الله تعالى: الحكمة في النهي عن القَزَع أنَّه تشويه للخلق. وقيل: إنه زي أهل الشَّر والشطارة. وقيل: لأنَّه زي اليهود. وقال: وقد جاء هذا في رواية لأبي داود (¬2). قلت: وكأنه أشار إلى ما روى أبو داود عن الحجاج بن حسان قال: دخلنا على أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه فحدثني أخي المغيرة قال: وأنت يومئذ غلام، ولك قَرنان أو قصتان، فمسح رأسك وبرك عليك، وقال: احلقوا هذين، أو قصُّوهما؛ فإن هذا من زي اليهود (¬3). وروى مالك رحمه الله تعالى: أن أبا بكر الصِّديق رضي الله تعالى عنه بعث جيشًا إلى الشَّام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان أمير ربع من الأرباع، فزعموا أن يزيد قال وبكى: إما أن تركب وإما أن ننزل. ¬
51 - ومنها: ترك الاستتار عند الطهارة في الملأ، أو إبداء العورة في الناس مطلقا.
فقال أبو بكر: ما أنت بنازل ولا أنا براكب؛ إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله. ثمَّ قال: ستجد أقواماً فحصوا عن أوساط رؤوسهم من الشعر؛ فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف، الحديث (¬1). قال البغوي: قوله: فحصوا عن أوساط رؤوسهم؛ أي: حلقوا مواضع منها كأفحوص القطا، وهم الشَّمامسة (¬2)؛ يعني: رؤوس النصارى، جمع: شماس، وهو الذي يحلق وسط رأسه لازماً للبيعة؛ قاله في "القاموس" (¬3). 51 - ومنها: ترك الاستتار عند الطَّهارة في الملأ، أو إبداء العورة في الناس مطلقًا. روى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَتْ بَنُوْ إِسْرائِيْلَ يَغْتَسِلُونَ عُراةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوْا: واللهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنا إلا أَنَّهُ آدر" (¬4)، فذكر الحديث، وتقدم بمعناه في التشبه بالأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام. ¬
52 - ومن أخلاق أهل الكتاب: ترك الوضوء للصلاة على أحد القولين: هل هو من خصائص هذه الأمة، أو لا؟
- ومن باب التشبه بأهل الكتاب: أن المرأة الكافرة كالنَّصرانية واليَّهودية تمكن مثلها من النظر إليها إلى ما عدا الوجه والكفين منها، وتدخل معها الحمام متجردتين من الثياب. فالمسلمة إذا مكنت الكافرة من النظر إليها، ودخلت معها الحمام كانت متشبهة بالكافرات في ذلك، وهذا حرام عليها، إلا أن تكون الناظرة الكافرة رقيقة لها، فلا، أو مَحْرمًا، فلا. قال الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31]؛ يعني: المسلمات. وروى سعيد بن منصور، والبيهقي في "سننهما": أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى أبي عبيدة بن الجرَّاح رضي الله تعالى عنه: أما بعد! فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمات يدخلن الحمام مع نساء أهل الشِّرك؛ فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تنظر إلى عورتها إلا أهل ملتها، أو ممن يباح له النظر إليها (¬1). 52 - ومن أخلاق أهل الكتاب: ترك الوضوء للصَّلاة على أحد القولين: هل هو من خصائص هذه الأمة، أو لا؟ قال الحليمي: يستدل بأن الوضوء من خصائص هذه الأمة بحديث الصحيحين: "إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ مِنْ آثَارِ الوُضُوْءِ" (¬2). ¬
ورُدَّ: بأن الَّذي اختصَّت به الغرَّة والتَّحجيل لا أصل الوضوء كيف وفي الحديث: "هَذا وُضُوْئِي وَوُضُوءُ الأَنْبِياءِ قَبْلِي" (¬1). وأجاب الحافظ ابن حجر بضعف الحديث، وعلى تقدير ثبوته فيحتمل أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء عليهم السَّلام دون أممهم إلا هذه الأمة (¬2). ويؤيد هذا الاحتمال -كما قال الحافظ السَّيوطي رحمه الله تعالى- ما رواه أبو نعيم رحمه الله تعالى في "الدلائل" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صِفَتِي أَحمَدُ المُتَوَكِّلُ، مَولدُهُ بِمَكَّةَ، وَمُهاجَرُهُ إلَى طَيْبَةَ، لَيْسَ بِفَظِّ وَلا غَلِيْظِ، يَجْزِي بِالحَسَنَةِ وَلا يُكافِئُ بِالسَّيِّئَةِ، أُمَّتُهُ الحَمّادُونَ، يَأتَزِرُونَ عَلَى أَنْصافِهِم، وَيُوَضئِّوْنَ أَطْرافَهُم ... " الحديث (¬3). وروى الدارمي، وابن عساكر عن كعب رحمه الله تعالى في صفة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة: أمته الحمَّادون، يحمدون الله في كل سرَّاء وضرَّاء، وُيكَبرون الله على كل نجد، يُوضئون أطرافهم، ويأتزرون في أوساطهم (¬4). وروى ابن أبي حاتم، وأبو نعيم عن وهب قال: أوحى الله تعالى ¬
إلى شعياء عليه السلام: إنِّي باعث نبيًّا أميًّا؛ فذكر صفة سيدنا ونبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - وصفة أمته، فقال فيهم: يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدُّون الثياب إلى الأنصاف، ويهللون على التِّلال والأشراف (¬1). فإن قلت: ما تصنع بحديث "الصَّحيحين" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ في بَنِي إِسْرائِيْلَ رَجُلٌ يُقالُ لَهُ: جُرَيْجٌ كَانَ يُصَلِّي، جاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَقالَ: أُجِيْبُها أَوْ أُصَلِّي، فَقَالَتْ: اللهُمَّ لا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوْهَ المُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأةٌ، وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ راعِيًا فَأَمْكَنتهُ مِن نفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلامًا، فَقالَتْ: مِنْ جُرَيْج، فَأَتَوْهُ وَكَسرُوا صَوْمَعَتَهُ، وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أتىْ الغُلامَ فَقالَ: مَنْ أَبُوكَ يا غُلامُ؟ فَقالَ: الرَّاعِي، فَقالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لا إِلَّا مِنْ طِيْنٍ" (¬2)؟ قلت: لا يلزم من قوله: "فتوضأ وصلَّى" أن يكون فعل كما تفعل هذه الأمة في وضوئها من مراعاة صفته وترتيبه. على أن إطلاق الوضوء على الغسل ولو في أي عضو كان مما هو واقع في التَّوراة كما روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم وصححه، عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: قرأتُ في التوراة: إن بركة الطَّعام الوضوء بعده، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- بما قرأتُ ¬
53 - ومنها: التحرج عن التيمم عند العجز عن الماء.
في التوراة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بَرَكَةُ الطَّعَامِ الوُضُوءُ قَبْلَهُ والوُضُوءُ بَعْدَهُ" (¬1). ومن المعلوم أن المراد بالوضوء هنا غسل اليدين فقط، أو غسل اليدين مع الفم. وفي حديث جريج المذكور إشارة إلى أن بني إسرائيل كانوا يأخذون بمجرد التهمة، أو بإقرار غير المأخوذ عليه، وهذا مخالف للشرع. وأكثر الحكام الآن يأخذون بذلك، وهو من الجور المحرم؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، وهو من جملة ما تشبهت به هذه الأمة من أعمال بني إسرائيل. 53 - ومنها: التَّحرج عن التيمم عند العجز عن الماء. فإن التيمم من خصائص هذه الأمة بالإجماع. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فُضِّلتُ عَلَى الأَنْبِياءِ بِستٍّ: أوْتِيْتُ جَوامعَ الكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّت لي الغَنائِم، وَجُعِلَتْ لَي الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إلَى الخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ" (¬2). وفي هذا الباب أحاديث كثيرة. ¬
54 - ومنها: إتيان الحائض كما يفعله النصارى، وهو من الكبائر.
والتيمم ثابت بنص القرآن العظيم، وجاحدهُ كافر. وروى أبو نعيم في "الحلية" عن عمرو البكالي: أنَّ موسى عليه السَّلام وفد ببني إسرائيل، فقال الله لهم: إني قد جعلت لكم الأرض مسجدًا، حيث ما صليتم منها تقبلت صلواتكم إلَّا في ثلاثة مواطن؛ فإنَّه من صلى فيهنَّ لم تقبل صلاته: المقبرة، والحمَّام، والمرحاض. قالوا: لا إلا في الكنيسة. قال: وجعلت لكم التراب طهورًا إذا لم تجدوا الماء. قالوا: لا إلا بالماء. قال: وجعلت لكم حيثما صلى الرجل وكان وحده تقبلت صلاته. فقالوا: لا إلا في جماعة (¬1). وهذه الثلاثة قبلتها هذه الأمَّة فصارت من خصائصها. والمتحرج عن التَّيمم في محله على شعبة من البدعة ومرض القلب، وهو في ذلك متشبه باليهود والنَّصارى لأنهم لا يتيممون لصلاتهم. 54 - ومنها: إتيان الحائض كما يفعله النَّصارى، وهو من الكبائر. والتَّحرج عن مساكنتها ومؤاكلتها ومضاجعتها كما يفعله اليهود، وهو مكروه شديد الكراهة. قالت العلماء: كانت اليهود والمجوس يتجنبون الحائض حتى ¬
فائدة
في المجالسة والمؤاكلة، وكانت النصارى يجامعون الْحُيَّضَ، فأمر الله تعالى بالقصد بين هذين (¬1). وروى مسلم، والترمذي عن أنس: - رضي الله عنه - أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحابُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] إلى آخر الآية. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اصْنَعُوا كُل شَيْءٍ إلا النِّكَاحَ". فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه (¬2). * فائِدَةٌ: تمسَّك الثَّوري، ومحمد بن الحسن، وبعض أصحاب الشَّافعي بظاهر قوله في هذا الحديث: "اصْنَعُوا كُل شَيْءٍ إِلَّا النكاحَ" في إباحة مباشرة ما بين سرة الحائض وركبتها إلا الجماع، وعللوه بأن الفرج محل الأذى دون غيره. وقال أبو حنيفة، ومالك، وأبو يوسف، وخلائق من العلماء -وهو الصحيح من مذهب الشافعي-: لا يباح منها إلا ما وراء الإزار لقوله - صلى الله عليه وسلم - ¬
55 - ومنها: ترك الصلاة وإضاعتها.
لمن سأله: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: "تَشُدُّ عَلَيْها إِزارَها، ثُمَّ شَأنَكَ بِأَعْلاهَا" (¬1). ولأن الحليل لو أُبيح له ما تحت الإزار لربما أدى إلى الفعل المحرم، وكان ذلك من باب قطع الذرائع لأن من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه (¬2). 55 - ومنها: ترك الصلاة وإضاعتها. قال تعالى بعد أن ذكر زكريا، ويحيى، وعيسى، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وهارون، وإسماعيل، وإدريس عليهم الصلاة والسلام: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59]. فعلم أن إضاعة الصلاة من أخلاق من خلف بعدهم من اليهود والنصارى وغيرهم. [وفسرت] (¬3) إضاعة الصلاة بتركها، وتأخيرها عن وقتها. وقال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ¬
56 - ومنها: ترك صلاة العصر على الخصوص.
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83] فهذه الآية دالة على وقوع المخالفة من اليهود لهذه الشَّرائع كلها، وتارك الصَّلاة يقتل بعد أن يستتاب إن لم يتب. هذا إن تركها كسلًا، فأما من جحد وجوبها، أو جحد ركنًا من أركانها المجمع عليه كالقيام في فرض القادر، والرُّكوع والسُّجود، أو استباحتها من غير وضوء، أو وهو جنب ولم يغتسل مع وجود الماء فيها وعدم تعذر استعماله، فإنه كافر، وعليه يحمل حديث جابر رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ والكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ". رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه (¬1). وكذلك نحوه من الأحاديث الشاهدة بكفر تارك الصلاة. 56 - ومنها: ترك صلاة العصر على الخصوص. روى أبو الحسن عبد الباقي بن قانع في "معجم الصَّحابة" عن أبي بصرة الغَّفاري - واسمه: جميل بن بصرة - رضي الله تعالى عنه قال: صلَّى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العصر وقال: "إِنَّ هَذِهِ صَلاةٌ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُم فَضَيَّعُوهَا؛ فَمَنْ حافَظَ عَلَيْها كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلا صَلاةَ بَعْدَها حَتَّى يَطْلُعَ النَّجْمُ". ¬
تنبيه
وهو في "صحيح مسلم"، ولفظه: "وَلا صَلاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشّاهِدُ"؛ يعني: النجم (¬1). أخرجه الطَّبراني من حديث أبي أيوب رضي الله تعالى عنه (¬2). * تَنْبِيْهٌ: يدل على أن صلاة العصر كانت مشروعة في بني إسرائيل ما رواه ابن جرير، وابن المنذر عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: الصلاة التي فرط فيها سليمان بن داود عليهما السلام صلاة العصر (¬3). يعني: المشار إليها بقوله: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32]. فالخير الذي أحب حتى شغله عن ذكر ربه المفسر بصلاة العصر هو الخيل الصَّافنات الجياد التي عُرضت عليه، وهي من جملة المال، والمال يعبَّر عنه في كلام العرب بالخير. قال إبراهيم التيمي: كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة فعقرها؛ يعني: حين شغلته. كما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬4). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان سليمان عليه السَّلام لا يُكلَّم إعظاماً له، فلقد فاتته العصر وما استطاع أحد أن يكلِّمه (¬1). ولم يكن ذلك من سليمان عليه السلام تقصيرًا وتضييعًا للصَّلاة، بل نسيها اشتغالًا بعرض الخيل عليه، وهو أمر مباح له، فلما فاتته صلاة العصر أمر بعقر الخيل لشغلها إياه عن صلاته، وكان ذلك من شريعته. ووقع للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - مثلما وقع لسليمان عليه السَّلام من فوات صلاة العصر يوم الأحزاب، إلا أنه فرق بين الفواتين؛ لأنَّ سبب فواتها سليمان سراء، وسبب فواتها النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بلاء. وفي الكتب الستة عن زر قال: قلت لعبيدة: سل علياً رضي الله تعالى عنه عن صلاة الوسطى، فسأله فقال: كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول يوم الأحزاب: "شَغَلُونا عَنْ صَلاةِ الوُسْطَى صَلاةِ العَصْرِ، مَلأَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَأَجْوافَهُمْ ناراً" (¬2). وروي نحوه من حديث ابن مسعود، وابن عباس، وجابر، وحذيفة، وأم سلمة - رضي الله عنهم - (¬3). ¬
57 - ومنها: ترك صلاة العشاء، والنوم في وقتها من غير أن يصليها، وكذلك الصبح.
وروى ابن أبي شيبة، والبيهقيّ في "الشُّعب"، وغيرهما عن علي رضي الله تعالى عنه قال: صلاة الوسطى صلاة العصر التي فرط فيها سليمان عليه السَّلام حتى توارت بالحجاب (¬1). 57 - ومنها: ترك صلاة العشاء، والنَّوم في وقتها من غير أن يصليها، وكذلك الصُّبح. وذلك أن صلاة العشاء من خصوصيات هذه الأمة. بل مجموع الصلوات الخمس في أوقاتها المخصوصة من خصوصياتها كما سبق في التشبه بالأنبياء عليهم السَّلام. روى الشَّيخان عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: أَعْتَمَ النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة بالعشاء حتى انهار الليل، ثمَّ خرج يصلي، فلما قضى صلاته قال لمن حضره: "أَبْشِرُوا؛ إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ" (¬2). وروى ابن أبي شيبة، وأبو داود، والبيهقيّ في "سننه" عن معاذ رضي الله تعالى عنه: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أخَّرَ صلاة العتمة ليلة حتى ظن الظَّانُّ أنه قد صلى، ثم خرج فقال: "أَعْتِمُوا بِهَذهِ الصَّلاةِ؛ فَإِنَّكُم ¬
فُضِّلتُمْ بِها عَلَى سائِرِ الأمَمِ، وَلَمْ يُصَلِّها أُمَّة قَبْلَكُمْ" (¬1). وفي الباب عن ابن عمر، وابن عبَّاس، وجابر، والمنكدر رضي الله تعالى عنهم (¬2). وروى الإمام أحمد، والبزار، وأبو يعلى، والطَّبراني في "الكبير" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: أخر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة العشاء، ثمَّ خرج إلى المسجد فإذا النَّاس ينتظرون الصَّلاة، فقالَ: "أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذ الأَدْيانِ أَحَدٌ يَذْكُرُ اللهَ -عز وجل - هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ". ونزلت هذه الآية: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} حتى بلغ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 113 - 115] (¬3). وروى الطَّحاوي عن أبي عبد الرحمن عبيد الله بن محمَّد بن عائشة قال: إن آدم عليه السلام لما تيب عليه عند الفجر صلَّى ركعتين فصارت الصُّبح. وفدي إسحاق عند الظهر فصلى إبراهيم عليهما السَّلام أربعًا فصارت الظُّهر. ¬
وبعث عُزير فقيل: كم لبثت؟ قال: يومًا، فرأى الشَّمس، فقال: أو بعض يوم، فصلَّى أربع ركعات، فصارت العصر. وغفر لداود عليه السَّلام عند المغرب فصلى أربع ركعات، فجهد فجلس في الثالثة، فصارت المغرب ثلاثًا. وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فقالَ: "أَلا أُخْبِرُكُم بِغُرَفِ الجَنَّةِ؟ غُرَفٌ مِنْ أَلْوَانِ الجَواهِرِ، يُرَى ظَاهِرُها مِنْ باطِنِها، وَباطِنُها مِنْ ظاهِرِها، فِيْها مِنَ النَّعِيمِ والثَّوابِ والكَرامَةِ ما لا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا عَيْن رَأَتْ". فقلنا: بأبينا أنت وأمِّنا يا رسول الله! لمن تلك؟ قال: "لِمَنْ أَفْشَى السَّلامَ، وَأَدامَ الصِّيامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ والنَّاسُ نِيامٌ". فقلنا: بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله! ومن يطيق ذلك؟ فقال: "سَأُخْبِرُكُمْ عَمَّنْ يُطِيْقُ ذَلِكَ، مَنْ لَقِيَ أَخاهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ فَقَدْ أَفْشَى السَّلامَ، وَمَنْ أَطْعَمَ أَهْلَهُ وَعِيالَهُ مِنَ الطَّعامِ حَتّى يُشْبِعَهُمْ فَقدْ أَطْعَمَ الطَّعامَ، وَمَنْ صامَ رَمَضانَ وَمِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَقَدْ أَدامَ الصِّيامَ، وَمَنْ صَلَّى العِشَاءَ الآخِرَة والغَداةَ في جَماعَةٍ فَقَد صَلَّى والنّاسُ نِيامٌ؛ اليَهُودُ والنَّصارَى والمَجُوسُ" (¬2). ¬
58 - ومنها: تأخير صلاة الفجر، وهو من فعل اليهود كما سبق، ومن فعل النصارى، وصلاة المغرب، وهو من فعل اليهود.
قلت: وهذا الحديث يدل أن صلاة الصُّبح أيضًا لا يصلي اليهود والنصارى في وقتها، بل اليهود يصلون عند طلوع الشَّمس إلى المشرق حين يسجد لها الكفار، فمن نام عن صلاة الفجر عمدًا أو تشاغل عنها كان أيضًا متشبهًا باليهود والنصارى، وهاتان الصلاتان -أعني: الصبح والعشاء- أشد الصلاة على المنافقين كما في الحديث، وسيأتي. 58 - ومنها: تأخير صلاة الفجر، وهو من فعل اليهود كما سبق، ومن فعل النَّصارى، وصلاة المغرب، وهو من فعل اليهود. روى الطَّبراني - ورجاله ثقات - عن الصُّنابحي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَزالُ أُمَّتِي في مُسْكَةٍ مِنْ دِيْنِها مَا لَمْ يَنْتَظِرُوا بِالْمَغْرِبِ اشْتِباكَ النُّجُوْمِ مُضاهاةَ اليَهُوْدِ، وَمَا لَمْ يُؤَخرُوا الفَجْرَ مُضاهاةَ النَّصارَى" (¬1). وروى سعيد بن منصور عن الحارث بن وهب، عن أبي عبد الرحمن الصُّنابحي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَزالُ أُمَّتِي في مُسْكَةٍ مَا لَمْ يَنْتَظِرُوا بِالْمَغْرِبِ اشْتِباكَ النُّجُوْمِ مُضاهاةَ اليَهُوْدِ، وَمَا لَمْ يَنتظِرُوا بِالْفَجْرِ محَاقَ النُّجُوْمِ مُضَاهَاةَ النَّصْرانِيَّةِ، وَلَمْ يَكِلُوا الجَنائِزَ إِلَى أَهْلِهَا" (¬2). ¬
59 - ومنها: الإعلام للصلاة بالبوق؛ وهو شأن اليهود، أو بالناقوس؛ وهو شأن النصارى.
وروى الطَّبراني عن الحارث بن وهب - ولم يذكر الصُّنابحي - ولفظه: "لا تَزالُ أُمَّتِي عَلَى الإِسْلامِ" (¬1). 59 - ومنها: الإعلام للصلاة بالبوق؛ وهو شأن اليهود، أو بالنّاقوس؛ وهو شأن النصارى. وفي معناه كل آلة تصلح للهو كالطبل، والمزمار، والنفير. والسَّاعات الدقاقات التي تصنعها الفرنج، ويتداولها أكابر النَّاس الآن من الرُّوم وغيرهم هي من جملة النواقيس، والاكتفاء بدقها دون الأذان غير لائق بأهل الإِسلام والإيمان. روى الشَّيخان، والتِّرمذي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يتحيَّنون الصَّلاة، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتَّخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النَّصارى. وقال بعضهم: مثل قرن اليهود. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ألا تبعثون رجلًا ينادي بالصلاة؟ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا بِلالُ! قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاةِ" (¬2). روى سعيد بن منصور عن أبي عمر بن أنس قال: أخبرني عمومتي من الأنصار قالوا: اهتمَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة؛ كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب راية عند حضور الصَّلاة، فلم يعجبه ذلك. ¬
فذكروا له القرن، فلم يعجبه ذلك. وقال: هو من أمر اليهود. فذكروا له النَّاقوس، فلم يعجبه ذلك، وقال: هو من أمر النَّصارى. فانصرف عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه وهو مُهْتَمٌّ، فَأُرِيَ الأذان في منامه (¬1). وروى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استشار المسلمين فيما يجمعهم على الصَّلاة، فقالوا: البوق، فكرهه من أجل اليهود. ثمَّ ذُكِرَ النَّاقوس، فكرهه من أجل النَّصارى. فأُريَ تلك الليلة عبد الله بن زيد [وعمر بن الخطاب] النِّداء، فأخبر النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر النَبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأذَّن (¬2). والمعروف - وبه يجمع بين حديثي ابن عمر - أن عبد الله بن زيد ابن عبد ربه الأنصَّاري رضي الله تعالى عنه رأى الأذان في منامه، وأنَّ عمر - رضي الله عنه - رأى مثل رُؤياه، فقصَّ ذلك ابن زيد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: "إِنَّ هَذهِ لَرُؤْيا حَقِّ، فَقُمْ مَعَ بِلالٍ؛ فإنَّهُ أَنْدَى، أَوْ أَمَدُّ صَوْتاً مِنْكَ، فأَلْقِ عَلَيْهِ مَا قِيْلَ لَكَ، وَلْيُنَادِ بِذَلِكَ". فلما سمع عمر رضي الله تعالى عنه نداء بلال خرج إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الَّذي قال. ¬
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فَلِلَّهِ الحَمْدُ، فَذَلِكَ أثبَتُ". وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي عن عبد الله بن زيد بمعناه (¬1). قال الشَّيخ أبو الفتح ابن سيِّد الناس اليعمري في "شرح التِّرمذي"، قال: أبو عبيد: وأخبرني أبو بكر الحكم بن عبد الله بن زيد: أنَّ عبد الله قال في ذلك: [من الخفيف] أَحَمَدُ اللهَ ذا الْجَلالِ وَذا الإِكْـ ... ـرامِ حَمْداً عَلى الأَذانِ كَثِيرا إِذْ أَتانِيَ الْبَشِيْرُ حَقًّا مِنَ اللَّـ ... ـهِ فَأَكْرِمْ بِهِ لَدَيَّ بَشِيرا في لَيالٍ والَى بِهِنَّ ثلاثٍ ... كُلَّما جاءَ زادَنِي تَوْقِيراً (¬2) ونقل القرطبي عن كتاب "المديح" للدارقطني: أنَّ أبا بكر الصِّديق رضي الله تعالى عنه أُري الأذان، وأنه أخبر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وأنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالًا بالأذان قبل أن يخبره الأنصاري. ¬
تنبيه
ذكره في حديث النَّبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي بكر، وحديث أبي بكر عنه (¬1). * تنبِيْهٌ: الأذان والإقامة، وكذلك مجموع الصَّلوات الخمس كما علمت من خصائص هذه الأمة. روى إسحاق الختلي في "الديباج"، ومن طريقه أبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَدَاءُ الحُقُوقِ، وَحِفْظُ الأَماناَتِ دِيْني وَدِيْنُ الأَنْبِياءِ مِنْ قَبْلِي، وَقَدْ أُعْطِيْتُ ما لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ قَبْلِي مِنَ الأُمَمِ: أَنْ جَعَلَ اللهُ تَعالَى قُرُبَاتِكُمُ الاسْتِغَفارَ، وَجَعَلَ صَلاتَكُمُ الخَمْسَ بِالأَذانِ والإِقامَةِ، وَلَمْ يُصَلِّهَا أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ؛ فَحافِظُوا عَلَى صَلاتِكُمْ، وَأَيُّ عَبْدٍ صَلَّى الفَرِيْضَةَ واسْتَغْفَرَ الله تَعالَى عَشْرَ مَراتٍ لَمْ يَقُمْ مِنْ مَقامِهِ حَتى يَغْفِرَ اللهُ لَهُ ذُنُوْبَهُ، وَلَو كانَ مِثْلَ رَمْلِ عالج وَجِبالِ تِهامَةَ لَغَفَرَهَا" (¬2). 60 - ومن أعمال اليهود: الانحراف عن القبلة. لما تقدم عن الشعبي أن اليهود يولون عن القبلة شيئًا، وكذلك الرافضة. بل أدب المسلم في صلاته أن يديم النظر إلى موضع سجوده ولا يلتفت، وقد كان هذا الأدب مأمورًا به في شريعة أهل الكتاب، وكان منهم من يخالف فيه. ¬
وقد روى التِّرمذي وصححه، وابن خزيمة، وابن حبَّان في "صحيحيهما"، والحاكم وصحَّحه على شرط الشَّيخين، عن الحارث الأشعري رضي الله تعالى عنه، وليس له في الكتب الستة غير هذا الحديث: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُمِرَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِماتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِها، وَأَنْ يَأْمُرَ بَنيْ إِسْرائِيْلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِها، وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِها. قَالَ عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: إِنَّ الله تَعالَى أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِماتٍ لِتَعْمَلَ بِها، وَتأمُرَ بَنِي إِسْرائِيْلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِها، فَإِمَّا أَنْ تأمُرَهُمْ وإِمَّا أَنْ آمُرَهُمْ، فَقالَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلامُ: أَخْشَى إِنْ سبقْتَنِي بِها أَنْ يُخْسَفَ بِي أَوْ أُعَذَّبَ، فَجَمَعَ النّاسَ في بَيْتِ المَقْدِسِ فامْتَلأَ، وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ، فَقالَ: إِنَّ الله تَعالَى أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِماتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ: أَوَّلُهُنَّ: أَنْ تَعْبُدُوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خالِصِ مالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ فَقالَ: هَذهِ دَارِي وَهذَا عَمَلِي، فاعْمَلْ وَأَدّ إليَّ، وَكانَ يَعْمَلُ وُيؤَدِّي إلَى غَيْرِ سَيّدهِ، فأيَّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ. وَإِنَّ الله تَعالَى أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ، فَإِذا صَلَّيْتُم فَلا تَلْتَفِتُوا؛ فَإِن الله يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاتِهِ ما لَمْ يَلْتَفِتْ. وَآمُرُكُمْ بِالصِّيامِ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ في عِصابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيْها مِسْكٌ، وَكُلُّهُمْ يَعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ ريحُهَا، وَإِنَّ رِيْحَ الصِّيامِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيْحِ المِسْكِ.
وَآمُرُكُمْ بالصدقَةِ؛ فَإنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُل أَسَرَهُ العَدُوُّ فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إلَى عُنُقِهِ، وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقالَ: أَنا أفْدِي نفسِي مِنْكُم بِالْقَلِيْلِ والكَثِيْرِ، فَفَدَى نفسَهُ مِنْهُمْ. وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا الله؛ فَإِن مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ في أثَرهِ سِراعاً حَتى أتَى عَلَى حِضنٍ حَصِيْنٍ فأحْرَزَ نفسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطانِ إلا بِذِكْرِ الله تَعالَى. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَنا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ أَمَرَني اللهُ تَعالَى بِهِنَّ: السَّمْعُ والطّاعَةُ، والجهادُ، والهِجْرَةُ، والحجُّ، والجَماعَةُ؛ فَإِنَّ مَنْ فارَقَ الجَماعَةَ قِيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يُراجِعَ، وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى الجاهِلِيَّةِ فَأنَّهُ مِنْ جُثاءِ جَهَنَّمَ". فقال رجل: يا رسول الله! وإن صلَّى وصام؟ فقال: "وَإِنْ صَلَّى وَصامَ؛ فادْعُوا بِدَعْوَى الله الَّذِي سَمَّاكُمُ المُسْلِمِيْنَ المُؤْمِنيْنَ عِبادَ اللهِ" (¬1). وقد ذكرت هذا الحديث بتمامه لكثرة فوائده (¬2). ¬
61 - ومن أعمال أهل الكتاب: عدم إتمام الركوع والسجود في الصلاة.
61 - ومن أعمال أهل الكتاب: عدم إتمام الرُّكوع والسُّجود في الصَّلاة. والطمأنينة فيهما ركن عند الشافعي والأكثرين (¬1). وقد كان أهل الكتاب يسجدون في الصلاة، وأمَّا الرُّكوع فقال جماعة: إنه من خصوصيات هذه الأمة، وأجابوا عن قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] أن المراد بالرُّكوع هنا خفض الرَّأس فقط من غير انحناء، أو كانوا يركعون بعد السُّجود، ولذلك آخره في الآية. وعليه: فالخصوصية في تقديم الرُّكوع عن السُّجود. وقيل: آخره لأجل تأكيده لأنهم ما كانوا يهتمون به اهتمامهم بالسُّجود، أو كده تحريضاً لها على مخالفة اليهود؛ فإنهم كانوا لا يرفعون فَأُمِرتْ به مخالفة لليهود. أو خصَّت به من عبادة هذه الأمة دون قومه كما خص موسى وهارون عليهما السَّلام بأن يدعو موسى ويؤمِّن هارون دون سائر بني إسرائيل. أو لأنه يُقال: ركع إذا صلَّى، ومن ثمَّ فسَّر ابن عباس {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]: صلِّي مع المصلين، مع قُرَّاء بيت المقدس. كما رواه ابن عساكر (¬2). ¬
وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: {واركعي واسجدي في السَّاجدين} كما أخرجه أبو داود في "المصاحف" (¬1). وهو مما يشير إلى أنَّ معنى اركعي: صلِّي، أو هو على ترتيب الرُّكوع والسُّجود كما في هذه الأمة. وبالجملة: فإن من لا يتم الركوع والسجود متشبه بأهل الكتاب في الجملة. وقد روى الطبراني في "الكبير"، وأبو يعلى بإسناد حسن، وابن خزيمة في "صحيحه" عن أبي صالح، عن أبي عبد الله الأشعري رحمهما الله تعالى: أَنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا لا يتمُّ ركوعهُ وينقرُ في سجودهِ فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ ماتَ هَذَا عَلَى حالِهِ هَذ ماتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -". [ثمَّ] (¬2) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الَّذِي لا يُتِمُّ رُكُوْعَهُ وَيَنْقُرُ في سُجُودِهِ مَثَلُ الجَائِعِ يَأكُلُ التَّمْرَةَ والتَّمْرَتَيْنِ لا يُغْنِيانِ عَنْهُ شَيْئًا". قال أبو صالح: قلت لأبي عبد الله: من حدَّث بهذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أمراء الأجناد: عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وشُرحبيل بن حسنة؛ سمعوه من النَّبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬
62 - ومن أخلاق أهل الكتاب: ترك الصف في الصلاة.
وروى الطبراني - ورواته ثقات - عن بلال رضي الله تعالى عنه: أنه أبصر رجلًا لا يتم الركوع ولا السجود، فقال: لو مات هذا لمات على غير ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وروى الإمام أحمد، والأربعة - وصححه التِّرمذي - وابن خزيمة، وابن حبَّان، والدّارقطني، والبيهقيّ عن أبي مسعود البدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُجْزِئُ صَلاةُ الرَّجُلِ حَتَّى يُقِيْمَ ظَهْرَهُ في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ" (¬2). 62 - ومن أخلاق أهل الكتاب: ترك الصَّف في الصلاة. ومن خصائص هذه الأمة صفوفهم في الصَّلاة، وتساويهم فيها. روى الطَّبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكرت عنده اليهود فقال: "إِنَّ اليَهُودَ قَدْ سَئِمُوا دِيْنَهُمْ، وَهُمْ قَوْمٌ حُسَّدٌ، وَلَمْ يَحْسُدُوا المُسْلِمِيْنَ عَلَى أَفْضَلِ مِنْ ثَلاثٍ: رَدِّ السَّلامِ، وإِقامَةِ الصُّفُوفِ، وَقَولهِمْ خَلْفَ إِمامِهِمْ في المَكْتُوبَةِ: آمِيْنَ" (¬3). ¬
63 - ومن أعمال اليهود: اشتمال الصماء في الصلاة.
وروى ابن خزيمة في "صحيحه" عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا مع النَّبي - صلى الله عليه وسلم - جلوساً فقال: "إِن الله تَعالَى أَعْطَانِي خِصَالًا ثَلاثا: أَعْطانِي صَلاةً في الصُّفُوفِ، وَأَعْطانِي التَّحِيَّةَ إِنَّها لتحِيَّةُ أَهْلِ الجَنَةِ، وَأَعطانِي التَّأمِيْنَ وَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا مِنَ النَّبِيِّينَ إِلا أَنْ يَكُونَ اللهُ أَعْطَى هارُونَ يَدْعُو مُوسَى وُيؤَمِّنُ هارُونُ" (¬1). وروى أبو نعيم في "الدلائل"، وغيره عن كعب الأحبار: أن من صفة هذه الأمة في كتاب الله -يعني: التوراة -: يصفون في الصلاة كصفوف الملائكة، ويصفون في القتال كصفوفهم في الملائكة (¬2). 63 - ومن أعمال اليهود: اشتمال الصَّمَّاء في الصلاة. روى الحاكم وصححه، والبيهقيّ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذا صَلى أَحَدُكُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ فَلْيَشُدَّهُ عَلَى حِقْوِهِ، وَلا يَشْتَمِلْ كاشْتِمالِ اليَهُودِ" (¬3). ¬
قال الخطابي: اشتمال اليهود أن يجلل بدنه بالثوب، ويسدُل من غير أن يشيل طرفه. قال: وأما اشتمال الصمَّاء هو أن يجلل بدنه بالثوب، ثمَّ يرفع طرفه على عاتقيه من أحد جانبيه، فيبدو منه فرجه. قال: وقد جاء هذا التفسير في الحديث، وفسر الأصمعي الصمَّاء بالأول (¬1). وقال البغوي في "شرح السنَّة": وقد روي أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصمّاء اشتمال اليهود، فجعلهما شيئًا واحدًا (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لو لم أجد إلا ثوباً واحدًا كنت أتزر به أحبُّ إليَّ من أن أتوشح به توشيح اليهود (¬3). ومتى توشح بالثوب، وخالف بين طرفيه، وستر عورته لم يكره، وعليه حمل حديث جابر رضي الله تعالى عنه: رأيت النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثوب واحد متوشحاً به. رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح (¬4). ¬
64 - ومنها: الصلاة في السراويل مجردا عن غيره من الثياب.
64 - ومنها: الصَّلاة في السراويل مجردًا عن غيره من الثياب. وهو خلاف الأولى للرجل، أو مكروه - وإن كانت صلاته صحيحة - بخلاف المرأة، فلا تصح لها فيه مجردًا صلاة حيث أمكنها الستر. وقد روى الخطيب عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصَّلاة في السَّراويل (¬1). وروى الإمام أحمد بإسناد حسن، والطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أنَّه قيل للنَّبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تَسَرْوَلُوا واتَّزِرُوا، وَخالِفُوا أَهْلَ الكِتابِ". فقيل: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يتخففون ولا ينتعلون. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "تَخَفَّفُوا وانتعِلُوا، وَخالِفُوا أَهْلَ الكِتابِ". فقيل: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم. فقال: "قُصُّوا سِبالَكُم وَوَفِّرُوا عَثانِينَكُمْ، وَخالِفُوا أَهْلَ الكِتابِ" (¬2). وهذا الحديث فيه إشارة إلى أن من أعمال أهل الكتاب المشي ¬
بالخف مجردًا عن النعل حيث يمشي بالنعل. ومنه: المشي بالخف الملصق بالنعل، ويقال له: الجكمة، أو: الجزمة؛ يلبسه كثير من الناس في الأسفار، فربما أدى بهم إلى بطلان الصلاة أو تركها، وينبغي للمسلم أن يحذر من ذلك ما يؤدي إلى ما ذكرناه. وكذلك من أعمالهم: لبس السراويل مجردًا عن شيء يستر سائر البدن - سواء كان في الصلاة، أو غيرها -. وقد تقدم أن القميص فوق السراويل من لباس الأنبياء عليهم الصلاة السلام. وأول من اتَّخذ السَّراويل إبراهيم عليه السَّلام. قال واصل مولى [ابن] عيينة: أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السَّلام: إنك أكرم أهل الأرض؛ فإذا سجدت فلا ير أهل الأرض عورتك؛ فاتَّخذَ السراويل. ذكره الثعلبي في "العرائس" (¬1). ومن ثمَّ لم يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بترك السراويل لأنه من لباس الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام وإن لبسه اليهود، لكن أمرهم أن يأتزروا فوقه؛ فإن السراويل إذا كان مجردًا عما يستره كان مثلة وتمثيلًا للعورة وإن سترها، فإذا ستر زال المعنى، وظهرت بذلك مخالفة أهل الكتاب. وكذلك كان الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام إذا لبسوا السراويل ¬
65 - ومنها: السدل.
يلبسونه مستوراً بالقميص، وذلك أبلغ في الستر. 65 - ومنها: السَّدل. وهو كما قال أبو عبيد، والشيخ أبو إسحاق في "المهذب": إلقاء طرفي الرداء من الجانبين من غير أن يضمه من جانبيه، وهو مكروه في الضَلاة وخارجاً عنها عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، وجماعة من العلماء - رضي الله عنهم -، إلا أن يكون للخيلاء فيحرم (¬1). ذكره التِّرمذي بعد أن روى حديث النهي عن السَّدل أنَّه من فعل اليهود (¬2). وروى عبد الرازق، وأبو عبيد في "الغريب"، والبيهقيِّ عن علي رضي الله تعالى عنه: أنه رأى قوماً سادلين فقال: كأنهم اليهود خرجوا من فُهرهم. قيل لعبد الرازق: ما معنى: "من فُهرهم"؟ قال: من كنائسهم (¬3). وهو: بضم الفاء وبالراء. ¬
66 - ومنها: لبس التاج.
قال في "القاموس": مدارس اليهود يجتمع إليه في عيدهم، وهو يوم يأكلون فيه ويشربون. وقال: أفهر: شهد عيد اليهود ومدارسهم (¬1). وظاهر كلامه أنه مفرد، ومفهوم كلام عبد الرَّزاق أنه جمع، إلَّا أن يكون أراد تفسير المعنى. وروى البزار، والطَّبراني في "الثَّلاثة"، والبيهقيّ عن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: أبصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا يصلِّي وقد سدل ثوبه، فدنا منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعطف عليه ثوبه (¬2). 66 - ومنها: لبس التَّاج. وهو الطيلسان المقوَّر. ويقال له المدوَّر لأنه مدور كالسفرة. ويقال له: الأخضر والأسود. وكذلك الطرحة السَّوداء، وهي الطَّيلسان المسدول من الجانبين لما علمت أن السدل من أعمال اليهود. وقد كان ذلك في دولة العباسيين فمن بعدهم إلى أواخر المئة ¬
التاسعة شعارًا لقاضي القضاة، وكان من البدع، ثمَّ إن الله تعالى كفى النَّاس اليوم مؤنة هذه البدعة فبطلت. روى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أصْفَهانَ سَبْعُونَ أَلْفاً عَلَيْهِمُ الطَّيالِسَةُ" (¬1). وروى البخاريُّ عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنه نظر إلى النَّاس يوم الجمعة فرأى طيالسة، فقال: كأنهم السَّاعة يهود خيبر (¬2). وأما القناع ويقال له: الطيلسان المحنَّك فإنَّه من السنة، وإياه كان يلبس من حكي عنهم من السلف؛ كعمر بن عبد العزيز، والحسن، وابن سيرين، وحميد بن هلال، ومكحول، ومسروق، وإبراهيم النخعي، وميمون بن مهران، وسعيد بن المسَّيب. وروى البيهقي في "الشعب" عن خالد بن خداش قال: جئت لمالك بن أنس رضي الله تعالى عنه فرأيت عليه طيلساناً، فقلت: يا أبا عبد الله! هذا شيء أحدثته أم رأيت عليه النَّاس؟ فقال: لا، بل شيء رأيت عليه الناس (¬3). وروى وكيع في "الغرر" عن محمَّد بن زياد قال: خرج أبو نخيلة من البصرة، فلقيه ناس فقالوا: كيف تركت الناس بها؟ ¬
تنبيه
فقال [من الرجز]: كُلُّهُمُ مُبْتَكِرٌ لِشَأْنِهِ ... قاعِمُ لَحْيَيْهِ بِطَيْلَسانِهِ وللحافظ السيوطي كتاب لطيف حافل في الطيلسان، ومنه انتقيت ما ذكرته هنا (¬1). * تنبِيْهٌ: أحدث الناس بعد الطرحة الشدود المسدولة على الكتفين للعلماء، ولبعض وجوه النَّاس حتى كانت كالشعار لهم. وقد أَدْرَكتُ النَّاسَ مكبين عليه حتى كانوا يعيبون على من لم يفعله، وكنت ربما وضعته في سن الشَّباب، فلما رأيت ما في السدل اتَّخذته طويلًا، ثمَّ كنت ألقي أحد طرفيه على الكتف لأسلم من السَّدل، ثمَّ رأيت تركه بالكلية لأني لم أكن ينشرح صدري له، فإن تركه أقرب إلى السُّنَّة؛ فإن التَّقنع المسنون لا يتم بمجرد وضع طرفه على الكتف، بل لا بد من وضع بعضه على الرأس، وهو أمر متروك في النَّاس بالكلية بحيث إن من فعله الآن أخذته ألسنتُهم. ¬
67 - ومنها: التميل في الصلاة.
67 - ومنها: التَّميل في الصلاة. ومتى كانت فيها ثلاث حركات متواليات بطلت، وكذلك تبطل بالوثبة الفاحشة. روى الحكيم الترمذي في "نوادره"، وابن عدي في "كامله"، وأبو نعيم في "حليته" عن القاسم بن محمَّد، عن أسماء بنت أبي بكر، عن أم رومان والدة عائشة رضي الله تعالى عنهم قالت: رآني أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أتميل في صلاتي، فزجرني زجرة كدت أنصرف من صلاتي، ثمَّ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلاةِ فَلْيُسَكنْ أَطْرافَهُ، وَلا يَتَمَيَّلْ كَما يَتَميَّلُ اليَهُودُ؛ فَإِنَّ تَسْكِيْنَ الأَطْرافِ في الصَّلاةِ مِنْ تَمامِ الصَّلاة" (¬1). وقال أبو عمرو بن العلاء: إنما يسمى اليهود يهودًا وهودًا؛ لأنهم يتهوَّدون؛ أي: يتحركون عند قراءة التَّوراة، ويقولون: إن السَّماوات والأرض تحركت حين آتى الله تعالى موسى التَّوراة (¬2). وعلى هذا: فالتميل عند قراءة القرآن، أو عند سماعه إذًا كان تصنعاً ورياءً، أو على سبيل العبث، فهو شبيه بتميل اليهود عند سماع التَّوراة. وإذا كان لغرض التفسح في نفس القارئ لو كان في قراءته أو ¬
68 - ومنها: الاختصار في الصلاة.
سماعه متدبرًا لمعانيه، فأثر فيه التدبر هذه الحركة عن طرب، أو رغبة أو رهبة، فهذه حركة محمودة لا بأس بها. 68 - ومنها: الاختصار في الصَّلاة. وهو وضع اليد على الخاصرة، وتقدم أنَّه من فعل الشَّيطان أيضًا. روى البيهقي في "الشعب" عن مسروق رحمه الله تعالى قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنه عن ذلك؛ يعني: وضع اليد على الخاصرة في الصلاة، فقالت: هذا فعل اليهود (¬1). وروى عبد الرَّزَّاق عنه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها نهت أن يجعل الرجل أصابعه في خاصرته في الصَّلاة كما تصنع اليهود. وفي رواية: فإنَّه محشر اليهود (¬2)؛ أي: إنهم يحشرون يوم القيامة ويد كل واحد منهم على خاصرته. 69 - ومنها: قبض كف اليسرى أو رسغها باليد اليمنى من غير أن يقبض من الساعد شيئًا. فقد روى ابن أبي شيبة عن مجاهد رحمه الله تعالى: أن أهل الكتاب يفعلونه (¬3). واعلم أن وضع اليد اليمنى على اليسرى سنة، بل روى ابن أبي ¬
شيبَة عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه أنه قال: من أخلاق النبيين وضع اليمنى على الشمال (¬1)؛ يعني: في الصلاة. وتقدَّم مرفوعاً. وروى ابن أبي شيبة عن الحسن رحمه الله تعالى - مرسلًا - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كأَني أنظُرُ إِلَى أَخبارِ بَني إِسْرائِيلَ واضِعِي أَيْمانِهمْ عَلَى شَمائِلِهِمْ في الصَّلاةِ" (¬2). وفيه إيماء إلى أن غير الأحبار منهم كانوا يتركون هذا الأدب، أو أنه إنما كان مخصوصاً بالأحبار. ولمَّا كان هذا من فعل الأنبياء والصَّالحين تعين أن لا يترك العمل به؛ فاستحبه أبو حنيفة، والشَّافعي، وأحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهم. واختار مالك - رضي الله عنه - إرسال اليدين، ولعله فرَّ من موافقة اليهود في أصل وضع اليمين على الشمال. وغيره من الأئمة نظروا إلى ما تقدَّم، ثمَّ تحرَّوا هيئة يخالفون فيها اليهود. ومذهبنا أن يقبض بكفه اليمنى كوع اليسرى -وهو العظم الذي على الإبهام - وبعض ساعدها، باسطاً أصابع اليمنى في عرض مفصل اليسرى، أو ناشرًا لها صوب الساعد. ¬
70 - ومنها: تغميض العينين في الصلاة.
ثم محل وضع اليدين؛ قال الشَّافعي رحمه الله تعالى: تحت الصَّدر وفوق السُّرَّة. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: تحتها. وعن أحمد رحمه الله تعالى روايتان كالقولين، والثانية أرجح (¬1). 70 - ومنها: تغميض العينين في الصَّلاة. والمستحب إدامة نظر المصلي إلى موضع سجوده. روى الدَّيلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُغْمِضُوا أَعْيُنكُمْ في السُّجُودِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ فِعْلِ اليَهُودِ" (¬2). وروى عبد الرَّزاق عن مجاهد قال: يكره أن يغمض الرجل عينيه في الصَّلاة كما تغمض اليهود (¬3). 71 - ومنها: السُّجود على طرف الجبين. ولا بد في السُّجود من مباشرة الجبهة أو بعضها مُصَلاهُ من غير حائل. قال ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما: إني لأعلم لم تسجد اليهود على حرف. ¬
72 - ومنها: الاعتماد على اليد في جلوس الصلاة لغير ضرورة.
قال الله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف: 171]. قال: لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به، فسجدوا وهم ينظرون إليه مخافة أن يسقط عليهم. رواه ابن أبي حاتم (¬1). وفي رواية: كانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا: سمعنا وأطعنا، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا: سمعنا وعصينا (¬2). وقال عطاء: توعدهم الله تعالى بوقوع الجبل إن لم يقبلوا أحكام التَّوراة، وكانوا أَبَوْها لثقلها، فقبلوا بعد الزجر كل منهم ساجد على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليُمنى إلى الجبل فَرَقاً من سقوطه، فلذلك ترى اليهود يسجدون على حاجبهم الأيسر، ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة (¬3). 72 - ومنها: الاعتماد على اليد في جلوس الصلاة لغير ضرورة. روى عبد الرَّزاق عن ابن جريج رحمه الله تعالى قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة أنه سمع عمرو بن شريد رضي الله تعالى عنه (¬4)، ¬
يخبر عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يقول في وضع الرَّجُل شماله إذا جلس في الصَّلاة: "هِيَ قِعْدَةُ الْمَغْضُوْبِ عَلَيْهِم" (¬1). وروى الحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه نهى أن يجلس الرجل في الصَّلاة وهو معتمد على يده اليسرى، وقال: "إِنَّها صَلاةُ اليَهُودِ" (¬2). وقال نافع: رأى ابن عمر رجلًا يصلِّي جالساً معتمدًا على يديه فقال: ما يجلسك في صلاتك جلوس المغضوب عليهم (¬3)؟ وقال محمَّد بن عجلان: رأى نافع رجلًا جالساً معتمداً بيديه على الأرض، فقال: إنك جلست جلوس قوم عُذِّبوا (¬4). ويظهر من كلام ابن عمر ونافع، ومن الحديث الأول: أن الجلوس مع الاعتماد على اليدين أو على إحداهما من أعمال اليهود -سواء كان ¬
73 - ومنها: التكلم في الصلاة بالكلام الأجنبي.
ذلك في الصَّلاة أو خارجاً عنها -. 73 - ومنها: التكلم في الصَّلاة بالكلام الأجنبي. روى عبد الرزاق عن عطاء قال: بلغني أن المسلمين كانوا يتكلمون في الصلاة كما تتكلم اليهود والنصارى حتى نزلت: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] (¬1). 74 - ومنها: مساوقة (¬2) الإمام في القراءة. روى أبو الشيخ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كانت بنو إسرائيل إذا قرأت أئمتهم جاوبوهم، فكره الله تعالى ذلك لهذه الأمة، فقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] (¬3). وروى سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القُرظي رحمه الله تعالى -مرسلًا- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قرأ في الصَّلاة أجابه من وراءه؛ إذا قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قالوا مثل ما يقول حين تنقضي فاتحة القرآن والسورة، فلبث ما شاء الله أن يلبث، ثمَّ نزلت: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (¬4). ¬
وبهذه الآية احتجَّ من قال بأن المأموم لا يقرأ في الجهرية؛ كمالك في رواية عنه، وأحمد رضي الله تعالى عنهما (¬1). وأجيب بأن الآية نزلت في الخطبة كما قال مجاهد وغيره (¬2)، وسميت قرآناً لاشتمالها عليه. وروى البيهقي في "سننه" عن أبي هريرة، ومعاوية (¬3) رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا: كان النَّاس يتكلمون في الصَّلاة، فنزلت هذه الآية (¬4). وذهب أبو حنيفة - رضي الله عنه - على أنه لا يجب على المأموم قراءة (¬5)، ويدل له الحديث: "مَنْ صَلَّى خَلْفَ إِمامِ فَإِنَّ قِراءَةَ الإِمامِ لَهُ قِراءَةٌ" (¬6) في أحاديث أخر، لكنها كلها ضعيفة كما نص عليه البيهقي (¬7)، وغيره من أئمة الحديث. ¬
75 - ومنها: القيام إلى صلاة بعد الفراغ من أخرى من غير فصل بينهما.
وذهب الشافعي إلى وجوب قراءة الفاتحة عليه مطلقاً (¬1) إلا في ركعة المسبوق لحديث الصحيحين: "لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ القُرآنِ" (¬2). وحديث عبادة بن الصَّامت - رضي الله عنه -: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في صلاة الصُّبح فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: "لَعَلَّكُمْ تَقْرَؤُونَ وَراءَ إِمامِكُم". قلنا: نعم، هذا يا رسول الله. قال: "لا تَفْعَلُوا إلا بِفاتِحَةِ الكِتابِ؛ فَإنَّهُ لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِها". رواه أبو داود، والترمذي، والدَّارقطني، وحسَّناه (¬3). وقال الخطابي: إسناده جيد لا مطعن فيه (¬4). ولأحاديث أخرى (¬5). 75 - ومنها: القيام إلى صلاَّة بعد الفراغ من أخرى من غير فصل بينهما. روى أبو داود عن الأزرق بن قيس قال: صلَّى بنا أمام لنا ¬
يُكنَّى أبا رمثة، فقال: صليت هذه الصَّلاة أو مثل هذه الصَّلاة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: وكان أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - يقومان في الصف المتقدِّم عن يمينه، وكان رجل قد شهد التكبيرة الأولى من الصَّلاة، فصلَّى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ثم سلم عن يمينه وعن يساره حتى رأينا بياض خديه، ثم انفتل كانفتال، أو كانفتالة أبي رمثة -يعني: نفسه- فقام الرجل الذي أدرك معه التكبيرة الأولى من الصلاة يشفع؛ أي: يصلي صلاة أخرى، فوثب إليه عمر رضي الله تعالى عنه فأخذ بمنكبيه، فهزه، وقال: اجلس؛ فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم تكن لصلاتهم -وفي رواية: بين صلاتهم- فصلٌ، فرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- بصره فقال: "أَصابَ اللهُ بِكَ يا عُمَر"، وفي رواية: "يَا ابْنَ الخَطابِ" (¬1). وروى الإمام أحمد بسند صحيح، وأبو يعلى عن عبد الله بن رباح، عن رجل من الصَّحابة رضي الله تعالى عنهم: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى العصر، فقام رجل، فرآه عمر رضي الله تعالى عنه، فقال له: اجلس؛ فإنما هلك أهل الكتاب بأنه لم يكن لصلاتهم فصلٌ. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَحْسَنَ ابْنُ الخَطَّابِ" (¬2). ¬
لطيفة
* لَطِيْفَةٌ: سئل الشيخ العلامَّة شمس الذين محمد بن الخناجري الحلبي عن من سلم فارغاً من صلاته، ثمَّ عاد واقفًا وهذه عادته؟ فأجاب بأن هذا ليس من السنة، بل هو من صنع اليهود. فاتفق أن السؤال كان عن رجل من أعيان حلب، وكان أجداده الأقدمون من اليهود، فعوتب المفتي في ذلك من بعض الأكابر، فأراه النقل، ثم قال معتذرًا: إن اليهودية قد جذبت فلاناً إلى نفسها؛ يعني: المستفتي عنه. 76 - ومنها: أنهم إذا قضوا صلاتهم لم يكن بأسرع من يقوموا فيدعوا. والأولى للمصلي أن يقول الأذكار الواردة وهو قاعد. روى ابن أبي شيبة عن مجاهد: أنه كره القيام بعدها؛ أي: بعد الصَّلاة تشبهاً باليهود (¬1). وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لا تقوموا تدعون كما تصنع اليهود في كنائسهم (¬2). وكأنه كره أن يخرج الإنسان على نفسه أن لا يدعو إلا قائماً، بل الأولى أن لا يتقيَّد بهيئة في الدُّعاء. ¬
77 - ومنها: ترك تعظيم يوم الجمعة وليلتها، وترك صلاة الجمعة.
وفي كتاب الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]. قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: كنا ندعو قيامًا وقعودًا، ونسبِّح ركوعًا وسجوداً (¬1). وقال جميل بن زيد: رأيت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما دخل البيت وصلَّى ركعتين، ثمَّ خرجت وتركته قائمًا يدعو ويكبر (¬2). رواهما ابن أبي شيبة. 77 - ومنها: ترك تعظيم يوم الجمعة وليلتها، وترك صلاة الجمعة. وهو اليوم الذي أضلَّته أهل الملَّتين اليهود والنَّصارى، وهدانا الله تعالى له. روى الشَّيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّه سمع النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوْتُوا الكِتَابَ مِنَ قَبْلِنا، ثُمَّ هَذا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ فاخْتَلَفُوا، فَهَدَانا اللهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنا فِيْهِ تَبَعٌ؛ اليَهُودُ غَدًا، والنَّصارَى بَعْدَ غَدٍ" (¬3). وروى مسلم عن حذيفة، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَضَلَّ اللهُ عَنِ الجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنا، وَكانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ ¬
78 - ومنها: ترك العمل يوم الجمعة.
السَّبْتِ، وَكَانَ للنَّصارَى يَوْمُ الأَحَدِ، فَجاءَ اللهُ بِنا فَهَدانا لِيَوْمِ الجُمُعَةِ" (¬1). وقلت في "منظومتي" في خصائص يوم الجمعة: [من الرجز] أَضَلَّهُ الْيَهُوْدُ والنَّصارَى ... وَاخْتَلَفُوا فأَصْبَحُوا حَيارَى وَوَفَقَ الرَّحْمَنُ هَذِي الأمَّة ... حَتَّى اهْتَدَوْا لَهُ بِنُورِ الرَّحْمَةْ 78 - ومنها: ترك العمل يوم الجمعة. قال محمَّد بن الحسن: يكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل اليهود والنَّصارى في السبت والأحد (¬2). وذكر ابن الحاج في "المدخل": أن العلماء قد كرهوا ترك العمل يوم الجمعة، وأن يخص يوم الجمعة بذلك خيفة من التشبه باليهود في السبت، والنَّصارى بالأحد (¬3). وظاهر مذهب الشَّافعي أنه لا كراهة. نعم إن قصد بترك العمل التشَّبه باليهود في السَّبت والنَّصارى في الأحد كان مكروهاً، بل ربما حرم. ¬
79 - ومنها: البيع والشراء، وسائر المعاملات يوم الجمعة بعد الأذان بين يدي الخطيب،
فإن ترك العمل لأجل التبكير للمسجد الجامع، أو لغسل الثَّوب وتحصيل الطِّيب فلا بأس. هذا قبل الصَّلاة، وأما بعدها فنص جماعة من السَّلف على استحباب الكسب والانتشار في طلب الرِّزق لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. 79 - ومنها: البيع والشِّراء، وسائر المعاملات يوم الجمعة بعد الأذان بين يدي الخطيب، والسَّفر يوم الجمعة بعد طلوع الفجر؛ فإن ذلك يحرم. ومن المعلوم أن أهل الكتابين والمشركين يفعلون ذلك، ولا يتحاشون عنه. وفي كتاب الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. قال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: كان بالمدينة إذا أذن المؤذن من يوم الجمعة ينادون في الأسواق: حرم البيع، حرم البيع. رواه ابن أبي شيبة، وغيره (¬1). 80 - ومنها: الصلاة في المحاريب. ولذلك كرهها أبو حنيفة، وغيره رحمهم الله تعالى. قال ابن تيمية: وهو ظاهر مذهب أحمد، وينبغي للإمام الوقوف ¬
فيما يلي المحراب خروجاً من الخلاف. روى البزار -ورجاله موثقون- عن عبد الله؛ يعني: ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه كره الصَّلاة في المحراب، وقال: إنما كانت الكنائس، فلا تشبهوا بأهل الكتاب (¬1). وروى سعيد بن منصور، ولفظه: كان يكره الصلاة في الطاق، ويقول: إنه في الكنائس؛ فلا تشبهوا بأهل الكتاب (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن موسى الجهني قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَزالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ ما لَمْ يَتَّخِذُوا في مَسَاجِدِهِمْ مَذابِحَ كَمَذابِحِ النَّصارَى" (¬3)؛ يعني: المحاريب. وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: أن من أشراط السَّاعة أن تتخذ المذابح في المساجد (¬4). وروى عبد الرزاق عن الضَّحاك بن مزاحم رضي الله تعالى عنه قال: أول شرك كان في هذه الأمة الصَّلاة في هذه المحاريب (¬5). وعن كعب رحمه الله تعالى قال: يكون في آخر الزَّمان قوم تنقص أعمارهم، ويزينون مساجدهم، ويتخذون فيها مذابح كمذابح النَّصارى؛ ¬
81 - ومنها: وضع الستارة والحجاب على المذابح؛ أي: المحاريب، والمناسك؛ أي: المعابد.
فإذا فعلوا ذلك صب عليهم البلاء (¬1). وذهب الشَّافعي، وغيره إلى جواز الصَّلاة في المحاريب. وروى ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما -: أن كان يصلِّي في الطاق (¬2)؛ يعني: المحراب. 81 - ومنها: وضع الستارة والحجاب على المذابح؛ أي: المحاريب، والمناسك؛ أي: المعابد. روى ابن أبي حاتم عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما: أنه قال لعمر بن الخطَّاب رضي الله تعالى عنه: لم استحبَّ النَّصارى الحجب على مذابحهم؟ قال: إنما استحبَّ النَّصارى الحجب على مذابحهم ومناسكهم لقول الله تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} [مريم: 17] (¬3). ومن هذا الصنع: وضع الستور على أبواب الضَّرائح وشبابيكها، وهو من إضاعة المال. 82 - ومنها: القراءة باللحون المُخْرِجة للفظ القرآن عن رونقه وحلاوته، وللقراءة عن التجويد. روى الحكيم التِّرمذي في "نوادره"، والطَّبراني في "الأوسط"، ¬
والبيهقيُّ في "الشُّعب" عن حذيفة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اِقْرَءُوا القُرْآنَ بِلُحُونِ العَرَبِ وَأَصْواتِها، وأِّياكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الكِتابَيْنِ وَأَهْلِ الفِسْقِ؛ فَإنَّهُ سَيَجِيءُ بَعْدِي قَوْمٌ يُرَجِّعُونَ القِراءَةَ تَرْجِيعَ الغِناءِ والرَّهْبانِيَّةِ والنَّوحِ، لا يُجاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، مَفْتُوْنةٌ قُلُوبُهُم وَقُلُوبُ مُنْ يُعْجِبُهُم شَأنُهُم" (¬1). قال ابن الحاج في "المدخل": اللُّحون جمع لحن، وهو التَّطريب، وترجيع الصوت، وتحسينه بالقراءة والشِّعر. قال علماؤنا: يشبه هذا الذي يفعله قراء زماننا بين يدي الوعَّاظ في المجالس من اللحون الأعجمية التي يقرؤون بها ما نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: والتَّرجيع في القراءة: ترديد الحروف والحركات، والقراءة كقراءة النَّصارى. قال: والتَّرتيل في القراءة هو التَّأني فيه، والتَّمهل، وتبين الحروف والحركات تشبيهًا بالشَّعر المرتل، وهو المطلوب في قراءة القرآن. انتهى (¬2). ومذهبنا أن تحسين الصوت بالقرآن وترتيله مستحب ما لم يخرج عن حدّ القراءة بالتمطيط فيكره. ¬
83 - ومنها: تحلية المصاحف بالذهب والفضة وغيرهما، مع هجرها من التلاوة، وترك العمل بها.
فإن أفرط بحيث يزيد حرفاً ويخفي حرفًا فيحرم، كما نص عليه النَّووي في "الأذكار"، وغيره (¬1). 83 - ومنها: تَحْلِيَة المصاحف بالذَّهب والفضة وغيرهما، مع هجرها من التلاوة، وترك العمل بها. قال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101]: أدرجوا التَّوراة في الحرير، وحلُّوها بالذَّهب والفضة، ولم يعملوا بها؛ فذلك نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم. نقله الثَّعلبي، وغيره (¬2). وروى الحكيم التِّرمذي عن أبي الدَّرداء - رضي الله عنه -: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا زَخْرَفْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ، وَحَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ فالدَّمارُ عَلَيْكُمُ" (¬3). 84 - ومنها: اتخاذ القبور مساجد، والبناء على القبور. روى الشَّيخان عن عائشة، وابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهم قالا: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها، فقال وهو كذلك: "لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودِ والنَّصارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيائِهِمْ مَساجِدَ -يُحَذِّرُ ما صَنَعُوا-" (¬4). ¬
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قاتَلَ اللهُ اليَهُودَ اتَّخَذُوا ... ". وفي رواية مسلم: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ والنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيائِهِمْ مَسَاجِدَ" (¬1). وروى الإمام أحمد بإسناد جيد، وابن حبَّان في "صحيحه" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مِنْ شِرارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْياء، والَّذِيْنَ يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَساجِدَ" (¬2). وروى مسلم عن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبنى على القبور (¬3). وروى الإمام أحمد، وأصحاب السنن الثلاثة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زائرات القبور، والمتَّخذين عليها المساجد والسُّرج (¬4). قال العلماء: يحرم أن يبنى في المقبرة المسبلة على قبر صالح، أو عالم، أو أمير، أو غيرهم بيتاً أو مسجدًا، أو مشهداً، أو نحو ذلك ¬
85 - ومنها: تخريب المساجد، ومنع الناس من الصلاة والعبادة فيها، وتقذيرها، وتغيير صيغتها دارا أو حانوتا، أو غير ذلك.
لأنَّ المقبرة إنما سبلت للدَّفن، ولاستلزام البناء لنبش كثير من قبور المسلمين، وإخراج عظامهم، وللنهي عن ذلك، ولأنه من فعل اليهود والنَّصارى، ولاتخاذ القبور مساجد (¬1). ولا تصح الصَّلاة في المقبرة عند الإمام أحمد. وقال غيره: تصح بشروطها مع الكراهة. وكذلك حكم المجزرة، والمزبلة، والحمَّام، وقارعة الطَّريق، وأعطان الإبل (¬2). ويحرم استقبال قبور الأنبياء في الصلاة، ويكره استقبال قبور غيرهم للنهي عن ذلك، كما في "صحيح مسلم" (¬3). 85 - ومنها: تخريب المساجد، ومنع النَّاس من الصَّلاة والعبادة فيها، وتقذيرها، وتغيير صيغتها دارًا أو حانوتًا، أو غير ذلك. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114]. قال ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما: هم النَّصارى. ¬
86 - ومنها: تشريف المساجد، وزخرفتها وهو مكروه.
وقال مجاهد: كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون النَّاس أن يصلوا فيه. قال قتادة: أولئك أعداء الله الرُّوم، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بخت نصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. روى هذه الآثار ابن جرير (¬1). 86 - ومنها: تشريف المساجد، وزخرفتها وهو مكروه. روى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَرَاكُمْ سَتُشَرِّفُوْنَ مَسَاجِدَكُمْ كَمَا شَرَّفَتِ اليَهُودُ كَنائِسَها، وَكَما شَرَّفَتِ النَصارَى بِيَعَها" (¬2). وهي -كعنب-: جمع بيعة- بالكسر- معبد النصارى، كما في "القاموس" (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أيضًا- موقوفًا- قال: لتزخرفن مساجدكم كما زخرفت اليهود والنصارى مساجدهم (¬4). وروى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال ¬
رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان يقال: ليأتين على الناس زمان يبنون المساجد يتباهون فيها، ولا يعمرونها إلا قليلًا (¬2). وروى هو والطبراني في "الكبير" بإسناد جيد، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: نهينا، أو نهانا أن نصلي في مسجد مشرف (¬3). وروى الطَّبراني في "الكبير" أيضًا -بإسناد جيد- عن عبادة بن الصَّامت رضي الله تعالى عنه قال: قالت الأنصار: إلى متى نصلِّي يا رسول الله إلى هذا الجريد؟ فجمعوا دنانير، فأتوا بها النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: نصلح هذا المسجد ونزينه. فقال: "لَيْسَ لِي رَغْبَةٌ عَنْ أَخِي مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ؛ عرشٌ كَعَرِيْشِ مُوسى" (¬4). ¬
وروى تمَّام في "فوائده"، والديلمي، وابن النَّجار عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه: أَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَرْشاً كَعَرْشِ مُوسَى، وَخَشَباتٍ؛ والأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن هارون بن رِئاب قال: قيل لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل! زخرفتم مساجدكم، وخربتم قلوبكم، وسمَّنتم أنفسكم كما تسمن البهائم ليوم ذبحها، فنظرت إليكم نظرة ولعنتكم، وإن دعوتموني لم أستجب لكم، وإن سألتموني لم أعطكم. وعن يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى قال: قال الحواريون: يا مسيح الله! انظر إلى بيت الله ما أحسنه! قال: آمين آمين، بحق أقول لكم: لا يترك الله تعالى من هذا المسجد حجرًا قائمًا على حجر إلا أهلكه بذنوب أهله. إن الله لا يصنع بالذهب ولا بالفضة ولا بهذه الحجارة شيئًا. إن أحب إلى الله منها القلوب الصَّالحة، بها يعمر الله تعالى الأرض، وبها يخرب الأرض إذا كانت على غير ذلك (¬2). ¬
وروى الدينوري في "المجالسة" عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: إن الله تعالى قال لشعياء عليه السلام: قم في قومك، أوحِ على لسانك. فلما قام شعياء أنطق الله لسانه بالوحي، فقال: يا سماء اسمعي، ويا أرض أنصتي. قال: فاستمعت السماء، وأنصتت الأرض. فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول لكم: إني استقبلت بني إسرائيل بالكرامة، وهم كالغنم الضائعة لا راعي لها، فأويت شاذها، وجمعت فاذها، وجبرت كسرها، وداويت مريضها، وأسمنت مهزولها، فبطرت فتناطحت، فقتل بعضها بعضًا حتى لم يبقَ منها عظم صحيح. إن الحمار ربما يذكر رَّيه الذي يشبع عليه فيراجعه، وإن الثور ربما يذكر مرجه الذي سمنَ فيه فينتابه، وإن البعير ربما يذكر وطنه الذي أنيخ فيه فينزع إليه، وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من أين جاءهم الخير وهم أهل الألباب والعقول، ليسوا بإبل ولا بقر ولا حمير. وإني ضارب لهم مثلًا فاسمعوا؛ قل لهم: كيف ترون في أرض كانت زمانًا من زمانها خِرْبة مَواتًا لا زرع فيها ولا حرث، وكان لها رب قوي حكيم، فأقبل عليها بالعمارة، وأحاط عليها سياجاً، وشيَّد فيها قصورًا، وأنبط فيها نهرًا، وصفَّ فيها غراساً من الزَّيتون والرُّمان والنخيل والأعناب وألوان الثِّمار، وولى ذلك ذا رأي وهمَّة، حفيظاً قوياً أميناً، فلما جاء إبان ثمرها أثمرت خروبًا، ما كنتم قائلين له ومشيرين عليه؟
قالوا: كنا نقول له: بئست الأرض أرضك، ونشير عليه أن يقلع سياجها، ويهدم قصرها، ويدفن نهرها، ويحرق غرسها حتى تعود خربة مواتاً لا عمران فيها. فقال الله تعالى: قل لهم: إن السِّياج ذمتي، وإن القصر شريعتي، وإن النهر كتابي مثل لهم، والخروب أعمالهم الخبيثة، وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، يتقربون إليَّ بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللَّحم ولا آكله، ويدَّعون بأنهم يتقربون إليَّ بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها عليهم، ويزوِّقون المساجد، وليس لي إلى تزويقها حاجة، إنما أمرت برفعها لأُذْكَرَ فيها وأُسبَّح، ويقولون: لو كان يقدر على جمع أُلفتنا لجمعها، ولو كان يقدر على أن يفقه قلوبنا لفقهها، فاعمد إلى عودين يابسين، فاكتب فيهما كتاباً: إنَّ الله يأمركما أن تعودا عودًا واحدًا، فقال لهما ذلك، فاختلطا فصارا عودًا واحدًا، وصار الكتاب في طرف العود كتاباً واحدًا. يا معشر بني إسرائيل! إنَّ الله تعالى يقول لكم: إني قَدِرْتُ على أن أُفقِّهَ العيدان اليابسة، وعلى أن أؤلف بينهما، فكيف لا أقدر أن أجمع ألفتكم إن شئت؟ أم كيف لا أقدر على أن أفقه قلوبكم؟ ويقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا، وصلَّينا فلم تنور صلاَّتنا، وزكينا فلم تزك زكوتنا، ودعونا فلم يستجب لنا، فقال الله تعالى: سلهم لم ذلك؟ وما الذي يمنعني أن أجيبهم؟ ألست أسمع السَّامعين، وأبصر الناظرين، وأقرب المجيبين، وأرحم الراحمين؟ ألأن خزائني فنيت،
87 - ومن أعمال أهل الكتاب: خروج المرأة متبرجة بزينتها، وتبخترها بالمساجد وغيرها، وتمكين زوجها إياها من ذلك.
ويداي مبسوطتان بالخير أنفق كيف أشاء؟ أم لأن ذات يدي قلَّتْ؟ كيف ومفاتيح الخير بيدي لا يفتحها ولا يغلقها غيري؟ أم لأنَّ رحمتي ضاقت؟ كيف ورحمتي وسعت كل شيء، وإنما يتراحم المتراحمون ببعضها؟ أم لأن البخل يعتريني؟ كيف وأنا الفتاح للخيرات، أجود من أَعطى وأكرم من سُئل؟ ولكن كيف أرفع صيامهم وهم يَلْبِسُونه بقول الزور، ويتقوون عليه بطعمة الحرام؟ أم كيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحادني؟ أم كيف أستجيب دعاءهم، [وإنما] (¬1) هو قول بألسنتهم والعمل من ذلك بعيد. أم كيف تزكو صدقاتهم وهي من أموال غيرهم؟ وإنما أجزي عليها المغتصبين. وإن من علامة رجائي رضي المساكين (¬2). 87 - ومن أعمال أهل الكتاب: خروج المرأة متبرجة بزينتها، وتبخترها بالمساجد وغيرها، وتمكين زوجها إياها من ذلك. روى ابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد إذ دخلت امرأة من مزينة ترفل في زينة ¬
لها في المسجد، فقال النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أيُها الناسُ! انْهَوا نِسَاءَكمْ عَنْ لُبْسِ الزِّيْنَةِ والتَّبَخْتُرِ في المَساجِدِ؛ فَإِنَّ بَنِيْ إِسْرائِيْلَ لَمْ يُلْعَنُوا حَتَّى لَبِسَتْ نِسَاءُهُمُ الزّيْنَةَ وَتَبَخْتَرْنَ في المَسْجِدِ" (¬1). وروى الشَّيخان عنها أنها قالت: لو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى ما أحدث لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل (¬2). وأخرجه أبو داود عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن: أنها أخبرت: أنَّ عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لو أدرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحدثت النِّساء لمنعهن المسجدكما منعته نساء بني إسرائيل. قال يحيى: فقلت لعمرة: أَمُنِعَهُ نساء بني إسرائيل؟ قالت: نعم (¬3). وروى النسائي، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، والحاكم وصححه، عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا امْرَأةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا ريْحَهَا فَهيَ زانِيَةٌ، وَكُلُّ عَيْنٍ زانِيَةٌ" (¬4). ¬
88 - ومنها: اختلاط النساء بالرجال في جماعة الصلاة.
وهو عند أبي داود، والتِّرمذي، وصححه بلفظ آخر (¬1). 88 - ومنها: اختلاط النساء بالرجال في جماعة الصلاة. والسنَّة أن تكون المرأة خلف الرَّجل، وَصَف النِّساء خلف صف الرِّجال، وصلاة المرأة في بيتها أفضل. روى عبد الرزاق، ومن طريقه الطَّبراني -ورجاله رجال الصَّحيح- عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان الرِّجال والنِّساء في بني إسرائيل يصلُّون جميعًا، وكانت المرأة لها الخليل تلبس القالبين تطول بهما لخليلها، فألقي عليهن الحيض؛ أي: الاستحاضة. قال: وكان ابن مسعود يقول: أخِّروهُّن حيث أَخَّرَهُنَّ الله (¬2). 89 - ومنها: إيثار زِي الرهبان، وترك التطيب والتنظف، ولبس الزينة المباحة لحضور المساجد، والمشاهد، وزيارة الإخوان لقادر عليها. قال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. وروى الطَّبراني في "الأوسط" عن أبي كريمة قال: سمعت علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو يخطب على منبر الكوفة يقول: يا أيُّها النَّاس! إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِيَّاكُمْ وَلِباسَ الرُّهْبانِ؛ فَإِنَّ ¬
مَنْ تَرَهَّبَ أَوْ تَشَبَّهَ فَلَيْسَ مِنِّي" (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن أبي العالية رحمه الله تعالى قال: زارني عبد الكريم بن أمية وعليه ثياب صوف فقلت: هذا زِيُّ الرُّهبان؛ إن المسلمين إذا تزاوروا تجمَّلوا (¬2). وروى الطَّبراني، والبيهقيُّ في "سننه" عن ابن عمر، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- أَحَقُّ مَنْ تُزُيِّنَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْبانِ فَلْيَأتَزِرْ إِذَا صَلَّى وَلا يَشْتَمِلِ اشْتِمالَ اليَهُودِ" (¬3). وروى أبو داود، والحاكم وصححه، عن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خالِفُوا اليَهُودَ؛ فَإنَّهُمْ لا يُصَلُّونَ في خِفافِهِمْ وَلا في نِعالِهِم" (¬4). وروى ابن ماجه عن أبي الدَّردَّاء رضي الله تعالى عنه قال: قال ¬
90 - ومنها: تقديم الصبيان للإمامة.
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَحْسَنَ ما زُرْتُمُ الله بِهِ في قُبُورِكُمْ وَمَساجِدِكُمُ البَياضُ" (¬1). وروى أبو داود عن أبي الأحوص، عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثوبٍ دُونٍ، فقال: "ألكَ مالٌ؟ ". قلت: نعم. قال: "مِنْ أَيِّ المالِ؟ ". قال: قد آتاني اللهُ من الإبل والغنم والخيل والرَّقيقِ. قال: "فَإِذا آتاكَ اللهُ فَلْيُرَ أثَرُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ وَكَرامَتِهِ" (¬2). وصحح التِّرمذي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ" (¬3). وبالجملة: فإن اليهود أخس الناس ثيابًا، وبزة وهيئة، يؤثرون التقذير، ويقترون على أنفسهم ولو كثرت أموالهم، فلا ينبغي للمسلم أن يبخل على نفسه بما يمكنه من التمتع المباح، وسيأتي أن من أخلاقهم البخل. 90 - ومنها: تقديم الصبيان للإمامة. والاقتداء بالصبي المميِّز -وإن صحَّ- أولى منه الاقتداء بالرَّجل البالغ. ¬
91 - ومنها: تزكية النفس.
روى ابن جرير عن عكرمة قال: كان أهل الكتاب يقدِّمون الغلمان الَّذين لم يبلغوا الحنث يصلُّون بهم، يقولون: ليس لهم ذنوب، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 49]. وعن مجاهد: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ}؛ قال: يعني: اليهود؛ كانوا يقدمون صبيانًا لهم أمامهم في الصَّلاة، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم. قال: فتلك التزكية (¬1). وأخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - (¬2). واعلم أنه يقدم للإمامة العدل، فإن تساويا فالأفقه، فإن تساويا فالأقرأ، فإن تساويا فالأورع، فإن تساويا فالأسن. 91 - ومنها: تزكية النفس. وهي شاملة لتزكية كل واحد لنفسه، ولتزكيته لأهل اعتقاده أو حرفته، أو قريبه لمجرد الحميَّة. قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 49، 50] قال الحسن في الآية: هم اليهود والنَّصارى؛ قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ ¬
اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111]. رواه عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). ورويا عن الضحَّاك قال: قالت اليهود: ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون، فإن كانت لهم ذنوب فإنَّا نحن مثلهم (¬2). قال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النساء: 50]. وقال الله تعالى ناهيًا لهذه الأمة عن ارتكاب ما به ذم أهل الكتاب: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. أي: لا تثنوا على أنفسكم إعجابًا، أو: لا يزكي بعضكم بعضاً رياءً. فأما على وجه التحدث بالنعمة أو الإخبار بما هو عنده من علم أو حرفة ليقصد للتَّعلم منه فإنَّه مقبول لقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]. ومن القواعد: أن الأمور بمقاصدها. وروى الزبير بن بكار في "الموفقيات" عن جدِّه عبد الله بن مصعب قال: قال أبو بكر الصِّديق رضي الله تعالى عنه لقيس بن عاصم: صف لي نفسك. ¬
فقال: إن الله تعالى يقول: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32]، فلست بمزك نفسي وقد نهانا الله عنه، فأَعجب أبا بكر ذلك منه (¬1). وأمَّا قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، فالمراد منه: الاتصاف بالبر والإحسان والتقوى، لا الثناء على النَّفس. وقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، إشارة إلى أنَّ الزَّكاة والفضل بالاتصاف بالتقوى لا بوصف النفس بها، وإلى أن المزكِّي حقيقة هو الذي يزكيه الله تعالى بتوفيقه للتقوى، أو بما نشره له من الثناء. وقد روى الإمام أحمد، وأبو القاسم البغوي في "معجم الصَّحابة"، والطَّبراني بسند صحيح، من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع ابن حابس: أنه أتى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد! أخرج إلينا، فلم يجبه، فقال: يا محمد! إن حمدي لزَيْنٌ، وإن ذمي لشَيْنٌ. فقال النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "ذَاكَ اللهُ". فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4] (¬2). ¬
92 - ومن أعمال أهل الكتاب، وأخلاقهم: ترك تغطية وجوه موتاهم.
قال: لا أعلم روى الأقرع مسندًا غير هذا، والأقرع كان من المؤلفة قلوبهم (¬1). وأخرج القصة التِّرمذي -وحسَّنه- والمفسرون عن البراء رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا -ولم يذكر أنه الأقرع- (¬2). وكذلك أخرجه عبد الرزاق، وغيره عن قتادة: أن رجلًا جاء إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد! إن مدحي زين، وإن شتمي شين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذاكَ هُوَ اللهُ"، فنزلت الآية (¬3). أي: الذي حمده ومدحه زين، وذمه وشتمه شين إنما هو الله تعالى لأنه أعلم بعباده؛ بالمتقي منهم وغيره. 92 - ومن أعمال أهل الكتاب، وأخلاقهم: ترك تغطية وجوه موتاهم. روى الطَّبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خَمِّرُوا وُجُوهَ مَوْتاكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ" (¬4). ¬
93 - ومنها: اتباع الجنازة بمجمرة أو نار.
93 - ومنها: اتِّباع الجنازة بمجمرةٍ أو نار. روى عبد الرَّزاق عن عبد الأعلى رحمه الله تعالى قال: كنت مع سعيد بن جبير رحمه الله تعالى وهو يتبع جنازة معها مجمرة تتبع به، فرمى به، وقال: سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: لا تشبَّهوا بأهل الكتاب (¬1). 94 - ومنها: مشي الهُوينا. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَدبُّوا بِها دَبِيْبَ اليَهُودِ"؛ كذا أورده ابن الحاج في "المدخل" (¬2). وفي "مصنف عبد الرَّزاق" عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى قال: كان يقول: انبسطوا بالجنائز، ولا تدبوا دبيب اليهود والنَّصارى (¬3). وفيه عن الحسن رحمه الله تعالى أنَّه قال: أسرعوا بجنائزكم، ولا تهودوا تهود اليهود (¬4). ثم قال ابن الحاج في "المدخل": قد قال علماؤنا: إن السنة في المشي بالجنازة أن يكون كالشاب المسرع في حاجته. ¬
قال: وهذا المأمور به هو وسط بين الدبيب بها والاستعجال الذي يضر بها، {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، انتهى (¬1). قلت: وكذلك مذهب الشَّافعي رضي الله تعالى عنه: أن الإسراع بها بين المشي، والخَبَب أفضل ما لم يضر بالميت؛ لحديث الإمام أحمد، والأئمة السِّتة رحمهم الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أَسْرِعُوا بِالجِنازَةِ؛ فَإِنْ تَكُ صالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونها إِلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقابِكُمْ" (¬2). وروى ابن ماجه، والبيهقيّ عن أبي موسى - رضي الله عنه -: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَلَيْكُمْ بِالقَصْدِ في جَنائِزِكُمْ إِذا مَشَيْتُمْ بِهَا" -سنده ضعيف- (¬3). ثم أخرج البيهقي عن أبي موسى من قوله: إذا انطلقتم بجنائزكم فأسرعوا (¬4). ¬
تنبيه
قال البيهقي: وهذا يدل على أن المراد كراهة شدة الإسراع. انتهى (¬1). وقال أبو بكرة رضي الله تعالى عنه: لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يعني: في الجنازة- وإنَّا لنكاد أن نرمل بها رملًا. رواه أبو داود، والنسائيّ، والحاكم، وصححه (¬2). * تنبِيْهٌ: شاع في كلام العوام أن من رأى جنازة ليس بين يديها من يجهر بالذكر وهم يسرعون بها لغربة صاحبها، أو فقره، أو غير ذلك أن يقال: كجنائز اليهود: السكوت، والهرولة. وهذا خطأ كبير، ونسبة للسنة المحمدية إلى فعل اليهود، فمن أصرَّ على ذلك بعد أن عرف أنَّ هذا من السنَّة عُزِّر وزجر، فقد علمت ما في الإسراع من الفضل، بل علمت أن الدَّبيب بالجنازة من فعل اليهود. وأما السُّكوت فقال العلماء: يكره للماشي مع الجنازة الحديث؛ فإن ناح أو صاح حرم، ويستحب له الفكر في الموت وما بعده. قال النَّووي رحمه الله تعالى: والمختار، أو الصَّواب ما كان عليه السلف من السُّكوت في حال السَّير معها، فلا يرفع صوته لقراءة، ولا ذكر ¬
95 - ومنها: القيام للجنازة.
ولا غيرهما لأنه أسكن للخاطر، وأجصع للفكر فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال (¬1). 95 - ومنها: القيام للجنازة. روى عبد الرزاق عن إبراهيم النخعي قال: أول من قام للجنائز اليهود (¬2). وروى أبو داود، والتّرمذي، وابن ماجه -وضُعِّف- عن عبادة بن الصَّامت - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا تبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللَّحد، فعرض له حبر فقال: هكذا نصنع يا محمد، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "خَالِفُوهُمْ" (¬3). وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن سخبرة الأزدي رحمه الله تعالى قال: إنا لجلوس مع علي رضي الله تعالى عنه ننتظر جنازة إذ مرت بنا جنازة، فقمنا، فقال علي رضي الله تعالى عنه: ما يقيمكم؟ فقلنا: هذا ما تأتونا به يا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: وما ذاك؟ قال: زعم أبو موسى رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ¬
"إِذا مَرَّتْ بِكُمْ جِنازَةٌ فَإن كانَ مُسْلِماً أَوْ يَهُوديًّا أَوْ نَصْرانِيًّا فَقُومُوا لَهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَها نقُومُ، وَلَكِنْ نَقُوْمُ لِمَنْ مَعَها مِنَ المَلائِكَةِ". فقال علي - رضي الله عنه -: ما فعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير مرة برجل من اليهود؛ كانوا أهل الكتاب، وكان يتشبه بهم، فإذا نُهِيَ انتهى، فما عاد بعد (¬1). وروى النسائي عن مسعود بن الحكم، عن علي - رضي الله عنه - قال: ذكر القيام على الجنازة حتى توضع، فقال علي رضي الله تعالى عنه: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثمَّ قعد. وحديث علي - رضي الله عنه - في "صحيح مسلم" مختصراً (¬2). وأخرجه ابن حبان بلفظ: كان يأمرنا بالقيام في الجنائز، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس (¬3). وروى البيهقي: أن علياً رضي الله تعالى عنه رأى ناساً قياماً ينتظرون الجنازة أن توضع، فأشار إليهم بدرة معه، أو سوط أن اجلسوا؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد جلس بعد أن كان يقوم (¬4). ¬
96 - ومنها: إيثار الشق على اللحد للميت لغير ضرورة.
واختار ابن عقيل من الحنابلة، والنَّووي من أصحابنا في "شرح مسلم" و"المهذب" وفاقًا للمتولِّي ندبَ القيام (¬1). ونظر فيه الأذرعي، وهو ظاهر؛ لأنَّ عليًا - رضي الله عنه - كان أعرف بمراد النَّبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيخ بقعوده بعد قيامه، ولذلك أمر القُيَّام بالجلوس (¬2). بل حكي -كما في رواية ابن حبان- أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالجلوس حين جلس بعد أن كان يقوم، وأكثر الناس الآن يوافقون مختار النَّووي، فيقومون. 96 - ومنها: إيثار الشق على اللحد للميت لغير ضرورة. روى أصحاب السنن الأربعة -وصححه ابن السكن- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّحْدُ لَنَا، والشَّقُ لِغَيْرِنَا" (¬3). وروى الإمام أحمد من حديث جرير رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "اللَّحْدُ لَنا، والشَّقُ لِغَيْرِنا أَهْلَ الكِتابِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ" (¬4). ¬
97 - ومنها: وضع الميت في الناووس.
قال العلماء: اللَّحد، وهو أن يحفر ما يلي القبلة ليكون الميت تحت قبلة القبر؛ لأنه ألحد للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - كما في "صحيح مسلم"، وغيره (¬1)، ولقوله: "اللَّحْدُ لَنَا"، إلا أن تكون الأرض رخوة، فيشق في وسط القبر كالنهر، ويبنى جانباه وسقفه، ويرفع السقف قليلًا بحيث لا يمس الميت. 97 - ومنها: وضع الميت في الناووس. شيء يتخذ من الحجارة أو من الخشب كالصندوق، وقد كان أهل الكتاب وغيرهم يصنعونه. قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: شكت النواويس ما تجد من نتن جيف الكفار (¬2)، فأوحى الله تعالى إليها: بطون علماء السوء أنتن مما فيك. نقله حجة الإسلام في "الإحياء"، وغيره (¬3). وقال الشَّافعي رضي الله تعالى عنه: بلغني أنه قيل لسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: ألا نتخذ لك شيئاً كأنه الصندوق من الخشب؟ قال: بل اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انصبوا عليَّ اللَّبِنْ، وأَهِيلوا عليَّ التراب (¬4). ¬
98 - ومنها: أن اليهود والنصارى يجعلون طول القبر جنوبا وشمالا.
وهو عند "مسلم" موصولًا عنه دون قوله: وأهيلوا عليَّ التراب (¬1). وجعلُ الميِّتِ في صندوق ونحوه مكروه، ولا تنفذ فيه وصية إلَّا إن احتيج إليه لنداوة الأرض ونحوها كما لو كان الميت متهرياً لا يضبطه إلا ذلك، أو دفن بأرض مَسْبَعة بحيث لا يصونه من السِّباع إلا ذلك؛ كما بحثه الأذرعي وأقرَّ عليه. 98 - ومنها: أن اليهود والنَّصارى يجعلون طول القبر جنوبًا وشمالًا. قال المتولي من أصحابنا الشَّافعية: يستحب جعل عرض القبر مما يلي القبلة، فإن جعل طولًا إليها بحيث إذا وضع الميت يكون رجلاه إلى القبلة، فإن فعل لضيق مكان لم يكره، وإلا كره. وظاهر كلامه أن الكراهة فيما ذكر للتنزيه. وتعقبه الأذرعي فقال: وينبغي تحريم جعل القبر كذلك بلا ضرورة لأنه يؤدي إلى انتهاك حرمته، وسب صاحبه لاعتقاد أنه من اليهود أو النَّصارى؛ فإن هذا شعارهم، انتهى (¬2). وهذا محله فيما لو وجِّهَ إلى القبلة، فأما لو وجه إلى الشرق أو الغرب أو الشمال حرم مطلقاً، ووجب نبشه ليوجه إلى القبلة ما لم يتغير. ¬
99 - ومنها: رفع القبر عن الأرض أكثر من شبر، وتسنيمه.
99 - ومنها: رفع القبر عن الأرض أكثر من شبر، وتسنيمه. روى ابن أبي عاصم عن معاوية رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن تسوية القبر من السنَّة، وقد رفعت اليهود والنَّصارى فلا تشبهوا بهم (¬1). وإنما قيدنا بالرفع بأكثر من شبر؛ لأنَّ هذا قدر ارتفاع قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما روى ابن حبَّان في "صحيحه" عن جابر (¬2). وأما ما رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي عن أبي علي الهمداني قال: كنا مع فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه بأرض الروم بِرُودَس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبر فسُوِّي، ثمَّ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بتسويتها (¬3). وعن علي رضي الله تعالى عنه: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا أدع قبرًا مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالًا إلا طمسته (¬4). فالمراد بالتَّسوية فيهما، وفي كلام معاوية: التسطيح لا التَّسوية ¬
بالأرض جمعاً بين الأحاديث كما نقله النَّووي عن الأصحاب (¬1). ومذهب الشَّافعي - رضي الله عنه -: أن تسطيح القبر أفضل من تسنيمه، واحتج بحديث فضالة وعلي رضي الله تعالى عنهما كما نبه عليه الحافظ ابن حجر العسقلاني في "تخريج أحاديث الرافعي" (¬2). وعن أبي حنيفة، ومالك، وأحمد رضي الله تعالى عنهم: أن التسنيم أفضل، وعللوه بأن التَّسطيح صار شعارًا للشِّيعة، واحتج له (¬3). قلنا: إن السنة لا تترك لموافقة أهل البدع فيها لأنه معارض أيضًا بأن التسنيم من شعار أهل الكتاب. ثمَّ إن التسطيح هو ما عليه قبر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وقبر صاحبيه رضي الله تعالى عنهما كما روى أبو داود بإسناد صحيح، عن القاسم بن محمَّد رحمه الله تعالى قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت لها: اكشف لي عن قبر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة، ولا لاطية، مسطوحة ببطحاء العرصة الحمراء (¬4). أي: لا مرتفعة كثيرًا، ولا لاصقة بالأرض. ¬
100 - ومنها: نبش القبور، وسرقة الأكفان.
وعورض بما رواه البخاري عن سفيان التمَّار: أنه رأى قبر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - مسنماً (¬1). قال البيهقي: يمكن الجمع بينهما بأنه كان أولًا مسطحاً كما قال القاسم، ثم لما سقط الجدار في زمن الوليد بن عبد الملك أصلح فجعل مسنماً. قال: وحديث القاسم أولى وأصح (¬2). 100 - ومنها: نبش القبور، وسرقة الأكفان. روى البخاري في باب: ما يذكر عن بني إسرائيل، عن رِبعي بن خِراش رحمه الله تعالى قال: قال عقبة بن عمرو لحذيفة رضي الله تعالى عنهما: ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: إني سمعته يقول -وذكر حديثين- ثمَّ قال: وسمعته - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إِنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ المَوْتُ، فَلَمَّا يئسَ مِنَ الحَياةِ أَوْصَى أَهْلَهُ: إِذا أَنا مُتُّ فاجْمَعُوا لِي حَطَباً كَثِيْرًا وَأَوْقِدُوا ناَرًا، حَتَّى إِذا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إلَى عَظْمِي فامْتُحِشَتْ، فَخُذُوْها فاطْحَنُوها، ثُم انْظُرُوا يَوْماً رَاحًا فاذْرُوْها في اليَمِّ، فَفَعَلُوا، فَجَمَعَهُ اللهُ وَقالَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ، فَغَفَرَ لَهُ". ¬
101 - ومنها: حب الدنيا.
قال عقبة بن عمرو: وأنا سمعته يقول ذلك، وكان نباشاً (¬1). قلت: وقد يعارض هذا ما رواه أبو نعيم في "معرفة الصَّحابة" عن عبيد الجهني -وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ: إِنَّ في أُمَّتِكَ ثَلاثَةُ أَعْمالٍ لَمْ يَعْمَلْ بِها الأُمَمُ قَبْلَها: النَّبَّاشُونَ، والمُتَسَمِّنُونَ، والنِّساءُ بِالنّساءِ" (¬2). ويحتمل أن يقال: إن معنى: لم يعمل بها الأمم؛ أي: لم يظهر العمل بها فيهم، فلا ينافي أن يعمله واحد منهم. 101 - ومنها: حبُّ الدُّنيا. بل هو خلق كل إنسان إلا من عصم الله تعالى ورحمه. قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]. قال بعض العلماء: هذه الآية تعريض بما كان عليه اليهود من الانهماك في هذه الشهوات. وتقدم أن بضعاً وثمانين آية من أول سورة آل عمران نزلت في ¬
نصارى نجران، وهذه الآية منها، فتكون تعريضاً بأغنياء النَّصارى أيضًا. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزُّهد"، ومن طريقه إبراهيم عن الحسن رحمه الله تعالى قال: لقد عبدت بنو إسرائيل الأصنام بعد عبادتهم الرَّحمن لحبهم الدُّنيا (¬1). قلت: لمَّح الحسن إلى عبادتهم العِجل لكونه صيغ من الذهب. قال الله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]؛ أي: حب العجل. ومن ثم كان عيسى عليه السَّلام يحث على الزُّهد، ويمدح الفقر خشية أن يقع قومه فيما وقع فيه بنو إسرائيل. وروى ابن أبي الدنيا في "ذم الدُّنيا" عن الحسن -مرسلًا- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الدُّنْيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيْها، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؛ إِنَّ بَنِي إِسْرائِيلَ لَمَّا بُسِطَتْ لَهُمُ الدُّنْيا وَمُهِّدَتْ باهوا في الحلية والنِّساءِ، والطِّيْبِ والثِّيابِ" (¬2). وهو في "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه دون قوله: "إنَّ بني إسرائيل"؛ زاد: "فاتَّقُوا الدُّنْيا، واتَّقُوا النِّساءَ" (¬3). وأخرجه النسائي، وزاد: "فَما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَة أَضَرَّ عَلَى ¬
الرِّجالِ مِنَ النِّساءِ" (¬1). وروى الشَّيخان عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا عبيدة بن الجرَّاح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمع الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما صلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انصرف فتعرضوا له، فتبسَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهم، ثمَّ قال: "أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ". قالوا: أجل يا رسول الله. فقال: "أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا، فَواللهِ ما الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيا عَلَيْكُمْ كَما بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنافَسُوهَا كَمَا تَنافَسُوها، فتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُم" (¬2). واعلم أنه لم تأت شريعة قبل شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بمدح الفقر وذم الغنى وحبِّ الدُّنيا بمثل ما جاءت به شريعة عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، ومن ثمَّ كانت مظهرية الزهد فيه وفي ملته أظهر منها في الملل السابقة، وكثر في ملته الترهب والتقشف، وكان حبُّ الدُّنيا عندهم قبيحًا، ومن أحبَّها بولغ في ذمه. ¬
قال مكحول رحمه الله تعالى: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: يا معشر الحواريين! أيُّكم يستطيع أن يبني على موج البحر داراً؟ قالوا: يا روح الله! ومن يقدر على ذلك؟ قال: إيَّاكم الدُّنيا فلا تتخذوها داراً (¬1). وقال خيثمة بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: قال عيسى بن مريم عليهما السَّلام لرجل: تصدَّق بمالك والحقني. قال: فنكس، فقال عيسى عليه السَّلام بشدة: ما يدخل الغني الجنة (¬2). وقال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: قال عيسى بن مريم عليهما السَّلام للحواريين: بحق أقول لكم -وكان كثيرًا ما يقول: بحق أقول لكم-: إن أشدَّكم حباً للدُّنيا أشدُّكُم جزعاً على المصيبة (¬3). وقال أيضًا: إن عيسى عليه السَّلام قال: بحق أقول لكم: إن أكناف السماء لخالية من الأغنياء، ولدخول جمل في سَمِّ الخِياط أيسر من دخول غني الجنة (¬4). ¬
وقال سفيان رحمه الله تعالى: كان عيسى بن مريم عليهما السَّلام يقول: حبُّ الدنيا رأس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير. قالوا: وما داؤه؟ قال: لا يسلم صاحبه من الفخر والخيلاء. قالوا: فإن سلم؟ قال: يشغله إصلاحه عن ذكر الله (¬1). رواهما (¬2) أحمد في "الزهد". وروى ابنه في "زوائده" عن ابن شوذب قال: قال عيسى عليه السَّلام: جودة الثياب خيلاء القلب (¬3). والآثار عن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسَّلام كثيرة. وقال بعضهم في معنى كلامه المتقدم: [من الخفيف] أَيُّها الْمَرْءُ إِنَّ دُنْياكَ بَحْرٌ ... مَوْجُهُ طامحٌ فَلا تأمنَنْها وَسَبِيْلُ النَّجاةِ فِيْها يَسِيْرٌ ... وَهْوُ أَخْذُ الْكَفافِ والقُوتِ مِنْها (¬4) ¬
وروى الحاكم -وقال: صحيح الإسناد- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه: استأذنت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدخلت عليه في مشربة وإنه لمضطجع على خصفة إن بعضه ليلي التراب، وتحت رأسه وسادة محشوة ليفاً، وإن فوق رأسه لإهاب عطن، وفي ناحية المشربة، فسلمت عليه فجلست، فقلت: أنت نبي الله وصفوته، وكسرى وقيصر على سُرُر الذَّهب، وفرش الدِّيباج والحرير؟ فقال: "أُولَئِكَ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّباتُهُمْ وَهيَ وَشِيْكَةُ الانْقِطاعِ، وَإِنَّا قَومٌ أُخِّرَتْ لَنَا طَيباتُنا في آخِرَتنا" (¬1). ورواه ابن ماجه معناه، وقال فيه: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! أَما تَرْضَى أَنْ تَكُوْنَ لَنا الآخِرَةَ وَلَهُمُ الدُّنْيا؟ " (¬2). وروى الطَّبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في غرفة كأنها بيت حمام، وهو نائم على حصير قد أثر بجنبه، فبكيت، فقال: "مَا يُبْكِيكَ يا عَبْد اللهِ؟ ". قلت: يا رسول الله! كسرى وقيصر يطئون على الخَزِّ والدِّيباج والحرير، وأنت نائم على هذا الحصير قد أثر بجنبك. فقالَ: "فَلا تَبْكِ يا عَبْد اللهِ؛ فَإنَّ لَهُمُ الدُّنْيا وَلَنا الآخِرَةَ، وَمَا أَنَا ¬
102 - ومن أخلاق أهل الكتاب: المباهاة بالدنيا، والتكاثر بها.
والدُّنْيا، وَما مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَمَثَلِ رَاكِبٍ نزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ سَارَ وَتَرَكَهَا". ورواه أبو الشيخ بنحوه (¬1). وهو عند التِّرمذي وصححه، وابن ماجه باختصار (¬2). وروى البزار -بإسناد جيدٍ- عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم الدِّيْنارُ وَالدِّرْهَمُ، وَهُمَا مُهْلِكَاكُمْ" (¬3). وروى الخِلَعي في "فوائده" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: "هَنِيْئاً لِلْمُتَحابيِّنَ في اللهِ جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُرَافِقَنِي فِيْها فَلْيُنْصِفْ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَنْ أَمْسَى وَأَصْبَحَ وَهَمُّهُ الدِّيْنارُ والدِّرْهَمُ تَكاثُرًا حَشَرَهُ اللهُ مَعَ اليَهُودِ والنَّصَارَى والَّذِيْنَ قَالُوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] (¬4). 102 - ومن أخلاق أهل الكتاب: المباهاة بالدنيا، والتكاثر بها. تقدم الحديث أن بني إسرائيل لما بسطت لهم الدنيا ومهدت ¬
باهوا في الحلية والنساء، والطيب والثياب. وروى ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]، قال: نزلت في اليهود (¬1). وروى الحاكم وصححه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَخْشَى عَلَيْكُمُ الفَقْرَ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمُ التَّكاثُرَ" (¬2). وتقدم في حديث "الصحيحين": "مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنافَسُوهَا كَمَا تَنافَسُوها، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ". ¬
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ «وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ» تَألِيف العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة 977 هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة 1061 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى تَحقِيقَ وَدِرَاسَة لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ بِإِشْرَافِ نُورِ الدِّين طَالِب المُجَلَّد الثَّامِنُ دَارُ النَّوادِرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ (8)
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 7 - 84 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
تَابِع (11) بَابُ النَّهْي عَنِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الكِتَابِ
103 - ومنها: البخل، والأمر به، ومنع من تجب عليه الزكاة الزكاة، ومنع الزكاة ممن تجب عليه، وأخذ من لا يستحقها منها.
تَابِع (11) بَابُ النَّهْي عَنِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الكِتَابِ 103 - ومنها: البخل، والأمر به، ومنع من تجب عليه الزكاة الزكاة، ومنع الزَّكاة ممن تجب عليه، وأخذ من لا يستحقها منها. قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 37]؛ هي في أهل الكتاب على ما سنبينه. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} إلى قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)} [البقرة: 83]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]. قيل: إنهم كانوا يأمرون بالزَّكاة والصَّدقات، فَتدفع إليهم الناس صدقاتهم ليقسموها في الفقراء، فكانوا يستأثرون بها ويكنزونها، ولذلك قال عقبَه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ
{فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35]. وهذه الآية سبب سكنى أبي ذر رضي الله تعالى عنه بالربذة بإشارة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وهي إحدى ما انتقده الخارجون على عثمان رضي الله تعالى عنه. والذي في "صحيح البخاري" عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبذة فإذا أنا بأبي ذر - رضي الله عنه -، فقلت له: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت بالشّام فاختلفت أنا ومعاوية في {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم. وكان بيني وبينه في ذلك، فكتب إلى عثمان رضي الله تعالى عنه يشكوني، فكتب إليَّ عثمان رضي الله تعالى عنه أن اقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ النَّاس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان رضي الله تعالى عنه، فقال لي: إن شئت تنحَّيت وكنت قريبًا، فذلك أنزلني هذا المنزل، ولو أمَّروا عليَّ حبشيًا لسمعت وأطعت (¬1). وليس في بني إسرائيل ولا غيرهم من تظاهر بمنع الزكاة بأبلغ مما تظاهر به قارون. ¬
قال الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76]. قال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كان قارون ابن عم موسى عليه الصلاة والسَّلام. رواه الفريابي (¬1). وقيل: كان عمه. وقيل: ابن خالته (¬2). وكان عامل فرعون علي بني إسرائيل، فتعدى عليهم وظلمهم. وهو معنى قوله: {كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76] كما نقله الثَّعلبي، وغيره عن سعيد بن جبير، ويحيى بن سلام (¬3). وروى ابن أبي حاتم، وغيره عن قتادة قال: كان قارون ابن عم موسى أخي أبيه، وكان قطع البحر مع بني إسرائيل، وكان يسمى المنوَّر من حسن صوته بالقرآن، ولكن عدوَّ الله نافق كما نافق السَّامُري، فأهلكه الله ببغيه. قال: وإنما بغى لكثرة ماله وولده (¬4). ¬
قيل: وكان من بغيه أنَّ النبوة كانت في موسى، والحبورة كانت في هارون، فحسدهما. والمعنى أنه غار على النُّبوة أن يتظاهر بها موسى. ولا يمنع ذلك من شركة هارون معه في النبوة، وعلى الحبورة؛ أي: إفادة العلم أن يتظاهر بها هارون مع أن قارون كان قد جمع التوراة والعلم، إلا أن الناس لم يقبلوا ما عليه بالسؤال عن العلم والاستفادة منه كما أقبلوا على موسى وهارون، فحسدهما حتى جرَّه الحسد إلى البغي. وفي الحديث: "وَإِذَا حَسَدْتَ فَلا تَبغِ" (¬1)؛ أي: بأن تتمنى زوال النعمة عن محسودك، أو تسعى في ضرره كما فعل قارون. وروى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص: 76] قال: كان ابن عمه، وكان يتتبع العلم حتى جمع علمًا، فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده، فقال له موسى: إن الله أمرني أن آخذ الزكاة، فأبى، فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم ... الحديث على ما سيأتي (¬2). ¬
ونقل الثَّعلبي، وغيره عن الضَّحاك: أن بغي قارون كفره (¬1). وقيل: نسبته ما آتاه الله تعالى إلى نفسه بعلمه وحيلته كما قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]. قال ابن زيد: أي: بفضلي. وقال علي بن عيسى: على علم وحيلة عندي، ومعرفة بوجوه المكاسب والتِّجارات. وعن ابن عبَّاس: {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} بصنعة الذَّهب. قال القرطبي: وأشار إلى علم الكيمياء. وحكى النقَّاش أنَّ موسى عليه السَّلام علَّمه الثلث من صنعة الكيمياء، ويوشع الثلث، وهارون الثلث، فخدعهما قارون، وكان على إيمانه حتى علم ما عندهما، وعمل الكيمياء، فكثرت أمواله (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن الوليد بن زروان في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} [القصص: 76]، قال: كان قارون يعلم الكيمياء (¬3). وروى عبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: بلغنا أن قارون لمَّا أوتي الكنوز والمال جعل باب داره من ذهب، وجعل داره كلها من صفائح الذَّهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون ¬
عليه ويروحون فيطعمهم الطَّعام، ويتحدثون عنده (¬1). وفي حديث سلمان رضي الله تعالى عنه مرفوعًا: "كانَتْ دارُ قارُونَ مِنْ فِضَّةٍ وَأَساسُها مِنْ ذَهَبٍ" (¬2). والأساس -بفتح الهمزة-: أصل البناء، ومثله الأس مثلثًا، والأَسَسُ -بفتحتين- ويجوز أن يكون بكسر الهمزة، ولعله أقرب إلى الرواية: جمع أس. وجمع الأساس أُسَس -بضم فَفَتْح- وأساسات، وجمعه المتحرك: آساس كأسباب. والمراد بالأساس في الحديث: أصول البناء الظَّاهرة لا المطمورة في الأرض، وإنما كانت ذهبًا والأعالي فضَّة ليقرب الذَّهب من الساكن في البناء بخلاف ما لو عكس. قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ}. القائل له: موسى، أو المؤمنون من قومه: {لَا تَفْرَحْ}؛ أي: بما أوتيته من الدنيا وإن كثر؛ لأنَّ الفرح به نتيجة حبه والرضى به، وهو مانع من محبة الله تعالى التي هي شرط الإيمان به {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]؛ تعليل لنهيهم إياه عن الفرح بالدُّنيا. ¬
قال مجاهد في قوله: {لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}: المتبدِّخين الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله تعالى على ما أعطاهم. رواه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). وقال في رواية لابن أبي حاتم: الفرح ها هنا هو البغي (¬2). وقال ابن عبَّاس: المرحين. رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬3). وقيل: الباخلين (¬4). وكل ذلك إما تفسير للفرح بلازمه، أو بما يترتب عليه. والتبدخ - بمعجمات وبدال مهملة - كما حكاه في "القاموس": التَّعظم، والتَّكبر، والعلو. ويقال: بدخ مثلث الدال المهملة، وبذخ - بكسر المعْجمة -: تكبر بذخاً - بالتحريك - (¬5). والأشر والمرح بمعنى، أو هما بمعنى النشاط والتبختر. والبطر: النشاط، والأشر، وقلة احتمال النعمة، والدهش والحيرة، ¬
والطغيان بالنعمة، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة؛ فعل الكل كفرح. وبطر الحق أن يتكبر عنده فلا يلحقه؛ قاله في "القاموس" (¬1). واستقرب الوالد تفسير الفرح في الآية بالبطر، وأنشد قول بعض العرب: لَسْتُ بِفَرَّاحٍ إِذا الدَّهْرُ بَسَر فإنه يدل على أن الفرح قد يراد به ما هو فوق السرور؛ فإن مطلق السُّرور بالشيء لا يستحق عليه الإنسان أن يذم ولا يمتدح فيه. قال تعالى حكايته عن القائلين لقارون: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص: 77]؛ أي: اطلب فيما أعطاك الله من الدُّنيا ما ينفعك في الدار الآخرة لتكون عبدًا صالحًا، ويكون مالك صالحًا. وفي الحديث: "نِعْمَ الْمالُ الصَّالحُ لِلْعَبْدِ الصَّالِح" (¬2). {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]؛ أي: ما تتمتع به من الحلال. وقال مجاهد: {نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}: الذي تثاب عليه في ¬
الآخرة. رواه عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). وقال ابن عباس: نصيبك من الدُّنيا: أن تعمل فيها لآخرتك. وفي رواية: أن تعمل لله. أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬2). وعندي أنه لا يفسر بأجمع مما اشتمل عليه حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَقُوْلُ العَبْدُ: مَالِي، مَالِي، وَإِنَّما لَهُ مِنْ مَالِهِ ثلاثة: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ تَصَدَّقَ فَأَبْقَى، وَما سِوَى ذَلِكَ فَهُو ذاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ". رواه مسلم (¬3). وحديث عبد الله بن الشخير رضي الله تعالى عنه قال: انتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]، وفي لفظ: وقد أنزلت عليه: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}، وهو يقول: " [يقول] ابن آدَمَ مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا ما أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَبْقَيْتَ" (¬4). وفي لفظ الطبراني: "أَوْ أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ" (¬5). ¬
وقيل في قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}: إنه الكفن؛ فإنه لا بد لكل واحد منه (¬1). وقد قيل: [من البسيط] هِيَ الْقَناعَةُ لا تَبْغِي بِها بَدلًا ... فِيها النَّعِيْمُ وَفِيها راحَةُ الْبَدَنِ انْظُرْ لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيا بِأَجْمَعِها ... هَلْ راحَ مِنْها بِغَيْرِ الْقُطْنِ والْكَفَنِ قال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}؛ أي: أطعه كما أنعم عليك {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: بالمعاصي {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 77 - 87]. قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78]. وهذا أنزله الله تعالى عقب ذكر محاورة قارون لقومه على وجه المراد لقوله، أو التعجيب، أو التوبيخ له وإن كان هالكًا على حد قوله - صلى الله عليه وسلم - لصناديد قريش بعد أن قُتلوا وهم في قَليب بدر: "إِنِّي وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ " (¬2)، أو لمن هو على مثل حال قارون من الاغترار بالقوة والأموال. ¬
قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79]. قال ابن جريج رحمه الله تعالى: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان، ومعه ثلثمئة جارية على البغال الشهب، عليهن الثياب الحمر (¬1). وقال السدي: خرج في جواري بيض على سروج من ذهب، عليهن ثياب حمر، وحلي ذهب (¬2). وقال عطاء: خرج في ثوبين أحمرين (¬3). وقال الحسن: في ثياب صفر وحمر (¬4). رواها ابن أبي حاتم. وقال الكلبي: خرج في ثوب أخضر كان الله تعالى أنزله على موسى عليه السلام من الجنة فسرقه قارون. ذكره الثعلبي وغيره (¬5). وفيه أقوال أُخر تقدّمت في محلها. وروى الديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرْبَعُ خِصالٍ مِنْ خِصَالِ [آل] قارُونَ: لِباسُ الخِفافِ ¬
الْمَقْلُوبَةِ، وَلِباسُ الأُرْجُوانِ، وَجَرُّ نِعَالِ السُّيُوفِ، وكانَ الرَّجُلُ لا يَنْظُرُ إِلى وَجْهِ خادِمِهِ تَكَبُّرًا" (¬1). والأرجوان قال في "القاموس": بالضم الأحمر. وثياب حمر: جمع أحمر، والحمرة وأحمر: أرجواني قاني (¬2). وأورد ابن ظَفْر هذا الحديث في "تفسيره"، فقال: وكان أحدهم لا ينظر في وجه جارية إلا بكرًا. وروى ابن أبي حاتم عن عبدة بن أبي لبابة رضي الله تعالى عنه: أول من صبغ بالسَّواد قارون؛ يعني: الشيب (¬3). ويعارضه ما سبق أن أول من صبغ به فرعون. ويجاب بأنهما تواردا على الأولية، أو فرعون أول من صبغ مطلقًا وقارون أول من صبغ من بني إسرائيل. قال الله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ أي: عند نظرهم إليه في خروجه في زينته {يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79]. وهم جماعة من أهل التوحيد كما رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة (¬4). ¬
وقيل: من الكفار. قال والدي في "تفسيره": يكون على الأول قولهم غبطة؛ وهي لا تضر المؤمن، وعلى الثاني حسداً. قلت: ولا مانع أن يكون حسداً على الأول لأنه قد يقع من الموحدين. بل قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} [القصص: 82]، تصريح بأنهم كانوا موحدين، وبأن قولهم كان حسدًا لأنه وصفهم بتمني مكانه، إلا أن نقول: هو على تقدير: مثل مكانه. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}؛ أي: النافع {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]. الضمير في: {يُلَقَّاهَا} يعود إلى الثواب بمعنى المثوبة، أو السيرة التي هي الإيمان والعمل الصَّالح. أو هو من قول الله تعالى مقطوعاً عن قول أهل العلم، وعليه: فالضمير عائد إلى الكلمة التي قالوها. و{يُلَقَّاهَا} بمعنى: يلقنها، ويلهمها. قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81]. قال ابن عباس في حديثه الذي صححه الحاكم، وأشرنا إليه سابقًا: فقال له -أي: لقارون- موسى عليه السَّلام: إن الله أمرني أن
آخذ الزَّكاة فأبى، وقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم، جاءكم بالصَّلاهَ، وجاءكم بأشياء فاحتملتموها، فتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ فقالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بَغِيِّ من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه راودها على نفسها، فأرسلوا إليها، فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فَجَرَ بكِ، قالت: نعم، فجاء قارون إلى موسى، قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك، قال: نعم، فجمعهم، فقالوا له: بم أمر ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تصلوا الرَّحم، وكذا وكذا، وأمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم، قالوا: ولو كنت أنت؟ قال: نعم، قالوا: فإنك قد زنيت، قال: أنا؟ فأرسلوا إلى المرأة فجاءت، فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى عليه السلام: أنشدك بالله إلا ما صدقت، فقالت: أما إذ نشدتني بالله، فإنهم دعوني وجعلوا لي جُعلاً على أن أقذفك بنفسي، وأنا أشهد أنك بريء، وأنك رسول الله، فخرَّ موسى عليه السَّلام ساجداً يبكي، فأوحى الله تعالى إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها تطيعك، فرفع رأسه، فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون: يا موسى! يا موسى! فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى رُكَبهم، فجعلوا يقولون: يا موسى! يا موسى! فقال: خذيهم، فأخذتْهُم فغيبتهم، فأوحى الله إليه: يا موسى! سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم، وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم.
قال ابن عباس: وذلك قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81]؛ خسف به إلى الأرض السفلى (¬1). وإنما فعل موسى عليه السلام ذلك ولم ينخدع لاستغاثة قارون وقومه به غضباً لله تعالى لا لنفسه كما روي في الأثر، ولذلك قال الله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}، فنسب فعل موسى إلى نفسه. وروى عبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني أنه قيل لموسى عليه السَّلام: لا أُعْبِدُ الأرض بعدك أحدًا أبداً (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: يخسف بقارون وقومه في كل يوم قدر قامة، فلا يبلغ الأرض السفلى إلى يوم القيامة (¬3). وروى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة، وابنُ المنذر عن ابن جريج قالا: ذكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة (¬4). وظاهر ذلك يخالف قول ابن عبَّاس: خسف به إلى الأرض السفلى. ¬
104 - 134
ويجاب بأنه لا تعارض؛ لأنَّ معنى كلام ابن عباس إلى جهة الأرض السفلى، أو خسفاً ينتهي آخرًا إلى الأرض السفلى، وذلك يوم القيامة، وليس معناه خسفاً انتهى إلى الأرض السفلى؛ فتدبره! وقد اشتمل ما ذكرناه عن قارون وقومه على قبائح، وكلها من أعمال بني إسرائيل التي يجب أن لا يتشبه بهم فيها. 104 - 134 - أحدها: منع الزكاة كما تقدم. وروى الشَّيخان، وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي حَقَّها إِلَّا جُعِلَتْ يَوْمَ القِيامَةِ صَفائِحَ، ثُمَّ أُحْمِيَ عَلَيْها في نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ كُوِيَ بِها وَجْهُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِيْنَ ألفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فَيَرَى سَبِيلَهُ؛ إِمَّا إلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إلَى النارِ" (¬1). وقد امتحن الله تعالى أرباب الأموال الكثيرة بالشُّح بالزكوات مع أن منهم من تسمح نفسه بأضعاف الزكاة في هوى نفسه، والواحد منهم كلما كثر ماله كلما شحت نفسه خصوصاً بالزكاة لأنه يستكثرها، ويستضيعها لو أعطاها الفقراء. ولقد رأيت من كان يعطي الزكاة وماله قليل، فلما أثرى بخل ومنع. وقد حكي أن قارون لما أمر بالزكاة حسبها فوجدها شيئًا كثيرًا، ¬
- الثاني: موالاة الظلمة، والعمل لهم.
فقال: يا موسى! ما هذه إلا جزية، أو أخت الجزية (¬1). وقد روى ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، وغيرهما عن خيثمة رحمه الله تعالى قال: كانت مفاتيح خزائن قارون من جلود، كل مفتاح مثل الأصبع، كل مفتاح على خزانة على حدة، فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلًا (¬2). وفي رواية ابن المنذر: لكل مفتاح منها كنز (¬3). - الثاني: موالاة الظَّلمة، والعمل لهم. حيث كان قارون عاملاً لفرعون، وهو من بني إسرائيل. فانظر كيف كانت مخالطته للظَّلمة ومعاونته لهم قد أدت به آخرًا إلى النكال، وانظر كيف سرى قبائح فرعون إلى قارون مع أنه ليس من جنسه ولا من قومه، بل بمجرد المخالفة والموالاة. وقد تقدم تقرير ذلك في مقدمة الكتاب. وفي الحديث: "الظَّلَمَةُ وَأَعْوانُهُمْ في النَّارِ". أخرجه الدَّيلمي عن حذيفة - رضي الله عنه - (¬4). ¬
- الثالث: مخالطة السلاطين، والتردد إليهم لغير ضرورة ملجئة كأن يأمروه ويخشى على نفسه لو خالفهم؛ فإنها تعرض للفتنة.
وروى الطَّبراني في "الكبير" - بسند ضعيف - عن أوس بن شرحبيل أحد بني أشجع رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ مَشَى مَعَ ظالِمٍ لِيُعِيْنَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلامِ" (¬1). - الثالث: مخالطةُ السلاطين، والتردد إليهم لغير ضرورة ملجئة كأن يأمروه ويخشى على نفسه لو خالفهم؛ فإنها تعرضُ للفتنة. وروى الإمام أحمد، والبيهقي بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَدا جَفَا، وَمَنِ اتَّبعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَن أتى أَبْوابَ السَّلاطِيْنِ افتُتِنَ، وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِنَ السُّلْطانِ قُرْبًا إِلَّا ازْدادَ مِنَ اللهِ بُعْداً" (¬2). وروى أبو داود، والتِّرمذي وحسَّنه، والنَّسائي من حديث ابن عبّاس بنحوه (¬3). ومن تأمل أمر قارون وما كَمَنَ في نفسه من الظُّلم بسبب تردده إلى فرعون وصحبته تحقق كيف يكون افتتان من يأتي أبواب السلاطين. ¬
- الرابع: البغي والتعدي.
وللسيوطي رحمه الله تعالى جزء في هذا المعنى سمَّاه "ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين"، وقد لخصتُهُ في منظومَّةٍ حافلةٍ. وقال الله تعالى عقب قصَّة قارون: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83]. قال عكرمة رحمه الله تعالى: العلو: التكبر، وطلب الشرف والمنزلة عند سلاطينها وملوكها. قال: والفساد: العمل بمعاصي الله تعالى، وأخذ المال بغير حقه. وقال الحسن رحمه الله تعالى في قوله: {لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ}: الشرف والعز عند ذوي سلطانهم. رواهما ابن أبي حاتم (¬1). ومن المعلوم أن العزَّ والمنزلة عند السُّلطان يعظم به جاء الإنسان فيستجره إلى الفساد والظلم إلَّا من عصم الله تعالى، وهو أعز من الغراب الأعصم. وإنما جاء في النفي بـ (لا)، وكررها إشارة إلى نفي إرادة كل واحد منهما، لا نفي مجموعهما لأنَّ كل واحد منهما كافٍ في الإبعاد عن الآخر، والتنزه عنهما معاً هو التقوى المحمودة العاقبة، ولذلك قال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]؛ أي: العاقبة المحمودة، وفسرت بالجنة والخلود فيها. - الرابع: البغي والتعدِّي. والبغي عاقبته على صاحبه وخيمة. ¬
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23]. وروى أبو الشيخ، وابن مردويه، والخطيب عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ فَهْيَ راجِعَةٌ عَلَى صَاحِبِها: البَغْيُ، والْمَكْرُ، والنَّكْثُ" (¬1). قلتُ: دليل الأوّل الآية المارة. ودليل الثَّاني قوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]. ودليل الثَّالث قوله تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10]. وروى ابن لال عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: لو بغى جبل على جبل لدُّك الباغي (¬2). كما قيل في المعنى: [من البسيط] يا صاحبَ الْبَغْيِّ إِنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَةٌ ... فَاعْدِلْ فَخَيْرُ فِعالِ الْمَرْءِ أَعْدَلُهُ ¬
- الخامس: جر الرداء والإزار ونحوهما خيلاء وفخرا.
فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْماً عَلى جَبَلٍ ... لانْدَكَّ مِنْهُ أَعالِيْهِ وَأَسْفَلُهُ (¬1) وروى عبد الكريم بن السَّمعاني في "ذيل تاريخ بغداد" من طريق ابن أبي الدنيا عن شرقي بن القطامي قال: قال صيفي بن رباح التميمي لبنيه: يا بني! اعلموا أن أسرع الجرم عقوبة البغي، وشر النُّصرة التعدي، وألأم الأخلاق الضيق، وأسوا الأدب العتاب (¬2). وروى من طريقه أيضًا عن عبد الله بن أشهب التميمي، عن أبيه قال: كانوا يقفون في الجاهلية بالموقف فيسمعون صوتًا من الجبل: [من الكامل] الْبَغْيُ يَصْرَعُ أَهْلَهُ وَيُحِلُّهُمْ ... دارَ الْمَذَلَّةِ والْمعاطِسُ رُغْمُ فيطيفون بالجبل ولا يرون شيئًا، ويسمعون الصوت بذلك (¬3). - الخامس: جر الرداء والإزار ونحوهما خيلاء وفخرًا. وهو حرام، ومنه حلي نعال السُّيوف. ونعل السَّيف كما في "النهاية": الحديدة التي تكون في أسفل قرابه (¬4). ¬
- السادس: لباس الأرجوان، وما يتأنق في تظريفه وتزويقه.
وقال في "الصحاح": ما يكون في أسفل جفنه من حديد أو فضَّة. أنشد لذي الرمة: [من الطويل] إِلى مَلِكِ لا ينصف الساقُ نَعْلَهُ ... أجل لا وَإِنْ كانَتْ طِوالًا حَمائِلُهْ وروى الشَّيخان، والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَنْظُرُ اللهُ إلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والبخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْظُرُ اللهُ يَوْمَ القِيامَةِ في مَنْ جَرَّ إِزارَهُ بَطَرًا" (¬2). - السادس: لباس الأرجوان، وما يتأنق في تظريفه وتزويقه. ومنه لبس الخفاف المقلوبة كما في الحديث المتقدم، وهي الجركسيات التي يعتادها ركبان الخيل، أو هي تشبهها، وهي قليلة النفع. وذلك كله خلاف الأولى، فإن اقترن به الاختيال والبطر والتَّفاخر حرم بهذا القيد، فإن تجرد لباس الأحمر عن ذلك فلا يحرم ولا يكره. وقد ثبت في "الصَّحيحين" وغيرهما من حديث البراء، وأبي جحيفة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لبس الأحمر (¬3). ¬
- والسابع: لبس الحرير للرجال.
ولا يحرم شيء من ذوات الألوان إلَّا المزعفر على الرجال لنص الشّافعي رضي الله تعالى عنه عليه كما نص عليه البيهقي، وصححه النَّووي في "شرح المهذب"، وغيره (¬1). وكذلك المعصفر لثبوت النهي عنه كما في "صحيح مسلم" عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليَّ ثوبان معصفران فقال: "هَذانِ مِنْ ثِيابِ الكُفَّارِ؛ فَلا تَلْبَسْهُمَا" (¬2). وفيه إشارة إلى أن العلة في تحريمه التشبه بالكفار، وقد تقدم أن أول ما رُئِيَت المعصفرات حين خرج قارون في زينته. - والسابع: لبس الحرير للرِّجال. روى ابن مردويه عن أوس بن أوس الثقفي رضي الله تعالى عنه، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79]؛ قال: "فِي أَرْبَعَةِ آلافٍ عَلَيْهِ البزيون" (¬3). ¬
- والثامن: التحلي بالذهب والفضة.
وهو - بكسر الباء الموحدة، وإسكان الزاي، وفتح الياء التحتية، أو بضم الموحدة، وضم التحتية، والواو ساكنة فيهما؛ كما في "القاموس"، واقتصر في "الصحاح" على الثاني -: السندس؛ وهو ضرب من الديباج، وهي ثياب الحرير (¬1). وقد سبق قول عمر رضي الله تعالى عنه للنَّبي - صلى الله عليه وسلم -: كسرى وقيصر على سرر الذَّهب وفرش الحرير والديباج. وقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كسرى وقيصر يطأون الخز والديباج والحرير، وأنت نائم على حصير قد أثر في جنبك؟ وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَما تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيا وَلَنا الآخِرَة" (¬2). - والثامن: التحلي بالذَّهب والفضَّة. وهو حرام إلَّا خاتم الفضة، وتحلية آلة الحرب بالفضَّة، وضبة الفضة على ما هو مقرر في كتب الفقه، وكذلك استعمال أواني الذَّهب والفضة، وتحلية البيوت بصفائحها ونحوها، وهو حرام على الرِّجال والنِّساء، وكذلك تحلية الخيول والسُّروج بهما أو بالحرير. وقد تقدم عن السدي: أنَّ قارون خرج على قومه في جوار بيض على سروج من ذهب عليهنَّ ثياب حمر وحلي ذهب. وتقدم أنه جعل باب داره من ذهب، وداره من صفائح الذَّهب. ¬
وتنزيه المؤمن عن هذه الأخلاق القارونية لطف به من ألطاف ربِّ البرية، وذلك إما بزي ذلك عنه، ومنعه منه، وإمَّا أن يخلق الله تعالى في طبعه النفرة عن ذلك، أو يخلق له من العقل ما يمنعه من ذلك، ويبين له قبحه وسوء عاقبته. وقد قال الله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33 - 35]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الآية: يقول: لولا أن أجعل الناس كلهم كفارًا لجعلت لبيوت الكفار سقفًا من فضَّة ومعارج من فضة، وهي درج عليها يصعدون إلى الغرف، وسرر فضة، وزخرفًا هو الذَّهب. أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). وروى ابن جرير نحوه عن قتادة، وزاد: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35]؛ قال: خصوصاً (¬2). وروى هو وابن المنذر عن الحسن رحمه الله تعالى في قوله: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف: 33] قال: لولا أن يكون النَّاس أجمعون كفّارًا فيميلوا إلى الدُّنيا لجعل الله لهم الذي قال. ¬
وقد مالت الدُّنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك، فكيف لو فعل! (¬1) وروى الحاكم في "المستدرك" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32]؛ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ أَرْزاقَكُمْ، وَإِنَّ الله يُعْطِي الدُّنْيا لِمَنْ يُحب وَمَنْ لا يُحبُّ، وَلا يُعْطِي الدَّيْنَ إلاَّ مَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطاهُ الدِّيْنَ فَقَدْ أَحَبَّهُ" (¬2). وروى ابن مردويه عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَقُولُ اللهُ تَعالَى: لَوْلا أَنْ يَجْزَعَ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنُ لَعَصَبْتُ الْكَافِرَ عُصابَةً مِنْ حَدِيْدٍ فَلا يَشْتَكِي شَيْئا أَبَدًا، وَلَصَبَبْتُ عَلَيْه الدُّنْيا صَبًّا" (¬3). أي: لفعلت ذلك بكل كافر. وكذلك تحمل الآية على العموم؛ لأنَّ ذلك قد صار لبعض الكفار والفجَّار دون سائرهم. وقد علمت ما في حديث ابن مسعود من أنَّ الله تعالى يعطي الدُّنيا ¬
- التاسع: التكاثر بكثرة المال والولد.
من يحب ومن لا يحب، والحكمة في ذلك أنها ليست عنده شيء كما في الحديث: "لَوْ كانَتِ الدُّنْيا تُساوِي عِنْدَ اللهِ جَناحَ بَعُوْضَةٍ ما سَقى كافِرًا مِنْها شَربَةَ مَاءٍ" (¬1). فتخويل العبد في الدُّنيا ودوام الصِّحة والنِّعمة عليه ليس دليل كرامته عند الله وحبه إياه، بل دليل كرامته عنده وحبه إياه توفيقه للتَّقوى وهدايته للدِّين لأنَّ ذلك هو الذي يؤدي إلى دار النعيم الدَّائمة الخالدة. والنعيم والنِّعمة ما لم يكونا دائمين فليسا بكرامة لأنهما يسلبان منه، وسلبهما منه إهانة له. وبذلك يظهر أنَّ الرِّضا بنعيم الدُّنيا المسلوب وإن فوَّت حصوله نعيم الآخرة المطلوب حمقٌ عظيم وجهلٌ بالغ. - التاسع: التكاثر بكثرة المال والولد. وهو جهل محض واغترار صرف. وقد سبق عن قتادة: أن قارون إنما بغى على قومه بكرة ماله وولده. قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]. وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]. ¬
وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ: 37]. وأكثر الأغبياء من الأغنياء يحسبون أن كثرة المال والولد دليل القرب والخيرية عند الله، وهذا غاية الجهل، وهو خلاف ما في كتاب الله تعالى، ولقد كان قارون يعتقد ذلك في ماله وما خول فيه. ألا ترى إلى قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]؟ قال السُّدي في "تفسيره": علم الله أَنيِّ أهلٌ لذلك. رواه ابن أبي حاتم (¬1). ونظير ذلك قول ذلك الكافر: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]. فغلط المتخولين في الدُّنيا من أربعة أوجه: أولها: أنهم يعتقدون أنها كرامة، وهي إهانة. وثانيها: أنهم يستدلون بها على القرب والخيرية، وهي دليل الطرد والشرية. وثالثها: أنهم يستدلون بحصولها في هذه الدار على حصولها في دار القرار وكأنهم أمِنُوا من أن يقال لهم هناك: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]. ورابعها: أنهم يعتقدون أنها منحة، والحال أنها محنة وفتنة ¬
- العاشر: الحسد.
كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15]. وإنما قدَّم الأموال في هذه الآية، وفي الآيات السَّابقة ونحوها لأن المال يشترك فيه عموم الناس في الميل إليه، ويكون سبباً في تحصيل الأهل والمال؛ إذ بالمال تحصِّل النساء بالبيع أو النكاح، والولد لا يحصل إلا بالحليلة زوجة أو أَمَة. وأما قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] فإنه قدَّم النساء والبنين لأنَّ التلذذ بهما لذاتهما، أمَّا النِّساء فبالاستمتاع، وأما البنون فبوجودهم صغاراً وبالاشتغال بهم والاستعانة بهم كباراً، وأما التَّلذذ بالأموال فإنما هو من حيث التوصل بها إلى التلذذ بالنِّساء والبنين؛ فإن كثرة المال تضاعف التلذذ بالنساء والبنين؛ إذ أيهما وافقهما فيما يطلبانه منه كانوا أطوع له، وكلما كانوا أطوع له تضاعف تلذذه بهم. ولما كان ما يحصل للعبد من الفتنة وعدم القربة وما هو مغرم به من التكاثر وعدم الإغناء المشار إليه بقوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10] في المال أبلغَ وأكثرَ منها في الأولاد قُدِّمَتِ الأموال. - العاشر: الحسد. فإنه حسد موسى على النبوة وهارون على الحبورة. والحسد حرام، وهو من أفعال اليهود، بل سائر أهل الكتاب، ومنه قوله: {الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} من بني إسرائيل {يَالَيْتَ لَنَا
مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79]. وقد قيل: إن حسدهم كان غبطة، وهي مباحة. وعلى الأول: فالمثل أطلق على العين، وقد يدل له: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 82]. وقوله: {لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}؛ أي: من المؤمنين والكافرين. والبسط في الرزق وقدره قد يكون لخير يراد بالعبد، وقد يكون لشرٍ يراد به، فالبسط قد يكون بسبب طغيانه، والقدر قد يكون سببًا لزوال إيمانه، فاللائق بالعبد أن يرضى بقسمة الرَّب سبحانه وتعالى؛ فإن الله أعلم بما يصلح لعبده {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30]. وقال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]. روى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال أهل الكتاب: زعم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة، وليس همَّه إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا؟ فأنزل الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] (¬1). ¬
وروى ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان رحمه الله تعالى قال: أعطي النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بضعَ سبعين شابًا، فحسدته اليهود، فقال الله تعالى؛ {أَمْ يَحْسُدُونَ} الآية (¬1). ومن هنا قيل: إن النِّكاح لا ينافي الزُّهد. قال القرطبي: والمراد -يعني: بالآية- تكذيب اليهود والرَّد عليهم في قولهم: لو كان نبياً ما رغب في كثرة النِّساء، ولشغلته النُّبوة عن ذلك، فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان عليهما السَّلام، فوبخهم، فأقرت اليهود بأنه اجتمع عند سليمان عليه السَّلام ألف امرأة، فقال لهم النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ألف امرأة؟ قالوا: نعم، مئة مهرية، وتسعمئة سرية، وعند داود مئة، فقال لهم النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ألف عند رجل، ومئة عند رجل أكثر، أو تسع نسوة؟ فسكتوا، وكان له يومئذ تسع. انتهى (¬2). وقيل: إن اليهود حسدوا النَّبي - صلى الله عليه وسلم - على النُّبوة، وحسدوا أصحابه على الإيمان به. وروى الطَّبراني، وابن المنذر عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} قال: نحن النَّاس دون النَّاس؛ يعني: العرب، أو الصَّحابة (¬3). ¬
وروى ابن جرير عن قتادة رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} قال: أولئك اليهود حسدوا هذا الحي من العرب على ما آتاهم الله من فضله، بعث الله تعالى نبياً منهم فحسدوهم على ذلك (¬1). وعلى كل تأويل: فالآية قاضية على أهل الكتاب بالحسد. وفي الصَّحيح قول عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه: إن اليهود قوم حُسَّد (¬2). وقد تقدم أن الحسد من عمل الشيطان، وهو أول من عصى الله تعالى به. وروى أبو داود عن أبي هريرة، وابنُ ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنهم قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحَسَدُ يَأكُلُ الحَسَناتِ كَمَا تَأكُلُ النّارُ الحَطَبَ" (¬3). ¬
وروى البيهقي في "الشُّعب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَجْتَمعُ في جَوْفِ أَحَدٍ الإِيْمانُ والْحَسَدُ" (¬1). وروى الترمذي عن الزُّبير - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبَلَكُمُ: الْحَسَدُ والبَغْضَاءُ" (¬2). الحديث، وسيأتى بتمامه. وأنشدوا: [من مجزوء الكامل] اصْبِرْ عَلى حَسَدِ الْحَسُو ... دِ فَإِنَّ صَبْرَكَ قاتِلُهْ فالنّارُ تَأْكُلُ بَعْضَها ... إِنْ لَمْ تَجِدْ ما تأْكُلُهْ (¬3) وروى أبو نعيم في "الحلية" عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى! لا تحسد النَّاس على ما آتيتهم من فضلي ونعمتي؛ فإن الحاسد عدو لنعمتي، مضاد لقضائي، ساخط لقسمي الذي قسمته بين عبادي، ومن يك كذلك فليس مني ولست منه (¬4). ¬
تنبيه
وروى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "ذم الحسد"، وفي كتاب "العقوبات"، والطَّبراني في "الأوسط" - بإسناد جيد - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهُ سَيُصِيْبُ أُمَّتِي دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَهُم". قالوا: وما داءُ الأممِ؟ قال: "الأَشَرُ، والبَطَرُ، والتكاثُرُ، وَالتَّنافُسُ في الدُّنْيا، والتَّبَاعُدُ، والتَّحاسُدُ حَتَّى يَكُونَ البَغْيُ، ثُمَّ يَكُونَ الْهَرْجُ" (¬1)؛ يعني: القتل. وهذا الحديث يدل على أن من تخلَّق بهذه الأخلاق تشبَّه بسائر الأمم الهالكة. * تَنبِيْهٌ: تقدم أن المراد بقوله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] داود وسليمان. وفيه تلميح بأن الملك إذا أوتيه داود وسليمان وهما من آل إبراهيم عليهم السَّلام، فلا بِدْع أن يؤتاه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وهو من آله أيضًا. وقد ثبت في الآية ما يدل لذلك، فقد روى عبد بن حميد، وابن المنذر عن عبادة بن الصَّامت رضي الله تعالى عنه: أنَّه قرأ الآية وقال: ومحمدٌ من آل إبراهيم. ¬
- الحادي عشر: تزكية النفس.
وقال بعضهم: المراد بآل إبراهيم: نفسه، وهو استعمال شائع في لسان العرب. وقد روى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن السُّدي قال: زرع إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليه، وزرع النَّاس في تلك السَّنة، فهلك زرع النَّاس، وزكا زرع إبراهيم عليه السَّلام، واحتاج الناس إليه، وكان الناس يأتون إبراهيم فيبتاعون منه، فقال لهم: من آمن بالله أعطيته، ومن أبى منعته، فمنهم من آمن به فأعطاه من الزَّرع، ومنهم من أبى فلم يأخذ منه، {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء: 55] (¬1). وعلى ذلك: فالضمير في قوله: {مَنْ آمَنَ بِهِ} راجع إلى إبراهيم في قوله في الآية السَّابقة: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ} [النساء: 54]، وعلى الأول فهو عائد إلى الله تعالى، أو إلى الكتاب. - الحادي عشر: تزكية النفس. وذلك في قول قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]، وهو خلق اليهود أجمعين. قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 49]. أجمعوا أنها نزلت في اليهود، وقد تقدم الكلام على ذلك. وقد ذم الله تعالى كل من قال مثل مقالة قارون في قوله تعالى: ¬
{فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر: 49 - 51]. قال الثعلبي في قوله تعالى: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الزمر: 50]: يعني: قارون قد قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]. وروى ابن جرير عن السدي في قوله: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}: الأمم الماضية. قال: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ} [الزمر: 51] من أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). والمعنى أن من زكَّى نفسه من هذه الأمة، وقال هذه المقالة أو نحوها، فقد عَرَّض نفسه للعقوبات على ما اكتسبه من الصِّفات. وفي كلام السدي إشارة إلى أن سائر الأمم كانت مشتملة على تزكية النفس ونسبة الكمال إليها في حال الرخاء، فإذا كان وقت الشِّدة ظهر على من كان يزكي نفسه منهم غاية العجز، وفزع إلى الله تعالى. وقلت: [من السربع] إِنَّا عَلى الدُّنْيا لَجارُونا ... لَوْ أَنَّنا بِالأَمْرِ دارُونا نَغْنَى فَنَطْغَى وَنَجُوبُ الْفَلا ... وَنَحْنُ في الطُّغْيانِ ضارُونا ¬
- الثاني عشر: صناعة الكيمياء.
نَبْلَى فنعنو فإذا نَحْنُ مِنْ ... ما قَد تَداعَيْناهُ عارُونا إِنَّا وَأَنْتُمْ يا بَنِي آدَمَ ... لَفِي غُرُوْرٍ لا تُمارُونا نُشْبِهُ في الشِّدَّةِ هارُونا ... وَفِي رَخاءِ الْعَيْشِ قارُونا - الثاني عشر: صناعة الكيمياء. وأكثر ما يتعاناها اليهود والنَّصارى. ثمَّ إن الكيمياء إن كانت بحيث تقلب عين الحديد أو النحاس مثلًا ذهبا أو فضَّة بغير صناعة ولا ضم شيء آخر فهذا ليس من باب العمل، ولكنَّه من باب خرق العادة، فإن كان صاحبه صالحًا فهو من باب الكرامة. ومن هذا القبيل: ما روي أن رجلًا جاء إلى ذي النون المصري رحمه الله تعالى فقال: علي دَيْنٌ. قال: ما قدره؟ قال: ثمانمئة دينار. فأخذ من الأرض حصاة فإذا هي درة، فباعها بثمانمئة دينار، ووفى دينه. وإن كانت الصناعة تؤثر في الحديد مثلًا حتى يصير ذهبًا أو فضة فهذا صبغ وتصفية، وليس بقلب عين حقيقة، فهذا من باب الغش وهو حرام. نعم تصفية الأحجار المجردة عن الصبغ كتصفية الحديد حتى يصير فولاذًا فهذا لا بأس به، وهو من الكسب الطَّيب.
- الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر: البطر، والفرح بغير الله تعالى وفضله، وحب المحمدة بما لم يفعل
واعلم أن الاشتغال بعلم الكيمياء، وتضييع الأموال والأوقات في عملها مما تبيّن للنّاس أنه لا يفيد شيئًا، فهو من باب السَّفَه وإضاعة المال لغير ضرورة ولا فائدة، وكم من إنسان ذا جوعة وعرية وكثرت ديونه وهو في طلب ذلك، ولم يحصل منه على طائل حتى مات. واعلم أن طالب المال بالكيمياء لا يزال فقيرًا، وإنما الكيمياء الاحتراف والاكتساب من حيث إذنُ الشرع فيه كما قلت: [من المديد] يا طالبَ الْكِيْمياءِ فَافْهَمْ ... مِنْ غَيْرِ غِشٌ وَلا خَدِيْعَة لازِمْ عَلى كَسْبِكَ الَّذِي لا ... يَعِيبهُ الْعِلْمُ والشَّرِيْعَة لا تَسْمَعَنَّ قَوْلَ مَنْ تَمَنَّى ... يَوْماً بِأَقْوالِهِ الْوَسِيْعَة كَمْ صَيْدٍ مِنْ زُبْيَةِ هِزَبْر ... ما صِيْدَ إِلَّا عَلى طَمِيْعَة - الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر: البطر، والفرح بغير الله تعالى وفضله، وحب المحمدة بما لم يفعل. وكل ذلك من فعل اليهود. قال الله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188]. وقرأ إبراهيم: {بِمَا أَتَوْا} ممدوداً (¬1)؛ أي: أعطوا. ¬
وقرأ سعيد بن جبير: {بِمَا أَتَوْا} مبنياً لنائب الفاعل (¬1)؛ أي: أعطوا. وقال المفسرون: نزلت في اليهود؛ فرحوا بإضلالهم الناس، وقول الناس: إنهم علماء، وليسوا كذلك، وفرحوا بما آتى الله آل إبراهيم، وهم براء من ذلك (¬2). واعلم أن الفرح بغير الله تعالى وفضله إنما يكون عن جهل وطيش، ولذلك كان مذمومًا. ولم يذكر الله تعالى [الفرح] (¬3) مطلقًا غير مقيد إلا ذمه كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]. وقال تعالى: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10]. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ} [الأنعام: 44]. وما مدحه سبحانه إلا مقيدًا حتى قال في وصف الشُّهداء: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170]. وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. قال أبو سعيد الخدري، وابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهم كما أخرجه ابن أبي شيبة، والمفسرون، والبيهقيّ. والبراءُ بن عازب رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه الطَّبراني في ¬
"الأوسط": فضل الله القرآن ورحمته أن جعلك من أهله (¬1). بل رواه أبو الشيخ عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والحاكم وصححه، وغيرهم عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الله أَمَرَني أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ". فقلت: أسمَّاني لك؟ قال: نعم. قيل لأُبَي: أفرحت بذلك؟ قال: وما يمنعني والله تعالى يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] (¬3) - بالتاء الفوقية - ¬
وهي قراءة أُبَي كما أخرجه أبو داود، والحاكم، وصححه (¬1). وأما قوله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23]، فالمراد النهيُ عن الأسف على ما فات من الدُّنيا، والفرح بما أتى الله العبد منها من حيث إنها دنيا، لا من حيث إنه فضل من الله تعالى. ولذلك قال بعده: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]؛ فإنَّ من علم أن ما بيده فضل من الله تعالى، وهو عارية عنده لا يفرح به من حيث هو. ولذلك قال جعفر الصَّادق رحمه الله تعالى في هذه الآية: يا ابن آدم! ما لك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت؟ وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت (¬2)؟ فأما من فرح بالشيء من حيث إن الله تعالى هو الذي أنعم عليه به فيستدل بذلك على أنه من الله تعالى على بال، فهذا لا بأس به، ومنه قول أيوب عليه السَّلام وقد قال الله تعالى له حين جمع جراد الذهب في ثوبه: ألم أغنك عن هذا؟ قال: بلى، ولكن لا غنى لي عن بركتك، أو عن فضلك (¬3). ¬
وروى ابن أبي شيبة، والمفسرون، والحاكم وصححه، والبيهقيّ في "الشُّعب" عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23]، الآية قال: ليس أحد إلا هو يحزن ويفرح، ولكن إن أصابته مصيبة جعلها صبرًا، وإن أصابه خيرٌ جعله شكرًا (¬1). أي: ولكن المراد في الآية أن يكون العبد كذلك صابرًا عند المصيبة لا جَزِعًا، شاكرًا عند النعمة لا بَطِرًا. وروى ابن أبي شيبة، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"، وابن أبي حاتم عن أسلم رحمه الله تعالى قال: رأيت عبد الله بن الأرقم جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بحلية آنية وفضة، فقال عمر: اللهم إنك ذكرت هذا المال فقلت: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] حتى ختم الآية، وقلت: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23]، وإنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، فاجعلنا ننفقه في حق، وأعوذ بك من شره (¬2). ¬
- السادس عشر: حمل النساء على السروج ومراكب الرجال باديات وجوههن وزينتهن
- السادس عشر: حمل النِّساء على السروج ومراكب الرِّجال باديات وجوههن وزينتهن. بل تمكين النساء من إبدائهن زينتهن مطلقًا، وهذه دياثة، وهتك مروؤة؛ وإن كن إماءه، وإن كان لهنَّ جاه. وربما فعل ذلك كفار الفرنج، ونساء اليهود لا يحتجبن من الرِّجال. وقد قال الله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. وروى ابن ماجه بسند ضعيف، عن عائشة رضي الله عنها قالت: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس إذ دخلت امرأة من مزينة ترفل في زينة لها في المسجد، فقال النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! انْهَوْا نِسَاءَكمْ عَنْ لُبْسِ الزِّيْنَةِ والتَّبَخْتُرِ في الْمَسْجِدِ؛ فَإِنَّ بَنِي إِسْرائِيْلَ لَمْ يُلْعَنُوا حَتَّى لَبِسَ نِساؤُهُم الزِّيْنَةَ وَتَبَخْتَرْنَ في الْمَساجِدِ" (¬1). ¬
- السابع عشر، والثامن عشر: السرقة، والقذف.
وروى ابن حبَّان، والحاكم - وصححاه - عن ابن عمر (¬1) - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "يَكُونُ في آخِرِ الزَّمانِ نِسَاءٌ يَرْكَبْنَ عَلَى سُرُوج كَأشْباهِ الرِّجَالِ يَنْزِلْنَ عَلَى أَبْوابِ الْمَسَاجِدِ، نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ عَلَى رُؤُسِهِنَّ كَأسْنِمَةِ البُخْتِ العِجَافِ، العَنُوهُنَّ فَإِنهنَّ مَلْعُوناَتٌ، لَوْ كَانَ وَرَاءكُمْ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ خَدَمَتْهُنَّ نِسَاؤُكُمْ كَأَحَدٍ مِنْكُم نِسَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُم" (¬2). وروى الترمذي عن ميمونة بنت سعد رضي الله عنها: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الرَّافِلَةُ في الزِّيْنَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِها ظُلْمَةٌ يَوْمَ القِيامَةِ لا نُوْرَ لَهَا" (¬3). - السابع عشر، والثامن عشر: السَّرقة، والقذف. وهما من أقبح الكبائر، وأخبث الذُّنوب، وهما من أخلاق اليهود والنَّصارى. وقال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23]. ¬
لطيفة
ولقد كان قارون وقومه في قذف موسى عليه السَّلام سلفًا لليهود، وكان قذفة مريم أم عيسى عليهما السَّلام خلفًا لهم؛ فقبح الله تلك الأسلاف وتلك الأخلاف. وقد روى البخاري في "تاريخه"، والحاكم وصححه، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال لي النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لَكَ مِنْ عِيْسَى مَثَلًا؛ أَبْغَضَتْهُ اليَهُودُ حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ، وَأَحَبَّتْهُ النَّصارَى حَتَّى أَنْزَلُوهُ لِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَيْسَ لَهِ" (¬1). وما أشبه الرَّوافض باليهود. * لَطِيْفَةٌ: روى الدِّينوري في "مجالسته" عن محمَّد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى قال: جاء رجل إلى سليمان بن داود عليهما السَّلام فقال: يا نبي الله! إن لي جيران سرقوا إوزتي. فنادى: الصَّلاة جامعة، ثمَّ خطبهم فقال في خطبته: واحدكم سرق إوزة جاره، ثمَّ يدخل المسجد والريش على رأسه؟ فمسح رجل برأسه فقال سليمان: خذوه؛ فإنه صاحبكم (¬2). - التاسع عشر: أن قارون وقومه كان أحدهم لا ينظر في وجه خادمه تكبرًا. وهذا خلاف أخلاق الصَّالحين، بل من أخلاق الجبارين، وإنما ¬
الصّالحون من كان له منهم خادم فإنما يعامله بالرفق والتَّواضع. روى الإمام أحمد، والسِّتة إلا أبا داود عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِخْوانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللهُ تَعالَى فِتْنَةً تَحْتَ أَيْدِيْكُمْ، فَمَنْ كانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِنْ طَعامِهِ، وَلْيُلْبِسْهُ مِنْ لِباسِهِ، وَلا يُكَلِّفْهُ ما يَغْلِبُهُ، فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ" (¬1). وروى الشيخان، والخرائطي -واللفظ له - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذا كَفَى أَحَدُكُمْ مَمْلُوكَهُ صَنْعَةَ طَعَامِهِ، وَكَفاهُ حَرَّهُ وَمُؤْنتَهُ، وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ فَلْيُجْلِسْهُ فَلْيَأكُلْ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُناوِلْهُ" (¬2). ومن الصَّالحين من ترك الاستخدام مبالغة في التواضع، وحذرًا من أن لا ينصف الخادم. كما روى الدينوري في "المجالسة" عن محمَّد بن واسع الأزدي رحمه الله تعالى قال: كتب أبو الدَّرداء إلى سلمان - رضي الله عنهما -: أما بعد! فإني أنبئت أنك اشتريت خادماً، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يَزالُ العَبْدُ مِنَ اللهِ وَهُوَ مِنْهُ ما لَمْ يُخْدَمْ، فَإِذا خُدِمَ وَقَعَ عَلَيْهِ الْحِسابُ". وإن أم الدرداء سألتني أن أشتري لها خادماً وكنت لذلك موسرًا، ¬
وإني خفت الحساب (¬1). وأخرجه الحاكم في "تاريخ نيسابور"، وأبو نعيم في "الحلية"، ولفظه: "فَإِذا خُدِمَ وَجبَ عَلَيْهِ الْحِسَابُ" (¬2). ومعنى وجب: وقع، كما في الرواية السابقة؛ أي: حق وتوجَّه. وروى مسلم عن عبد الرحمن الحُبُليِّ قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما وسأله رجل، فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك سكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: فإن لي خادمًا. قال: فأنت من الملوك (¬3). وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم -مرسلًا - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
"مَنْ كانَ لَهُ بَيْتٌ وَخادِم فَهُوَ مَلِكٌ" (¬1). وروى ابن أبي حاتم، والثعلبي في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20] عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَانَتْ بَنُو إِسْرائِيْلَ إِذا كانَ لأَحَدِهِمْ خادِمٌ وَدابَّةٌ وامْرَأةٌ يُكْتَبُ مَلِكًا" (¬2). وذكر الثعلبي عن الضحاك قال: كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية؛ فمن كان مسكنه واسعاً وفيه ماء جارٍ فهو ملك (¬3). وروى عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} قال: ملَّكَهم الخدم، وكانوا أول من ملك الخدم. وفي رواية لابن جرير: كنا نُحدَّث أنهم أول من سُخر لهم الخدم من بني آدم (¬4). قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأنَّ القبط كانوا يُسخِّرون بني إسرائيل. ¬
- العشرين: أن قارون وقومه كان أحدهم لا ينظر إلى جارية إلا إذا كانت بكرا على ما ذكره ابن ظفر
قال: وظاهر أمر بني آدم أنَّ بعضهم كان يسخر بعضًا منذ تناسلوا وكثروا، وإن اختلفت الأمم في معنى التملك فقط. انتهى (¬1). قلت: الظاهر في قول قتادة: أنَّ بني إسرائيل أول من سُخر لهم الخدم: أن المراد التسخير بحق كما تدل عليه الرَّواية الأخرى: أول من ملك الخدم. وأما القبط ومن قبلهم فإنما كانوا يسخرون النَّاس بغير حق. فقول ابن عطية: (إنه ضعيف) فيه نظر. - تمام العشرين: أن قارون وقومه كان أحدهم لا ينظر إلى جارية إلا إذا كانت بكرًا على ما ذكره ابن ظفر. وهذا من باب الحماقة والتكبر والأنفة، وقد تزوج الثيبات نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وداود وسليمان صلوات الله عليهما وسلامه، وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، وقد يرغب في الثيبات وإن كان البكر أفضل لمعانٍ أخرَ ككون الأبكار أنتق أرحامًا، وأرضى باليسير، وقد تكون الثيّب أولى لإصلاح البيت، والقيام على العيال، وتعجيل قضاء الوطر. وفي المثل: الثيّب عجالة الراكب (¬2). وما يفعله الملوك من تكثير الجواري وتعطيلهن فهو من الجبروت وسوء الملكة. ¬
- الحادي والعشرون: موافقة الكفار والفجار في أعمالهم وأخلاقهم.
وقد روى البزار عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ اتَّخَذَ مِنَ الْخَدَمِ - أَيِ: الْخادِماتِ -أَكثَرَ ما يَنْكِحُ ثُمَّ بَغَيْنَ، فَعَلَيْهِ مِثْلُ آثامِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ آثامِهِنَّ شَيْء" (¬1). - الحادي والعشرون: موافقة الكفار والفجار في أعمالهم وأخلاقهم. كما وافق قارون فرعون في الخضب بالسَّواد، وقد سبق أنه كان من عماله وأعوانه. وقد علمت ما في التشبه بالفجار وأعداء الله تعالى من البعد عن الله تعالى. - الثاني والعشرون، والثالث والعشرون: البخل والشُّح، والأمر بهما. وقد فسر الشح في "القاموس" بالبخل والحرص (¬2)، ثم فسر الحرص بالجشع (¬3)، وفسر الجشع بأشد الحرص وأسوئه، وأن تأخذ نصيبك وتطمع في نصيب غيرك (¬4). ¬
والحاصل أن هذه الألفاظ والضنة متقاربة المعنى، يرجع معناها إلى الإمساك على الشيء واحتباسه، وحقيقته حبُّ القلب للمضنون به، فيمسك عليه ويقبض لشدة تعلقه به، فينشأ عن ذلك انقباض اليد عن بذله كما ينشأ عن الكرم والسَّخاء، والسماحة والجود بسط اليد بالشيء وبذله. وقد يحصل في هذه الأخلاق إفراط كما يحصل في تلك الأخلاق تفريط، وكلاهما مذموم، فلذلك قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]. فعبر عن الإمساك المتناهي بعمل اليد، وعن السماح المتناهي ببسط اليد، ثمّ أشار كل البسط إلى أنه إنما يذم إذا تناهى كل التَّناهي بخلاف البخل؛ فإنَّه مذموم وإن قل. ثمَّ أشار إلى مدح الاقتصاد في آية أخرى بقوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. ولقد تناهى البخل بقارون حتى خسف به إلى التناهي؛ فإنه بخل بما يجب عليه من الزكاة، وهو -أعني: البخل بالواجب هو- البخل الذي يوجب لصاحبه العذاب، على أن موسى عليه السَّلام رضي منه، كما في الأثر أن يبذل من كل ألف درهم درهمًا، ومن كل ألف دينار دينارًا، فبخل وشح (¬1)، والبخل شيمة اليهود كما قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ¬
فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53]؛ أي: يمنعون الحقوق وَلَو كانت قليلًا بقدر النقير، وهي النُّكتة التي في ظهر النَّواة. وقال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]؛ أي: يتحمَّلون وزره وإثمه. روى ابن جرير عن ابن عباس، وعن مجاهد: أنها نزلت في اليهود (¬1). وقال آخرون: هي في اليهود، وغيرهم من مَنَعَةِ الزكاة. ويؤيده ما رواه البخاري، والنَّسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ آتاهُ اللهُ مالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَومَ القِيامَةِ شُجاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيْبَتانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيامَةِ، ثُمَّ يأخُذُهُ بِلِهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِي: شِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُولُ: أَنا مالُكَ، أَنا كَنزُكَ"، ثمَّ تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} (¬2). وفي الحديث: أن معنى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ}: أنه يجعل أطواقاً في أعناقهم. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ ¬
فَضْلِهِ} [النساء: 36 - 37]؛ يعني: المال. قال أكثر المفسرين: إنها نزلت في اليهود. فهذه الأخلاق الثَّلاثة المشار إليها في الآية -أعني: البخل والأمر به، وإظهار الفقر، وكتمان الغنى- من أخلاق اليهود، بل والنَّصارى، غير أنها في اليهود أظهر وأبلغ. روى أبو داود، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِيَّاكُمْ والشُّحَّ؛ فَإِنَّما هَلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُم بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيْعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالفُجُورِ فَفجَرُوا" (¬1). وقد قدمنا قول عيسى عليه السَّلام: إن الشَّيطان يريد أن يوقعكم في بخله فلا تفعلوا. وقوله عليه السَّلام بشدة: ما يدخل غني الجنة. وروى الدينوري عن أبي عبد الله الصُّوفي قال: قال عيسى عليه السَّلام: طالب الدُّنيا مثل شارب البحر؛ كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا حتى تقتله (¬2). وروى ابن عساكر عن سفيان الثَّوري قال: قال المسيح عليه السَّلام: إنما تطلب الدنيا لتبر، فتَرْكُها أَبَرُّ (¬3). ¬
- الرابع والعشرون: قطيعة الرحم، ومعاداة الأهل لأجل الدنيا.
وقد ذكر الثعلبي في "العرائس" عن أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى: أن قارون كان في أول أمره منقطعاً للعبادة، فحسَّن له الشيطان مخالطة النَّاس والكسب ليعود به على النَّاس بالصَّدقات والصِّلات، ولا زال يحسن له ذلك حتى طلب الدنيا واكتسب، فلما أقبل على ذلك حلت الدنيا في قلبه، فجمعها ومنعها، فآل أمره إلى ما آل إليه ... في خبر طويل. - الرابع والعشرون: قطيعة الرحم، ومعاداة الأهل لأجل الدنيا. فإن قارون حمله حبُّ الدنيا على قطيعة رحمه، وذلك أيضاً من أعمال أهل الكتاب وغيرهم. روى ابن حبَّان في "صحيحه"، والحاكم - وقال: صحيح الإسناد، واللفظ له - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إيَّاكُمْ والفُحْشَ والتَّفَحُّشَ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُحب الفاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ، وإِيَّاكُمْ والظلمَ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الظُّلُماتُ يَوْمَ القِيامَةِ، وَإيَّاكُمْ والشُّحَّ؛ فَإِنَّهُ دَعَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَسَفَكُوا دِماءَهُمْ، وَدَعا مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ فَقَطَعُوا أَرْحامَهُمْ، وَدَعَا مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ فاسْتَحَلُّوا حُرُماتِهِمْ" (¬1). وتقدم نحوه من حديث ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما. وروى العقيلي في "الضُّعفاء" عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صِلُوا قَرابَاتِكُم، وَلا تُجَاوِرُوْهُمْ؛ فَإِنَّ الْجِوارَ ¬
يُوْرِثُ بَيْنَكُمُ الضَّغائِنَ" (¬1). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن يحيى بن يمان قال: قال رجل لسفيان الثوري: إني أحبك. قال: كيف لا تحبني ولست بابن عمي، ولا جاري (¬2). وفي معنى ذلك ما رواه البيهقي في "الشعب" عن بشر بن الحارث رحمه الله تعالى قال: العداوة في القرابة، والحسد في الجيران، والنميمة في الإخوان (¬3). وروى في "دلائل النبوة" عن كعب رحمه الله تعالى: [أنه قال لأبي مسلم الخولاني]: كيف تجد قومك لك؟ قال: مكرمين مطيعين. قال: ما صدقتني التوراة إذًا: ما كان رجل حليم في قوم إلا بَغَوا عليه وحسدوه (¬4). واعلم أن سبب عداوة الأهل أمران: الأوّل: أن يتفاضلوا في الفضائل والنعم، فيغار أحدهم ممن هو فوقه، فيحسده ويبغي عليه، وعليه حديث أبي موسى. ¬
والثاني: أن يكون أحدهم عالمًا، فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهو أحرص على صلاح أهله من صلاح غيرهم، وأولى أن يبدأ بهم في النصيحة كما قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]. وروى ابن عساكر، وغيره عن عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء يحدث الناس ويفتيهم، وولده وأهل بيته جلوس في جانب يتحدثون، فقيل له: يا أبا الدرداء! ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم، وأهل بيتك جلوس لاهين؟ قال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ أَزْهَدَ النَّاسِ في الأَنْبِياءِ وَأَشَدَّهُمْ عَلَيْهِمُ الأَقْرَبُونَ". ثمَّ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَزْهَدَ النَّاسِ في العالِمِ أَهْلُهُ حَتَّى يُفارِقَهُم" (¬1). وقلت في المعنى: [من الخفيف] أَزْهَدُ الناسِ في الْحَكِيْمِ قَرِيْبُهْ ... إِنْ يغيضا (¬2) بِالنُّصْحِ صارَ حَبِيبُهْ إِنَّ لِلنّصْحِ سَطْوَةً ضاقَ مِنْها ... مِنْ فُؤادِ الّذِي نَصَحْتَ رَحِيْبُه ¬
كَمْ حَكِيْمٍ قَلاهُ لِلنُّصْحِ جارٌ ... وَحَفاهُ ابْنُ خالِهِ وَرَقِيْبُه والرقيب هنا: ابن العم. واعلم أنه كما ابتلي موسى عليه السلام بقارون وهو ابن عمه أو عمه، ابتلي محمد - صلى الله عليه وسلم - بعمه أبي لهب. وقد قص الله تعالى أذية قارون لموسى في طي قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76]، وهو طي بالنشر أشبه، وإشارة إلى التَّصريح أقرب. ولمح بأذية أبي لهب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - تلميحًا، فقال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1 - 2]. وصبر - صلى الله عليه وسلم - على أذية أبي لهب امتثالًا لقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. وموسى عليه الصَّلاة والسَّلام من أولي العزم اتفاقًا. ثمَّ قال - صلى الله عليه وسلم - على وجه التواضع: "يَرْحَمُ اللهُ أَخِي مُوسَى؛ لَقَد أُوْذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذا فَصَبَرَ" (¬1). وكان من أذية أبي لهب له ما تضمنه ما رواه البخاري، والمفسرون عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، (ورهطك منهم المخلصين): خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى صعد على ¬
الصفا، فهتف: يا صاحباه! فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فاجتمعوا إليه، فجعل الرجل إذا لم يستطيع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: "أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوادِي تُرِيْدُ أَنْ تُغِيْرَ عَلَيْكُمْ أَكُنتمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليكَ إلَّا صدقاً. قال: "فَإِنِّي نَذِيْرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيْدٍ". فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا، فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] (¬1). وقوله: (رهطك منهم المخلصين) منسوخٌ (¬2). ثمَّ إن الله تعالى كما ابتلى موسى عليه السَّلام بثلاث من رؤوس أهل زمانه: أحدهم من أهله وقومه، والآخران من غير قومه، وهم فرعون وهامان وقارون، وقد جمعهم الله تعالى مقدمًا لقارون لشرف نسبه، ولأنه قريب موسى، وعداوة القريب أشد، فقال سبحانه وتعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت: 39]. ¬
وابتلى سبحانه وتعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بثلاث من رؤوس أهل زمانه: واحد من أقاربه، وهو أبو لهب، والآخران أجنبيان منه؛ وهما أبو جهل، وعبد الله بن أُبيِّ ابنُ سلول المنافق، والآخران مشركان كما كان أحد الثلاثة المبتلى بهم موسى عليه السَّلام منافقًا، وهو قارون، كما تقدم وصفُه بالنفاق عن قتادة، والآخران مشركان، وهما فرعون وهامان. ثمَّ إن أبا جهل كان أشدهم كفرًا، وأكثرهم تمردًا، فكان مقابلًا لفرعون، وقد ثبت في "السنن" (¬1) كما نبه عليه النوويّ في "تهذيب الأسماء واللغات": أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لما قتل أبو جهل يوم بدر: "قُتِلَ فِرْعَوْنُ هَذهِ الأُمَّةِ" (¬2). ثمَّ بقيت هذه السنة في ورثة الأنبياء من العلماء والأولياء، فلا يكاد أحد منهم يخلو ممن يؤذيه ولو من جيرانه وذويه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ كانَ الْمُؤْمِنُ في جُحْرِ ضَبٍّ لَقَيَّضَ اللهُ لَهُ فِيْهِ مَنْ يُؤْذِيْهِ". أخرجه الدارقطني في "الأفراد"، وقال غريب، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقيّ في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬3). وروى أبو سعيد النقاش في "معجمه"، وابن النجار في "تاريخه" ¬
عن علي رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنٌ وَلا يَكُوْنُ إلَى يَوْمِ القِيامَةِ إِلَّا وَلَهُ جارٌ يُؤْذِيْهِ" (¬1). وروى البيهقي عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: إذا أراد الله تعالى أن يتحف العبد سَلَّط الله عليه من يظلمه (¬2). وبما تقرر من أذى قارون وقومه لموسى عليه السلام: يتبين أن من أعمالهم وقبائحهم: بغض أولياء الله تعالى وأذيتهم. وبغض العلماء. وإساءة الأدب معهم. وعدم توقيرهم. والجرأة عليهم. وكفران نعمة الأستاذ والمعلم. وعقوقه وعدم حفظ حقوقه. وبها تتم أعماله وأعمال قومه المذمومة ثلاثين، وهي في الجملة من قبائح بني إسرائيل، وتابعهم فيها سائر أهل الكتاب. فليعطف على ذلك ما بقي من قبائحهم التي تدخل في النهي عن ¬
135 - ومنها: التصدق بما يغتصبون من الناس، ويظلمونهم بأخذه منهم.
التشبه بهم، ونقول: 135 - ومنها: التصدق بما يغتصبون من الناس، ويظلمونهم بأخذه منهم. وقد تقدم عن وهب بن منبه فيما أوحى الله تعالى إلى شعيب عليه السلام: أن الله قال لبني إسرائيل: كيف تزكو صدقاتهم وهي من أموال غيرهم، وإنما أجزي عليها المغتصبين. ولقد قيل في هذا الباب: [من الطويل] وَمُطْعِمَةِ الأَيْتامِ مِنْ كَدِّ فَرْجِها ... لَكِ الْوَيْلُ لا تَزْنِي وَلا تتَصَدَّقِي وفي كتاب الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]. قال سعيد بن جبير في قوله: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}: الحلال. رواه عبد بن حميد (¬1). قال ابن زيد في قوله: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ}: الحرام. رواه ابن جرير (¬2). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ جَمَعَ مالًا مِنْ حَرامٍ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ، لَمْ ¬
136 - ومنها: التصدق بأردأ الأموال، وبما لا يحب.
يَكُنْ فِيْهِ أَجْرٌ، وَكانَ أَجْرُهُ عَلَيْهِ". صححه ابن خزيمة، وابن حبَّان، والحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَكْسِبُ عَبْدٌ مالًا حَراماً فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبارَكَ لَهُ فِيْهِ، وَلا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ، وَلا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إلاَّ كانَ زادَهُ إلَى النَّارِ؛ إِنَّ الله لا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلا يَمْحُو السَّيِّئَ إِلَّا بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيْثَ لا يَمْحُو الْخَبِيْثَ". رواه البيهقي في "الشعب" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬2). 136 - ومنها: التصدق بأردأ الأموال، وبما لا يحب. وقد سبق نظيره عن قابيل. قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92]؛ أي: من شيء محبوب عندكم، أو مكروه. وهذه الآية من الآيات التي نزلت في وقد نجران، وقد تقدمها وتأخر عنها ما يتعلق بأهل الكتاب، ويني إسرائيل من أحوالهم وأعمالهم. ¬
137 - ومنها: ترك صيام رمضان من غير عذر كالمرض والسفر.
وروى عبد بن حميد عن الحسن في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} [المائدة: 27] قال: كانا من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات (¬1). وقد [جاء] (¬2) في قصتهما أن خيرهما [قرب] (¬3) كبشًا من أحسن الغنم، وشرهما قرَّب صُبرة طعام من أردا الطعام، فلم يتقبل منه (¬4). 137 - ومنها: ترك صيام رمضان من غير عذر كالمرض والسفر. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 183، 184]. قال جماعة: التَّشبيه في الآية راجع إلى مطلق العموم. وقال آخرون: بل راجع إلى قدر الصوم ووقته. وقالوا: إنه كتب صوم رمضان على سائر الأمم (¬5). ¬
ويروى عن علي رضي الله تعالى عنه قال: أول من صام رمضان آدم عليه السلام. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صِيامُ رَمَضانَ كتَبَهُ [الله] (¬1) عَلَى الأُمَمِ قَبْلَكُم" (¬2). وعن الحسن قال: لقد كتب الصيام على كل أمة خلت، كما كتب علينا شهرًا كاملًا (¬3). وروى ابن جرير عن الشعبي رحمه الله تعالى قال: إن النصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا، وكانوا ربما صاموا في القيظ فحولوه إلى الفصل؛ أي: فصل الربيع، وضاعفوه حتى صار إلى خمسين يوماً، فذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] (¬4). وعن السدي قال: إن صيام رمضان كتب على اليهود فلم يقبلوه، ثمَّ صاموا يومًا واحدًا من السنة، وزعموا أنّه اليوم الذي أغرق الله فيه فرعون، وكتب على النصارى فقبلوه وصاموه، ثمَّ كان يقع في الحر ¬
الشديد والبرد الشديد، فشق عليهم صيامه، وتركه أكثرهم، فرأى علماؤهم أن يحولوه إلى زمان الربيع، ويزيدوه عشرة أيام، ثم أصابهم مَوَتان، فقالوا: لو زدتم في صيامكم، فزادوه عشرًا، فصار صيام النصارى خمسين يوماً" (¬1). وروى الطبراني عن دَغْفل -بفتح الدال المهملة، وإسكان الغين المعجمة- بن حنظلة رضي الله تعالى عنه موقوفاً عليه في "المعجم الكبير"، ومرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في "الأوسط" -بإسنادين صحيحين- كما أخرجه البخاري في "تاريخه"، والنحاس في "ناسخه" قال: كان على النصارى صوم شهر رمضان، وكان عليهم ملك فمرض، فقال: لئن شفاه الله ليزيدن ثمانية أيام، ثم كان عليهم ملك آخر بعده يأكل اللحم فوجع، فقال: لئن شفاه الله ليزيدن ثمانية أيام، ثمَّ كان عليهم ملك بعده فقال: ما ندع من هذه الأيام أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع، فصارت خمسين يومًا. وفي رواية البخاري، والنَّحاس: إن الملك الأوّل زاد عشرة أيام، والثاني سبعة أيام، والثالث ثلاثة، وإن الثاني أوجع فوه (¬2). ¬
138 - ومنها: تقدم رمضان يصوم يوم أو يومين.
وهذا من تلاعب الملوك بالدِّين، ولا يخفى أن اليهود والنصارى إلى الآن يصومون رمضان إلا إن وافق صيامهم، فتارك صوم رمضان أو يوم منه لغير عذر متشبه باليهود والنصارى، فإن جحد وجوبه كان كافراً حقيقة. 138 - ومنها: تقدم رمضان يصوم يوم أو يومين. وقد جاء النَّهي عنه في شريعتنا إلا من وافق عادة له. روى عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كتب على النصارى الصيام كما كتب عليكم، وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]. قال: وكان أول أمر النصارى أن قدموا يوماً؛ قالوا: حتى لا نخطئ، ثمَّ قدموا يومًا وأخروا يومًا، وقالوا: حتى لا نخطئ، ثمَّ آخرهم صاروا إلى أن قالوا: تقدم عشرًا ونؤخر عشرًا حتى لا نخطئ، فضلوا (¬1). ونقل القرطبي عن الشعبي قال: لو صمت السنة كلها لأفطرت يوم الشك (¬2). وذلك أنَّ النصارى فرض عليهم صيام شهر رمضان كما فرض علينا، فحولوه إلى الفصل الشمسي لأنه قد كان وافق القيظ فعدوا ثلاثين ¬
يومًا، ثمَّ جاء بعدهم قرن فأخذوا بالوثيقة لأنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يومًا وبعدها يومًا، ثمَّ لم يزل الآخر يستن بسنة من قبله حتى صاروا إلى خمسين يوماً. وروى أبو نعيم في "الحلية" عن عبيد اللحام قال: كنت أمشي مع الشعبي رحمه الله تعالى فقام إليه رجل فقال: يا أبا عمرو! ما تقولون؛ قوم يصومون قبل شهر رمضان بيوم؟ قال: ولم؟ قال: حتى لا يفوتهم شيء من الشهر. قال: هكذا هلكت بنو إسرائيل؛ تقدموا قبل الشَّهر يومًا وبعده يومًا، فصاموا اثنين وثلاثين يومًا، فلمَّا ذهب ذلك القرن جاء قوم آخرون فتقدموا قبل الشَّهر بيومين وبعده بيومين حتى صار أربعة وثلاثين يومًا، حتى صار صومهم خمسين يوماً؛ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (¬1). وقال الحافظ زين الدِّين العراقي في الحكمة في النهي عن تقدم الشهر بيوم أو يومين حتى لا يختلط صوم الفرض بصوم نفل قبله ولا بعده تحذيراً مما صنعت النصارى من الزيادة على ما افترض عليهم لرأيهم الفاسد، فكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بمخالفة أهل الكتاب، وكان أولًا يحب موافقتهم فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثمَّ أمر بعد ذلك بمخالفتهم، انتهى (¬2). ¬
139 - ومنها: التحرج عن الأكل والشرب، والنكاح من بعد النوم في ليالي الصوم.
139 - ومنها: التحرج عن الأكل والشرب، والنِّكاح من بعد النَّوم في ليالي الصوم. ومن المنقول عن أبي العالية، والرَّبيع في قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] أن التشبيه واقع على صفة الصوم الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام، وكذلك كان صوم النصارى (¬1). وهكذا كان الصيام في أول الإسلام، ثمَّ نسخ المنع من النكاح بعد النوم بسبب فعل عمر رضي الله تعالى عنه لذلك، كما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم من حديث معاذ، والإمام أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنهم (¬2). ونسخ المنع من الطَّعام والشراب بسبب قيس بن الصِّرمة الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وشدة جزعه، كما رواه البخاري من حديث ¬
فائدة
البراء رضي الله تعالى عنه (¬1). وأنزل الله تعالى بسبب القصتين: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. * فائِدَةٌ: قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] قال أكثر المفسرين: يعني: الولد. ورواه عبد بن حميد عن مجاهد، وقتادة، والضحاك (¬2). وهو مروي في تفسيري ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس (¬3). ورويا عنه أيضًا: أن المراد ليلة القدر (¬4). والأول أقرب؛ لأنه ذُكر بعد مباشرة النساء. وقد روى البيهقي [ ... ] (¬5) والمفسرون عن ابن عباس رضي الله ¬
140 - ومنها: الوصال في الصوم بأن يجمع يومين أو أكثر في الصوم
تعالى عنهما قال: المباشرة: الجماع، ولكن الله كريم يكني (¬1). وقال مجاهد: المباشرة في كل كتاب الله الجماع. أخرجه ابن جرير (¬2). وبلغني عن بعض الصالحين أنه كان يقول: ما انعقد ولد من جماع في شهر رمضان إلا كان ولدًا مباركاً. قلت: وهذا ظاهر لأنه جماع مأمور به وإن كان الأمر فيه للإباحة، ولأنه مخالف لسمت أهل الكتاب، ولأمر الله سبحانه بابتغاء الولد فيه، ولأن الشياطين تكون مصفدة عن النطف والأغذية التي تتولد عنها النطفة، وكثير من يهتم باستطاعتها في رمضان ما لا يهتم به في غيره، وترق القلوب بسبب الطعام، وتضعف النفوس، وتصفو الأخلاط. وقد قال جماعة من الأطباء: إن الولد يغلب عليه ما كان الغالب على والديه من الأمزجة حالة انتشار لذتهما، وتولد نطفته عنهما؛ والله سبحانه وتعالى أعلم. 140 - ومنها: الوصال في الصوم بأن يجمع يومين أو أكثر في الصوم من غير فرق بينهما بطعام أو شراب في الليلة التي بينهما. روى الإمام أحمد، والطبراني بإسناد صحيح، عن ليلى امرأة ¬
بشير بن الخَصَاصية قالت: أردت أن أصوم يومين متواصلين، فمنعني بشير رضي الله تعالى عنه، وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه، وقال: "يَفْعَلُ ذَلِكَ النَّصارَى، وَلَكِنْ صُومُوا كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ تَعالَى و {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فَإِذا كانَ اللَّيْلُ فأَفْطِرُوا". وفي رواية: "وَلَكِنْ صُوْمِي كَما أَمَرَكِ اللهُ وَأَتِمِّي وَأَفْطِرِيْ" - بياء المخاطبة (¬1). وقد قيل: إن قوله: "يفعل ذلك النصارى" مدرجٌ في الحديث من كلام بشير، وهو قريب في الرواية الأخيرة. وفي "الصحيحين": من حديث أنس، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال. قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: "إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُم؛ إِنِّي أَبِيْتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِيْني" (¬2). وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال رحمة لهم (¬3). ¬
141 - ومنها: التشدد في الصيام، والامتناع فيه عن اللحم وما يلائمه من الأدم،
وفيه إشارة إلى أنه إنما نهاهم عنه تيسيرًا عليهم ورحمة لهم لئلا يتشددوا في الدين كما تشددت فيه رهبان النصارى، ثمّ بين أن الوصال ليس مشقاً في حقه، فأباحه الله له كرامة وخصيصة. 141 - ومنها: التشدد في الصيام، والامتناع فيه عن اللحم وما يلائمه من الأدم، والاقتصار على الزيت ونحوه كما يفعل النصارى في صيامهم. وهذا يتفق كثيرًا للمتعمقين في الدين، ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أنهم فعلوا ذلك في صومهم، وإنما هو معروف من فعل النصارى. وأصله: أن ملكًا من ملوكهم أكل اللحم في الصوم فوجع، فترك اللحم، وأمرهم بتركه. وروى ابن ماجه عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سَيِّدُ طَعامِ أَهْلِ الدُّنْيا وَأَهْلِ الْجَنَّةِ اللَّحْمُ" (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ الإِدامِ اللّحْمُ، وَهُوَ سَيِّدُ الإِدامِ" (¬2). ¬
وروى ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَكْلُ اللَّحْمِ يُحَسِّنُ الوَجْهَ، وَيُحَسِّنُ الْخُلُقَ" (¬1). وروى ابن السني، وأبو نعيم كلاهما في "الطب"، والبيهقيّ عن علي - رضي الله عنه -: اللحم من اللحم؛ فمن لم يأكل اللحم أربعين يومًا ساء خلقه (¬2). وروى أبو داود، والترمذي، وهؤلاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه الذراع؛ أي: من الشاة ونحوها (¬3). وسبب ذلك كما قال بعض العلماء قربُها من المرعى. وروى الشيخان، والترمذي عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكل لحم دجاج (¬4). وروى هؤلاء، وأبو داود، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب الحلوى والعسل (¬5). ¬
وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذا أُتِيَ أَحَدُكُمْ بِالطِّيْبِ فَلْيُصِبْ مِنْهُ، وَإِذَا أُتِيَ بِالْحَلْوَى فَلْيُصِبْ مِنْها" (¬1). وروى مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بَيْتٌ لا تَمْرَ فِيْهِ جِياعٌ أَهْلُهُ" (¬2)؛ أي: بيت في المدينة ونحوها من البلاد التي عمدة أقواتها لأهلها التمر. فهذه الأحاديث، وأمثالها تدل على أن تناول هذه الطيبات وأمثالها لا تخل بالزهادة، ولا بالعبادة إذا كان العبد يتناولها على وجه الشرع - سواء كان ذلك في صوم، أو فطر -. قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. قال علي بن الحسين: قد جمع الله الطِّب في نصف آية، فقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (¬3). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كل ما شئت، واشرب ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف، ومَخِيلة. وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وصحح عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُوا واشْرَبُوا، وَتَصَدَّقُوا، والْبَسُوا في غَيْرِ مَخِيْلَةٍ وَلا سَرَفٍ؛ فَإِنَّ الله سُبْحانهُ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ" (¬1). ومن ثمّ تعلم أن المبالغين في التنعم والتبسط في التلذذات في رمضان مفرطون مخالفون للحكمة التي شرع من أجلها الصوم من قمع الشهوة وكسرُ النفس، حتى إن أحدهم يأكل في رمضان من أنواع الطيبات ما لا يأكله في غيره، وربما صرف في رمضان ما لا يصرفه من أول السنة إلى آخرها غير رمضان، حتى إن بعض الجهلة ربما اشتاق إلى رمضان لا لأجل الصيام، ولكن لأجل ما اصطلح عليه الناس من الطَّيبات، فلا ينبغي للمتدين أن يهتم لنفسه في رمضان ما لا يهتم لها في غيره. وإذا كان سرَّ الصَّوم كسرُ الشهوة ومجاهدة النفس لتنقاد للطاعة، فأي جدوى -كما قال حجة الإِسلام الغزالي في "الإحياء"- لتأخير أكلة، وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في الشهوات الأُخر طول النهار؛ أي: ومع التأنق في تحسين المآكل والمشارب التي يستوفيها بعد ¬
فطره، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ مِنَ الإِسْرافِ أَنْ تَأكُلَ كُلَّ ما اشْتَهَيْتَ". رواه ابن ماجه، وغيره من حديث أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). نعم، إن وسع في نفقته وعمل مستلذات الأطعمة من غير إسراف ولا مَخِيلة لأجل عياله أو صغار أولاده، أو لضيفه، أو لإخوان يجمعهم على طعامه، فهذا له أصل في السنة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان كما في "الصحيح" (¬2). وقال العلماء: يستحب الإكثار من السخاء والجود في رمضان لهذا الحديث، ولغيره. بل إكرام الإخوان وإصابة الشهوة منهم في رمضان وغيره مندوب إليه. وقد روى الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ وافَقَ مِنْ أَخِيْهِ شَهْوَةً غُفِرَ لَهُ" (¬3). ¬
وروى البيهقي عن الليث بن أبي سليم قال: أول من خَبَصَ الخَبِيص عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، قَدِمَت عليه عِيرٌ تحمل النَّقيَّ والعسل، فخلط بينهما، وعمل الخبيص، وبعث به إلى أم سلمة رضي الله عنها، فلما وضعته بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكله، فاستطابه، فقال: "مَنْ بَعَثَ هَذا؟ ". قالت: عثمان بن عفان. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إِنَّ عُثْمانَ تَرَضَّاكَ فارْضَ عَنْهُ" (¬1). وعن عبد الله بن عوف رحمه الله تعالى قال: ما أتينا ابن سيرين في يوم عيد قط إلا أطعمنا خبيصًا؛ أي: فالوذق (¬2). ورواه أبو نعيم في "الحلية"، ولم يقل: يوم عيد (¬3). وفيها عن أبي خلدة قال: دخلت على محمَّد بن سيرين رحمه الله تعالى فقال: ما أدري ما أتحفكم به، كلكم في بيته [خبز ولحم] (¬4)، يا جارية! تلك الشهدة، فجاءت بها، فجعل يقطع، ويأكل ويطعمنا (¬5). وقوله: تلك الشَّهدةَ؛ أي: القطعة من العسل مع شمعه، وهو منصوب بإضمار: هاتِ، أو على الأغراء. ¬
ثم اعلم أن التبسط في الشهوات والاسترسال فيها ربما أدى إلى قسوة القلب والغفلة عن ذكر الله تعالى، وقد يؤول بصاحبه إلى الإسراف والمَخِيلة وغيرهما من المفاسد الدينية، فاللائق بالعبد الاقتصاد والتوسط بين الإفراط والتفريط في قدر المأكل والمشرب، وسائر التمتعات، وفي أنواعها وقيمتها، مع مراقبة الله في سائر الأحوال، وسياسة النفس في سائر الأمور، وبهذا جاءت السنة. روى الترمذي، وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "تَعَشَّوْا وَلَوْ بِكَفِّ مِنْ حَشَفٍ؛ فَإِنَّ تَرْكَ العَشاءِ مَهْرَمَةٌ" (¬1). وروى ابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَدَعُوا العَشاءَ وَلَوْ بِكَفٍّ مِنْ تَمْرٍ؛ فَإِنَّ تَرْكَهُ مَهْرَمَةٌ" (¬2). وروى الترمذي وحسنه، وابن حبَّان في "صحيحه" عن المقدام ابن معدي كرب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما مَلأَ آدَمِيٌ وِعاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكُلاتٌ -وفي لفظ: لُقَيْماتٌ- يُقِمْنَ صُلْبَهُ؛ فَإِنْ كانَ لا مَحالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ" (¬3). ¬
وروى ابن ماجه، والبيهقيّ -وحسنه جميعهم- عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مِنَ الإِسْرافِ - وفي لفظ: إِنَّ مِنَ الإِسْرافِ - أَنْ تَأكُلَ كُلَّما اشْتَهَيْتَ" (¬1). و"ما" في قوله: "كل ما اشتهيت" موصولةٌ. ويحتمل أن تكون على المفعولية أي: كل مأكول اشتهيت. ويحتمل أن تكون على الظرفية؛ أي: في كل وقت اشتهيت؛ فإن الشهوة أكثر ما تكون غير صادقة، بل ولهاً من الإنسان وتشغلاً، وتارة تكون الشهوة صادقة والأكل عند صدق الشهوة واستحكامها محمود شرعًا وطباً، وأمَّا عند الشهوة الكاذبة كلما وقعت الشهوة به فذلك هو المراد في الحديث. وروى ابن السني، وأبو نعيم، والبيهقيُّ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لِلْقَلْبِ فَرْحَةٌ عِنْدَ أَكْلِ اللَّحْمِ، وَما دامَ الفَرَحُ لامْرِئٍ إِلَّا أَشِرَ وَبَطِرَ" (¬2). وروى الترمذي وحسَّنه، وأبو يعلى -واللفظ له - عن علي ¬
142 - ومن أعمال اليهود والنصارى: التشديد في الدين مطلقا العزم وغيره، والتكلف فيه.
رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَنتمُ اليَوْمَ خَيْرٌ أَمْ إِذَا غُدِيَ عَلَى أَحَدِكُمْ بِجَفْنَةٍ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ، وَرِيحَ عَلَيْهِ بِأُخْرَى، وَغَدا فِي حُلَّةٍ وَراحَ في أُخْرَى، وَسَتَرْتُمْ بُيُوْتَكُمْ كَما تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ؟ " قالوا: نحن يومئذ خير نتفرَّغ للعبادة. قال: "بَلْ أَنتمُ اليَوْمَ خَيْرٌ" (¬1). 142 - ومن أعمال اليهود والنصارى: التشديد في الدين مطلقًا العزم وغيره، والتكلف فيه. ومنه التبتل والترهيب الآتي ذكره في محله، والتورع المظلم كما وقع لبني إسرائيل حين أمرهم موسى عليه الصلاة والسلام بذبح بقرة في قصة القتيل لبيان قاتله من تكرار قولهم لموسى عليه السلام: ادع لنا ربك يبين لنا، والتعنت في السؤال حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ أَنَّهُم اعْتَرَضُوْا بَقَرَة فَذَبَحُوْها لأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوْا فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ". أخرجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬2). وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وروى الإمام أحمد عن الأغر المزني رضي الله تعالى عنه: أنه ¬
سمع النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ خَيْرَ دِيْنَكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِيْنِكُمْ أَيْسَرُهُ" (¬1). وروى البخاري، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: "الدِّيْنُ يُسْرٌ، وَلَنْ يُغالِبَ أَحَدٌ الدِّيْنَ إِلَّا غَلَبَهُ، سَدِّدُوا وَقارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، واسْتَعِيْنُوا بِالْغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنَ الدّلْجَةِ" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن سهل بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّما هَلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ بِتَشْدِيْدِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَسَتَجِدُوْنَ بَقاياهُمْ في الصَّوامِعِ والدِّياراتِ" (¬3). وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذقني على منكبه لأنظر إلى الحبشة حتى كنت التي مللت وانصرفت عنهم، قالت: وقال يومئذ: "لتعْلَم يَهُوْدُ أَنَّ في دِيننَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيْفِيَّةٍ سَمْحَةٍ" (¬4). ¬
وقال الحسن: دين الله وضع دون الغلو وفوق التقصير. رواه الحكيم التِّرمذي في "نوادره" (¬1). ولا تتدبر دين اليهودية ودين النصرانية إلا وجدته إما غلوًا وإفراطًا، وإما تقصيرًا وتفريطًا، وهما يتوافقان تارة ويتضادان تارة، ودين الإسلام دون ذلك، ومن ثمَّ كانت هذه الأمة أمة وسطًا مقتصدة لتقام بهم الحجة لله -عز وجل - على أهل الغلو وأهل التقصير؛ قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. وروى البيهقي في "الشعب" عن سعيد الجهني، عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "العِلْمُ أَفْضَلُ مِنَ العَمَلِ، وَخَيْرُ الأَعْمالِ أَوْسَطُها، وَدِيْنُ اللهِ بَيْنَ القاصِي والغَالِي، والْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ لا تَنالُها إِلَّا بِاللهِ، وَشَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ" (¬2). قال في "الصحاح": والحقحقة أرفع السير، وأتعبه للظهر. قال في "القاموس": أو اللجاج في السير، أو السير أول الليل، أو أن يلحح في السير حتى تعطب راحلته أو تنقطع، انتهى (¬3). استعيرت في الحديث للغلو في العبادة، وحمل النفس على ما يؤول بها إلى الملال والانقطاع عن العبادة، أو سيق قوله: "شَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ" ¬
143 - ومن أخلاق أهل الكتاب: ترك السحور لمن يريد الصيام.
سياق المثل، وقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك مثلًا آخر فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ هَذَا الدِّيْنَ مَتِيْنٌ، فَأَوْغِلْ فِيْهِ بِرِفْقٍ، وَلا تُبْغِضْ لِنَفْسِكَ عِبادَةَ رَبِّكَ؛ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لا سَفَرًا أَقْطَعَ، وَلا ظَهْرًا أَبْقَى". وفي لفظ: "فَأَوْغِلُوا فِيْهِ بِرِفْقٍ، وَلا تُكَرِّهُوا عِبادَةَ اللهِ إلَى عِبادِهِ؛ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لا يَقْطَعُ سَفَرًا وَلا يَسْتَبْقِي ظهرًا". رواه البيهقي في "الشعب" باللفظ الأول عن ابن عمرو، وباللفظ الثاني عن عائشة رضي الله تعالى عنهم (¬1). ورواه البزار من حديث جابر - رضي الله عنه -، ولفظه: "إِنَّ هَذا الدِّينَ مَتِيْنٌ فَأَوْغِلْ فِيْهِ بِرِفْقٍ؛ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لا أَرْضًا قَطَعَ، وَلا ظَهْرًا أَبْقَى" (¬2). وصدر الحديث عند الإمام أحمد من حديث أنس بنحوه (¬3). 143 - ومن أخلاق أهل الكتاب: ترك السحور لمن يريد الصِّيام. روى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فَضلُ ما بَيْنَ صِيَامِنَا ¬
تنبيه
وَصِيامِ أَهْلِ الكِتابِ أكْلَةُ السَّحَرِ" (¬1). وأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أن السحور من خواص هذه الأمة بقوله فيما رواه النسائي -بإسناد حسن- عن عبد الله بن الحارث، عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتسحر، فقال: "إِنَّها بَرَكَةٌ أَعْطاكُمُ اللهُ إِيَّاها، فَلا تَدَعُوْهُ" (¬2). * تَنْبِيْهٌ: يستحب السحور من التمر، وإلا فمهما تيسر ولو بجُرعة ماء. وروى أبو داود، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: "نِعْمَ سَحُوْرُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ" (¬3). ورواه ابن حبَّان من حديث جابر، ولفظه: "نِعْمَ السَّحُوْرُ التَّمْرُ" (¬4). وهو بفتح السين المهملة: اسم لما يتسحر به، وهو المراد في الحديث. وبضمها: اسم الفعل؛ أي: المصدر. والوجهان محتملان في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "السَّحُوْرُ كلُّهُ بَرَكَةٌ، فَلا تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرعَ أَحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ؛ فَإِنَّ اللهَ -عز وجل- وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِيْنَ". رواه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه (¬5). ¬
144 - ومنها: تأخير الفطر إلى طلوع النجم.
قال الحافظ عبد العظيم المنذري: وإسناده قوي (¬1). 144 - ومنها: تأخير الفطر إلى طلوع النَّجم. والمتظاهرون بهذه العادة اليهوديةِ النصرانيةِ الروافضُ قبحهم الله تعالى. روى الإمام مالك، والشيخان، والترمذي رحمهم الله تعالى عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَزالُ النّاسُ بِخَيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ" (¬2). أخرج ابن ماجه مثله من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وزاد: "فَإِنَّ اليَهُودَ والنَّصارَى (¬3) يُؤَخِّرُونَ" (¬4). وروى أبو داود، وابن خزيمة، وابن حبَّان في "صحيحيهما"، والحاكم وصححه، عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَزالُ الدَّيْنُ ظاهِراً مَا عَجَّلَ النَّاسُ الفِطْرَ لأَنَّ اليَهُودَ والنَّصارَى يُؤَخّرُونَ" (¬5). وروى الطَّبراني في "الكبير" بسند حسن، عن أبي الدرداء رضي ¬
تنبيه
الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَنْ تَزالَ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي ما لَمْ يَنْتَظِرُوا بِفُطُورِهِمْ ما عَجَّلُوا" (¬1). ورواه ابن حبَّان في "صحيحه" من حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما، ولفظه: "لا تَزالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي ما لَمْ تَنتظِرْ بِفِطْرِهَا النُّجُومَ" (¬2). وهو صريح في أن تأخير الفطر إلى طلوع النجم بدعةٌ مخالفة للسنة. قال أنس رضي الله تعالى عنه: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط صلى صلاة المغرب -أي: وهو صائم- حتى يفطر ولو على شربة من ماء. رواه أبو يعلى، وابن خزيمة، وابن حبَّان في "صحيحيهما" (¬3). * تَنبِيْهٌ: يستحب الفطر على الرطب أو التمر. ومن لطائف أخي العلامة شهاب الدِّين أحمد رحمه الله تعالى، ¬
وقوله: [من مجزوء الرجز] فُطُورُ التَّمْرِ سُنَّة ... رَسُوْلُ اللهِ سَنَّه يَنالُ الأَجْرَ شَخْصٌ ... يُحَلِّي مِنْهُ سِنَّه فإن لم يتيسر التمر فعلى شيء حلو؛ قالوا: لأنَّ الصوم يضعف البصر، والإفطار على الحلو يقوي البصر. فإن لم يتيسر فعلى الماء. لكن الذي صوبه النووي -وهو المذهب- أن التمر إن لم يتيسر فعلى الماء للأحاديث الصحيحة في ذلك (¬1). واستحب القاضي حسين من أصحابنا الشافعية: أن يكون فطر العبد على ما يتناول من النهر ونحوه بيده ليكون فطره على حلال لغلبة الشبهات في المآكل (¬2). وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحبُّ أن يفطر على ثلاث تمرات، أو شيء لم تصبه النَّار (¬3). وروى الطبراني عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر إذا كان صائمًا ¬
145 - ومنها: الفطر قبل تحلة الفطر، وهو غروب الشمس.
على اللبن (¬1). وروى ابن خزيمة في "صحيحه" عن سلمان رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطبهم فقال في حديث طويل في فضل رمضان: "مَنْ فَطَّرَ فِيْهِ صَائِماً كَانَ مَغْفِرَةً لِذُنُويِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلَ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ". قالوا: يا رسول الله! ليس كلنا يجد ما يُفْطِر به الصائم؟ قال: "يُعْطِي اللهُ هَذا الثَّوابَ مَنْ فَطَّرَ صائِمًا عَلَى تَمْرَةٍ، أَوْ جُرْعَةِ ماءٍ، أَوْ مَذْقَةِ لَبَنٍ" (¬2). وفي هذا الحديث، والذي قبله إشارة إلى أن الفطر على اللبن سنة - أي: إذا لم يكن تمر - والتحرج عن أكل الألبان في أيام الصوم من عادة النصارى، والسُّنة بخلاف ذلك؛ فافهم! 145 - ومنها: الفطر قبل تحلة الفطر، وهو غروب الشمس. والنصارى يفطرون من صيامهم قبل الغروب، وربما أفطروا عند العصر، وهذا من الكبائر. روى ابن خزيمة، وابن حبَّان في "صحيحيهما" عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "بَيْنَما أَنا ناَئِمٌ أتَانِي رَجُلانِ فأَخَذَا ¬
146 - ومنها: صوم عيد الفطر، والأضحى، وأيام التشريق.
بِضَبُعَيَّ، فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعِراً حَتَّى إِذا كُنْتُ في سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذا بِأَصْوَاتٍ شَدِيْدَةٍ، قُلْتُ: ما هَذِهِ الأصْواتُ؟ قالُوا: هَذَا عواءُ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ انْطَلَقَا بِي فَإِذا أَنا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِيْنَ بِعَراقِيْبِهِمْ مُشَقَّقَةٌ أَشْدَاقُهُمْ تَسِيْلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالا: الَّذِيْنَ يُفْطِرُوْنَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِم" (¬1)؛ أي: قبل وقت الإفطار. 146 - ومنها: صوم عيد الفطر، والأضحى، وأيام التشريق. فإن هذه الأيام إذا وافقت صوم أهل الكتاب لصاموها ولم يبالوا، ولأنها أيام عيد، ومن عادة اليهود أن يصوموا يوم عيدهم كما سيأتي عن السيوطي. وقد جاء النهي عن صوم هذه الأيام، وقد أجمع العلماء على صيام اليومين الأولين، وأما صيام أيام التشريق فالأكثرون على تحريمه، وهو قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وهو الجديد من قولي الشَّافعي، وهو الأصح لما روى أبو داود من طريق مالك عن يزيد بن الهاد، عن أبي مرة مولى أم هانئ: أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، فقرَّب إليها طعامًا، فقال عبد الله: كُلْ إني صائم. فقال عمرو: فهذه الأيام التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلزمنا بإفطارها وينهانا عن صيامها؟ ¬
قال مالك رضي الله تعالى عنه: هي أيام التشريق (¬1). وروى مسلم، وأبو داود، والنسائي عن نبُيشة الهذلي -وهو بالتصغير رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أَيَّامُ التَّشْرِيْقِ أَيَّامُ أَكْلِ وَشُرْبٍ" (¬2). فإن قلت: فقد روى التِّرمذي وحسنه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] وعنده يهودي، فقال: لو أنزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا. قال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيد، في يوم جمعة ويوم عرفة، فسمَّى ابن عباس يوم عرفة عيداً مع أنَّ صومه من السُّنَّة لغير الحاج (¬3). فالجواب أن ظهور ما هو شأن العيد من الفرح والابتهاج والسرور يوم عرفة إنما يتم للحاج، فلذلك كره له صومه، واستحب لغيره صيامه؛ إذ لا يتم له من معنى العيد ما يتم للحاج. ومن ثمَّ حمل بعض العلماء ما رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ¬
"يَوْمُ عَرَفَةَ وَيوْمُ النّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيْقِ عِيْدُ أَهْلِ الإسْلامِ، وَهِيَ أّيَّامُ أكْلٍ وَشُرْبٍ" (¬1) على أنه لعله قال في حجة الوداع، وأنه مخصوص بالحاج حيث كان الأفضل في حقه الفطر يوم عرفة ليتقوى بذلك على الوقوف والدُّعاء. قال الشيخ زين الدين العراقي: ويدل لهذا التأويل أن النسائي بوَّب على هذا الحديث في كتاب "الحج": النهي عن صوم يوم عرفة؛ أشار إلى أن النهي مخصوص بالحاج، انتهى. وفي الحديث وجه آخر وهو أن قوله: "وهي أيام أكل وشرب" يعود على أيام التشريق فقط، أو عليها مع يوم النحر دون يوم عرفة، أو يعود على مجموع السابق، لا على جميعه. نعم، يبقى في الحديث تسمية يوم عرفة عيداً. والحاصل أن أعياد أهل الإسلام على قسمين: - عيد لسائر الأمة. - وعيد لجماعة مخصوصين من الأمة في مكان مخصوص. فالأول: الفطر والنحر، فنهيت سائر الأمة عن صيام هذا العيد لظهوره في عموم هذه الأمة. والثاني: يوم عرفة، فندب صيامه لما فيه من الفضل العظيم إلا للحاج بعرفة، فنهي عن صومه لظهوره في حقه دون من لم يكن بصفته ¬
147 - ومنها: تخصيص يوم من الأسبوع بنوع من التعظيم لم يرد به الشرع.
من الأمة، ولا في موقفه. ثمَّ حمل النهي عن صوم العيد الأول على التحريم لتمحضه للعيدية، والنهي عن صوم الثاني على الكراهة لعدم تمحضه لذلك. كما حمل النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم على الكراهية لأنه عيد من حيث الاجتماع للصلاة، والتنظف، والتطيب والزينة له، ولم يحمل على التحريم لعدم تمحضه للعيدية من حيث زيادةُ التكليف فيه بتحريم البيع والمعاملة فيه بعد الأذان، والسفر فيه بعد الفجر، أو بعد الزوال على الخلاف فيه، ومن حيث إن الاجتماع فيه لا يطلب من سائر الأمة، بل ممن اتَّصف بصفة توجب عليه الجمعة، أو تصح منه بها. 147 - ومنها: تخصيص يوم من الأسبوع بنوع من التعظيم لم يَرِدْ به الشرع. ومن ثمَّ كره إفراد ليلة الجمعة بقيام، ويومها بصيام، وكذلك يوم السبت ويوم الأحد. روى الأئمة الستة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَصُوْمُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُوْمَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُوْمَ بَعْدَهُ" (¬1). ¬
وروى مسلم من حديثه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَخصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيالِي، وَلا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيامٍ مِنْ بَيْنِ الأيَّامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ في صَوْمٍ يَصُوْمُهُ أَحَدُكُمْ" (¬1). وروى البخاري، وأبو داود، والنسائي عن جويرية بنت الحارث رضي الله تعالى عنها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: "أَصُمْتِ أَمْسِ؟ ". قالت: لا. قال: "أَتُرِيْدِيْنَ أَنْ تَصُوْمِي غَدًا؟ ". قالت: لا. قال: "فأَفْطِرِي" (¬2). وروى الإمام أحمد عن عبيد الأعرج قال: حدَّثتني جدتي رضي الله عنها: أنها دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يتغذى وذلك يوم السبت، فقال لها: "تَعالَى فَكُلِي". فقالت: إني صائمة. فقال: "أَصُمْتِ أَمْسِ؟ ". قالت: لا. ¬
قال: "كُلِي؛ فَإنَّ صِيامَ السَّبْتِ لا لَكِ وَلا عَلَيْكِ" (¬1). وروى أصحاب السنن الأربعة عن عبد الله بن بُسْر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِيْمَا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ؛ فَإنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا لِحَاءَ شَجَرَةٍ أَوْ عُوْدَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضَغْهُ". حسنه الترمذي، وصححه ابن السَّكَن، والحاكم (¬2). والأظهر من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه كراهية إفراد يوم الجمعة أو يوم السبت بالصوم (¬3). وذهب إليه الإمام أحمد، وأبو يوسف، والقاضي أبو بكر بن العربي من المالكية في يوم الجمعة، وكذلك الأحد بالقياس عليهما ما لم يوافق عادة له أو نذرًا (¬4). قال الترمذي: ومعنى الكراهية في هذا -أي: في صوم يوم السبت- ¬
أن يخص الرجل يوم السبت بصيام؛ لأنَّ اليهود يعظِّمون يوم السبت، انتهى (¬1). أي: والمراد: وتخصيصه بالصيام تعظيمًا له، فمن فعل ذلك فقد تشبه بهم. وكذلك من خص يوم الأحد بصيام فقد أشبه النصارى في تعظيمه. وقد نص ابن يونس على إلحاق الأحد بالسبت، وكراهية إفراده بالصوم. وذهب جماعة منهم مالك إلى عدم كراهية إفراد الجمعة بالصوم، وعدم كراهية صوم السبت وكذلك الأحد ولو مفردًا، وقالوا: إن النهي عن صومهما منسوخ (¬2) بما رواه النسائيُّ: أن ابن عباس بعث إلى عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهم يسألهما: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبُّ أن يصوم من الأيام؟ فقالتا: ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان أكثر صومه يوم السبت والأحد، ويقول: "هُما عِيدانِ لأَهْلِ الْكِتابِ فَنَحْنُ نُحِبُّ أَنْ نُخالِفَهُمْ" (¬3). ولنا أن نقول: إن سلمنا صحة هذا الحديث، فإنَّه دليل على نسخ كراهية صوم السبت لا على نسخ كراهية إفراده بالصوم؛ لأنَّ ظاهر ¬
الحديث أنَّه كان يصوم الأحد معه. ولقائل أن يقول: إن مخالفة أهل الكتاب حاصلة بمجرد الصوم في اليوم الذي هو عيد لهم. وذكر البيهقي في كتاب "خصائص يوم الجمعة": أن وجه الحكمة في كراهية تخصيص يوم الجمعة بالصوم مخالفة اليهود فإنهم يصومون يوم عيدهم، أو يفردونه بالصوم، فنهي عن التشبه بهم كما خولفوا في يوم عاشوراء بصيام يوم قبله أو بعده، انتهى (¬1). فعلى هذا لا يحصل مخالفة اليهود بمجرد صيام السبت إلا لو ضم إليه يوم آخر. ثمَّ اختلف العلماء في وجه كراهية إفراد الجمعة بالصوم: فقيل: لئلا يلتزم الناس من تعظيمه ما التزمت اليهود في سبتهم من ترك الأعمال كلها؛ أي: في ليلة السبت ويومه. وهذه العلة صالحة لتعليل كل من النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام، ويومها بصيام، فربما لو شرع هذا لظن كثير من الناس أن هذه الليلة وهذا اليوم لا يتعاطى فيها شيء من الأعمال والأشغال سوى القيام والصيام، فيدخل عليهم التَّشديد في الدين، وما جعل عليهم في هذا الدين من حرج، وإنما هو يسر. وهذا من أسلم التعاليل من النقض والمعارضة. ¬
وقيل -واختاره النوويّ رحمه الله تعالى-: إن يوم الجمعة شرع فيه عبادات كثيرة من الذكر والدعاء، والقراءة، والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستحب فطره ليكون أعون على قضاء هذه الوظائف للنشاط من غير ضعف ولا ملل؛ نظير الحاج بعرفة كان الأولى له الفطر لهذه العلة. قال النوويّ رحمه الله تعالى: فإن قيل: لو كان كذلك لم تزل الكراهة بصوم يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى المذكور. فالجواب: أنَّه يحصل له بفضيلة اليوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه (¬1). قال العراقي: والسُّؤال الذي سأله قوي، والجواب عنه ضعيف (¬2). قلت: ومقتضى الحكمة التي ذكرها النوويّ أن من كان يعرف من نفسه أن لا يقوم بوظائف يوم الجمعة ولا يهتم به لا يكره في حقه الصوم لانتفاء المعنى. ثمَّ إن سلمت هذه الحكمة فإنما تصلح لتعليل كراهية صوم يوم الجمعة مطلقًا كما هو مذهب علي، والنخعي، الشعبي، ومجاهد، والزهري، وحكاه ابن عبد البر عن أحمد، وإسحاق. وروى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة تعليل الكراهية بما ذكر عن علي رضي الله تعالى عنه؛ قال: من كان متطوعًا من الشهر أيامًا يصومها ¬
فليكن من صومه يوم الخميس، ولا تتعهدوا يوم الجمعة؛ فإنَّه يوم عيد وطعام وشراب، فيجتمع له يومان صالحان: يوم صامه، ويوم نسكه مع المسلمين (¬1). وفي لفظ لابن أبي شيبة: من كان منكم متطوعًا من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة؛ فإنَّه يوم طعام وشراب وذِكْر (¬2). وقد اشتمل كلام علي رضي الله تعالى عنه على علتين لكراهية صوم يوم الجمعة: إحداهما: التَّقوِّي بالطعام والشراب على الذكر. والثانية: أنَّه يوم عيد. ويؤيد ذلك ما رواه النسائيُّ عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا صِيامَ يَومَ عِيْدٍ" (¬3). وهذه العلة الأخيرة اختار الحافظ أبو الفضل بن حجر التعليل بها لكراهية إفراد يوم الجمعة بالصيام، وأيدَّه بما رواه الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَومُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيْدٍ؛ فَلا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيْدِكُمْ يَوْمَ صَوْمِكُمْ إِلَّا أَنْ ¬
تَصُوْمُوْا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ" (¬1). فإن قلت: الصوم قبل يوم الجمعة أو بعدها لا يخرجه عن كونه عيدًا؟ فالجواب: إن صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - نص على أن كراهية صومه -وإن كان عيدًا- يزول بصيامٍ قبله أو بعده. فإن قلت: يلزم على هذا أن لا يمنع من صيام يوم النحر من صام قبله بيوم، ولا من صام آخر أيام التشريق من صام بعده يومًا، وهذا لا قائل به؟ فالجواب: منع هذا. والفرق بين ما تمحض للعيدية ليوم الفطر ويوم النحر والتشريق، فمنع من صامه مطلقًا، وما فيه شائبة العيدية وليس بعيد محض كيوم عرفة ويوم الجمعة فكره صوم يوم عرفة في مكان [مخصوص، لقوم] (¬2) مخصوصين، وكره صوم يوم الجمعة في حالة مخصوصة، ومن ثمَّ لو نذر صوم يوم عرفة وإن كان حاجًا في عرفة، أو صوم يوم الجمعة انعقد النذر، وتعين الصَّوم بخلاف ما لو نذر صيام يوم الفطر، أو يوم النَّحر، أو أيام التَّشريق إلا ما روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: أنَّه ينعقد ¬
148 - ومن أعمال بني إسرائيل: صيام يوم عاشوراء مفردا عن يوم قبله أو بعده.
النَّذر، ولا يصوم هذه الأيام، بل يقضي (¬1). 148 - ومن أعمال بني إسرائيل: صيام يوم عاشوراء مفردًا عن يوم قبله أو بعده. والذي تحرر في صوم عاشوراء: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصومه بمكة، وكانت قريش تصومه، ثمَّ لما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يصومونه ويتخذونه عيدًا، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثمَّ أمر بمخالفتهم، فكان يصوم يوم عاشوراء ويأمر بصيامه، ولا يتخذه عيدًا، ثمَّ أمر بأن يصام قبله يومًا أو بعده لتتحقق مخالفتنا لأهل الكتاب. وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صام يوم عاشوراء، فقالوا: يا رسول الله! يوم تعظمه اليهود والنصارى؟ فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِذا كَانَ العامُ الْمُقْبِلُ صُمْنا التَّاسِعَ". فلم يجئ عاشوراء حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ومذهب الشافعي، وأحمد رضي الله تعالى عنهما: أنَّه يستحب صوم التاسع والعاشر جميعًا، فإن لم يتيسر صوم التاسع فالحادي عشر، ¬
فائدة في فضل عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم
وإفراد عاشوراء بالصوم خلاف الأولى (¬1). * فائِدَةٌ في فضل عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم: روى البزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عاشُوْراءُ عِيْدُ نَبِيٍّ كانَ قَبْلَكُمْ؛ فَصُوْمُوْا أَنْتُمْ" (¬2). وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فُلِقَ البَحْرُ لِبَنِي إِسْرائِيْلَ يَوْمَ عاشُوْراءَ" (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" بسند ضعيف، عن عثمان بن مطر رضي الله تعالى عنه -وكان له صحبة - عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال في حديث: "وَفِي رَجَبٍ حَمَلَ اللهُ نوُحًا في السَّفِيْنَةِ فَصامَ رَجَبَ، وَأَمَرَ مَنْ مَعَهُ أَنْ يَصُوْمُوا، فَجَرَتْ بِهِمُ السَّفِيْنةُ سَبْعَةَ أَشْهُر، آخِرُ ذَلِكَ يَومُ عاشُوراءَ أُهْبِطَ عَلَى الْجُودِيِّ، فَصَامَ نُوْحٌ وَمَنْ مَعَهُ والْوَحْشُ شُكْرًا لله -عز وجل -، وَفِي يَوْمِ عاشُوْراءَ فَلَقَ اللهُ البَحْرَ لِبَنِي إِسْرائِيْلَ، وَفِي يَوْمِ عاشُوْراءَ تابَ اللهُ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَعَلَى أَهْلِ مَدِيْنَةِ يُوْنسُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَفِيْهِ وُلِدَ إِبْراهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلامُ" (¬4). ¬
وفي قوله: "فجرت بهم السفينة سبعة أشهر" إطلاق اسم الشهر على بعضه حيث جمع كما في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وهي: شوال، وذو القعدة، وعشرة أيام من ذي الحجة. وقال قتادة: ركب نوح عليه السلام في السفينة في رجب يوم عشر بقين، ونزل من السفينة يوم عاشوراء (¬1). وقال عكرمة: هو يوم تاب الله فيه على آدم عليه السلام (¬2)؛ يعني: يوم عاشوراء. رواهما عبد الرزاق. وكلام قتادة لا يوافق الحديث، فكأن "ستة" في الحديث تصحف على بعض الرواة "سبعة"، ولا يوافق ما هو المشهور من أن نوحًا ركب في السفينة يوم عاشر رجب، واستوت على الجودي يوم عاشوراء، وأن ركوبه بمن معه كان ستة أشهر لا تزيد ولا تنقص (¬3). وروى مسلم عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم عاشوراء فقال: "يُكَفِّرُ ذُنُوبَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ" (¬4). وروى هو وأصحاب السنن عنه أيضًا قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم عرفة فقال: "يُكَفِّرُ ذُنُوبَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ والبَاقِيَةِ" (¬5). ¬
قال العلماء: تعظيم يوم عاشوراء مما كان محفوظًا مشهورًا في أهل الكتاب، وأما تعظيم يوم عرفة فإنما اشتهر تعظيمه في هذه الأمة، فناسب أن يكون مضاعفًا ثواب صومه على صوم يوم عاشوراء. وقد روي في "الأثر": أن عشر ذي الحجة هو العشر الذي أصله أهل الكتاب. ونظير هذا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الوُضُوءُ قَبْلَ الطَعامِ حَسَنَةٌ، وَبَعْدَهُ حَسَنَاتٌ" (¬1). فإن الحكمة في ذلك أن الوضوء قبل الطعام من شريعة موسى عليه الصلاة والسلام، وبعده من شريعة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كما يؤخذ من حديث سلمان المتقدم، ونبه عليه الحافظ السيوطي (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" بسند ضعيف، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عاشُوْراءَ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ سَنَتَهُ كُلَّهَا" (¬3). وأخرجه -بسند ضعيف أيضًا- عن ابن مسعود رضي الله تعالى ¬
عنه، ولفظه: "مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيالِهِ يَوْمَ عاشُوْراءَ لَمْ يَزَلْ في سَعَةٍ سائِرَ سَنَتِهِ" (¬1). وأخرجه البيهقي في "فضل الشهور والأيام" من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيالِهِ وَأَهْلِهِ يَوْمَ عاشُوراءَ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ سائِرَ سَنَتِهِ" (¬2). قال البيهقي بعد أن رواه من طرق، وعن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم: هذه الأسانيد -وإن كانت ضعيفة- فهي إذا ضم بعضها إلى بعض أحدث قوة، انتهى (¬3). قال العراقي في "أماليه" لحديث أبي هريرة: صحح بعضَ طرقه ابنُ ناصر؛ قال: وله طرق عن جابر رضي الله تعالى عنه على شرط مسلم، أخرج بعضها ابن عبد البر في "الاستذكار" (¬4). وروى هو والدارقطني بسند جيد، عن عمر رضي الله تعالى عنه موقوفًا، والبيهقيُّ في "الشُّعب" عن محمَّد بن المنتشر قال: كان يقال ... فذكره. انتهى (¬5). ¬
149 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: ترك الحج والعمرة إلى بيت الله الحرام مع الاستطاعة.
وأما اتخاذ يوم عاشوراء مأتمًا للحسين فإنَّه بدعة ابتدعها الروافض؛ فيجب الحذر من التشبه بهم فيها. وأما الاكتحال يوم عاشوراء ففيه حديث ضعيف، ورواه البيهقي عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اكْتَحَلَ بِالإِثْمِدِ يَوْمَ عاشُوراءَ لَمْ يَرْمَدْ أَبَدًا" (¬1). 149 - ومن أخلاق اليهود والنَّصارى: ترك الحج والعمرة إلى بيت الله الحرام مع الاستطاعة. فإن انضم إلى ذلك إنكار وجوب الحج كان كفرًا. ولا يكفر بإنكار وجوب العمرة لاختلاف العلماء فيها. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]. روى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن الضَّحاك رحمه الله تعالى قال: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل الأديان، مشركي العرب، والنصارى، واليهود، والمجوس، والصابئين -أي: مع المسلمين- فخطبهم، فقال: "إِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ كتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا"، فآمنت به أهل ملة واحدة وهم المسلمون. ¬
وفي رواية: فلم يقبله إلا المسلمون، وكفرت به خمس ملل؛ قالوا: لا نؤمن به، ولا نستقبله، ولا نحجه، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] (¬1). وروى هؤلاء والبيهقيُّ في "السنن" عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: لما نزلت: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} [آل عمران: 85] الآية قالت اليهود: نحن المسلمون، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَجَّ البَيْتِ". فقالوا: لم يكتب علينا، وأَبَوا أن يحجوا، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] (¬2). وقال سعيد بن المسيّب رحمه الله تعالى: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الحج إلى مكة غير واجب. نقله الثعلبي، وغيره (¬3). وروى الترمذي وضعفه، وابن عديّ، وغيرهما عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَلَكَ زَادًا وَراحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلا عَلَيْهِ أَنْ لا يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَو نَصْرانِيًّا؛ وَذَلِكَ أَنَّ ¬
الله تَعَالَى يقولُ في كِتابِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] الآية" (¬1). وروى الإمام أحمد في كتاب "الإيمان"، وسعيد بن منصور، وأبو يعلى بإسناد قريب، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلامِ لَمْ يَمْنَعْهُ مَرَضٌ حابِسٌ، أُوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أَوْ حاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حالٍ شَاءَ، يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرانِيًّا" (¬2). وروى الإمام أحمد -قال ابن المنذري: وإسناده حسن، واللفظ له- وسعيد بن منصور -وإسناده صحيح كما قال السيوطي-[عن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -: أنَّه] قال: "مَنْ كانَ ذَا يَسَارٍ فَماتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شاءَ يَهُودِيًّا، وإِنْ شَاءَ نَصْرانِيًّا" (¬3). قال العلماء: هذا الحديث مخرج على التحذير والتخويف من ترك الحج مع القدرة. ¬
قلت: ويؤخذ من هذه الأحاديث أنَّه يُخشى على من ترك الحج مع الاستطاعة من سوء الخاتمة، والحيلولة بين العبد وبين العصمة من الشيطان عند الموت؛ إذ روي أن العبد إذا كان عند الموت قعد عنده شيطانان؛ الواحد عن يمينه، والآخر عن شماله، فالذي عن يمينه على صفة أبيه يقول: يا بني! إني كنت عليك شفيقًا ولك محبًا، ولكن مت على دين النصارى وهو خير الأديان، والذي عن شماله على صفة أمه تقول: يا بني! كان بطني لك وعاء، وثدي لك سقاء، وفخذي لك وطاء، ولكن مت على دين اليهود وهو خير الأديان، فعند ذلك يزيغ الله من يريد زيغه، وهو معنى قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] الآية. نقله القرطبي في "التذكرة". والأخبار المتقدمة دليل على وجوب الحجِّ على الفور مع الاستطاعة، وممن قال به الإمامان مالك، وأحمد، وأبو يوسف، والمزني (¬1). وقال الإمام الشافعي: إنه واجب على التراخي لأنَّ الحج فُرِض في سنة خمس أو ست، وهو الراجح، ولم يحج النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى كانت سنة عشر، فلو كان الوجوب على الفور لم يؤخره. ثمَّ أَظْهَرُ الوجهين من مذهب الشافعي - رضي الله عنه -: أن من أخر الحج بعد الاستطاعة حتى مات، مات عاصيًا لأنا إنما جوَّزنا له التأخير دون التفويت. ¬
150 - ومن أعمال اليهود: رفع اليدين عند الخروج من المسجد الحرام وغيره من المعابد، والوقوف للدعاء.
قال أصحابنا: ومن استطاع وخشي الغصب، أو هلاك ماله، حرم عليه تأخير الحج؛ لأنَّ الواجب الموسع يجوز تأخيره بشرط أن يغلب على الظن السلامة إلى وقت فعله (¬1). 150 - ومن أعمال اليهود: رفع اليدين عند الخروج من المسجد الحرام وغيره من المعابد، والوقوف للدُّعاء. روى الأزرقي في "تاريخ مكة" عن عثمان بن الأسود قال: كنت مع مجاهد فخرجنا من باب المسجد، فاستقبلت الكعبة، فرفعت يدي، فقال: لا تفعل؛ إن هذا من فعل اليهود (¬2). وروى عبد الرزاق عن ابن جريج رحمه الله تعالى قال: قلت لعطاء: هل بَلَغك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو بعض أصحابه كان يستقبل القبلة حين يخرج ويدعو؟ قال: لا. ثمَّ أخبرني عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: أنَّه قال لبعض من يستقبل البيت كذلك يدعو إذا خرج عند خروجه: لمَ تصنعون؟ هذا صنع اليهود في كنائسهم؛ ادعوا في البيت ما بدا لكم، ثمَّ اخرجوا (¬3). ¬
تنبيه
* تَنْبِيْهٌ: في مسائل يتوهم أنها شبيهة بما تقدم، وليس كذلك: إحداها: رفع اليدين في الدعاء من حيث هو سنة، وهو من آداب الدعاء ولو عند دخول المسجد، وعند الخروج منه لا سيما بالمأثور، لكن لا يستحب له الوقوف، ورفع اليدين، واستقبال القبلة؛ لأنَّ هذه الهيئة هي التي من صنع اليهود. وروى أبو داود بإسناد جيد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان إذا دخل المسجد قال: "أَعُوْذُ بِاللهِ العَظِيْمِ، وَبِوَجْهِهِ الكَرِيْمِ، وَبِسُلْطانِهِ القَدِيْمِ، مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيْمِ". قال: "فَإِذا قالَ ذَلِكَ قالَ الشَّيْطانُ: حُفِظَ مِنِّي سائِرَ اليَوْمِ" (¬1). وروى أبو داود، والنسائي، وابن ماجه بأسانيد صحيحة، عن أبي حُميد، أو أبي أُسيد رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ إنِّي أَسْألُكَ مِنْ فَضْلِكَ" (¬2). ¬
والحديث في "مسلم" دون ذكر السلام (¬1). زاد ابن السني في روايته: "وإذا خَرَجَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَعِذْنِي مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيْمِ" (¬2). وروى ابن السني عن عبد الله بن الحسين، عن أبيه، عن جدته (¬3) قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل المسجد حمد الله، وسمَّى، وقال: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وافْتَحْ أَبْوابَ رَحْمَتِكَ" (¬4). وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذا أَرادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ تَداعَتْ جُنُوْدُ إِبْلِيْسَ، وَأَجْلَبَتْ واجْتَمَعَتْ كَما يَجْتَمعُ النَّحْلُ عَلَى يَعْسُوْبِها، فَإِذا قَامَ أَحَدُكُمْ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنْ إِبْلِيْسَ وَجُنُوْدِهِ، فَإِنَّهُ إِذا قَالَهَا لَمْ تَضُرَّهُ" (¬5). وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل المسجد قال: "بِسْمِ اللهِ، اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وإذا خَرَجَ قالَ: بَسْمِ ¬
اللهِ، اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمدٍ" (¬1). الثانية: قال علماؤنا الشافعية، وغيرهم: يستحب للعبد حين يرى الكعبة شرفها الله تعالى -قال القاضي زكريا، وغيره: أو يصل إلى محلّ رؤيتها وإن لم يرها لِعمى، أو ظلمة، أو نحوهما- أن يرفع يديه ويدعو بالدعاء المأثور، وبما أحب. قالوا: والداخل إلى مكة من الثنية العليا يراه من رأس الجبل فيقف ويدعو. وكان الإمام مالك رضي الله تعالى عنه لا يرى ذلك (¬2). وروى الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج مرسلًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: "اللهُمَّ زِدْ هَذَا البَيْتَ تَشْرِيْفًا وَتَكْرِيْمًا، وَتَعْظِيْمًا وَمَهابَةً، وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ واعْتَمَرَهُ تَشْرِيْفًا وَتَكْرِيْمًا، وَتَعْظِيْمًا وَمَهابَةً وَبِرًّا" (¬3). قال الشافعي: ليس في رفع اليدين عند رؤية البيت شيء؛ فلا أكرهه ولا أستحبه. قال البيهقي: وكأنه لم يعتمد على الحديث لانقطاعه لأنه معضل ¬
بين ابن جريج والنبي - صلى الله عليه وسلم -. وروي هذا الحديث من طرق أخرى كلها واهية، وأكثرها منقطع (¬1). وفي "سنن أبي داود" عن المهاجر المكي قال: سئل جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما عن الرجل يرى البيت فيرفع يديه، فقال: ما كنت أرى أحدًا يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يكن يفعله (¬2). الثالثة: الوقوف عند رأس الردم، وهو المعروف بالمدعى من صنع إبراهيم عليه السلام. روى الأئمة الحفاظ: عبد الرزاق، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وآخرون عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أول ما اتخذ الناس المناطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة، ثمَّ جاء إبراهيم بها وبابنها إسماعيل عليهم السلام وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندها جرابًا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثمَّ قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل عليهم السلام، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ ¬
قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا. ثمَّ رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثَّنِيَّة حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثمَّ دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} إلى قوله: {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] (¬1). قلت: وهذا الحديث كافٍ للاستدلال على استحباب رفع اليدين عند الدعاء بالمدعى، وبغيره لأنه من فعل إبراهيم عليه السلام، ونحن مأمورون باتباع ملته (¬2). الرابعة: خلع النعلين عند باب المسجد، وعند الدخول إلى الحرم لا بأس به، وبالنية الصالحة فيكون مستحبًا، وهو متعين إذا كان فيهما قَذَرٌ أو نجس -وإن كان من فعل بني إسرائيل- لأنه من فعل الأنبياء عليهم السلام. قال الله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12]. أمر بذلك ليفعله أدبًا، وتواضعًا، وتبركًا بإمساس بشرة قدميه الوادي المقدس كما قيل: [من الطويل] ¬
وَنَمْشِي حُفاةً في ثَراها تَأَدُّبًا ... نَرَى أَنَّنا نَمْشِي بِوادٍ مُقَدَّسِ وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: كانت الأنبياء عليهم السلام إذا أتوا عَلَم الحرم نزعوا نعالهم (¬1). وروى هو والأزرقي في "تاريخ مكة" عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - قال: إن كانت الأمة من بني إسرائيل لتقدم مكة، فإذا بلغت ذا طوى خلعت نعالها تعظيمًا للحرم (¬2). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن مجاهد قال: كان يحج من بني إسرائيل مئة ألف، فإذا بلغوا أنصاب الحرم خلعوا نعالهم، ثمَّ دخلوا الحرم حفاة (¬3). وروى الأزرقي، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: حج الحواريون فلما دخلوا الحرم مشوا تعظيمًا للحرم (¬4). ¬
151 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: ترك التضحية.
151 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: ترك التضحية. فإن الله تعالى برأهم من إبراهيم عليه السلام، ومن الحنيفية، ومن ملته وحنيفيته الحج والأضحية. قال الله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67]. وأول من ضحَّى إبراهيم عليه السلام. روى الحاكم عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله! ما هذه الأضاحي؟ قال: "سُنَّةُ أَبِيْكُمْ إِبْراهِيْمَ". قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: "بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ". قالوا: فالصوف؟ قال: "بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ الصُّوفِ حَسَنَةٌ" (¬1). 152 - ومنها: التحرج عن النحر. وشريعتنا واردة بالنحر والذبح جميعًا. قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]. ¬
153 - ومن أعمال النصارى: الذبح بالظفر.
والمستحب في الإبل، وكل ما طال عنقه النحر في اللَّبَّة: وهي النقرة أسفل العنق. وفي غير ذلك الذبح: وهو قطع الحلق أعلى العنق. وروى ابن أبي حاتم، وابن المنذر عن مجاهد، وعكرمة رحمهما الله تعالى قالا: كان لبني إسرائيل الذبح، وأنتم لكم النحر، ثمَّ قرأ: {فَذَبَحُوهَا} [البقرة: 71]، {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر: 2] (¬1). 153 - ومن أعمال النصارى: الذبح بالظفر. روى الإمام أحمد، والأئمة الستة عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "ما أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلُوْهُ لَيْسَ بِالسِّنِّ والظُّفُرِ، وَسأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ؛ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ" (¬2). والحبشة كان دينهم النصرانية. وقال النوويّ في "شرح مسلم": معناه أنهم -يعني: الحبشة- كفار، وقد نهيتم عن التشبه بالكفار، وهذا شعار لهم (¬3). ¬
154 - ومنها: تقذر الطعام.
154 - ومنها: تقذُّر الطعام. وهو مكروه، بل ينبغي لمن لم يعجبه الطعام أن يتركه، ولا يتقذر منه، ولا يعيبه. وفي الحديث: مَا عَابَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا قَطُّ؛ إِنِ اشْتَهاهُ أَكَلَهُ، وإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ (¬1). روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن قبيصة ابن هُلْب، عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسأله رجل فقال: إن من الطعام طعامًا أتحرج منه؟ فقال: "لا يَتَحَلَّجَنَّ في صَدْرِكَ شَيْءٌ ضَارَعْتَ فِيْهِ النَّصْرانِيَّةَ" (¬2). وقوله: "لا يتحلجن" -بالحاء المهملة قبل اللام، والجيم بعدها، ونون التوكيد- قال في "القاموس": أي: لا يدخلنَّ عليك منه شيء؛ فإنَّه نظيف (¬3). وروي بالخاء المعجمة، ومعناه: لا يتحركنَّ في قلبك شيء من الريبة والشك (¬4). وقوله: "ضارعت فيه النصرانية"؛ أي: شابهت به أخلاق النصارى. ¬
155 - ومن أخلاق اليهود: التحرج عن أكل لحوم الإبل وألبانها، والعروق، والشحوم.
والجملة استئنافية، أو صفة لشيء. 155 - ومن أخلاق اليهود: التحرج عن أكل لحوم الإبل وألبانها، والعروق، والشحوم. وقد سبق عن الشعبي: أن الروافض يشاركون اليهود في الامتناع عن أكل لحوم الإبل وألبانها. قال الله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [آل عمران: 93، 94] روى البخاري في "تاريخه"، والترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن اليهود قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه. قال: "كَانَ يَسْكُنُ البَدْوَ، فَاشْتَكَى عِرْقَ النِّسَا، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلائِمُهُ إِلَّا لُحُوْمَ الإِبِلِ وَألبَانَهَا، فَلِذَلِكَ حَرَّمَها". قالوا: صدقت (¬1). وروى المفسرون، والحاكم، والبيهقيُّ عنه أنَّه قال في قوله تعالى: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]؛ قال: العرق أخذه عرق النساء، وكان يبيت له زقاء -يعني: به صياح- فجعل لله عليه إن ¬
شفاه الله أن لا يأكل لحما فيه عروق، فحرمته اليهود. وفي رواية عنه: حرم العروق، ولحوم الإبل (¬1). وروى ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أنَّه كان يقول: الذي حرم إسرائيل على نفسه: زيادتا الكبد، والكليتان إلا ما كان على الظهر؛ فإن ذلك كان يقرب للقربان، فتأكله النار (¬2). ويجمع بين هذه الروايات بأن كل هذه الأمور حرمها إسرائيل عليه السلام على نفسه، فحدث ابن عباس بكل منها مرة، وجمع في مرة أخرى. وروى عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة قال: لولا هذه الآية: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] لتتبع المسلمون من العروق ما تتبع منه اليهود (¬3). وذكر الثعلبي عن الكلبي في قوله: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] الآية، قال: لم يحرمه الله عليهم في التوراة، وإنما حرم عليهم بعد التوراة بظلمهم وكفرهم بآيات الله، وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبًا عظيمًا حرم الله تعالى عليهم طعامًا طيبًا، أو صَبَّ ¬
عليهم رِجْزًا، وهو الموت، وذلك قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]. وقال الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] (¬1). قال ابن جريج: كل شيء لم تفرج قوائمه من البهائم، وما انفرجت قوائمه أكلوه، ولا يأكلون البعير، ولا البط، ولا الوز، ولا حمار الوحش. رواه أبو الشيخ (¬2). وهو بمعناه مروي عن ابن عباس، وقتادة، ومجاهد (¬3). لكن قال سعيد بن جبير: إن الديك مما حرم عليهم؛ أي: دون الدجاج الإناث. رواه أبو الشيخ أيضًا (¬4). وقال تبارك وتعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)} [الأنعام: 146]. وما حمل الظهر: ما علق به من الشحم. والحوايا: المباعر والمرابض التي تكون فيها الأمعاء، وما اختلط ¬
156 - ومن أعمال النصارى: أكل لحم الخنزير، والميتة، والدم المسفوح.
بعظم: الإلية، وشحم القوائم، والجنب، والرأس، والعين، والأذن، وما عداها؛ فهذه المستثنيات حلال لهم من الثرب، وشحم الكلية، وكل شيء كان كذلك فهو حرام عليهم. وإنما حرمت عليهم هذه الطيبات عقوبة لهم بسبب بغيهم، ثمَّ لم يرجعوا عن البغي فباعوا ما حرم عليهم، وكلوا ثمنه كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُوْمُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا ثَمَنَها". رواه الشيخان (¬1). 156 - ومن أعمال النصارى: أكل لحم الخنزير، والميتة، والدم المسفوح. ولا يجوز في شريعتنا شيء من ذلك إلا في حالة الاضطرار. وقد سبق أن النصارى يأكلون ما ذبح بالظفر، وهو ميتة. وروى ابن سعد في "الطبقات" عن الأزرق بن قيس قال: قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- أسقف نجران والعاقب، فعرض عليهما الإِسلام، فقال: إنا كنا مسلمين قبلك. قال: "كَذَبْتُما؛ إِنَّه مَنَعَكُمَا مِنْ الإسْلامِ ثَلاثٌ: قَوْلُكُما: اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا، وَأَكْلُكُمَا لَحْمَ الْخِنْزِيْرِ، وَسُجُودُكُما لِلصَّنَمِ" (¬2). ¬
وروى الحاكم وصححه، وأبو نعيم في "الدلائل" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- العاقب والسيد، فدعاهما إلى الإِسلام، فقالا: أسلمنا يا محمَّد. قال: "كَذَبْتُمَا، إِنْ شِئْتُمَا أَخْبَرْتُكُمَا ما يَمْنَعُكُمَا مِنَ الإِسْلامِ". قالا: فهات. قال: "حُبُّ الطِّيْبِ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيْرِ" (¬1). قلت: روى أبو نعيم في "الحلية" عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: أُتي برجل من أفضل أهل زمانه إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحوم الخنازير، فلما أُتي به استعظم الناس مكانه، وهالهم أمره، فقال له صاحب شرطة الملك: ائتني بِجَدْي، فذبحه مما يحل لك أكله، فأعطنيه؛ فإن الملك إذا دعا بلحم الخنزير أتيتك به، فأتى صاحب الشرطة باللحم الذي كان أعطاه لحم الجَدْي، فأمره الملك أن يأكل منه، فأبى، فجعل صاحب الشرطة يغمز إليه، ويأمره بأكله، ويريه أنَّه اللحم الذي دفعه إليه، فأبى أن يأكله، فأمر الملك صاحب الشرطة أن يقتله، فلما ذهب به قال له: ما يمنعك أن تأكل وهو اللحم الذي دفعت إلي؟ أظننت أني أتيتك بغيره؟ قال: قد علمت أنَّه هو، ولكن خفت أن يقتاس الناس به، فكلما ¬
أريد أحد على أكل لحم الخنزير قال: قد أكله فلان، فيقتاس الناس بي، فأكون فتنة لهم. قال: فقتل (¬1). قلت: رحم الله هذا الرجل؛ ما أعظم أجرَه عند الله! وما فعله أولى ما يُطلب من العالم المقتدى به، فلا ترى الناس للعالم في شيء أطوع منهم له في رخصة أو معصية يدعوهم إليه، أو يعمل بها بمحضرهم كما عمت البلوى الآن ممن ينسبون إلى العلم، فيخالطون الحكام الظلمة، ويأكلون من أموالهم، ويمالونهم، ويلبسون الحرير، ويفرشونه، أو يأكلون ما لا يحل لهم، ويشربون ما حرم الله عليهم، فإذا بينت تحريم شيء من ذلك لبعض العامة، قال لك: ما بال فلان يفعله أو يقره؟ ومن ثمَّ قيل: إذا زل عالِم زل بزلته عالَم. على أن ذلك ليس من الزلة، بل من باب الفسق والجرأة على الله تعالى، فعسى الله تعالى أن يحببنا إليه ببغض هؤلاء، ويثيبنا على غيظنا عليهم، إنه على كل شيء قدير. ولقد قلت: [من السريع] وَاللهِ ما الْعالِمُ بِالْفاسِقِ ... وَلا بِنَذْلٍ بِالْخنا ناطِقِ وَلا بِمَنْ يَبْغِي وَيسْطُو عَلى ... إِخْوانِهِ كَسَطْوَةِ الْباشِقِ ¬
157 - ومن أعمال اليهود والنصارى: شرب الخمر.
وَلا بِمَنْ يَلَبْسُ ثَوْبَ الْخَنا ... أَوْ لُبْسَةَ الْخارِقِ والْمارِقِ وَلا بِمَنْ يَأْكُلُ مالَ الرِّبا ... وَمالَ أَيْتامٍ كَما السَّارِقِ وَلا بِمَنْ يُؤثِرُ حُبَّ الْمَها ... عَلى هَوى النَّاهِدِ والْعاتِقِ الْعِلْمُ كُلُّ الْعِلْمِ ما يَنْتَهِي ... بِهِ الْفَتَى عَنْ سَخَطِ الْخالِقِ 157 - ومن أعمال اليهود والنصارى: شرب الخمر. وقد كان في صدر الإِسلام مباحًا، ثمَّ حرم، ثمَّ صار تحريمها مما أُجمع عليه، وعلم من الدين ضرورة. روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن جعفر بن حرفاس: أن عيسى بن مريم عليهما السلام كان يقول: رأس الخطيئة حبُّ الدنيا، والخمر مفتاح كل شر، والنساء حبالة الشيطان (¬1). وروى ابن أبي حاتم، والبيهقيُّ عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: إن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] هي في التوراة: إن الله أنزل الحق ليبطل به الباطل، ويذهب به اللعب، والزفن، والمزامير، والكبارات؛ يعني: البرابط، والزمارات؛ يعني: الدف، والطنابير، والشعر. والخمر مُزَّة لمن طعمها، وأقسم ربي بيمينه وعزه حياته لا يشربها ¬
158 - ومنها: كل السحت.
عبد بعدما حرمتها عليه إلا عطشته يوم القيامة، ولا يدعها بعدما حرمتها عليه إلا سقيته إياها من حظيرة القدس (¬1). وهذا الأثر، والذي قبله يدلان على تحريم الخمر في شريعة موسى وعيسى عليهما السلام كما يدلّ على تحريم الخنزير في شريعة عيسى عليه السلام. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"، وابن عساكر عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام للحواريين: يا معشر الحواريين! لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير؛ فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئًا، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها؛ فإن الحكمة خير من اللؤلؤ، ومن لا يريدها شر من الخنزير (¬2). ألا ترى أنَّه عليه السلام جعل الخنزير شر الحيوانات، ثمَّ جعل المُعْرِض عن الحكمة شرًا منه؟ 158 - ومنها: كل السُّحت. وهو أكل أموال الناس بالباطل؛ كالربا، والسرقة، والغصب، ¬
والرشوة في الحكم، وأخذ القاضي ونحوه للهدية. وهو بضم السين المهملة، مع إسكان الحاء المهملة، أو ضمها: الحرام، أو ما خبث من المكاسب، فلزم عنه العار. وأسحت: اكتسبه. وأسحت الشيء: استأصله. ويقال: سحتٌ فيهما. والمسحوت الجوف: من لا يشبع، ومن يتخم كثيرًا ضد؛ ذكر ذلك في "القاموس" (¬1). وإنما سمي الحرام سحتًا لأنه يسحت آكله؛ أي: يستأصله بالعقوبة، أو لأنه يسحت جوف آكله فلا يشبع منه. أفادنا شيخنا الشيخ أحمد العيثاوي رحمه الله تعالى: أن لقمة الحرام توسع الجوف لأخرى، ثمَّ الأخرى لأخرى، فلذلك لا ينتهي أخذه عنه حتى يموت. وقلت في المعنى: [من المتقارب] مَنِ اعتادَ أكلَ الحرامِ اتَّسَعْ ... مِعاهُ فليسَ لهُ مِنْ شِبَعْ فمن يترخَّص فِيه شَفًا ... سيغْمِسُه في الكثيرِ الوَلَعْ ولا ينتهي عنهُ حتَّى المماتِ ... وانسدَّ عنه طريقُ الورَعْ ¬
قال الله تعالى في اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]. وقال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة: 63]. وقال الحسن رحمه الله تعالى: الربانيون علماء النصارى، والأحبار: علماء اليهود؛ كما نقله الثعلبي، وغيره (¬1). وقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]، ذمٌ عائد إلى الكل من العلماء وسائر أهل الكتاب، فالذم واقع على الفريقين العامة لسماع الكذب وأكل السحت، والعلماء لترك النهي عن ذلك. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما في القرآن أشد من هذه الآية. رواه ابن جرير (¬2). وقال الضحاك بن مزاحم رحمه الله تعالى: ما في القرآن أخوف عندي من هذه الآية؛ أساء الثناء على الفريقين جميعًا. رواه الإمام عبد الله ابن المبارك في "الزهد"، والمفسرون (¬3). وقال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ¬
النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160، 161]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]. وذكر الثعلبي عن الحسن قال: كان الحكام من بني إسرائيل إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمه، فيريه إياها فينظر إليها، ويتكلم بحاجته فيسمع منه، ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة، ويسمع الكذب، فلذلك وصفهم الله تعالى بقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] (¬1). وروى أبو داود، والترمذي وصححه هو وابن حبَّان، والحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: الرَّاشِيَ والْمُرْتَشِي (¬2). ورواه الإمام أحمد، والبزار من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه؛ زاد "والرَّائِشَ"؛ يعني: الذي يمشي بينهما، كما فسر به في الحديث (¬3). وصحح الحاكم نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬4). نعم، يستثنى من يرتشي ليدفع عن دينه، أو ماله، أو بضعه، فقد رويت الرخصة فيه عن ابن مسعود، والحسن، ووهب بن منبه. ¬
قال أبو الليث السمرقندي: وبه نأخذ (¬1). قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت، وإن لم يُعزل بَطَلَ كلُّ حكمٍ حكمَ به بعد ذلك. قال القرطبي: وهذا لا يجوز أن يختلف فيه؛ لأنَّ الرشوة منه فسق، والفاسق لا يجوز حكمه (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" بإسناد صحيح، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: الرشوة في الحكم كفر، وهي بين الناس سحت (¬3). وعنه بإسناد غريب جيد: أنَّه قال: السحت الرشوة في الدين (¬4)؛ قال سفيان: يعني: في الحكم (¬5). وروى عبد الرزاق عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هَدَايَا الأُمَرَاءِ سُحْتٌ" (¬6). ¬
وأخرجه الخطيب في "تلخيص المتشابه" من حديث أنس، ولفظه: "هَدَايَا العُمَّالِ سُحْتٌ" (¬1). وروى الثعلبي بإسناده عن الحسن قال: إذا كان لك على رجل دين، فما أكلت في بيته فهو السحت (¬2). وهذا فيه تهويل لأمر الربا. وروى مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه؛ وقال: "هُمْ سَوَاءٌ" (¬3). وروى [الطبراني] في "الأوسط"، و"الصغير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بِباطِلٍ لِيُدْحِضَ بِهِ حَقًّا بَرِئَ مِنْ ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ، وَمَنْ أَكَلَ دِرْهَمًا مِنَ الرِّبَا فَهُوَ مِثْلُ ثَلاثٍ وَثَلاثِيْنَ زَنْيَةً، وَمَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ فالنَّارُ أَوْلَى بِهِ" (¬4). وروى ابن مردويه، والديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ¬
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سِتُّ خِصالٍ مِنَ السُّحْتِ: رشْوَةُ الإِمامِ، وَهِيَ أَخْبَثُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَثَمَنُ الكَلْبِ، وَعَسَبُ الفَحْلِ، وَمَهْرُ البَغِيِّ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ، وَحُلْوَانُ الكاهِنِ" (¬1). وقد رويت أحاديث في كسب الحجام، ولعل هذا كان أولًا ثمَّ نسخ، وصار مباحًا. والحق أنَّه كسب طيب كما قال القرطبي، وغيره (¬2). وقال الثعلبي: وقال عمر، وعلي، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: السحت خمسة عشر: الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وثمن الكلب، والقرد، والخمر، والخنزير، والميتة، والدم، وعسب الفحل، وأجرة النائحة، والمغنية، [والقايدة]، والساحر، وأجر صور التماثيل، [وهدية الشفاعة] (¬3). وروى المفسرون، والبيهقيُّ في "الشعب" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة، أو يرد عليه حقًّا، فأهدى له هدية فقبلها، فذلك السحت. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن! إنا كنا نعد السحت الرشوة في الحكم. ¬
فقال: ذلك الكفر؛ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] (¬1). وروى ابن جرير عن ابن زيد في قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41]، قال: لا تأكلوا السحت على كتابي (¬2). وروى ابن المنذر عن مسروق رحمه الله تعالى قال: قلت لعمر ابن الخطاب: أرأيت الرشوة في الحكم من السحت؟ قال: لا، ولكن كفر، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاء ومنزلة، ويكون للآخر إلى السلطان حاجة، فلا يقض حاجته حتى يهدي إليه هدية (¬3). وقوله: ولكن كفر، وكذلك قول ابن مسعود: ذلك كفر؛ هو محمول على استحلال الرشوة. وكلام عمر، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما نص في تحريم أخذ الهدية على الشفاعة، وبذل الجاه في دفع المظلمة، ورد الحق، وعليه ظاهر كلام الماوردي لأنَّ ذلك من فروض الكفايات (¬4). ¬
لكن نقل النوويّ في "فتاواه" عن القاضي، وغيره فيما لو حبس ظلمًا، فبذل مالًا لمن يتكلم في خلاصه -قائده أو غيره- جاز، وحمل ما نقلناه عن الماوردي على ما إذا شفع، ثمَّ بذل له مال، فأخذه؛ فإنَّه حرام لأنه عمل متبرعًا، فلا يستحق شيئًا (¬1). لكن قول عمر رضي الله تعالى عنه: فلا يقضي حاجته حتى يهدي له هدية؛ يقتضي منع هذا الحمل. قال ابن حجر المكي في "شرح الإرشاد": وتلخيصه: وإن كان فرض كفاية إلا أن الحاجة اقتضت المسامحة في أخذ عوض عليه لاضطرار الناس إليه، واطراد عزلهم لعدم السعي فيه إلا بمقابل. قال: وبهذا يندفع قياسه على تولية القضاء، انتهى. قلت: هذا التعليل في جواز الإعطاء، والجعل على ذلك ظاهر، واقتضاؤه لجواز الأخذ بعيد. وإذا تقرر أن هذه الأمور التي أتينا عليها هنا داخلة في السحت، وثبت بنص القرآن العظيم أن اليهود والنصارى كانوا يأكلون السحت، فقد علم أن هذه الأمور كلها من أخلاقهم، وأنَّ مَنْ فَعَلها أو أكل مما يحصل منها فهو متشبه في ذلك باليهود والنصارى، ومن لم يتب من العلماء عن ذلك فهو متشبه بالربانيين والأحبار حين لم ينهوا عنها. ¬
لطيفة
* لَطِيْفَةٌ: روى الدينوري في "المجالسة" عن ابن قتيبة قال: حدثني بعض أصحابنا أن بعض العمال من أهل البصرة قدم من عمل، وقدم معه مال كثير كان خَانَ فيه السلطان، فاتخذ طعامًا ودعا أصحابه، فجعل يطعمهم ويحدثهم بالكذب، فقال بعضهم: نحن كما قال الله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] (¬1). قلت: هذا يقع كثيرًا لكثير ممن ينسب إلى العلم، يترددون إلى بيوت الأجناد، وعمَّال المُكوس، وأَكَلة الحرام الصِّرف، فيأكلون من طعامهم، ويستمعون لما عسى أن يقع من الكذب والفحش في كلامهم، فهم من أشبه الناس بمن ذكر في الآية. * تَنْبِيْهٌ: روى أبو نعيم في "الحلية" عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: أُهدي إلى عمر بن عبد العزيز تفاح وفاكهة، فردها وقال: لا أعلمنَّ أنكم بعثتم إلى أحد من أهل عمل شيئًا. فقيل له: ألم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية؟ قال: بلى، ولكنها لنا رشوة. وفي رواية: إن بعض أهل بيته أهدى إليه تفاحًا، فرده. قال عمرو بن مهاجر: فقلت: يا أمير المؤمنين! ابن عمك، ورجل ¬
من أهل بيتك، ولقد بلغك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة. قال: إن الهدية كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم- هدية، وهي لنا رشوة (¬1). قلت: الحكمة في ذلك: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كان معصومًا فلا تستميله الهدية عن الحق، بخلاف غيره من الولاة لأنه غير آمن من ذلك. ومن ثمَّ لا يقبل الحاكم هدية من لم يكن له عادةٌ بالإهداء إليه، وما زاد منه على عادته في الهدية. وغير الولاة يستحب له قبول الهدية إلَّا أن يعلم أن المهدي إليه إنما أهداها إليه ليساعده على باطل أو منع حق؛ فإنها تنقلب رشوة. وفي الحديث: "خُذُوا العَطَاءَ ما دَامَ عَطَاءً، فَإِذَا تَجَاحَفَتْ (¬2) قُرَيْشٌ بَيْنَهَا الْمُلْكَ، وَصَارَ العَطَاءُ رَشْوَةً عَلَى دِيْنِكُمْ فَدَعُوْهُ". رواه أبو داود، وغيره من حديث ذي الزوائد الجهني رضي الله تعالى عنه (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" عن معاذ رضي الله تعالى عنه: [أن النبي -صلى الله عليه وسلم-] (¬4) قال: "خُذُوا العَطَاءَ مَا دَامَ عَطاءً، فَإذَا صَارَ رِشْوَةً عَلَى الدِّيْنِ ¬
لطيفة
فَلا تأخُذُوْهُ، وَلَسْتُمْ بِتارِكِيْهِ؛ يَمْنَعُكُمُ الفَقْرُ والْحَاجَةُ"، الحديث (¬1). * لَطِيْفَةٌ: روى أبو الشيخ عن السدي قال: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيًا إلا ارتشى في الحكم، فإذا قيل له، يقول: سيغفر لي (¬2). * تَتِمَّةٌ: هذه الأمور التي ذكرناها هنا من أنواع السحت كالربا وغيره، لمَّا كثرت في بني إسرائيل هلكوا واستؤصلوا، وذلك لأنَّ هذه الأمور تسحت؛ أي: تستأصل مرتكبها، ولذلك سميت سحتًا كما سبق. ومن هذا القبيل قول موسى عليه السلام لفرعون وقومه: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: 61]. قال ابن زيد: فيهلككم هلاكًا ليس به بقية. قال والذي سُحِت ليس فيه بقية. أخرجه ابن أبي حاتم (¬3). وفي هذه الآية دليل على أن الكذب والافتراء يكون سببًا للاستئصال. ¬
159 - ومن أعمال أهل الكتاب: الاستئثار.
وقد جمعت اليهود بين ذلك وأكل الحرام؛ إذ قال الله في وصفهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]. وجاءت فيهما بصيغة المبالغة والتكثير؛ فإن وقوع شيء من ذلك على سبيل الزلة والهفوة لا يضر، والاستغفار يمحوه أو يخففه، حتى يتكرر ذلك من العبد أو القوم، ويكثر فيهلكوا. وقد روى ابن جرير عن سِماك بن حرب، عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: إذا ظهر الرِّبا والزنا في قرية أَذِنَ الله في هلاكها (¬1). بل روى الإمام أحمد، وابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما ظَهَرَ في قَوْمٍ الرِّبَا والزِّنَا إِلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللهِ" (¬2). 159 - ومن أعمال أهل الكتاب: الاستئثار. وقد ألهمت عدة من خصالهم في المنام. ويدل له ما حكي: أن أحبار بني إسرائيل وقسِّيسي النصارى وبطارقتهم كانوا يستحثون الناس على الصدقات، ويأمرونهم بإعطاء الزكاة، وكانوا يدفعونها إليهم ليقسموها في الفقراء، وكانوا يستأثرون بها، ويستقلون حتى صاروا أكثر أموالًا من الملوك. ¬
قيل: وفيهم نزلت: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة: 34]. ومن ألطف الأخبار في هذا الباب لأهل الاعتبار: ما رواه عبد الرزاق، والطبراني في "الكبير"، وابن مردويه، والحافظ أبو بكر الواسطي في "فضائل بيت المقدس" عن رافع بن عمير رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قَالَ اللهُ تَعالَى لِداوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ابْنِ لِي بَيْتًا في الأَرْضِ. فَبَنَى دَاودُ لِنَفْسِهِ بَيْتًا قَبْلَ البَيْتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، فَأَوْحَى اللهُ تَعالَى إِلَيْهِ: يا دَاوُدُ! نَصَبْتَ بَيْتَكَ قَبْلَ بَيْتِي؟ قَالَ: يا رَبِّ! هَكَذَا قُلْتَ: مَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ. ثُمَّ أَخَذَ في بِناءِ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أتمَّ السُّوْرُ سَقَطَ ثَلاثًا، فَشَكَى ذَلِكَ إلَى اللهِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: إِنَّكَ لا تَصْلُحُ أَنْ تَبْنِيَ لِي بَيْتًا. قَالَ: وَلِمَ يَا رَبَ؟ قَالَ: لِمَا جَرَى عَلَى يَدَيْكَ مِنَ الدِّمَاءِ. قَالَ: يَا رَبِّ! أَوَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ في هَوَاكَ وَحُبِّكَ. قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّهُمْ عِبَادِي، وَأَنَا أَرْحَمُهُمْ. فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللهُ تَعالَى إِلَيْهِ: لا تَحْزَنْ؛ فَإِنِّي سَأَقْضِي بِنَاءَهُ عَلَى يَدَي ابْنِكَ سُلَيْمانُ. فَلمَّا مَاتَ دَاوُدُ أَخَذَ سُلَيْمانُ عَلَيْهِمَا السَّلامُ في بِنائِهِ، فَلَمَّا تَمَّ قَرَّبَ القَرابِيْنَ، وَذَبَحَ الذَّبائِحَ، وَجَمَعَ بَنِي إِسْرائِيلَ، فأوْحَى اللهُ تَعالَى
إِلَيْهِ: قَدْ أَرَى سُرُوْرَكَ بِبِناءِ بَيْتِي فاسْأَلْنِي أُعْطِكَ. قَالَ: أَسْألُكَ ثَلاثَ خِصالٍ: حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَكَ، وَمُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، وَمَنْ أتى هَذَا البَيْتَ لا يُرِيْدُ إلا الصَّلاةَ فِيْهِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوْبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. قَالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَمَّا اثْنتَيْنِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه -واللفظ له- وابن خزيمة، وابن حبَّان في "صحيحيهما"، والحاكم وصححه -قال المنذري: ولا علة له، وحسَّنه بعض الحفاظ، وهو شاهد لحديث رافع ابن عمير المذكور آنفًا- عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمانُ بنُ دَاوُدَ عَلَيْهِما السَّلامُ مِنْ بِناءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَألَ اللهَ -عز وجل- ثَلاثًا: حُكْمًا يُصادِفُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّه لا يَأتِيَ هَذا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لا يُرِيْدُ إِلَّا الصَّلاةَ فِيْهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوْبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَمَّا اثْنتَيْنِ فَقَدْ أُعْطِيَهُما، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ" (¬2). وقوله في حديث رافع: يا رب! أنت قلت: من ملك استأثر، هو مثل سائر، وهذا الحديث أصله. وفيه أنَّه من كلام الله تعالى الذي أنزله على داود عليه السلام. ¬
وفيه دليل على أن الاستئثار يظهر على الإنسان إذا مَلَكَ، لا يخلو منه إلا بالعصمة، قضاء قضاه الله تعالى؛ إذ معنى قوله: أنت قلت يا رب: من ملك استأثر: أنت قضيت، وحكمت، أو قلت فيما أوجبت إلي، ولذلك كان الإيثار من أعظم ما يثنى به على المتصف به كما قال تعالى في الأنصار: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. وليس فوق هذا ثناء في باب الجود؛ لأنَّ الإيثار في حالة الملك والقدرة ممدوح، فكيف في حال الحاجة والخصاصة؟ ومن ثمَّ قيل: لَيْسَ الْعَطاءُ مِنَ الْفُضُولِ سَماحَةً ... حَتَّى تَجُودَ وَما لَدَيْكَ قَلِيلُ ثمَّ الاستئثار إن كان بالمباح فلا عقوبة فيه، ومنه استئثار داود عليه السلام؛ فإن بناء بيته قبل بناء المسجد لم يكن محظورًا عليه، إذ أمره الله تعالى أن يبني له بيتًا، ولم يبين له أن لا يقدِّم عليه شيئًا، وإنما عوتب فيه لأنَّ مقام النبوة كان يقتضي المبادرة إلى بناء المسجد قبل كل شيء لا سيما وقد أمر به؛ كما فعل نبينا - صلى الله عليه وسلم - لم يعرج على شيء حين نزل دار هجرته قبل بناء المسجد الشريف، وبهذا تظهر فضيلته ومزيته على داود عليه السلام. وأما إن كان مما يجب عليه بذله ولا يباح له حبسه ولا التصرف فيه لنفسه كالزكاة والنفقات الواجبة عليه، وما كان في يده على وجه الأمانة ليؤديه للغير، فهذا مذموم منه، ممنوع عنه.
160 - ومن أعمال بني إسرائيل: الحيلة في أكل ما حرم عليهم.
ومنه ما كانت تصنعه الأحبار والرهبان من جمع الزكاة ليقسموها، ثمَّ الاستئثار بها، وهذا ليس في طمع الطامعين أقبح منه. ومنه استئثار ملوك هذا الزمان، وأجناده، وأكابره، ووجوه أهله أنهم يأخذون أموال الناس وأموال الأوقاف فلا يردُّون ما يجب رده، ولا يصرفون ما يجب صرفه على مستحقيه، بل يتوسعون به، ويتبسطون فيه كما فعل الَّذين من قبلهم فذاقوا وبال أمرهم، فصدق الحديث: "لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ النَّعْلَ" (¬1)؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. 160 - ومن أعمال بني إسرائيل: الحيلة في أكل ما حُرِّم عليهم. قال الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 163 - 166]. والقرية المذكورة هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة يقال لها: أيلة؛ كما أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم ¬
عن ابن عباس، وعبد بن حميد عن سعيد بن جبير (¬1). وقال ابن شهاب: هي طبرية (¬2). وابن زيد: هي قرية يقال لها: مقنا، بين مدين وعيوثا (¬3). أخرجهما ابن أبي حاتم. وروى عبد الرَّزَّاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم بإسناد صحيح، وصححه البيهقي في "السنن" عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو يقرأ في المصحف قبل أن يذهب بصره، فقلت: ما يبكيك جعلني الله فداك؟ قال: هل تعرف أيلة؟ قلت: وما أيلة؟ قال: قرية بها ناس من اليهود، فحرم الله عليهم الحيتان يوم السبت. وفي رواية: ما يبكيك يا ابن عباس؟ فقال: هؤلاء الورقات؛ فإذا في سورة الأعراف؛ قال: تعرف أيلة؟ قلت: نعم. ¬
قال: فإنَّه كان بها حي من اليهود سيقت إليهم الحيتان يوم السبت، ثمَّ غاصت حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة، كانت تأتيهم يوم السبت شُرَّعًا بيضًا سِمَانًا كأنها الماخض. وفي رواية الحاكم: وكانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم شرَّعًا بيضًا سمانًا كأمثال المخاض، فإذا كان في غير يوم السبت لم يجدوها، ولم يدركوها إلا في مشقة ومؤنة شديدة، فقال بعضهم لبعض، أو من قال ذلك منهم: لعلها لو أخذناها يوم السبت وأكلناها في غير يوم السبت. ففعل ذلك أهل بيت منهم، فأخذوا وشووا، فوجد جيرانهم ريح الشواء، فقالوا: ما نرى أصحاب بني فلان ليصيبوا بشيء. فأخذها آخرون حتى فشى ذلك فيهم، وكثر فافترقوا ثلاثًا: فرقة أكلت، وفرقة نهت، وفرقة قالت: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164]. فقالت الفرقة التي نهت: إنا نحذركم غضب الله وعقابه أن يصيبكم بخسف، أو قذف، أو ببعض ما عنده من العذاب. والله لا نبايتكم في مكان وأنتم فيه، فخرجوا من السور، فغدو عليه من الغد، فضربوا باب السور فلم يجبهم أحد، فأتوا سببًا فأسندوه إلى السور، ثمَّ رقى راق منهم إلى السور، فقال: يا عباد الله! قردة والله لها أذناب تعاوى -ثلاث مرات-. ثمَّ نزل من السور، ففتح السور، فدخل الناس عليهم، فعرف القردة أنسابها من الإنس، ولم تعرف الإنس أنسابها من القردة، فأتى القرد إلى
نسيبه وقريبه من الإنس، فيحك به ويلصق به، ويقول الإنسان: أنت فلان؟ فيشير برأسه - أي: نعم - ويبكي. فيقول لهم الإنس: أما إنا حذرناكم غضب الله وعقابه أن يصيبكم بخسف، أو مسخ، أو ببعض ما عنده من العذاب. قال ابن عباس: فاسمع الله تعالى يقول: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165]، فلا أدري ما فعلت الفرقة الثانية. قال ابن عباس: وكم رأينا من منكر فلم ننه عنه. قال عكرمة: ما ترى جعلني الله فداك إذ كرهوا حين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164]؟ فأعجبه قولي ذلك، وأمر لي ببردين غليظين فكسانيهما (¬1). وروى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عكرمة قال: قال ابن عباس: ما أدري أنجا الذين قالوا: لم تعظون قوماً أم لا. قال: فما زلت أبصره حتى عرف أنهم نجوا، فكساني حلة (¬2). قلت: وفيه ينبغي لمن ظهرت منه فائدة في العلم وحذاقة في الفهم من الطلبة ونحوهم أن يرغبوا بجائزة من خلعة ونحوها، وقد نقل ذلك كثير من العلماء. ¬
وممن كان يرغب الطلبة بالجوائز والهبات والدي رحمه الله تعالى. وقد روى ابن بطة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَرْتَكِبُوْا مَا ارْتَكَبَتِ اليَهُوْدُ فَتَسْتَحِلُّوْا مَحَارِمَ اللهِ بِأَدْنىَ الْحِيَلِ" (¬1). وأشار إلى تحيلهم في صيد الأسماك بإمساكها يوم السبت وأكلها في غير يوم السبت، وكان طريقتهم في إمساكها أنهم كانوا يحفرون حفائر في جانب البحر، ويخرقون بينها وبين الماء، فتقع الأسماك يوم السبت في الحفائر، فيسدون الخروق بعد أن تقع في الحفائر، فتبقى فيها إلى الأحد، فيأخذونها. وقيل في الحيلة غير ذلك. وكان أول ذلك ما رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن عباس في رواية أخرى: أن رجلاً منهم أخذ حوتاً فخزمه بخيط، ثم ضرب له وتداً في الساحل، وربطه وتركه في الماء، فلما كان الغد جاء فأخذه، فأكله سراً، ففعلوا ذلك وهم ينظرون لا يتناهون إلا بقية منهم، فنهوهم حتى إذا ظهر ذلك في الأسواق علانية قالت طائفة منهم للذين ينهونهم: لم تعظون قوماً، الحديث. وقال فيه: إن الله تعالى إنما فرض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم يوم الجمعة، فخالفوا إلى يوم السبت، فعظموه وتركوا ¬
ما أُمروا به، فلما ابتدعوا السبت ابتلوا به، فحرمت عليهم الحيتان (¬1). وفيه إشارة إلى أن البدعة والعناد بمخالفة الأمر توجب العقوبة والابتلاء، وإنما النجاة والراحة والمثوبة في الاتباع والعمل بالسنة، ولذلك بورك لهذه الأمة في يوم الجمعة، فما منهم إلا من يرتاح له، ويأنس به، وتعود بركته عليهم من الأسبوع إلى الأسبوع، واليهود تركوه واختاروا السبت، فابتلوا وشق عليهم أجره حتى قال ابن عباس: أخذ موسى عليه السلام رجلاً يحمل حطباً يوم السبت، وكان موسى يسبت، فصلبه. رواه ابن أبي شيبة. وقال أيضاً: احتطب رجل في السبت، وكان داود عليه السلام يسبت، فصلبه. رواه أبو الشيخ (¬2). وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 65 - 66]. قال ابن عباس: وهذا تحذير لهم من المعصية؛ يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت إذ عصوني. قال: مسخهم الله قردة بمعصيتهم، ولم يَعِشْ مسخٌ قطُّ ثلاثةَ أيام، ولم يأكل ولم يشرب، ولم ينسل. رواه ابن جرير (¬3). ¬
ونص ابن عباس أنهم مسخوا حقيقة. وروى ابن أبي حاتم عنه قال: صار شباب القوم قردة، والمشيخة صاروا خنازير (¬1). وكذلك قال قتادة، وغيره (¬2). وقيل: المسخ معنوي، وهو خلاف ظاهر نص القرآن. وروى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة حقيقة، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لهم كقوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] (¬3). والصحيح المشهور الأول، وهو أبلغ في الموعظة. وقد قال الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66]؛ أي: من القرى، أو من ذنوبهم التي عملوها قبل وبعد. وكلاهما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (¬4). قال: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66]، الذين من بعدهم إلى يوم القيامة (¬5). ¬
161 - ومن أخلاق أهل الكتاب: الخيانة.
وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى {لِلْمُتَّقِينَ}: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. رواه عبد بن حميد (¬1). وبهذا يتضح لك وجه ما ذكرناه من ذلك، بل وسائر ما ذكرناه من أعمالهم التي عوقبوا عليها من التحذير من التشبه بهم في ذلك جعله الله تعالى خالصاً لوجهه الكريم، نافعاً لأهل التوفيق من المسلمين. 161 - ومن أخلاق أهل الكتاب: الخيانة. 162 - ومنها: جحد حقوق الناس وودائعهم، والحلف عليها الأيمان الفاجرة، وترك وفاء الديون. قال الله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]. قال المفسرون: كعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه؛ استودعه قرشي ألفاً ومئتي أوقية ذهباً، فأداه إليه. قال - عز وجل -: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}. قالوا: كفنحاص بن عازوراء، وكان من أحبار يهود المدينة؛ استودعه قرشي آخر ديناراً فجحده. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ ¬
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 75 - 77]. قالوا: نزلت في أحبار حرفوا التوراة، وحكم الأمانات وغيرها، وأخذوا على ذلك رشوة (¬1). وروى الإمام أحمد، والأئمة الستة، والمفسرون عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِيْنٍ هُوَ فِيْهَا فَاجِرٌ لِيَقْطَعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ". فقال الأشعث بن قيس رضي الله تعالى عنه: فِيَّ والله كان ذلك؛ كان بيني وبين رجل يهودي أرض فجحدني، فقدمته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ ". قلت: لا. فقال لليهودي: "احْلِفْ". فقلت: يا رسول الله! إذاً يحلف فيذهب بمالي. فأنزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية (¬2). وقال ابن جريج: بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية، ¬
فلما أسلموا تقاضوهم ثمن بيوعهم، فقالوا: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، فقال الله تعالى - يعني: رداً عليهم وتكذيباً لهم -: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75] (¬1). وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: لما نزلت: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى قوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَذَبَ أَعْدَاءُ اللهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلاَّ وُهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلاَّ الأَمَانَةَ؛ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ لِلْبَرِّ وَالفَاجِرِ" (¬2). وسأل صعصعة ابنَ عباس فقال: إنَّا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة؟ قال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال: نقول: ليس علينا في ذلك من بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}؛ إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم (¬3). ¬
163 - ومن أخلاقهم: استحلال أموال المسلمين بضرب من التأويل.
روى هذه الآثار المفسرون الثلاثة ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وهم الذين أريدهم بقولي في هذا الكتاب: روى المفسرون، وكانوا متعاصرين رحمهم الله تعالى. وفي كلام ابن عباس تقبيح التشبه باهل الكتاب في أمورهم. وقد سبق عن الشعبي: أن الروافض يتشبهون بهم في قولهم: ليس علينا في أموال من يفضل الشيخين رضي الله تعالى عنهما سبيل، فيستحلون أموال أهل السنة، ولا يرون أن الزكاة تسقط عنهم إذا أعطوها أهل السنة. 163 - ومن أخلاقهم: استحلال أموال المسلمين بضرب من التأويل. كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]. وقد سبق أنهم استحلوا أموال المسلمين بسبب دخولهم في دين الإسلام إذ قالوا لهم: لا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه. وقد وقع نظير ذلك من الخوارج والروافض؛ استحلوا أموال من يخالف اعتقادهم. وكذلك يستحل الدروز والتيامنة أموال أهل الشرع، وهم يؤدون الأمانة بعضهم إلى بعض، حتى إن الشجرة لتمتد من ملك أحدهم إلى
164 - ومنها: الانهماك في حب الدنيا، وتعيير الصالحين بالفقر والقلة.
ملك جاره فلا يتناول منها ثمرة، ويمرون بعضهم بحدائق البعض فلا يتناول منه شيئاً، وربما يمدحهم جهلة من يمر ببلادهم بذلك، وهم إذا مروا بشجر الشرعِي أو زرعِه، أو ظَفِروا بماله استحلوه، وأخذوه. 164 - ومنها: الانهماك في حب الدنيا، وتعيير الصالحين بالفقر والقلة. حكى الماوردي في كتاب "أدب الدين والدنيا" أن اليهود عيَّرت عيسى بن مريم بالفقر، فقال: مِنَ الغِنى أُتِيتم (¬1). ولقد يبلغ من جهل الجاهلين والجاهلات من هذه الأمة أن يعيروا العلماء والصالحين بالفقر وقلة ذات اليد، ويقولون لهم: لسنا كأمثالكم نأكل صدقات الناس، وربما عيَّروهم بخشونة العيش، وعدم القدرة على فاخر الثياب والزي، وكل ذلك أخلاق جاهلية ناشئة عن طباع ردية. وما أحسن ما أنشده أبو طالب المكي، وغيره؛ وأحسبه لمحمود الوراق رحمه الله تعالى: [من السريع] يا عائبَ الْفَقْرِ تُرِيْدُ الْغِنَى ... عَيْبُ الْغِنَى أَعْظَمُ لَوْ تَعْتَبِرْ ¬
إِنَّكَ تَعْصِي لِتَنالَ الْغِنَى ... وَلَيْسَ تَعْصِي اللهَ كَيْ تَفْتَقِر وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن ابن شوذب رحمه الله تعالى قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: جودة الثياب خيلاء القلب (¬1). ومن أول ما نطق به لقمان من الحكمة أنه قال: إنَّ من يكون في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً ضائعاً؛ أي: شريفاً في الدنيا ضائعاً في الآخرة. قال: ومن اختار الدنيا على الآخرة فاتته الدنيا، ولا يصير إلى ملك الآخرة (¬2). روى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى - مرسلاً -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن لقمان لمَّا تكلَّم بهذه الحكمة عجبت الملائكة من حسن منطقه؛ قام نومة فغطَّ بالحكمة غطًّا، فانتبه فتكلم بها (¬3). ويلائم هذا حديث أبي خلاَّد رضي الله تعالى عنه وهو في "سنن ابن ماجه"، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "الشعب" ¬
من حديثه، ومن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُل قد أُعْطِيَ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا، وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ" (¬1). وحقيقة الحكمة فهم آيات الله تعالى وتدبرها، ومشاهدة مظاهر أسمائه. وكما تلقَّنها الزاهد في الدنيا يصرف عنها الرَّاغب فيها، المختال بها، المتكبر بما خوِّل منها، كما قال الله تعالى مخاطباً لموسى عليه السلام: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 145 - 146]. وكل من تكبر بشيء من الدنيا فقد تكبر بغير الحق، وافتخر بما لا فخر فيه. ولقد أحسن أبو العتاهية في قوله: [من السريع] ما بالُ مَنْ أَوَّلُهُ نُطْفَة ... وَجِيْفَة آخِرُهُ يَفْخَرُ ¬
عَجِبْتُ لِلإِنْسانِ فِيْ فَخْرِهِ ... وَهْوَ غَداً فِي حُفْرَةٍ يُقْبَرُ لا فَخْرَ إِلاَّ فَخْرُ أَهْلِ التُّقَى ... غَداً إِذا ضَمَّهُمُ الْمَحْشَرُ وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه قال: وجدت فيما أنزل الله على نبيه وعبده موسى عليه السلام: إنَّ من أحبَّ الدنيا أبغضه الله، ومن أبغض الدنيا أحبَّه الله، ومن أكرم الدنيا أهانه الله، ومن أهان الدنيا أكرمه الله (¬1). وروى أبو الحسن بن جهضم في "مناقب الأبرار" عن ابن عطاء قال: مكتوب في التوراة: يا ابن آدم! إن أعطيتك الدنيا اشتغلت بحفظها، وإن منعتك اشتغلت بطلبها، فمتى تتفرغ لي؟ وبهذا مع ما سبق يتضح لك شؤم الدنيا على أهليها أعاذنا الله تعالى من شؤمها، وحفظنا من مذمومها (¬2). ¬
165 - ومن أعمال اليهود والنصارى: التبتل والترهيب.
165 - ومن أعمال اليهود والنصارى: التَّبتل والترهيب. فالأول لليهود: كانوا يحررون أولادهم للمساجد والكنائس، فلا يتزوجون. والثاني للنصارى: كانوا يمتنعون عن النكاح وغيره من المشتهيات والمستلذات. وهذا الآن منسوخ بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، والنكاح سنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقد روى الإمام أحمد، والشيخان، والنسائي عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التَّبتل (¬1)؛ وهو الانقطاع عن النكاح. وروى الإمام أحمد، والطبراني، وأبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره التَّبتل، وينهى عنه نهياً شديداً، ويقول: "تَزَوَّجُوا الوَدُوْدَ الوَلُوْدَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ النَّبِيِّيْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬2). وروى البيهقي في "سننه" عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ¬
قال: "تَزَوَّجُوا؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ، وَلا تَكُوْنوُا كَرُهْبَانِ النَّصَارَى" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن أبي عبد الرحمن السلمي التابعي الجليل - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا آمُرُكُمْ أَنْ تَكُوْنُوا قِسِّيْسِيْنَ وَرُهْبَاناً" (¬2). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَرُوْرَةَ فِي الإِسْلامِ" (¬3). قال الخطابي رحمه الله تعالى: هذا الحديث يفسر تفسيرين: أحدهما: أن الصرورة: الذي انقطع عن النكاح، وتبتل على طريق النصارى. والثاني: أنَّ الصرورة: من لم يحج (¬4). وقال الأزهري: الصرورة الذي لم يحج. ¬
قال: ويقال أيضاً للرجل الذي لم يتزوج، ولم يأت النساء: صرورة لصره على ماء ظهره (¬1). وقد تقدم في التشبه بالشيطان حديث عكاف، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "ألكَ زَوْجَةٌ؟ ". قال: لا. قال: "وَلا جَارِيَةٌ؟ ". قال: لا. قال: "وَأَنْتَ صَحِيْحٌ مُوْسِرٌ؟ ". قال: نعم، والحمد لله. قال: "فَإِنَّكَ مِنْ إِخْوَانِ الشَّيَاطِيْن، إِنْ كُنْتَ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى فَالْحَقْ بِهِمْ، وَإِنْ كُنْتَ مِنَّا فَاصْنَعْ كَمَا نَصْنعُ؛ فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِنَا النِّكَاحَ" (¬2). واعلم أنَّ النكاح مستحب على الجملة باتفاق. وقال داود بوجوبه على الرجل والمرأة مرةً. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه باستحبابه على كل حال. وقال مالك والشافعي: هو مستحب لمحتاج إليه يجد أُهبته. وقال أحمد: متى تاقت نفسه إليه، وخشي العَنَت وجب هو أو ¬
التسري، وبه قال آخرون (¬1). قال شيخ الإسلام الوالد: وهذا غير بعيد. وأما قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]، فلا يراد به ترك النكاح بإجماع المفسرين، بل قيل: هو الانقطاع إلى الله، وهو موافق لأصل معنى التبتل في اللغة (¬2). يقال: بَتَلْتُهُ؛ أي: قطعته، فتبتل، وانبتل، ومنه سميت فاطمة رضي الله تعالى عنها: البتول لانقطاعها عن نساء زمانها، ونساء الأمة فضلاً وديناً وحسباً. وقيل للمنقطعة إلى الله تعالى: بتول، كما يقال للفسيلة المنقطعة عن أمها من النخل: بتول، وبتيل، وبتيلة، ويقال: بتول للمنقطعة عن الأزواج، ومنه سميت مريم بتولاً. فالمعنيان مشهوران في لغة العرب. فالتبتل بمعنى الانقطاع عن النكاح هو المنهي عنه، وبمعنى الانقطاع إلى الله تعالى هو المأمور به في قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]. أقيم التفعيل بمقام التفعل لرعاية الفاصلة، أو إشارة إلى تقصد ¬
الانقطاع إلى الله تعالى، كأن المتبتل قطع نفسه عما سوى الله تعالى، أو قطع إرادته وقصده عما سواه. والانقطاع إلى الله تعالى لا يناقض النكاح لأنه بالنية من جملة الطاعات، ومن أطاع الله تعالى فقد انقطع إليه. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -كما في رواية ابن جرير- والأكثرون في قوله تعالى {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}: أخلص إليه إخلاصاً (¬1). وقال قتادة رحمه الله تعالى: أخلص له الدعوة والعبادة. أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير (¬2). وقال مجاهد رحمه الله تعالى: أخلص له المسألة والدعاء. أخرجه المفسرون، ومحمد بن نصر في "الصلاة"، والبيهقي في "الشعب" (¬3). وقال الحسن: اجتهد. وابن زيد: تفرغ للعبادة. وزيد بن أسلم: اترك الدنيا والتمس ما عند الله. وشقيق البلخي: توكل. نقلها الثعلبي، وغيره (¬4). ¬
ثم اعلم أن الرهبانية التي ابتدعها النصارى لا تختص بترك النكاح، بل هي ترك الشهوات المباحة كلها، والتقليل من المآكل والمشارب وكل شيء، والتشدد في الدين كملازمة الصيام، والقيام فوق الطاقة، ولباس السواد، وإيثار الشعوثة والغبورة، وملازمة الغيران والكهوف. قال الله تعالى: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27]. روى النسائي، والحكيم الترمذي في "نوادره"، والمفسرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت ملوك بعد عيسى عليه السلام بدلت التوراة والإنجيل، فكان من بني إسرائيل مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل غير مبدلين، فقيل لبعض ملوكهم: ما نجد شيئاً أشد من شتم يشتمنا هؤلاء إنهم يقرؤون: {لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} [المائدة: 47] مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعوهم فليقرؤوا كما نقرأ، وليؤمِّنوا كما آمَّنَّا. فدعاهم فجمعهم، وعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها، فقالوا: ما تريدون ذلك دعونا.
فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا، ولا نرد عليكم. وقالت طائفة: دعونا نسيح في الأرض، ونَهيم ونأكل ما تأكل منه الوحوش؛ فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا. وقالت طائفة: ابنوا لنا دوراً في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحرث البقول، ولا نرد عليكم، ولا نمر بكم، وليس أحد من القبائل إلا له حميم. ففعلوا ذلك. قال: فأنزل الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ} [الحديد: 27]. قال: فمضى أولئك على مناهج عيسى. قال: وقال آخرون: ممن تعبد من أهل الشرك وقد فني من فني منهم؟ نتعبد كما تَعَبَّدَ فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم. قال: فذلك قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} الآية. مقولة ابتدعها هؤلاء الصالحون، فما رعاها المتأخرون. {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ}؛ يعني: الذين ابتدعوها أولاً ورعوها. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}؛ يعني: المتأخرين. ولما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق منهم إلا القليل انحط صاحب
الصومعة من صومعته، وجاء السائح من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدقوه، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} بإيمانهم بعيسى، ونصب أنفسهم، وبالتوراة والإنجيل، وبايمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وتصديقهم. {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28]: في الناس: القرآن، واتباعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قال القرطبي: وفي الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت. قال: وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان، وتغير الأحوال والأصدقاء (¬2). قلت قديماً وحديثاً: أكثر الناس من التكلم في العزلة والخلطة، ومنهم من فضل، ومنهم من فصل، والحق أن تفضيل أحدهما على الآخر مطلقاً لا يليق. والصواب أن لكل واحد منهما فوائد وآفات ذكرت تفاصيلها في "منبر التوحيد"، فأي حالة ظهرت فائدتها وأمنت آفتها فعلى السالك الأخذ بها. ¬
والذي يقع في تحريره هنا: أن الإنسان يخالط أهل العلم ليتعلم منهم أمور دينه التي يحتاج إلى الأخذ بها في عباداته، ثم يعتزل الناس كما قال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: تفقه ثم اعتزل (¬1)، ثم إذا عرض له مسألة لا علم عنده فيها خالط من يسأله عنها، وإذا عرض له طلب المعاش بكسب أو احتراف خالط بقدر ما تحصل له الكفاية مع الإغضاء عن الناس وما هم عليه، إلا أن يفاجأه منكر فيغيره باليد إن استطاع، وإلا فباللسان، وإلا فبالقلب. هذا إذا لم يجعله الله داعياً إليه، فإن أنعم الله عليه بعلم زائد عنه أو بحال زائد عنه فعليه أن يخالط من يقصده للعلم، أو للتربية والنصيحة؛ فإنه مسؤول عن فضل علمه ومعرفته. ومهما لم يكن في تلك الناحية من يقوم عنه بهذا المنصب، وكان في الناس بقية يرجعون إلى الدين ولو في بعض المسائل، فليس له أن يسكن غاراً بعيداً عنهم، ولا يَسُوح في البلاد ويتركهم. نعم، له أن يلزم البيت ويكون حِلْساً من أحلاس بيته إذا كان بيته معروفاً؛ لأن المحتاج إليه يهتدي به بقصده حينئذ، وله الاحتجاب عن من يسأله لا لطلب الدين، بل ليتعلم منه الجدال والخصومات في غير حق، أو يستعين بعلمه على حيلة، أو رخصة، أو نحو ذلك. وكذلك له أن يمتنع من تعليم من هذا حاله أو يعلم منه أنه يريد تولية القضاء. ¬
نعم، إن قصده قاضٍ يريد أن يرجع إلى قوله في الحق ويعمل به أفاده، فإن أراد أن يتعلم منه ما يتوصل به إلى منع حق وتوصل إلى رشوة لم يقبل عليه، ولم يفتح له باب الرخصة؛ فإنَّ أكثر القضاة في هذه الأزمنة جهال، وتعليم الجاهل صدقة، إلا أن يترتب على تعليمه جهل آخر أو معصية. ومهما سمع بمنكر في ناحية وعلم أنه يُزَالُ بخروجه إلى إنكاره، ولا يحصل له بسبب ذلك ضرر، تعين عليه. ولا تصلح سكنى الغيران والكهوف إلا لمن ليس له فضل علم يحتاج إليه غيره، أو كان ولكن ثَمَّ من يسد، وسدَّهُ فيه، ولا يرجو بمخالطته للناس زيادة علم إلى علمه، وخير إلى خيره، ولم يأمن على نفسه من فتنة في دينه لو خالط الناس، مع الأمن على نفسه في سكنى الكهوف من عدو، أو سَبُع، أو شيطان لتحصُّنٍ، أو حالٍ بالغٍ في التوكل والأُنس بالله تعالى. فإن أمِنَ على نفسه من الفتنة بالمخالطة، وتوقع خيراً زائداً على ما عنده - وهو في هذا الزمان عزيز جداً، بعيد وجوداً - كانت الخلطة في حقه أفضل، وعليه يحمل ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية من سراياه قال: فمرَّ رجل بغار فيه شيء من ماء، فحدَّث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار، فيقوته ما كان فيه من ماء، ويصيب مما حوله من البقل، ويتخلي من الدنيا.
قال: لو أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فإن أذنَ لي فعلت، وإلا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبي الله! إني مررت بغار فيه ماء يقوتني من الماء والبقل، فحدثتني نفسي أن أقيم فيه وأتخلَّى من الدنيا، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلا بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَلَكِنْ بُعِثْتُ بِالْحَنِيْفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيْلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا، وَلَمُقَامُ أَحَدِكُمْ بِالصَّفِ الأَوَّلِ خَيْرٌ مِنْ صَلاةِ سِتِّيْنَ سَنَةٍ" (¬1). وقال في "منهاج العابدين": حكي أن الأستاذ أبا بكر بن فُورك قصد أن ينفرد لعبادة الله تعالى عن الخلق، فبينا هو في بعض الجبال إذ سمع صوتاً ينادي: يا أبا بكر! إذ صرت من حجج الله على خلقه تركت عباد الله. فرجع، وكان هذا سبب صحبته للخلق. قال: وذكر لي مأمون بن أحمد: أن الأستاذ أبا إسحاق قال لعُبَّاد جبل لبنان: يا أكلة الحشيش! تركتم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في أيدي المبتدعة واشتغلتم هاهنا بأكل الحشيش؟ قالوا له: إنا لا نقوى على صحبة الناس، وإنما أعطاك الله قوة فيلزمك ذلك. ¬
ومن أدلة العزلة في محلها: حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أفضل؟ فقال: "مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيْلِ اللهِ". قيل: ثم من؟ قال: "رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ". متفق عليه (¬1). وهو موافق لحديث أبي أمامة الناطق بتفضيل المخالطة للجهاد، وحضور الجماعات على العزلة. ونحوه حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: غزونا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمررنا بشعب فيه عيينة طيِّبة الماء غزيرة، فقال واحد من القوم: لو اعتزلت الناس في هذا الشعب، ولن أفعل ذلك حتى أذكره لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَفْعَلْ؛ فَاِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيْلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ صَلاتِهِ فِي أهْلِه سَبْعِيْنَ عَاماً، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ، اغْزُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ؛ فَإِنَّ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيْلِ اللهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ". أخرجه الترمذي - وقال: حسن صحيح - والحاكم - وقال: على شرط مسلم - إلا أنَّ لفظه: سِتِّين عاماً، ويحتمل أن يكون هذا في زمانه - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬
والجهاد واجب على كل أحد، وهو محمول على حال يتيسر فيها الجهاد من غير مقارنته لظلم ولا نية فاسدة، فإن لم يتيسر وخيفت الفتنة كما في هذه الأزمنة فالاعتزال أفضل. ويدل عليه حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه الآخر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُوْشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ؛ يَفِرُّ بِدِيْنِهِ مِنَ الفِتَنِ". رواه الإمام مالك، والبخاري، وأبو داود، وغيرهم (¬1). والأحاديث والآثار في الباب كثيرة. واعلم أن الرهبانية ليست هي العزلة المجردة، بل هي إيثار الأمور التي بيناها آنفاً على سبيل التشدد في الدين والتحرج، فهو الذي ينصرف إليه النهي الوارد، كما في حديث رواه عبد بن حميد: "لا رَهْبَانِيَّةَ فِي الإِسْلامِ" (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي كريمة قال: سمعت علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: إياكم ولباس الرهبان؛ فإن من ترهب أو تشبه فليس مني (¬3). ¬
وفي حديث ذكره القرطبي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَتَدْرِي مَا رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي؟ الْهِجْرَةُ، وَالْجِهَادُ، وَالصَّوْمُ، وَالْحَجُّ، وَالعُمْرَةُ، وَالتَّكْبِيْرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ" (¬1). والمعنى في ذلك: أن في هذه العبادات المشروعة لمن حافظ عليها وعلى أدائها على أكمل هيئاتها وخرج من حقوقها غُنية عن الرهبانية الذي ابتدعتها النصارى من ترك عامة الشهوات المباحة. ومن أراد مخالفة الرهبان في ذلك فسبيله الاقتصاد في كل ما ذكر، كما يدل عليه حديث "الصحيحين" - واللفظ للبخاري - عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، وقالوا: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً. وقال الآخر: أنا أصوم الدهر أبداً. وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: "أَنْتُمُ الَّذِيْنَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ، وَأتقَاكُمْ لَهُ، وَلَكِنِّي أَصُوْمُ وَأفطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، ¬
وَأتزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّيْ" (¬1). وروى أبو داود عن أنس أيضاً رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْماً شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن سهل بن أبي أمامة بن حنيف، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِتَشَدُّدِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَسَتَجِدُوْنَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامعِ وَالدِّيَارَاتِ" (¬3)، يعني: الرهبان. فالتشدد في الدين مكروه لأنه من أعمال الرهبان، بخلاف المجاهدة في العبادة لأنها مطلوبة، وهي حمل النفس على العمل بما جاء به الشرع من أمر أو نهي، وإن كان مشقاً على النفوس غيرِ المُطمئنَّة. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. وفي الحديث: "الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ" (¬4). والشرع إنما جاء بتكليف العبد بما يطيقه مع المداومة عليه، كما ¬
في الحديث: "اكْلَفُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيْقُونَهُ" (¬1). وفي كتاب الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. فأما الخروج إلى حمل النفس على ما لا تطيقه أو ما لا تستقيم عليه فإنه منهي عنه كما تقدم في الحديث: "لا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ". وفي الحديث الآخر: "لَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّيْنَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ" (¬2). وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: لا تجعلوا عبادة الله بلاء عليكم (¬3). قال أبو ذر - رضي الله عنه -: إن نفسي مطيتي؛ إن لم أرفق بها لم تبلِّغني (¬4). وقال الحسن رحمه الله تعالى: إن هذا الدين دين واصب، وإنه من لا يصبر عليه يدعه، وإن الحق ثقيل، وإن الإنسان ضعيف. قال: وكان يقال: ليأخذ أحدكم من العمل ما يطيق؛ فإنه لا يدري ما قدر أجله، وإن العامل إذا ركب بنفسه العنف وكلف نفسه ما لا تطيق أوشك أن يسيِّب ذلك كله حتى لعله لا يقيم الفريضة، وإذا ركب بنفسه التيسير والتخفيف، وكلف نفسه ما تطيق كان أكيسَ العاملين، وأمنعَهم من هذا العدو. ¬
فائدة لطيفة
قال: وكان يقال: شر السير الحقحقة (¬1). روى هذه الآثار ابن المبارك في "الزهد". والحقحقة: أرفع السير، وأتعبه للظهر، أو اللجاج في السير؛ قاله في "القاموس" (¬2). ودل على ما ذكره الحسن من أن المتعنت المفرط قد يرجع أمره إلى التفريط، وقوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]. * فائِدَةٌ لَطِيْفَةٌ: ذكر أبو طالب المكي في "قوت القلوب" عن بعض العلماء أنه قال: وضوء المؤمن في الشتاء بالماء البارد يعدل عبادة الرهبان كلها (¬3)؛ يعني: حين كانت عبادتهم معتداً بها. * فائِدَةٌ أُخْرى: روى ابن أبي شيبة، والحارث بن أبي أسامة، ومن طريقه الدينوري في "المجالسة" عن حسان بن عطية قال: لا بأس أن يُؤمِّن المسلم على دعاء الراهب. وقال: إنه يستجاب لهم فينا، ولا يستجاب لهم في أنفسهم (¬4). ¬
قلت: محله فيما لو دعا الراهب جهراً، أولم يشتمل دعاؤه على كلمة كفر ونحوها، أو على طلب شيء يخالف الإسلام أو السنة. وأمَّا السياحة: وهي الخروج في الفلاة لغير مقصد معين كما فعله إحدى الطوائف الثلاث من قوم عيسى عليه السلام، فهي منسوخة في شريعتنا. وروى الإمام أحمد - بإسناد جيد - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن راكب الفلاة وحده (¬1). وقال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين، مع أن جماعة من إخواننا قد ساحوا السياحة المنهي عنها متأولين في ذلك، أو غير عالمين بالنهي عنه. نقله ابن تيمية (¬2). وتأول حجة الإسلام، وغيره خروج كثير من صالحي هذه الأمة على التوكل والثقة بالله تعالى، والأنس به، مع أن من فعل ذلك منهم لم يضيع في سياحته حقاً من حقوق الله تعالى، ولا من حقوق عباده (¬3). وممن عرف بذلك أبو تراب النخشبي، وإبراهيم الخواص، وأبو ¬
تنبيه
حمزة البغدادي، وغيرهم. وحكاياتهم في ذلك مشهورة، ونقلت منها نبذة في "منبر التوحيد". * تَنْبِيْهٌ: لا تختص السياحة بالنصارى، بل كانت في بني إسرائيل قديماً. روى ابن جرير عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: كانت السياحة في بني إسرائيل (¬1). وروى أبو نعيم عن وهب أيضاً قال: كان الرجل في بني إسرائيل إذا ساح أربعين سنة أرِي شيئاً - كأنه يريد علامة القبول - فساح رجل من ولد زنية أربعين سنة، فلم ير شيئاً، فقال: يا رب! إن أحسنت وأساء والدي (¬2) فمَا ذنبي؟ قال: فرأى ما كان أُرِيَ غيره (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عنه أيضاً قال: إن عابداً من بني إسرائيل تعبد وساح حتى كان مع الوحش، وحتى عفا شعره، وكان يغطي فرجه، فمات إنسان ليس له وارث غيره، فكرهوا أن يعرض المال حتى يعلموه، فجعلوا يقعدون له، فإذا نظر إليهم يفر منهم، فقال إنسان: تجعلون لي شيئاً آتيكم بخبره؟ ¬
فجعلوا له شيئاً، فقعد له، فلما رآه استقبله، وألقى ثيابه، فلما نظر إليه وقف وغض بصره، فقال: ائذن لي أَدْنُ منك. قال: ادنه. قال: فلان مات وترك مالاً، ولم يترك وارثاً غيرك، فكرهوا أن يعرضوا لماله حتى يعلموك. قال: كم له منذ مات؟ قال: كذا وكذا. قال: فكم لي منذ فارقتكم؟ قال: كذا وكذا. قال: فإني قد مت قبله بكذا وكذا، فولَّى عنه وتركه (¬1). والحكايات عن بني إسرائيل في سياحاتهم وقعودهم في الصوامع كثيرة. وأما السياحة التي أثنى الله - عز وجل - بها على المؤمنين في سورة براءة، والمؤمنات في سورة التحريم؛ فهي الصيام، أو الهجرة، أو طلب العلم، أو هي الجهاد في حق الرجال. روى الحاكم - وصححه - عن أبي هريرة، وابن مردويه عن ابن مسعود قالا رضي الله تعالى عنهما: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السائحين، ¬
فقال: "هُمُ الصَّائِمُونَ" (¬1). وروى الطبراني بإسناد جيد، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: الصائمون هم السائحون (¬2). وروى عبد بن حميد، وابن المنذر عن عكرمة، وأبي مالك، وقتادة رحمهم الله تعالى في قوله تعالى: {سَائِحَاتٍ} [التحريم: 5]، قالوا: صائمات (¬3). وروى ابن جرير عن عائشة رضي الله عنها: أنه كانت سياحة هذه الأمَّة الصيام (¬4). قال سفيان بن عيينة: إنما سمي الصائم السائح لأنه تارك للذات الدنيا كلها من المطعم والمشرب والمنكح، فهو تارك للدنيا بمنزلة السائح. أخرجه ابن جرير، وابن المنذر (¬5). وروى ابن أبي حاتم عن ابن زيد رحمه الله تعالى قال: السائحون المهاجرون (¬6). ¬
166 - ومن أعمال اليهود والنصارى: الخصاء، والاختصاء تقربا.
وروى هو وأبو الشيخ عن عكرمة قال: هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم (¬1). وروى أبو داود، والطبراني، والحاكم، والبيهقي عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: أن رجلًا قال: يا رسول الله! ائذن لي في السياحة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيْلِ اللهِ" (¬2). 166 - ومن أعمال اليهود والنصارى: الخصاء، والاختصاء تقرباً. وهو من جملة التَّبتل والرهبانية، وهو في هذه الشريعة حرام باتفاق العلماء، بل صرح والدي رحمه الله تعالى، وغيره بأنه من الكبائر. روى الطبراني عن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه: أن عثمان بن مظعون رحمه الله تعالى قال: يا رسول الله! ائذن لي في الاختصاء. فقال رسول الله جه: "إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَنَا بِالرَّهْبانِيَّةِ الْحَنِيْفِيَّةَ السَّمْحَةَ، وَالتَّكْبِيْرَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ". وروي الاختصاء أيضاً عن بعض عباد بني إسرائيل. ¬
تنبيه
* تَنْبِيْهٌ: الخصاء في هذه الأمة للمماليك السود كثيراً، وللبيض قليلاً، وغيرهم هو مما وقع في هذه الأمة كما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - في عموم أخباره من أن أمته ستركب سنن من قبلهم من بني إسرائيل وغيرهم، ووقع الإخبار منه به على الخصوص فيما رواه ابن عدي في "كامله"، والدارقطني في "أفراده"، وابن عساكر في "تاريخه" عن معاوية رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَيَكُونُ قَوْمٌ يَنَالُهُمُ الْخِصَاءُ؛ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا". وإنما وصى بهم لضعفهم، وانقطاع شهوة النكاح عنهم، وانحباسهم عن قضائها مع عروضها لهم، أو لأنهم من مظنات الخير لأن أكثر ما يمنع الإنسان عن الخير اتباع هواه وشهوته، وقد سلب هؤلاء شطر الشهوة أو معظمها، ونقصت منهم دواعي الفتنة. 167 - ومن أخلاق أهل الكتاب: تزوج المرأة لجمالها أو مالها أثارة للمال والجمال على الدين. وقد علمت ما في ذلك. وفي الحديث: "تُنْكَحُ الْمَرْأة لأَرْبَع: لِمَالِهَا، وَلِحُسْنِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِيْنِهَا؛ فَاظْفَرْ بِذاتِ الدِّيْنِ تَرِبَتْ يَدَاكَ". رواه الشيخان، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة، والدارمي عن جابر رضي الله تعالى عنه (¬1). ¬
وأخرجه الإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان في "صحيحه"، والدارقطني، والحاكم وصححه، من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى إِحْدَى ثَلاثِ خِصَالٍ: تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى مَالِهَا، وَتُنْكَحُ الْمَرْأة عَلَى جَمَالِهَا، وَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى دِيْنِهَا وَخُلُقِهَا؛ فَخُذْ ذَاتَ الدِّيْنِ وَالْخُلُقِ تَرِبَتْ يَدَاكَ" (¬1)؛ أي: إن تركتها لغيرها، أو لا يريد الدعاء على عادة العرب في إطلاق ذلك، ونحوه على وجه التعجب. وحذف الحسب في هذه الرواية لأن أكثر الناس لا يلتفتون إليه؛ إذ ليسوا كلهم ذوي أحساب، أو لأنهم يؤثرون المال والجمال عليه، أو لأنه أشار إليه بالخلق فإنه يتبع الحسب غالباً، وهو مرغوب فيه مع الدين، ولذلك جمع بينهما في الحديث. وحكي أن نوح بن أبي مريم قاضي مروان أراد أن يزوج ابنه فاستشار جاراً له مجوسياً، فقال: سبحان الله! الناس يستفتونك وأنت تستفتيني؟ فقال: لا بد أن تشير علي. فقال: إن رئيسنا كسرى كان يختار المال، ورئيس الروم قيصر كان يختار الجمال، ورئيس العرب كان يختار النسب، وإن نبيكم محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان يختار الدين؛ فانظر أنت لنفسك بمن تقتدي (¬2). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه قال: كان لموسى عليه السلام أخت يقال لها: مريم، فقالت له: يا موسى! إنك تزوجت إلى شعيب عليه السلام، وأنت يومئذ لا شيء لك، ثم أدركت ما أدركت، فتزوجْ في ملوك بني إسرائيل. قال: ولِمَ أتزوج في ملوك بني إسرائيل؟ فو الله ما أحتاج إلى النساء منذ كلمت ربي - عز وجل -. قال: فاعْتَدَتْ عليه في الكلام، فدعا عليها، فَبَرِصَت. قال ثم شق ذلك على موسى عليه السلام، قال: فدعا أخاه هارون عليه السلام، فقال: واصل يا هارون، فصاما ثلاثاً وواصلا، ولبسا المُسُوح، وافترشا الرماد، وجعلا يدعوان ربهما - عز وجل - حتى كشف عنها ذلك البلاء الذي بها (¬1). واعلم من آثر مال المرأة، أو جمالها، أو حسبها على الدين عومل فيها بعكس مراده، وضد مقصوده. واشتهر على الألسنة: من تزوج امرأة لمالها أو جمالها حرمه الله مالها وجمالها. وليس في الحديث بلفظه، لكن يؤيد معناه ما رواه أبو نعيم، وابن النجار عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ ¬
تَزَوَّجَ امْرَأة لِعِزِّها لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ ذُلاًّ، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِمَالِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ فَقْرًا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِحَسَبِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ دنَاءَةً، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا إِلاَّ ليَغُضَّ بَصَرَهُ وَيُحْصِنَ فَرْجَهُ أَوْ يَصِلَ رَحِمَهُ بَارَكَ اللهُ لَهُ فِيْهَا، وَبَارَكَ لَهَا فِيْهِ". ولفظ ابن النجار، وفيه زيادة: "كَانَ ذَلِكَ مِنَّة، وَبُورِكَ لَهُ فِيْهَا وَبُورِكَ لَهَا فِيْهِ" (¬1). فإن قلت: فقد قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]. وروى ابن أبي شيبة، وأبو داود في "مراسيله" عن عروة مرسلاً، والبزار، وغيره عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انْكَحُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّهُنَّ يَأتِيْنَكُمْ بِالْمَالِ". وفي لفظ: "تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ يَأتِيْنَكُمْ بِالأَمْوَالِ" (¬2). ¬
وفي لفظ أخرجه الخطيب، وغيره، وصححه الحاكم: "تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنهنَّ يَأتِيْنَ بِالْمَالِ" (¬1). قلت: إنهم كانوا يمتنعون عن التزوج مخافة العَيْلة والفقر، وكان الفقراء أشد امتناعاً منه مخافة الفاقة، فأمرهم الله تعالى بالنكاح وتزويج العبيد والإماء اتكالاً على الله تعالى، وأشار إليهم بأنه يغنيهم، ويضم رزق الأزواج إلى رزقهم، ألا ترى كيف قال: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]؟ ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجزْ لكم ما وعدكم من الغنى؛ أي: من فضله، ثم تلا الآية. أخرجه ابن أبي حاتم (¬2). وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: اطلبوا الفضل في الباءة، ثم تلا الآية. وفي لفظ: ابتغوا الغنى في الباءة. أخرجه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة. وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: التمسوا الرزق - أي: من الله تعالى - بالنكاح. أخرجه الديلمي. ¬
168 - ومن أخلاق أهل الكتاب: أنهم كانوا لا يتزوجون بالأمة، ولا بامرأة من غير دينهم.
بل روى الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنهمْ: النَّاكِحُ يُرِيْدُ العَفَافَ، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيْدُ الأَدَاءَ, وَالغَازِي فِي سَبِيْلِ اللهِ" (¬1). فانظر كيف شرط في النكاح إرادة العفاف، وهذا أوضح دليل على أن الناكح الموعود بالغنى والعون هو الصحيح النيَّة. وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِنَّهُنَّ يَأتِيْنَ بِالْمَالِ" فالمراد به أن تزوجهن يكون سبباً لزيادة الرزق من الله تعالى، وطريق الرزق في ظاهر العادة حصول المال، وكل مال يحصل فهو من فضل الله تعالى، وفضل الله تعالى ممنوع عن الذي ينكح المرأة لمالها، أو جمالها، أو غيرهما لفساد نيته بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِمَالِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ فَقْرًا"؛ فافهم ذلك فإنه التحقيق في هذا المقام! 168 - ومن أخلاق أهل الكتاب: أنهم كانوا لا يتزوجون بالأَمَة، ولا بامرأة من غير دينهم. وشرعنا جاء بإباحة الأَمَة لمن لم يجد طولَ حرة، وبالكتابية أيضاً بشرطه. ¬
169 - ومنها: إبداء المرأة زينتها لغير محارمها من الرجال، وعدم الاحتجاب.
روى ابن أبي شيبة عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: إنَّ ممَّا وسع الله على هذه الأمة نكاح الأَمَة والنصرانية (¬1). وروى الطبراني - ورجاله ثقات - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: نزلت هذه الآية: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، فحجز الناس عنهن حتى نزلت بعدها: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، فنكح الناس من نساء أهل الكتاب (¬2). وإنما أباح الله تعالى الكتابيات للمسلمين لأن النكاح نوع من الرق والامتهان، ولذلك لم يجز للمسلمة أن ينكحها مشرك. 169 - ومنها: إبداء المرأة زينتها لغير محارمها من الرجال، وعدم الاحتجاب. ومن ثم أكثر الزنا في بني إسرائيل. ولم يكن الحجاب في صدر الإسلام واجباً، ثم نزلت آية الحجاب، واستقر الأمر على ذلك، ولم يشرع من أحكام النساء الخاصة بهن شيء أفضل ولا أجمل من الاحتجاب لما في ذلك من حسم مادة النظر واللمس وغيرهما، وخير شيء للمرأة أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل كما قالت فاطمة رضي الله عنها، وحمدها عليه والدها سيد المرسلين ¬
تنبيه
كما تقدم في الحديث - صلى الله عليه وسلم -. * تَنْبِيْهٌ: روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن علي بن طلحة رحمه الله تعالى قال: بينما عيسى عليه السلام مع أصحابه مرت امرأة فنظر إليها بعضهم، فقال له بعض أصحابه: زنيت. فقال له عيسى عليه السلام: أرأيت لو كنت صائماً فمررت بشواء فشممته، أكنت تفطر؟ قال: لا (¬1). وقد وردت شريعتنا بخلاف ذلك. روى مسلم، وأبو داود، والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيْبُهُ مِنَ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ: العَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الكَلامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا البَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالقَلْبُ يَهْوَى وَيتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ" (¬2). وفي رواية: "وَالفَمُ يَزْنِي وَزِنَاهُ القُبَلُ" (¬3). ¬
تنبيه ثان
* تَنْبِيْهٌ ثانٍ: لم يؤمر أهل الكتاب بأن تحتجب نساؤهم زيادةً في البلاء، لا إباحة للنظر؛ فإن النظر العمد كان محرماً عليهم، وواقعة عيسى عليه السلام المتقدمة لعلها محمولة على نظر الفجأة، وهي لا تدخل تحت التكليف. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: انتهت بنو إسرائيل إلى موسى عليه السلام فقالوا: إن التوراة تكثر علينا، فائتنا بجماع من الأمر فيه تخفيف. قال: فأوحى الله تعالى إليه: ما سألك قومك؟ قال: يا رب! أنت أعلم بما سألوني. قال: إنما بعثتك لتبلغني عنهم وتبلغهم عني. قال: فإنهم سألوني جماعاً من الأمر فيه تخفيف، ويزعمون أن التوراة تكثر عليهم. فقال الله - عز وجل -: قل لهم: لا تظالموا في المواريث، ولا تدخلن عينا عبد بيتاً حتى يستأذن، وليتوضأ من الطعام كما يتوضأ للصلاة. فاستخفوها يسيراً، ثم لم يقوموا بها. قال الحسن: فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: "تَقَبَّلُوا لِي بِسِتٍّ أَتَقَبَّلْ لَكُمْ بِالْجَنَّةِ: مَنْ حَدَّثَ فَلا يَكْذِبْ، وَمَنْ وَعَدَ فَلا يُخْلِفْ، وَمَنِ اؤْتُمِنَ فَلا يَخُنْ، احْفَظُوا أَيْدِيَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَفُرُوْجَكُمْ" (¬1). ¬
170 - ومن أعمال بني إسرائيل: التظالم في المواريث.
والحديث المرفوع منه مرسل، لكن رواه ابن أبي شيبة، والحاكم وصححه، والبيهقي موصولاً عن أنس - رضي الله عنه - (¬1). 170 - ومن أعمال بني إسرائيل: التظالم في المواريث. كما دل عليه حديث الحسن هذا، وهو شامل لظلم بعض الوارثين لبعضٍ في ميراثه، ولظلم القضاة، واتباعهم للورثة في مواريثهم طالبين أن يقسموا بينهم وليس الأمر كذلك، ولكن يريدون ظلمهم وأخذ بعض الميراث منهم، وإن أمكنهم أخذه كله فعلوا، حتى كأن لهم فيه نصيباً مفروضاً، بل لم يزل كل قاض فعل ذلك عن حضرة الله تعالى مرفوضاً. ولقد أحسن الحافظ جمال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في قوله مقتبساً: [من الخفيف] قَدْ بُلِينا فِي عَصْرِنا بِقُضاةٍ ... يَظْلِمُونَ الأَنامَ ظُلْماً عَمَّا يَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمَّا ... ويُحِبُّوْنَ الْمالَ حُبًّا جَمَّا ومن أقبح ما يقع منهم أنهم يتعرضون للوارثين البالغين الحاضرين من غير أن يكون فيهم يتيم ولا غائب؛ فإن كان فيهم يتيم أو غائب فما ¬
أشد القاضي وأتباعه على البالغين الحاضرين في حجة اليتامى والغائبين! ومنهم من يتجاوز فيكلف الوارث محصول القسمة أكثر من متحصل الميراث خصوصاً إذا كانوا ضعفاء، بل قد يكلفونه المحصول وليس للمورث عقار ولا منقول، وربما ختموا على الميراث وكلفوهم الاستدانة لمؤنة التجهيز، ولما يأخذونه منهم باسم الخدم، وأجرة القدم، ثم يماكسونهم ليقطعوا لهم كمية، ويجتهدون أن يكون أضعاف ما يزعمونه لهم بالقوانين السلطانية، ولا يفكون الختوم عنهم حتى يستوفوا المحصول منهم، ثم يكلفهم الرسول الفاك لهم الختم أجرة قدمه بالعنف حتى يثنى على من يستوفي ذلك منهم باللطف؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. ولقد روى الثعلبي في تفسيره هذه الآية عن إبراهيم قال: كان شريح رحمه الله تعالى يقول: سيعلم الظالمون حظ من نقصوا أن الظالم ينتظر العقاب، وأن المظلوم ينتظر النصر (¬1). وقلت عاقداً لصدر كلامه: [من البسيط] يا رَبِّ قَوْمٌ عَلى دُنْياهُمُ حَرَصُوا ... تَوَسَّطُوا لُجَّةً مِنْها فَما خَلَصُوا ¬
171 - ومن أعمال أهل الكتاب اجتماع الرجال والنساء من غير محرم ولا ضرورة.
عَدَوْا عَلى النَّاسِ ظُلْماً فِي تَجَبُّرِهِمْ ... سَيَعْلَمُ الظَّالِمُوْنَ حَظَّ مَنْ نَقَصُوا 171 - ومن أعمال أهل الكتاب اجتماع الرجال والنساء من غير محرم ولا ضرورة. روى الإمام أحمد عن مالك بن دينار قال: كان حبر من أحبار بني إسرائيل يغشى منزله الرجال والنساء، يعظهم فيذكرهم بأيام الله تعالى، قال: فرأى بعض بنيه يوماً غمز النساء، فقال: مهلاً يا بني مهلاً. قال: فسقط من سريره، وانقطع نخاعه، وأسقطت امرأته، وقتل بنوه في الجيش، فأوحى الله - عز وجل - إلى نبيهم: أن أخبر فلاناً أني لا أخرج من صلبك صديقاً أبداً، أما كان غضبك لي إلا أن قلت: مهلاً يابني مهلاً (¬1). وقد تقدم عن الحسن رحمه الله تعالى: أن اجتماع الرجال والنساء للدعاء، بدعة من أعمال بني إسرائيل. 172 - ومن أخلاق اليهود: التحرز عن إتيان الزوجة إلا على حرف. روى الشيخان، وأبو داود، والترمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها - وفي ¬
173 - ومنها: ترك العقيقة عن الجارية.
رواية: من ورائها - جاء الولد أحول، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] (¬1). وروى أبو داود، والحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنما كان هذا الحي من الأنصار - وهم أهل دين - مع هذا الحي من يهود - وهم أهل كتاب - كانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، وكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب أنهم لا يأتون النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما يكون للمرأة، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً، ويتلذذون بهن مدبرات، ومقبلات، ومستقبلات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك، فأنكرت عليه، وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف، فَسَرَى أمرُها، فبلغ ذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]؛ أي: مقبلات، ومدبرات، ومستقبلات؛ يعني بذلك: موضع الولد (¬2). 173 - ومنها: ترك العقيقة عن الجارية. روى البيهقي في "السنن" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ اليَهُودَ تَعُقُّ عَنِ الغُلامِ وَلا تَعُقُّ عَنِ الْجَارِيَةِ؛ ¬
174 - ومنها: عدم اعتبار الطلاق الثلاث شيئا.
فَعُقُّوا عَنِ الغُلامِ بِشَاتَيْنِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ بِشَاةٍ" (¬1). ولا شك أن عدم الاهتمام في ذلك بالجارية مع الاهتمام بالغلام خلق جاهلي تابع للسرور بالغلام والاكتئاب للجارية، وهو خلق مكروه. وليس منه تضعيف عقيقة الغلام، بل هذا تابع لما ميَّزه الله تعالى به لمعنى الذكورة كما أضعف نصيبَه في الميراث، وتكميل العقل من حيث إن شهادته بشهادة امرأتين. 174 - ومنها: عدم اعتبار الطلاق الثلاث شيئاً. فإنَّ اليهود كما تقدَّم عن الشعبي: لا يرون الطلاق الثلاث شيئاً؛ قال: وكذلك الرافضة. وقال ابن تيمية: إذا لم يتلفَّظ بالطلاق ثلاث مرات لم تقع الثلاث، وإذا قال: هي طالق ثلاثاً لم تطلق إلا واحدة (¬2). وهذا القول خلاف ما أجمع عليه العلماء من المذاهب الأربعة. وقد رده عليه الشيخ تقي الدين السبكي، والشيخ كمال الدين الزملكاني في مؤلفين وقفت عليهما، وغيرهما. وهي إحدى المسائل التي خالف ابن تيمية فيها الناس، وانفرد ¬
بها (¬1)، وامتحن من أجلها، وحُبس مرات بالإسكندرية ودمشق، ومات ¬
في حبس قلعتها، واختلف الناس في أمره، وأقربهم إلى الإنصاف من قال: هو من مشاهير العلماء، ولكن كان علمه أوسع من عقله. والحاصل أن تقليده في هذه المسألة وسائر المسائل التي انفرد بها غير جائز، وأضرُّ مسائلِه على الناس هذه المسألة؛ لأنه أدخل بها الزِّنا الصرف على خلائق كثيرة منذ زمانه إلى الآن (¬1). ¬
وفي كل زمان يقيض الله للناس شيطاناً في صورة عالم يفتيهم بمذهب ابن تيمية في الطلاق منذ زمان إلى الآن، لكن مستخفياً لا يستطيع التجاهر به (¬1). نعم، يفشو حديثه في مجالس العلماء ولا ينكرونه إلا قليلاً. وقد كان في هذا العصر واحد منهم كان يفتي العوام الغوغاء بذلك يأخذ في مقابلة ذلك أموالاً كثيرة، ومن لم يدفع إليه مالًا قال له: لا تعود إليك، فإن دفعه إليه أفتاه برد زوجته. وبلغني أن بعض الغوغاء جاء إليه في ذلك فقال له: إنه طلق زوجته ثلاثًا، فقال: هات ثلاث قروش وأردها إليك. قال: لا إلا قرشًا واحدًا. قال: اذهب عنا، فما بقي ردها إليك جائزًا. فقال له العامي: قد استخرت الله في ترك مراجعتها، وأوفر علي ¬
مالي وديني، فلو كان ردها إليَّ جائزاً لم ينحصر هذا الحكم فيك حتى تطلب عليه المال. ثم إن الله تعالى أهلكه قريبًا في أواخر سنة سبع وألف، وأراح الله منه العباد والبلاد، وبعد أن نكب في دينه، وفي ماله، وفي عرضه وجاهه، وفي بدنه؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد روى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر في حديث طويل: "مِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ أَنْ تَكْثُرَ أَوْلادُ الزنَا". فقيل لابن مسعود: وهم مسلمون؟ قال: نعم، يأتي على الناس زمان يطلق الرجل امرأته طلاقها، فيقيم على فراشها، فهما زانيان ما أقاما (¬1). واعلم أن عامة الناس الآن في الطلاق على أقسام: فمنهم: من يكثر الحلف بالطلاق، ثم لا يبالي حلف صادقاً أو كاذبًا، ولا يهتم بالوقوع وعدمه، ولا يسأل عن ذلك العلماء. وقد لطف بعض المجان إذ تعجب متعجب بحضوره من كثرة ما يحلف رجل بالطلاق ولا يبالي، بل لا يكاد يتكلم في أمر بشيء إلا أكد كلامه بالطلاق، وهو غير مهتم بذلك، ولا وجل من ¬
معاشرة الزوجة، فقال له الماجن: إنما قال الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، وهذا يحلف في اليوم سبعين مرة، فهو قد جاوز القنطرة من سنين. ومنهم: من إذا وقع عليه الطلاق ثلاثًا في ملأ من الناس يذهب يسأل العلماء حتى ينتهي إلى فاسق يفتيه بمذهب ابن تيمية، ثم يقول للناس: راجعها لي فلان، ولم يكن ذلك منه حرصاً على دينه، ولكن خشية أن يستعدي عليه عدو له عند الحكام فيغرَّم، ولو كان له مُسكة من دينه لعمل بما يفتيه به سائر علماء البلدة. ومنهم: من يحلف بالطلاق، أو يعلقه على شيء، أو على أشياء، فيخلع زوجته على عوض عند الحنبلي لأنه لا يعد الخلع طلاقاً، ثم يراجعها عند الشافعي لئلا تعود الصفة المحلوف عليها، فربما خلع زوجته ألفًا، ثم يعود إليها. ومسألته هذه مركبة من مذهبين لا خلاص له في كل منهما؛ فإن الشافعي يقول بعدم عود الصفة المحلوف عليها بسبب الخلع، لكنه يعد الخلع بطلقة، فإذا خلعها ثلاث مرات لم تعد إليه إلا بعد زوج آخر، والحنبلي يقول بعود الصفة، ولا يمنعه الخلع. ثم إن تقليده في الخلع حيلة لئلا يحسب عليه بطلقة، والحيلة عنده باطلة، بل متى خلع حيلة وقع عليه الخلع طلاقاً كما أفادنا ذلك غير واحد من ثقات علماء الحنابلة، وعادت الصفة، فيلزم أن يعود
أمره إذا راجع إلى الزنا بمجرد فعل المحلوف عليه عند الحنبلي، وبتمام عدة الإخلاع ثلاثًا عند الشافعي، وهذه البلية يقع فيها كثير من الناس. ومنهم: من يقول: طلقت زوجتي في حال الغضب الشديد، فيرتب له بعض الفسقة سؤالًا أنه وصل من شدة غضبه إلى حد الغيبة والجنون، فيفتي بأن الطلاق لا يقع، والحالل طلاق الغضبان واقع، وإنك لو سألته عن مجلس غضبه لقصه لك مرتبا مفصلاً مستحضرًا لما وقع فيه من قال وقيل، فكيف يلحق من هذا حاله بمن زال عقله بالكلية. ويتعين على من أقامه الله تعالى في منصب الإفتاء أن يتحرى في مسائل الطلاق والفروج لشدة خطرها، فقد كان ابن سيرين رحمه الله تعالى لا يفتي في الفرج بشيء فيه اختلاف (¬1). وقال جعفر بن إياس: قلت لسعيد بن جبير: ما لك لا تقول في الطلاق شيئًا؟ قال: ما من شيء إلا قد سئلت عنه، ولكني أكره أن أحل حرامًا أو أحرم حلالًا (¬2). رواهما الدارمي. ¬
175 - ومن أخلاق أهل الكتاب: عقوق الوالدين، وقطع الأرحام، وإهانة اليتامى، وأكل أموالهم، وانتهار المسكين.
175 - ومن أخلاق أهل الكتاب: عقوق الوالدين، وقطع الأرحام، وإهانة اليتامى، وأكل أموالهم، وانتهار المسكين. قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} [البقرة: 83]. أي: عن ذلك كله؛ أي: تركتم ذلك كله. كما رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس (¬1). وخالفتم ما أُمِرتم به، خاطبهم بعد الإخبار عنهم على وجه الالتفات {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83] عن الاهتمام بأمرنا، والوفاء بميثاقنا، وعن التوبة والرجوع إلينا. وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن وهب بن منبه قال: إن في الألول التي كتب الله عز وجل لموسى عليه السلام: يا موسى! وقِّر والديك؛ فإنه من وقر والديه مددت له في عمره، ووهبت له ولدًا يبرُّه، ومن عق والديه [قصرت له من عمره و] وهبت له ولدًا يعقه (¬2). وروى أبو نعيم في "الحلية" عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: إن الله عز وجل قال: يا سماء أنصتي، ويا أرض استمعي؛ فإن الله يريد أن يذكر ¬
شأن ناس من بني إسرائيل، إني عهدت إلى عباد من عبادي ربيتهم في نعمتي، واصطفيتهم لنفسي، ردوا عليَّ كرامتي، ورغبوا عن طاعتي، وأخلفوا وعدي، تعرف البقر أوطانها، والحمر أرويتها فتفزع، فويل لهؤلاء القوم الذين عظُمت خطاياهم، وقست قلوبهم، فتركوا الأمر الذي لو كانوا عليه، نالوا كرامتي، وسُمُّوا أحبائي، فتركوا قولي، ونبذوا أحكامي، وعملوا بمعصيتي وهم يتلون كتابي، ويتفقهون في ديني لغير مرضاتي، فيقربون لي القربان، وقد أبعدتهم من نفسي، ويذبحون لي الذبائح التي قد غصبوا عليها خلقي، يُصَلُّون فلا تصعد إليَّ صلاتهم، ويدعوني فلا يعرُج إليَّ دعاؤهم، يخرجون إلى المساجد وفي ثيابهم الغلول، ويسألوني رحمتي وهم يقتلون من سأل بي، فلو أنهم أنصفوا المظلوم، وعدَّلوا الأيام، ورحموا الأيتام، وتطهروا من الخطايا، وتركوا المعاصي، ثم سألوني لأعطيتهم ما سألوا، وجعلت جنتي لهم منزلاً، وما كان بيني وبينهم رسول، ولكن اجترؤوا عليَّ، وظلموا عبادي، فأكلَ وليُّ اليتيمِ مالَه، وأكل ولي الأمانة أمانته، وجحدوا الحق، ليشترك الأمير ومن تحته، ويرشي الرسول، ويشرك من أرسله، ويرشي الأمير، فيقتدي به من تحته، ويل لهؤلاء القوم، لو قد جاء وعدي، ثم كانوا في الحجارة، لشققت عنهم بكلمتي، ولو قبروا في التراب، لنفضت عنهم بطاعتي، ويل للمدن وعمرانها, لأسلطن عليهم السباع، أعيد فيها بعد تحية الأعراس صراخ الهام، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد شرف القصور وغول السباع، وبعد ضوء السراج وهج العجاج،
فائدة جليلة
ولأبدلن رجالهم بتلاوة القرآن انتهار الأرانب، وبعمارة المساجد كناسة المرابط، وبتاج الملك خفاق الطير، وبالعز الذل، وبالنعمة الجوع، وبالملك العبودية. فقال نبي من أنبيائه الله أعلم من هو: يا رب! من رحمتك أتكلم بين يديك، وهل ينفعني ذلك شيئًا، وأنا أذل من التراب؟ إنك لمخرب هذه القلوب، ومهلك هذه الأمة، وهم ولد خليلك إبراهيم، وأمة صفيك موسى، وقوم نبيك داود، فأي الأمة تجترأ عليك بعد هذه الأمة، وأي قرية تعصيك بعد هذه القرية؟ قال الله عز وجل: إني لم أستكثرهم، ولم أستوحش بهلاكهم، وإنما أكرمت إبراهيم، وموسى، وداود بطاعتي، ولو عصوني لأنزلتهم منزلة العاصين (¬1). * فائِدَة جَلِيْلَةٌ: روى الحاكم في "المستدرك"، والبيهقي، والأصبهاني عن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث طويل: "إِنَّ الله تَعالَى أَوْحَى إلَى يَعْقُوبَ عليهِ السَّلامُ: يَا يَعْقُوبُ! ألمْ تَدْرِ لِمَ أَذْهَبْتُ بَصَرَكَ، وَحَنَيْتُ ظَهْرَكَ، وَلِمَ فَعَلَ إِخْوَةُ يُوْسُفَ بِيُوسُفَ مَا فَعَلُوا؟ قالَ: لا. قالَ: إِنَّهُ أَتَاكَ يتيْمٌ مِسْكِيْنٌ وَهُوَ صَاِئمٌ جَائِعٌ، وَذَبَحْتَ أَنْتَ وَأَهْلُكَ ¬
شَاةً فَأكلْتُمُوهَا، وَلَمْ تُطْعِمُوهُ، إِنِّي لَمْ أُحِبَّ مِنْ خَلْقِي شَيْئاً حُبِّي اليَتَامَى وَالْمَسَاكِيْنَ، فَاصْنَعْ طَعَامًا وَادْعُ الْمَسَاكِيْنَ". قال أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَكَانَ يَعْقُوبُ علَيهِ السَّلامُ كُلَّمَا أَمْسَى نَادَ مُنَادِيْهِ: مَنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَحْضُرْ طَعَامَ يَعْقُوبَ" (¬1). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن عبد الرحمن بن أبزى قال: قال داود لسليمان عليهما السلام: كن لليتيم كالأب الرحيم، واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد (¬2). قلت: هذا معناه في كتاب الله تعالى حيث يقول: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9]. قال بعض العلماء: هذا الخطاب لولاة اليتامى يقول: من كان في حجره يتيم فليحسن إليه، وليأت بما يحب أن يفعل بذريته من بعده. وروى الطبراني في "الأوسط"، والأصبهاني -وحسنه بعض مشايخه- عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا قَعَدَ ¬
176 - ومن أعمال اليهود والنصارى، وأخلاقهم: عداوة أولياء الله تعالى، وإيذاؤهم، والتقصير في حقوقهم.
يَتِيْم مَعَ قَوْمٍ عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيَقْرُبَ قَصْعَتَهُمْ شَيْطَانٌ" (¬1). وروى الإِمام أحمد بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا شكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه، فقال: "امْسَحْ عَلَى رَأْسِ اليتيْمِ، وَأَطْعِمِ الْمِسْكِيْنَ" (¬2). 176 - ومن أعمال اليهود والنصارى، وأخلاقهم: عداوة أولياء الله تعالى، وإيذاؤهم، والتقصير في حقوقهم. وهذا مما لم ينكر، بل هم يفعلون ذلك مع الأنبياء عليهم السلام، فما ظنك به مع الأولياء؟ روى الإِمام أحمد عن وهب بن منبه قال: وجدت في كتاب داود عليه السلام: أن الله تعالى يقول: بعزتي وبجلالي إنه من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما ترددت في شيء أريده ترددي عن موت المؤمن؛ قد علمت أنه يكره الموت ولا بد له منه، وأنا كره أن أسوءه (¬3). 177 - ومنها: التعيير بالفقر، والبلاء خصوصاً لأهل الدين. وهو من أبلغ الأذى المحرم. نعم، يجوز التعيير بالمعصية التي لم يتب منه على وجه الزجر ¬
178 - ومنها: العداوة والبغضاء لغير مرضاة الله تعالى.
والإنكار ليرجع عنها دون ما تاب منه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَه" كما أخرجه الترمذي، وابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة" عن معاذ. وكان بعضهم يرويه: "بِذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ" (¬1). وروى الدينوري عن الحسن رحمه الله تعالى قال: عيَّرت اليهود عيسى بن مريم عليهما السلام بالفقر، فقال: مِنَ الغِنى أتيتم (¬2). وروى الإِمام أحمد، والطبراني -بإسناد جيد- عن أبي جري الهجيمي -واسمه جابر بن سليم، [وقيل: سليم] بن جابر- أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني. فقال: "عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ، وإنْ امْرُؤٌ عَيَّرَكَ بِشَيْءٍ يَعْلَمُهُ فِيْكَ فَلا تُعَيِّرْهُ بِشَيْءٍ تَعْلَمُهُ فِيْهِ؛ يَكُنْ وَبَالُهُ عَلَيْهِ وَأَجْرُهُ لَكَ" (¬3). 178 - ومنها: العداوة والبغضاء لغير مرضاة الله تعالى. قال الله تعالى بعد أن ذكر اليهود، ولعنهم بسبب نقض الميثاق: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ¬
ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14]. وفي مرجع الضمير في قوله: "بينهم" وجهان: الأول: أنه يعود على النصارى فقط. والثاني: أنه يعود إليهم وإلى اليهود. وعليه: فله معنيان: الأول: أن العداوة والبغضاء بين الطائفتين. والثاني: أنه في كل من الطائفتين بين بعض منهم وبعض. وروى الإِمام أحمد، والترمذي وصححه، عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ: الْحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ، حَالِقَةُ الدِّينِ لا حالِقَةُ الشَّعْرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ لا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنبَّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ" (¬1). فأما العداوة والبغضاء لأهل المعاصي طلباً لمرضاة الله تعالى فإنها من سيما الصالحين والأولياء كما تقدم، لحديث معاذ بن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَحَبَّ للهِ وَأبْغَضَ للهِ، وَأَعْطَى للهِ وَمَنَعَ للهِ، وَأَنْكَحَ للهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيْمَانه". أخرجه الإِمام أحمد (¬2). ¬
179 - فمن أخلاق اليهود والنصارى: ترك السلام
وروى الخطيب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَعْرَضَ عَنْ صَاحِبِ بِدْعَه بُغْضًا لَهُ مَلأَ اللهُ قَلْبَهُ إِيْمَاناً، وَمَنِ انتهَرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ آمَنَهُ اللهُ يَوْمَ الفَزَعِ الأكبَرِ، وَمَنْ أَهَانَ صَاحِبَ بِدْعَه رَفَعَهُ اللهُ في الْجَنَّةِ مِئَةَ درَجَةٍ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ أَوْ لَقِيَهُ بِالْبِشْرِ وَاسْتَقْبَلَهُ بِمَا يَسُرُّهُ فَقَدِ اسْتَخَفَّ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). نعم، لو سلم عليه وكرمه اتقاءً لشره فلا بأس دفعا للشر، لا تربية للمحبة التي لأجلها شرع السلام في هذه الأمة. ولقد وقعت الإشارة في حديث الزبير المتقدم إلى أن الأمم الماضية إنما وقعت العداوة والبغضاء بينهم بسبب أنهم كانوا لا يُسَلِّم بعضهم على بعض؛ فإن السلام لم يكن من سننهم، وإنما هو مخصوص بهذه الأمة شرع فيهم لتربية المودة والمحبة. 179 - فمن أخلاق اليهود والنصارى: ترك السلام لما علمت أن السلام من خصوصيات هذه الأمة. روى الإِمام أحمد، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا حَسَدَتْكُمُ اليَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلامِ وَالتَّأمِيْنِ" (¬2). ¬
180 - ومنها: الإشارة عوضا عن السلام.
وروى الحكيم الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله تَعَالَى أَعْطَى أُمَّتِي ثَلاثَ خِصَالٍ لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُمْ: صَلاةَ الصُّفُوفِ، وَالتَّحِيَّةَ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَآمِيْنَ، إِلاَّ أَنَّهُ أَعْطَى مُوْسَى أَنْ يَدْعُوَ وُيؤَمِّنَ هَارُوْنَ". ورواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"، وابن عدي، والبيهقي في "الشعب" نحوه (¬1). 180 - ومنها: الإشارة عوضًا عن السلام. روى أبو يعلى -ورواته رواة الصحيح- والطبراني -واللفظ له- عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَسْلِيْمُ الرَّجُلِ بِأصْبَعٍ وَاحِدَةٍ يُشِيْرُ بِهَا فِعْلُ اليَهُود" (¬2). وروى الترمذي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لا تَشَبَّهُوْا ¬
بِاليَهُوْدِ وَلا بِالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ تَسْلِيْمَ اليَهُودِ الإِشَارَةُ بِالأَصَابعِ، وَتَسْلِيْمَ النَّصَارَى الإِشَارَةُ بِالأكُفِّ" (¬1). وروى البيهقي في "السنن" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُسَلمُوْا تَسْلِيْمَ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ تِسْلِيْمَهُمْ إِشَارَة بِالكُفُوْفِ وَالْحَوَاجِبِ" (¬2). قال النووي رحمه الله تعالى: وأما الحديث الذي رويناه في "كتاب الترمذي، عن أسماء بنت يزيد - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ في المسجد يومًا وعصبة من النساء قعود، فأوما بيده بالتسليم، قال الترمذي: الحديث حسن؛ فإنه محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين اللفظ والإشارة. يدل على ذلك أن أبا داود روى هذا الحديث، وقال في رواية: "فَسَلَّمَ عَلَيْنَا" (¬3)، انتهى (¬4). قلت: ولعلَّ إشارته - صلى الله عليه وسلم - بيده أيضًا كانت مخالفة لإشارة اليهود والنصارى، فهم يشيرون بالأكف والأصابع، وهو لم يشر كإشارتهم. ¬
181 - ومنها: تحريف السلام.
181 - ومنها: تحريف السلام. وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ اليَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُوْلُوْنَ: السَّامُّ عَلَيْكُمْ، فَقُوْلُوْا: وَعَلَيْكُمْ" (¬1). والسَّامُّ هُوَ الْمَوْتُ. وهذا يتفق لكثير ممن لا يعتني بالسلام ابتداءً ورداً، فيختصر السلام للعجلة، فيلفظ بمثل ما تلفظ به اليهود. واعلم أنه متى سلَّم اليهودي أو النصراني عليك فليس لك أن تزيد في الرد على: وعليك، أو: وعليكم؛ للأحاديث الواردة في ذلك. ولا يجوز ابتدائهم بالسلام لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَبْدَؤُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلامِ، فَإِذَا لَقِيْتُمْ أَحَدهمْ في طَرِيْقٍ فَاضْطَرُّوْهُ إِلَى أَضْيقِهِ". رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي (¬2). فإن احتيج إلى تحية أحد منهم تفاكها بغير السلام كقولك: هداك الله، وكيف حالك، فإن لم يحتج إلى ذلك فلا يقل شيئًا؛ فإن ذلك تبسط له وإيناس، وإظهار صورة ود، ونحن مأمورون بالإغلاظ عليهم، ومنهيون عن ودهم. ¬
182 - ومن أفعال اليهود والنصارى: قيام بعضهم لبعض، وهو منهي عنه.
182 - ومن أفعال اليهود والنصارى: قيام بعضهم لبعض، وهو منهي عنه. نعم، رخَّص فيه النووي أن يفعل مع العلماء والأكابر (¬1)، وبحث بعض المتأخرين وجوبه في هذه الأزمنة خشية ما يترتب على تركه من الحقد والعداوة. والحاصل أنه مما اضطر العلماء للقول بإباحته واستحبابه، وهو من المحن التي دخلت على هذه الأمة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله (¬2). وروى مسلم، وأبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث: "إِنْ كِدْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّوْمِ؛ يَقُومُوْنَ عَلَى مُلُوْكِهِمْ وَهُمْ قُعُوْد، فَلا تَفْعَلُوا" (¬3). 183 - ومن أفعال أهل الكتاب: الكلام السوء الشامل للغيبة والنميمة، وكلام ذي الوجهين، والشتم، والسب، وما يوهم ذلك وغيره، والكذب، والبهتان، والقذف، والخوض في الباطل، وغير ذلك. قال الله تعالى فيما أخذه من الميثاق علي بني إسرائيل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]. ¬
ثم أخبر عنهم أنهم تولوا عن ذلك إلا قليلاً منهم. وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46] وذلك أن اليهود كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرهم بشيء: سمعنا جهراً، وعصينا سراً. وكانوا يقولون له: اسمع غير مسمع، وهو يحتمل وجهين: - أن يكون ذمًا، والمعنى: غير مسمع كلاماً ترضاه، أو: غير مجاب إلى ما تدعو إليه، أو: مدعواً عليك بلا سمعت. - أو يكون مدحاً؛ أي: غير مسمع ما تكره، أو ما يسوؤك. وكانوا يقولون له: راعنا، وهو يحتمل وجهين أيضًا: - الذم؛ فإن: راعنا كلمة كانوا يتسابون بها بالعبرانية، أو السريانية، أو المعنى: راعنا لا رعيت. - والمدح؛ أي: راعنا نكلمْك، ونسمعْ لكلامك. والحاصل أنهم كانوا يتكلمون بما يحتمل وجهين: - ينوون الشتيمة والإهانة والدعاء. - ويظهرون ما يحمل على التوقير والاحترام لو عوتبوا عليه. قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46].
وروى ابن المنذر عن السدي قال: كان رجلان من اليهود مالك بن الصيف، ورفاعة بن يزيد إذا لقيا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالا له وهما يكلمانه: راعنا بسمعك، واسمع غير مسمع، فظنَّ المسلمون أن هذا شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبيائهم، فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] (¬1). وروى أبو نعيم في "الدلائل" بسند ضعيف، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: راعنا بلغة اليهود: السب القبيح. فكان اليهود يقولون ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - سرًا كما سمعوا أصحابه يقولون: أعلنوا بها، وكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} , فسمعها منهم سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، فقال لليهود: يا أعداء الله! لأن سمعتها من رجل منكم لأضربن عنقه (¬2). وروى عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم عن قتادة رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا}، قال: قولًا كانت اليهود تقوله استهزاءً، فكره اللهُ للمؤمنين أن يقولوا كقولهم (¬3). ¬
تنبيه
* تنبِيْهٌ: اعتاد كثير من مغروري هذا العصر ممن ينسب إلى الذكاء، والفطنة والكياسة، وليس كذلك لأنه لو كان كيسا فطناً لتحرَّز عمَّا لا يرضي الله تعالى: أن يكلم بعضهم بعضا بالكلام المصحَّف، أو المحرَّف، وغيرهما مما يحتمل وجهين: المدح والذم، أو التوقير والتحقير، يستعملونه في مزاحهم المزاح عن الحق، ثم غلب عليهم حتى ربما تكلَّموا به في جِدِّهم، فإذا تكلم أحد منهم بشيء من ذلك تضاحكوا واستحسنوا ذلك، وسموه تنكيتاً، وإنما هو تنَكب عن الحق، وهو حرام لأنه استهزاء بمسلم، واتهام له، وربما اشتمل على كذب أو فحش، وقد علمت أنه من أفعال اليهود. وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: مرَّ عيسى عليه السلام والحواريون على جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أَنتنَ ريح هذا! فقال عيسى: ما أشد بياضَ أسنانه! يعظهم وينهاهم عن الغيبة (¬1). وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لمَّا سمع عبد الله ابن سلام - رضي الله عنه - بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه وإلى أمه؟ ¬
قالَ: "أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ آنِفًا؛ أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَخْرُجُ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ. وَأمَّا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوْتٍ. وإذَا سَبقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأةِ نزَع الوَلَدُ إلَى أَبِيْهِ، وَإِذَا سَبقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نزَعَتْ". قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. يا رسول الله! إن اليهود قوم بُهتٌ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم بَهَتوني، فجاءت اليهود إليه: قال: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: أرأيتم إن أسلم؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه. قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله (¬1). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: مكتوب في الزبور: بطلت الأمانة والرجل مع صاحبه بشفتين ¬
184 - ومن أخلاق أهل الكتاب: سوء الظن بمن ظاهره الخير والصلاح.
مختلفتين، يهلك الله عز وجل كل ذي شفتين مختلفتين (¬1). وذكر أبو الليث السمرقندي، وأبو حامد الغزالي عن كعب قال: أصاب بني إسرائيل قحط، فاستسقى موسى عليه السلام مرَّات فما أجيب، فأوحى الله تعالى إليه: لا أستجيب لك ولمن معك وفيكم نمَّام، وقد أصرَّ على النميمة. فقال موسى عليه السلام: من هو يا رب حتى نخرجه من بيننا؟ فقال: يا موسى! أنهاكم عن النميمة وأكون نمَّاماً؟ فتابوا كلهم عن النميمة، فسقوا. وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن عمرو بن ميمون رحمه الله تعالى قال: لمَّا تعجَّل موسى عليه السلام إلى ربه عز وجل رأى في ظل العرش رجلًا، فغبطه لمكانه، وقال: إنَّ هذا لكريم على ربه، فسأل ربه عز وجل أن يخبره باسمه، فلم يخبره، وقال: أحدثك عن أمره بثلاث: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يَعُقُّ والديه، ولا يمشي بالنميمة (¬2). 184 - ومن أخلاق أهل الكتاب: سوء الظن بمن ظاهره الخير والصلاح. وعلى هذا، ونحوه يحمل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا ¬
185 - ومن أعمال اليهود: الفتنة، وإيقاع العداوة والبغضاء بين المتآلفين.
كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. روى ابن إسحاق، وابن جرير، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن أبا رافع القرظي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين اجتمعت عنده الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران، ودعاهم إلى الإِسلام: أتريد يا محمَّد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى؟ قال: "مَعَاذَ اللهِ أَنْ أَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ، أَوْ آمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْره". فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي} [آل عمران: 79] الآية (¬1). 185 - ومن أعمال اليهود: الفتنة، وإيقاع العداوة والبغضاء بين المتآلفين. روى ابن إسحاق، وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى قال: مرَّ شاس بن قيس -وكان من اليهود- على نفر من الأوس والخزرج يتحدَّثون، فغاظه ما رأى من تآلفهم بعد العداوة، فأمر شابًا معه من اليهود أن يجلس بينهم، فيذكر يومَ بُعاث، وكان يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج في الجاهلية، ففعل، فتنازعوا وتفاخروا حتى وثب رجلان أوس بن قيظي من الأوس، وحيَّان بن صخر (¬2) من الخزرج، ¬
186 - ومن أعمال اليهود والنصارى قبحهم الله تعالى: قتل النفس التي حرم الله تعالى بغير الحق.
فتقاولا، وغضب الفريقان، وتواثبوا للقتال، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء حتى وعظهم وأصلح بينهم، فسمعوا وأطاعوا، فأنزل الله تعالى في أوس وحيَّان، ومن كان معهما: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 100، 101] الآيات. وفي شاس بن قيس: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 99] الآية (¬1). وروى أبو نعيم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: إنه في الناموس الذي أنزل الله تعالى على موسى بن عمران عليه السلام: أن الله - صلى الله عليه وسلم - يُبْغِض من خُلْقُه ثلاثة: الذي يفرق بين المتحابين، والذي يمشي بالنمائم، والذي يلتمس البريء ليعنته (¬2). 186 - ومن أعمال اليهود والنصارى قبَّحهم الله تعالى: قتل النفس التي حرم الله تعالى بغير الحق. خصوصاً النفوس الزكيَّة، وقتل الإنسان لنفسه. ¬
وقد نصَّ القرآن العظيم على قتل اليهود الأنبياء عليهم السلام في مواضع، ولم يكن في الأمم أسفك لدماء الصالحين منهم، وكذلك وقع القتل من النصارى كثيرًا، وقد تقدمت قصة بَرْصيصا الراهب، وكان يعد من خيارهم، فما ظنك بشرارهم؟ بل ما خلت الأمم من القتل منذ قتل قابيل أخاه هابيل. وأمَّا قتل الإنسان لنفسه فروى البخاري، ومسلم واللفظ له، عن جندب رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ رَجُلاً كَانَ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِوَجْهِهِ قُرْحَةٌ، فَلَمَّا آذَتْهُ انتُزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانتِهِ فَنَكَأَ بِهَا، أَوْ نَخَسَهَا، فَلَمْ يَرْقَأْ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ رَبُّكُم: قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ". وفي لفظ: "إنَّهُ بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، فَحَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" (¬1). وذكر المفسرون، وغيرهم: أن النصارى كانوا على دين عيسى بعد ما رُفع سنين، فوقع بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يُقال له: بولس قتل جماعة من النصارى، ثم قال لليهود: إن كان الحق مع هؤلاء فقد هلكنا, ولكنِّي أحتال فأضلهم، فعرقب فرسه، وأظهر الندامة، ووضع على رأسه التراب، فقال له النصارى: من أنت؟ قال: بولس عدوكم، نوديت من السماء: ليس لك توبة إلا أن تتنصر، وقد تبت، فأدخلوه الكنيسة، وكان لا يخرج منها ليلاً ولا نهاراً ¬
187 - ومن أخلاق اليهود: أن كل واحد منهم لم يخل بمسلم إلا حدثته نفسه بقتله.
حتى تعلَّم الإنجيل، ثم خرج وقال: نوديت: إن الله قد قبل توبتك، فصدَّقوه وأحبوه. ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم نسطور، وعلَّمه أن عيسى وأمه والإله كانوا ثلاثة، ثم توجه إلى الروم واستخلف عليهم يعقوب، وعلمه الناسوت واللاهوت، وقال: لم يكن عيسى بإنس ولا بجسم، ثم دعا رجلًا آخر يقال له: مالكًا، فقال له: إن من لم يزل ولا يزال عيسى، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدًا واحداً، وقال لكل منهم: أنت خالصتي، وغداً أذبح نفسي لمرضاة عيسى، فدُمْ على ما أنت عليه، وادْعُ الناس إلى نحلتك، ثم ذبح نفسه، فدعا الناس كل واحد من هؤلاء إلى نحلته، فمن ثم انقسمت النصارى نسطورية، ويعقوبية، ومالكانية (¬1). 187 - ومن أخلاق اليهود: أن كل واحد منهم لم يخل بمسلم إلا حدَّثته نفسه بقتله. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ} [آل عمران: 75]. وبلغني أن الروافض كذلك مع أهل السنة، بل روى اللالكائي ذلك عن الشعبي. قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة: 82]. ¬
188 - ومنها: الظلم في القصاص، وفي الدية.
وروى الخطيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا خَلا يَهُودِيٌّ قَط بِمُسْلِمِ إلا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِقَتْلِهِ" (¬1). 188 - ومنها: الظلم في القصاص، وفي الدية. روى ابن أبي شيبة، والمفسرون، والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من بني قريظة، وكان إذا قتَلَ رجل من النضير رجلًا من قريظة أدَّى مئة وسق من تمر، وإذا قتل رجل من قريظة رجلًا من النضير قتل به، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل رجل من النضير رجلًا من قريظة، فقالوا: ادفعوه لنا نقتلْه، فقالوا: بيننا وبينكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتوه فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]، والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50] (¬2). وروى ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن جرير، والطبراني عنه: أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ} إلى قوله: {الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] إنما نزلت في الدِّيَة من ¬
189 - ومن أخلاق اليهود: أنهم لا يعفون عن القاتل على مال.
بني النضير وقريظة، وذلك أنَّ قتلى النضير كان لهم شرف يؤدون الدِّية كاملة، وأنَّ بني قريظة كانوا يؤدون نصف الدّية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل الدية بينهم سواء (¬1). 189 - ومن أخلاق اليهود: أنهم لا يعفون عن القاتل على مال. لأن القصاص في دينهم محتَّم هو أو العفو مجَّانا إلا ما بدلوه. والنصارى أنهم لا يقتصون، ولا يمكِّنون أحداً من القصاص؛ لأنَّ العفو في دينهم واجب. روى البخاري، والنسائي عن ابن عباس قال: كان في إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدّية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}. والعفو أن يقبل الدِّية في العمد. {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يتبع بالمعروف ويؤدى بالإحسان. {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} مما كتب على من كان من قبلكم. {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178]؛ قيل: قبول الدية (¬2). ¬
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان علي بني إسرائيل القصاص ليس عليهم في دية نفس ولا جرح، وذلك قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الآية. وخفف الله تعالى عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فتقبل منهم الدِّية في النفس وفي الجراحة، وذلك قوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] (¬1). وروى ابن جرير أيضًا عن قتادة رحمه الله تعالى قال: كان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو, ليس بينهما أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو من دية، وجعل الله تعالى لهذه الأمة القتل والعفو والدية إن شاؤوا، أحلها لهم، ولم تكن لأمة قبلهم (¬2). وكلام قتادة نص في أن العفو مجاناً كان في بني إسرائيل بخلاف العفو على الدية؛ فإنه لم يكن فيهم، وإن اقتصر كلام ابن عباس أن العفو لم يكن فيهم، وما اقتضاه كلام قتادة هو الظاهر؛ لأن العفو من صاحب الحق، والكرم لائق بكل ملة. وقال الله تعالى حكايته عن التوراة: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]؛ أي: من تصدق بالقصاص بأن عفا عنه مجانا بغير دية لأن الدية لم تكن فيهم، وما تصالحوا عليه من أخذ الأوساق التمر مخالف لنص كتابهم، وهو مما بدلوه. ¬
190 - ومن أخلاق اليهود: السحر، وتعلمه، وتعليمه، والكهانة، وإتيان الكاهن، وتصديقه.
وروى مسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَة مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ الله" (¬1). 190 - ومن أخلاق اليهود: السحر، وتعلمه، وتعليمه، والكهانة، وإتيان الكاهن، وتصديقه. ولعل ذلك كله في النصارى أيضًا. قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] الآية. نزلت في اليهود، وقد تقدم في التشبه بالشيطان: أن السحر من أفعال سفهاء بني إسرائيل وسفلهم، وأنكرته صلحاؤهم وعلماؤهم، وقصة سحر اليهودي للنبي - صلى الله عليه وسلم - معروفة، وهي في الصحيح (¬2). * فائِدَةٌ: روى الدينوري عن كعب الحبر رحمه الله تعالى قال: لولا كلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت لجعلتني اليهود كلبا نبَّاحًا، أو حمارًا نهَّاقاً من سحرهم، فأدعو بهن فأسلم من سحرهم: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وأعوذ بوجه الله العظيم الجليل الذي لا يحقر جاره، الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ¬
191 - ومن أعمال اليهود والنصارى: الزنا، واللواط.
من شر السَّامة والهامة، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ وبرأ، ومن شر كل دابة هو آخذ بناصيتها؛ إن ربي على صراط مستقيم (¬1). 191 - ومن أعمال اليهود والنصارى: الزنا، واللواط. وهما فيهما كثير. والأول أكثر في الأولين. والثاني أكثر في الآخرين. وقد تقدم في الحديث أن سبب زنا بني إسرائيل عدم تنظيف رجالهم واستنانهم. روى ابن جرير عن السدي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27] قال: هم اليهود والنصارى (¬2). وروى ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} قال: الزنا (¬3). وروينا عن مجاهد رحمه الله تعالى {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} قال: ¬
يريدون أن تكونوا مثلهم تزنون كما يزنون (¬1). وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد عن سالم بن أبي الجعد رحمه الله تعالى: أن عمر رضي الله تعالى عنه استعمل النعمان بن مُقرِّن على كسكر، فكتب إليه النعمان - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين! اعزلني عن كسكر، وابعثني في بعض جيوش المسلمين؛ فإنما مثل كسكر كمثل مومسة بني إسرائيل: تعطر وتزين في اليوم مرتين. قال: وكان عمر إذا ذُكِرَ النعمان بعد موته يقول: يا لهف نفسي على النعمان! (¬2) ومعنى قوله: مرتين: مرة بعد مرة؛ يريد التكرار لا التثنية كما في قوله: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4]. وروى والده في "الزهد" عن ابن أبي الهذيل رحمه الله تعالى قال: أُتيَ عيسى عليه السلام برجل قد زنا، فأمرهم برجمه، وقال لهم: لا يرجمه رجل عمل عمله، فألقوا الحجارة من أيديهم إلا يحيى بن زكريا (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: لا يكون في بني إسرائيل شيء إلا كان فيكم مثله. ¬
192 - ومن أعمال اليهود والنصارى: الوقوع على المحارم، والتجاهر بالزنا والفواحش.
فقال رجل: يكون فينا مثل قوم لوط؟ قال: نعم، وما ترى بلغ ذلك لا أمَّ لك (¬1). وفي كتاب "ذم الهوى" لابن الجوزي: أن عيسى عليه السلام مرَّ برجل ونار تأكله، فبينما عيسى ينظر إلى ذلك إذا استحالت النار غلاماً، والرجل ناراً، فجعلت النار تأكل الغلام، فسأل الله تعالى أن يطلعه على أمرهما، فعاد الغلام نارًا والنار رجلًا، فسأله عيسى عليه السلام، فأنطقه الله تعالى، فقال: يا روح الله! هذا الغلام كنت أهواه، وكنت أفعل به كذا، فمات ومت، فتارة يصير ناراً فيحرقني، وتارة أصير ناراً فأحرقه، وهذا عذابنا. ولعل الغلام كان قد بلغ وكان يطيعه. وقال بعض العلماء: ثلاثة اعتادوا كل ثلاثة فغلب على طباعهم ثلاثة: عرب البادية اعتادوا أكل لحوم الإبل فغلب عليهم الحقد، والترك اعتادوا أكل لحوم الخيل فغلب عليهم قسوة القلب، والنصارى اعتادوا أكل لحوم الخنازير فغلبت عليهم الأُبْنَة. وقد سبق أن الخنزير من البهائم التي تعمل عمل قوم لوط. 192 - ومن أعمال اليهود والنصارى: الوقوع على المحارم، والتجاهر بالزنا والفواحش. روى ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان رحمه الله تعالى في قوله ¬
فائدة
تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]: إن اليهود يزعمون أن نكاح الأخت من الأب حلال (¬1). وروى البزار، والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، ذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، بَاعاً بِبَاعٍ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ أُمَّهُ لَفَعَلْتُمْ" (¬2). وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنتمْ أَشْبَهُ الأُمَمِ بِبَنِي إِسْرَائِيْلَ، لتَرْكَبُنَّ طَرِيْقَهُمْ حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، حَتَّى لا يَكُونَ فِيْهِمْ شَيْءٌ إِلاَّ كَانَ فِيْكُمْ مِثْلُهُ، حَتَّى إِنَّ القَوْمَ لتَمُرُّ عَلَيْهِمُ الْمَرأةُ فَيَقُوْمُ إِلَيْهَا بَعْضُهُمْ فَيُجَامِعُهَا، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَصْحَابِهِ يَضْحَكُ إِلَيْهِمْ وَيَضْحَكُونَ إِلَيْهِ" (¬3). قلت: لا يخفى أنَّ هذا واقع في هذه الأعْصار في كثير من فُسَّاق هذه الأمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. * فائِدَةٌ: روى الشيخان، وغيرهما عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
يقول: "انْطَلَقَ ثَلاثَةُ نفُرٍ مِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَاهُمُ الْمَبِيْتُ إلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَنْ يُنْجِيْكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصالحِ أَعْمَالِكُمْ. قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيْرَانِ، وَكُنْتُ لا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلا مَالًا، فَنأَى بِي طَلَبُ شَجَرٍ يَوْما، فَلَمْ أَرُحْ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوْقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا ناَئِمَيْنِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنتُظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوْقَهُمَا، اللهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيْهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ. فَانْفَرَجَت شَيْئاً لا يَسْتَطِيْعُونَ الخروجَ مِنْهَا. قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: قَالَ الآخَرُ: اللهُمَّ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَم كَانَتْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَرَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ، حَتَّى ألمَّتْ بهَا سَنةٌ مِنَ السّنِيْن، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِيْنَ وَمِئَةَ دِيْنَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْني وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدِرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ: لا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ عَنِ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الّذِي أَعْطَيْتُهَا؛ اللهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَا مَا نَحْنُ فِيْهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنهمْ لا يَسْتَطِيْعُونَ الْخُرُوْجَ مِنْهَا. قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: وَقَالَ الثالِثُ: اللهُمَّ اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ وَأَعْطَيْتُهُمْ
أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءنِي بَعْدَ حِيْنٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ! أَدِّ إلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيْقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ! لا تَسْتَهْزِئْ بِي، فَقُلْتُ: لا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئاً، اللهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيْهِ. فَانَفَرَجَتْ، فَخَرَجَوا يَمْشُوْنَ" (¬1). وروى الإِمام أحمد، والترمذي وحسنَّه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن ابن عمر أيضًا قال: سمعت رسول الله يحدث حديثاً لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عدَّ سبع مرات، ولكن سمعته أكثر من ذلك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كَانَ الكِفْلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيْلَ، وَكَانَ لا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ، فَأَتتهُ امْرَأةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّيْنَ دِيْنَاراً عَلَى أَنْ يَطَأَهَا، فَلَمَّا أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا ارْتَعَدَتْ وَبَكَتْ، فقالَ: وَمَا يُبْكِيْكِ؟ قَالَتْ: لأَنَّ هَذَا عَمَلٌ مَا عَمِلْتُهُ قَطُّ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلاَّ الْحَاجَةُ. فَقَالَ: تَفْعَلِيْنِ هَذَا أَنْتِ مِنْ مَخَافِة اللهِ تَعَالَى، فَأَنَا أَحْرَى، اذْهَبِي فَلَكِ مَا أَعْطَيْتُكِ، وَاللهِ لا أَعْصِيْهِ بَعْدَهَا أَبَدًا. فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَأَصْبَحَ مَكْتُوباً عَلَى بَابِه: إِنَّ الله قَدْ غَفَرَ لِلْكِفْلِ، ¬
فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ" (¬1). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بَيْنَمَا كلْبٌ يُطِيْفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ إِذْ رَأتهُ بَغِيَّةٌ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيْلَ، فَنَزَعَتْ مُوْقَهَا فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَهَا" (¬2). وروى ابن حبان في "صحيحه" عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَبَّدَ عَابِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيْلَ في صَوْمَعَتِهِ سِتيْنَ عَامًا، فَأَمْطَرَتِ الأَرْضُ فَاخْضَرَّتْ، فَأَشْرَفَ الرَّاهِبُ مِنْ صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَ: لَوْ نزَلْتُ فَذَكَرْتُ الله، فَازْدَدْتُ خَيْرًا، فَنَزَلَ وَمَعَهَ رَغِيْفٌ أَوْ رَغِيْفَانِ، فَبَيْنَمَا هُوَ في الأَرْضِ لَقِيتهُ امْرَأة فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهَا وَتُكَلِّمُهُ حَتَّى غَشِيَهَا، ثُمَّ أُغْمِي عَلَيْهِ، فَنَزَلَ الغَدِيْرَ يَسْتَحِمُّ بِمَاءِ، فَجَاءَ سَائِلٌ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّغِيْفَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ، فَوُزِنَتْ عِبَادَةُ سِتِّيْنَ سَنَة بِتِلْكَ الزَّنْيَةِ، فَرَجَحَتِ الزَّنْيَةُ بحَسَنَاتِهِ، ثُمَّ وُضعَ الرَّغِيْفُ أَوِ الرَّغِيْفَانِ مَعَ حَسَنَاتِهِ فَرَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ، فَغُفِرَ لَه" (¬3). وروى أبو نعيم عن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى: أنَّ قصابًا أُولع بجارية لبعض جيرانه، فأرسلها أهلها إلى حاجة لهم في قرية، فتبعها فراودها عن نفسها، فقالت: لا تفعل؛ لأنا أشد حباً لك ¬
منِّي، ولكني أخاف الله عز وجل. قال: فأنت تخافينه، وأنا لا أخاف؟ فرجع تائبًا، فأصابه العطش حتى كاد ينقطع عنقه، فإذا هو برسول لبعض أنبياء بني إسرائيل فسأله فقال: ما لك؟ قال: العطش. قال: تعال ندعو حتى تظلنا سحابة حتى ندخل القرية. قال: ما لي من عمل فأدعو. قال: فأنا أدعو وأمِّن أنت. قال: فدعا الرسول، وأمَّن هو، فأظلتهم سحابة حتى إذا انتهيا إلى القرية، فأخذ القصاب إلى مكانه، ومالت السحابة، فمالت معه، فقال له: زعمت أن ليس لك عمل وأنا الذي دعوت وأنت الذي أمَّنت، فأظلتنا سحابة، ثم تبعتك؟ لتخبرني بأمرك، فأخبره. فقال: إنَّ التائب من الله بمكان ليس أحد من الناس مكانه (¬1). قلت: هذه الحكاية يحتاج التأمين فيها إلى التأويل إن أمكن، وإلا يعارضه مع الحديث الذي ذكرناه سابقاً أن التأمين خاص بهذه الأمة إلا ما كان من تأمين هارون على دعاء موسى عليهما السلام. وقد يقال: إن ذلك -وإن لم يكن مشروعاً فيهم- فقد ألهمه ¬
هذان إلهامًا، وهو خير لا منع منه. وروى ابن الجوزي في "ذم الهوى" عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: كان في بني إسرائيل رجل من العُبَّاد شديد الاجتهاد، فرأى يوما امرأة، فوقعت في نفسه بأول نظرة، فقام مسرعاً حتى لحقها، فقال: روديك يا هذه، فوقفت وعرفته، فقالت: ما حاجتك؟ قال: أذات زوج أنت؟ قالت: نعم، فما تريد؟ قال: لو كان غير هذا كان لنا نظر في ذلك. قالت: وما نظرك؟ قال: عرض بقلبي من أمرك عارض. قالت: وما يمنعك من إنفاذه؟ قال: وتتابعيني على ذلك؟ قالت: نعم. فَخَلَت به في موضع، فلما رأته مُجداً في الذي مالَ إليه قالت: رويدك يا مسكين؛ لا يسقط جاهك عنده؟ قال: فانتبه لها، وسكن عن قلبه ما كان يجد من فتنتها، فقال: لا حرمك الله ثواب فعلك. ثم تنحى ناحية فقال لنفسه: اختاري إما عمى العين، أو قطع الإحليل والقدم، وإما السياحة في مآكل الوحوش والسباع.
193 - ومن أعمال بني إسرائيل: القذف.
فاختار السياحة، فلبس السياحة وخرج سائحاً في البراري والقفار حتى مات وهو يبكي على تلك النظرة (¬1). 193 - ومن أعمال بني إسرائيل: القذف. وقد ذكرنا من أفعال قارون قذف موسى عليه السلام، وإنما أعدناه هنا لزيادة الفائدة. وقد قذف اليهود مريم عليها السلام، وأشبههم المنافقون والروافض في قذف عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. وبرَّأَ الله تعالى مريم عليها السلام على لسان ابنها عيسى عليه السلام، وبرَّأ عائشة رضي الله تعالى عنها على لسان محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. وكان كل من البراءتين أمراً خارقاً؛ فإن عيسى عليه السلام تكلم في المهد ببراءة أمه، وهذا أمر خارق. وأنزل الله تعالى براءة عائشة رضي الله تعالى عنها في ثماني عشرة آية من سورة النور، والقرآن كله أمر خارق للعادة، معجز للفصحاء، وهو أعظم معجزة في الوجود. ثم إن الرافضي متى قذف المُبَرَّأة البتول الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما، أو أنكر صحبة أبيها، كان كافرًا باجماع المسلمين. وإنما الخلاف في إكْفَاره فيما لو اقتصر على التقديم والتأخير والسب. ¬
وقد سمَّى الله تعالى كلًّا من قول اليهود في مريم، وقول الروافض في عائشة بهتانا عظيما، فقال تعالى في الإفك: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]. وقال تعالى في اليهود: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 155، 156]. وفي "الصحيحين"، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَمْ يَتَكَلَّمْ في الْمَهْدِ إِلاَّ ثَلاثة: عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكَانَ في بَنِي إِسْرَائِيْلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ كَانَ يُصَلي فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَقَالَ: أُجِيبهَا أَوْ أُصَلي، فَقَالَتْ: اللهُمَّ لا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوْهَ الْمُومِسَاتِ -وفي رواية-: فَكَانَ يَوْمًا يُصَلي إِذِ اشْتَاقَتْ إِلَيْهِ أُمُّهُ، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ! فَقَالَ: يَا رَبِّ! الصلاةُ خَيْرٌ أَمْ آتِهَا، ثُمَّ صَلَّى وَدَعَتْهُ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ صَلَّى وَدَعَتْهُ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَاشْتَدَّ عَلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ: اللهُمَّ لا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُوْمِسَاتِ -أي: الزانيات- وَكَانَ جُرَيْجٌ في صَوْمَعَتِهِ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأة وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنتهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلاما، فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْج، فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ، وَأَنْزَلُوْهُ وَسَبّوْهُ، فتوَضْأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أتَى الغُلامَ فَقَالَ: مَنْ أبَوَك يَا غُلامُ؟ فَقَالَ: الرَّاعِي، فَقَالُوا: نبني صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذهب، فَقَالَ: لا إِلاَّ مِنْ طِيْنٍ. قَالَ: وَكَانَتِ امْرَأةٌ تُرْضعُ ابْنًا لَهَا في بني إِسْرَائِيْلَ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ
194 - ودل هذا الحديث على أن من أخلاق بني إسرائيل
رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ، فَقَالَتِ: اللهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهُ، فتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ، وَقَالَ: اللهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا فَمَصهُ". قال أبو هريرة: كأني انظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمص أصبعه. "ثُمَّ مَرَّتْ بِهَا أَمَةٌ فَقَالَتْ: اللهُمَّ لا تَجْعَل ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: لِمَ ذَلِكْ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّار مِنَ الْجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الأَمَةُ يَقُوْلُوْنَ: سَرَقْتِ وَزَنَيْتِ، وَلَمْ تَفْعَلْ". وفي رواية: "ثمَّ مَرَّتْ بِهَا أَمَةٌ ذَكَرُوا أَنَّهَا سَرَقَتْ وَزَنَتْ وَعُوْقِبَتْ، فَقَالَتْ: اللهُمَّ لا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ في ذَلِكَ، فَقَالَ: أَمَّا الرَّاكِبُ فَجَبَّار مِنَ الْجَبَابِرَةِ، وإنَّ هَذِهِ قِيْلَ لَهَا: زَنيتِ، وَلَمْ تَزْنِ، وَقِيْلَ لَهَا: سَرَقْتِ، وَلَمْ تَسْرِقْ، وَهِيَ تَقُوْلُ: حَسْبِيَ الله". وفي رواية: "أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنه كَافِر، وَأَمَّا الْمَرْأة فَإِنهمْ يَقُوْلُوْنَ لَهَا: تَزْني، وَتَقُوْلُ: حَسْبِيَ اللهُ، وَيقُوْلُوْنَ: سَرَقْتِ، وَتَقُوْلُ: حَسْبِيَ الله" (¬1). 194 - ودل هذا الحديث على أن من أخلاق بني إسرائيل: العجلة، والضجر، والمبادرة بالدعاء على الولد وغيره من المحبوبات، والاتهام، والخوض في الباطل، والوقوع في عرض من لم يثبت عنه ¬
ما يشين عرضه، والإصغاء إلى القال والقيل، والخوض فيما لا يعلمه، وما لا يعنيه. وقد ذم الله تعالى العجلة، وما معها في قوله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]. قال ابن عباس: ضجرًا لا صبر له على سراء ولا ضراء (¬1). قال مجاهد في قوله: {دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ}. ذلك دعاء الإنسان بالشر على ولده، وعلى امرأته لا يعجل فيه، ويدعو، ولا يحب أن يصيبه (¬2). رواهما ابن جرير. وروى أبو داود، وغيره عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، لا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ، لا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ؛ لا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ تَعَالَى سَاعَة فِيْهَا إِجَابَة فَيَسْتَجِيْبَ لَكُمْ" (¬3). وروى الترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيْهِ" (¬4). وروى الطبراني بإسناد صحيح، عن ابن مسعود رضي الله تعالى ¬
عنه قال: أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضًا في الباطل (¬1). ورواه ابن أبي الدنيا في "الصمت" بإسناد رجاله ثقات، عن قتادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً (¬2). قال حجة الإِسلام في "الإحياء": وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45] (¬3). وحقيقة الخوض في الباطل الكلام في المعاصي كحكاية أحوال النساء، ومجالس الخمر، ومقامات الفساق، وتنعم الأغنياء، وتجبر الملوك، ومواسمهم المذمومة، وأحوالهم الكريمة، وذكر محظورات سبق وجودها، وتدبر في التوصل إليها من غير حاجة دينية إلى ذكرها، وذكر ما يتحدث الناس فيه من الوقائع والحوادث المشتملة على ذكر مسلم بسوء كما ذكر مما كان يقال في حق الأمَة المذكورة في الحديث: سرقت، زنت (¬4). وروى الترمذي -وقال: حسن صحيح- وابن ماجه عن بلال بن الحارث رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيتكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ بِهِ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا ¬
رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيتكلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ بِهِ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ". قال: وكان علقمة يقول: كم من كلام منعنيه حديث عبد الله بن بلال بن الحارث (¬1). وروى ابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ أكثَرَ خَطَايَا ابْنِ آدَمَ في لِسَانِهِ" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَزَالُ الْمَسْرُوْقُ في تُهْمَةٍ حَتَّى يَكُوْنَ أَعْظَمَ جُرْمًا مِنَ السَّارِقِ" (¬3). وروى الإِمام أحمد، والشيخان، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رَأَى عِيْسَى بنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ رَجُلاً يَسْرِقُ فَقالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ؟ ¬
195 - ومن أخلاق بني إسرائيل: المحاباة في الحدود.
قالَ: كَلاَّ وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ. فَقَالَ عِيْسَى: آمَنْتُ بِاللهِ وَكَذَبَتْ عَيْني" (¬1). وهذا الخلق عزيز جداً، وضده -وهو الوقوع في الناس بالتهمة وسوء الظن- قلَّ من يسلم منه الآن إلا أفراد في العالَم، بل ربما سرق لأحدهم شيء فَتحرجَ عن الاتهام، فبادر كثير من الناس إلى إيقاعه في التهمة لجاره، أو خادمه ونحوهما، وهذا ليس من الديانة في شيء. وبعضهم يقول لمن يشكو إليه من بلاءً أو محنة بظالم أو حاكم، فيقول له: لعل فلانًا وشى بك ونمَّ عليك، فينبهه لتهمة الناس والغضب منهم، فيوقعه فوق بلائه في بلاءً آخر، وغم زائد على ما عنده، وربما كان بعضهم واقعًا في مثل ما اتهم به أخاه المسلم، وهو أعظم جرمًا وأكبر إثماً. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112]. 195 - ومن أخلاق بني إسرائيل: المحاباة في الحدود. روى النسائي -وأصله متفق عليه- عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنَّ امرأة سرقت فأُتيَ بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: من يجترئ على ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون أسامة؟ فكلموا أسامة رضي الله تعالى عنه، فكلمه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أُسَامَةُ! إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرائِيْلَ حِيْنَ كَانَ إِذَا أَصَابَ الشَّرِيْفُ فِيْهِمُ الْحَدَّ تَرَكُوْهُ وَلَمْ يُقِيْمُوْا عَلَيْهِ، وإذَا أَصَابَ الوَضِيع أقامُوا عَلَيْهِ، لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُهَا" (¬1). وروى مسلم عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيهودي محممًا مجلودًا، فدعاهم فقال: "هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي في كِتَابِكُمْ؟ " قالوا: نعم. فدعا رجلًا من علمائهم، فقال: "أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوْسَى! أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي؟ " قال: لا, ولولا أنك ناشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد؛ قلنا: تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا الجلد والتحميم مكان الرجم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ". فأمر به فرجم، فأنزل الله تعالى: {لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41]. يقول: ائتوا محمدًا؛ فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن ¬
أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] (¬1). وروى البزار - وأصله عند أبي داود - عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: جاءت اليهود برجل وامرأة زنيا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ائتوْني بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ". فأتوه بابني صُوريا، فقال: "أَنتمَا أُعْلَمُ مَنْ وَرَاءكمَا؟ ". فقالا: كذلك يزعمون. فناشدهما بالله الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام: "كَيْفَ تَجِدُوْنَ أَمْرَ هَذَيْنِ في تَوْرَاةِ اللهِ تَعَالَى؟ ". قالا: نجد في التوراة: إذا وجد الرجل مع المرأة في بيت فهي ريبة فيها عقوبة، أو على بطنها فهي ريبة فيها عقوبة، فإذا شهد أربعة أنهم نظروا إليه مثل الميل في المكحلة فارجموه. قال: "مَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوْهُمَا؟ ". فقالا: ذهب سلطاننا، فكرهنا القتل. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشهود فشهدوا، ¬
فأمر برجمهما (¬1). وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بيهودي ويهودية قد زنيا جميعًا، فقال لهم: "مَا تَجِدُونَ في كِتَابِكُمْ؟ " قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبيه. فقال عبد الله بن سلام: ادعهم يا رسول الله بالتوراة، فأتي بها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له ابن سلام: ارفع يدك؛ فإن آية الرجم تحت يدك. فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما. قال ابن عمر: فرأيت اليهودي أَحْنى عليها. وفي رواية: فرأيت اليهودي يَحْني على المرأة يقيها الحجارة. وتحميم الوجه: تسويده (¬2). والتجبيه: أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما؛ كما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬3). وقيل: على حمارين وتحول وجوههما من قبل دبر الحمار، ويطاف بهما؛ كما ذكره الثعلبي عن المفسرين (¬4). ¬
196 - ومن أعمال اليهود والنصارى: الكذب، والأيمان الفاجرة.
وكانوا يجلدون الزاني أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار، ثم تسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل دبرهما. 196 - ومن أعمال اليهود والنصارى: الكذب، والأيمان الفاجرة. كما اتفق في حديث عيسى عليه السلام مع الذي رآه يسرق، ثم حلف أنه لم يسرق. والاستماع إلى الكذب كما قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]. وروى ابن أبي شيبة عن سليمان بن يسار رحمه الله تعالى قال: القسامة حق قضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، بينما الأنصار عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ خرج رجل منهم، ثم خرجوا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هم بصاحبهم يتشحَّط في دمه، فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: قتله يهود، وسموا رجلًا منهم ولم يكن لهم بينة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم: "شَاهِدَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ حَتَّى أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمْ بِرُمَتِهِ". فلم تكن لهم بينة، فقال: "اسْتَحِقُّوا بِخَمْسِيْنَ قسَامَةٍ حَتَّى أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ". فقالوا: إنَّا نكره أن نحلف على غيب. فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ قسامة اليهود بخمسين منهم، فقالت الأنصار: يا رسول الله! إنَّ اليهود لا يبالون الحلف؛ متى تقبل هذا منهم يأتوا على آخرنا.
197 - ومن أعمال بني إسرائيل: القتال على الملك، والقتال على التأويل، وهو دون الأول لتمحض الأول للدنيا والثاني كالمقدمة له.
فَوَداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده (¬1). وحديث القسامة في "الصحيح" (¬2). 197 - ومن أعمال بني إسرائيل: القتال على الملك، والقتال على التأويل، وهو دون الأول لتمحض الأول للدنيا والثاني كالمقدمة له. ومن ثم اعتزل جماعة من الصحابة الجَمَل بصفِّين. على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا أنفذ بصائر، وأقرب إلى الحق في تأويلاتهم، ولذلك نسكُتُ عما شجر بينهم. وانظر ما قصَّهُ الله تعالى عن الملأ من بني إسرائيل في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246]. ثم لمَّا بعث الله لهم طالوت ملكا قالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة: 247]. وروى نعيم بن حماد في "الفتن" عن كعب رحمه الله: أنه أتى صفين، فلما رأى الحجارة التي على ظهر الطريق وقف ينظر إليها، فقال له صاحب له: ما تنظر يا أبا إسحاق؟ قال رحمه الله تعالى: وجدت نعتها في الكتب: أن بني إسرائيل ¬
198 - ومنها: الولاية، والقضاء لأجل الدنيا لا لوجه الله تعالى، والتقرب إليه بالفصل بين الحق والباطل، وإيصال الحق إلى أهله،
اقتتلوا بها تسع مرات حتى تفانوا، وأن العرب سيقتتلون بها العاشرة حتى يتفانوا، ويتقاذفون بالحجارة التي تقاذفت بها بنو إسرائيل (¬1). وروى ابن أبي الدنيا، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" عن الحسن رحمه الله تعالى -مرسلًا- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه فقال: "هَلْ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيْدُ أَنْ يُذْهبَ اللهُ عَنْهُ العَمَى وَيجْعَلَهُ بَصِيْراً؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "أَلا إِنَّهُ مَنْ رَغِبَ في الدُّنْيا وَأَطالَ أَمَلَهُ فِيْها أَعْمَى اللهُ قَلْبَهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ زَهِدَ في الدُّنْيا وَقَصُرَ أَمَلُهُ أَعْطاهُ اللهُ تَعالَى عِلْمًا بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ، وَهُدًى بِغَيْرِ هِدايَةٍ، أَلا إنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ لا يَسْتَقِيْمُ لَهُمُ الْمُلْكُ إِلَّا بِالقَتْلِ والتَجَبُّرِ، وَلا الغِنَى إِلَّا بِالفَخْرِ والبُخْلِ، وَلا الْمَحَبَّةِ إِلَّا بِاتّباعِ الْهَوَى، أَلا فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمانَ مِنْكُمْ فَصَبَرَ عَلَى الفَقْرِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الغِنَى، وَصَبَرَ لِلْبَغْضاءِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَحَبَّةِ، وَصَبَرَ عَلَى الذُّلِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى العِزِّ -لا يُرِيْدُ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَ اللهِ- أَعْطاهُ اللهُ ثَوابَ خَمْسِيْنَ صِدّيْقاً" (¬2). 198 - ومنها: الولاية، والقضاء لأجل الدنيا لا لوجه الله تعالى، والتقرب إليه بالفصل بين الحق والباطل، وإيصال الحق إلى أهله، ¬
والأخذ على يد الظالم، والحكم بالباطل، وترك القاضي الحكم بالحق إذا سئل عنه، واتباع الهوى في الحكم، والمداهنة فيه، وهذه صفات قضاة السوء. قال الله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. روي عن الشعبي، واختاره النحاس: أنَّ الآيات الثلاث في اليهود (¬1). وقال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما: في الكفار؛ كما رواه عنه مسلم (¬2). وعن ابن عباس، وجابر بن زيد، وابن أبي زاهدة، وابن شبرمة: أنَّ الآية الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى (¬3). وهذا اختاره القاضي أبو بكر بن العربي؛ لأنه ظاهر الآيات (¬4). ¬
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، والحسن، وغيرهما أنهن عامات في كل من لم يحكم بما أنزل الله (¬1). وتأولوا قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} على اعتقاد الحل، أو على التغليظ كما قيل في إطلاق الكفر على ترك الصلاة. وروى الحاكم وصححه، عن ابن عباس في الآية: أنه ليس كفرًا ينتقل عن الملة، ولكن كفر دون كفر (¬2). وصحح الحاكم أيضاً عن همام قال: كنا عند حذيفة - رضي الله عنه - فذكروا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، فقال رجل من القوم: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الأخوة بنو إسرائيل، إن كان لهم المر ولكم الحلو، كلا والذي نفسي بيده حتى تحذوا السنة بالسنة والقذة بالقذة (¬3). وروى نحوه ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬4). وروى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورضي لهذه الأمة بها (¬5). ¬
وعن الحسن نحوه (¬1). وروى سعيد بن منصور عن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه أنَّه قال: ما رأيت مثل من قضى بين اثنين بعد هذه الآيات الثلاث (¬2). وروى الثعلبي، وغيره عن الحسن رحمه الله تعالى قال: أخذ الله -عز وجل- على الحكام ثلاثة أشياء: أن لا يتبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس ويخشوه، وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلًا؛ يعني: الرشوة، وبيع الحكم (¬3). وروى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن بريدة رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "القُضاةُ ثَلاثةٌ: واحِدٌ في الْجَنَّةِ، واثْنانِ في النَّارِ؛ فَأمَّا الّذِي في الْجَنّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجارَ في الْحُكْمِ فَهُوَ في النَّارِ، وَرَجُل قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلِ فَهُوَ في النَّارِ" (¬4). وروى البزار، والطبراني في "الكبير" -ورجاله رجال الصحيح- عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنْ شِئتمْ أَنْبَأتُكُمْ عَنِ الإِمارَةِ وَما هِيَ". ¬
فناديت بأعلى صوتي: وما هي يا رسول الله؟ قال: "أَوَّلُها مَلامَةٌ، وَثانِيْها نَدامَةٌ، وَثالِثُها عَذابٌ يَوْمَ القِيامَةِ إِلَّا مَنْ عَدَلَ؛ وَكَيْفَ يَعْدِلُ مَعَ أَقْرَبِيْهِ؟ " (¬1). وروى أبو يعلى، وابن حبَّان في "صحيحه" -وأصله عند الترمذي- عن عبد الله بن موهب: أنَّ عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال لابن عمر رضي الله تعالى عنهما: اذهب فكن قاضياً. قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: اذهب فاقض بين الناس. قلت: أو تعفيني يا أمير المؤمنين. قال: عزمت عليك إلا ذهبت وقضيت. قال: لا تعجل؛ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ عاذَ بِاللهِ فَقَدْ عاذَ بِمَعاذٍ". قال: نعم، قال: فإني أعوذ بالله أن أكون قاضيًا. قال: وما يمنعك وقد كان أبوك يقضي؟ قال: لأني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "مَنْ كانَ قاضِياً فَقَضَى بِالْجَهْلِ فَهُوَ في النَّارِ، وَمَنْ كانَ قاضِياً فَقَضَى بِالْجَوْرِ كانَ في النَّارِ، ¬
وَمَنْ كانَ قاضِياً فَقَضَى بِحَق -أَوْ قَالَ: فَعَدَلَ- سَأَلَ التَّفَلُّتَ كِفافاً، فَمَا أَرْجُو مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ " (¬1). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن يزيد بن موهب: أن عثمان قال لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم: اقض بين الناس. قال: لا أقضي بين اثنين، ولا أؤم. فقال عثمان: أتعصيني؟ قال: لا، ولكنه بلغني أن القضاة ثلاثة: رجل قضى بجهل فهو في النار، ورجل حاف ومال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو كفاف لا أجر له ولا وزر عليه. قال: فإن أباك كان يقضي؟ قال: كان يقضي، فإذا أُشكل عليه شيء سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإذا أشكل على النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل عليه السلام، وإني لا أجد من أسأل؛ أما سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ عاذَ بِاللهِ فَقَدْ عاذَ بِمَعاذِ؟ ". فقال عثمان: بلى. قال: فإني أعوذ بالله أن تستعملني. فأعفاه، وقال: لا تخبر بهذا أحداً (¬2). ¬
قلت: أراد عثمان بقوله: (لا تخبر بهذا أحداً) أن لا يسمعه الناس من ابن عمر، فيتقاعدوا عن القضاء، فيتعطل هذا المنصب، وتضيع مصالح المسلمين لأنهم كانوا في غاية الخوف على دينهم، وكان الإِسلام إذ ذاك في عزَّة، والناس في رغبة إلى الانقياد إلى أحكامه والاتصاف بأخلاقه. وأما الآن فلو سمعوا مثل ذلك أضعافاً ما منعهم عن طلب القضاء فضلَّا عَن الفرار منه، بل هم الآن يبذُلون الأموال في مقابلة الولايات استكثارًا لها، وتوصلَّا إلى أموال الناس. ومن محاسن الشيخ زين الدين بن الوردي رحمه الله تعالى: [من مجزوء الخفيف] قِيلَ [لي] ابْذُلِ الذَّهَبْ ... تتَوَلَّ قَضا حَلَبْ قُلْتُ هُمْ يُحْرِقُوننِي ... وَأَنا أَحْمِلُ الْحَطَبْ (¬1) ومن لطائف الفرار من ولاية القضاء لعزَّة الخلاص من فتنته: ما رواه أبو نعيم عن شجاع بن الوليد قال: كان فيمن قبلكم رجل حلف لا يتزوج امرأة حتى يستشير مئة نفس، وإنه استشار تسعة وتسعين رجلًا فاختلفوا عليه، فقال: بقي واحد وهو أول من يطلع من هذا الفج، فآخذ بقوله ولا أعدوه، فبينما هو كذلك إذ طلع عليه رجل يركب قصبة، فأخبره بقصته، فقال له: النساء ثلاث: فواحدة لك، وواحدة عليك، ¬
وواحدة لا لك ولا عليك؛ فالبكر لك، وذات الولد عليك، والثَّيب لا لك ولا عليك. ثمَّ قال: أطلق الجواد، فقال له: أخبرني بقصتك. فقال: أنا رجل من علماء بني إسرائيل، مات قاضيها فركبت هذه القصبة، وتألَّهت لأخلص من القضاء. وأخرجه المعافى بن زكريا في كتاب "الأنيس والجليس" عنه، عن حريش بن أبي الحريش بنحوه (¬1). وأخرج فيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: حلف رجل أن لا يتزوج حتى يستشير مئة رجل، فاستشار تسعة وتسعين رجلًا، ثمَّ خرج وقال: أول من يستقبلني أستشيره، فإذا هو برجل قد طيَّن رأسه، وركب قصبة، وبيده سوط ليضرب القصبة، فلما انتهى إليه سأله، فقال له: يا عبد الله! تأخر عن الفرس؛ لا يَرْمَحُك، فركض على قصبته شوطاً، ثمَّ رجع، وقال له: هات حاجتك. قال: إني حلفت أن لا أتزوج حتى أستشير مئة رجل، فاستشرت تسعة وتسعين رجلًا، وأنت تمام المئة. فقال له: صاحب الواحدة إذا حاضت حاض معها، وإذا مرضت مرض معها، وإذا غابت غاب معها، وصاحب اثنتين قاض، وصاحب ثلاث ملك، وصاحب الملك مسافر. ¬
فقال الرجل: لقد استشرت تسعة وتسعين رجلًا ما فيهم أعقل منك. قال: أنا الذي أرادت بنو إسرائيل أن يستقضوني، ففعلت هذا كيما أنجو منهم (¬1). وأحسب في غير هذه الرواية أنه قال: أراد بنو إسرائيل أن يذبحوني، ففررت من الذبح. قيل: كيف يذبحونك؟ قال: أرادوا أن يولُّوني القضاء. وقد اتفق التحامق فرارًا من ولاية القضاء لبعض هذه الأمة. قال عبد الرحمن بن مهدي: أجبر أمير المؤمنين؟ يعني: أبا جعفرٍ، سفيانَ -يعني: الثوري- على القضاء، فتحامق عليه ليخلص نفسه منه. رواه أبو نعيم (¬2). وفرار سفيان من ولاية القضاء من بلد إلى بلد، واستخفاؤه مشهور. وقال مسعر بن كدام رحمه الله تعالى: دعاني أبو جعفر ليوليني فقلت: أصلح الله الأمير! إن أهلي ليرددوني على أن أشتري الشيء بدرهمين، فأقول: أعطوني أشتر لكم، فيقولون: لا والله، لا نرضى ¬
اشتراءك، فأهلي لا يرضون اشترائي الشيء بدرهمين، وأمير المؤمنين يوليني؟ أصلحك الله! إن لي قرابة وحقاً، وقد قال الشاعر: [من الوافر] تُشارِكُنا قُرَيْشٌ في تُقاها ... وَفِي أَنْسابِها شركَ العِنانِ لَما وَلَدَتْ نِساءُ بَنِي هِلالٍ ... وَما وَلَدَتْ نِساءُ بَنِي إبانِ قال: أما والله ما لنا في العرب قرابة أحب إلينا منهم، فأعفاه. رواه أبو نعيم (¬1). والبيتان المذكوران في كلام مسعر لنابغة بن جعدة أحد نوابغ الشعراء (¬2). وكذلك شأن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وامتناعه عن ولاية القضاء، وضربه على ذلك مشهور، ولما دُعيَ إلى ذلك قال: أنا لا أصلح للقضاء. فقيل له في ذلك، فقال: إن كنت صادقاً فأنا لا أصلح للقضاء، وإن كنت كاذباً فالكاذب لا يصلح للقضاء (¬3). وروى أبو نعيم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أنه لما ولي القضاء ركب أول يوم للقضاء، فاصطف له الناس ينظرون إليه، فقال مجنون من مجانين أهل الكوفة: انظروا إلى من جمع الله له سرور ¬
الدنيا إلى حزن الآخرة. فقال ابن أبي ليلى: لو قد سمعتها قبل أن ألي ما وليت لهم شيئاً (¬1). وروى الحكيم الترمذي عن عبد العزيز بن أبي روَّاد قال: بلغني أن قاضيًا كان في زمن بني إسرائيل بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه أن يجعل بينه وبينه علمًا، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك، فإذا هو قصر عن الحق عرف ذلك، فقيل له: ادخل منزلك فمد يدك في جدارك، ثمَّ انظر كيف تبلغ أصابعك من الجدار، فاخطط عندها خطًّا، فإذا أنت قمت من مجلس القضاء فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه؛ فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه، وإن قصرت عن الحق قصر بك. فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد، فكان لا يقضي إلا بحق، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعاماً ولا شرابًا، ولا يفضي إلى أهله بشيء حتى يأتي ذلك الخط، فإذا بلغه حمد الله، وأفضى إلى كل ما أحل الله له من أهل ومطعم ومشرب. فلمَّا كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء أقبل إليه رجلان يريدانه، فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه، وكان أحدهما له صديقًا وخَدَنًا، فتحرك قلبه عليه محبة أن يكون الحق له فيقضي له به، فلما أن تكلما كان الحق على صاحبه، فقضى عليه، فلما قام من ¬
مجلسه ذهب إلى خطه فإذا الخط قد ذهب وتشمر إلى السقف، وإذا هو لا يبلغه، فخر ساجدًا وهو يقول: يا رب! شيئًا لم أتعمده ولم أرده؛ فبينه لي. فقيل له: أتحسبن أن الله لم يطلع على جور قلبك حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك فتقضي له به؟ قد أردته وأحببته، ولكن الله قد ردَّ الحق إلى أهله وأنت لذلك كاره (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت" عن عطاء الخراساني قال: استقضي رجل من بني إسرائيل أربعين سنة، فلما حضرته الوفاة قال: إني أرى أني هالك في مرضي هذا، فإن هلكت فاحبسوني عندكم أربعة أيام، أو خمسة أيام، فإن رابني منكم شيء فلينادني رجل منكم، فلما قضى جعل في تابوت، فلما كان بعد ثلاثة أيام آذاهم بريحه، فناداه رجل منهم: يا فلان! ما هذا الريح؟ فأذن له فتكلم، فقال: قد وليت القضاء فيكم أربعين سنة، فما رابني شيء إلا رجلان أتياني، وكان لي في أحدهما هوى، فكنت أسمع منه بأذني التي تليه أكثر مما أسمع بالأخرى، فهذه الريح منها، فضرب الله على أذنه فمات (¬2). ومن لطائف الأقضية في هذه الأمة: ما روى أبو نعيم عن إبراهيم ¬
ابن يزيد التيمي عن أبيه قال: وجد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه درعًا له عند يهودي التقطها فعرفها، فقال: درعي سقطت عن جمل لي أَورق. فقال اليهودي: درعي وفي يدي. ثم قال له اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين. فأتوا شريحاً، فلما رأى عليًّا تحرف عن موضعه، وجلس علي رضي الله تعالى عنه فيه، فقال علي رضي الله تعالى عنه: لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس، ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تُساوُوْهُمْ في الْمَجْلِسِ، وَألْجِئُوْهُمْ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ، فَإِنْ سَبُّوكُمْ فاضْرِبُوْهُمْ، فَإِنْ ضَربُوْكُمْ فاقْتُلُوهُمْ". ثمَّ قال شريح رحمه الله تعالى: ما تشاء يا أمير المؤمنين؟ قال: درعي سقطت عن جمل لي أورق، فالتقطها هذا اليهودي. فقال شريح: ما تقول يا يهودي؟ قال: درعي وفي يدي. فقال شريح: صدقت والله يا أمير المؤمنين، إنها لدرعك، ولكن لا بد من شاهدين. فدعا قنبرًا مولاه، والحسن بن علي، فشهدا إنها لدرعه. فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها، وأما شهادة ابنك فلا نجيزها. فقال علي رضي الله تعالى عنه: ثكلتك أمك! أما سمعت عمر
199 - ومن أعمال اليهود والنصارى: اتخاذ الولاة الشرط.
ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الْحَسَنُ والْحُسَيْنُ سَيِّدا شَبابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ " قال: اللهم نعم. قال: أفلا تجيز شهادة سيد شباب أهل الجنة؟ والله لأوجهنك إلى باتقيا تقضي بين أهلها أربعين ليلة. ثمَّ قال لليهودي: خذ الدرع. فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين يقضي عليه، ورضي؟ صدقت والله يا أمير المؤمنين! إنَّها لدرعك سقطت عن جملٍ لك، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فوهبها له علي، وأجازه بتسعمئةٍ، وقُتلَ يوم صفين (¬1). هكذا في هذه الرواية. وفي رواية أخرى: فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدَّمني إلى قاضيه، وقاضيه قضى عليه؟ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن الدرع درعك، كنت راكبًا على جملك الأورق وأنت متوجه إلى صفين، فوقعت منك ليلًا، فأخذتها، وخرج يقاتل مع علي الشراة بالنهروان، فقتل (¬2). 199 - ومن أعمال اليهود والنصارى: اتخاذ الولاة الشُّرَط. وتقدم نظيره في التشبه بنمرود وفرعون. ¬
روى أبو نعيم في "الحلية" عن وهب قال: أُتِيَ برجل من أفضل زمانه إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحوم الخنازير، فلما أُتيَ به استعظم الناس مكانه، وهالهم أمره، فقال له صاحب شرط الملك: ائتني بجَدْي نذبحه مما يحل أكله فأعطنيه؛ فإن الملك إذا دعا بلحم الخنزير آتيك به وكُلْهُ، فذبح جديًا، فأعطاه إياه، ثمَّ أتي به إلى الملك فدعا لهم بلحم الخنزير، فأتى صاحب الشرط باللحم الذي كان أعطاه إياه، لحم الجدي، فأمره الملك أن يأكل. قال: فجعل صاحب الشرط يغمز إليه، ويأمره بأكله، ويريه أنه اللحم الذي دفعه إليه، فأبى أن يأكله، فأمر صاحب شرطته أن يقتله. فلما ذهب به قال له: ما يمنعك أن تأكل وهو اللحم الذي دفعت إلى؟ أظننت أني آتيك بغيره؟ قال: قد علمت أنه هو، ولكن خفت أن يقتاس الناس بي، فكلما أُريدَ أحد على أكل لحم الخنزير قال: قد أكله فلان فيقتاس الناس بي، فأكون فتنة لهم (¬1). وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بشرط هذه الأمة، فأتوا بعد زمانه كما أخبر عليه الصلاة والسلام. قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُوْشِكُ إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةً أَنْ تَرَى قَوْمًا في أَيْدِيْهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ البَقَرِ؛ يَغْدُوْنَ في غَضَبِ اللهِ، ¬
200 - ومن أعمال اليهود، والنصارى، وعباد الشمس: تولية الملك والحكم للنساء كما في قصة بلقيس.
ويَرُوْحُونَ في سَخَطِهِ" (¬1). وقال أيضًا: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "صِنْفانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُما: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِياطٌ كأَذْنابِ البَقَرِ يَضْرِبُونَ بِها النَّاسَ، كاسِياتٌ عارِياتٌ مُمِيْلاتٌ مائِلاتٌ، رُؤُوْسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ الْمائِلَة" (¬2). رواهما مسلم. 200 - ومن أعمال اليهود، والنصارى، وعباد الشمس: تولية المُلك والحكم للنساء كما في قصة بلقيس. وكانت هي وقومها يعبدون الشمس، ويسجدون لها من دون الله تعالى، ثمَّ أسلمت لسليمان عليه السلام، وتزوجها على أحد القولين. وقد روى الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، والنسائي عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: ذُكرت بلقيس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لَنْ يُفْلحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأة" (¬3). وذكر المفسرون: أنَّ إلياس عليه السلام كان من بني إسرائيل من ذرية هارون أخي موسى عليهما السلام، بعث إلى سبط من بني إسرائيل كانوا يسكنون بَعْلَبَكَّ من بلاد الشام، وكانوا يعبدون صنماً يُقال له: بعل، وكان إلياس عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله تعالى، ¬
وهم لا يسمعون، ولم يؤمن به إلا ملكهم، وكان اسمه: لاجب، وكان لهذا الملك امرأة كان يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم في غَزاة أو غيرها، وكانت تبرز للناس كما يبرز غيرها، وتركب كما يركب، وتجلس بين الناس فتقضي بينهم، وكان لزوجها جار صالح من بني إسرائيل يقال له: مزدكي، وكان له جنينة إلى جانب قصر الملك يعيش فيها، وكان الملك وزوجته يشرفان على الجنينة، فحسدته عليها، وأرادت أن تسلبه إياها، فنهاها زوجها الملك عن ذلك، فاتفق أن زوجها خرج مرة إلى سفر بعيد، فاغتنمت الفرصة واحتالت على مزدكي، وأمرت جماعة أن يشهدوا عليه أنه يسب الملك، وكان حكمهم في ذلك الزمان على من سب الملك القتل إذا قامت عليه البينة بذلك، ففعلوا، فقتلته بالزور، فلمَّا قدم بعلها لم يرض منها بذلك، وعنَّفها عليه، فأوحى الله تعالى إلى إلياس عليه السلام أن قل للاجب وزوجته: إن الله غضب لوليه، وآلى على نفسه إن لم يتوبا ويردا الجنينة على ورثته لنهلكنَّهما في جوف الجنينة، ثمَّ يدعهما جيفتين ملقاتين فيها، ولا يمتعان فيها إلا قليلًا، فكذبوا إلياس وأرادوا قتله، وفرَّ منهم في شواهق الجبال، ثمَّ كساه الله الريش في قصة طويلة، وسلط الله على لاجب وقومه عدوًا فأرهقهم، وقتل لاجباً وزوجته في جنينة مزدكي، فلم تزل جيفتاهما ملقاتين فيها حتى بليت لحومهما، ورمَّت عظامهما (¬1). ¬
وروى ابن عساكر عن الحسن رحمه الله تعالى: أن ملك بَعْلَبَكَّ الذي كان في زمن إلياس كان على هدى حتى دفع إليهم قوم من عبدة الأوثان زينوا له عبادتها، وكان الذي زين ذلك له امرأته، وكانت قبله تحت ملك جبار من الكنعانيين في طول وجسم وحسن، فمات بعلها المذكور، فاتخذت تمثالًا على صورة بعلها المذكور من ذهب، جعلت له حدقتين من ياقوتتين، وتوَّجته بتاج مكلَّل بالحُّر والجوهر، ثمَّ أقعدته على سرير تدخل عليه، وتدخله وتطيبه، وتسجد له، ثمَّ تخرج عنه، فتزوجت بعد ذلك هذا الملك الذي كان إلياس معه، وكانت فاجرة قهرت زوجها، ووضعت التمثال في بيت، وجعلت له سبعين سادِناً، ودعت الناس إلى عبادته، فهو البعل الذي قال لهم إلياس: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} [الصافات: 125]. فدعاهم إلياس إلى الله فلم يزدهم ذلك إلا بعدًا، فقال إلياس عليه السلام: اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر بك، وعبادة غيرك، اللهم فغيِّر ما بهم من نعمة. فأمسك الله القَطْر عنهم ثلاث سنين (¬1). وقد اتفق في هذه الأمة كثير من تولية النساء الملك والحكم كما يؤخذ من كتب التاريخ إلى عصرنا هذا، وليس هذا بصالح من المسلمين، ومن شروط الإمامة والحكم المذكورة كما لا يخفى، إلا أن من العلماء من أجاز قضاء النساء فيما تجوز به شهادتهن. ¬
201 - ودلت قصة لاجب وامرأته على أن من أعمال بني إسرائيل
201 - ودلت قصة لاجب وامرأته على أن من أعمال بني إسرائيل: تشبه النساء بالرجال كعكسه، وعدم احتجاب النساء منهم، وإتلاف النفس أو العضو بغير حق، بل بمجرد الرأي والقوانين الموضوعة على غير شرع كقتل من سب الملك، ومثل قطع يد من مزق ثوب جندي، أو ضربه، وأن الجندي إذا قتل من الرعية فحده قطع جامكيته، وإخراج منصبه عنه، والزور، وإقراره، والعمل به خصوصًا في قتل النفوس، وغصب عقارات الناس، وإيذاء الجيران. وكل ذلك من القبائح ومن أعمال الجبارين. 202 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: الاحتفال لأعيادهم. ولكل أمة عيد يحتفلون فيه، فجعل الله تعالى لهذه الأمة عيدين في كل عام، وعيد في كل أسبوع ليحتفلوا بأعيادهم، ولا يحتفلوا بأعياد غيرهم. روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي -وهو حديث صحيح على شرط مسلم- عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "ما هذانِ الْيَومانِ؟ ". قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول اللهِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُما؛ يَوْمَ الأَضْحَى، وَيوْمَ الفِطْرِ" (¬1). ¬
وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هَذا يَوْمُ عِيْدٍ جَعَلَهُ اللهُ لِلْمُسْلِمِيْنَ" (¬1)؛ يعني: يوم الجمعة. فينبغي للمؤمن أن لا يحتفل بغير هذه الأعياد الثلاثة، ولا يتخذ غيرها عيداً -سواء كان ذلك على سبيل الابتداع، أو على سبيل المشاركة لأهل الذمة في أعيادهم- لأنَّ من تشبه بقوم فهو منهم. وقد ألَّف العلماء في ذلك مؤلفات، ونحن نورد هنا ما فيه مَقْنعَ في ذلك. قال الله تعالى في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72]. قال ابن عباس: أعياد المشركين. رواه الخطيب (¬2). وقال الضحَّاك مثله (¬3). وقال عمرو بن مُرَّة رحمه الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}: لا يُمالئون أهل الشرك على شركهم، ولا يخالطونهم (¬4). رواهما أبو الشيخ الأصفهاني في "شروط أهل الذمة". ¬
وقال ابن سيرين: هو الشعانين؛ يعني: أعياد النصارى (¬1). وقال مجاهد، والربيع بن أنس: أعياد المشركين (¬2). رواهما أبو بكر الخلال في "الجامع". وقال قتادة {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم، ولا يمالئونهم (¬3). وقال عمرو بن قيس المُلائي في قوله: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}: مجالس السوء (¬4). رواهما ابن أبي حاتم. حملا الزور على ما هو أعم من أعياد المشركين، وهو مجالس المشركين (¬5). وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال: دخل عليَّ أبو بكر رضي الله تعالى عنه وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما قالت به الأنصار يوم بعاث، وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر رضي الله ¬
تعالى عنه: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وذلك يوم عيد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أَبا بَكْرٍ! إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيْدًا، وَهَذا عِيْدُنَا". وفي رواية: "وَإنَّ عِيْدَنا هَذا اليَوْمُ" (¬1). ففي الحديث إشارة إلى أن لكل قوم عيدًا يختص بهم، فأعياد أهل الكتاب خاصة بهم، وأعيادنا خاصة بنا، وأن عيد أهل الإِسلام محصور في جنس ذلك اليوم، وهو ما كان عيدًا شرعيًا، فليس لأحد أن يتخذ عيدًا لم يرد به الشرع الشريف. وتقدم حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها في صوم يوم السبت والأحد، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّهُما يَوْما عِيْدٍ للْمُشْرِكِيْنَ، فَأُحِبُّ أَنْ أُخالِفَهُمْ". وروى البيهقي بإسناد صحيح، عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: لا تعلَّموا رَطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم؛ فإن السخطة تنزل عليهم. وروى بإسناد صحيح، عنه أيضًا أنه قال: اجتنبوا أعداء الله في عيدهم (¬2). ونقل الإمام أبو الحسن الآمدي عن الإمام أحمد: أنه نصَّ على أنَّه لا يجوز شهود أعياد النصارى واليهود احتجاجًا بالآية المتقدمة. ¬
قال: فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره. نص عليه أحمد رضي الله تعالى عنه (¬1). ونص الحافظ الذهبي على تحريم مشاركة المسلمين في أعيادهم، وألَّف في ذلك مؤلفًا. ونصَّ بعض علماء الحنفية على أن ذلك كفر، وبالغوا في التنفير من ذلك (¬2). قال ابن الحاج في "المدخل" نقلًا عن "مختصر الواضحة": سُئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي يركب فيها النصارى لأعيادهم، فكره ذلك مخافة نزول السخطة عليهم لشركهم الذي اجتمعوا. قال: وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي إلى النصراني في عيده مكافأة له، ورآه من تعظيم عيده، وعوناً له على مصلحة كفره؛ ألا ترى أنه لا يجمل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئًا من مصلحة عيدهم لا لحماً، ولا إداماً، ولا ثوبًا، ولا يعارون دابة، ولا يعانون على شيء من دينهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم، وعونهم على كفرهم؟ قال: وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك، وهو قول مالك وغيره، ولم أعلمه اختلف في ذلك. ¬
ثم ذكر ابن الحاج أن مشاركة المسلمين لأهل الكتاب في الأعياد يزيدهم طغياناً، ويؤدي بهم إلى الغبطة والظن أنهم على حق (¬1). واعتبر ابن تيمية في كتاب له سمَّاه "الصراط المستقيم" تحريم مشاركتهم في عيدهم من وجوه: أحدها: أن الأعياد من جملة المناهج والمناسك، بل الأعياد أخص ما تتميز به الشرائع. وقد قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. وقال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67]. فالموافقة في العيد موافقة في النسك. الثاني: أنَّ ما يفعله المشركون في أعيادهم معصية لأنه إما بدعة، وإما منسوخ، وكلاهما لا يجوز الأخذ به. الثالث: أنه متى سوِّغ للمسلمين القليل من مشاركتهم في الأعياد أدى إلى فعل الكثير، وإذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسَوا أصله، وقد يؤدي ذلك بهم إلى مضاهاتهم عيد الكفر بعيد الإِسلام، واختلاط الأديان؛ والعياذ بالله. الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يترك أمته إلا وقد أكمل لهم دينهم، فاتخاذ أعياد الكفار عيدًا لم يوافق أصلًا من أصول الدين المحمدي، ¬
بل مصادمة له، فيجب التنزه عنها. الخامس: أن مشاركتهم في أعيادهم يوجب سرور قلوبهم، وابتهاجها بما هم عليه من الباطل، فيكون ذلك سببًا لدوامهم على ذلك، بل ولطمعهم في ضعفاء الخلق. السادس: أن ما يفعلونه في أعيادهم بعضه كفر، وبعضه منهي عنه، وبعضه مباح، والتمييز بين ذلك مما يخفى على العامة، فتعين اجتناب الكل حسماً للمادة. ولو فعل من مباحات ذلك من ينسب إلى العلم شيئًا فربما ظن الناس من فعله إباحة فعل الكل، فوجب على العالم اجتناب كل ذلك. السابع: أن المشابهة تدل على التفاعل في الأخلاق والصفات، والموافقة في الهَدي الظاهر توجب مناسبة وائتلافًا، فربما أدى الدخول معهم في أعيادهم إلى اكتساب شيء من أخلاقهم واعتقاداتهم. الثامن: أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة وموالاة. وقد قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] (¬1). ¬
1 - فمن ذلك: احتفالهم للخميس الحقير هو وأهله،
واعلم أن ما ذكرناه من مشابهة أهل الكتاب في أعيادهم تتناول أمورًا ربما فعلها كثير من عوام الناس، فينبغي التنبيه عليها لتُحْذَر. 1 - فمن ذلك: احتفالهم للخميس الحقير هو وأهله، والأسبوع الذي هو فيه من الأحد إلى الأحد هو أكبر أعياد النصارى، فيحتفلون له بصبغ البيض، وبيعه، والمقامرة به، وتبخير القبور، ووضع الثياب على السطح، وكتابة الأوراق وإلصاقها بالأبواب، وبيع البخور وشرائه، وخروج النساء لذلك، واتخاذه قرباناً، وطبخ العدس وغيره من الأطعمة المختصة بذلك اليوم، وأخذ النساء لورق الزيتون، والاغتسال بمائه أو بشيء مخصوص غيره؛ فإن أصل ذلك من ماء المعمودية، واتخاذ تلك الأيام أيام راحة ولعب بالخيل وغيرها، والخروج إلى الضواحي، وترك الأشغال والصنائع (¬1). وذلك وأمثاله في هذه الأيام من أعمال النصارى، فعلى المسلم أن لا يشاركهم في شيء منها، وإن غضب منه ولده الصغير وزوجته فلا يرضيهما بسخط الله تعالى، ولا يطيعهما؛ فإن طاعتهما في ذلك فتنة. وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا أَفْلَحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأة" (¬2). وقال الحسن: ما أصبح رجل يطيع امرأته في كل ما تريد إلا أكبَّه الله ¬
في النار (¬1). ومن ذلك ما يحتفل به كثير من الجهلة في عيد الفطر من شراء الفطير منهم، والحرص على ذلك؛ فإن فيه ترويجًا لما هم فيه، وإعانة لهم عليه، وهو مكروه، وبقصد التودد إليهم حرام. والاحتفال بهذا العيد يتفق كثيرًا من العوام بهذه الأمور أو ببعضها، وهم أرباب الجهالة وأهل الحماقة. وأخبث منهم من يخرج من المتصوفة في هذه الأيام إلى المشاهد كالمحل المعروف بسيدي تميم، وسيدي سعد، وقبر الست، وقرية برزة، وقرى المرج وغيرها من قرى دمشق وغيرها، فيخرجون بالمزاهر، والفقراء، والحيات في جيوبهم يقطعونها ويأكلونها إذا اجتمعوا، ويزعمون أن ذلك كرامة لشيخهم الفاسق. وقد تقدم الكلام على ذلك، وهؤلاء من شرار العباد. وقد قال علي - رضي الله عنه -: قصم ظهري عالمُ متهتك، وجاهل متنسك؛ فالجاهل يغش الناس، والعالم يغريهم بتهتك (¬2). وقيل في المعنى: [من الطويل] فَسادٌ كَبِيْرٌ عالِمٌ مُتَهَتِّكٌ ... وَأَكْبَرُ مِنْهُ جاهِلٌ مُتَنَسِّكُ ¬
2 - ومن ذلك: ما يفعله النساء من طبخ العصيدة ونحوها في صبيحة اليوم المعروف عند النصارى بميلاد عيسى،
هُما فِتْنَةٌ لِلْعالَمِيْنَ عَظِيْمَةٌ ... لِمَنْ بِهِما في دِينِهِ يَتَمَسَّكُ (¬1) 2 - ومن ذلك: ما يفعله النساء من طبخ العصيدة ونحوها في صبيحة اليوم المعروف عند النصارى بميلاد عيسى، زعماً منهن أنَّ من لم يفعل ذلك يشتد عليه البرد في تلك السنة وإن تدثر. 3 - ومن ذلك: الاغتسال لغير ضرورة في يوم غطاس النصارى، وهو اليوم الذي يزعمون أن مريم اغتسلت فيه من النفاس، كما قال في "المدخل" (¬2). وقال ابن تيمية: إنَّ النصارى تزعم أنه بعد الميلاد بأيام عُمِّد يحيى وعيسى عليهما السلام بماء المعمودية، فهم يتعمدون في هذا الوقت، ويسمونه عيد الغطاس. قال: وقد صار كثير من النساء يدخلن أولادهن الحمام في هذا الوقت، ويزعمن أن هذا ينفع الولد، وهذا من دين النصارى، وهو من أقبح المنكرات المحرمة، انتهى (¬3). وبلغني أن الروافض يحتفلون بالاغتسال في هذا اليوم. وكذلك يحرم الاحتفال لهذا اليوم بغير ما ذكر مما فيه تعظيمه من ¬
4 - ومن ذلك: احتفال أهل مصر بعيد الزيتونة؛
حيث إنه عيد للنصارى كما ذكره ابن الحاج عن أهل مصر أنهم كانوا يزفون عيدان القصب والفواكه وعليها الشموع موقدة، وكانوا يتهادون فيها أطنان القصب (¬1). 4 - ومن ذلك: احتفال أهل مصر بعيد الزيتونة؛ فإن النصارى تخرج فيه إلى بئر البلسم بالمطرية، فيغتسلون منها، وربما قلدهم في ذلك بعض المسلمين، كما ذكره ابن الحاج أيضًا (¬2). 5 - ومن ذلك: ما يفعله النساء من الامتناع عن شراء السمك وأكله يوم السبت. وقد علمت مما تقدم أن ذلك كان مخصوصًا باليهود. وكذلك امتناعهن عن دخول الحمام، ويتركن الصلاة بسبب ذلك، ولا يبالين. وكذلك لا يشترين فيه الصابون والسِّدر ونحوهما، ولا يغسلن فيه الثياب. وهذه كلها من خصال اليهود كما قال في "المدخل" (¬3). ولعل ذلك في مصر وما والاها لأنها كانت بلده. نعم ربما تحرَّج نساء البلاد الشامية عن غسل الثياب يوم الجمعة، ¬
وهو شبيه بتحرج اليهود عن الأشغال يوم السبت، وكذلك من الرجال من يمتنع عن الصنائع والتجارة يوم الجمعة تعظيماً لليوم، وهذا إن كان أول النهار للغسل والتنظيف، والطيب، والتبكير للجمعة فهو موافق للسنة، وأما بعد الصلاة فالانتشار فيه للابتغاء من فضل الله أولى كما فعله بعض السلف. فأمَّا التحرج عن الاحتراف والشغل حتى يراه كأنه واجب عليه فهو شبيه بحال اليهود بالنسبة إلى يوم السبت، والنصارى بالنسبة إلى يوم الأحد إذا قعد بطّالًا، ولم يشتغل بأوراد يوم الجمعة من ذكر وقراءة، وصلاة وسلامٍ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. بل كان معيلًا لا يكتفي، ولا يكفي عياله إلا من حرفته التي لا اعتراض في الشرع عليه فيها، وترك الحرفة يوم الجمعة في غير وقت الصلاة تعظيمًا ليوم الجمعة، مع علمه بأن ترك الحرفة ذلك اليوم يضر بعيلته ولو في انتقاص بعض حقوقهم، فهو آثم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَمُوْنُ" (¬1). فإن كان يحتج بتعظيم يوم الجمعة في البطالة، ثمَّ يذهب إلى بيوت القهوات ونحوها من المفترجات وأماكن اللهو فهو ممقوت عند الله تعالى. ويتفق ذلك لكثير من الناس في هذه الأعصار، وبلغني عن أهل ¬
حلب أنهم اعتادوا أن يخرجوا للمتنزهات يوم الجمعة يتحرون ذلك، وهي عادة قبيحة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأما تخصيص يوم الجمعة بالتعظيم والتبجيل من حيث الاهتمامُ فيه بالقراءة لا سيما سورة الكهف، وسورة الدخان، وقراءة {الم} السجدة، و {هَلْ أَتَى} [الإنسان: 1]، في صبحها، وسائر أنواع الذكر والعبادة شكرًا لله تعالى على هدايته إياه ليوم الجمعة، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من باب تعظيم شعائر الدين، والتشبه بالعباد الصالحين إلا ما استثناه الشرع من تخصيص يوم الجمعة بصيام وليلتها بقيام. وقد روى الإمام أحمد عن ابن سيرين قال: أنبئت أن الأنصار قبل قدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: لو نظرنا يومًا فاجتمعنا فيه، فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا، فقالوا: يوم السبت، ثمَّ قالوا: لا نجامع اليهود في يومهم، قالوا: يوم الأحد، قالوا: لا نجامع النصارى في يومهم، قالوا: فيوم العروبة، وكان يسمون يوم الجمعة: يوم العروبة، فاجتمعوا في بيت أبي أسامة أسعد بن زرارة، فذبحت لهم شاة، فكفتهم (¬1). فانظر كيف كان الاجتماع على الذكر والشكر تغلي به قلوب الأنصار ألهمهم الله تعالى أن يكون يوم الجمعة، وهداهم الله، وهو اليوم الذي أضلته اليهود والنصارى، وهدى الله هذه الأمة إليه كما في الحديث، لا يوم السبت ولا يوم الأحد فراراً من مشابهة أهل الكتاب، ¬
ثمَّ فرض الله تعالى عليهم الجمعة، فوافقت خواطرهم لما هو مخبوء لهم في علم الله تعالى. ولقد قال بعض أكابر العارفين: من علامة توفيق العبد أن يلهمه الله تعالى نوعًا من الخير، ثمَّ يجده موافقا للأثر، وكذلك اتفق للأنصار - رضي الله عنهم - في قصتهم هذه، ولله الحمد. * تنبِيْهٌ: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]؛ أي: يعرضون عن أهله لا يكلمونهم؛ قاله السدي (¬1). أو: إذا أُوذوا صَفَحوا؛ قاله مجاهد (¬2). رواهما ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وقال إبراهيم بن ميسرة - رضي الله عنهما -: بلغني أنَّ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرَّ بلهو معرضاً ولم يقف، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَقَدْ أصْبَحَ ابنُ مَسْعُودٍ كَرِيْماً" ثُمَّ تَلا إبراهيم: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. رواه ابن أبي حاتم، وابن عساكر (¬3). ¬
فالكرم هو الإعراض عن اللغو، واحتمال الأذى. ولنا في المعنى هذا البيت: [من الرَّمل] أَعْرِضُوا عَنْ كُلِّ لَغْوٍ واسْتَقِيْمُوا ... إِنَّ مَنْ يُعْرِضُ عَنْ لَغْوٍ كَرِيْمُ قال الحسن: اللغو كل المعاصي. رواه ابن جرير (¬1). قلت: أو ما يجر إليها مما لا يعني العبد. فمن الكرم الإعراض عن الغيبة والنميمة، والأحاديث التي تبثها للناس مما لا غرض فيه صحيح، ومحاباة الناس، وكثير المزاح، وما يضحك، واستماع الملاهي، واللعب، والشعبذة، ومهارشة الكلاب، وترقيص الحيوانات، والرقص، والحباط، والسخرية، وخيال الظل، وغير ذلك مما يكتب في سيئات العبد، بل ربما لا يكتب في حسناته. ولقد أثنى الله تعالى على مؤمني أهل الكتاب بالإعراض عن اللغو معرِّضًا بمن سواهم ممن يخوض فيه، ولا يعرض عنه، فقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 52 - 55]. ¬
203 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: الطيرة من حيث هي.
قال مجاهد: هم أناس من أهل الكتاب أسلموا، وكان أناس من اليهود إذا مروا عليهم سبُّوهم. رواه ابن أبي حاتم (¬1). ومما يدخل في مشاركة أهل الكتاب ما يفعله النساء من ترك الاشتغال بأشغالهن ليلة الأحد ويوم الأحد، وهن متشبهات في ذلك بالنصارى، كما نبَّه عليه ابن الحاج في "المدخل" أيضاً (¬2). ومن ذلك تطير العوام من عيادة المريض يوم السبت، حتى إن كثيرًا من جهلتهم لا يأذنون لمن يستأذن على المريض في يوم السبت. قال في "المدخل": وذكر بعضهم أن يهوديًا كان طبيبًا لملك من الملوك، فمرض الملك مرضاً شديدًا، فكان الطبيب لا يفارقه، فجاء يوم الجمعة فأراد اليهودي أن يمضي إلى سبته، فمنعه قدر اليهودي أن يستحل سبته، وخاف على سفك دمه، فقال له اليهودي: إن المريض لا يدخل عليه يوم السبت، فتركه الملك، ومضى لسبته، ثمَّ شاعت هذه البدعة، وصار كثير من الناس يعتمدونها (¬3). 203 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: الطيرة من حيث هي. قال الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}؛ أي: من جَذب ومَحْل {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78]؛ أي: أصابنا ذلك من شؤمك وشؤم أصحابك. ¬
قال جماعة من المفسرين: نزلت هذه الآية في اليهود، والمنافقين لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم المدينة قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه (¬1). وعرَّفهم أن نقص أرزاقهم إنَّما هو سبب كفرهم وشقاقهم، فقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 65، 66]. قال ابن عباس وغيره: يعني: المطر، والنبات (¬2). وذكر الله تعالى الطيرة من أخلاق أهل القرية التي أَرْسل إليها عيسى عليه السلام رسولين، ثمَّ عززهما بثالث بإذن الله تعالى، وهي أنطاكية على قول الأكثرين: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس: 18]. قال قتادة في قوله: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}: يقولون: إذا أصابنا شر فإنَّما هو من أجلكم (¬3). ¬
204 - ومنها: حب الحياة، وإطالة الأمل.
وقال في قوله: {لَنَرْجُمَنَّكُمْ}: بالحجارة (¬1). وفي قوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس: 19]، يقولون: أئن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا (¬2)؟ أخرجه عبد الرزاق، والمفسرون. وقال ابن عباس في قوله: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}: شؤمكم معكم. أخرجه ابن المنذر (¬3). وفي الحديث: "الطيِّرَةُ شِرْكٌ" (¬4)، وسيأتي الكلام على ذلك في التشبه بالجاهلية. 204 - ومنها: حب الحياة، وإطالة الأمل. وهذه الخصلة قَلَّ أن يسلم إنسان منها، ولذلك قيل: حب الحياة طبيعة الإنسان. ولكن المؤمن يحب طول الحياة للأعمال الصالحة، والإعتاب وتدارك ما فات، والفاسق والكافر يحبان طول الحياة ويأملان لغير ذلك. ¬
205 - ومنها: الادخار شحا وبخلا.
وقد يتميز اليهود من حب الحياة لغير طاعة الله تعالى، والاستكثار من الخير، بل للتلذذ والتنعم بالدنيا، والتبسط في الطغيان بزيادة على سائر الناس، فلذلك قال الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96]. 205 - ومنها: الادخار شحًا وبخلًا. وتقدم أنَّ البخل من أخلاق بني إسرائيل، وعدم الثقة بوعد الله تعالى، وترك الاتكال عليه، والتوكل على ما سواه. قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 21، 22]. يعني: العماليق، وهم الكنعانيون، وكان لهم ضخامة زائدة، وطول مُفْرِط. يحكى أن الواحد منهم كان يأخذ عشرة من بني إسرائيل في يده، وكان الله تعالى قد أمر موسى عليه السلام بقتالهم، ووعده أن ينصره عليهم، ويدخلهم أرض الشام، وقال: يا موسى! إني كتبتها لكم دارًا وقرارًا، فلما تعرَّفَ بنو إسرائيل ما عليه الكنعانيون من القوة والإفراط في الطول والضخامة جبنوا، ولم يثقوا بالله تعالى ووعده: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا
مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ}؛ أي: من الله تعالى، وهما يوشع، وكالب. {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ}؛ أمروهم بالشجاعة. {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ}؛ فإن الله تعالى منجز وعده، ومصدق رسله. {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. قيل: فلما قالا ذلك همَّ بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة. {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 22 - 26]. فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ، وهم ستمئة ألف مقاتل، وكانوا يسيرون كل يوم جادين، فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه، ورزقهم الله تعالى في التيه المنَّ والسلوى. والمن: الترنجبين؛ وفي الحديث الصحيح: "الكَمأَةُ مِن الْمَنِّ" (¬1). والسلوى: طائر يشبه السَّمَّان. وكان مع موسى عليه السلام فهو يضعه في مخلاته، يضربه فيسيل ¬
منه اثنتا عشرة عيناً، يشرب كل سبط منهم من عين منها. وكانوا إذا أصبحوا أنزل الله عليهم المنَّ والسلوى من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومه وليلته، وإذا كان يوم الجمعة يأخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه كان لا ينزل عليهم يوم السبت، وكان لا يجوِّز لهم أن يدخروا ما يزيد على ذلك، فادخروا فأنتنَ اللحم، وخَنِز (¬1). روى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْلا بَنُو إِسْرائِيْلَ لَمْ يَخْبُثِ الطَّعامُ، وَلَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا" (¬2). هذا ما كان من اليهود. وأمَّا النصارى فإنهم لمَّا أنزل الله تعالى المائدة عليهم كانت تنزل عليهم كل يوم، ثمَّ ترتفع بعد أن يكتفوا، وكان عليهم أن لا يخونوا ولا يدخروا، فلم يقوموا بذلك. روى الترمذي -موقوفًا وصححه، ومرفوعًا وضعفه- عن عمار ابن ياسر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أُنْزِلَتِ الْمائِدَةُ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأُمِرُوا أَنْ لا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ، وَلا يَخُونُوا، فَخانُوا وادَّخَرُوا، ¬
وَدَفَعُو الِغَل"، فَمُسِحُوا قِرَدَةَ وَخَنازِيْرَ" (¬1). واعلم أن الادخار لم يمنع منه في شريعتنا إلا لو كان على سبيل البخل والشح، أو على سبيل الاحتكار. ثمَّ اللائق بمقام التوكل أن لا يدخر لنفسه شيئاً؛ فإن ادخر لعياله أو ليستريح من مشقة الاحتراف في كل يوم، ويتفرغ للعبادة، فلا يناقض التوكل. نعم، ينبغي أن لا يزيد على قوت سنة؛ ففي "الصحيحين" عن عمر رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعزل نفقة أهله سنة (¬2). والحاصل أن التوكل هو الثقة بالله، وتعلق القلب به لا بالأسباب من حرفة، أو تجارة، أو جراية، أو قوت مدخر، أو مال، أو منفق. فمن تعانى هذه الأسباب، ولم يعتمد بقلبه عليها لأنها قد تتعطل وتهلك، وتعرض لها الآفات، بل كلما كان اعتماده على الله تعالى وكان تعلقه بالأسباب استناناً وابتغاء فقد قام في مقام التوكل، وحافظ على السنة. وقد قال الإمام الجليل أبو محمَّد سهل بن عبد الله التستَري رحمه الله تعالى: من طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في ¬
التوكل فقد طعن في الإيمان (¬1). وقال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]. {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]. {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: 23]. وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]. وقال: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن عقبة بن أبي زينب قال: في التوراة مكتوب: لا تتوكل على ابن آدم؛ فإن ابن آدم ليس له قوام، ولكن توكل على الحي الذي لا يموت (¬2). وعن الوليد بن عمرو قال: بلغني أنه مكتوب في التوراة: ابن آدم! حركْ يدك أفتحْ لك بابًا من الرزق، وأطعني فيما أمرتك فما أعلَمَني بما يصلحك (¬3). وقد بسطنا القول في التوكل، والاكتساب وآداب الكسب في "منبر التوحيد" بما لا مزيد عليه. ¬
206 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: الوقاحة، وعدم الحياء من الله تعالى.
206 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: الوقاحة، وعدم الحياء من الله تعالى. ويكفي من وقاحتهم قول اليهود: عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله. وروى ابن أبي الدنيا في "المنامات"، وأبو نعيم في "الحلية" عن جعفر بن سليمان قال: غدوت على فرقد السبخي رحمه الله تعالى يوما، فسمعته يقول: إني رأيت في المنام كأنَّ منادياً ينادي في السماء: يا أشباه اليهود! كونوا على حياء من الله تعالى (¬1). 207 - ومنها: سخط المقدور، والتدبير والاختيار لغير ما يختاره الله، وعدم الرضا بالقضاء، والجزع، وترك الصبر على البلاء. وقد ورد في وصف أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في التوراة بأنهم الحمَّادون، يحمدون الله على كل حال (¬2). فأما اليهود فلما كان رزقهم في التيه يأتيهم بغير مشقة ولا تعب، غير أنه نوعان من المآكل ليس غير، وهما: المنُّ والسلوى، اختاروا ما فيه التعب والمشقة تفكهاً، واختياراً لأنفسهم، وملالة من ملازمة لون واحد، وسَخَطاً لذلك؛ كما قال الله تعالى مخاطباً لبني إسرائيل: ¬
تنبيهات
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61] الآية. والأخبار عنهم كثيرة، وتأمل ما في قولهم: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ} من حيث لم يقولوا: ادع لنا ربنا. وأما النصارى فإن المائدة لما نزلت عليهم كان يأكل منها الأغنياء والفقراء، فلما تم أربعون يومًا أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى! اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الأغنياء، فتمارى الأغنياء في ذلك، وعادَوا الفقراء، وشككوا الناس، فقال الله تعالى: يا عيسى! إني آخذ شرطي؛ يعني: قوله: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115]، فأصبح منهم ثلاثة وثلاثون خنزيرًا. رواه الحكيم الترمذي في "حديث المائدة" عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه (¬1). * تنبِيهاتٌ: الأَوَّلُ: تأمل فإن مزاحمة الأغنياء للفقراء في أرزاقهم ومرتفقاتهم ظلم بيِّن، وقد يكون سبب نزول العقوبة، ومن ثمَّ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عِنْدَ اتِّخاذِ الأَغْنِياءِ الدَّجاجَ هَلاكُ القُرَى". رواه ابن ماجه، وابن عساكر من ¬
الثاني
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). والمراد اتخاذ الأغنياء الدجاج للاستنتاج؛ فإن ذلك كسب يليق بالفقراء، ولا يليق بالأغنياء، فدخولهم فيه مزاحمة للفقراء، فتقع العقوبة بالقرية التي يكون فيها ذلك فيهلكون. التَّنْبِيْهُ الثَّانِي: الصبر عبادة قديمة، وهو خُلُق أولي العزم من المرسلين، بل وسائر النبيين عليهم الصلاة والسلام أجمعين كما تقدم في محله. وأول من تعبد بالصبر آدم عليه السلام؛ أُمر بالصبر عن أكل الشجرة. وقال يعقوب عليه السلام: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]. ووصف الله تعالى أيوب عليه السلام بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44]. وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. غير أن الله تعالى خصَّ هذه الأمة بالاسترجاع عند المصيبة زيادة على ما شاركوا فيه الأمم من الصبر، فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]. وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه في هذه الآية: نعم العدلان، والعلاوة (¬2). ¬
الثالث
وروى عبد الرزاق، وابن جرير عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: لم يُعطَ أحد الاسترجاع غير هذه الأمة؛ ألا ترون إلى قول يعقوب عليه السلام: {يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] (¬1). بل روى الطبراني في "الكبير"، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أُعْطِيَتْ أُمَّتِي شَيْئاً لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ مِنَ الأُمَمِ؛ أَنْ يَقُوْلُوا عِنْدَ الْمُصِيْبَةِ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُوْنَ" (¬2). التَّنْبِيْهُ الثَّالِثُ: الصبر لم يكن معدومًا في بني إسرائيل ومن بعدهم، بل كان موجودًا فيهم، إلا أن الصابرين منهم قليل. فالصبر في هذه الأمة كثير، بل شملهم وصف الصبر من حيث إنهم قاموا بحق "شهر الصبر" (¬3) الذي هو رمضان، كما سمي به في الحديث من الصيام الذي هو "نصف الصبر" (¬4) كما في الحديث أيضاً. واليهود لم يقوموا بحقه حين كلفوه، بل صاموا يومًا واحداً ثم تركوه. والنصارى وإن صاموه إلا أنهم لم يصبروا له كيف وافق الزمان، ¬
بل نقلوه إلى زمن الربيع. ثمَّ إن الصبر كثير الفوائد في الدنيا والآخرة. ومن أعظم فوائده الدنيوية أن الصابر يسود، ويرأس بالصبر كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 23، 24]. والضمير في قوله: {صَبَرُوا} عائد على الأئمة، لا على كل بني إسرائيل. قال قتادة في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً}: رؤساء في الخير سوى الأنبياء. {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} قال: على ترك الدنيا. رواه ابن أبي حاتم (¬1). وروى الحاكم عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى أنه تلا: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} قال حدثني الزهري: أن عطاء بن يزيد، حدثه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَهُ وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ" (¬2). ¬
208 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: كفران النعم، وترك الشكر.
208 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: كفران النعم، وترك الشكر. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 5 - 7]. روى النسائيُّ، والمفسرون، والبيهقيُّ في "الشعب" عن أُبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5]؛ قال: "بِنِعَمِ اللهِ وَآلائِهِ" (¬1). وقال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. فيه تعريض لمن كان كافرًا لنعمه من بني إسرائيل وغيرهم. وقال تعالى في قصة المائدة: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115]. ¬
فإن الكفر هنا أعم من كفر الشرك، بل هو كفر النعمة الشامل له ولغيره. وحاصل معنى الشكر يرجع إلى الطاعة، ومعنى الكفر أن يرجع إلى المعصية. ومعاصي اليهود والنصارى مقررة. وروى ابن الأنباري في كتاب "الأضداد" عن سعيد بن جبير قال: نزلت المائدة -يعني: على أصحاب عيسى عليه السلام- وهي طعام يفور، فكانوا يأكلون منها قعودًا، فأحدثوا -يعني: معصية- فرفعت شيئًا، فكانوا يأكلون على الركب، ثمَّ أحدثوا فرفعت شيئاً، فأكلوا قيامًا، ثمَّ أحدثوا فرفعت ألبتة. وعن وهب بن منبه قال: كانت مائدة عيسى عليه السلام يجلس عليها أربعة آلاف، فقالوا لقوم من وضعاء قوم: إن هؤلاء يلطخون ثيابنا علينا، فلو بنينا لها دكاناً، فجعلت الضعفاء لا تصل إلى شيء، فلما خالفوا أمر الله رفعها عنهم (¬1). وروى الإمام أحمد عنه قال: بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مرَّ برجل يدعو ويتضرع، فقال: يا رب! ارحمه؛ فإني رحمته، فأوحى الله تعالى إليه: لو دعانا حتى ينقطع قواه فإني لا أستجيب له حتى ينظر في حقي عليه (¬2). ¬
تنبيه
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "المنامات"، وأبو نعيم عن جعفر ابن سليمان رحمه الله تعالى قال: غدوت على فَرْقد رحمه الله تعالى، فسمعته يقول: إني رأيت الليلة في المنام مناديًا ينادي من السماء: يا أصحاب القصور! ويا أشباه اليهود! إن أعطيتم لم تشكروا، وإن ابتليتم لم تصبروا، ليس فيكم خير بعد العذاب (¬1). * تنبِيْهٌ: من كفران النعم إضاعتها، والإساءة في صحبتها. وقد روى الحكيم الترمذي، والبيهقي في "الشعب" وضعفه، والأصبهاني عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي النبي -صلى الله عليه وسلم- فرأى كسرة ملقاة، فقال: "يا عائِشَةُ! أَحْسِنِي جِوارَ نِعَمِ الله؛ فَإِنَّها قَلَّما نَفَرَتْ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ فَكادَتْ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِمْ" (¬2). ومعنى نفرة النعم عن القوم أن يكفروها، فتزول عنهم عقوبةً للكفران. وروى ابن المبارك في كتاب "البر والصلة" عن [يحيى بن] جابر الطائي رحمه الله تعالى قال: إن امرأة من بني إسرائيل أنجت صبيًا لها ¬
209 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: الظلم بجميع أنواعه، والعدوان، وولاية الظالمين والفاسقين والكافرين.
بكسرة من خبز، وجعلتها في حجر، فسلط الله عليها الجوع حتى أكلتها (¬1). وعن الحسن قال: كان أهل قرية أوسع الله عليهم الرزق حتى جعلوا يستنجون بالخبز، فبعث الله عليهم الجوع حتى جعلوا يأكلون ما يقذرون (¬2). ولا يجوز الاستنجاء بالخبز وغيره من مطعومات بني آدم، وكذلك العظام لأنها مطعومات الجن. 209 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: الظلم بجميع أنواعه، والعدوان، وولاية الظالمين والفاسقين والكافرين. وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 92]. وقال تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 51]. وجعل الواو في الآيتين للاستئناف، أو للعطف أولى من جعلها للحال. وقال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]. وقال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ¬
وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]. أي: الظالمي أنفسهم بموالاة الكفار والفجار. وفي الآية إشارة إلى أن تولي بعض الناس لبعضهم، واتباعهم ينبغي ألا يكون إلا للهداية إلى الله تعالى، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، فكيف يهدي بهم؟ فإذا لم يكن لهم هداية فلا ينبغي للعاقل أن يجعل بينه وبينهم ولاية؛ فإن الأعمى لا يكون دليل غيره، بل قد يوقعه إذا اتبعه في الهلكات كما قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]. الركون هو الميل اليسير؛ أي: لا تميلوا إليهم أدنى ميل كأن تتزيوا بزيهم، أو تذكروهم بتعظيم، أو تلينوا الخطاب معهم لغير ضرورة كاتقاء الشر؛ فتمسكم النار بركونكم إليهم. قال القاضي ناصر الدين البيضاوي في الآية: إذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلمًا كذلك، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم، ثم بالميل إليهم كل الميل، ثم بالظلم نفسه،
والانهماك فيه، ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه، انتهى (¬1). قلت: وتأمل في الوعيد المذكور في الآية على الميل إلى من له ظلم ما؛ فإنه توعده بمس النار ناصاً على المس الذي به يتحقق ألم النار، وبأنه لا ولي له ينصره ولو بالشفاعة، وبأنه على تقدير أن يكون له ولي، لا تؤثر ولايته في نصرته، وهذا وجه الأبلغية التي أشار إليها القاضي. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن زيد بن رفيع قال: نظر داود عليه السلام إلى سجل من نار يهوي بين السماء والأرض؛ قال: يا رب! ما هذا؟ قال: هذه لعنتي أدخلها بيت كل ظَلَّام (¬2). والسجل: الدلو الملأى ماء، وقد تقال على الملأى نارًا كما في الأثر؛ إمَّا على وجه المجاز تهكماً واستهزاء بمن توعدوا بها، أو على وجه الاشتراك. ومثلها: الذَّنوب. وفي كتاب الله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات: 59]. ¬
والذنوب هي: الدلو العظيم، وقيل: لا يقال ذَنوب إلا إذا كانت ملأى ماء. وقوله تعالى: {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ}؛ أي: أمثالهم من الظلمة، أو الذين يصحبونهم على ظلمهم، ويوالونهم. ولقد قدمنا ذم الظلم في التشبه بنمرود، وفرعون، وغيرهما. بل الظلم مما تواردت عليه الأمم وكان سبب هلاكهم كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 13 - 14]. نعم، لا يكون الظلم سببًا للاستئصال إلا إذا عمَّ، ولم يكن في القوم منصف بدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]. وروى ابن أبي حاتم، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" عن جرير ابن عبد الله رضي الله تعالى عنه -موقوفًا عليه- والطبراني، وابن مردويه، وغيرهما عنه -مرفوعًا- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُسأل عن تفسير هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَهْلُها يُنْصِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً" (¬1). ¬
210 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: الرياء.
210 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: الرياء. وقد تقدم أنه محرم في سائر الملل. قال الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} إلى قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 1 - 5]. نقل الثعلبي، وغيره عن ابن عباس في هذه الآية قال: وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بإخلاص العبادة لله موحدين له (¬1). 211 - ومنها: عدم الاستقامة على الأمر من الدين، والروغان عنه، والطغيان في النعمة. روى أبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب" من طريق ابن جرس عن الضحاك، عن ابن عباس قال: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد! أتيتك بهدية من عند ربك لك ولأمتك؛ تقر بها عينك. قال: "ما هِيَ؟ إِنَّكَ لتَسُرُّني فِيْهِمْ كَثِيْرًا". قال: قالت اليهود: ربنا الله، ثمَّ لم يستقيموا حتى قالوا: يد الله ¬
مغلولة، و: عزير ابن الله. وقالت النصارى: ربنا الله، ثم لم يستقيموا حتى قالوا: عيسى ابن الله. وقالت أمتك: {رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} عليه، فلم يشوبوه بغيره، ولم يخلطوا به سواه؛ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا} مما تقدمون عليه، {وَلَا تَحْزَنُوا} لما تخلفونه من دين أو عيال؛ فالله خليفتكم فيهم، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] بقول: لا إله إلا الله. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَقْرَرْتَ عَينْي يَا جِبْرِيْلُ". قال: أقر الله عينك يا محمد. وحقيقة الاستقامة: قول الحق والعمل به، والتنزه عن الباطل والعمل به، والدوام على ذلك إلى الموت. قال أنس رضي الله تعالى عنه: قرأ علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]؛ قال: "قَدْ قَرَأَها ناسٌ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، فَمَنْ قالَها حَتَّى يَمُوْتَ فَقَدِ اسْتَقامَ عَلَيْها". رواه الترمذي، والنسائي، وآخرون (¬1). والمراد: من قالها قائمًا بحقوقها غير منحرف عن سبيلها؛ ألا ¬
ترى إلى قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]؟ قال قتادة رضي الله تعالى عنه: أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يستقيم على أمره، ولا يطغى في نعمته. رواه ابن أبي حاتم (¬1). وروى الإمام أحمد، والبخاري في "تاريخه"، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن سفيان الثقفي رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا قال: يا رسول الله! مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدًا بعدك. قال: "قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ". قلت: فما أتقي؟ قال: "فَأَوْمَأَ إلَى لِسانِهِ". وفي رواية: إن سفيان هو السائل (¬2). وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى: أنه سئل عن هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] فقال: استقاموا عليه فعلًا كما أقرُّوا به قولًا. ¬
ثم قال يحيى: كونوا عباد الله بأفعالكم كما زعمتم أنكم عبيد الله بأقوالكم (¬1). ويؤيد قولَ يحيى بن معاذ قولُ عمر رضي الله تعالى عنه في الآية: ثم استقاموا بطاعته. وفي رواية: ولم يروغوا -أي: عنها- روغان الثعالب. رواه الإمامان ابن المبارك، وأحمد؛ كلاهما في "الزهد"، وغيرهما (¬2). وإنما اشترط في الاستقامة المذكورة في الآية الدوام عليها إلى الموت؛ لأن الإنسان قد يستقيم البُرهة من الزمان على الأمر، ثم يحول عنه كما في الحديث: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَها إِلَّا ذِرَاعٌ أَوْ بَاعٌ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُها" (¬3). وهذه الاستقامة هي المعنية في قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 16 - 17]؛ أي: لا راحة فيه. قال عمر - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}: حيث ما كان الماء ¬
كان المال، وحيث كان المال كانت الفتنة. رواه عبد بن حميد (¬1). وروى هو عن الحسن في الآية قال: يقول: لو استقاموا على طاعة الله وما أمروا به لأكثر الله لهم من الأموال حتى يفتتنوا بها. ثم يقول الحسن: والله إن كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لكذلك كانوا سامعين له، مطيعين لله، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر، ففتنوا بها، فوثبوا بإمامهم فقتلوه (¬2). وحقيقة الفتنة في الآية الابتلاء، كما فسرها به ابن عباس فيما رواه ابن جرير (¬3). وحاصله أن العبد قد يستقيم على الطاعة فيوسَّع عليه ابتلاءً وامتحاناً، فإن بقي على استقامته إلى الموت ولم تبطره النعمة والسعة فقد سعد، ولكن إرغاد العيش هو الصفاء الزلال الذي لا يستقيم عليه إلا أقدام الرجال الأبطال؛ فإن الإنسان مجبول على الطغيان بالنعمة إلا من وقى الله وأعان. ألا ترى إلى قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]؟ ¬
ومن هنا قال - صلى الله عليه وسلم -: "شَيَّبَتْنِي هُوْدٌ وَأَخَواتُها" (¬1) لاشتمالها على قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 112 - 113]. كما روى البيهقي في "الشعب" عن أبي علي السَّري قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقلت: يا رسول الله! رُوي عنك أنك قلت: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ". قال: "نَعم". قلت: ما الذي شيبك منه؛ قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال: "لا، وَلَكِنْ قَوْلُهُ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] " (¬2). وروى عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي قلابة رضي الله تعالى عنه قال: أراد ناس من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يرفضوا الدنيا، ويتركوا النساء، ويترهبوا، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فغلظ فيهم المقالة، ثم قال: "إِنَّما هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيْدِ، شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَأُولَئِكَ بَقاياهُمْ في الدِّيارِ والصَّوامِعِ، اعْبُدُوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَحُجُّوا، واعْتَمِرُوا، واسْتَقِيْمُوا يُسْتَقَمْ لَكُمْ". قال: ونزلت فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] (¬3). ¬
212 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: إقرار المنكر، والسكوت عن الحق، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
212 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: إقرار المنكر، والسكوت عن الحق، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79]. قال أبو مالك الغفاري: لعنوا على لسان داود فجعلوا قردة، وعلى لسان عيسى فجعلوا خنازير. رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، والمفسرون (¬1). وروى عبد بن حميد عن قتادة (¬2)، وابن جرير عن مجاهد نحوه (¬3). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لعنوا بكل لسان؛ لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن (¬4). وقال الله تعالى معرضاً بسائر الأمم أنهم كانوا لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، وأن هذه الأمة إنما فضلهم بالأمر والنهي: ¬
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 110]. وروى الإمام أحمد، والبيهقيُّ في "الزهد" عن درة بنت أبي لهب رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: يا رسول الله! من خير الناس؟ قال: "أَتْقَاهُمْ لِلرَّبِّ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ، وآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوْفِ، وَأَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ" (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، والمفسرون عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَوَّلَ ما دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرائِيْلَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيقُوْلُ: يا هَذا! اتَّقِ الله وَدَع ما تَصْنعُ؛ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقاهُ مِنَ الغَدِ وَهُوَ عَلَى حالِهِ فَلا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُوْنَ أكِيْلَهُ وَشَرِيبهُ وَقَعِيْدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلُوْبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُم قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى قوله: {فَاسِقُونَ} [المائدة: 78 - 81] ". ثمَّ قال: "كَلَّا واللهِ لتأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوْفِ، وَلَتنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلتأْخُذنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلتأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبُ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَيَلْعَننكُمْ كَما لَعَنَهُمْ" (¬2). ¬
213 - ومنها: الاسترسال في المعاصي، والانهماك فيها، والإصرار عليها.
وقوله: ولتأطرنه على الحق أطرًا؛ أي: قهرًا، أو إلزامًا باتباع الحق. وروى الأصبهاني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّها النَّاسُ! مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا اللهَ فَلا يَسْتَجِيْبَ لَكُمْ، وَقَبْلَ أَنْ تَسْتَغْفِرُوا الله فَلا يَغْفِرَ لَكُمْ؛ إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوْفِ لا يَدْفَعُ رِزْقًا وَلا يُقَرِّبُ أَجَلًا، وَإِنَّ الأَحْبَارَ والرُّهْبانَ مِنَ النَّصارَى لَمَّا تَرَكُوا الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَعَنَهُمُ اللهُ عَلَى لِسانِ أَنْبِيائِهِمْ، ثُمَّ عُمُّوا بِالبَلاءِ" (¬1). وإنما يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند خوف الضرر والفتنة، وهل يسقط بعلمه أن لا ينفذ ولا ينفع؟ قولان، فأظهرهما الثاني. ومتى سقط طلبه أمنت اللعنة عند تركه. 213 - ومنها: الاسترسال في المعاصي، والانهماك فيها، والإصرار عليها. قال الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]. ¬
214 - ومنها: أنهم كانوا مع انهماكهم في المعاصي يتمنون على الله المغفرة.
وذلك أن بني إسرائيل كان الواحد منهم يرتكب المعصية بينه وبين الله، فكان يستخف بها، ويستصغرها، ويمضي عليها حتى تصير له خُلُقًا، ثم يرتكب الأخرى كذلك حتى تهون عليه المعاصي، فينتقل إلى ظلم الناس واعتدائه عليهم، ويسترسل فيه حتى يفعل العظائم فيقتل، ويكفر، ويطغى ويفجُر، فلمَّا تواردوا على المعاصي استجر بهم إلى قتل الأنبياء، والكفر بالآيات، فبين الله تعالى أنه غضب عليهم وأذلهم بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء، وأنَّ سبب كفرهم وقتلهم الأنبياء الاسترسال في المعاصي والعدوان حتى صار العدوان لهم خُلُقًا، فقتلوا الأنبياء، وكفروا بالآيات. وروى ابن أبي الدنيا في "العقوبات" عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: ما استخفَّ قوم بحق الله إلا بعث الله عليهم من يستخف بهم، ولا أهان قوم أمر الله إلا أهانهم الله، ولا ارتكب قوم محارم الله إلا ركبهم الذل. 214 - ومنها: أنهم كانوا مع انهماكهم في المعاصي يتمنون على الله المغفرة. وهذا غاية الغرور، وهذا يغلب في هذه الأمة على أكثرهم، وربما زَّينه لهم علماء السوء. قال الله تعالى في بني إسرائيل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى
{وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 168 - 170]. وروى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}؛ قال: النصارى (¬1). والظاهر أن الخلف أعم من النصارى، ومنهم ومن هذه الأمة. وهم -كما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه -: أقوام يقبلون على الدنيا فيأكلونها، ويتبعون رُخَص القرآن، ويقولون: سيغفر لنا. لا يعرض لهم شيء من أمر الدنيا إلا أخذوه، ويقولون: سيغفر لنا (¬2). وروى سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى في الآية قال: كانوا يعملون بالذنوب، ويقولون: سيغفر لنا (¬3). ¬
وقال السدي: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلا ارتشى في الحكم، فإذا قيل له يقول: سيغفر لي. رواه أبو الشيخ (¬1). وما أشبه هذا بحال قضاة هذا الزمان وولاته، وأعجب منه من يحسن لهم حالهم، ويطمعهم أن يبلغوا بمجرد الاستغفار آمالهم. ولقد قال عطاء رحمه الله تعالى في الآية: يأخذون ما عرض لهم من الدنيا، ويقولون: نستغفر الله ونتوب إليه. أخرجه ابن أبي حاتم (¬2). أي: يقولون ذلك من غير إقلاع، بل مع الإصرار. وقال أبو الجلد رحمه الله تعالى: يأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن، ويتهافت ويبلى كما يبلى الثوب، لا يجدون له حلاوة ولا لَذاذة، إن قصروا عما أمروا قالوا: إن الله غفور رحيم، وإن عملوا بما نهوا عنه قالوا: سيغفر لنا إنَّا لا نشرك بالله شيئًا، أمرهم كله طمع ليس فيه خوف، لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم المُدْهن. رواه أبو الشيخ (¬3). ولنختم هذا الباب بلطائف من أخبار أهل الكتاب: روى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرائِيْلَ وَلا حَرَجَ" (¬4). ¬
أي: حدِّثوا عنهم ما علمتم إن وقع فيه. ولا حرج؛ أي: وإن كان فيما تحدثون عنهم العجائب والأمور المستبعدة. وليس معناه إجرارَ التحديث بما لم يرد عنهم، أو بكل ما ذكر عنهم. وروى الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرائِيْلَ وَلا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيتَبَوَأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (¬1). وروى الإمام مالك، والبخاري، والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنما أَجَلُكُمْ فِيْما خَلا مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاةِ العَصْرِ إلَى مَغارِبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّما مَثَلُكُم وَمَثَلُ اليَهُودِ والنَّصارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غَدْوَةٍ إلَى نِصْفِ النَّهارِ عَلَى قِيْراطِ قِيْراطٍ، فَعَمِلَتِ اليَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهارِ إلَى صَلاةِ العَصْرِ عَلَى قِيْراطِ قِيْراطٍ، فَعَمِلَتِ النَّصارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ مِنَ العَصْرِ إلَى أَنْ تَغِيْبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيْراطَيْنِ قِيْراطَيْنِ، فَأَنتُمْ هُمْ، فَغَضِبَ اليَهُودُ والنَّصارَى؛ قالُوا: مَا لَنا أَكثَرَ عَمَلاً وَأقلَّ عَطَاءً؟ قَالَ: هَلْ ظَلَمَكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئاً؟ قالُوا: لا، قَالَ: ¬
فَذَلِكَ فَضْلِي أُوْتيْهِ مَنْ أَشاءُ" (¬1). وروى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَثَلُ الْمُسْلِمِيْنَ واليَهُودِ والنَّصارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا يَوْماً إلَى اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُوْمٍ، فَعَمِلُوا لَهُ إلَى نِصْفِ النَّهارِ، فَقَالُوا: لا حَاجَةَ لَنا في أَجْرِكَ الَّذِي شَرَطْتَ لَنا، وَما عَمِلْنا بَاطِلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لا تَفْعَلُوا، أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلًا، فَأَبَوْا وَتَرَكُوا، واسْتَأْجَرَ آخَرِيْنَ بَعْدَهُمْ فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَلَكُمُ الَّذِي شَرَطْتُ لَهُمْ مِنَ الأَجْرِ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذا كانَ حِيْنُ صَلاةِ العَصْرِ قَالُوا: كُلُّ ما عَمِلْنا بَاطِلٌ، وَلَكَ الأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ؛ فَإِنَّما بَقِيَ مِنَ النَّهارِ شَيْءٌ يَسِيْرٌ، فَأَبَوْا، واسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غابَت الشَّمْسُ، فاسْتكمَلُوا أَجْرَ الفَرِيْقَيْنِ كِلَيْهِما، فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ ما قَبِلُوا مِنْ هَذَا النُّوْرِ" (¬2). قلت: حديث ابن عمر السابق فيه إشارة إلى ما أكرم الله به هذه الأمة من تقليل أعمارهم، وتقريب مدة التكليف عليهم مع مضاعفة أجورهم على أجور من تقدمهم. وحديث أبي موسى هذا فيه إشارة إلى استكمال هذه الأمة لما كلفهم الله تعالى به من طاعته، ووفائهم بما أخذ عليهم من العهود مما ¬
قصر فيه أهل الكتابين كالجمعة، وصوم رمضان، وخصال الفطرة، وإخلاص الدين؛ فوفَّاهم الله ثواب أعمالهم الذي فات أولئك. ومن ثم: "إِذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ دَفَعَ اللهُ تَعالَى إِلَى كُل مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرانِيًّا، فَيَقُولُ لَهُ: هَذا فِداؤُكَ مِنَ النَّارِ". رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - (¬1). وروى مسلم من حديثه أيضًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَجِيْءُ يَوْمَ القِيامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ بِذُنُوْبٍ أَمْثالِ الْجِبالِ؛ يَغْفِرُها اللهُ لَهُمْ وَيَضَعُها عَلَى اليَهُوْدِ" (¬2). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أَنَّه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ ثَلاثَةً في بِنَي إِسْرائِيْلَ؛ أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى بَدا للهِ تَعالَى أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ مَلَكاً، فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ؛ قَدْ قَذِرَنِي النُّاسُ. قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ، فأُعْطِيَ لَوْناً حَسَناً وَجِلْدًا حَسَنًا. فَقالَ: أيُّ الْمَالِ أَحَبَّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ، أَوْ قَالَ: البَقَرُ؛ هُوَ شَكَّ في ذَلِكَ أَنَّ الأَبْرَصَ والأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُما: الإِبِلُ، وَقَالَ أَحَدُهُما: البَقَرُ. ¬
فَأُعْطِيَ نَاقَةً عشَراءَ، فَقالَ: يُبارَكُ لَكَ فِيْها. وَأتى الأَقْرَعَ فَقالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبَ عَنِّي هَذا؛ قَدْ قَذِرَني النَّاسُ. قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ، وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا. قَالَ: فَأَيُّ الْمالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: البَقَرُ. فَأَعْطاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، قَالَ: يُبارَكُ لَكَ فِيْها. وَأتَى الأَعْمَى فَقالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللهُ عَلَيَّ بَصَرِيْ، فأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ. قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ. قَالَ: فَأَيُّ الْمالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الغَنَمُ. فأَعْطاهُ شاةً والِدًا. فَأُنْتِجَ هَذانِ، وَوَلَّدَ هَذا، فَكانَ لِهَذا وادٍ مِنَ الإِبِلِ، وَلِهَذا وادٍ مِنَ البَقَرِ، وَلِهَذا وادٍ مِنْ غَنَمٍ. ثُمَّ إنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ في صُوْرَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فقالَ: رَجُلٌ مِسْكِيْنٌ تَقَطَّعَتْ بِهِ الْحِبالُ في سَفَرِهِ، فَلا إِبْلاغَ اليَومَ إِلَّا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْألكَ بِالَّذِيْ أَعْطاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ والْجِلْدَ الْحَسَنَ بَعِيْرًا أتبَلَّغُ عَلَيْهِ في سَفَرِي.
فَقالَ لَهُ: إِنَّ الْحُقُوْقَ كَثِيْرَةٌ. فقالَ لَهُ: كأَنِّي أَعْرِفُكَ؛ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ؟ فَقِيْرًا فَأَعْطاكَ اللهُ؟ فَقَالَ: وَرِثْتُ هَذا كابِرًا عَنْ كابِرٍ. فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إلَى ما كُنْتَ. وَأتَى الأَقْرَعَ في صُوْرتَهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقالَ لَهُ مِثْلَ ما قَالَ لِهَذا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ ما رَدَّ عَلَيْهِ هَذا، فَقالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إلَى ما كُنْتَ. وَأتَى الأَعْمَى في صُوْرتهِ، فَقَالَ لَهُ: رَجُلٌ مِسْكِيْنٌ، وابْنُ سَبِيْلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبالُ في سَفَرِي، فَلا بَلاغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْألكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شاةَ أتَبَلَّغُ بِها في سَفَرِي. فَقالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللهُ عَلَيَّ بَصَرِي، فَقِيْرًا [فَقَدْ أَغْنَاني] فَخُذْ ما شِئْتَ؛ فَواللهِ [لا أَجْهَدُكَ] اليَوْمَ شَيئًا أَخَذْتَهُ للهِ. فَقالَ: أَمْسِكْ مالَكَ؛ فَإِنَّما ابْتُلِيْتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صاحِبَيْكَ" (¬1). وروى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والترمذي، والنسائي عن صهيب رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلَّى العصر همس، فقيل له: يا رسول الله! إنك إذا صليت العصر همست؟ ¬
فقال: "إِنَّ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِياءِ كَانَ أُعْجِبَ بِأُمَّتِهِ فَقالَ: مَنْ يَقُوْمُ لِهَؤُلاءِ؟ فأوْحَى اللهُ تَعالَى إِلَيْهِ أَنْ خَيِّرْهُمْ بَيْنَ أَنْ أَنتقِمَ وَبَيْنَ أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، فاخْتارُوا النِّقْمَةَ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، فَمَاتَ مِنْهُمْ في يَوْمٍ سَبْعُونَ ألفًا" (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا حدَّث بهذا الحديث قال: "كانَ مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ، وَكانَ لِذَلِكَ الْمَلِكِ كاهِنٌ يكهنُ لَهُ، فَقالَ الكاهِنُ: انْظُرُوا لِي غُلامًا فَهِماً، أَوْ قَالَ: فَطِنًا لَقِناً، فَأُعَلِّمَهُ عِلْمِي هَذا؛ فَإِنِّي أَخافُ أَنْ أَمُوتَ فَيَنْقَطِعَ عَنْكُمْ هَذا العِلْمُ، قَالَ: فَنَظَرُوا غُلامًا عَلَى ما وَصَفَ، فَأَمَرُوْهُ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الكاهِنَ، وَأَنْ يَخْتَلِفَ إِلَيْهِ". [وروى] عبد بن حميد هذا الحديث، والإمام أحمد عن صهيب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كانَ مَلِكٌ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ، وَكانَ لَهُ ساحرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ السَّاحِرُ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَحضَرَ أَجَلِي، فادْفَعْ إِلَيَّ غُلامًا لأُعَلِّمَهُ السِّحْرَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ غُلامًا، وَكانَ يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ، وَكانَ بَيْنَ السَّاحِرِ وَبَيْنَ الْمَلِكِ رَاهِبٌ". وقال في الرواية الأولى: "وَكانَ عَلَى طَرِيْقِ الغُلامِ راهِبٌ في صَوْمَعَةٍ، فَجَعَلَ الغُلامُ يَسْأَلُ ذَلِكَ الرَّاهِبَ كُلَّما مَرَّ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ ¬
حَتَّى أَخْبَرَهُ، فَقالَ: إِنَّما أَعْبُدُ الله، فَجَعَلَ الغُلامُ يَمْكُثُ عِنْدَ الرَّاهِبِ، وَيُبْطِئُ عَلَى الكاهِنِ، فَأَرْسَلَ الكاهِنُ إلَى أَهْلِ الغُلامِ: إِنَّهُ لا يَكادُ يَحْضُرُني، فأَخْبَرَ الغُلامُ الرَّاهِبَ بِذَلِكَ، فَقالَ لَهُ الرَّاهِبُ: إِذا قَالَ لَكَ الكاهِنُ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْ: عِنْدَ أَهْلِي، وَإِذا قَالَ لَكَ أَهْلُكَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّكَ كُنْتَ عِنْدَ الكاهِنِ، فَبَيْنَما الغُلامُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ مَرَّ بِجَماعَةٍ مِنَ النَّاسِ كَثِيْرَةٍ قَدْ حَبَسَتْهُمْ دابَّهٌ يُقالُ: كانَتْ أَسَدًا، فَأَخَذَ الغُلامُ حَجَرًا، فَقالَ: إِنْ كانَ ما يَقُوْلُ الرَّاهِبُ حَقًّا فَأَسْألُكَ أَنْ أَقْتُلَ هَذهِ الدَّابَّةَ، وَإِنْ كانَ ما يَقُولُ الكاهِنُ حَقًّا فَأَسْألُكَ أَنْ لا أَقْتُلَها، ثُمَّ رَمَى فَقَتَلَ الدَّابَّةَ، فَقَالَ النَّاسُ: مَنْ قتلَها؟ فَقَالُوا: الغُلامُ، فَفَزِعَ النَّاسُ، وَقالُوا: قَدْ عَلِمَ هَذا الغُلامُ عِلْمًا لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدٌ، فَسَمِعَ أَعْمَى فَجَاءَهُ". وقال في الرواية الثانية: "فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذا أتَى ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى دَابَّةٍ فَظِيْعَةٍ عَظِيْمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَلا يَسْتَطِيْعُوْنَ أَنْ يَجُوْزُوا، فَقَالَ الغُلامُ: اليَوْمَ أَعْلَمُ؛ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَى اللهِ أَمْ السَّاحِرُ، فأَخَذَ حَجَرًا فَقالَ: اللهُمَّ إِنْ كانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ وَأَرْضى لَكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فاقْتُلْ هَذهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَجُوزَ الناسُ، وَرَمَاها فَقَتَلَها، وَمَضَى النَّاسُ، فَأُخْبِرَ الرَّاهِبُ بِذَلِكَ، فَقالَ: أَيْ بُنَي! أَنْتَ أَفْضَلُ مِني وَإِنَّكَ سَتُبْتلَى، فَإِذا ابْتُلِيْتَ فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكانَ الغُلامُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَسائِرَ الأَدْواءِ وَيَشْفِيهِمْ، وَكانَ جَلِيْسُ الْمَلِكِ أَعْمَى فَسَمعَ بِهِ، فَأَتاهُ وَأتاهُ بِهَدايَا كَثِيْرَةٍ، فَقالَ: اشْفِنِيْ وَلَكَ ما هَا هُنا، فَقالَ: ما أَشْفِي أَنَا أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ؛ فَإِنْ آمَنْتَ باللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفاكَ، فآمَنَ فَدَعا الله، فَشَفاهُ،
ثُمَّ أتى الْمَلِكَ فَجَلَسَ مِنْهُ نَحْوَ مَا كانَ يَجْلِسُ، فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ: يا فُلانُ! مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: لا. قَالَ: أَوَلَكَ رَبٌ غَيْرِيْ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الغُلامِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ فَقَالَ: أَيْ بُنَي! قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ أَنْ تُبْرِئَ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وَهَذِهِ الأَدْوَاءَ، قَالَ: ما أَشْفِي أَنا أَحَدًا ما يَشْفِي غَيْرُ اللهِ، قَالَ: أَنا؟ قَالَ: لا، قَالَ: وإِنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرِيْ؟ قَالَ: نعمْ، رَبِّي وَربُّكَ اللهُ، فأَخَذَهُ أَيْضاً بِالعَذابِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَقالَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِيْنَكَ، فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِيْشارَ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ عَلَى الأَرْضِ، وَقالَ لِلأَعْمَى: ارْجِعْ عَنْ دِيْنكَ، فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِيْشارَ عَلىَ مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقّاهُ إلَى الأَرْضِ". وقال في الرواية الأولى: "فَجاءَهُ فَقالَ: إِنْ أَنْتَ رَدَدْتَ بَصَرِي فَلَكَ كَذا وَكَذا، فَقال الغُلامُ: لا أُريدُ مِنْكَ هَذا، وَلَكِنْ أَرَأَيْتَ إِنْ رَجَعَ عَلَيْكَ بَصَرُكَ أتؤْمِنُ بِالَّذِيْ رَدَّهُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: نعمْ، فَدَعا الله فَرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، فآمَنَ الأَعْمَى، فَبَلَغَ الْمَلِكَ أَمْرُهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ، فأُتِيَ بِهِمْ، فَقالَ: لأَقْتُلَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنْكُمْ قِتْلَةً لا أَقْتُلُ بِها صاحِبَهُ، فَأَمَرَ بِالرَّاهِبِ وَالرَّجُلِ الَّذِيْ كَانَ أَعْمَى فَوَضَعَ الْمِيْشارَ عَلَى مَفْرِقِ أَحَدِهِما، فَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ الآخَرَ بِقِتْلَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ أَمَرَ بِالغُلامِ فَقالَ: انْطَلِقُوا بِهِ إلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذا فَأَلْقُوْهُ مِنْ رَأْسِهِ، فانْطَلَقُوا بِهِ إلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا انتهَوْا إلَى
ذَلِكَ الْمَكانِ الّذِي أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوْهُ مِنْهُ فَجَعَلُوا يَتَهافتوْنَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ، وَيَتَرَدَّوْنَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إلا الغُلامُ، ثُمَّ رَجَعَ الغُلامُ، فَأَمَرَ بِهِ الْمَلِكُ أَنْ يَنْطَلِقُوا بِهِ إلَى البَحْرِ فَيُلْقُوْهُ فِيْهِ، فانْطَلَقُوا بِهِ إلَى البَحْرِ، فَأَلْقَى القَوْمُ الغُلامَ، فَغَرَّقَ اللهُ الَّذِيْنَ كانُوا مَعَهُ، وَأَنْجاهُ اللهُ، فَقالَ الغُلامُ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لا تَقْتُلُنِي حَتَّى تَصْلُبَنِي وَتَرْمِيَني، وَتَقُوْلَ إِذا رَمَيْتَنِي: بِسْمِ اللهِ رَبِّ الغُلامِ، فأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ، ثُمَّ رَماهُ وَقالَ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الغُلامِ، فَوَضَعَ الغُلامُ يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ حِيْنَ رُمِيَ، ثُمَّ ماتَ، فَقالَ النَّاسُ: لقَدْ أوْتِيَ هَذا الغُلامُ عِلْماً ما عَلِمَهُ أَحدٌ؛ فَإِنَّا نُؤْمِنُ بِرَبِّ هَذا الغُلامُ. فَقِيْلَ لِلْغُلامِ: إِنْ خالَفَكَ ثَلاثةٌ فَهَذا العالَمُ كُلُّهُمْ قَدْ خالَفُوكَ. قَالَ: فَخَدَّ أُخْدُوْداً، ثُمَّ أُلقِيَ فِيْها الْحَطَبَ والنَّارَ، ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وَقالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِيْنهِ تَرَكْناهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ ألقَيْناهُ في هَذِهِ النَّارِ، فَجَعَلَ يُلْقِيْهِمْ في تِلْكَ الأخْدُوْدِ، فَقالَ: يَقُولُ اللهُ -عز وجل -: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} حتى بلغ {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 4 - 8] ". فأمَّا الغلامُ فإنَّه دفن ثم أخرج فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطَّاب رضي الله تعالى عنه وأصبعه على صُدغه كما وضعها حين قُتل. وقال في الرواية الثانية: "فقالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الغُلامِ، فَقِيْلَ لِلْمَلِكِ: أَرَأَيْتَ ما كُنْتَ تَحْذَر، فَقَدْ واللهِ نزَلَ بِكَ هَذَا مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَأَمَرَ بِأَفْواهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ فِيْها الأُخْدُوْدُ، وَأُضْرِمَتْ فِيْها النِيْرانُ، وَقالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِيْنهِ فَدَعُوْهُ، وَإِلَّا فأَقْحِمُوْهُ فِيْها، فَكَانُوا يَتَقاحَمُونَ
فِيْها وَيَتَدافَعُوْنَ، فَجاءَتِ امْرَأةٌ بِابنٍ لَها صَغِيْر فَكَأَنَّها تَقاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ في النَّارِ، فَقالَ الصَّبِيُّ: يا أُمَّهْ! اِصْبِرِيْ؛ فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ" (¬1). وروى ابن جرير عن ابن عباس: أنَّ أصحاب الأخدود ناس من بني إسرائيل (¬2). وعن عكرمة: أنهم كانوا من القبط (¬3). وروى ابن المنذر عن مجاهد: أنَّ الأخدود شَقٌّ بنجران كانوا يعذبون الناس فيه (¬4). وعن الحسن، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أن أصحاب الأخدود الحبشة (¬5). وعن قتادة: أن علياً رضي الله تعالى عنه كان يقول: هم أناس بمزارع اليمن (¬6). وروى ابن عساكر عن عبد الله بن جبير بن نفير قال: كانت الأخدود زمان تُبَّع (¬7). ¬
وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن يحيى عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان نبي أصحاب الأخدود حبشياً" (¬1). وروى عبد بن حميد عن سلمة بن كُهيل قال: ذكروا أصحاب الأخدود عند علي رضي الله تعالى عنه فقال: أما إن فيكم مثلهم، فلا يكوننَّ أعجز من قوم (¬2). وعن الحسن مرسلًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا ذَكَرْتُ أَصْحابَ الأُخْدُوْدِ إلا تَعَوَّذْتُ باللهِ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ" (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن عوف قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جَهْد البَلاء (¬4). وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَعَوَّذُوا باللهِ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ وَدَرْكِ الشَّقَاءِ، وسُوْءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ" (¬5). وروى الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، والنسائي عن خَبَّاب ابن الأَرَتِّ - رضي الله عنه -: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَانَ الرَّجُلُ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذ فَيُحْفَرُ لَهُ في ¬
الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيْهِ، وَيُجاءُ بِالْمِيْشارِ فَيُوْضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ؛ مَا يَصدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِيْنهِ. واللهِ لَيُتمَّنَّ هَذا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيْرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعاءَ إلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخافُ إِلَّا الله والذِّئبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنكُمْ تَسْتَعْجِلُوْنَ" (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَانَ رَجُلانِ في بَنِي إِسْرائِيْلَ مُتآخِيانِ، وَكَانَ أَحَدُهُما مُذْنِبًا، والآخَرُ مُجْتَهِدًا في العِبادَةِ، وَكَانَ لا يَزالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْب، فَيَقُوْلُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقالَ: خَلِّنَي وَرَبِي؛ أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيْباً؟ فَقَالَ: واللهِ لا يُغْفَرُ لَكَ، أَوْ: لا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ، فَقَبَضَ رُوْحَهُما، فاجْتَمَعا عِنْدَ رَبِّ العالَمِيْنَ، فَقالَ لِهَذا المُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِيْ عالِمًا؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يدي قَادِرًا؟ وَقالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقالَ للآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إلَى النَّارِ" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن خالد بن أيوب: أنه كان في بني إسرائيل عابد كان يُقال: عابد بني إسرائيل، وكان فيهم رجل فاسد كان يُقال له: خليع بني إسرائيل، فمرَّ ذلك الذي يُقال له: خليعٌ بالعابد ¬
وهو قائم يصلي، فقال: هذا عابد بني إسرائيل، وأنا خليع بني إسرائيل، فلو دنوت منه لعلها أن تنزل عليه رحمة فيصيبني من ذلك، فدنا منه، فعرض في صدره: أنا عابد بني إسرائيل، وهذا خليع بني إسرائيل، فما أدناه مني وما قرَّبه إلي؟ [فأنف منه، وقال له: قم عني] قال: فنزل الوحي على نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن مُر هذين فليستأنفا العمل [فقد غفرت للخليع، وأحبطت عمل العابد] (¬1). وروى ولده في "زوائده" عن كعب رحمه الله تعالى قال: كان رجل أعطاه الله -عز وجل- في الدنيا نهرًا، وكان ناس من الناس يعيشون في فضل مائه، فأتاه الشيطان فقال: حتى متى يعيش هؤلاء من فضل نهرك ولا يعينونك في نفقته ولا مؤنته؟ قال: فجمعهم، فقال لهم ذاك. فقالوا: الحق حقك، فإن ترفقنا فأنت أهل ذلك، فسكَّره عنهم. قال: فيوقف للحساب يوم القيامة، فيقول الله تعالى يوم القيامة: يا عبد الله! أعطيتك في الدنيا نهرًا؟ فيقول: نعم. قال: كان عباد من عبادي يعيشون في فضل مائك؟ فيقول: نعم، أي رب. قال: فسكَّرته عنهم؟ ¬
قال: نعم، أي رب. قال: يقول الله -عز وجل-: وعزتي لأمنعنك اليوم فضلي. قال: يقول كعب: هلك الرجل. وروى أبو نعيم عن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا بلغ المبلغ يمشي في الناس تظله غمامة، فمرَّ رجل قد أظلته غمامة على رجل، فأعظمه لما رآه مما آتاه الله -عز وجل-. قال: فاستحقره صاحب الغمامة، أو قال كلمة بنحوها. قال: فأمرت أن تتحول من رأسه إلى رأس الذي عظَّم أمر الله -عز وجل- (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب: أن سائحًا دخل قرية فإذا رجل من عظماء تلك القرية قد توفي، فخرج منها، فقال: لا أقبر هذا الجبار. ثم نام نومة، فجاءه جاءٍ فقال: يا فلان! هل تملك من رحمة الله شيئاً؟ قال: لا، حتى قال ذلك ثلاث مرات، وهو يقول: لا. قال: وما يدريك ما أحدث في وجهه هذا؟ (¬2) وعن يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى قال: كانت أخيار بني إسرائيل الصغير منهم والكبير لا يمشون إلا بالعصا مخافة أن يختال في مشيه (¬3). ¬
قلت: لعل الأصل في ذلك اتخاذ موسى عليه الصلاة والسلام العصا. وروى الشيخان عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَانَ في بَنِي إِسْرائِيْلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِيْنَ إِنْسَاناً، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ، فَأَتَى رَاهِباً فَسَأَلَهُ، فَقالَ: لَهُ تَوْبَةٌ؟ فَقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَجَعَلَ يَسْأَل، فَقالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذا وَكَذا، فأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَناءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَها، فاخَتَصَمَ فِيْهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ العَذابِ، فَأَوْحَى اللهُ إلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَأَوْحَى إلَى هَذَهِ أَنْ تَباعَدِيْ، وَقَالَ: قِيْسُوا ما بَيْنَهُما، فَوُجِدَ إلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِيَسِيْرٍ، فَغُفِرَ لَهُ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والشيخان، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كَانَتِ امْرَأَتانِ مَعَهُما ابْناهُما، جاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْداَهُمَا، فَقالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقالَتِ الأُخْرَى: إِنَّما ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحاكَما إلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرى، فَخَرَجَتا عَلَى سُلَيْمانَ بنِ دَاوُدَ عَلَيْهِما السَّلامُ فَأَخْبَرَتاهُ، فَقالَ: ائتوْنِي بِالسِّكَيْنِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُما، فَقالَتِ الصُّغْرَى: لا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللهُ، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى" (¬2). ¬
وهذا القضاء ممَّا فهَّمهُ اللهُ تعالى سليمان عليهِ السَّلام. وروى ابن أبي شيبة، وابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانت امرأة عابدة من بني إسرائيل، وكانت تبتَّلت، وكانت لها جاريتان جميلتان، وقد تبتلت المرأة لا تريد الرجال، فقالت إحدى الجاريتين للأخرى: قد طال علينا هذا البلاء، أما هذه فلا تريد الرجال، ولا نزال بشر ما كنا لها، فلو أنَّا فضحناها فرجمت، فصرنا إلى الرجال. فأخذتا ماء البيض، فأتتاها وهي ساجدة، فكشفتا عنها ثوبها، ونضحتا في دبرها ماء البيض، وصرختا: إنها قد بغت -وكان من زنى فيهم حده الرجم- فدفعت إلى داود عليه السلام وماء البيض في ثيابها، فأراد رجمها، فقال سليمان عليه السلام: ائتوا بنار؛ إن كان ماء الرجال تفرق، وإن كان ماء البيض اجتمع. فَأُتِيَ بنار فوضعها عليه فاجتمع، فدرأ عنها الرجم، فعطف داود على سليمان فأحبه. ثم كان بعد ذلك أمر أصحاب الحرث وأصحاب النساء، فقضى داود لأصحاب الحرث بالغنم، فخرجوا، وخرجت الرعاء ومعهم الكلاب، فقال سليمان: كيف قضى بينكم؟ فأخبروه، فقال: لو وليت أمرهم لقضيت بينهم بغير هذا القضاء، فقيل لداود: إنَّ سليمان يقول كذا وكذا، فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم؟
فقال: أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث هذا العام، فيكون لهم أولادها ونسلائها وألبانها ومنافعها، ويبدل أصحاب الغنم لأصحاب الحرث حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذ هؤلاء الحرث، ودفعوا إلى هؤلاء الغنم (¬1). وذلك ما وقعت إليه الإشارة بقوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79]. وقيل: كان الحرث كرماً (¬2). وروى ابن عساكر عن ابن عباس: أن امرأة حسناء في بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم، فامتنعت على كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها، فشهدوا عليها عند داود عليه السلام أنها مكنت من نفسها كلباً لها قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها، فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان عليه السلام، واجتمع معه ولدان مثله، فانتصب حاكماً، وتزيا أربعة بزي أولئك، وآخر بزيِّ المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلباً، فقال سليمان: فرقوا بينهم، فسأل أولهم: ما كان لون الكلب؟ فقال: أسود. ¬
فعزله، واستدعى الآخر، فسأله عن لون الكلب. فقال: أحمر. وقال الآخر: أغبش. وقال الآخر: [أبيض]. فأمر عند ذلك بقتلهم. فحكي ذلك لداود عليه السلام فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة، فسألهم متفرقين، فسألهم عن ذلك الكلب فاختلفوا، فأمر بقتلهم (¬1). ولعل استفسار داود للشهداء كان بعد رجم المرأة، فلذلك قتلهم قصاصًا. وفي قصة سليمان وأبيه يقضي الحكم إذا خالف قياسًا جليًا، وأنَّ القاضي العالم إذا اجتهد وأخطأ لا يضره ذلك وهو مأجور، وإنما يأثم القاضي الجاهل وإن اجتهد لأن اجتهاده عن غير علم موافق. وقد روى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر من طريق حمَّاد بن سلمة عن حميد الطويل: أنَّ إياس بن معاوية لما استقضي أتاه الحسن فرآه حزينًا، وبكى إياس، فقال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد! بلغني أن القضاة ثلاثة: رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. ¬
فقال الحسن: إنَّ فيما قضى الله تعالى من ثناء داود ما يرد ذلك، ثمَّ قرأ: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} حتى بلغ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79]. فأثنى على سليمان ولم يذم داود. ثمَّ قال: أخذ الله على الحكام ثلاثة: أن لا يشتروا ثمنًا قليلًا، ولا يتبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس، ثمَّ تلا هذه الآية: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] الآية. {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة: 44] (¬1). وفي معنى كلامه قال والدي في "تفسيره": [من الرجز] قَدْ أَخَذَ اللهُ عَلى الْحُكَّام ... ثَلاثَةً أَوَّلُها التَّحامِي عَنِ الْهَوى والثَّانِيْ أَنْ لا يَخْتَشُوا ... النَّاسَ والثَّالِثُ أَنْ لا يَرْتَشُوا وروى أبو نعيم عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: كانت القضاة ثلاثة -يعني: في بني إسرائيل- فمات واحد، فجعل آخر مكانه، فقضوا ما شاء الله أن يقضوا، فبعث الله -عز وجل- ملكاً على فرس، فمرَّ على ¬
رجل يسقي بقرة معها عجل، فتبع العجل الفرس، فتبعه صاحب العجل فقال: يا عبد الله! عجلي. فقال الملك (¬1): عجلي وهو ابن فرسي، فخاصمه حتى أعياه، فقال: القاضي بيني وبينك، قال: قد رضيت. قال: فارتفعا إلى أحد القضاة. قال: فتكلم صاحب العجل، فقال: إنه مرَّ بي على فرسه فدعا عجلي، فتبعه، فأبى أن يرده، قال: ومع الملك ثلاث دُرَّات لم ير الناس مثلها، فأعطى القاضي درة، فقال: اقض لي. فقال: كيف يسوغ هذا لي؟ قال: تخرج البقرة والفرس، فإذا تبع العجل الفرس عذرت. قال: ففعل ذلك. قال: ثم أتى الآخر ففعل مثل ذلك، ثم أتى الثالث وناوله الدرة فلم يأخذها. وقال: لا أقضي بينكما اليوم؛ فإني حائض. فقال الملك: سبحان الله هل يحيض الرجل قال: سبحان الله! هل تنتج الفرس عجلًا؟ فقضى لصاحب البقرة (¬2). وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى قال: كان رجل من ¬
بني إسرائيل يعمل بمسحاة له، فأصاب أباه فشجه، فقال: لا يصحبني ما فعل بأبي ما فعل، فقطع يده، فبلغ ذلك بني إسرائيل، ثم إن ابنة الملك أرادت أن تصلي في بيت المقدس فقال: مع من نبعث بها؟ قالوا: فلان، فبعث إليه فقال: أعفني، فقال: لا، قال: فأجلني إذًا أيامًا، قال: فذهب فقطع مذاكيره، فلما برأ وضع مذاكيره في حق، ثم جاء به وخاتمه عليه، فقال: هذه وديعتي عندك فاحفظها. قال: ونزله الملك منزلًا منزلًا، أنزل يوم كذا وكذا، فإذا أتيت بيت المقدس فأقم فيه كذا وكذا، وإذا أقبلت فأقبل يوم كذا وكذا، فوقَّت له وقتاً، فلما سار جعلت ابنة الملك لا تقتدي به تنزل حيث شاءت، وترحل متى شاءت، وجعل إنما يحرسها وينام عندها، فلما قدم عليه قالوا له: إنما كان ينام عندها. قال له الملك: خالفت أمري، وأراد قتله. فقال: اُردد علي وديعتي، فلما ردها فتح الحق، وكشف عن مثل الراحة، ففشا ذلك في بني إسرائيل، قال: فمات قاض لهم، فقالوا: من نجعل مكانه، قالوا: فلان، فأبى، فلم يزالوا به حتى قال: دعوني حتى أنظر في أمري، فكحل عينيه بشيء حتى ذهب بصره. قال: ثم جلس على القضاء، فقام ليلة فدعا الله، فقال: اللهم إن كان هذا الذي صنعت لك فيه رضي فاردد عليَّ خَلْقي أحسن ما كان. قال: فأصبح وقد رد الله عليه بصره ومقلتيه أحسن ما كانتا، ويده، ومذاكيره (¬1). ¬
واعلم أنَّ مثل ذلك من عقوبات النفس ليس جائزًا في شريعتنا؛ لأنَّ الله تعالى رفع عن هذه الأمة مثل هذه الأخبار، وفي آداب الشريعة كالندم على الذنب، وكسر النفس بالصوم، والاعتصام بالله ما يغني عن ذلك. وفي هذا الأثر ما يدل على أنَّ قضاء الأعمى كان نافذًا في بني إسرائيل، وأما في شريعتنا فلا تصح تولية الأعمى القضاء، ولا قضاؤه على أرجح المذاهب. وروى الضياء المقدسي، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رجلاً هلك على عهد داود عليه السلام، فغدا فلم يَدْرِ أحد كيف هلك، وخلف ولدًا صغيرًا، فربته أمه حتى ترعرع، ثم انطلقت به فأجرته من رجل صائغ شهرًا معلومًا ليتعلم صنعته، فتقاضاه الصبي ببعض أجرته، فلطمه أستاذه لطمة آلمته، فخرج وهو يتأوه ويبكي، فلقيه داود عليه السلام فقال: مالك يا غلام؟ فقال: يا خليفة الله! إنَّ أمي آجرتني من رجل، فعملت اليوم شهرًا، فطالبته اليوم ببعض أجرتي لشهوة عرضت في نفسي، فلطمني فآلمني. فشقَّ على داود ذلك، فنزل الوحي في الحال: يا داود! اقطع يد الرجل. فأحضره وأمر بقطع يده، فاجتمعت بنو إسرائيل وقالت: يا نبي الله! راجع ربك واسأله التخفيف؛ فإن ذلك سنة تبقى إلى آخر الدهر.
فسجد داود وسأل ربه، وقال: يا رب! إنَّ بني إسرائيل جزعت أن يكون كل من لطم يتيماً قطعت يده، وهي تسأل التخفيف في هذه العقوبة. وبنو إسرائيل مزدحمون عليه ينتظرون الجواب، والرجل واقف يرعد. فنزل الوحي: إنك إذا قطعت يد الرجل فاصلبه، ولا تراجعني فيه، وأعط ماله للصبي. فأخبرهم وقال: إن كان جزعتم من قطع اليد فقد نزل أعظم منه؛ الصلب بعد قطع اليد، وأخذ ماله للصبي، ونهاني عن المراجعة في ذلك. فتقدم وجعل خشبة في الأرض، وأمر بأخذه ليصلب، فضج بنو إسرائيل، وبكى بعضهم، وشق عليهم، فلما دنا الرجل من الخشبة التفت، وقال: يا أيها الناس! أشهدكم على نفسي أن ربي تعالى ما ظلمني، وليست سنة تبقى عليكم، أنا والله خلوت بأبي هذا الغلام، فمانعني على حرفته، فكسرت يده، وأخذت المال، ثم قتلته وأخفيته، فاليد باليد، والنفس بالنفس، والمال بالمال حكمًا عدلًا، ثم صلب، وأخذ الغلام ماله. وروى الضياء المقدسي عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: كان عابدًا من عباد بني إسرائيل يعبد الله في صومعة له، وحوَّار يحور
الثياب في نهر أسفل الصومعة، فجاء فارس فنزع ثيابه، وحل هِمْيانه فاغتسل، والراهب يراه، ثم خرج ولبس ثيابه، واستوى على فرسه، ونسي هميانه، ومضى، وجاء صياد وفي يده شبكة يتصيد السمك، فرأى الهميان فأخذه ومضى، ورجع الفارس وقال للحوار: همياني نسيته ها هنا. فقال: ما رأيت شيئًا. فسَلَّ سيفه وقتله. وكاد الراهب أن يفتتن، فقال الراهب: إلهي وسيدي! أيأخذ الصياد الهميان ويقتل الحوار؟ فلما أن كان الليل أوحى الله إليه في منامه: أيها العبد الصالح! لا تفتتن، ولا تدخل في علم ربك؛ فربك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. إن هذا الفارس قتل أبا الصياد وأخذ ماله، وهذا الحوار كانت صحيفته مملوءة بالسيئات، ولم يكن له إلا حسنة واحدة، فلما قتل الحوار امتحيت حسنة وسيئة الحوار، ورجع المال إلى صاحبه (¬1). وروى [عبد الله ابن] الإمام [أحمد] في "زوائد الزهد" عن شميط ابن عجلان رحمه الله تعالى قال: كان عابد في بني إسرائيل يقول في دعائه: اللهم أعني على ديني بدنيا، وعلى آخرتي بتقوى (¬2). ¬
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الورع" عن كعب رحمه الله تعالى قال: اجتمع ثلاثة من عباد بني إسرائيل فقالوا: تعالوا حتى يذكر كل إنسان منا أعظم ذنب عمله. فقال أحدهم: أمَّا أنا فلا أذكر من ذنب أعظم من أني كنت مع صاحب لي، فعرضت لنا شجرة، فخرجت عليه ففزع مني، فقال: الله بيني وبينك. وقال أحدهم: إنا معاشرَ بني إسرائيل إذا أصاب أحدنا بول قطعه، فأصاب جسدي بول فقطعته، فلم أبالغ في قطعه ولم أدعه، فهذا أعظم ذنب عملته. وقال أحدهم: كانت لي والدة فدعتني من قبلي شمال الريح، فأجبتها فلم تسمع، فجاءتني مغضبة، فجعلت ترميني بالحجارة، فأخذت عصا وجئت لأقعد بين يديها لتضربني به حتى ترضى، ففزعت مني، فأصابت وجهها شجرة فشجَّتها، فهذا أعظم ذنب عملته (¬1). وعن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: كان أَخَوان في بني إسرائيل فقال أحدهما لصاحبه: ما أخوفُ عمل عملته عندك؟ فقال: ما عملت عملًا أخوف عندي من أني مررت بين قراحي سنبل، فأخذت من أحدهما سنبلة، ثم ندمت فأردت أن أردها في القراح الذي أخذتها منه، فلم أدرِ من أي القراحين هو، فطرحتها في أحدهما، ¬
فأخاف أن أكون طرحتها في غير الذي أخذتها منه. فما أخوف عمل عملته عندك؟ قال: إن أخوف عمل عندي أني إذا قمت في الصلاة أخاف أن أكون أحمل على إحدى رجلي فوق ما أحمل على الأخرى. وأبوهما يسمع، فقال: اللهم إن كانا صادقين فاقبضهما قبل أن تفتنهما، فماتا (¬1). وروى أبو نعيم عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَوْحَى اللهُ تَعالَى إلَى نبِيٍّ مِنْ أنبِياءِ بَني إِسْرائِيلَ: قُلْ لأَهْلِ طَاعَتِي مِنْ أُمَّتِكَ أَنْ لا يَتَّكِلُوا عَلَى أَعْمالِهِمْ؛ فَإِنِّي لا أقَاص عَبْدًا الْحِسابَ يَوْمَ القِيامَةِ أَشاءُ أَنْ أُعَذِّبَهُ إِلَّا عَذَّبْتُهُ، وَقُلْ لأَهْلِ مَعْصِيتَي مِنْ أُمَّتِكَ لا يُلْقُوا بأَيْدِيْهِمْ؛ فَإِنيِّ أَغْفِرُ الذَّنْبَ العَظِيْمَ وَلا أُبالِي، وإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلا مَدِيْنَةٍ، وَلا أَهْلِ الأَرْضِ، وَلا رَجُلٍ بِخاصَّتِهِ وَلا امْرَأَةٍ يَكُونُ لِي عَلَى ما أُحِبُّ إِلَّا كُنْتُ لَهُ عَلَى ما يُحبُّ، وَإِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مَدِيْنَةٍ وَلا أَرْضٍ، وَلا رَجُلٍ بِخاصّةٍ، [ولا امرأةٍ يكونُ لي عَلَى ما أُحِبُّ إلا كنتُ لَهُ عَلَى ما يُحِبُّ] (¬2) ثُمَّ يَتَحَوَّلُ عَمَّا أُحِبُّ إلَى مَا كَرِهْتُ إِلَّا تَحَوَّلْتُ لَهُ مِمَّا يُحِبُّ إلَى ما يَكْرَهُ، وَإنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلا مَدِيْنَةٍ، وَلا أَهْلِ أَرْضٍ، وَلا رَجُلٍ بِخاصَّةٍ ¬
وَلا امْرَأةٍ يكُونُ لِي عَلَى مَا أَكرَهُ إِلَّا كُنْتُ لَهُ عَلَى ما يَكْرَهُ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلا أَرْضٍ، وَلا رَجُلٍ بِخاصَّةٍ وَلا امْرَأَةٍ يكُونُ لِي عَلَى مَا أَكْرَهُ فَأكُوْنُ لَهُ عَلَى ما أَكْرَهُ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ عَمَّا أَكْرَهُ إِلَّا تَحَوَّلْتُ لَهُ عَمَّا يَكْرَهُ إلَى مَا يُحِبُّ، لَيْسَ مِنِّي مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، وَلا مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، إِنَّما أَنا وَخَلْقِي، وَكُلُّ خَلْقِي لِي" (¬1). وعن وهب قال: مرَّ عيسى بن مريم عليهما السلام بقرية قد مات أهلها، وإنسها وجنُّها، وهوامُها وأنعامها وطيرها، فقام عيسى عليه السلام ينظر إليها ساعة، ثم أقبل على أصحابه فقال: مات هؤلاء بعذاب الله -عز وجل-، ولو ماتوا بغير ذلك ماتوا متفرقين. قال: ثم ناداهم عيسى عليه السلام: يا أهل القرية! قال: فأجابه مجيب: لبيك يا روح الله. قال: ما كانت جنايتكم؟ قالوا: عبادة الطاغوت وحب الدنيا. قال: وما كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال: الطاعة لأهل معاصي الله -عز وجل-. ¬
قال: فما كان حبكم للدنيا؟ قال: كحب الصبي لأمه؛ كنا إذا أقبلت فَرِحْنا، وإذا أدبرت حَزِنَّا مع أمل بعيد، وإدبار عن طاعة الله، وإقبال في سخط الله. قال: كيف كان شأنكم؟ قال: بتنا ليلة في عافية، وأصبحنا في الهاوية. قال عيسى: وما الهاوية؟ قال: سجِّين. قال: وما سجِّين؟ قال: جمرة من نار مثل طباق الدنيا كلها، دفنت أرواحنا فيها. قال: فما حال أصحابك لا يتكلمون؟ قال: لا يستطيعون أن يتكلموا. قال عيسى: وكيف ذاك؟ قال: ملجمون بلجام من نار. قال: كيف كلمتني أنت من بينهم؟ قال: إني كنت فيهم ولم أكن على حالهم، فلما جاء البلاء عمَّني معهم، فأنا معلق بشعري في الهاوية لا أدري أكُرْدَس في النار أم أنجو. فقال عيسى عليه السلام: بحق أقول لكم: لأكل خبز الشعير وشرب ماء القراح، والنوم على المزابل مع الكلاب لكثيرٌ مع عافية الدنيا والآخرة (¬1). ¬
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله -عز وجل-: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] قال: كان رجل من بني إسرائيل فاتحاً أن فتح الله له مالًا، فمات، فورثه ابن له تافه -أي: فاسد- وكان يعمل في مال أبيه بمعاصي الله، فلما رأى ذلك إخوان أبيه أتوا الفتى فعَذَلوه ولاموه، فَضَجِر الفتى، فباع عقاره بصامت، ثم رحل فأتى عيناً ثجَّاجة، فسرح فيها ماله، وابتنى قصرًا، فبينما هو ذات يوم جالس إذ شملت عليه الريح بامرأة من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم ريحاً، فقالت: من أنت يا عبد الله؟ فقال: أنا امرؤ من بني إسرائيل. قالت: فلك هذا القصر وهذا المال؟ قال: نعم. قالت: فهل لك من زوجة؟ قال: لا. قالت: فكيف يهنيك العيش ولا زوجة لك؟ قال: قد كان ذلك، فهل لك من بعل؟ قالت: لا. قال: فهل لك أن أتزوجك؟ قالت: إني امرأة منك على مسيرة ميل، فإذا كان غدًا فتزود زاد يوم وائتني، وإن رأيت في طريقك هولًا فلا يهولنَّك. فلما كان من الغد تزود زاد يوم وانطلق، فانتهى إلى قصر، فقر 5 ع
رتاجه، فخرج إليه شاب من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم أرَجًا، فقال: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا الإسرائيلي. قال: فما حاجتك؟ قال: دعتني صاحبة هذا القصر إلى نفسها. قال: صدقت، فهل رأيت في طريقك هولًا؟ قال: نعم، ولولا أنها أخبرتني أن لا بأس علي لهالني ذلك؛ أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بكلبة فاتحة فاها، ففزعت، فوثبت فإذا أنا من ورائها، وإذا جراؤها ينبحن على صدرها. قال: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان؛ يقاعد الغلام المشيخة فيغلبهم على مجلسهم، ويدثر حديثهم. ثمَّ أقبلْتُ حتى إذا انفرج بي السبيل، وإذا بمئة أعنز جفل، وإذا فيها جدي يمصها، فإذا أتى عليها فظن أنه لم يترك شيئاً فتح فاه يلتمس الزيادة. قال: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان؛ ملك يجمع صامت الناس كلهم حتى إذا ظنَّ أنه لم يترك شيئًا فتح فاه يلتمس الزيادة. قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، فإذا أنا بشجر، فأعجبني غصن من شجرة، فأردت قطعه، فنادتني شجرة أخرى: يا عبد الله! مني فخذ، حتى ناداني الشجر جميعه: يا عبد الله! منا فخذ.
قال: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان؛ تقل الرجال وتكثر النساء حتى إنَّ الرجل ليخطب المرأة فتدعوه العشر والعشرون إلى أنفسهن. قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل فإذا أنا برجل قائم على عين يغرف لكل إنسان من الماء، فإذا تصدعوا عنه صب في جرته، فلم تعلق جرته من الماء بشيء. قال: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان؛ القاضي يعلم الناس العلم، ثم يخالفهم إلى معاصي الله. قال: ثم أقبلت حتى انفرج بي السبيل إذا أنا بعنز، وإذا قوم أخذوا بقوائمها، وإذا رجل قد أخذ بقرونها، وإذا رجل قد أخذ بذنبَها، وإذا راكب قد ركبها، وإذا رجل يحلِبها. قال: أما العنز فالدنيا، والذين أخذوا بقوائمها فهم يتساقطون من عيشها، وأمَّا الذي أخذ بقرنيها فهو يعالج من عيشها ضيقاً، وأمَّا الذي قد أخذ بذنبها فقد أدبرت عنه، وأما الذي ركبها فقد تركها، وأما الذي يحتلبها فبخ بخ! ذهب ذاك بها. قال: ثم أقبلت حتى انفرج بي السبيل فإذا أنا برجل يمتح على قليب، كلما أخرج دلوه صبه في الحوض، فانساب الماء راجعاً إلى القليب. قال: هذا رجل ردَّ اللهُ عليه صالح عمله. قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل فإذا أنا برجل يبدر بدرًا
فيستحصد، فإذا حنطة طيبة. قال: هذا رجل تقبل منه صالح عمله وأزكاه له. قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل مستلق على قفاه، قال: يا عبد الله! ادن مني، فخذ بيدي وأقعدني، فوالله ما قعدت منذ خلقني الله، فأخذت بيده، فقام يسعى حتى ما أراه. فقال له الفتى: هذا عمرك نَفِدَ، وأنا ملك الموت، وأنا المرأة التي أتتك؛ أمرني الله بقبض روحك في هذا المكان، ثم أصيرك إلى جهنم. قال ابن عباس: ففيه نزلت هذه الآية: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] (¬1). وروى أبو نعيم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ في بَنِي إِسْرائِيْلَ مَلكٌ، وَكانَ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانَ مُسْلِماً، وَكَانَ إِذا أَكَلَ طَرَحَ ثَفالَةَ الطَّعامِ عَلَى مَزْبَلَةٍ، وَكَانَ عابِدٌ يَأوِي إلَى مَزْبَلَتِهِ فَإِنْ وَجَدَ كِسْرَة أَكَلَها، وَإِنْ وَجَدَ بَقْلَة أَكَلَها، وَإِنْ وَجَدَ عِرْقاً تَعَرَّقَهُ، فَمَاتَ ذَلِكَ الْمَلِكُ، فَأَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ بِذُنُوْبِهِ، وَخَرَجَ العابِدُ إلَى الصَّحْراءِ، فأكَلَ مِنْ بَقْلِها، وَشَرِبَ مِنْ مَائِها، فَقَبَضَهُ اللهُّ تَعالَى، فَقالَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ لأَحَدٍ مَعْرُوْفٌ فَأُكافِئَهُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: يا رَبِّ لا. قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ كانَ مَعاشُكَ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ-؟ ¬
قَالَ: كُنْتُ آوِي إلَى مَزْبَلَةِ مَلِكٍ فَإذَا وَجَدْتُ كِسْرَةَ أَكَلْتُها، وَإِنْ وَجَدْتُ بَقْلَةَ أَكَلْتُها، وَإِنْ وَجَدْتُ عِرْقاً تَعَرَّقْتُهُ، فَقَبَضْتَهُ، فَخَرَجْتُ إلَى الصَّحْراءِ مُقْتَصِرًا عَلَى مائِها وَنبَاتِهَا. فَقالَ: هَلْ تَعْرِفُهُ؟ فَأَمَرَ بِهِ فأُخْرِجَ مِنَ النارِ جَمْرَةَ يَنْتَفِضُ قاعده. فَقالَ: نعمْ يا رَبِّ! هَذا الّذِي كُنْتُ آكُلُ مِنْ مَزْبَلَتِهِ. قَالَ: يُقالُ لَهُ: خُذْ بِيَدِهِ فأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ لِمَعْرُوْفِ كانَ مِنْهُ إِلَيْكَ لَمْ يَعْرِفْهُ، أَما لَوْ عَرَفَهُ ما عَذبْتُه" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى قال: كان رجل ممن مضى جمع مالاً وولداً، فادعى ما قيل على نفسه، وهو في أهله قد جمع فقال: أنعِمي سنين، فأتاه ملك الموت عليه السلام، فقرع الباب، فخرجوا إليه وهو متمثل مسكيناً، فقال لهم: ادعوا لي صاحب الدار. فقالوا: نخرج سيدنا إلى مثلك؟ فتركوه، ثم مكث قليلًا، ثم عاد فقرع باب الدار، وصنع مثل ذلك، فقال: أخبروه أني ملك الموت. فلما سمع سيدهم قعد فزعاً، وقال: لينوا له بالكلام. ¬
قالوا: ما تريد غير سيدنا بارك الله فيك؟ قال: لا. فدخل عليه فقال له: قم فأوص ما كنت موصيًا؛ فإني قابض نفسك قبل أن أخرج. فصاح أهله وبكوا، ثم قال: افتحوا له الصناديق والتوابيت، وافتحوا أوعية المال، وافتحوا أوعية الذهب والفضة، ففتحوها جميعًا، وأقبل إلى المال فلعنه وسبه، ويقول: لُعنت من مال؛ أنت الذي أَنسيتني ربي تبارك وتعالى، وأغفلتني عن العمل لآخرتي حتى بلغني أجلي. فتكلم المال فقال: لا تسبني! ألم تكن وضيعاً في أعين الناس فرفعتُكَ؟ ألم يُر عليك من أثري وكنت تحضر سُدد الملوك فتدخل، وتحضر عباد الله الصالحون فلا يدخلون؟ ألم تكن تخطب بنات الملوك والسادة فتنكح، وتخطب عباده الصالحون فلا ينكحون؟ ولو أنفقتني في سبيل الله لم أتعاص عليك، فأنت ألوم فيه مني، إنما خلقت أنا وأنتم يا بني آدم من تراب؛ فمنطلق ببِرِّ، ومنطلق بإثم. فهكذا يقول المال؛ فاحذروا (¬1)! وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: تكلم ¬
ملك من الملوك بكلمة -يعني: وهو جالس على سريره- فمسخ، فما يدرون أي شيء مسخ أذباباً، أم غيره؛ إلا أنه ذهب فلم يُرَ (¬1). وروى الدينوري في "المجالسة" عن أبي عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل أو ملك فقال: ما أرى أحدًا أعز مني. قال: فسلط الله عليه أضعف خلقه -يعني: البعوضة- فدخلت منخره، فجعل يقول: اضربوا ها هنا، فضربوا رأسه بالقوس حتى هشَّموا رأسه (¬2). وروى الإمام أحمد عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: نزل عابد على عابد، وللمنزول عليه ابنة، فقال لها: أكرمي أخي هذا، قومي عليه، ألطفيه. قال: فلم يزل به الشيطان حتى وقع بها، فولدت له غلاماً، فهابته أن تقذفه به. فقال لأبي الجارية: هب لي هذا الصبي أتبناه. قال: هو لك. قال: فأخذه، فوضعه على عاتقه، وجعل يطوف به في ملأ عباد بني إسرائيل، ويقول: يا إخوتاه! أحذركم مثل الذي لقيت، هذه خطيئتي أحملها على عنقي. ¬
وروى أبو نعيم عن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى قال: كان فيمن قبلكم ملك، وكان له حاجب يقربه وُيدنيه، وكان هذا الحاجب يقول: أيها الملك! أحسن إلى المحسنين، ودع المسيء تكفيه إساءتُه. قال: فحسده رجل على قربه من الملك، فسعى به، فقال: أيها الملك! هو ذا يخبر الناس أنك أبخر. قال: وكيف لي أن أعلم ذلك؟ قال: إذا دخل تدنيه لتكلمه؛ فإنَّه يقبض على فيه. قال: فذهب الساعي، فدعا الحاجب إلى دعوته، واتخذ مرقة، وأكثر فيها الثوم، فلما أن كان من الغد دخل الحاجب، فأدناه ليكلمه عن شيء، فقبض على فيه، قال: تَنَحَّ، فدعا بالدواة وكتب له كتابًا وختمه، وقال: اذهب بها إلى فلان، وكانت جائزته مئة ألف دينار، فلما أن خرج استقبله الساعي فقال: أي شيء هذا؟ قال: قد دفع إلي الملك، فاستوهبه فوهبه له، فأخذ الكتاب ومر، فلما أن قرؤوا الكتاب دعوا بالذباحين، فقال: اتقوا الله يا قوم؛ فإن هذا غلط وقع علي، وعاودوا الملك. فقالوا: لا يتهيأ لنا معاودة الملك. وكان في الكتاب: إذا أتاكم حامل كتابي هذا فاذبحوه، واسلخوا جلده، واحشوه بالتبن، ووجهوه إلي. فذبحوه، وسلخوا جلده، ووجهوا به، فلما أن رأى الملك تعجب، فقال للحاجب: تعال وحدثني واصدقني: لم إذ أدنيتك قبضت على أنفك؟
فقال: أيها الملك! إن هذا دعاني إلى دعوته، واتخذ مرقة وأكثر فيها الثوم، فقال: ارجع إلى مكانك، وقل ما كنت تقول، ووصله بمال عظيم (¬1). وتقدم هذا الأثر بنحو ذلك من رواية وهب. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن خالد بن ثابت الربعي رحمه الله تعالى قال: بلغني أنَّه كان في بني إسرائيل رجل شاب قد قرأ الكتاب، وعلم علمًا، وكان مغموزًا فيهم، وأنه طلب بعلمه وقراءته الشرف والمال، وأنه ابتاع بدعًا أدرك الشرف والمال في الدنيا، ولبث كذلك حتى بلغ سنًا، وأنه بينما هو نائم ليلة على فراشه إذ تفكر فقال: هب هؤلاء الناس لا يعلمون ما ابتدعت، أليس الله قد علم ما ابتدعت وقد اقترب الأجل؟ فلو أن تبت. فبلغ من اجتهاده في التوبة أن عمد فخرق ترقوته، وجعل فيها سلسلة، ثمَّ أوثقها إلى آسية من أواسي المسجد، قال: لا أبرح مكاني هذا حتى ينزل الله فيَّ توبة، أو أموت موت الدنيا. قال: وكان لا يستنكر الوحي في بني إسرائيل. فأوحى الله تعالى إلى نبي من أنبيائهم: إنك لو كنت أصبت ذنبًا بيني وبينك لتبت عليك بالغًا ما بلغ، كيف من أضللت من عبادي فماتوا، فأدخلتهم جهنم، فلا أتوب عليك (¬2). ¬
قال عوف -وهو الراوي عن خالد-: حسبته قال: اسمه برسيا. أخرجه ابن أبي شيبة. وروى الإمام أحمد عن سمي بن مغيث رحمه الله تعالى قال: كان رجل ممن كان قبلكم يعمل بالمعاصي، فبينما هو ذات يوم يسير إذ تفكر فيما سلف منه، فقال: غفرانك، فأدركه الموت على تلك الحال؛ قال: فغُفر له (¬1). قلتُ: لعل معاصي هذا كانت فيما بينه وبين الله تعالى خاليةً عن ظلم العباد وإضلالهم. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب: أن عابدًا من بني إسرائيل قام يصلي في الشمس حتى تغير لونه واسوَّد، فمر به إنسان فقال: كأن هذا حرق بالنار. فقال: إن هذا من خبرها، فكيف بمعاينتها (¬2). وعن مالك بن أنس رحمه الله تعالى قال: حدِّثتُ أنَّ نفرًا من بني إسرائيل كانوا يصومون النهار، وإذا كان الليل ووضع الطعام جعلوا ذلك نوابت بينهم، فيقول رجل منهم: لا تأكلوا كثيرًا، فتشربوا كثيرًا، فترقدوا كثيرًا (¬3). ¬
وعن وهب رحمه الله تعالى قال: إن عابدًا من بني إسرائيل كان في صومعته يتعبد فإذا نفر من الغواة قالوا: لو أنَّا استنزلناه بشيء، فذهبوا إلى امرأة بَغِيٍّ فقالوا لها: تعرَّضي له. قال: فجاءته في ليلة مظلمة مَطِيرة فقالت: يا عبد الله! آوني إليك -وهو قائم يصلي، ومصباحه ثاقب- فلم يلتفت إليها. فقالت: يا عبد الله! الظلمة والغيث! آوني إليك. فلم تزل به حتى أدخلها إليه، فاضطجعت وهو قائم يصلي، فجعلت تتقلب وتريه محاسن خلقها حتى دعته نفسه إليها، فقال: لا والله حتى أنظر كيف صبرك على النار. فدنا من المصباح، فرفع أصبعًا من أصابعه فيه حتى احترقت، ثمَّ رجع إلى مصلاه، فدعته نفسه أيضًا، فلم تزل تدعوه وهو يعود إلى المصباح حتى احترقت أصابعه وهي تنظر إليه، فصعقت، فماتت. فلما أصبحوا غدوا لينظروا ما صنعت فإذا بها ميتة، فقالوا: يا عدو الله! بامرأتي وقعت عليها ثمَّ قتلتها؟ قال: فذهبوا به إلى ملكهم، فشهدوا عليه، فأمر بقتله. فقال: دعوني حتى أصلي ركعتين. قال: فصلى ثمَّ دعا، فقال: أي رب! إني أعلم أنك لم تكن بمؤاخذي بما لم أفعل، ولكن أسألك أن لا أكون عارًا على القراء بعدي.
قال: فرد الله عليها نفسها، فقالت: انظروا إلى يده، ثمَّ عادت ميتة (¬1). وعنه: أن سائحًا ورديئًا له كان يأتيهما طعامهما في كل ثلاثة أيام مرة، فإذا هما لم يأتهما طعام إلا لأحدهما، فقال الكبير لرديئه: لقد أحدث أحدنا حدثًا منع رزقه، فتذكر ما صنعت. فقال له الرديء: ما صنعت شيئًا. ثمَّ ذكر الرديء، فقال: بلى؛ قد جاءنا مسكين سائل إلى الباب، فأخذت الباب في وجهه. فقال الكبير: من ثمَّ أتينا. فاستغفرا الله -عَزَّ وجَلَّ-، فجاءهما رزقهما بعدُ كما كان يأتيهما (¬2). وعنه قال: كان سائح ورديء له، قال السائح لرديئه: ادخل القرية فاشتر لي كفنًا؛ فإني الساعة؛ يعني: أكون ميتًا، وعجِّل. فدخل الرديء، فإذا بعظيم من عظماء القرية قد توفي، فاحتشد الناس في إقباره، فأغلقوا حوانيتهم، فلم يقدر الرديء على ما يشتري حتى رجع الناس، فاشترى كفنًا وحِناطًا، فرجع إلى صاحبه فإذا به قد توفي وأكل السبع وجهه، فجعل يتلهَّف ويتحسَّر. قال: أما فلان الجبار فكفِّق وحُنِّط، وأما فلان فأُكل. ¬
فقيل له: أما فلان الجبار فإنَّه لم يكن له إلا حسنة واحدة، فأحبَّ الله أن يخرجه من الدنيا وليس له في الآخرة نصيب، وأمَّا فلان السائح فإنَّه كان قد عمل عملًا فأخرجه الله -عَزَّ وجَلَّ - من الدنيا وهو لا يجد ألم ذلك (¬1). وروى الديلمي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ مُوسَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ: يا رَبِّ! إِنَّكَ تُغْلِقُ عَلَى عَبْدِكَ الْمُؤْمِنِ الدُّنْيَا، فَفَتَحَ اللهُ لَهُ بَابًا مِنْ أَبْوابِ الْجَنَّةِ، فَقالَ: هَذا ما أَعْدَدْتُ لَهُ، قَالَ: وَعِزَّتِكَ وَجَلالِكَ وارْتفاعِ مَكَانِكَ لَوْ كَانَ أَقْطَعَ اليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ يُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ مُنْذُ خَلَقْتَهُ إلَى يَوْمِ القِيامَةِ، ثُمَّ كانَ هَذا مَصِيْرُهُ لَكَأَنْ لَمْ يَرَ بَأسًا قَطُّ. قَالَ: يا رَبِّ! إِنَّك تُعْطِي الكافِرَ الدُّنْيَا فَفَتَحَ لَهُ بَابًا إلَى النَّارِ، فَقَالَ: هَذا ما أَعْدَدْتُ لَهُ، فَقَالَ: يا رَبِّ! وَعِزَّتك لَوْ أَعْطَيْتَهُ الدُّنْيا وَمَا فِيَها لَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مُنْذُ خَلَقْتَهُ إلَى يَوْمِ القِيامَةِ، ثُمَّ كانَ هَذا مَصِيْرُهُ كأَنْ لَمْ يَرَ خَيْرًا قَطُّ" (¬2). وروى أبو نعيم عن وهب قال: كان في بني إسرائيل رجل عصى الله مئتي سنة ثمَّ مات، فأخذوه فألقوه على مَزبلة، فأوحى الله إلى موسى ¬
عليه السلام أن اخرج فصلِّ عليه. قال: يا رب! بنو إسرائيل شهدوا أنَّه عصاك مئتي سنة. فأوحى الله -عَزَّ وجَلَّ -: هكذا كان، إلا أنَّه كان كلما نشر التوراة، ونظر إلى اسم محمَّد وضعه على عينيه وصلَّى، فشكرت له ذلك، وغفرت له ذنوبه، ووهبته سبعين حوراء (¬1). ¬
(12) باب النهي عن التشبه بالأعاجم والمجوس
(12) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالأَعَاجِمِ وَالمَجُوسِ
(12) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالأَعَاجِمِ وَالمَجُوسِ جمع مجوسي، منسوب إلى مجوس كصبور؛ رجل صغير الأذنين وضع دينًا ودعا إليه، معرب من جكوس (¬1)؛ قاله في "القاموس" (¬2). وهم يعبدون النار والكواكب، ولا كتاب لهم، ومن ثمَّ تباشرت قريش بغلبة فارس على الروم، وتفاءلوا بأنهم يغلبون المسلمين كما غلبت فارس الروم لأنهم ليسوا بأهل كتاب، والمسلمون أهل كتاب، فأنزل الله تعالى ذلك: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4] كما ثبت في "جامع الترمذي"، وكتب التفسير (¬3). ولفظ: الأعاجم، والعجم قد يطلق ويراد به فارس خاصة كما سيأتي. وتارة يطلق ويراد به ما عدا العرب من الناس كما تطلق العجمية ¬
ويراد بها ما سوى العربية. وعلى هذا: فمهما أطلق مدح العرب في موضع كان مفهومه إطلاق ذم العجم به. وبالجملة: ففضل العربية والعرب لا ينكر، ويدل عليه العقل والنقل. أما العقل فلأن بني آدم أفضل من الحيوان كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] وكرامة بني آدم بالنطق، والعقل، والبيان المتولد عنهما. ولقد امتن الله تعالى على الإنسان بتعليمه البيان في قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3، 4]. فكلما كان النطق والعبادة أوضح وأفهم، وكان العقل أقوى وأحكم، كان الفضل أظهر. ولا شك أن العرب أحلى منطقًا وأوضح عبارة، ولسانهم أتم الألسنة بيانًا وتمييزًا للمعاني جمعًا وفرقًا. يجمع المعاني الكثيرة في العبارات القصيرة، ويميز بين المعاني المختلفة تارةً بالكلمات، وتارة بالحركات، وهم يتصرفون بالألفاظ ما لا يتصرف به غيرهم مع الفصاحة والبلاغة، ولذلك كان القرآن معجزًا. ثمَّ إذا ثبت أن لسان العرب بهذه المثابة علمت أن عقولهم أتم لأنَّ اللسان ترجمان عن معقول كل إنسان، ومن ثمَّ لم تحتج عقول
العرب في فهم المعاني والعلوم إلى رياضتها بآلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ -وهي المسماة بعلم المنطق- بخلاف الأعاجم. وحكي عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: اصطنع رجل إلى رجل من العرب معروفًا فوقع منه، فقال له: أجارك الله من غير أن يبتليَك. وقال الشافعي: هم أَحَدُّ الناس عقولًا (¬1)؛ يعني: العرب. وأيضًا: فإنَّ مما تظهر به كرامة ابن آدم حسن الخلق واعتدال الغريزة، وإلا كان هو والبهائم سواء، وكلما حسن خلقه واعتدلت خليقته تمَّ كماله، وظهرت كرامته، ومن ثمَّ أثنى الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. ولا شك أن غرائز العرب أطوع للخير من غيرهم، فهم أقرب إلى السماحة، والسخاوة، والحلم، والعفو، والشجاعة، والوفاء، وغيرها من الأخلاق الكريمة. ولكن كانت قبل الإِسلام طبائعهم قابلة للخير معطلة عن فعله لما ألفته نفوسهم من الجهل وعدم الهدى؛ إذ لم تبق فيهم شريعة موروثة عن نبي، ولا كان فيهم علم منزل من السماء، حتى بعث الله تعالى فيهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى والكتاب المنير كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ¬
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3]، فتلقوا عنه ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - كل منهم على حسب قابليته وتهيئته؛ بعضهم بمجرد الدعوة كأبي بكر، وعمار، وعلي، وزيد بن حارثة، وخديجة، وإخوانهم رضي الله تعالى عنهم. وبعضهم بالمجاهدة والمعالجة -وهم الأكثرون- فصاروا بهذا الاعتبار أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وأفضلهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار بسبب ما تنبهت له قلوبهم من الإيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، والتصديق له، والاقتداء به، والأخذ عنه. وبان بعد ذلك أن الفضل إنما هو بالإيمان والتصديق، وحسن الاتباع كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وفي الحديث: "أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعَجَمِيٍّ، وَلا لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى" (¬1). وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لوددت أني أعلم أن الله قد غفر لي ذنبًا من ذنوبي، وإني لا أبالي أي ولد آدم ولدني. رواه ابن أبي شيبة (¬2). ¬
نعم، إذا استوى الناس في التقوى قدِّم العربي على غيره لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]. روى سعيد بن منصور، والمفسرون عن مجاهد في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} قال: العرب. {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال: العجم (¬1). ولحديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "النَّاسُ مَعادِنُ كَمَعادِنِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ؛ خِيارُهُمْ في الْجاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوا، والأَرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ مَا تَعارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَناكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ" (¬2). وتأمل ما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبي عقبة -وكان مولى من أهل فارس- قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُحُدًا، فضربت رجلًا من المشركين، فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي. ¬
فالتفت إليَّ -يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هَلَّا قُلْتَ خُذْهَا وَأَنَا الغُلامُ الأَنْصارِيُّ" (¬1). فانظر كيف حثَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- على الانتساب إلى الأنصار وإن كان بالولاء، وكان الإظهار لذلك أحب إليه من الانتساب إلى فارس، وفي ذلك أمران: الأوَّل: أنَّ من أمكنه الانتساب إلى العرب ولو بالولاء فلا ينبغي له أن ينتسب إلى العجم، وهنا أمكن أبا عقبة أن ينتسب إلى الأنصار وهم من العرب، فلم يرض له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينتسب إلى العجم مع ذلك. والأمر الثاني: أن من أمكنه أن ينتسب إلى جهة أعزها الإِسلام كالنصرة والهجرة، فلا ينبغي أن يعدل عنها إلى الشعوب والقبائل لأنه خلق جاهي كما سيأتي. ومن هنا مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه بنسبته إلى بيته، فقال: "سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ" كما رواه ابن سعد في "طبقاته"، والحسن بن سفيان في "مسنده"، والطبراني في "معجمه الكبير"، والحاكم في "مستدركه"؛ وإن تعقب عليه في تصحيحه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه (¬2). ¬
وروى الطبراني في "معجمه الصغير"، و"الأوسط" بإسناد حسن، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - موليان؛ حبشي وقبطي، فاستبَّا يومًا فقال أحدهما: يا حبشي، وقال الآخر: يا قبطي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَقُوْلا هَذَا؛ إِنَّما أَنْتُمَا رَجُلانِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). وأما النقل الدال على فضل العرب بعد كتاب الله تعالى فأحاديث كثيرة نذكر بعضها: روى مسلم، والترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ الله اصطَفَى كِنانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْماعِيْلَ، واصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنانَةَ، واصطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هاشِمٍ، واصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هاشِمٍ" (¬2). ورواه الإمام أحمد، والترمذي بلفظ: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْراهِيْمَ إِسْماعِيْلَ، واصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْماعِيْلَ بَنِي كِنَانَةَ" إلى آخره (¬3). ¬
قال ابن تيمية: وهذا يقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم عليهما السلام، فيقتضي أنهم أفضل من ولد إسحاق الذين هم بنو إسرائيل، فإذا ثبت فضلهم عليهم وهم أفضل العجم فعلى غيرهم أولى، ولو لم يكن هذا مقصودًا في الحديث لم يكن لذكر اصطفاء إسماعيل فائدة حيث لم يكن اصطفاؤه دالًّا على اصطفاء ذريته، انتهى ملخصًا (¬1). وروى الحاكم وصححه، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "إِنَّ اللهَ اخْتارَ مِنْ بني آدَمَ العَرَبَ، واخْتَارَ مِنَ العَرَبِ مُضَرَ، واخْتَارَ مِنْ مُضَرٍ قُرَيْشًا، واخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بني هاشِمٍ، واخْتَارَنِي مِنْ بني هاشِمٍ؛ فأنا مِنْ خِيَارٍ إلَى خِيَارٍ، فَمَنْ أَحَبَّ العَرَبَ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَ العَرَبَ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ" (¬2). وروى البزار بإسناد جيد، عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: نُفَضِّلكم يا معشر العرب لتفضيل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياكم؛ لا ننكح نساءكم، ولا نؤمكم في الصلاة (¬3). وروى الطبراني في "الكبير"، و"الأوسط"، والحاكم وصححه، ¬
والبيهقيُّ، والسِّلَفي -وقال: هذا حديث حسن- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَحِبُّوا العَرَبَ لِثَلاثٍ: لأَنِّي عَرَبِيٌّ، والقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، وَلِسَانُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَنا عَرَبِيٌّ، والقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، وَلِسانُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ" (¬2). وعنه أيضًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما أَنْزَلَ اللهُ وَحْيًا قَطُّ عَلَى نبِيٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إِلَّا بِالعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ يَكُونُ هُوَ بَعْدُ يُبَلِّغُهُ قَوْمَهُ بِلِسَانِهِ" (¬3). وروى الطبراني أيضًا -ورجاله ثقات- عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي دَعَوْتُ لِلْعَرَبِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ مَنْ لَقِيَكَ مِنْهُمْ مُعْتَرِفًا بِكَ فاغْفِرْ لَهُ أَيَامَ حَيَاتِهِ، وَهِيَ دَعْوَةُ إِبْراهِيْمَ وإِسْماعِيْلَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، وإِنَّ لِوَاءَ الْحَمْدِ يَوْمَ القِيامَةِ ¬
بِيَدِي، وإِنَ أَقْرَبَ الْخَلْقِ مِنْ لِوائِي يَوْمَ القِيامَةِ العَرَبُ" (¬1). وقوله: "فاغْفِرْ لَهُ أيَّامَ حَياتِهِ"؛ أي: ذنوب أيام حياته. وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إلا تُبْغِضْنِي فَتُفارِقَ دِيْنَكَ". قلت: يا رسول الله! كيف أبغضك وبك هداني الله؟ قال: "تَبْغَضُ العَرَبَ فَتَبْغَضُنِي" (¬2). وروى الحاكم وصححه، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حُبُّ قُرَيْشٍ إِيْمانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ، وَحُبُّ العَرَبِ إِيْمانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ؛ فَمَنْ أَحَبَّ العَرَبَ فَقَدْ أَحَبَّني، وَمَنْ أَبْغَضَ العَرَبَ فَقَدْ أَبْغَضَنِي" (¬3). ¬
وروى السِّلَفي في "فضل العرب" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حُبُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنَ الإِيْمانِ، وَبُغْضُهُمَا مِنَ الكُفْرِ، وَحُبُّ العَرَبِ مِنَ الإِيْمانِ، وَبُغْضُهُمْ مِنَ الكُفْرِ" (¬1). وإنما استدللنا بهذه الأحاديث على أفضلية العرب لأنَّ الفضل تابع للمحبة، ومن كان حبه دينًا وإيمانًا فإنما هو لما فيه من زيادة الفضل والمزية. وروى الإمام أحمد، والترمذي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ غَشَّ العَرَبَ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَفَاعَتِي، وَلَمْ تَنَلْهُ مَوَدَّتِي" (¬2). وروى أبو يعلى بإسناد قريب، عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا ذَلَّتِ العَرَبُ ذَلَّ الإِسْلامُ" (¬3). وقد ثبت أن عمر - رضي الله عنه - لما وضع ديوان العطاء كتب الناس على ¬
قدر أنسابهم، فبدأ بأقربهم نسبًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما انقضت العرب ذكر العجم. وهكذا كان الديوان على عهد بقية الخلفاء الراشدين، وسائر الخلفاء من بني أمية وبني العباس إلى أن تغير الأمر. فإن قلت: فما تصنع بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كَانَ العِلْمُ (¬1) عِنْدَ الثُّريَّا لتَنَاوَلَهُ رِجالٌ مِنْ أَبْنَاء فَارِسَ". رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬2). وفي "الصحيحين" عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزلت سورة الجمعة، فتلاها، فلما بلغ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] قال قائل منهم: يا رسول الله! من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على سلمان، وقال: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كان الإِيْمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجالٌ مِنْ هَؤُلاء" (¬3). وروى الترمذي وحسنه، عنه قال: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] فقالوا: ومن يستبدل بنا؟ فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكب سلمان رضي الله تعالى عنه، ثمَّ قال: "هَذَا وَقَوْمَهُ" (¬4). ¬
وفي رواية: فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَخِذَ سلمان فقال: "هَذَا وَأَصْحَابَهُ، والَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ لَوْ كانَ الإِيْمانُ مَنُوْطًا بِالثُّرَيَّا لتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ فارس" (¬1). فهذه الآية على ما فسرت به هذا الحديث دالة على فضل أبناء فارس؛ فإن المستبدل في مثل هذا المقام لا بد أن يكون أمثل من المستبدل منه. فالجواب عن ذلك: أما الحديث الأوَّل: فإن العلم لا يستلزم الفضل المطلق، فقد يوجد أفضل من العالم بالشيء ممن لا يعلم به كما علم الخضر عليه السلام ما لم يعلمه موسى عليه السلام مع أن موسى أفضل منه، ولا يلزم من نيل رجال من فارس العلم أن لا يناله غيرهم، ولا أن يكون من ناله منهم أفضل ممن ناله من غيرهم. وأما الحديث الثاني، وكذلك الأوَّل: فإنَّ حاصل ما يؤخذ منهما أنَّ من أبناء فارس من ينال فضل الإيمان والعلم، ثمَّ من ساواهم في ذلك من العرب لا يلزم أن يكون الفارسي أفضل منه بغير مزية أخرى، بل نقول: إن العربي المتساوي معه في العلم والإيمان أفضل منه، وقد يؤخذ هذا من تفسير الآية المنزلة بالحديث على قوم سلمان؛ أعني: قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]؛ إذ معنى {لَمَّا ¬
يَلْحَقُوا بِهِمْ}: لم يدركوهم في شرف النفس، وكرم الحسب، ومكارم الأخلاق. وأما الآية المفسرة في الحديث الثالث، وهي قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] فإن الاستبدال يستلزم لخيرية المستبدل وميزته على المستبدل منه، إنما يكون بسبب التولي عن الطاعة، ومن تولى عن الطاعة فلا فضل له أصلًا وإن كان شريف النسب. ثمَّ اعلم أن فضيلة من كان من ذوي الفضل من الأعاجم لا يسع أحدًا إنكاره، لكن النظر في فضل ذوي الفضل منهم من أي جهة ثبت لهم الفضل ليس إلا من قبل العرب؛ إذ لا فضل لأحد إلا بالعلم والإيمان والتقوى، ولا يتوصل أحد إلى شيء من ذلك بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- من قبله - صلى الله عليه وسلم -. ومن ثمَّ علمت أن فضل سلمان وصهيب رضي الله تعالى عنهما لم يكن لكونهما أعجمين؛ أحدهما فارسي والآخر رومي، بل لأخذهما الفضل عن سيد العرب - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثمَّ كان سلمان سيد فارس وسابقهم، وصهيب سيد الروم وسابقهم، وبلال سيد الحبش وسابقهم. روى البزار، والحاكم وصححه، عن أنس، والطبراني في "الكبير" عنه، وعن أم هانئ، وابنُ عديّ عن أسامة رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "السُّبَّاقُ أَرْبَعَةٌ: أَنا سابِقُ العَرَبِ، وَصُهَيْبٌ
سابِقُ الرُّوْمِ، وَسَلْمَانُ سابِقُ الفُرْسِ، وَبِلال سابِقُ الْحَبَشِ" (¬1). وفي حديث آخر: "سَيِّدُ العَرَبِ مُحمَّدٌ، وَسَيِّدُ الرُّوْمِ صُهَيْب، وَسَيِّدُ الفُرْسِ سَلْمانٌ، وَسَيِّدُ الْحَبَشَةِ بِلالٌ". رواه الديلمي عن علي رضي الله تعالى عنه (¬2). ثمَّ إن الفضل لا يثبت لأحد من العجم بعد هؤلاء إلا لمن وفقه الله تعالى إلى الاجتهاد في تحقيق التشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والسابقين إلى الاهتداء بهديه من أصحابه المهاجرين والأنصار الذين منهم صهيب وسلمان لكونهما مقتفين لآثار النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا لكونهما أعجميين، بل من ظنَّ فيهما أنهما لم ينسلخا من أعمال العجم وآدابهم وعاداتهم المخالفة للشرع، ولم يتشبها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأعماله وآدابه وأخلاقه، فقد أساء الظن بهما. ¬
فقد علم من ذلك أن تشبه الأعجمي بالعربي فيما يرضى به الله تعالى من الطاعات والآداب والأخلاق مندوب إليه محثوث عليه، وأن تشبه العربي بالأعجمي فيما لم ترد به الشريعة والسنة من الآداب والعادات منهي عنه ممنوع منه لمخالفته سَمت النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمت أصحابه الكرام، وقد أمرنا بمتابعتهم، ونهينا عن مخالفتهم. ولمَّا كان الفرس أقرب إلى التلبس بالإيمان والخير من سائر العجم، وكان أهل أصبهان أقربهم إلى ذلك، قال سعيد بن المسيّب: لو لم أكن من قريش لأحببت أن أكون من فارس، ثمَّ أحببت أن أكون من أصبهان (¬1). وفي رواية: لولا أني رجل من قريش لتمنيت أن أكون من أهل أصبهان؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ كَانَ الدِّيْنُ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا لتَنَاوَلَهُ نَاسٌ مِنْ أَبْناءِ العَجَمِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِها فارِسُ وَأَصْبَهانُ". رواه السِّلَفي في كتاب "فضل الفُرس" بإسناد جيد (¬2). قالوا: وكان سلمان الفارسي من أهل أصبهان، وكذلك عكرمة مولى ابن عباس. ويروى عن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة - رضي الله عنهم - أنَّه قال: أمي من أصبهان، ونشأت برامهرمز. ¬
قيل: وكان اسم سلمان: روزبه بن راهمان من قرية جبان، وأهل هذه القرية يعرفون الموضع الذي ولد فيه. ويحكى: أن سلمان كتب إلى قومه أن يتخذوا داره مسجدًا. قيل: وكان هو القائم بأمر الجيش. وكان رضي الله تعالى عنه أول من قام قبل الإِسلام بالعدل في الناس، ودعا إليه، ونهج طريق الإنصاف والتسوية بين القوي والضعيف في الحكم، وقصة إسلامه ومناقبه مشهورة في كتب الحديث، وغيرها (¬1). وروى السِّلَفي عن الأصمعي أنَّه قال: عجم أصبهان قريش العجم (¬2). قلت: وسمعت بعض الأعاجم يرويه حديثًا مرفوعًا، وليس كذلك، وهو تهور لا يعتد به. نعم، روى ابن النجار عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَسلَمَ مِنْ فارِسَ فَهُوَ قُرَشيٌّ" (¬3). ومعناه -إن صح-: فهو في العجم كالقرشي في العرب، لا أنَّه والقرشي في رتبة واحدة. ¬
واعلم أن الأعجمي كلما كان أقرب إلى أخلاق العرب كان أوفر عقلًا، وأظهر فضلًا، ولا سيما محبة التكلم بلسان العرب لأنَّ اللسان هو الفارق بين العرب والعجم. ومن ثمَّ ورد في الحديث: "مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ". رواه السِّلَفي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). فتشبه الأعجمي بالعربي دليل عقله، وجَزالة رأيه، واستكماله الدين، بخلاف تشبه العربي بالأعجمي؛ فإنَّه دليل الجهل، والحماقة، وسخافة الرأي، وقلة الدين؛ أعني: تشبهه به في غير المشروع، ومن ثمَّ جاء النهي عن التشبه بالأعاجم. ثمَّ إنَّ ما يؤمر به الأعجمي من التشبه بالعرب في الدين والأخلاق الكريمة إنما هو على قدر طاقته؛ إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وما لا يستطيعه من ذلك ينبغي أن ينويه ويتحراه، ويحزن على فواته؛ فإن الأعمال بالنيات، وحينئذ لا يحرم بركة ما فاته. روى أبو عبيد القاسم -مرسلًا- عن بكر بن الأخنس رحمه الله تعالى أنَّه قال: كان يقال: إذا قرأ الأعجمي، والذي لا يقيم القرآن كَتَبه المَلَكُ كما أنزل (¬2). أي: كتب له الملك ثوابه كما لو أتى به مستقيمًا؛ فإن تلك نيته، ¬
وأتى بمقدرته. ثمَّ العرب الذين لهم الفضل هم [أولاد] إسماعيل بن إبراهيم، ومن بعده. روى ابن باكويه الشيرازي في "الألقاب" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَّلُ مَنْ فُتِقَ لِسَانَهُ بِالعَرَبِيَّةِ الْمُهَيْمِنَةِ إِسْماعِيْلُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً" (¬1). "وروى الحاكم، والبيهقيُّ وصححاه، عن جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]، ثمَّ قال: "أُلْهِمَ إِسْماعِيْلُ هَذا اللِّسَانَ العَرَبِيَّ إِلْهامًا بَعْدَ أَنْ دَرَسَ" (¬2). وبهذا تبيّن أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ مَنْ فُتِقَ لِسانه بِالعَرَبِيَّةِ" معناه: بعد اندراسها. وإلا فقد روى ابن عساكر عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن آدم عليه السلام كانت لغته في الجنة العربية، فلما عصى سَلَبه الله تعالى العربية، فتكلم بالسُّريانية، فلما تاب رد الله تعالى عليه العربية. وذكر جماعة من علماء اللغة: أن العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل عليه السلام، وهم تسع قبائل: عاد، وثمود، وأميم، وعسل، وطسم، وجديث، وعملق، وجاسم، وجُرهم. ¬
ومنهم تعلَّمَ إسماعيل العربية. ويقال لذرية العرب: المستعربة؛ أي: المستوضحة؛ بمعنى أنهم يتكلمون بأعرب اللغات وأفصحها، وهم عرب الحجاز. وأما عرب اليمن فهم بنو قحطان؛ تعلموا العربية ممن نزل اليمن من بني إسماعيل، ويقال لهم: العرب المتعربة. فالعرب المفضلون هم بنو إسماعيل، ومن بعدهم من عرب اليمن وغيرهم، وأفصحهم وأفضلهم من كان من ولد إسماعيل، وأفضلهم قريش، ومن ثمَّ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا أَعْرَبُ العَرَبِ وُلِدْتُ في قُرَيْشٍ، وَنشَأْتُ في بَنِيْ سَعْدٍ؛ فأَنَّى يَأْتِيْني اللَّحْنُ". رواه الطبراني عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (¬1). وروى ابن منده، وأبو نعيم في "الدلائل"، وابن عساكر عن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه قلت: يا رسول الله! ما لكَ أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: "كَانَتْ لُغَةُ إِسْماعِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ دَرَسَتْ، فَجَاءَ بِها جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَحَفِظْتُها" (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ ¬
رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195] قال: بلسان قريش (¬1). ورواه ابن النجار عن ابن عباس؛ زاد: ولو كان غير عربي ما فهمه (¬2). ولا معارضة بين هذا وبين ما رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقيُّ في "الشعب" عن بريدة رضي الله تعالى، عنه في قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} قال: بلسان جرهم (¬3)، لما علمت أنَّ إسماعيل تعلم العربية منهم، فلغة قريش هي لغتهم. ثمَّ العجم في الأصل اسم لِمَن سِوى العرب، فيشمل بني إسرائيل، وبني الأصفر، والروم، والترك، والفرس، والقبط، والحبشة، والزنج، والبربر، وغيرهم. ثمَّ غلب لفظ العجم في عرف العامة المتأخرين على الفرس، وهم المجوس، وهم المراد في هذا الباب بالأعاجم والعجم؛ وإن كان غالب الأمم المتقدمة المنهي عن التشبه بهم في ما سبق داخلين في لفظ العجم. فاعلم أن المجوس ليس لهم كتاب ولا شريعة، بل كانوا يعبدون ¬
النار والكواكب، ولذلك كانوا بأهل الجاهلية أشبه منهم بأهل الكتاب، ومن ثمَّ فرح المشركون حين غلبت فارس الروم كما تقدم. وسنذكر النهي عن التشبه بأهل الجاهلية عقب هذا الباب لهذا المعنى. ومما ورد نصًا في هذا الباب حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن التشبه بالأعاجم، وقال: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ". رواه أبو يعلى (¬1). والمراد أنَّه نهى عن التشبه بهم في خصالهم، وأخلاقهم، وآدابهم؛ سواء في ذلك ما كانوا عليه قبل الإِسلام، وما هم عليه بعد الإِسلام إذا كان مخالفًا لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما كان عليه هو وأصحابه رضي الله تعالى عنهم. وروى ابن أبي شيبة عن أبي عثمان -هو النَّهدي-: أنَّ عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه فيما كتب إليه: وعليكم بلبس المَعَدِّيَّة، وإياكم وهديَ العجم؛ فإن شر الهدي هديُ العجم (¬2). وروى هو والإمام أحمد عن عمر رضي الله تعالى عنه: أنَّه قال في كلام له: وذروا التنعم وزي العجم، وإياكم وهدي العجم؛ فإن ¬
شر الهدي هديُ العجم (¬1). والهدي كما في "القاموس"، وغيره: الطريقة والسيرة (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] قال: يعني: باطل الحديث. وهو النضر بن الحارث بن علقمة اشترى أحاديث العجم، وصنعهم في دهرهم، وكان يكتب الكتب من الحيرة والشام، ويعرض عن القرآن، فلم يؤمن به؛ أي: فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] (¬3)؛ أي: ليثبت على ضلاله على قراءة أبي عمرو وابن كثير بفتح أوله. وقرأ الباقون بضم أوله؛ أي: ليضل غيره عن سبيل الله؛ أي: عن طريق الله الذي سنَّه النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفيه إشارة إلى أن كتابة مثل ذلك، ونقله، وإملاءه على الناس فيه تحريك النفوس لاتباع بعض ذلك والعمل به؛ فإن النفوس أخوات يستحسن بعضها أوضاع بعض، فربما استجرَّ ذلك المرء إلى استحسان ¬
ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أحوال من سبق. وروى أبو يعلى عن عامر بن عرفطة قال: كنت جالسًا عند عمر رضي الله تعالى عنه إذ أُتيَ برجل من عبد القيس، فقال له عمر: أنت فلان العبدي؟ قال: نعم. فضربه بقناة معه، فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ قال: اجلس. فجلس، فقرأ عليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} إلى قوله: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 1 - 3]، فقرأها عليه ثلاثًا، فضربه ثلاثًا. فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال. قال: مرني بأمرك أتبعه. قال: انطلقْ فامحُه بالحميم، وانصرف ثمَّ لا تقرأه، ولا تُقرئه أحدًا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك أقرأته أحدًا من الناس لأنهكنك عقوبة. ثمَّ قال: اجلس، فجلس بين يديه، فقال: انطلقت أنا فانتسخت كتابًا من أهل الكتاب، ثمَّ جئت به في أديم، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا هَذَا في يَدِكَ يَا عُمَرُ؟ ".
قلت: يا رسول الله! كتاب نسخته لنزداد به علمًا إلى علمنا. فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى احمرَّت وجنتاه، ثمَّ نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم؟ السلاح، السلاح، فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "أيُّها النَّاسُ! إِنِّي قَدْ أُوْتيْتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ وَخَواتِيْمَهُ، واخْتُصِرَ لِيَ الكَلامُ اخْتِصارًا، وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِها بَيْضاءَ نَقِيًّا فَلا تتَهَوَّكُوا، وَلا يَغُرَّنَّكُمُ الْمُتَهَوِّكُوْنَ". قال عمر رضي الله تعالى عنه: رضيت بالله ربًا، وبالإِسلام دينًا، وبك رسولًا، ثمَّ نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1). قال في "القاموس": المتهوك: المُتحيِّر (¬2)، كالهواك، كشداد، والساقط في هوة الرَّدى. والهوكة -بالضم -: الحفرة. وهوك: حفر. قال: والتهوك: التهور والوقوع في الشيء بغير مبالاة (¬3). وفي الحديث إشارة إلى أن من لم يكتف بما شرعه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجاء به من الآداب، وأراد أن يخلطه بآداب أهل الكتاب والأعاجم، ¬
1 - فمنها -وهو أقبح ما هم فيه-: الشرك والكفر، وعبادة النار والأضواء.
وأخلاقهم المناقضة لأخلاق الأنبياء والصالحين، فقد ضلَّ، فإن دعا غيره إلى أخلاقهم وهديهم المذكور فقد أضلَّ. وأنت ترى أكثر أهل زمانك الآن يرغبون في أخلاق العجم والروم، وعاداتهم، وقوانينهم، وزيِّهم، ويُرَغِبُّون غيرهم فيها، فصدق عليهم ما وعد به النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى تأخُذَ أُمَّتِي أَخْذَ القُرُوْنِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِراعًا بِذِرَاعٍ". قيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ قال: "وَمَنِ النَّاسُ إلا أُوْلَئِكَ" (¬1)؛ أي: ومن الناس المخوف من الأخذ أخذهم إلا فارس والروم. أما الروم فتقدم التحذير من التشبه بهم في أهل الكتاب. وأما الفرس فلا بأس أن ننبه على شيء من أخلاقهم وأعمالهم التي ورد النهي عن التشبه بهم فيها -وإن كان لا يمكننا استيفاؤها-. 1 - فمنها -وهو أقبح ما هم فيه-: الشرك والكفر، وعبادة النار والأضواء. وقد خَمَدت نارُهم لميلاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما روى أبو نعيم، والبيهقيُّ كلاهما في "الدلائل"، والخرائطي في "الهواتف"، وابن عساكر عن مخزوم بن هانئ المخزومي، عن أبيه -وأتت له مئة وخمسون سنة- ¬
قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرافة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك ألف عام، وغاضت بحيرة ساوة (¬1). وروى الخرائطي، وابن عساكر عن عروة رحمه الله تعالى: أن نفرًا من قريش منهم ورقة بن نوفل، وعبد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه، فدخلوا عليه فرأوه مكبوبًا على وجهه، فأنكروا ذلك، فأخذوه وردوه على حاله، فلم يلبث إلا أن انقلب انقلابًا عجيبًا، فردوه إلى حاله، فانقلب الثالثة، فقال عثمان بن الحويرث: إن هذا لأمر قد حدث، وذلك في الليلة التي ولد فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهتف بهم هاتف من الصنم بصوث جهير، وهو يقول: [من الطويل] تَرَدَّى لِمَوْلُودٍ أَضاءَتْ بِنُورِهِ ... جَمِيْعُ فِجاجِ الأَرْضِ في الشَّرْقِ والْغَرْبِ فَخَرَّتْ لَهُ الأَوْثانُ طُرًّا وَأَرْعَدَتْ ... قُلُوبُ مُلُوكِ الأَرْضِ طُرًّا مِنَ الرُّعْبِ وَنارُ جَمِيْعِ الْفُرْسِ باخَتْ وَأَظْلَمَتْ ... وَقَدْ ماتَ شاهُ الْفُرْسِ فِي أَعْظَمِ الكَرْبِ ¬
تنبيه
وَصُدَّتْ عَنِ الأَصْنامِ بِالْغَيْبِ جِنُّها ... فَلا مُخْبِرٌ عَنْهُمُ بِحَقٍّ وَلا كِذْبِ فَيا لِقُصَيٍّ ارْجِعُوا عَنْ ضَلالِكُمْ ... وَهُبُّوا إِلَى الإِسْلامِ والْمَنْزِلِ الرَّحْبِ (¬1) * تنبِيْهٌ: ما يفعله الناس ليلة النصف من شعبان، أو في غيرها في بيت المقدس، وغيره من كثرة الوقيد في المساجد، وغيرها زيادة على قدر الحاجة ملحقٌ بتعظيم المجوس للنار؛ إذ فيه تشبه بهم. قال ابن دِحية في كتاب "العلم المشهور": مما أحدثه المبتدعون، وخرجوا به عما رَسَم المتشرعون، وجَرَوا به على سنن المجوس، واتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا: الوقيدُ ليلة النصف من شعبان، ولم يصح فيها شيء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا نطق بالصلاة فيها، والإيقاد صادق من الرواة، وما أخذ به إلا متلاعب بالشريعة المحمدية، راغب في دين المجوسية لأنَّ النار معبودهم. قال: وأول ما حدث ذلك في زمن البرامكة، فأدخلوا في دين الإِسلام ما يموهون به على الطغام، وهو جعلهم الإيقاد في شعبان كأنه من سنن الإيمان، ومقصودهم عبادة النيران، وإقامة دينهم وهو أخس ¬
الأديان، حتى إذا صلى المسلمون فركعوا وسجدوا، كان ذلك إلى النار التي أوقدوا، ومضت على ذلك السنون والأعصار، وتبعت بغداد فيها سائر الأمصار إلى أن أخفت الله صوتهم وقدَّر هلكتهم وموتهم، وكانت نكبتهم في زمن هارون الرشيد، وذلك سنة سبع وثمانين ومئة من الهجرة المحمدية، فانقطع شرهم عن الملة الإِسلامية. هذا مع ما يجتمع تلك الليلة من النساء والرجال، واختلاط الحال من الفريقين في ضيق المحال، فالواجب على السلطان منعهم، وعلى العالِم ردعهم، انتهى. نقله الحافظ زين الدين العراقي عنه في "شرح الترمذي"، وأقره عليه. قلت: وقد تفاقم الأمر، واشتدَّ الحال في هذا العصر، واستمرت تلك البدعة إلى الآن، وبالغ الناس في الشعلة ليلة النصف من شعبان، وفي ليالي رمضان، بل لو قصر الناس في ذلك في كل سنة لأمرهم الحاكم بها، وقال العالِم إلا من اتقى الله تعالى: هذه بدعة حسنة، بل قد اتفق تهديد الحكام للناس على الترك قبل وقوع التقصير، وصاروا يعلنون النداء بالأمر بذلك من غير منكر لهذا الفعل الكبير، فبقي المنكر معروفًا به يؤمر، والمعروف منكرًا يستهجن ويستنكر، فصدق على هذا الزمان قولُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَيْفَ بِكُمْ إِذا طَغَى نِساؤُكُمْ، وَفَسَقَ شَبَابُكُمْ، وَتَرَكْتُمْ جِهَادكُمْ". قالوا: وإن ذلك كائن يا رسول الله؟
2 - ومن أخلاق المجوس: إنكار القضاء والقدر.
قال: "نَعَمْ والَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِهِ سَيَكُوْنُ". قالوا: وما أشد منه؟ قال: "كَيْفَ أَنتمْ إِذا لَمْ تَأمُرُوْا بِالمَعْرُوْفِ وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ " قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: "نَعَمْ وَأَشَدُّ مِنْهُ سَيَكُوْنُ". قالوا: وما أشد منه؟ قال: "إِذا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوْفَ مُنْكَرًا والْمُنْكَرَ مَعْرُوْفًا؛ يَقُولُ اللهُ تَعالَى: لأَتِيْحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً يَصِيْرُ الْحَكِيْمُ مِنْهُمْ حَيْرَانَ". رواه أبو يعلى من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). 2 - ومن أخلاق المجوس: إنكار القضاء والقدر. روى الإمام أحمد، وأبو داود عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: [قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ] "لكلِّ أمةٍ مجوسٌ، ومجوسُ هذهِ الأمةِ الذين يقولون: لا قَدَرَ؛ إن مَرِضُوا فلا تَعُودُوهُم، وإن ماتوا فلا تَشْهَدُوهُم، وهم شيعةُ الدَّجَّالِ، وحقٌّ على الله أن يحشُرَهُم معهم" (¬2). ¬
3 - ومن عوائد العجم وأخلاقهم: الخروج على السلطان، وإرادة خلعه أو قتله.
وروى أبو داود، والحاكم وصححه، عن ابن عمر، واللالكائي عنه وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنهم قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "القَدَرِيَّةُ مَجُوْسُ هَذهِ الأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلا تَعُوْدُوْهُمْ، وإِنْ ماتُوا فَلا تَشْهَدُوْهُمْ" (¬1). 3 - ومن عوائد العجم وأخلاقهم: الخروج على السلطان، وإرادة خلعه أو قتله. روى ابن عساكر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: جاءني رجل في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، فإذا هو يأمرني أن أعتب على عثمان، فلما قضى كلامه قلت: قد كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي: أفضل أمة محمَّد أبو بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان رضي الله تعالى عنهم، وإنا والله ما نعلم عثمان قتل نفسًا بغير حق، ولا جاء من الكبائر شيئًا، ولكنه هذا المال إن أعطاكموه رضيتم، وإن أعطاه قرابته سخطتم، إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم؛ لا يتركون لهم أميرًا إلا قتلوه، وفاضت عيناه بالدموع، ثمَّ قال: اللهم لا ترد ذلك (¬2). 4 - ومنها: استخلاف السلطان، أو الأمير ولده وغيره أمثل منه إيثارًا، أو تقديمًا للبنوة على حقوق الرعية. ذكر الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في "تاريخ ¬
5 - ومنها: ضرب المكوس والضرائب على الناس، وأخذها منهم وجبايتها، واعتقاد أنها حق مأخوذ لا يسامح فيها، وأخذها بالعنف؛ وكل ذلك حرام.
الخلفاء" ما ذكره غيره من الأخباريين: أنَّه في سنة خمسين من الهجرة دعا معاوية أهل الشام إلى البيعة بولاية العهد لابنه يزيد، وهو أول من عهد بها في صحته، ثمَّ إنه كتب إلى مروان بالمدينة أن يأخذ البيعة له، فخطب مروان فقال: إن أمير المؤمنين رأى أن يستخلف عليكم ولده يزيد سُنَّةَ أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. فقال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما فقال: بل سنة كسرى وقيصر؛ إن أبا بكر وعمر لم يجعلاها في أولادهما، ولا في أحد من أهل بيتهما (¬1). 5 - ومنها: ضرب المكوس والضرائب على الناس، وأخذها منهم وجبايتها، واعتقاد أنها حق مأخوذ لا يُسامَح فيها، وأخذها بالعنف؛ وكل ذلك حرام. ومن هذا القبيل المرتبات واليسق التي تؤخذ الآن على البضائع، وممن يمر بحمل ونحوه في طريق أو باب مدينة، وما يأخذه القضاة والحكام على الأنكحة والمواريث. وقد ذكر ابن الجوزي في "مواعظ الملوك": أن كسرى خرج في بعض أيامه للصيد، فانقطع عن أصحابه، فأمطرت السماء مطرًا شديدًا حال بينه وبين جنده، فمضى لا يدري أين يذهب، وانتهى إلى كوخ فيه عجوز، فنزل عندها، وأدخلت العجوز فرسه، وأقبلت ابنتها ببقرة وقد ¬
رعت، فاحتلبتها، فرأى كسرى لبنها كثيرًا، فقال: ينبغي أن يجعل على كل بقرة خراج؛ فهذا حِلاب كثير. ثمَّ قامت البنت في آخر الليل لتحلبها فوجدتها لا لبن فيها، فصاحت: يا أماه! قد أضمر الملك لرعيته سوءًا. قالت أمها: وكيف ذاك؟ قالت: إن البقرة ما تبز بقطرة لبن. فقالت لها أمها: امكثي؛ فإن عليك ليلًا. فأضمر كسرى في نفسه العدل والرجوع عن ذلك العزم، فلما كان آخر الليل قالت لها أمها: قومي احلبي، فقامت فوجدت البقرة حافلًا. فقالت: والله زال ما كان في نفس الملك من الشر. فلما ارتفع النهار جاء كسرى فركب، وأمر بحمل العجوز وابنتها إليه، فلما دخلتا عليه أحسن إليهما، وقال: كيف علمتما ذلك؟ قالت العجوز: إنا بهذا المكان منذ كذا وكذا؛ ما عمل علينا بعدل إلا أخصبت أرضُنا واتسع عشبنا، وما عمل فينا بجَور إلا ضاق عيشنا وانقطعت مواد النفع عنا (¬1). وذكر صاحب كتاب "قلائد الشرف"؛ وهو كتاب حافل في أشراف أصبهان والفرس وعوائدهم وسيرهم، انتهى بمؤلفه التأليف إلى سنة ثمان وثلاث مئة عند ذكر الأكاسرة: أن أرباب الأرضين كانوا ¬
لا يتناولون من الثمار والسنبل شيئًا إلى أن يأخذ السلطان حقه من ذلك، فنظر كسرى قباذ يومًا في صدع حائط بستان إلى صبي صغير عند أمه يروم اجتناء رمانة والأم تمنعه إلى أن ضربته، فبكى الصبي، فأرسل قباذ إليها في ذلك، فقالت: إنه لا يحل لنا أن نتناول شيئًا من أشجارنا وزروعنا وللملك فيه حق. ثمَّ قال: لا يجب أن نمنع الزرَّاع والغارسين عن الأكل مما يغرسون ويزرعون، وأن يكون لنا عليهم خَراج معلوم. فجعل الأرضين خيرًا ووسطًا ودونًا؛ فعلى الجريب الجيد من الحنطة والشعير درهم وربع، والوسط درهم، والدون ثلاثة أرباع درهم، والأشجار ما جرى به الرسم، انتهى. وليس للسلطان في الإِسلام من الأموال على المسلمين شيء إلا ما جرَّه إليه الشرع من أموال المصالح المأخوذة بطريق الشرع أسوة غيره مما بهم قوام الأمر على ما هو مقرر في الأحكام الشرعية السلطانية، ومن أموال الغزو والغنائم، وليس على المسلمين حق سوى حق الزكاة المأخوذ برسم الشرع، والخراج الموضوع على الأرضين بطريقه الشرعي، ونسبة هذه الأموال إلى السلطان إنما هي لأدنى ملابسة لما له عليها من ولاية التصرف فيها، وكذلك نسبة أموال المكوس إليه ولا يجوز أن يقال: هذا حق السلطان. وقال شيخ الإِسلام النوويّ في "أذكاره": ومما يتأكد النهي عنه والتحذير منه ما يقوله العوام وأشباههم في هذه المكوس التي تؤخذ
6 - ومن أخلاق العجم: الرفض، وبغض الشيخين وغيرهما من الصحابة.
ممن يبيع أو يشتري ونحوهما؛ فإنهم يقولون: هذا حق السلطان، أو: عليه حق السلطان، ونحو ذلك من العبارات المشتملة على تسميته حقًا أو لازمًا، وهذا من أشد المنكرات، وأشنع المستحدَثات، حتى قد قال بعض العلماء: من سمَّى هذا حقًا فهو كافرٌ خارجٌ عن ملة الإِسلام. والصحيح أنَّه لا يكفر إلا إذا اعتقده حقًا مع علمه بأنّه ظلم، فالصواب أن يُقال فيه: المكس، أو: ضريبة السلطان، ونحو ذلك من العبارات، انتهى (¬1). 6 - ومن أخلاق العجم: الرفض، وبغض الشيخين وغيرهما من الصحابة. وهو مما غلب على كثير من الفرس حتى إن الأعجمي إذا كان سنيًا كان طرفة بين الناس. ومن لطيف ما اتفق في الدولة العثمانية حين كانت الحرب واقعة بين السلطان سليم بن السلطان أبي يزيد بن عثمان وبين الشاه إسماعيل أنَّه كتب إلى السلطان سليم كتابًا، وكتب فيه هذين البيتين: [من السريع] نَحْنُ أُناسٌ قَدْ غَدا شَأْنُنا ... حُبَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالِبِ ¬
يَعِيْبُنا النَّاسُ عَلى حُبِّه ... فَلَعْنَةُ اللهِ عَلى الْعائِبِ فأرسل السلطان سليم رحمه الله تعالى في جوابه كتابًا كتب فيه هذين البيتين: [من السريع] ما عَيْبُكُمْ هَذا وَلَكِنَّه ... بُغْضُ الَّذِي لُقِّبَ بِالصَّاحِبِ وَقَوْلُكُمْ عَنْهُ وَعَنْ بِنْتِهِ ... فَلَعْنَةُ اللهِ عَلى الْكاذِبِ (¬1) وروى الحافظ أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري المعروف باللالكائي في "السنة" عن النضر بن شُميل قال: سمعت المأمون يقول: القدر دين الخزر، والرفض دين القبط، والإرجاء دين الملوك (¬2). وعن إبراهيم بن المغيرة -وكان شيخًا حجاجًا- قال: سألت سفيان الثوري: يُصَلَّ خلف من سبَّ أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما؟ ¬
7 - ومن قبائح المجوس: استباحة أكل الميتة في غير حالة الاضطرار.
قال: لا. وعن سفيان بن عيينة أنَّه قال لرجل: من أين جئت؟ قال: من جنازة فلان. قال: لا أحدِّثك بحديث سَنَةً، فاستغفر الله ولا تعد؛ نظرت إلى رجل يشتم أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فاتَّبعت جنازته (¬1). وعن محمَّد بن يوسف الفريابي قال: ما أدري الرافضة والجهمية إلا زنادقة (¬2). وروى أبو نعيم عن سفيان الثوري قال: كان على طريقي إلى المسجد كلب يعقِر الناس، فأردت يومًا الصلاة والكلب على الطريق، فتنحَّيت عنه فقال: يا أبا عبد الله! جُزْ؛ فإني سلَّطني الله تعالى على من شتم أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - (¬3). 7 - ومن قبائح المجوس: استباحة أكل الميتة في غير حالة الاضطرار. قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ¬
8 - ومن قبائحهم: نكاح المحارم.
{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]. روى ابن جرير، والطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما نزلت: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدًا، فقولوا له: ما تذبح أنت بيدك وسكين فهو حلال، وما ذبح الله -يعني: الميتة- فهو حرام؟ فنزلت هذه الآية: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}؛ قال: الشياطين من فارس، وأولياؤهم قريش (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن عطاء رحمه الله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}: نهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش على الأوثان، ونهى عن ذبائح المجوس (¬2). وروى عبد الرزاق عن طاوس رحمه الله تعالى قال: مع المسلم ذكر الله، فإن ذبح ونسي أن يسمي فليسمِّ وليأكل؛ فإن المجوسي لو سمَّى على ذبيحته لم تؤكل (¬3). 8 - ومن قبائحهم: نكاح المحارم. روى الدينوري عن ابن قتيبة: أنَّه قال في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه ¬
قال للشفاء: "عَلِّمِي حَفْصَةَ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ" (¬1)؛ قال الدينوري: والنملة قروح تخرج في الجنب. قال ابن قتيبة: وقال الشاعر: وَلا عَيْبَ فِينا غَيْرَ عِرْقٍ لِمَعْشَرٍ ... كِرامٍ وَأنَّا لا نَخُطُّ عَلى النَّمْلِ قال: يريد: إنَّا لسنا بمجوس، وذلك أنهم كانوا يقولون: إنَّ ولد الرجل من أخته إذا خط على هذه القروح بَرَأ صاحبها (¬2). وقال الجوهري في "صحاحه": يقول المجوس: إن ولد الرجل إذا كان من أخته، ثمَّ خط على النملة شفي صاحبها، ثمَّ أنشد البيت، وقال: يريد أنَّا لسنا بمجوس ننكح الأخوات (¬3). وذكر الماوردي في "أدب الدين والدنيا": أن معاوية رضي الله تعالى عنه استعمل رجلًا من كلب، فذكر المجوس يومًا عنده، فقال: لعن الله المجوس! ينكحون أمهاتهم، ولو أعطيت عشرة آلاف ما نكحت أمي. فبلغ ذلك معاوية، فقال: قبَّحه الله! أترونه لو زادوه فعل، وعزله (¬4). ¬
9 - ومن قبائح العجم: العشق الشيطاني والهوى الحيواني،
9 - ومن قبائح العجم: العشق الشيطاني والهوى الحيواني، والتعلق بصور المُرد الحسان بفعل الفاحشة بالصبيان، والزنا بالنسوان. وذُكر في "قلائد الشرف" أنَّ فرعون أول من زنا بعد أن (¬1) فرعون يوسف وموسى عليهما السلام واحد، وأنه كان من أشراف العجم من قرية حوزان من وستاق مارس. وذكر عن ابن إسحاق: أنَّ فرعون من أصبهان (¬2). وتقدم لنا في النهي عن التشبه بفرعون كلام فيه. وقال الدميري في "حياة الحيوان": روي في أخبار معن بن زائدة الشيباني: أنَّ رجلًا قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس، وبغل وحمار وجارية ثمَّ قال: لو علمت أن الله تعالى خلق مركوبًا غير هذا لحملتك عليه. قال الدميري: قال بعضهم: يرحم الله معْنًا! لو كان يعلم أن الغلام يركب لأمر له به، ولكن كان عربيًا محضًا لم يتدنس بقاذورات العجم، انتهى (¬3). ¬
قلت: ليس من الحقيقة إطلاق الركوب على النكاح، وإنما هو من باب المجازات التي أحدثها العرف، ولم يرد معن بالجارية الأمَة؛ فإن إطلاقها على الأمة عرف حادث أيضاً، وإنما الجارية في اللغة: الفتية السن من النساء، وإنما أراد معن بالجارية السفينة. قال في "القاموس": الجارية: الشمس، والسفينة، والنعمة من الله تعالى، وفَتِيَّة النساء (¬1)؛ لم يذكر فيها غير ذلك مع أنه يطلق المجازات كثيرًا في مطلق الحقائق، وفي كتاب الله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]؛ قال ابن عباس: السفينة. رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬2). ومثله عن السدي. رواه سعيد بن منصور، وابن المنذر، وعليه إطلاق المفسرين (¬3). ولو أراد معن بالجارية الأَمَة لورد على قوله: ولو علمت أن الله تعالى خلق مركوبًا غير هذا لحملتك عليه: السفينة، وقد قال الله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} [هود: 41] ولما ركبوا في الفلك {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} [هود: 42]. وقال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الرحمن: 24]؛ فإن ¬
المراد بالجواري السفن بإجماع المفسرين، وهو جمع جارية. وقال عمرة بن سعد رضي الله تعالى عنه: كنا مع علي رضي الله تعالى عنه على شط الفرات، فمرت سفينة، فقرأ هذه الآية: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الرحمن: 24]. رواه ابن المنذر، والمحاملي في "أماليه" (¬1). ثمَّ العشق قال بعض الحكماء: اسم لما فضل عن المحبة، كما أن السَّرف: اسم لما جاوز الجود، والبخل: اسم لما نقص عن الاقتصاد (¬2). ومن ثم كان العشق مذموماً، والمحبة ممدوحة، كما أن السرف والبخل مذمومان، والجود والاقتصاد ممدوحان. ومن كلام عمر رضي الله تعالى عنه: لا يكن حبك كَلَفاً، وبغضك تلفاً (¬3). ومدَحَ العشقَ قومٌ، وقالوا: إنه لا يكون إلا من لطيف الطبع دون جامده، وهو يجلو العقول ويصفي الأذهان. والحق أنَّ المحبة والميل إلى الأشياء المستحسنة لا يذم، فإن زاد ذلك حتى يستأسر القلب ويملك العقل فهو مذموم، وقد أحب ¬
الأكابر من غير أن ينتهوا إلى الإفراط والغلبة، ولم يكن ذلك في حقهم عيباً، وكان الشعبي رحمه الله تعالى يقول: [من الطويل] إِذا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ ما الْهَوَى ... فَأَنْتَ وَعِيْرٌ في الْفَلاةِ سَواءُ (¬1) وحيث قلنا: إنَّ الميل إلى المستحسنات غير مذموم فالمراد ما يستحسن شرعًا، فما لم يأذن فيه الشرع ليس بحسن أصلًا. واعلم أن المحبة على قسمين: - محبة عقل. - ومحبة شخص. فإن الميل إلى المحبوب تارة تكون داعيته وصول نفع دنيوي، أو أخروي من المحبوب إلى المحب، أو رجائه منه، وهذه محبة العقل؛ كميل المرء إلى أبويه، وأقاربه، وعشيرته. وهي محمودة مطلقًا، ومنها محبة الله تعالى، ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَحِبُّوا اللهَ لِما يَغْذُوْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّوْني لِحُبِّ اللهِ إِيَّايَ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّيْ". رواه الترمذي، والحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). ¬
وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه موقوفًا، وصححه، ورواه هو وأبو نعيم عنه مرفوعًا، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "جُبِلَتِ القُلُوبُ عَلَى حبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْها، وَبُغْضِ مَنْ أَساءَ إِلَيْها" (¬1). وتارة يكون ميل النفس إلى المحبوب لمجرد التجانس النفساني الذي هو بين روحيهما، أو لمجرد ميل الطباع إلى المحبوب وقضاء الوطر. وهذا الميل إن كان إلى من يبيحه الشرع أو ما يبيحه، ولم يفرط فيه كان مقبولاً ممدوحاً، وهو المحبة المحمودة كمحبة الأنبياء عليهم السلام، والعلماء رحمهم الله تعالى لحلائلهم. وإن كان إلى ما لا يبيحه الشرع كالأجنبية والأمرد إن كان مع الإفراط فيه كان مذموماً مردوداً، وهذا هو العشق المذموم، وأكثر ما يحصل للفارغين والبطَّالين من تكرار النظر وجَوَلان الفكر. وقد اصطلح أكثر الناس على إطلاق العشق على ما كان مذمومًا، والحب على ما كان محموداً؛ وإن كان في الأصل كل منهما عبارة عن الميل. ¬
وعليه قال الشيخ الوالد رحمه الله تعالى في كتاب "فصل الخطاب": [من الرجز] والْعِشْقُ داءٌ عارِضٌ نَفْسانِي ... أَكْثَرُهُ مُسْتَخْبَثٌ شَيْطانِي يَحْدُثُ لِلْحَمْقَى وَلِلْجُهَّالِ ... وَكُلِّ مُتْرَفٍ خَلِيِّ الْبالِ مِنْ سَرَيانِ الْفِكْرِ في شَمائِلِ ... ذاتٍ بِتَسْلِيطِ خَيالٍ باطِل والْعِشْقُ مِقْدارٌ عَنِ الْحُبِّ فَضَلْ ... يُخَبِّلُ الْعَقْلَ وَرُبَّما قَتَلْ والْحُبُّ مَحْمودٌ شِعارُ الأَنْبياءْ ... والْعُلَما والْعُقَلا والأَصْفِياءْ ثمَّ اعلم أنَّ الميل إلى الصورة الحسنة طباع كل إنسان عربياً كان أو أعجمياً، غير أن العرب والعجم افترقا فيه، فغلب على العرب الميل إلى الإناث، وعلى العجم الميل إلى المذكور، والعرب في ذلك أقرب إلى الصواب من العجم لأنَّ الأنثى يمكن التوصل إليها بالنكاح مهما دعا عشقها إلى مواقعتها، بخلاف الذكر؛ فإنه لم تأذن شريعة قط في الاستمتاع به، ولذلك قال جماعة من العلماء: إن اللواط أفحش من الزنا.
ولا ريب أن من العشق ما ليس له دواء إلا النكاح، وهذا لا سبيل إليه في المذكور بوجه. وقد روى ابن الجوزي في "ذم الهوى" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! عندنا يتيمة قد خطبها رجلان موسر ومعسر، هي تهوى المعسر، ونحن نهوى الموسر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لَمْ يُرَ لِلْمُتَحابَّينِ مِثْلُ النكاحِ" (¬1). ورواه ابن ماجه، والحاكم وصححه، والبيهقيُّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بدون ذكر اليتيمة (¬2). وأخرج الخرائطي في "اعتلال القلوب" حديث ابن عباس، ولفظه: "لَيْسَ لِلْمُتَحابَّيْنِ مِثْلُ النكاحِ". وإنما غلب على العجم والروم هوى الغلمان لسخافة عقولهم، وميلهم إلى الرفاهية حيث أمكنتهم، ولباس الحرير، والزينة، وإلباس الغلمان ذلك حتى صاروا كالغواني، ومعاشرتهم لهم، واستخدامهم إياهم، وإطلاق النظر إليهم بخلاف العرب؛ فإن الغالب عليهم إيثار التفحل والخشونة على الرفاهية والزينة، فلذلك كان الميل إلى الغلمان في العجم أفشى منه في غيرهم، بل من عني بذلك من أبناء العرب ¬
10 - ومن قبائح العجم: أكل الحشيش المسكر.
فإنما هو لكثرة اختلاطهم بالأعجام والأروام، وطول مجاورتهم لهم، وللمجاورة تأثير، فلما خالطوهم وجاوروهم، وكانت الدولة في هذه الأعصار للأعاجم والروم استحسنوا أفعالهم، وتخلَّقوا بأخلاقهم من لباس زيهم، واستخدام المُرد الحسان، وتشكيلهم، وكثرة النظر إليهم، وفشا ذلك في أكثر الناس حتى لم يبال بهذه العظائم غالبهم؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد روى الإمام أحمد عن سهل بن سعد، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهُمَّ لَا يُدْرِكْنِيْ زَمانٌ وَلا تُدْرِكُوا زَمانًا لا يُتْبَعُ فِيْهِ العَلِيْمُ، وَلا يُسْتَحْيىَ فِيْهِ مِنَ الْحَلِيْمِ، قُلُوْبُهُمْ قُلُوْبُ الأَعاجِمِ، وَأَلسِنتهُمْ ألسِنَةُ العَرَبِ" (¬1). وروى الترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطاءَ، وَخَدَمَها أَبْناءُ الْمُلُوْكِ أَبْناءُ فارِسَ والرُّومِ، سَلَّطَ اللهُ شِرارَها عَلَى خِيارِها" (¬2). 10 - ومن قبائح العجم: أكل الحشيش المسكر. قال الزركشي في "زهر العريش": قيل: إن أول ظهورها كان على يد حيدر الأعجمي في سنة خمسين وخمسمئة تقريبًا، ولهذا سميِّت ¬
تنبيه
حيدرية، وكان سببه أنه خرج هائماً بنفر من أصحابه، فمرَّ على هذه الحشيشة، فرأى أغصانها تتحرك من غير هواء، فقال في نفسه: هذا لسر فيها، فاقتطف فأكل منها، فطرب، فلما رجع أعلمهم أنه رأى فيها سراً، وأمرهم بأكلها. وقيل: ظهرت على يد أحد المسارجي القلندري، ولهذا سميت: قلندرية. وقال ابن تيميَّة: إنما لم يتكلم فيها الأئمة الأربعة وغيرهم من علماء السلف لأنها لم تكن في زمنهم، وإنما ظهرت في المئة السادسة وأول المئة السابعة حين ظهرت دولة التتار (¬1). وكذا قال غيره: إنها كانت شر داخل على بلاد العجم حين استولت عليها التتار، ثمَّ انتقلت إلى بغداد، وقد علم ما جرى على أهلها من قبيح الأمر. * تنبِيْهٌ: قال الشيخ شمس الدين العلقمي في "حاشية الجامع الصغير" للسيوطي: حكي أنَّ رجلًا من العجم قدم القاهرة، وطلب دليلًا على تحريم الحشيشة، وعقد له مجلس حضره علماء العصر، فاستدل الحافظ زين الدين العراقي بحديث الإمام أحمد، وأبي داود عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كل مسكر ومُفتِّر (¬2)، ¬
11 - ومن أخلاق العجم: الدهاء -بضم المهملة والمد-.
فأعجب الحاضرين (¬1). 11 - ومن أخلاق العجم: الدهاء -بضم المهملة والمد-. ويقال له: دهى على وزن رمى، وهو المكر، وجودة الرأي، كما في "الصحاح"، و"القاموس" (¬2). والمراد هنا الأوّل؛ إذ يختص الدهاء بصرف العقل إلى الشر، ولذلك قال جماعة: زيادة العقل فضيلة إلا في الشر فإنها رذيلة. وقيل: إنَّ العقل إذا جاوز حده انقلب مذمومًا مطلقًا؛ فإنَّه يصير إلى المكر والخديعة، وهما في النار كما في الحديث. روى الدينوري في "المجالسة" عن نافع رحمه الله تعالى قال: قال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه حين أتاه فتح القادسية: أعوذ بالله أن يبقيني بين أظهركم حتى يدركني أولادكم من هؤلاء. قالوا: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: ما ظنكم بمكر العربي ودهاء العجمي إذا اجتمعا في رجل؟ (¬3). 12 - ومن أعمال العجم وعوائدهم القبيحة: الضرب بالعود والطنبور، وآلات اللهو، وشرب الخمور. ذكر هشام بن محمَّد بن السائب الكلبي في كتاب "العيدان": أنه ¬
13 - ومنها: اللعب بالنرد والشطرنج.
أول من عمل العود وضرب به رجل من بني قابيل بن آدم يقال له: لمك. وذكره صاحب "قلائد الشرف" جازماً به، وذكر فيه أنه أول من ضرب له به على الشراب: فمراسف، وهو من ملوك العجم السابقين، وأنَّ أول من اتخذ الطنبور: مكيحًا من قوم لوط ليخدع به الأحداث. وقيل: صنع العود أهل الهند على هيئة طبائع الأزمان، فإذا اعتدلت أوتاره باشر الطباع فأطرب. روى البيهقي في "السنن الكبرى" عن عمرو بن العاص، وعن قيس بن سعد بن عبادة - رضي الله عنهم -: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِن رَبِّي حَرَّمَ الْخَمْرَ، والْمَيْسِرَ، والقنينَ، والكُوْبَةَ" (¬1). قال في "القاموس": والقنين: الطنبور، ولعبة للروم يتقامر بها (¬2). وذكر صاحب "قلائد الشرف": أن أول من اتخذ الزمر والطبل: يبوراسف، وهو من ملوك العجم القدماء، وهو الضحاك ابن عبيد. وقيل: بل ابن قيس مَلَك الشرق والغرب ألف سنة، وهو أول من أكل اللحم. 13 - ومنها: اللعب بالنرد والشطرنج. فإن الأول من أوضاع الفرس، والثاني من أوضاع الهند. ¬
روى ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في "الملاهي" عن قتادة قال: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن اللعب بالكعبين فقال: "إِنَّهُمَا مَيْسِرُ العُجَمِ" (¬1). تقدم حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في ذلك في التشبه بالشيطان. وروى البيهقي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول: الشطرنج ميسر العجم (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن الحسن رحمه الله تعالى قال: النرد ميسر العجم (¬3). وعن أبي جعفر أنه سئل عن الشطرنج فقال: دعونا من هذه المجوسية لا تلعبوا بها؛ يعني: الشطرنج (¬4). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه دخل على بعض أهله وهم يلعبون بالشهاردة -يعني: الشطرنج- فكسرها (¬5). وعن مجاهد: أنَّ ابن عمر رضي الله تعالى عنه مرَّ بقوم يلعبون ¬
بالشهاردة، فأحرقها بالنار (¬1). وعن الإمام مالك أنه قال: الشطرنج من النرد (¬2). وبلغنا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنَّهُ وَليَ مال يتيم فأحرقها. وعن علي رضي الله تعالى عنه: أنه مرَّ على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأنَّ يمس أحدكم جمراً حتى يطفأ خيرًا له من أن يمسها (¬3). وعن عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - قال: مرَّ علي - رضي الله عنه - بمجلس من مجالس تيم الله وهم يلعبون بالشطرنج، فقال: أما والله لغير هذا خلقتم؛ إنما والله لولا أن تكون سنة لضربت بها وجوهكم (¬4). وذكر صاحب "قلائد الشرف": أن العجم كانوا يأمرون نساءهم أن يغزلن ويعملن الحرير، ويلعبن الشطرنج، ولا يلعبن بالنرد، ويضربن بالصنج، ولا يمسسن غيره من الأوتار. قيل: كان وضع النرد لإثبات القضاء والتقدير، وكان وضع ¬
14 - ومنها: لباس الحرير للرجال، وافتراشه والاتكاء عليه، وتجليل السروج والرحال به، واتخاذ الأسرة والآنية من الذهب والفضة للرجال والنساء جميعا، وكل ذلك حرام.
الشطرنج لإثبات الحركة والتدبير. قلنا: منع الشرع منهما في الأول تحريماً، وفي الثانية كراهية عند الشافعي، وصحح بعض أصحابه الإباحة بشروط، وتحريماً عند الأئمة الثلاث، فوجب تقديم الشرع في ذلك، والمصير إليه، والالتفات إلى ما نهى الشرع عنه ولا معول عليه (¬1). 14 - ومنها: لباس الحرير للرجال، وافتراشه والاتكاء عليه، وتجليل السروج والرحال به، واتخاذ الأسرَّة والآنية من الذهب والفضة للرجال والنساء جميعًا، وكل ذلك حرام. روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي عن أبي ريحانة رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن عشرة: الوشر، والوشم، والنتف، ومكاعمة الرجل الرجل من غير شعار، ومكاعمة المرأة المرأة من غير شعار، وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم، وأن يجعل على منكبيه حريرًا مثل الأعاجم، وعن النُّهبى، وعن ركوب النِّمار، ولبس الخاتم إلا لذي سلطان (¬2). وروى الأئمة الستة عن البراء رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ¬
نهى عن ركوب المياثر (¬1)؛ وهي الفرش الوطية، جمع ميثرة. قال أبو عبيد: وأما المياثر الحمر التي جاء فيها النهي فإنها مراكب الأعاجم من ديباج أو حرير (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن أسلم مولى عمر قال: لما قدمنا مع عمر رضي الله تعالى عنه الشام أناخ بعيره وذهب لحاجته، فألقيت فروة بين شعبتي الرحل، فلما جاء ركب على الفرو، فلقينا أهل الشام يتلقون عمر رضي الله تعالى عنه، فجعلوا ينظرون، قال: فجعلت أشير لهم إليه. قال: يقول عمر رضي الله تعالى عنه: تطمح أعينهم إلى مراكب من لا خلاق له؛ قال: يريد مراكب العجم (¬3). وروى ابن حبَّان في "صحيحه" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرير مزمَّل بالبردي، عليه كساء أسود، وقد حشوناه بالبردي، فدخل أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم- نائم عليه، فلما رآهما استوى جالساً فنظرا فإذا أثر السرير في جنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما: ما تؤذيك خشونة ما ترى من فراشك وسريرك، وهذا كسرى وقيصر على فرش الحرير والديباج؟ ¬
فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُوْلُوا هَذا؛ فَإِنَّ فِراشَ كِسْرَى [وقيصر] في النَّارِ، وَإِنَّ فِرَاشِي هَذا عاقِبَتُهُ إلَى الْجَنَّةِ" (¬1). وروى الحاكم وصححه على شرط مسلم، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال عمر - رضي الله عنه -: استأذنت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدخلت عليه في مشربة -أي: غرفة- وإنَّه لمضطجع على خصفة، إن بعضه لعلى التراب، وتحت رأسه وسادة محشوة ليفًا، وإن فوق رأسه لإهابًا عطنًا، وفي ناحية المشربة قرط، فسلَّمت عليه، فجلست، فقلت: أنت نبي الله وصفوته، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير؟ فقال: "أُولَئِكَ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّباتُهُمْ وَهِيَ وَشِيْكَةُ الانْقِطاعِ، وَإِنَّا لَقَوْمٌ أُخِّرَتْ لَنا طَيِّباتُنا في آخِرَتنا" (¬2). وروى مسلم، والنسائي عن عبد الله بن عكيم قال: كنَّا عند حذيفة رضي الله تعالى عنه بالمدائن، فاستسقى دهِقاناً، فجاءه بماء في إناء من فضة، فحذفه به حذيفة -وكان رجلًا فيه حدة- فكرهوا أن يكلموه، ثمَّ التفت إلى القوم، فقال: أعتذر إليكم من هذا؛ إني كنت تقدّمت إليه أن لا يسقيني في هذا، ثمَّ قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام فينا فقال: "لا تَشْرَبُوا في آنِية الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وَلا تَلْبَسُوا الدِّيْباجَ والْحَرِيْرَ؛ فَإِنَّها لَهُمْ في الدُّنْيا ¬
15 - ومنها: كثرة التنعم والترفه، والمظاهرة في اللباس والطعام.
وَلَكُمْ في الآخِرَةِ" (¬1). والدهقان -بكسر الدال على المشهور، وحكي ضمها- أعجمي معرب، وهو زعيم فلَّاحي العجم. 15 - ومنها: كثرة التنعم والترفه، والمظاهرة في اللباس والطعام. قال البغوي في "شرح السنة": رُويَ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كثير من الإرفاه (¬2). قيل: معناه: الترجل كل يوم. وأصل الإرفاه من الرفه؛ وهي أن ترد الإبل كل يوم، ومنه أخذت الرفاهية، وهي الخصب والدعة. قال: وكره النبي -صلى الله عليه وسلم- الإفراط في التنعم من التدهن والترجل. وفي معناه: مظاهرة اللباس والطعام على الطعام على ما هو عادة الأعاجم، وأمرنا بالقصد في جميع ذلك (¬3). وقال في باب استحباب أن يُرى أثر نعمة الله على الرجل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُحبُّ أَنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبدِهِ" (¬4): في هذا تحسين الثياب بالتنظيف والتجديد عند الإمكان من غير أن يبالغ في النعامة والدقة، ¬
ومظاهرة الملبس على الملبس على ما هو عادة العجم؛ فقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينهى عن كثير من الإرفاه، انتهى (¬1). وفي كلامه إشارة إلى أنَّه لا تعارض بين الحديثين؛ فإنَّ أحدهما في الإرشاد إلى النظافة، وإظهار نعمة الله تعالى على العبد من غير تقتير على نفسه، ومن غير ارتكاب الوسخ والشعوثة، والبِذلة بخلًا وتقذرًا، والثاني في المبالغة في التنعم، ومظاهرة الملبس والطعام على الطعام إسرافاً ومَخِيلة كما هو عادة الأعاجم والأروام، وأكثر أهل زماننا أخذوا مأخذهم وسلكوا مسالكهم، فركبوا من ذلك كل صعب وذلول. وقلت في هذا المعنى: [من الرّمل] قَدْ أَحَبَّ اللهُ مِنَّا وَأَمَرْ ... أَنْ يُرى مِنْ نِعْمَةِ اللهِ الأثَرْ في طَعامٍ وَلِباسٍ ثُمَّ فِي ... حُسْنِ تَنْظِيْفٍ وَإِذْهابِ الْقَذَرْ لا بِإِسْرافٍ وَتَقْتِيرٍ فَما ... نالَ مَنْ أَسْرَفَ خَيْرًا أَوْ قَتَرْ نَشْكُرُ الْفَضْلَ بِما نُظْهِرُهْ ... لِيَزِيْدَ اللهُ مِنَّا مَنْ شَكَرْ ¬
16 - ومنها: الخروج يوم النيروز.
لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَعالَى مُرَفهٌ ... خالَ في الْمَلْبُوسِ تِيهاً أَوْ فَخَرْ خَلِّ أَمْرَ الْعُجْمِ والرُّومِ وَلا ... تَرْضَ مِنْهُ كُلَّ ما بارَى الأَثَرْ واقْفُ خَيْرَ الْعَرَبِ الْهادِي الّذِي ... هُوَ خَيْرُ الْخَلْقِ جَمْعًا والْبَشَرْ 16 - ومنها: الخروج يوم النيروز. وهو اليوم الذي تنزل فيه الشمس برج الحمل. والمهرجان؛ وهو اليوم الذي تنزل فيه الشمس في الميزان، وهو أول السنة عند العجم، وكانوا يكتبون فيه كتب العهود والولايات والأمانات، وكتب الفتوح والصلات، والعطايا كما ذكره صاحب "قلائد الشرف". وكان النيروز أول أعيادهم، ولهم أعياد أخر كثيرة، وكانوا يجعلون شهر النيروز كله عيدًا كل خمسة أيام منه لقوم؛ فالخمسة الأولى للملك، والثانية للأشراف، والثالثة لخدم الملك، والرابعة للمغنين، والخامسة للعامة، والسادسة لرعاة الغنم. روى أبو نعيم عن مطرف أنه قال: إني لأكره الخروج يوم النيروز، وإني لأراها شعبة من المجوسية.
وأخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"، وزاد: أو أرى إنسانًا أو أرجوحة (¬1). وروى عبد الرزاق عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لا تتعلموا رَطانة الأعاجم، ولا تدخلوا عليهم في كنائسهم يوم عيدهم؛ فإن السخطة تنزل عليهم (¬2). وروى البيهقي بإسنادين صحيحين، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أنه قال: من بَنَى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة (¬3). وبإسناد صحيح عن ابن سيرين قال: أُتيَ علي - رضي الله عنه - بهدية يوم النيروز، فقال: ما هذه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! هذا يوم النيروز. قال: فاصنعوا كل يوم نيروزاً (¬4). قال البيهقي: وفي هذا الكراهة لتخصيص يوم بشيء لم يجعله ¬
17 - ومنها: عمل الأراجيح يوم العيد.
الشرع مخصوصاً به (¬1). وروي: أن علياً رضي الله تعالى عنه كان لا يقبل هدية نيروز ولا مهرجان. ونقل غيره: أن علي - رضي الله عنه - أهدي إليه خبيص يوم المهرجان، فسأل فقيل له: إنه يوم المهرجان. فقال: مَهْرِجُونا كل يوم (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنَّ امرأة سألتها، قالت: إنا لنا أظيارًا من المجوس، وإنَّه يكون لهم العيد فيهدون لنا، فقالت: أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا، ولكن كلوا من أشجارهم (¬3). 17 - ومنها: عمل الأراجيح يوم العيد. وهي عادة المجوس، وهي جمع أُرجوحة -بالضم- ويقال: مرجوحة، ورجاحة كما في "القاموس"، ويقال: رجحت به الأرجوحة: إذا مالت (¬4). روى ابن أبي الدنيا، والبيهقيّ في "الشعب" عن طلحة بن مُصرِّف ¬
18 - ومنها: الدعكسة.
قال: إني لأكره المراجيح يوم النيروز، وأراها شعبة من المجوسية (¬1). فأمَّا عمل الأرجوحة في غير أيام العيد للصغار ترويحاً لهم فلا بأس به؛ لما رواه البيهقي أيضًا عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت على أرجوحة ومعها صواحبها في الوقت الذي أرادت أمها لتزفها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك من أول ما هاجر إلى المدينة. ثمَّ قال البيهقي: روينا مرسلًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه أمر بقطع المراجيح (¬2). قلت: أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" عن أبي الجليل -مرسلًا- ثمَّ روى عن الحسن بن حكيم عن أمه قالت: رأيت أبا بردة رضي الله تعالى عنه إذا رأى أحدًا من أهله وولده يلعب على المراجيح ضربهم وكسرها (¬3). 18 - ومنها: الدعكسة. وهي كما قال صاحب "القاموس": لعب المجوس؛ يسمونه الدستبند، يدورون وقد أخذ بعضهم بيد بعض كالرقص، وقد دعكسوا وتدعكسوا (¬4). ¬
19 - ومنها: حفظ أخبار العجم على وجه الاستحسان لها وبثها، والعناية بكتب الأعاجم التي لا تتعلق بعلوم الشرع.
19 - ومنها: حفظ أخبار العجم على وجه الاستحسان لها وبثها، والعناية بكتب الأعاجم التي لا تتعلق بعلوم الشرع. قال الحليمي في "منهاجه" في باب حفظ اللسان: ومما يناسب هذا الباب، ويلتحق بحملته شغل الزمان بقراءة كتب الأعاجم، والركون إليها، والتكثر بحفظها، والتحدث بما فيها، والمذاكرة عند الاجتماع بها. قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] الآية. قال الكلبي، ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة؛ كان يتجر ويأتي الحيرة ويشتري بها أخبار العجم، ويحدث بها قريشاً، ويقول: إن محمداً يحدث بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفندبار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه، ويتركون استماع القرآن، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6]، انتهى (¬1). نعم، إذا طالع الإنسان أخبار الأعاجم وغيرها بلا حماض وترويح الخاطر، ثم يعود إلى ما يعنيه فلا بأس، وعليه يحمل ما يروى من ذلك عن السلف والخلف، ونبَّهَ على ذلك والدي رحمه الله تعالى ¬
20 - ومنها: التكلم بالأعجمية
في تفسير الآية، وفي الحديث: "إِنَّما الأَعْمالُ بِالنِّياتِ" (¬1) 20 - ومنها: التكلم بالأعجمية. وهي كل لسان سوى العربية، وهو مكروه لمن يحسن اللسان العربي، ويمكنه الاكتفاء به، ولا يحتاج إليه لتفهيم أعجمي. روى الحاكم وصححه، والسِّلَفي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أحْسَنَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالعَرَبِيَّةِ فَلا يَتَكَلَّمُ بِالفارِسِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ يُوْرِثُ النّفاقَ" (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن عمر - رضي الله عنه - أنَّه قال: ما تعلم الرجل الفارسية إلا خبَّ، ولا خب إلا نقصت مروءته (¬3). والخب: الخديعة. ومن هنا قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: أكره أن يتكلم بألسنة العجم في المسجد. قال: وإنما ذلك لما قيل في ألسنة العجم: إنها خب. قال: ولا يفعل في المسجد الخب. ¬
قال: وهو لمن يحسن العربية أشد. هكذا نقله ابن الحاج في "المدخل" (¬1). وروى أبو الشيخ الأصبهاني، والبيهقي عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لا تعلموا رطانة العجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم؛ فإن السخطة تنزل عليهم (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن محمَّد بن سعد بن أبي وقاص: أنه سمع قوماً يتكلمون بالفارسية: ما بال المجوسية بعد الحنيفية (¬3). وينبغي للعربي أن لا يعتاد التكلم بالأعجمية حتى يهجر العربية في لسانه كما هو حال كثير من أهل هذه الأعصار، حتى إنك ترى كثيرًا منهم يخاطبون من يعرف العربية من العجم أو الروم بلسانه، ثم إنه لا يخرج من عهدة اللسان فيصير عند أهله ضحكة لهم، والطريق الحسن اعتياد التكلم باللسان العربي ولو لأعجمي يمكنه التكلم به، بل ينبغي للعجم والروم أن يعودوا صغارهم اللسان العربي، ويلقنوهم العربية في الدور والمكاتب، فيظهر بذلك فيهم شعار الإسلام وأهله، ويكون أسهل لهم في فهم الكتاب والسنة، ومن ثم كان تعلم اللغة العربية من الدين، ومعرفتها من الواجبات. قال عمر - رضي الله عنه -: تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض؛ ¬
فإنَّها من دينكم. رواه ابن الأنباري. وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنهما: أما بعد! فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن؛ فإنَّه عربي. رواه ابن أبي شيبة (¬1). فأما التكلم بالعجمية لغرض تفهيم المخاطب بقدر الحاجة فلا بأس به، كما روي أنَّ أبا هريرة - رضي الله عنه - قال لمن وجعه بطنه: اشكم بدرد. ولا يصح مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬2). ومن تعين عليه تعليم أعجمي حكمًا شرعيًا، أو القضاء به له أو عليه، أو نصيحته وهو يتكلم بالأعجمية، ولم يكن ثمَّ غيره يترجم بينهما، ولا يمكنه تفهيمه بلسان العرب، وجب عليه أن يتكلم بلسان المذكور. ومن الأدلة على ذلك: ما رواه ابن سعد في "طبقاته" عن بريدة - رضي الله عنه -، وعن الزهري، ويزيد بن رومان، والشعبي رحمهم الله تعالى: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث عدة إلى عدة، وأمرهم بنصح عباد الله، فأصبح الرسل وكل رجل منهم يتكلم بلسان القومِ الذين أرسل إليهم، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هَذا أَعْظَمُ مَا كَانَ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ في أَمْرِ عِبادِهِ" (¬3). ¬
تنبيه
وعن جعفر بن عمرو قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة نفر إلى أربعة وجوه؛ رجلًا إلى كسرى، ورجلًا إلى قيصر، ورجلاً إلى المقوقس، وبعث عمرو بن أمية إلى النجاشي، فأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعث إليهم (¬1). * تنبِيْهٌ: روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه كان ينهى عن بيع ده يازده، أو ده دوازده، ويقول: إنما هو بيع الأعاجم (¬2). وده بالفارسية: عشرة، ويازده: أحد عشر، ودوازده: اثني عشر. والمعنى: ربح كل عشرة درهم أو درهمان. قال القاضي أبو الطيب: هذه عبارة عجمية قد ظهرت واستعملها أهل العراق. ثمَّ إنَّ العلماء اختلفوا في أثر ابن عباس، فمنهم من قال: إنما كره العجمية والعدول عن العربية، وإلا فإن بيع المرابحة جائز عند جمهور العلماء، وهو أن يقول لعالم بالثمن: بعتك بمثل ما اشتريت وربح درهم لكل عشرة، أو ربح ده يازده. ومنهم من قال: إنما كره ذلك لئلا يحمل ذلك على بيع الدراهم بالدراهم في جواز العشرة بأحد عشر، أو باثني عشر، ويدل عليه قول ¬
21 - ومن عوائد العجم وأعمالهم: غمغمة الكلام وطمطمته.
ابن عباس في رواية عنه: هو رباء. وكذلك روي مثله عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬1). 21 - ومن عوائد العجم وأعمالهم: غمغمة الكلام وطمطمته. فلا ينبغي للعربي أن يتشبه بالعجم في ذلك بإبدال بعض الحروف ببعض على وجه التظارف؛ كإبدال الضاد ظاء أو زاياً، وإبدال الغين المعجمة قافًا وعكسه، وهذا في القرآن محرَّم على القادر على النطق بالصواب. وقد قال الزمخشري في "الكشاف": وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب، ومعرفة مخرجيهما مما لا بد للقارئ منه؛ فإنَّ أكثر العجم لا يفرقون بين الحرفين، دن فرقوا ففرقاً غير صواب وبينهما بون بعيد؛ فإنَّ مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما بينهما (¬2) من الأضراس من يمين اللسان أو يساره. قال: وكان عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه أضبط يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضاد من حافتي لسانه، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين. وأما الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وهي إحدى الأحرف الذولقية أخت الذال والتاء، انتهى (¬3). ¬
22 - ومنها: الألقاب التي تشعر بتزكية النفس.
22 - ومنها: الألقاب التي تشعر بتزكية النفس. قال البغوي: روي عن عمر رضي الله تعالى عنه: أنَّه أراد أن يكتب إلى رجل من العجم اسمه جوانا به؛ قال: ما جوانا به؟ قالوا: خير الفتيان. قال: فاكتب إلى شر الفتيان (¬1)؛ فلعل من أسمائهم ما لا ينبغي لنا أن نتكلم به. قيل: يكره مثل هذه الأسماء لما فيه من التكبر وتزكية النفس مثل: مردان به، ومردان شاه، وفي أسماء النساء: دخنان شاه، وشاه زنان، وما أشبه ذلك (¬2). 23 - ومنها: التسمية: شاهان شاه، وما كان في معناه كملك الأملاك. روى الأئمة إلا النسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: أخنع الأسماء عند الله يوم القيامة رجل يسمى ملك الأملاك؛ لا ملك إلا الله. قال سفيان بن عيينة: وشاهان شاه مثل ملك الأملاك (¬3). ¬
24 - ومنها: التطير بشيء من الأشياء من ذات، أو حال، أو زمان، أو مكان
قال النوويّ في "الأذكار": ويحرم تحريماً غليظاً أن يقال للسلطان وغيره من الخلق: شاهان شاه. قال: معناه ملك الملوك، ولا يوصف بذلك غير الله سبحانه وتعالى، ثم أورد الحديث (¬1). 24 - ومنها: التطير بشيء من الأشياء من ذات، أو حال، أو زمان، أو مكان. قال صاحب "قلائد الشرف" فيما ذكره من عوائد العجم: إنهم كانوا يقفون للملك ذات اليمين، ولا يقفون أمامه من جانب إلى جانب، وينحَّى عن طريقه الأعمى، والأعور، والجارية البكر، والغلام المنطلق إلى المعلم، والكلاب، والدابة التي تحمل الحطب، وإذا كانت تحمل الطعام والشراب لم يكرهوا ذلك. * فائِدةٌ: روى ابن السني، وغيره عن عقبة بن عامر الجهني (¬2) رضي الله تعالى عنه قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الطيرة، فقال: "أَصْدَقُها الفَألُ، وَلا تَرُدُّ مُسْلِمًا، وإِذا رَأَيْتُمْ مِنَ الطّيَرَةِ ما تَكْرَهُوْنَ فَقُوْلُوا: اللَّهُمَّ لا يَأْتِي ¬
25 - ومنها: الرقية بغير اللسان العربي.
بِالْحَسَناتِ إِلا أَنْتَ، وَلا يُذْهِبُ السَّيِّئاَتِ إلا أَنْتَ، وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيْمِ" (¬1). فيستحب أن يقال هذا الذكر عند التطير كما ذكره النووي، وغيره (¬2). 25 - ومنها: الرقية بغير اللسان العربي. فقد حمل بعض العلماء النهي عن الرقى على ما كان بغير العربية؛ لأنه لا يدرى معناه، وربما كان شِركاً. وروى الدينوري في "المجالسة" من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين: أنه نهى عن الرقى إلا من ثلاث: رقية النملة، والحمَّة، والنفس (¬3). قال: والنملة: قروح تخرج في الجنب. قال: سمعت ابن قتيبة يقول -وذكر هذا الحديث- فقال: منه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للشفاء: "عَلِّمِي حَفْصَةَ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ" (¬4). قال ابن قتيبة: وقال الشاعر: [من الطويل] وَلا عَيْبَ فِينا غَيْرُ عرقٍ لِمَعْشَرٍ ... كِرامٍ وَأَنَّا لا نَخُطُّ عَلى النَّمْلِ ¬
26 - ومنها: الاشتغال بعلم الفلسفة وعلم المنطق.
يريد أنَّا لسنا بمجوس، وذلك أنهم كانوا يقولون: إن ولد الرجل من أخته إذا خط على هذه القروح برأ صاحبها. قال ابن قتيبة: والحمة: السم؛ يريد الحية والعقرب وأشباههما. والنفس: العين، ويقال للعائن: النافس، انتهى (¬1). 26 - ومنها: الاشتغال بعلم الفلسفة وعلم المنطق. ورخص أكثر العلماء في ما كان من علم المنطق بقدر الحاجة، ومنع جماعة منهم السيوطي منه مطلقًا. وقال السيوطي: [من مجزوء الكامل] إِنَّ الأَعاجِمَ ذَو سَفَهْ ... لا تَحْمَدُوا مِنْهُم صِفَهْ عِلْمَ الشَّرِيْعَةِ قَدْ رَمَوْا ... وَأَتَوا عُلُومَ الْفَلْسَفَةْ 27 - ومنها: البداءة في الكتاب باسم المكتوب إليه. والسنة أن يبدأ الكاتب بنفسه. قال القرطبي في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]: كان عادة المتقدمين إذا كتبوا أن يبدؤوا بأنفسهم من فلان إلى فلان، وبذلك جاءت الآثار. روى البيهقي (¬2) عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما كان ¬
تنبيه
أحد أعظم حرمة من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان أصحابه إذا كتبوا بدؤوا بأنفسهم (¬1). وقال ابن سيرين: إنَّ أهل فارس إذا كتبوا بدؤوا بعظمائهم، فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه. وقال أبو الليث السمرقندي: ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز لأنَّ الأمة قد اجتمعت عليه، وفعلوه لمصلحة رأوا في ذلك. قال: فالأحسن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه، ثمَّ بنفسه لأنَّ البداءة بنفسه تعد منه استخفافًا بالمكتوب إليه وتكبرًا عليه، إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده، أو غلام من غلمانه، انتهى (¬2). قلتُ: ولا نسلم أنَّ ما ذكره أحسن مما ثبت في السنة، ولا تتغير الأحكام الشرعية بتغير الأزمنة، وينبغي أن يقال بجواز الوجهين، والأحسن العمل بالسنة. * تنبِيْهٌ: يستجاد من عوائد العجم ختم الكتاب لا لكونه من أعمالهم، ولكن لظهور وجهه، وتوارد السنة. وقد روى ابن أبي حاتم عن السدي، وابن مردويه عن ابن عباس ¬
28 - ومن عوائد العجم والروم: تحجب ملوكهم وحكامهم
في قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] أنه قال: مختوم (¬1). وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَرامَةُ الكِتابِ خَتْمُهُ" (¬2). وروى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب إلى بعض الأعاجم، فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا بخاتم، فاتخذ خاتمًا من فضة، ونقش عليه: محمَّد رسول الله (¬3). ويروى عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: أيما كتاب لم يكن مختوماً فهو أغلف (¬4). قال في "الكشاف": وعن ابن المُقَفَّع: من كتب إلى أخيه كتابًا ولم يختمه فقد استخف به (¬5). 28 - ومن عوائد العجم والروم: تحجُّب ملوكهم وحكامهم ¬
عن الناس، وإرخاء الستور على أبوابهم، وإقامة البوابين عليها، وطرد الناس عنها وبين أيديهم. وكل ذلك خلاف سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين. روى الإمام أحمد عن صفوان قال: قدم على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقد فارس، فسألوا عنه، فقالوا: هو في المسجد، فإذا هو قد جمع حصى، فجعل رداءه عليه فاتكأ عليه، فلما رأوه قالواة إن هذا الملك ضائع. فقال صاحبهم: بل هو ملك عزيز؛ انظروا إليه ليس عليه غلق، ولا باب، ولا حرس يتحصن به؛ هكذا لا يستطيع أن يرومه أحد. وروى الترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه عن قدامة بن عبد الله العامري رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرمي جمرة العقبة يوم النحر لا ضرب، ولا طرد، ولا جلد، ولا: إليك إليك (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يدفع عنه الناس، ولا يضربون عنه (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا والله ما كان تغلق دونه الأبواب، ولا تقوم دونه ¬
29 - ومنها: وطء أعقابهم، ومشي الخدام خلفهم وبين أيديهم.
الحجَّاب، ولا يُغْدى عليه بالجِفان، ولا يراح عليه بها، ولكنه كان بارزًا من أراد أن يلقى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لقيه، وكان يجلس بالأرض، ويوضع طعامه بالأرض، ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف بعده (¬1)، ويلعق والله يده (¬2). وروى الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن معاذ - رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِيْنَ شَيْئًا فاحْتَجَبَ عَنْ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِيْنَ وَأُولِي الْحاجَةِ احْتَجَبَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ يَوْمَ القِيامَةِ" (¬3). 29 - ومنها: وطء أعقابهم، ومشي الخدام خلفهم وبين أيديهم. وقد تقدم في أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث ابن عمرو، وأنس رضي الله تعالى عنهم: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يطأ عقبه رجلان. وروى الحاكم وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكره أن يطأ أحد عقبه، ولكن يمين وشمال (¬4). وروى أبو نعيم عن الهيثم بن خالد عن سليمان بن عتب ال: ¬
30 - من أخلاق الأعاجم والأروام: قيام بعضهم لبعض على سبيل الإعظام، ومحبتهم لأن يقام لهم، وقيام الخدم بين يدي المخدوم وعلى رأسه، وكل ذلك مكروه.
لقينا كريب بن إبراهيم راكبًا وراءه غلام له، فقال: سمعت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه يقول: لا يزال العبد يزداد من الله بعداً كلما مشي خلفه (¬1). 30 - من أخلاق الأعاجم والأروام: قيام بعضهم لبعض على سبيل الإعظام، ومحبتهم لأنَّ يقام لهم، وقيام الخدم بين يدي المخدوم وعلى رأسه، وكل ذلك مكروه. روى أبو داود، وابن ماجه بإسناد حسن، عن أبي إمامة رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متوكئاً على عصا، فقمنا إليه، فقال: "لا تَقُوْمُوْا كَما يَقُوْمُ الأَعاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً" (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّما هَلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُمْ عَظَّمُوا مُلُوْكَهُمْ بِأَنْ قامُوا وَقَعَدُوْا" (¬3). وصحح الترمذي عنه قال: لم يكن شخص أحب إليهم رؤيةً من ¬
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك (¬1). وروى أبو داود، والترمذي وحسنه، عن معاوية رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجالُ قِياماً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (¬2). ورواه ابن جرير الطبري، ولفظه: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِمَّ لَهُ بَنُو آدَمَ قيَامًا دَخَلَ النَّارَ". وقال: الاستجمام: الوثوب، انتهى (¬3). وهو بالجيم، وفسره صاحب "النهاية"، والسيوطي في "مختصرها" باجتماع الناس له في القيام، واحتباس أنفسهم عليه؛ قال: ويروى بالخاء المعجمة (¬4). وروى الحديث ابن جرير، والطبراني في "الكبير" بلفظ: "مَنْ سرَّهُ إِذَا رَأَتْهُ الرِّجالُ مُقْبِلًا أَنْ يَمْثُلُوْا لَهُ قِيامًا فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْتًا مِنَ النَّارِ" (¬5). ¬
ورواه الحاكم في "تاريخه"، ولفظه: "بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً في النَّارِ" (¬1). قال البغوي، والغزالي، والنووي، وغيرهم: القيام مكروه على سبيل الإعظام لا على سبيل الإكرام (¬2). بل قال النووي باستحبابه لأهل العلم والدين والولاية على سبيل الإكرام والاحترام، لا على سبيل الرياء والإعظام، وألف فيه جزءه المشهور، وأنشد فيه عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى: [من المتقارب] فَلَمَّا بَصُرْنا بِهِ مُقْبِلًا ... حَلَلْنا الْحبا وابْتَدَيْنا الْقِياما فَلا تُنْكِرَنَّ قِيامِي لَهُ ... فَإِنَّ الْكَرِيْمَ يُجِلُّ الْكِراما (¬3) وأنشد فيه أيضًا: [من الوافر] قِيامِي وَالْعَزِيْزِ إِلَيْكَ حَقٌّ ... وَتَرْكُ الْحَقِّ ما لا يَسْتَقِيْمُ فَهَلْ أَحَدٌ لَهُ عَقْلٌ وَلُبٌّ ... وَمَعْرِفَةٌ يَراكَ وَلا يَقُوْمُ (¬4) قلت: والفرق بين ما كان للإكرام وما كان للإعظام أن الإكرام ¬
إنزال المكرم في منزلته لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْزِلُوْا النَّاسَ مَنازِلَهُمْ" (¬1)، والإعظام أن ترفعه عن منزلته، ومن ثم كان استحباب القيام مقيدًا بأن يكون لأهل العلم والدين والولاية. وفي الحديث: "لا يَقُوْمُ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ إِلَّا لِبَنِي هاشِمٍ". أخرجه الحافظ الخطيب عن أبي أمامة (¬2). وفي لفظ آخر: "يَقُوْمُ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ لأَخِيْهِ إِلَّا بَنِيْ هَاشِمَ لا يَقُوْمُوْنَ لأَحَدٍ" (¬3). فإن كان القيام لمن ليس أهل له كان مكروهاً، فإن كان على سبيل الخضوع والتذلل كما يقوم العبد في العبادة فهذا أولى بأن يقطع ويتحرَّى، وهو المشار إليه في الحديث بأنه كان سببًا في هلاك الأمم. - ومن آداب الأعاجم والأروام المخالفة للسنة: انحناؤهم لملوكهم، والاكتفاء بذلك عن السلام، وكذلك تقبيل أذيالهم، وتقبيل الأرض بين أيديهم، ووضع اليدين على الصدر عندهم كما يفعل المصلي، وفعل ذلك إذا شرب كبيرهم مع القيام، فإذا فرغ انحنوا له، ¬
وقيام الخادم إذا عطس المخدوم عوضاً عن التشميت، وكذلك القيام عند أكل المخدوم أو شربه والخادم حامل للقلة أو للصحفة وغيرها. كل ذلك من آداب الأعاجم التي تخالف السنة، فيتعين اجتنابها. قال ابن الحاج في "المدخل" في آداب الأكل: وينبغي له أن يتحرز من الأكل وأحد قائم على رأسه إذ ذاك، فإنه من البدع والتشبه بالأعاجم إن سلم من وجوه الكبر. قال: وكثير من يفعل اليوم هذا، سيما إذا كان الذباب كثيرًا، فيقوم شخص على رؤوس الأكابر فينشر عليهم ويروح. قال: وهذا من البدع؛ فإن اضطر إلى ذلك فليكن فاعله جالسًا حتى يسلم من التشبه بالأعاجم، ومن الخيلاء والكبر، انتهى (¬1). وروى المعافى بن زكريا في "الأنيس والجليس" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قد: دخلت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السوق قال: نقعد إلى البزازين، فاشترى سراويل بأربعة دراهم، قال: وكان لأهل السوق رجل يزن بينهم الدراهم يقال له: فلان الوزان، فدعا به ليزن ثمن السراويل، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَزِنْ وَأَرْجِحْ". قال: فقال الرجل: إن هذا لقول ما سمعته من أحد فمن أنت؟ قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: فقلت: حسبك من الرهق، وكفى في دينك ¬
31 - ومن آداب الأعاجم: الأكل على الخوان والأواني الرفيعة.
أن لا تعرف نبيك، هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فألقى الميزان، ووثب إلى يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليقبلها. فمنعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "مَهْ! إِنَّما يَفْعَلُ هَذا الأَعاجِمُ بِمُلُوْكِها، وَإنيِّ لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّما أَنا كَرَجُلٍ مِنْكُمْ". قال: فقعد الوزَّان، فاتزن وأرجح كما أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما انصرفنا تناولت السراويل لأحملها عنه، فمنعني وقال: "صاحِبُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِحَمْلِهِ إِلَّا أَنْ يَكُوْنَ ضَعِيْفًا يَعْجِزُ عَنْهُ فَيُعِيْنُهُ أَخُوْهُ الْمُسْلِمُ". قال: قلت: يا رسول الله! إنك لتلبس السراويل؟ قال: "نعَمْ؛ في السَّفَرِ والْحَضَرِ، وَبِاللَّيْلِ والنَّهارِ". قال الراوي: قال الإفريقي: شككت في قوله: "وَمَعَ أَهْلِي؛ إِنِّي أُمِرْتُ بِالتَّسَتُّرِ فَلَمْ أَجِدَ ثَوبًا أَسْتَرَ مِنَ السَّراويلِ" (¬1). 31 - ومن آداب الأعاجم: الأكل على الخوان والأواني الرفيعة. والخوان -بالكسر- وعليه اقتصر صاحب "الصحاح". وقال صاحب "القاموس": كغراب، وسحاب كالأخوان: ما يؤكل عليه مرتفعاً (¬2). ¬
وقال في "الصحاح": معرب (¬1). قال في "المدخل": والخوان من فعل الأعاجم، وقد نهينا عن التشبه بهم (¬2). وروى البخاري عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه - قال: ما أكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خوان، ولا سُكْرجة، ولا خبز له مرقق. قيل لقتادة: فعلى ماذا كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفر (¬3). وهي جمع سفرة -بالضم- وهي في الأصل طعام يتخذه المسافر، وأكثر ما يحمل في جلد مستدير، فنقل اسم الطعام إلى الجلد، وسمي به كما في "النهاية"، وغيرها من تسمية المحل باسم الحال (¬4). وروى الإمام أحمد عن الحسن -مرسلًا- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أُتيَ بطعام وضعه إلى الأرض (¬5). ¬
32 - ومنها: قطع اللحم النضيج بالسكين.
32 - ومنها: قطع اللحم النضيج بالسكين. قال النووي: ويكره من غير حاجة، أما للحاجة فلا يكره لما في "صحيح مسلم" عن عمرو بن أمية الضمري رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحتزُّ من كتف شاة، فأكل منها، فدعى إلى الصلاة، فقام وطرح السكين، وصلَّى ولم يتوضأ (¬1). قال القاضي عياض: فيه جواز قطعه -يعني: اللحم- بالسكين عند الأكل للحاجة إلى ذلك من شدة اللحم أو كسر العضو. قال: ويكره المداومة على استعماله ذلك لأنه من سنة الأعاجم، انتهى (¬2). قلت: روى أبو داود، والبيهقيّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّيْنِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ صُنْعِ الأَعاجِمِ، وَلَكِنِ انْهَسُوْهُ نَهْسًا؛ فَإِنَّه أَهْنأُ وَأَمْرَأُ" (¬3). والنهس بالمهملة الأخذ بأطراف الأسنان، وهو المروي. وبالمعجمة: الأخذ بالأضراس، ولم يرد، ومن قرأه بالمعجمة فقد صحفه. ¬
33 - ومنها: سكوت الجماعة على الطعام.
ورواه الديلمي، ولفظه: "لا تَقْطَعُوْا اللَّحْمَ بِالسِّكيْنِ عَلَىْ الْخِوانِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ صُنع الأَعاجِمِ، وانْهَسُوْهُ؛ فَإِنَّهُ أَهْنأُ وَأَمْرَأُ" (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تَقْطَعُوْا اللَّحْم (¬2) بِالسِّكيْنِ كَمَا تَقْطَعُهُ الأَعاجِمُ" (¬3). والحكمة في ذلك أن اللحم النضيح إذا قطع بالسكين ربما أكسبه الحديد ما يضر بالبدن ويذهب باللذاذة منه. 33 - ومنها: سكوت الجماعة على الطعام. بل ذكر الغزالي في "الإحياء" من الآداب أن لا يسكتوا على الطعام؛ فإن ذلك من سيرة العجم. قال: ولكن يتكلمون بالمعروف، ويتحدثون بحكايات الصالحين في الأطعمة وغيرها (¬4). قال شيخ الإسلام الجد في "ألفيته": وَإِنَّما النَّهْيُ عَنِ الْكَلامِ ... مِنْ أَدَبِ المَجُوسِ في الطَّعامِ ¬
34 - ومنها: الاستنكاف عن أكل اللقمة إذا سقطت، ونحو ذلك.
وذكر النوويّ في "زوائد الروضة" أن من السنة أن يتحدثوا على الطعام بما لا إثم فيه. وقال في "الأذكار": باب استحباب الكلام على الطعام، واستدل له بما في "صحيح مسلم" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل أهله الإدام، فقالوا: ما عندنا إلا خل، فدعا به فجعل يأكل منه، ويقول: "نِعْمَ الإِدامُ الْخَلُّ، نِعْمَ الإِدَامُ الْخَلُّ" (¬1). 34 - ومنها: الاستنكاف عن أكل اللقمة إذا سقطت، ونحو ذلك. روى ابن ماجه عن الحسن، عن معقل بن يسار قال: بينما هو -يعني: أباه معقلاً رضي الله تعالى عنه- يتغدَّى إذ سقطت منه لقمة، فتناولها فأماط ما كان فيها من أذى، فتغامز به الدهاقين، فقيل: أصلح [الله] الأمير! إن هؤلاء الدهاقين يتغامزون من أخذك اللقمة وبين يديك هذا الطعام؟ قال: لم أكن لأدع ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذه الأعاجم؛ إنا كنا يؤمر أحدنا إذا سقطت لقمته أن يأخذها فيميط ما كان فيها من أذى، ويأكلها، ولا يدعها للشيطان (¬2). ¬
35 - ومنها: التنعم والتأنق في ألوان الأطعمة وطيباتها، وغير ذلك.
35 - ومنها: التنعم والتأنق في ألوان الأطعمة وطيباتها، وغير ذلك. وهو مكروه، أو خلاف الأولى، وإذا حمل العبد ذلك على الطمع في المال الحرام واكتسابه ليتوصل به إلى ذلك كان محرماً، وهو من جنس ما قدمناه من صنع الأعاجم من كثرة الإرفاه. ذكر صاحب "قلائد الشرف" أن أول من خبز له المرقق نمرود، وهو من أوائل ملوك العجم (¬1). وكل ما تقدم في النهي في التشبه به فيه فهو داخل في النهي عن التشبه بالأعاجم. وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه: ما أكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خوان، ولا سكرجة، ولا خبز له مرقق. أخرجه أبو الشيخ بن حيان في "أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- "، وأصله في "الصحيح" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي عثمان النهدي رحمه الله تعالى قال: لما قدم عتية أذربيجان أتى بالخبيص، فأمر سفطين عظيمين فصنعا له من الخبيص، ثمَّ حملهما على بعير فسرح بهما إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فلما قدم على عمر ذاقه فوجده شيئًا حلواً، ¬
36 - ومنها: غسل اليدين قبل الطعام ما لم تكونا متقذرتين.
فقال: كل المسلمين يشبع من هذا في رحله؟ قال: لا. قال: فلا حاجة لنا به، أطبقهما وردها عليه. ثمَّ كتب إليه: أما بعد! فليس من كد أبيك ولا كد أمك، فأشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك. ثمَّ قال: إياكم وزي الأعاجم ونعيمها، وعليكم بالمَعَدِّية (¬1). 36 - ومنها: غسل اليدين قبل الطعام ما لم تكونا متقذرتين. قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "سراج المريدين": روى إسماعيل بن أبي إدريس عن مالك رحمه الله تعالى: أنه دخل على عبد الملك بن صالح فجلس ساعة، ثم دعا بالطعام، ودعا بالوضوء لغسل يده، فقال عبد الملك: ابدا بأبي عبد الله يغسل. فقال مالك: إن أبا عبد الله لا يغسل يده، فاغسل أنت يدك. فقال له عبد الملك: لم يا أبا عبد الله؟ قال: ليس هو من الأمر الأوّل الذي أدركت عليه أهل بلدنا، وإنما هو من زي العجم، وقد بلغني أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: إياكم وزي العجم وأمورها. وكان عمر - رضي الله عنه - إذا أكل مسح يده بظهر قدمه. ¬
فقال له عبد الملك: أَفترى لي تركه يا أبا عبد الله؟ قال: إي والله، فما عاد عبد الملك إلى ذلك، انتهى (¬1). لكن نص الغزالي، وغيره على استحباب غسل اليدين قبل الطعام لأنَّ اليد لا تخلو عن لوث في تعاطي الأعمال، فغسلها أقرب إلى النظافة والنزاهة، ولأن الأكل بقصد الاستعانة على الطاعة، فينبغي أن يقدم عليه ما يجري منه مجرى الطهارة من الصلاة، ولأن الطعام نعمة فينبغي استقبالها بالأدب (¬2). على أنه شريعة قديمة وقررتها شريعتنا لما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم وصححه، وحسنه المنذري عن سلمان - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! قرأت في التوراة: بركة الطعام الوضوء قبله، فقال: "بَرَكَةُ الطَّعامِ الْوُضُوْءُ قَبْلَهُ والْوُضُوْءُ بَعْدَهُ" (¬3). والمراد بالوضوء هنا: غسل اليدين والفم. وروى ابن ماجه بإسناد ضعيف، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْثِرَ خَيْرَ بَيْتِهِ فَلْيتَوَضَّأْ إِذا حَضَرَ غداؤُهُ وَإِذا رُفِعَ" (¬4). ¬
فائدة
وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الْوُضُوْءُ قَبْلَ الطَّعامِ وَبَعْدَهُ يَنْفِيْ الْفَقْرَ، وَهُوَ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِيْنَ" (¬1). وروى القضاعي عن موسى الرضا، عن آبائه رضي الله تعالى عنهم: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْوُضُوْءُ قَبْلَ الطَّعامِ يَنْفِيْ الْفَقْرَ، وَبَعْدَهُ يَنْفِيْ الْهَمَّ (¬2) " (¬3). وروى الحاكم في "تاريخه" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الْوُضُوْءُ قَبْلَ الطَّعامِ حَسَنةٌ، وَبَعْدَهُ حَسَنتانِ" (¬4). * فائِدَةٌ: إذا كان على الطعام جماعة وفيهم صبية، فالأدب أن يقدم الصبيان في غسل اليدين قبل الطعام لأنَّ أيديهم أقرب إلى الوسخ، وربما نفِدَ الماء قبل وصول النوبة إليهم لتقديم غيرهم، بخلاف ما بعد الطعام فالأدب تقديم الشيوخ والأكابر كرامة لهم. ذكره ابن العماد الأقفهسي. ¬
37 - ومن آداب الأعاجم إذا غسلوا أيديهم أن يراق ماء كل واحد منهم من الطست، ثم يوضع بين يدي الآخر.
37 - ومن آداب الأعاجم إذا غسلوا أيديهم أن يراق ماء كل واحد منهم من الطست، ثمَّ يوضع بين يدي الآخر. روى البيهقي، والخطيب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَترِعُوا الطُّوَسَ، وَخالِفُوْا الْمَجُوْسَ" (¬1). وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: اجتمعوا على غسل الأيدي في طست واحدة، ولا تستنوا سنة الأعاجم. نقله في "الإحياء" (¬2). وروى البيهقي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أنه كتب إلى عامله بواسط: بلغني أن الرجل يتوضأ في طست، ثم يؤمر به فيهراق؛ فإن هذا من زي الأعاجم، فتوضؤوا فيها، فإذا امتلأت فأهرقوها (¬3). 38 - ومن آداب الأعاجم والأروام التي يتداولونها في هذه الأيام: قيام قوم عن الطعام قبل أن يرفع وقعود آخرين. وهو خلاف السنة. روى ابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- ¬
39 - ومن أخلاق الأعاجم: أنهم كانوا لا يساكنون الحيض، ولا يؤاكلونهن.
أن يقام عن الطعام حتى يرفع (¬1). وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا وُضِعَتِ الْمَائِدَةُ فَلا يَقُوْمُ الرَّجُلُ حَتَّىْ تُرْفَعَ الْمَائِدَةُ، وَلا يَرْفَعْ يَدَهُ وَإِنْ شَبعَ حَتَّىْ يَفْرُغَ الْقَوْمُ" (¬2). 39 - ومن أخلاق الأعاجم: أنهم كانوا لا يساكنون الحُيَّضَ، ولا يؤاكلونهن. كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬3). وتقدم أن اليهود وأهل الجاهلية كذلك. ورُويَ أنَّ الخوارج كذلك. وتقدم أن النصارى يأتون الحيض، وأن المسلمين بين ذلك. وقد روى مسلم، وأبو داود عن ميمونة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يباشر نساءه فوق الإزار وهن حُيَّضٌ (¬4). ¬
40 - ومن أخلاق الأعاجم: ترك الشعر أبيض من غير خضاب، وهو خلاف الأولى.
وروى الشيخان عن أم سلمة قالت رضي الله تعالى عنها: بينا أنا مضطجعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخميلة إذ حضت، فانسللت فأخذت ثياب حيضتي، فقال: "أَنَفُسْتِ؟ " قلت: نعم، [فدعاني فاضجعت معه في الخميلة] (¬1). وقد روى الإِمام مالك رحمه الله تعالى في "الموطأ"، وغيره نحوه من حديث عائشة، وفيه فقال: "خُذِي ثِيابَ حَيْضَتِكِ وَعُودي إِلَى مَضْجَعِكِ" (¬2). وروى أبو داود عن حَرام بن حكيم، عن عمه رضي الله تعالى عنه: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: "لَكَ مَا فَوْقَ الإِزَارِ" (¬3). وأخرجه من حديث معاذ بنحوه، وقال: ليس بالقوي (¬4). 40 - ومن أخلاق الأعاجم: ترك الشعر أبيض من غير خضاب، وهو خلاف الأولى. روى الطبراني في "الكبير" عن عبد الله بن عامر (¬5)، عن عتبة بن ¬
41 - ومنها: عقد اللحية.
عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتغيير الشيب مخالفة للأعاجم (¬1). وروى البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتَشَبَّهُوْا بِالأَعَاجِمِ؟ غَيِّرُوْا اللِّحَىْ" (¬2). 41 - ومنها: عقد اللحية. روى أبو داود بإسناد جيد، عن رويفع بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا رُوَيْفِعُ! لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُوْلُ بِكَ بَعْدِي، فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّ مَنْ عَقَدَ لِحْيتهُ، أوْ تَقَلَّدَ وتَرًا، أَوْ اسْتَنْجَىْ بِرَجِيع دَابةٍ أَوْ عَظْمٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيْء" (¬3). قال الخطابي: في عقدها تفسيران: أحدهما: أنهم كانوا يعقدون لحاهم في الحرب، وذلك من زي الأعاجم. والثاني: معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل ¬
42 - ومنها: حلق القفا لغير ضرورة.
التأنيث والتوضيع، وهو مكروه كما نص عليه النووي في "شرح المهذب" (¬1). 42 - ومنها: حلق القفا لغير ضرورة. وهو نوع من القزع، وتقدم أنه مكروه للنهي عنه. روى ابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه، [عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] أنه قال: حلق القفا من غير حجامة مجوسية (¬2). وروى الخلال عن الهيثم بن حميد رحمه الله تعالى قال: حف القفا من شكل المجوس (¬3). وقال المروزي: سألنا أبا عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل- عن حلق القفا، فقال: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم (¬4). ويظهر كراهيته للنساء، ولعله من تغيير خلق الله، وهو داخل في النمص، وهو نتف الشعر. روى الإِمام أحمد، والستة عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬
43 - ومنها: توفير الشوارب، والأخذ من اللحى.
"لَعَنَ اللهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللهِ" (¬1). 43 - ومنها: توفير الشوارب، والأخذ من اللحى. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جُزُّوْا الشَّوَارِبَ وَأَرْجِئُوْا اللِّحَى؛ خَالِفُوْا الْمَجُوْسَ" (¬2). وروى البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَالِفُوْا الْمَجُوْسَ؛ جُزُّوْا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى" (¬3). وروى ابن حبان في "صحيحه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المجوس: "إِنهمْ يُوَفِّرُوْنَ سِبَالَهُمْ ويُحِفُّوْنَ لِحَاهُمْ؛ فَخَالِفُوْهُمْ" (¬4). وروى ابن أبي شيبة عن عبيد الله بن عتبة رحمه الله تعالى -مرسلاً- قال: جاء رجل من المجوس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد حلق لحيته وأطال ¬
شاربه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا هَذا؟ ". قال: هذا في ديننا. قال: "لَكِنْ فِيْ دِيْننِا أَنْ نَجُزَّ الشَّارِبَ وَأَنْ نَعْفِيَ اللِّحْيَةَ" (¬1). وعن حصين، عن عبد الله بن شداد قال: كتب كسرى إلى باذام: إني نبُئتُ أن رجلًا يقول شيئًا لا أدري ما هو، فأرسِلْ إليه فليقعد في بيته، ولا يكن من الناس في شيء، وإلا فليواعدني موعدًا ألقاه به. قال: فأرسل باذام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين حالقي لحاهما مرسلي شواربهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يَحْمِلُكُمَا عَلَىْ هَذَا؟ " فقالا له: يأمرنا به الذي يزعمون أنه ربهم. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَكِنَّنَا نُخَالِفُ سُنَّتَكُمْ، نَجُزُّ هَذَا وَنُرْسِلُ هَذَا". قال: فمر به رجل من قريش فأمره أن يجزهما. قال: فتركهما بضعا وعشرين يومًا. قال: "اذْهبَا إِلَىْ الذِيْ تَزْعُمَانِ أَنَّهُ رَبكُمَا، فَأَخْبِرَاهُ أَنَّ رَبِّيْ قَتَلَ الَّذِيْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَبَّهُ". قالا: متى؟ قال: "الْيَوْمَ". قال فذهبا إلى باذام، فأخبراه الخبر. ¬
44 - ومنها: ما ذكره صاحب "قلائد الشرف": أن من عادة الفرس أنهم كانت الأصوات تستر عنهم إلا غناء النساء، وصوت الجوارح، وصهيل المراكب.
قال: فكتب إلى كسرى، فوجدوا اليوم هو الذي قتل فيه كسرى (¬1). 44 - ومنها: ما ذكره صاحب "قلائد الشرف": أن من عادة الفرس أنهم كانت الأصوات تستر عنهم إلَّا غناء النساء، وصوت الجوارح، وصهيل المراكب. ولا يحمد من ذلك إلا إظهار صهيل الخيل، فأما أصوات الجوارح فإنها -وإن كان الصيد بها مباحًا- فإنَّه من الملاهي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ". أخرجه أبو داود، وغيره (¬2). ومن غفلة الملوك وأمثالهم أنهم يتخذون الصيد لهواً لا كسباً، وربما تكلفوا وكلفوا من يقرون به من أهل القرى أضعاف قيمة ما صادوه. وسماع الرجل غناء الأجنبية مكروه كغنائها بمسمع منه، ويحرمان عند خوف الفتنة، ويحرم عليها رفع صوتها بالأذان إن كان ثمَّ أجنبي يسمع، ويفرق بينه وبين سماعه غنائها بأنَّ الأذان والنظر إلى المؤذن مستحب الإصغاء إليه، ففي استحبابه لها بل في إباحته لها حمل الناس على ما يؤدي إلى الفتنة لهم فيه. وليس كذلك التلبية؛ فإن كل إنسان مشغول بتلبيته، ولا يسن الإصغاء إلى التلبية، ولا النظر إلى الملبي، فلا داعي إلى الفتنة. ¬
على أن المداومة على الغناء وعلى سماعه ولو من مثل السامع ذكورة وأنوثة مكروهٌ لأنه من لهو الحديث. وقد روى أبو داود، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -مرفوعًا، وموقوفاً وهو أصح- والبيهقي في "الشعب" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِيْ الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ". ولفظ جابر: "الزَّرْعُ" (¬1). وقال الفضيل عن عياض رحمه الله تعالى: الغناء رُقية الزنا. وقال يزيد بن الوليد: إياكم والغناءة فإنه يزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنَّه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعله السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنَّبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا. نقلهما في "الإحياء"، ونزَّلهما على سماع العشاق والمتعلمين من الشبان، وجزم أنَّ الأولى ترك الغناء وسماعه في أكثر الأحوال (¬2). وكلام يزيد بن الوليد موافق لشهامة العرب. ولما خالط بنو العباس من الخلفاء الأعاجم غلب عليهم حب السماع، وعقد مجالس الإنس والشرب كما يعرف ذلك من سيرهم. ¬
45 - ومنها: ما ذكره صاحب "قلائد الشرف" أيضا
45 - ومنها: ما ذكره صاحب "قلائد الشرف" أيضًا: أنهم كانوا يعادون المريض من أوليائهم، فإذا مات لم يحضروا حمله، وذلك أنفةً منهم أو اعتقادًا للعدوى، وكانوا إذا نعي عليهم رجل مشهور قام إنسان بحذاء الملك ونحوه ومعه إبريق صفر فيه ماء، فإذا نظر إليه الملك صب، فيقول: مَنْ؟ فيسمَّى، وذلك من الأنفة والكبر. والسنة عيادة المريض، والقرب منه، وسؤاله عن حاله، وتعهد أوليائه له، والإكثار من ذكر الموت والاتعاظ به: [من مخلع البسيط] مِنْ عادَةِ الْفُرْسِ أَنْ يُعادَ ... مَرِيْضُهُمْ ثُمَّ لا يُعادُ قُرْبُ وَلِيِّ الْمَرِيْضِ مِنْهُ ... يُنْدَبُ لا الصَّدُّ وَالمعادُ وَالْمَوْتُ آتٍ لا بُدَّ مِنْهُ ... وَبَعْدَهُ الْحَشْرُ وَالْمَعادُ أَيْنَ الْمُلُوكُ الَّذِيْنَ بادُوا ... أَيْنَ ثَمودُ وَأَيْنَ عادُ أَيْنَ الْمِراضُ الَّذِينَ عُودُوا ... ماتُوا وَماتَ الَّذِينَ عادُوا 46 - ومنها: وضع الأموات في النواويس والتوابيت التي اعتاد الروم والعجم وضع أمواتهم فيها، ومثله الفساقي التي اعتادوها أهل مصر. قال في "المدخل": وجعل الميت في الفسقية يمنع لوجوه. ثم قال: الوجه الرابع عشر: ما في فعلها من ارتكاب النهي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن التشبه بالأعاجم، وما كان ابتداء فعلها إلا من
47 - ومن أخلاق الأعاجم: حب الدنيا.
جهتهم، انتهى (¬1). وذكر بعضهم أن المجوس لا يتغوطون في الآبار والبلاليع لأنهم يزعمون تكريم بطن الأرض عن ذلك، ويزعمون أن بطن الأرض أحد الأركان التي تثبت العوالم الخمسة، ولذلك لا يدفنون موتاهم في القبور، ويضعونهم في النواويس. قالوا: وعلى هذا المثال أعظمنا النار والماء، وليسا بأحق بالتعظيم من الأرض. 47 - ومن أخلاق الأعاجم: حب الدنيا. ولذلك يغلب عليهم البخل كما ذكره علماء الفِراسة. روى الطبراني في "الكبير" عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأتِيْ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قُلُوْبُهُمْ قُلُوْبُ الْعَجَمِ". قلت: وما قلوب المعجم؟ قال: "حُبُّ الدُّنْيَا" (¬2). وروى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْبُخْلُ عَشْرَةُ أَجْزَاءِ، فَتِسْعَةٌ مِنْهَا فِيْ فَارِسَ، وَوَاحِدٌ فِيْ النَّاسِ" (¬3). ¬
48 - ومنها: محبة طول العمر حتى إن من تحية الملوك: عش ألف سنة.
48 - ومنها: محبة طول العمر حتى إن من تحية الملوك: عش ألف سنة. وبه فسر قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}؛ قال: اليهود، {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}؛ قال: الأعاجم، {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96]. قال: هو قول الأعاجم إذا عطس: زه هزاسان (¬1). وفي رواية: هو قول أحدهم لصاحبه: هزارسان سرور مهرجان نحور. رواه الحاكم (¬2). * لَطِيْفَةٌ: روى الدينوري عن مسلم بن يسار رحمه الله تعالى قال: سمعت سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى يقول -وقد أنشد شعراً- فقلت: وإنكم لتنشدون الشعر؟ فقال: أو ما تنشدونه عندكم؟ قلت: لا. ¬
لطائف أخرى
قال: نسكتم نسكًا أعجمياً، ثم حدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ النُّسُكِ نُسُكٌ أَعْجَمِيٌ" (¬1). قلت: لعل وجهه أن العجم يتلقون النسك عن العرب، فربما قصر فهمهم عن استيفاء ما يطلب في النسك من شرط وغيره، فيوقعونه على غير وجهه. وأقرب الناس من أن يعبد الله على جهل الأعاجم، ومن ثم اتخذ صوفيتهم النايات والدفوف المصنجة عبادة، والدوران كالمولوية وأمثالهم. * لطائِفُ أُخْرى: روى ابن جرير عن مجاهد قال: تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 68] فقال: أتدري يا مجاهد من الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام بالنار؟ قلت: لا. قال: رجل من أعراب فارس؛ يعني: الأكراد (¬2). وذكر التاج ابن السبكي في "طبقاته" في ترجمة أبي القاسم الزنجاني سعيد بن علي الحافظ الزاهد الورع عن محمَّد بن طاهر المقدسي أنه قال: دخلت عليه وأنا ضيِّق الصدر من رجل من أهل شيراز لا أذكره، فأخذت ¬
يده فقبلتها، فقال ابتداء من غير أن أعلمه بما أنا فيه: يا أبا الفضل! لا يضيق صدرك عندنا في بلاد المعجم، مثلٌ يضرب، يقال: بخل أهوازي، وحماقة شيرازي، وكثرة كلام رازي (¬1). وروى الدينوري عن المدايني قال: دخل رجل على عبد الملك ابن مروان من غسان، فكلمه في حوائج له، فقضاها، فقال: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في تقبيل يدك؟ فقال: مه! أما علمت أنها من العرب مذلة، وهي من المعجم خدعة (¬2). وروى الإِمام أحمد في "الزهد"، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى: أنه سئل عن ذي القرنين فقال: لم يوحَ إليه، وكان ملكًا. قيل: فلم سمِّي ذا القرنين؟ فقال: اختلف فيه أهل الكتاب، فقال بعضهم: ملك الروم وفارس، وقال بعضهم: إنه كان في رأسه شبه القرنين (¬3). - وروى ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن وهب: أنه كان يقول: كان ذو القرنين من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ¬
ولد غيره، وكان اسمه: الإسكندر (¬1). وروى ابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عمن يسوق الأحاديث عن الأعاجم ممن قد أسلم من أهل الكتاب: أنَّ ذا القرنين كان رجلًا صالحا من أهل مصر اسمه: مرزبا بن مرزبه اليوناني من ولد يوثن بن يافث بن نوح (¬2). وذكر الطرطوشي في "سراج الملوك" الإسكندر لما مات قال أرسطاطاليس: أيها الملك! لقد حركنا سكونك. وقال بعض الحكماء من أصحابه: كان الملكُ أمسِ أنطقَ منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس. نظمه أبو العتاهية فقال: [من الوافر] كَفَى حَزْنًا بِدَفْنِكَ ثُمَّ إِنِّي ... نَفَضْتُ تُرابَ قَبْرِكَ مِنْ يَدَيَّا وَكانَتْ في حَياتِكَ لِي عِظاتٌ ... فَصِرْتَ الْيَوْمَ أَوْعَظَ مِنْكَ حَيَّا قال: ووجد مكتوبا على قبره -يعني: الإسكندر-: قهرنا من قهرنا فصرنا للناظرين عبرة. وقال فيه: روي أن داود عليه السلام وافا على غار فإذا فيه رجل ¬
خلق عظيم من بني آدم، فإذا عند رأسه حجر مكتوب بكتاب محفور فيه: أنا روستم الملك، ملكت ألف عام، وفتحت ألف مدينة، وهزمت ألف جيش، وافترعت ألف بكر من بنات الملوك، ثم صرت إلى ما ترى، التراب فراشي، والحجارة وسادي، فمن رآني فلا تغره الدنيا كما غرتني (¬1). وقال فيه: إن مجوسيًا وقدريًّا تناظرا، فقال القدري للمجوسي: ما لك لا تسلم؟ فقال المجوسي: لو أراد الله لأسلمت. فقال القدري: قد أراد الله أن تسلم، ولكن الشيطان يمنعك. قال المجوسي: فأنا مع أقواهما (¬2). قال: وقال رجل لبزُر جمهر: تعال نتناظر في القدر. فقال: وما تصنع بالمناظرة؟ رأيت ظاهراً استدللت به على باطن، ورأيت أحمق مرزوقًا وعاقلاً محروماً، فعلمت أن التدبير ليس للعباد. قال: ولما قتل كسرى بزرجمهر وجد في منطقته كتاباً فيه: إذا كان القدر حقًا فالحرص باطل، وإذا كان الغدر طباعاً فالثقة بكل أحد عجز، وإذا كان الموت بكل أحد نازلاً فالطمأنينة إلى الدنيا حمق، انتهى (¬3). ¬
تنبيه
ونقل هذا الأخير ابن عبد ربه في "العقد" (¬1). * تنبِيْهٌ: إذا قيل: قد ذكرت أول الباب أن العرب أتم عقلاً من المعجم، ونحن نرى من متقدمي الأعاجم ومتأخريهم من نبل قدره في العلم، وبعد صيته في الفضل، وضرب به المثل في العقل، وسلم تفضيله على أقرانه من علماء العربية كأبي إسحاق الشيرازي، والسعد التفتازاني في جماعات كثيرين من المتقدمين والمتأخرين. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كَانَ الْعِلْمُ مُعَلَّقًا بِالثرَيَّا لَنَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ" (¬2)، ولا شك أن زيادة العلم تدل على كمال العقل في الغالب. وروى أبو الحسن بن جهضم عن أبي علي الروذباري قال: قال لي أبو بكر الزقاق رحمه الله تعالى: يا أبا علي! لولا أنك تذاكرني في هذا الأمر -يعني: علوم المعارف والإشارات- لظننت أنه قد اندرس، أما أهله فقد اندرسوا في الحقيقة. فقلت: يا سيدي! إنهم يقولون: إنَّ بناحية العجم قوماً محققين. فقال: يوشك ذلك لما في الحديث: "لَوْ أَنَّ الدِّيْنَ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا ... ". ¬
فالجواب: أن من بلغ الكمال والكمالات من الأعاجم ما بلغه من حيث إنه أعجمي، بل من حيث إنه طلب الكمالات من طريقها، فرجع بنصيبه المقسوم منها. على أن العلوم الشرعية لا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة وهما عربيان، ومن جاء بهما - صلى الله عليه وسلم - عربي، فمن طلب الكمالات والعلوم من المعجم فبلغها إنما حصل عليها من حيث إنه تشبه في طلبها وتحصيلها بالعرب لأن العلم من قبلهم يؤخذ، على أن أكثر المحققين من علماء المعجم من أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه، والأعاجم في أصحاب الشافعي أكثر منهم في أصحاب غيره من الأئمة كما يدل عليه كتب "الطبقات والتواريخ"، والشافعي رضي الله تعالى عنه عالم قريش الذي طبق الأرض علماً، وعليه حمل الحديث (¬1). وقال بعض العلماء: الحكمة في كثرة العلماء والمحققين في المعجم -أعني: أبناء فارس- أنهم لما لم يكن منهم نبي، وكانت أكثر الأنبياء في بني إسرائيل، ثم جاء من العرب نبي يوزن بكل الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم، فترجح عليهم، لم يحرم أبناء فارس من بركة النبوة من طريق الوراثة، فكثرت العلماء فيهم بهذا المعنى، ولذلك ¬
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لوْ كَانَ الْعِلْمُ -وفي رواية: الإِيْمَانُ- مَنُوْطًا بِالثرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ" (¬1). وأما ما وقع في كلام الفرس قبل الإِسلام من الحكم والمواعظ فهذا من باب إلقاء الله الحكم من غير أهلها ليعتبر بها أهلها إذا وصلت إليهم، كما قد يلتقط المعتبرون الحكم من الجمادات والبهائم، ولذلك كانت الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها. وقالوا: لا تنظر إلى من قال، وانظر إلى ما قال. وحكي عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: أنه مات له ابن فعزاه مجوسي تعزية فقال: ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام. قال ابن المبارك: اكتبوا عنه (¬2)؛ أي: وإن كان مجوسياً. وأيضًا في إجراء الحِكَم على ألسنة بعض الفضلاء من الأعاجم في أيام كفرهم وجاهليتهم ما يستجر العقول إلى طاعة القواد والرؤساء، وما يدعو الرؤساء إلى الرفق بالمرؤوسين والرعايا، وبذلك عمارة الدنيا والبلدان، وبها تتم المظاهر الإلهية والأمور المرادة لله تعالى في البَرِيَّة، ومن هنا دونت العلماء من حكم الفرس وغيرهم مما سوى أهل الإِسلام ما دوَّنوه، وهو ما لا يحصى كثرة. ¬
روى الدينوري في "المجالسة" عن ابن عائشة، عن أبيه قال: قرأت في سيرة المعجم: حسنُ الجوار خيرُ قِرىً، والأدبُ خير ميراث، والتوفيق خير قائد (¬1). وعن ابن قتيبة قال: قال بعض حكماء الفرس: للعادة سلطان على كل شيء، وما استنبط الصواب بمثل المشاورة، ولا حصنت النعمة بمثل المساواة، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكِبر (¬2). وقال ابن قتيبة: قرأت في سيرة العجم: عامة الأحرار أن يلقوا بما يحبون ويحرموا ما أملوا أحب إليهم من أن يلقوا بما يكرهون ويعطوا فوق ما أملوا، فانظر إلى خلة أفسدت مثل الجود فاجتنبها، وانظر إلى خلة تمقت مثل البخل فالزمها (¬3). وأكثر الإِمام أبو بكر الطرطوشي في "سراج الملوك" من حكم الفرس، والهند، وغيرهم، وأكثر فيه من النقل عن بزرجمهر، ثم أورد فصلاً مستقلًّا في كلامه. قال: وكان النحتكان (¬4) أبو بزرجمهر خامل القدر، وضيع ¬
الحال، مفهفه المنطق، فلما أتت لبزرجمهر خمس عشرة سنة حضر مجلس الملك وقد جلست الوزراء على كراسيها، والمرازبة في مجالسها، فوقف، فحيَّا الملك، ثم قال: الحمد لله المأمولة نعمه، المرهوبة نقمه، الدال عليه بالرغبة إليه، المؤيد الملك بسعوده في الفلك حتى رفع شأنه، وعظم سلطانه، وأنار به البلاد، وأغاث به العباد، وقسم له في التقدير وجوه التدبير، فرعا رعيته بفضل نعمته، وحماها الموبئات، وأوردها المعشبات، وذادها عن الآكلين، وآلفها بالرفق واللين إنعاماً من الله تعالى عليه، وتثبيتاً لما في يديه، وأسأله أن يبارك له فيما آتاه، ويخير له فيما استرعاه، ويرفع قدره في السماء، وينشر ذكره تحت الماء حتى لا يبقى له بينهما مناوئ، ولا يوجد له فيها مداني، وأستوهب له حياة لا يتنغص فيها، وقدرة لا يشاد عنها، وملكاً لا بؤس فيه، وعافية قديم له البقاء، وتكثر له النماء، وعزاً يؤمنه من انقلاب رعية، أو هجوم بلية؛ فإنه مولى الخير، ودافع الشر. فأمر له الملك فحشي فوه بثمين الجوهر ورفيعه، ولم تدفع حداثة سنه مع نبل كلامه أن استوزره، وقلَّده خيره وشره، وكان أول داخل عليه، وآخر خارج من عنده. قال أبو بكر الطرطوشي: وكتب قيصر إلى كسرى: أخبرني بأربعة أشياء لم أجد من يعرفها وإخالها عندك؛ أخبرني ما عدو الشدة، وصديق الظفر، ومدرك الأمل، ومفتاح الفقر؟
فكتب إليه: الحيلة عدو الشدة، والصبر صديق الظفر، والتأني مدرك الأمل، والجود مفتاح الفقر (¬1). قال: قال الخضر بن علي: وقرأت في كتاب "جاويذان مجرد" -وهو أجل كتب الفرس-: أضعف الحيلة أنفع من أقوى الشدة، وأقل الثاني أجلُّ من أكثر العجلة، والدولة رسول الله القضاء المبرم، وإذا استبد الإنسان برأيه عميت عليه المراشد (¬2). قال: وقال الوضاحي: وجَّه أنوشروان رسولاً له إلى ملك قد أجمع على محاربته، وأمره أن يتعرف سيرته في نفسه ورعيته، فرجع إليه، وقال: وجدت عنده الهزل أقوى من الجد، والكذب أكثر من الصدق، والجور أرفع من العدل. فقال أنوشروان: رزقت الظفر به؛ سِرْ إليه، وليكن عملك في محاربته بما هو عنده أضعف وأقل وأجمع؛ فإنك منصور وهو مخذول. فسار إليه فقتله، واستولى على مملكته (¬3). قال بزرجمهر: المدح آفة الحمد، والكذب عدو الصدق، والجور مفسدة الملك، فإذا استعمله الملك ذهبت هيبته، وإذا استصحب الكذب استخف به، وإذا بسط الجور فسد سلطانه. ¬
قال: وكان نقش خاتم رستم -وهو آخر ملوك الفرس-: الهزل منغصة، والكذب منقصة، والجور مفسدة (¬1). وذكر ابن عبد ربه في "العقد": أن أزدشير قال لابنه: يا بني! إن الملك والعدل أخوان لا غنى بأحدهما عن صاحبه، فالملك أس، والعدل حارس، فما لم يكن له أس لمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع. يا بني! اجعل حديثك مع أهل المراتب، وعطيتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدين، وسرك لمن عَناه ما عَنَاك من ذوي العقول (¬2). وذكر فيه عن ابن الكلبي قال: ولما أتى بالهرمزي البختكان أسيراً إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قيل له: يا أمير المؤمنين! هذا زعيم القوم وصاحب رستم. قال له عمر - رضي الله عنه -: أعرض عليك الإِسلام نصحًا لك في عاجلتك وآجلتك. فقال له: يا أمير المؤمنين! إنما اعتقل ولا أرغب في الإِسلام رهبة. فدعا له عمر بالسيف، فلما هم بقتله قال له: يا أمير المؤمنين! مُر لي بشربة ماء فهي أفضل من قتلي للظمأ. ¬
فأمر له عمر رضي الله تعالى عنه بشربة من ماء، فلما أخذها قال: آمِنِّي حتى أشربها. قال: نعم. فرمى بها، وقال: الوفاء يا أمير المؤمنين نورٌ أبلج. قال: صدقت؛ لك التوقف عنك والنظر فيك، ارفعا عنه السيف. فلما رفع عنه قال: الآن يا أمير المؤمنين أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وما جاء به حق من عنده. قال له عمر: أسلمت خير إسلام، فما خبرك؟ قال: خفت أن تظن بي أني إنَّما أسلمت خوفًا من السيف، أو إيثاراً لدينه بالرهبة. قال عمر: إن لأهل فارس عقلاً، واستحقوا ما كانوا فيه من الملك. ثم أمر به أن ينزل ويكرم، فكان عمر يشاوره في توجيه الجيوش نحو أرض فارس (¬1). وقد أكثر ابن عبد ربه في "عقده"، والطرطوشي في "سراجه"، وغيرهما من العلماء في كتبهم من إيراد حِكَم الأعاجم، وأمثالهم. وذكر صاحب "قلائد الشرف" منها جملة صالحة سردها فيه، ولا معنى للإكثار منها في هذا الموضع من الكتاب، وإنما ذكرت هذه ¬
تتمة
النبذة ليستدل بالصبابة على الحباب إشارة إلى رصانة عقول الفرس كما شهد لهم بذلك عمر رضي الله تعالى عنه في كلامه المذكور آنفا. غير أن أكثر عقولهم مصروفة فيما به قوام الملك وانتظام أمور الدنيا، فلذلك ترى أكثر حِكَمهم وأمثالهم في ذلك، وأكثر ما ترى فيه حذاقة عقول العجم في الصنائع اللطيفة، والنقوش العجيبة، والأوضاع الغريبة، بخلاف العرب؛ فإن أكثر ما يصرفون عقولهم في محاسن الآداب، والفكر، والعلم، وتحصيل الأخلاق المحمودة كالشجاعة، والسخاء، وكثر ذلك يؤول إلى طلب الآخرة، ومن ثم وصفت الأعاجم بالدَّهاء والعرب بالعقول؛ لأن الدهاء عقل أفرط حتى مال عن حد الاعتدال، ومن ثم قال عمر رضي الله تعالى عنه حين أتاه فتح القادسية: أعوذ بالله أن يبقيني بين أظهركم حتى يدركني أولادكم من هؤلاء. قالوا: لمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: ما ظنكم بمكر العربي ودهاء العجمي إذا اجتمعا في رجل؟ رواه الدينوري (¬1). * تَتِمَّةٌ: أخرج الإِمام مالك رحمه الله تعالى في "الموطأ" عن عائشة رضي الله تعالى عنها [عن جدامة بنت وهب الأسدية]: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬
"أَرَدْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغَيْلَةِ ثُمَّ ذَكَرْتُ أَنَّ الرَّوْمَ وَفَارِسَا يَفْعَلُوْنهُ فَلا يَضُرُّهُمْ" (¬1). ليس فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك النهي عنها لكونها من فعلهم، بل استدل بفعلهم إياها ولم يحصل الضرر بها لهم بأنها لا تضر غالبًا؛ والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وسلم (¬2). • • • ¬
(13) باب النهي عن التشبه بأهل الجاهلية والمشركين
(13) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ وَالمُشْرِكِين
(13) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ وَالمُشْرِكِين قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. وقال الله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16]. قال مجاهد في هذه الآية: طمع رجال بأن تعود الجاهلية، فنزلت. أخرج ابن جرير (¬1). وروى هو وابن أبي حاتم عن ابن عباس بها: أنها نزلت في قوم كانوا يتربصون أن تأتيهم الجاهلية؛ أي: بعد الإِسلام (¬2). ¬
فمن أحب شيئًا من عوائد أهل الجاهلية في الإِسلام فقد تعرض لغضب الله والعذاب الشديد. وروى الإِمام أحمد، والشيخان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثَلاثَةٌ: مُلْحِدٌ في الْحَرَمِ، ومبتغٍ في الإسْلامِ سُنَةً جاهِلِيَّةٍ، وَمُطَّلِبٌ دَمَ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهْرِيْقَ دَمَهُ" (¬1). وروى مسلم، وأبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم عرفة في حجة الوداع فقال: "إِنَّ دِماءَكمْ وَأَمْوالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذا في شَهْرِكُمْ هَذا في بَلَدِكُمْ هَذا. أَلا إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوع، وَدِماءَ الْجاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَة، وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ كانَ مُسْتَرْضَعا في بَنِي سَعْدٍ، قَتَلَتْهُ هُذَيلٌ. وَرِبا الْجاهِلِيَّةِ مَوْضُوع، وَأَوَّلُ رِبا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطلِبِ؟ فَإِنَّهُ مَوْضُوع كُلهُ" (¬2). وروى الإِمام أحمد، ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها، ¬
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ" (¬1). وروى أبو يعلى، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حَلَفَ عَلى يَمِينٍ فَهُوَ كَما حَلَفَ؛ إِنْ قالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ فَهُوَ يَهُودِيٌّ، وإنْ قالَ: هُوَ نَصْرانِيٌّ فَهُوَ نَصْرانِيٌّ، وإنْ قالَ هُوَ بَرِيْء مِنَ الإِسْلامِ؟ يَعْنِي: فَهُوَ كَذَلِكَ. وَمَنِ ادَّعَى دعاءَ الْجاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جِثا جَهَنَّمَ". قالوا: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟ قال: "وإنْ صامَ وَصَلَّى" (¬2). وجثا جهنم - بالجيم مكسورة ومضمومة، وبالمثلثة، مقصور - جمع جثوة؛ وهي الحجارة المجموعة كما في "الصحاح"، و"القاموس" (¬3). وروى ابن لال في "مكارم الأخلاق" عن معاذ رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَلَيْكُمْ بِالرِّفْقِ وَالْعَفْوِ في غَيْرِ تَرْكِ حَقٍّ؟ يَقُولُ ¬
الْجاهِلُ: قَدْ تَرَكَ مِنْ حَقِّ اللهِ. وَأَمِتْ أَمْرَ الْجاهِلِيَّةِ إلا ما حَسَّنَهُ الإِسْلامُ. وَلْيَكُنْ أكثَرُ هَمِّكَ الصلاةَ؛ فَإِنَّها رَأْسُ الإِسْلامِ بَعْدَ الإِقْرارِ بِاللهِ عز وجل" (¬1). وروى الإِمام أحمد عن عمر رضي الله تعالى عنه: أنه أمر بالمَعَدِّية، وهي زي بني معد بن عدنان، وهم العرب، ونهى عن زي الأعاجم وزي المشركين (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" عن الحكم بن عمير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "غُضُّوا الأَبْصارَ، وَاهْجُرُوا الدعارَ، وَاجْتَنِبُوا أَعْمالَ أَهْلِ النَّارِ" (¬3). وعن المقداد بن الأسود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحَبَّ اللهَ ورَسُولَهُ صادِقًا غَيْرَ كاذِبٍ، وَلَقِيَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَحَبَّهُم، وَكانَ أَمْرُ الْجاهِلِيةِ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ نارٍ ألقِيَ فِيها، فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الإِيْمانِ". ¬
أو قال: "فَقَدْ بَلَغَ ذِرْوَةَ الإِيْمانِ" (¬1). والجاهلية تارة تكون اسما للحال، ومعناه قريب من المصدر. وتارة تكون اسماً لذي الحال؛ يقال: طائفة من الجاهلية، و: شاعر جاهلي؛ نسبةً إلى الجهل بمعنى عدم العلم، أو عدم اتباع العلم. قال الواحدي: الجاهلية اسم لما كان قبل الإِسلام؛ سموا به لكثرة جهلهم (¬2). وأراد بقوله ما كان بعد تناسيهم الشرائع في زمن الفترة. قال صاحب "الصحاح": وقولهم: كان ذلك في الجاهلية الجهلاء هو تأكيد للأول يشتق له من اسمه ما يؤكد به؛ كما يقال: وتد واتدٌ، وهمج هامجٌ، وليلة ليلاءُ، ويوم أيومُ (¬3). وقال السيوطي في "مختصر النهاية": الجاهلية: الحال التي ¬
كانت عليها العرب قبل الإِسلام من الجهل بالله ورسوله، وشرائع الدين، والمفاخرة بالأنساب، والكبر والتجبر، وغير ذلك، انتهى (¬1). وقال بعضهم: سموا جاهلية لأنهم لم يتعبدوا بشريعة، بل كانوا يخبطون خَبّطة عَشْواء، ويركبون في أمورهم متن عمياء، وما كانوا عليه من مكارم الأخلاق كالبر والصلة والقربى وفك العاني إنما كان سجايا منهم، وهي غير محسوبة لهم، ولا تنفعهم يوم القيامة إلا لو آمنوا. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]. وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. أما من آمن وكان قد عمل خيراً في الجاهلية، فهل يثاب على ذلك العمل أم لا؟ قولان: - بالأول قال إبراهيم الحربي، وابن بطال، وغيرهما من المتقدمين، والقرطبي، وابن المنير من المتأخرين، وصوَّبه النووي ونسبه إلى المحققين، وحكى بعضهم فيه الإجماع. ¬
- وبالثاني قال الماوردي، والقاضي عياض، وغيرهما (¬1). ومن أدلة الأول حديث "الصحيحين" عن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت أشياء كنت أتحنَّث بها في الجاهلية من صدقة، أو عتاقة، وصلة رحم، فهل فيها من أجر؟ قال: "أَسْلَمْتَ عَلى ما أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ" (¬2). قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: لا مانع من أن الله تعالى يضيف إلى حسنات الإِسلام ثواب ما كان صدر منه في الكفر من الأعمال الجميلة تفضلاً وإحسانًا (¬3). قلت: والحكمة في ذلك أن الإِسلام كما يَجُبُّ ما قبله من القبائح يحيى ما قبله من الصوالح. وهما خلعتان جميلتان يكساهما الإنسان بالإِسلام والإيمان زائدتان على ثواب الإيمان والإِسلام، فما كان من الأخلاق الحسنة التي كانت العرب عليها في جاهليتهم فإنما كانت تدعوهم إلى طباعهم وسلائقهم من غير قصد إلى ثواب، ولكن لاعتدال ¬
أمزجتهم وصحة أفكارهم، وإذا تخلق العبد بها في الإيمان بالقصد الصحيح نفعته، بل ينفعه بالإيمان ما أسلفه منها قبله في الجاهلية. قال أبو عبيدة: ما اجتمعت العرب اجتماعها على السؤدد والإفضال في العسر، والصواب في الغضب، والرحمة مع القدرة، والرضا للعامة، والبعد من الحقد، والتودد إلى الناس، والمسارعة إلى المعونة (¬1). وقال العتبي: كان أهل الجاهلية لا يُسَوِّدُون إلا من كان فيه ست خصال؛ السخاء، والنجدة، والصبر، والحلم، والبيان والموضع؛ وصارت في الإِسلام بالعفاف سبعًا (¬2). رواهما الدينوري في "المجالسة". وكل هذه الأخلاق لا تنفع ذويها في الآخرة إذا ماتوا على الكفر، وإنما يقع جزاء ذويها في الدنيا بما يرفق الله بهم، أو يوسع عليهم في رزقهم، أو يدفع عنهم من البلاء والآفات، أو نحو ذلك. وقد صحح الحاكم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: يا رسول الله! إن ابن جدعان كان يَقْري الضيف، ويصل الرحم، ويفعل الفعل، أينفعه ذلك؟ قال: "لا؛ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوما قَط: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيْئَتِي يَوْمَ الدِّيْنِ" (¬3). أي: لم يعترف بربوبية الله تعالى، ولم يَرْجُ منه مغفرته. ¬
وقد كان ابن جدعان في أعلى طبقات العبودية، ومع ذلك لم ينفعه شيئًا على كفره. وفيه يقول أمية بن أبي الصلت كما رواه الدينوري: [من الوافر] أَأَذْكُرُ حاجَتِي أَمْ كَفانِي ... حَياؤُكَ إِنَّ شِيْمَتَكَ الْحَياءُ إِذا أثنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّناءُ كَرِيْمٌ لا يُغَيِّرُهُ صَباحٌ ... عَنِ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ وَلا مَساءُ يُبارِي الرِّيحَ مَكْرُمَةً وَجُوداً ... إِذا ما الضَّبُّ أَجْحَرَهُ الشِّتاءُ فَأَرْضُكَ كُلُّ مَكْرُمَةٍ بَنَاها ... بَنُو تَيْمٍ وَأَنْتَ لَها سَماءُ (¬1) وقد يكون في أعمال الجاهلية ما يوافق الحق من غير قصد؛ كتعظيم الحرم والأشهر الحرم، والسعي بين الصفا والمروة، وسَوق الهدايا إلى البيت الحرام، وتقليدها، ثم جاء الحق بتقريره. وقد يكون في أعمالهم ما لو نقضته الشريعة لأدى إلى فساد عظيم كأنكحة الجاهلية، وأخلاقهم، وقسمهم، فيكون حكم الشرع تقريره حسماً للفساد، ثم لا يجوز التشبه بهم في ابتدائه؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه لاستغنائنا بما جاءت الشريعة بأبلغ منه، أو أكمل، كما روى أبو داود، وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ قَسْمٍ قُسِمَ فِي الْجاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلى قَسْمِ ما قُسِمَ، ¬
وَكُلُّ قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الإِسْلامُ فَهُوَ عَلى قَسْمِ الإسْلامِ" (¬1). وروى الإِمام أحمد عن قيس بن عاصم رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما كانَ مِنْ حَلْفٍ في الْجاهِلِيَّةِ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَلا حَلْفَ في الإِسْلامِ". وروى هو ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا حِلْفَ فِي الإِسْلامِ، وَأيُّما حِلْفٍ كانَ في الْجاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلامُ إِلاَّ شِدَّةً" (¬2). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن معن بن عيسى قال: ثنا مالك عن الزهريّ: أن صفوان بن أمية أسلمت امرأته بنت الوليد بن المغيرة زمن الفتح، فلم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، واستقرت عنده حتى أسلم صفوان، وكان بين إسلاميهما نحوٌ من شهر (¬3). وبهذا السند: أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام كانت تحت عكرمة بن أبي جهل، فأسلمت يوم الفتح بمكة، وهرب زوجها عكرمة ابن أبي جهل حتى قدم النبي، فدخلت إليه امرأته ودعته إلى الإِسلام، فأسلم، وقدم وبايع، وثبتا على نكاحهما (¬4). ¬
1 - فمن قبائح الجاهلية -وهو أقبحها وأفحشها-: الكفر، وعبادة الأصنام، واعتقاد أنها تنفع وتشفع، وتقرب إلى الله زلفى.
وروى الإِمام أحمد، وأبو القاسم البغوي عن السائب بن أبي السائب عبد الله المخزومي رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا سائبُ انْظُرْ أَخْلاقَكَ الَّتِي كُنْتَ تَصنَعُها في الْجاهِلِيَّةِ فَاجْعَلْها في الإِسْلامِ؛ أَقْرِ الضَّيْفَ، وَأَكْرِمِ الْيَتِيمَ، وَأَحْسِنْ إِلَى جارِكَ" (¬1). والمعنى: أخلاقك التي كنت تصنعها مستحسناً لها، أو كنت راضياً بها، يعني: الأخلاق الكريمة التي ترضاها النفوس الطيبة. فأما الأخلاق السيئة الناشئة عن الجهل فهي التي أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله في الحديث السابق: "أَلا إِن كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجاهِلِيِّةِ تَحْتَ قَدَميَّ مَوْضُوعٌ" (¬2). وهي الأمور التي سُمُّوا بها جاهلية، وأهل جاهلية. 1 - فمن قبائح الجاهلية -وهو أقبحها وأفحشها-: الكفر، وعبادة الأصنام، واعتقاد أنها تنفع وتشفع، وتقرب إلى الله زُلفى. والقرآن العظيم متوافر بذم قريش والمشركين على عبادة الأوثان، والإغلاظ في وعيدهم، وبيان شدة عذابهم. قال الله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64]. ¬
وقال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] الآية. وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73، 74]. وروى الأزرقي عن ابن إسحاق: أن بني إسماعيل وجُرهم من ساكني مكة ضاقت عليهم مكة، فتفسحوا في البلاد والتمسوا المعاش، ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم إلا احتملوا معهم من حجارة الحرم تعظيماً للحرم وصبابة بمكة وبالكعبة، حيثما رحلوا وضعوه، وطافوا به كالطواف بالكعبة، حتى سبح ذلك بهم إلى أنهم كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة، وأعجبهم من حجارة الحرم خاصة، حتى خلفت الخلوف من بعد الخلوف، ونسوا ما كانوا عليه، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم من الضلالات، وأنتجوا ما كان يعبد قوم نوح منها، فلما رَثَّ ما كان بقي فيهم من ذكرها. قال: وكان أول من غيَّر دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة
والسلام، ونصب الأوثان، وسيَّب السوائب، وبَحَر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي: عمرو بنُ لحي (¬1). ثم الأصنام التي كانت تعبدها العرب كثيرة جداً، حتى روى الواقدي عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم الفتح: نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَتْرُكَنَّ في بَيْتِهِ صَنَمًا إِلاَّ كَسَرَهُ وَحَرَّقَهُ؛ وَثَمَنُهُ حَرامٌ". قال جبير رضي الله تعالى عنه: وقد كنت قبل ذلك أرى الأصنام يطاف بها فيشتريها أهل بدر، فيخرجون بها إلى بيوتهم، وما من رجل من قريش إلا وفي بيته صنم؛ إذا دخل مسحه، وإذا خرج مسحه تبركاً به (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] قال: كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زماناً من الدهر في الجاهلية، فإذا وجد حجراً أحسن منه رمى به وعَبَدَ الآخر (¬3). من مشاهير الأصنام التي كانوا يعبدونها: هُبل، وإساف، ونائلة، واللاَّت، والعُزَّى، ومَناة، والخلصة، ونَهيك، ومُطعم الطير، ووُدّ، وسُواع، وَيغوث، وَيعوق، ونسر. ¬
وهذه الأصنام الخمسة الأخيرة أقدمها، بل هي أول ما عبد من الأصنام لأنها أصنام قوم نوح التي عبدوها، ثم دفنت في الأرض حتى عبدها جماعة من العرب كما تقدم ذكرها وأول من وضعها ومن يعبدها من العرب في: التشبه بالشيطان، والتشبه بقوم نوح. وأما هُبل: فقال ابن إسحاق: إن البئر التي كانت في جوف الكعبة كانت على يمين من دخلها، وكان عمقها ثلاثة أذرع، يقال: إن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حفراها ليكون فيها من يهدى للكعبة، فلم تزل كذلك حتى كان عمرو بن لحي، فقدم بصنم يقال له: هبل من هيت من أرض الجزيرة، وكان هبل من أعظم أصنام قريش عندها، فنصبه على البئر من بطن الكعبة، وأمر الناس بعبادته، وكانت القداح التي يستقسمون بها عند هبل. قال ابن إسحاق: وكان هبل من خرز العقيق على صورة إنسان، وكانت يده اليمين مكسورة، فأدركته قريش فجعلت له يداً من ذهب (¬1). وأما إساف ونائلة: فقال ابن إسحاق: لما طغت في الحرم دخل رجل منهم بامرأة منهم الكعبة ففجر بها -ويقال: إنما قَبَّلها فيها- فمسخا حجرين؛ اسم الرجل: إساف بن بغا، واسم المرأة: نائلة بنت رمه، فأخرجا من الكعبة، فنصب أحدهما على الصفا والآخر على المروة، ¬
وإنما نصبا هناك ليعتبر بهما الناس، ويزدجروا عن مثل ما ارتكبا لما يرون من الحالة الذي صاروا إليها. فلم يزل الأمر يدرُس ويتقادم حتى صار المسخان يتمسح بهما من وقف على الصفا والمروة، ثم صارا وثنين يعبدان، فلما كان عمرو ابن لحي أمر الناس بعبادتهما والتمسح بهما. وقال للناس: من كان قبلكم كان يعبدهما. وكانا كذلك حتى كان قصي بن كلاب، وصارت إليه الحجابة وأمرُ الكعبة، فحوَّلهما من الصفا والمروة، فجعل أحدهما بلصق الكعبة، وجعل الآخر في موضع زمزم (¬1). ويقال: جعلهما جميعًا في موضع زمزم، وكان ينحر عندهما، وكان أهل الجاهلية يقرون بإساف ونائلة ويتمسحون بهما، وكان الطائف بالبيت يبدأ بإساف ويستلمه، فإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فاستلمها، حتى كان يوم الفتح فكسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما كسر من الأصنام (¬2). وقال صاحب "القاموس": إساف -ككِتاب وسَحاب- وضعها عمرو بن لحي على الصفا، ونائلة على المروة، وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة، أو هما إساف بن عمرو، ونائلة بنت سهل، فجرا في ¬
الكعبة، فمسخهما الله تعالى حجرين، فعبدتهما قريش (¬1). واقتصر في "الصحاح" على الثاني، وقال: ثم عبدتهما قريش (¬2). ولا أدري ما النكتة في عدول صاحب "القاموس" عن (ثم) إلى (الفاء) مع أن عبادة قريش لهما كان بعد عهد طويل، كما في كلام ابن إسحاق. وأما اللات والعزى: فروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان اللاَّت رجلًا يَلُتُّ سويق الحاج (¬3). وروى ابن أبي حاتم عنه قال: كان اللاَّت يَلُتُّ السويق على الحجر، فلا يشرب أحد منه إلا سَمِنَ، فعبدوه (¬4). وروى الفاكهي عنه: أن اللَّات لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت، ولكنه دخل الصخرة، فعبدوها وبنوا عليها بيتًا (¬5). وروى سعيد بن منصور، والفاكهي عن مجاهد قال: كان اللاَّت رجلًا في الجاهلية بالطائف، وكان له غنم، فكان يسلو من رِسلها -بالكسرة أي: من لبنها- ويأخذ من زبيب الطائف والأقط، فيجعل ¬
منه حَيساً، ويطعم من يمر من الناس، فلما مات عبدوه، وقالوا: اللاَّت، وكان يقرأ: اللاَّت -مشددة- (¬1). وروى ابن المنذر عن ابن حر قال: كان رجل من ثقيف يَلُتُّ السويق بالزيت، فلما توفي جعلوا قبره وثناً، وزعم الناس أنه عامر بن الظَّرِب أحد [بني] عُدوان (¬2). وروى الأزرقي: أن رجلًا ممن مضى كان يقعد على صخرة لثقيف يبيع السمن من الحاج إذا مروا فيَلُتُّ سويقهم، وكان ذا غنم، فسميت صخرة اللاَّت، فمات، فلما فقده الناس قال لهم عمرو بن لحي الخزاعي: إن ربكم كان اللاَّت فدخل في جوف الصخرة. قال: وكانت العُزَّى ثلاث شجرات سمرات بنخلة، وكان أول من دعا إلى عبادتها عمرو بن ربيعة، والحارث بن كعب، فقال لهم عمرو: إن ربكم يتصيف باللاَّت لبرد الطائف، ويشتي بالعُزَّى لحر تهامة، وكان في كل واحدة شيطان يعبد. فلما بعث الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، بعث بعد الفتح خالد بن الوليد إلى العُزَّى ليقطعها، فقطعها؛ وذكر الحديث (¬3). ¬
وروى النسائي عن [أبي] الطفيل رضي الله تعالى عنه قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العُزَّى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات، وهدم الذي كان عليها، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: "ارْجِعْ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تَصْنع شَيْئًا". فرجع خالد، فلما أبصرته السَّدَنَة أمعنوا في الحيل وهم يقولون: "يا عُزَّى! يا عُزَّى! "، فأتاها خالد، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: "تِلْكَ الْعُزى" (¬1). وأما مَناةُ: فقال ابن إسحاق: إن عمرو بن لحي نصب مَناة على ساحل البحر مما يلي قديد، وهي التي كانت للأزد وغسان يحجونها ويعظمونها، فإذا طافوا بالبيت، وأفاضوا من عرفات، وفرغوا من مني، لم يحلقوا إلا عند مناة، وكانوا يهلون بها (¬2). وقال محمَّد بن السائب الكلبي: كانت مَناة شجرة لهذيل، وكانت هذيل (¬3). رواهما الأزرقي. وروى عبد الرزاق، وابن جرير عن قتادة رحمه الله تعالى: أن ¬
اللاَّت كانت لأهل الطائف، والعُزَّى كانت لقريش ببطن نخلة، ومَناة كانت للأنصار بقديد (¬1). وروى عبد بن حميد، وابن جرير عن أبي صالح: قال اللاَّت التي كان يقوم على آلهتهم، وكان يَلُتَّ لهم السويق، والعُزَّى بنخلة، نخلة كانت يعلقون السيور والعهن عليها، ومَناة حجر بقديد (¬2). وأما الْخَلَصة: -بفتحتين، وبضمتين- ونَهيك، ومُطعم الطير: فروى الأزرقي عن ابن إسحاق قال: نصب عمرو بن لحي الخلصة بأسفل مكة، وكانوا يلبسونها القلائد، ويهدون لها الشعير والحنطة، ويصبون عليها، ويحلفون لها، ويعلقون عليها بيض النعام. قال: ونصب على الصفا صنماً يقال له: نَهيك، ومجاود الريح. ونصب على المروة صنمًا يقال له: مُطعم الطير (¬3). وذو الخلصة؛ قال في "القاموس": [بيت] كان يدعى الكعبة اليمانية بخثعم، كان فيه صنم اسمه الخلصة، أو لأنه كان منبت الخلصة، وهي واحدة الخلص -بفتحتين- وهو شجر كالكرم يتعلق بالشجر فيعلو، طيب الرائحة، حَبّهُ كخرز العقيق (¬4). ¬
وروى الإِمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ ألياتُ [نساء] دَوْسٍ حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ" (¬1). وروى الأزرقي، وابن أبي شيبة، والشيخان، والترمذي، والنسائي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمئةٍ وستون صنماً، فجعل يطعنها ويقول: "جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيْدُ" (¬2). وروى الأزرقي، والطبراني بإسناد جيد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لقد دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح وإن بها ثلاثمئة وستين صنماً قد شدها لهم إبليس بالرصاص، وكان بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضيب، وكان يقوم عليها فيقول: "جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً"، ويشير إليها بقضيب فتسَّاقط على ظهورها (¬3). ¬
تنبيهان
وفي رواية: فما منها صنم أشار إلى وجهه إلا وقع على دبره، ولا أشار إلى دبره إلا وقع على وجهه، حتى وقعت كلها. قال الأزرقي: وقال ابن إسحاق: لما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر يوم الفتح أمر بالأصنام التي حول الكعبة كلها، فجمعت ثم حرقت بالنار. وفي ذلك يقول فضالة بن عمير بن الملوح الليثي في ذكر يوم الفتح: [من الكامل] لَوْ ما رَأَيْتَ مُحَمَّدًا وَجُنُودَهُ ... بِالْفَتْحِ يَوْمَ تَكَسَّرُ الأَصْنامُ لَرَأَيْتَ نُورَ اللهِ أَصْبَحَ بَيْنَنا ... وَالشِّرْكَ يَغْشَى وَجْهَهُ الإِظْلامُ (¬1) * تَنْبِيهانِ: الأَوَّلُ: أخرج ابن أبي الدنيا في "العقل" عن القاسم بن أبي بُرة -بالضم-: أن رجلًا من بني قشير أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنا كنا نعبد في الجاهلية أوثاناً، وكنا نرى أنها تضر وتنفع. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ اللهُ لَهُ عَقْلاً" (¬2). فيه إشارة إلى أن عبادة الأصنام واتخاذها من ضعف العقول الذي هو بمعنى العلم الناشئ عن صحة النظر لا الغريزي؛ فإنه متى عدم أو ¬
الثاني
اختفى لم يكن تكليف. وهو المشار إليه بما يروى عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه وقد قيل له: هل كان لكم عقول؛ أين عقولكم حين كنتم تتخذون الصنم من العجوة والْحَيس فتعبدونه ثم إذا جعتم أكلتوه؟ فقال: عقول وأيُّ عقول، ولكن ما ظنك بعقول كادها بادئها (¬1). التَّنْبِيْهُ الثَّانِي: تكسير الأصنام من الملة الحنيفية التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع إبراهيم عليه السلام فيها، غير أن إبراهيم عليه السلام كسر الأصنام في خفية من قومه لأنه كان وحده، لم يكن له عشيرة ولا نصراء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كسرها وهو في تمام سلطانه وتوافر أعوانه، وقد فتح له وتمكن، فأظهر وأعلن. 2 - ومن أخلاق الجاهلية: التكذيب بالقدر. قال الله تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154]. روى الثعلبي، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال في قوله: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]؛ يعني: التكذيب بالقدر، وهو قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا ¬
هَاهُنَا} [آل عمران: 154] (¬1). ثم قال الله تعالى ناهياً عن مثل هذه المقالة الجاهلية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156]. قال الحسن رحمه الله تعالى في قوله: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا} [آل عمران: 156]: هذا قول الكفار؛ إذا مات الرجل يقولون: لو كان عندنا ما مات، فلا تقولوا كما قال الكفار. وقال مجاهد رحمه الله تعالى في قوله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156]: يحزنهم قولهم، لا ينفعهم شيئاً. رواهما ابن أبي حاتم (¬2). وحاصله: أن إحالة الأمور الواقعة من خير أو شر على فعل الإنسان مع الإعراض عن القدر اعتقاداً لمصارمة فعله للقدر جهلٌ يستجر معتقده من فضاء السلو إلى ضيق الحزن، لا يفيده شيئاً إلا الحسرة في قلبه والكي لفؤاده. هذا في بلائه وضرَّائه، وأما في نعمته وسرائه فقد يعاقب عليه بأن يحاول مثل تلك السراء في مرة أخرى، فيحول بينه وبينها القدر، ¬
فيظهر وهَنُه في نفسه، وخجله عند غيره، وسواد وجهه، وخيبته من حيث زعم بياض وجهه ونجحه. وزعم أبو العباس ثعلب أنه ليس في العرب إلا مثبت للقدر جاهليةً وإسلاما، وأنشد: [من الرجز] تَجْرِي الْمَقادِيرُ عَلى غُرْزِ الإِبَرْ ... ما تَنْفُذُ الإِبْرَةُ إِلاَّ بِقَدَرْ وأنشد لامرئ القيس: [من البسيط] إِنَّ الشَّقاءَ عَلى الأَشْقَيْنَ مَكْتُوبُ وهذه مبالغة من ثعلب، وقد علمت أن ابن عباس فسر الجاهلية في الآية بالتكذيب بالقدر هم من أهل الجاهلية من كان يقول به كما ذكره ابن قتيبة في "مختلف الحديث"، واللالكائي في "السنة" (¬1). وأنشد زيادة على ما ذكره ثعلب لذي الإصبع العدواني: [من الهزج] لَيْسَ الْمَرْءُ فِي شَيْءٍ ... مِنَ الإِبْرامِ وَالنَّقْضِ إِذا يُقْضَى أَمْرٌ إِخا ... لُهُ يُقْضَى وَلا يَقْضِي ولبعض أهل الجاهلية: [من الرجز] ¬
3 - ومن أخلاق الجاهلية: الطعن على كتاب الله تعالى، أو على أحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه، ودعوى معارضة القرآن.
هِيَ الْمَقادِيرُ فَلُمْنِي أَوْ فَذَرْ ... إِنْ كُنْتُ أَخْطَأْتُ فَما أخطا [القَدَر] (*) وروى الترمذي وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: جاء مشركو قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحاجونه في القدر، فنزلت هذه الآية: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48، 49]. 3 - ومن أخلاق الجاهلية: الطعن على كتاب الله تعالى، أو على أحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه، ودعوى معارضة القرآن. وكتاب الله تعالى مشحون بذكر قبائح المشركين في ذلك كقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31]. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33، 34]. وقال الله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50]. 4 - ومنها: الإعراض عن كتاب الله تعالى، وعن تدبر آياته، وإيثار اللهو واللعب. قال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} [النجم: 59]؛ أي: إنكاراً، {وَتَضْحَكُونَ}؛ أي: استهزاءً، {وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 60، 61]؛ ¬
أي: لاهون، أو مستكبرون، أو مُغَنُّون لتشغلوا الناس عن إسماعه، وهو الغناء بالحميرية، كما رواه عبد بن حميد، وابن جرير عن عكرمة (¬1). ورويا هما وعبد الرزاق، وأبو عبيد في "فضائله"، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"، والبزار، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 61]: الغناء باليمانية؛ كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا (¬2). وروى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني عنه في قوله: {سَامِدُونَ}؛ قال: لاهون، معرضون عنه (¬3). وروى أبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: كانوا يمرون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شامخين؛ ألم تر إلى البعير كيف يخطر شامخاً (¬4). ¬
ولا مخالفة في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ لأن المشركين كانوا يفعلون ذلك كله حين يسمعون القرآن؛ فتارة يتكبرون عن سماعه ويشمخون، وتارة يتغنون اشتغالاً عن سماعه، وتارة يعرضون عنه بالكلية، وتارة يغضون منه لاشتماله عن شتمهم وذى قبائحهم كما قال مجاهد في قوله: {سَامِدُونَ}: غِضاب مبرطمون. رواه ابن جرير، وابن المنذر (¬1). والمؤمن لا ينبغي له أن يتشبه بالمشركين في شيء من ذلك، بل إذا سمع القرآن أنصت له واستمع، وأقبل عليه ولم يَلْهُ عنه، ولم يلغ فيه، ولا يضحك عند سماعه، بل يبكي لمواعظه، وإن لم يبك يتباكى. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية على النبي - صلى الله عليه وسلم - {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} [النجم: 59] ما رئي النبي - صلى الله عليه وسلم - ضاحكاً حتى ذهب من الدنيا. أخرجه ابن مردويه (¬2). وقال صالح: لما نزلت ما ضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إلا أن يتبسم حتى ذهب. رواه ابن أبي شيبة، وأحمد في "الزهد"، والمفسرون (¬3). وروى ابن ماجه بإسناد جيد، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله ¬
5 - ومن أخلاق الجاهلية: التكذيب بلقاء الله تعالى ومصيرهم إليه،
تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتلُوا الْقُرآنَ وَابْكُوا؛ فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَباكَوْا" (¬1). 5 - ومن أخلاق الجاهلية: التكذيب بلقاء الله تعالى ومصيرهم إليه، والرضا بالدنيا، والاغترار بها، والطمأنينة بها، والفرح بها، والأسف على فواتها، والغفلة عن الله وآياته، وحب الحياة، وطول الأمل. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7، 8]. قال ابن زيد: هؤلاء أهل الكفر. رواه ابن جرير (¬2). فلا ينبغي للمؤمن أن يتشبه بهم في شيء من ذلك. وفي الحديث: "الدُّنْيا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكافِرِ". رواه الإمامان مالك وأحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة، والبزار عن ابن عمر، والطبراني، والحاكم وصححه، عن سلمان رضي الله تعالى عنهم (¬3). ¬
6 - ومنها: إنكار المعاد.
وروى أبو الشيخ عن يوسف بن أسباط رحمه الله تعالى قال: الدنيا دار نعيم الظالمين (¬1). وقال الله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 2، 3]. 6 - ومنها: إنكار المعاد. وقد وافقهم الفلاسفة في إنكار المعاد الجسماني. ثم الجاهلية منهم من كان ينكر إعادة الأجسام، ثم يعتقد أن الروح تصير هامة، أو تتحول في صورة دابة أو طير. ويوافقهم على هذا الدروز والتيامنة؛ فإنهم يعتقدون أن الإنسان إذا مات وولد في يوم موته أو بعده دابة، تحولت روحه إليه. ومنهم من كان ينكر إعادة الروح والجسد معاً، ويعتقد أن الموت عدمٌ صِرف، وهم في ذلك على خلف ما عليه المسلمون. وكتاب الله تعالى قد أخبر عنهم في مواضع أنهم كانوا ينكرون ¬
المعاد كقوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49]. وقوله - عز وجل -: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} [الصافات: 15 - 17]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 77، 78]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: جاء العاصي بن وائل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعَظْمٍ حائلٍ، ففتَّه بيده، فقال: يا محمد! أيُحيي الله هذا بعدما أرَّم؟ قال: "نعمْ؛ يَبْعَثُ اللهُ هَذا، ثُمَّ يُمِيتُكَ، ثُمَّ يُحْيِيكَ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ نارَ جَهَنَمَ"، فنزلت الآيات من آخر سورة يس. رواه المفسرون، وغيرهم، وصححه الحاكم، وذكره الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (¬1). وفي حديث آخر: إن الآيات نزلت في أُبي بن خَلَف (¬2). وفي آخر: إنها نزلت في أبي جهل (¬3). ¬
7 - ومنها: إنكار السمعيات كالحشر، والنشر، والصراط، والميزان، والحساب، والقصاص، والحوض، والشفاعة، والرؤية، والجنة والنار وما فيهما.
7 - ومنها: إنكار السمعيات كالحشر، والنشر، والصراط، والميزان، والحساب، والقصاص، والحوض، والشفاعة، والرؤية، والجنة والنار وما فيهما. حتى قال قائلهم: [من الوافر] حَياةٌ ثُمَّ مَوْتٌ ثُمَّ نَشْرٌ ... حَدِيْثُ خُرافَةَ فِي أُمِّ عَمْرِو وسبق أنهم كانوا ينكرون البعث وهم الأكثرون. ثم كان من العرب من يقول: إِنْ بُعِثنا شفعت لنا أصنامنا وقريننا؛ كما قال تعالى حكاية عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وكان ممن يؤمن منهم بالبعث عبد المطلب؛ فإنه كان يضرب بالقداح على عبد الله والد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول: [من الرجز] يا رَبِّ أَنْتَ الْمَلِكُ الْمَحْمُودُ ... وَأَنْتَ لِيَ الْمُبْدِئُ الْمُعِيْدُ مِنْ عِنْدِكَ الطَّارِفُ وَالتَّلِيْدُ (¬1) وقال أمية بن أبي الصلت: [من الخفيف] كُلُّ دِينٍ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ الـ ... ــــــلهِ إِلاَّ دِينَ الْحَنِيفَةِ بُورُ 8 - ومنها: تثبيط الناس عن اتباع السنة، وصدهم عن الهدى. قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) ¬
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 24 - 25]. نزلت الآية في قريش اجتمعوا فقالوا: إن محمداً رجلٌ حلو اللسان، إذا كلمه الرجل أخذ بعقله؛ فابعثوا أناساً من أشرافكم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين، فمن جاء يريده يرده عنه، ففعلوا، فكان إذا أقبل الرجل وافداً لقومه يقول له أحدهم: أنا فلان بن فلان؛ أخبرك أن محمداً رجل كذاب، لم يتبعه على أمره إلا السفهاء، والعبيد، ومن لا خير فيه، وخيار قومه مفارقون له، فإذا سأله عما جاء به يقول: أساطير الأولين، فيرجع الوافد إلا أن يكون عزم على الرشاد، فيقول: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسير يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وآتي قومي ببيان أمره، فيدخل مكة، فيلقى المؤمنين، فيسألهم، فيقولون خيراً، فذلك قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [النحل: 30]. أخرجه ابن أبي الدنيا بنحوه عن السدي (¬1). فمن صد مريداً عن أستاذ حاذق، أو قال عن عالم عامل، وقَبَّحَ حاله عنده، فهو أشبه الناس بجاهلية قريش، خصوصاً إذا طعن على ذلك الشيخ بما ليس فيه حسداً أو بغياً؛ أولئك قطاع طريق الله تعالى عن المسترشدين. ¬
9 - ومنها: تعظيم شجرة مخصوصة، أو بقعة مخصوصة، أو حجر مخصوص لم يعظمه الشرع الشريف.
9 - ومنها: تعظيم شجرة مخصوصة، أو بقعة مخصوصة، أو حجر مخصوص لم يعظَّمه الشرع الشريف. وهذا يتفق لعوام المسلمين في سائر البلاد، فربما تبركوا بشجرة فعلَّقوا عليها خِرَقاً من أثوابهم، وربما طافوا بها وتمسحوا، وربما عظموا بعض القبور والمشاهد، وعكفوا عليها في بعض الأيام والليالي، وربما تمسحوا بالستور المعلقة عليها أو السحابة بها. ومن هذا القبيل تبرك الناس بمحامل الركب الثلاثة -المصري، واليماني، والشامي- وصنجقة المجهز في كل عام إلى البلد الحرام. وكل ذلك من أفعال الجاهلية، ومما جرهم إلى عبادة الأصنام كما سبق. وروى الإمام مالك، وابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والترمذي، والنسائي عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين ونحن حُدَثاء عهدٍ بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذاتُ أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُ أَكْبَرُ! إِنَّها السَّنَنُ، قُلْتُمْ -وَالَّذِي نَفْسِي بِيدهِ- كَما قالَتْ بَنُو إِسْرائِيلَ: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}؛ لترْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ" (¬1). ¬
10 - ومنها: أنهم كانوا لا يتطهرون.
10 - ومنها: أنهم كانوا لا يتطهرون. قال ابن سيرين، وابن زيد في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]: فاغسلها بالماء، وطهرها من النجاسة؛ وذلك أن المشركين كانوا لا يتطهرون من النجاسة، فأمر الله تعالى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتطهر ويطهر ثيابه. نقله الثعلبي (¬1). وقول ابن سيرين أخرجه ابن المنذر (¬2). 11 - ومنها: عمل المعاصي مطلقاً، وإساءة الأعمال والأخلاق، وتكديرها بالرياء، والمن والأذى، وطلب العوض. ولا شك أن الدين إنما هو نسخ للجاهلية، وهو عبارة عن ترك ذلك، وفعل العمل الصالح، والتخلق بالأخلاق الحسنة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - بعث بمكارم الخصال ومحاسن الأعمال. وقد وقع التعريض بذلك في قوله تعالى -وهو من أول ما أنزل-: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر 1 - 10]. ¬
قال قتادة رحمه الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1]: المتدثر في ثيابه. {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2]؛ قال: أنذر عذاب ربك ووقائعه في الأمم، وشدة نقمته إذا انتقم. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] قال: طهرها من المعاصي، وهي كلمة عربية؛ كانت العرب إذا نكث الرجل ولم يوف بعهد قالوا: إن فلاناً لَدَنِسُ الثياب، وإذا أوفى وأصلح قالوا: إن فلاناً لطاهر الثياب. {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]؛ قال: هما صنمان كانا عند البيت: إسافٌ ونائلة، كان يمسح وجوههما من أتى عليهما من المشركين، فأمر الله تعالى نبيه أن يهجرهما ويجانبهما؛ أي: وغيرهما من الأوثان. {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]: لا تعط لمثابة الدنيا، ولا لمجازاة الناس. أخرجه عبد الرزاق، والمفسرون (¬1). وروى ابن المنذر عن أبي مالك في قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3]؛ أي: عظم. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]؛ قال: عنى نفسه. {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]؛ قال: الشيطان والأوثان (¬2). ¬
و [روى] ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قلنا: يا رسول الله! كيف نقول إذا دخلنا في الصلاة؟ فأنزل الله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3]. قال: فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نفتتح الصلاة بتكبير (¬1). وأبو هريرة لم يشهد حين نزول الآية لأنها مكية من أول ما أنزل، وأبو هريرة إنما أسلم عام خيبر، وإنما أراد بقوله: (قلنا): قال المسلمون، أو حكاه عمن حدث به فحذف الراوي عن أبي هريرة، أو تأخر نزول قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] عن نزول ما قبلها وما بعدها. وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنه -: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1]. قال: النائم. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]؛ قال: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب باطل. و{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]؛ قال: الأصنام. {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]؛ قال: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]؛ قال: من الإثم؛ قال: وهي في كلام العرب نقي الثياب (¬2). وروى المفسرون، وابن الأنباري في "الوقف والابتداء" عن ¬
عكرمة: أن ابن عباس سئل عن قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] قال: لا تلبسها على غدرة ولا فجر. ثم قال: ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة: [من الطويل] وإنِّي بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتقَنَّعُ (¬1) وروى ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: كان الرجل في الجاهلية إذا كان غداراً قالوا: فلانٌ دَنِسُ الثياب (¬2). وروى ابن المنذر عن الحسن في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]؛ قال: خُلُقَكَ فَحَسِّنْه (¬3). وروى عبد بن حميد [عن مجاهد]: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] قال: لا تستكثر عملك (¬4). وروى سعيد بن منصور، وغيره عن إبراهيم النخعي في قوله: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]: لا تعطي شيئاً لتعطى أكثر منه (¬5). ¬
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 7] قال: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك، واصبر حتى يكون هو يثيبك (¬1). قلت: في الآية إشارة إلى أن من كلف بالإنذار وما بعد يبتلى، فيحتاج إلى الصبر، ولذلك أمر به آخراً. ونظيره قول لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]. ثم كان من أول ما بينه - صلى الله عليه وسلم - أول ما يكون في اليوم الآخر من نفخ الصور، فقال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8]، وهو الصور كما أخرجه المفسرون عن ابن عباس، وغيره (¬2). {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ} [المدثر: 9، 10] بيَّن أن يوم القيامة آتٍ، وأول هول فيه النفخ في الصور، والنقر في الناقور، وإنما عسره إنما هو على الكافر خاصة، وهو الذي ارتكب ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافه من أحوال أهل الجاهلية، وإنما ينجو من عسره وهوله المؤمن الذي نفعته نذارة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واتبعه على ما هو عليه. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما نزلت: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8]، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَقَدِ الْتَقَمَ صاحِبُ الْقَرْنِ - يَعْنِي الصُّور - حَنَى جَبْهَتَهُ يَنتظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ"؟ ¬
12 - ومن عوائد الجاهلية وأعمالهم وأخلاقهم: اتخاذ المواسم والأعياد التي لم ترد بها الشريعة.
قالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: "قُولُوا: حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا" (¬1). 12 - ومن عوائد الجاهلية وأعمالهم وأخلاقهم: اتخاذ المواسم والأعياد التي لم تَرِدْ بها الشريعة. روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: "ما هَذانِ اليَوْمانِ؟ " قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِما خَيْراً مِنْهُما؛ يَوْمَ الأَضْحَى، وَيوْمَ الْفِطْرِ" (¬2). وروى أبو داود عن ثابت بن الضحاك رضي الله تعالى عنه قال: نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلاً ببُوانة (¬3)، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ بِهِما وَثَنٌ مِنْ أَوْثانِ الْجاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ " قالوا: لا. ¬
قال: "فَهَلْ كانَ فِيْها عِيدٌ مِنْ أَعْيادِهِمْ؟ " قالوا: لا. فقال رسول الله: "أَوْفِ بِنَذرِكَ؛ فَإِنَّهُ لا نَّذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعالَى، وَلا فِيما لا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ" (¬1). وروى الأئمة رضي الله تعالى عنهم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا فَزعَ، وَلا عَتِيرَةَ" (¬2). الفرع: أول ما تلد الناقة كانوا يذبحونه في الجاهلية. والعتيرة: ذبيحةٌ كانوا يذبحونها في رجب في الجاهلية. قال ابن رجب في "لطائفه": ويشبه الذبح في رجب اتخاذه موسماً وعيداً لأكل الحلوى (¬3)، انتهى. قلت: ومن أقبح ما يفعله الجهلة فيه تصوير الحلوى بصور الحيوانات، فهو أشبه ما يكون بتماثيل الجاهلية في الأعياد وغيرها، وقد علمت أن التصوير مطلقاً حرام. ¬
13 - ومنها: الاشتغال مطلقا بغرور الدنيا، والاعتزاز بها، والفخر والخيلاء، والأشر والرياء،
13 - ومنها: الاشتغال مطلقاً بغرور الدنيا، والاعتزاز بها، والفخر والخيلاء، والأشَر والرياء، والاشتغال بالملاهي لعباً، أو سماعاً أو استماعاً، والقتال حمية، والسفر في المعصية، والبطر بالنعمة السابغة والأموال والأولاد والعشائر؛ فإن ذلك كله أخلاق جاهلية. قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47] الآية. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هم المشركون الذين قاتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر (¬1). قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا} [الأنفال: 47] (¬2). رواهما ابن أبي حاتم وقال قتادة: خرجوا ولهم بغي وفخر، وقد قيل لهم يومئذ: ارجعوا فقد انطلقت عيركم، وقد ظفرتم، فقالوا: لا والله حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعودنا. قال: وذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ: "اللَّهُمَّ إِنَّ قُرَيْشاً قَدْ ¬
أَضَلَّتْ (¬1) بِفَخْرِها وَخُيَلائِها لِتُجادِلَ رَسُولَكَ (¬2) ". رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬3). وقال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} [المدثر: 11 - 28]. بيَّن سبحانه وتعالى أنه خلقه وحده بأن قال له: كن، فكان. فَـ: "وحيداً" حالٌ من الضمير المرفوع. أو خلقه مجرداً لا مال له، ولا أهل ولا ولد، فهو حال من "من"، أو من الضمير المحذوف؛ أي: "خلقته" حالَ كونه وحيداً لا شيء له. {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر: 12] واسعاً. {وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر: 13] حضوراً عنده لأن الأهل إذا كانوا مجتمعين حاضرين جميعاً كان ذلك أقر لأعينهم، وأتم للنعمة عليهم. {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر: 15]؛ أي: في الزيادة من المال والولد، ¬
وهو شأن أكثر الناس جاهلية وإسلاماً إلا من وفقه الله تعالى، فقنع وعلم أن قليلاً يكفي خيرٌ من كثير يطغي. ثم كان مع ذلك عنيداً لآياته، كافراً لإنعاماته. أجمع المفسرون أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي حين قال: لقد نظرت فيما قال هذا الرجل فإذا هو ليس شعراً، كان له لحلاوة، كان عليه لطلاوة، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وما أشك أنه سحر، فنزل فيه الآية. قال سعيد بن جبير: كان له ثلاثة عشر ولداً كلهم رب بيت، فلما نزلت لم يزل في إدبار من الدنيا في نفسه وماله وولده حتى خرج من الدنيا (¬1). وقال ابن عباس في قوله: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر: 12]: ألف دينار (¬2). رواهما ابن المنذر. وروى عبد بن حميد عن سفيان قال في قوله: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر: 12]: ألف ألف (¬3). وروى الدينوري في "المجالسة" عن عمر بن الخطاب رضي الله ¬
تنبيه
تعالى عنه: أنه سئل عن قوله: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر: 12]؛ قال: غلة شهر بشهر (¬1). وقيل: كانت له أرض وزرع، وماشية، وتجارة. * تنبِيهٌ: من بسط له في دنياه حتى بلغ منها رضاه من مال وبنين من عَرَض حاصل، أو غلة جارية، وهي من أنفع الأموال وأهناها لتجدد السرور بها في كل ما استوفى منها يوماً، أو شهراً، أو عاماً، أو تجارة، أو غير ذلك، ثم بطر نعمة الله فيها، وأصر على المعاصي، وبغى على الناس، وأمن من زوال تلك النعمة عنه وانصرامها منه، عوجل بالعقوبة فيها في الدنيا قبل الآخرة، ثم إن مات على كفر وشرك جمع له بين خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما صار للوليد، وهذه سنة جارية في كثير من المفترين. 14 - ومن قبائح الجاهلية: الذبائح التي كانوا يذبحونها ويتقربون بها بغير شريعة واردة. من أنواعها: العتيرة، والفرع المتقدمان. وروى البيهقي في "السنن" عن الزهريّ مرسلاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذبائح الجن، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا اشتروا داراً، أو استخرجوا عيناً، أو بنوا بنياناً، ذبحوا ذبيحة مخافة أن تصيبهم الجن، ¬
15 - ومنها: المباراة والمعاقرة.
فأضيفت الذبيحة إليهم (¬1). وروى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا عَقْرَ فِي الإِسْلامِ" (¬2). وذلك أنهم كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى - أي: ينحرونها - ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته؛ لنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. 15 - ومنها: المباراة والمعاقرة. وهي المفاخرة في نحر الإبل؛ يقال: تعاقرا؛ إذا عقرا إبلهما ليرى أيهما أعقر لها. وتطلق المعاقرة على إدمان شرب العُقار - بالضم - وهي الخمر، سميت عُقاراً لمعاقرتها؛ أي: ملازمتها الدن، أو لعقرها شاربها عن المشي، كما في "القاموس" (¬3). والمعاقرة بهذا المعنى من فعل الجاهلية. روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن معاقرة الأصحاب (¬4). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن أبي ريحانة رحمه الله تعالى قال: سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن معاقرة الأعراب بينها، فقال: إني أخاف أن يكون مما أُهِلَّ لغير الله به (¬1). وروى أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن المعروف بدحيم في "تفسيره" عن الجارود قال: كان رجل يقال له: ابن وثيل شاعراً، نافر أبا الفرزدق الشاعر غالباً على أن يعقر هذا مئة من إبله، وهذا مئة من إبله إذا وردت الماء، فلما وردت الماء قاما إليها بأسيافهما، فجعلا ينسفان عراقيبها، فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم، وعلي رضي الله تعالى عنه بالكوفة، فخرج على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيضاء وهو ينادي: يا أيها الناس! لا تأكلوا من لحومها، فإنما أُهِلَّ بها لغير الله (¬2). وروى أبو داود، والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن طعام المتبارِييْن أن يؤكل (¬3). قال الخطابي: المتباريان هما المتعارضان بفعلهما أيهما يغلب صاحبه. ¬
16 - ومن أخلاق الجاهلية: التحرج عن الأكل من الهدي والأضحية.
وإنما كره ذلك لما فيه من الرياء والمباهاة، ولأنه دخل في جملة ما نهي عنه من أكل المال بالباطل (¬1)، انتهى. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن حميد بن نعيم: أن عمر، وعثمان رضي الله تعالى عنهما ذهبا إلى طعام، فلما خرجا قال عثمان لعمر رضي الله تعالى عنهما: قد شهدنا طعاماً لوددنا أنا لم نشهده. قال: لِمَ؟ قال: إني أخاف أن يكون صُنِعَ مباهاةً (¬2). 16 - ومن أخلاق الجاهلية: التحرج عن الأكل من الهدي والأضحية. روى عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن إبراهيم - هو النخعي - رحمه الله تعالى قال: كان المشركون لا يأكلون من ذبائح نسائكهم، فنزلت: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، والأكل منها سنة إلا أن تكون منذورة (¬3). قال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وستين، ونحر علي أربعة وثلاثين، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كل جزور ببضعة فجعلت في قِدر، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اللحم، وحَسا من ¬
17 - ومنها: الذبح لغير الله، أو له ولغيره على وجه الإشراك.
المرق لأن الله تعالى يقول: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28]. رواه ابن أبي حاتم (¬1). 17 - ومنها: الذبح لغير الله، أو له ولغيره على وجه الإشراك. روى أبو عبيد، وابن أبي حاتم، وغيرهما عن الحسن في هذه الآية: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]، أنه كان يقرؤها: "صوافي"؛ قال: خالصةً لله تعالى؛ قال: كانوا يذبحونها لأصنامهم (¬2). وعن زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى: أنه قرأ {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] بالياء منتصبةً، وقال: خالصة لله من الشرك لأنهم كانوا يشركون في الجاهلية إذا نحروها (¬3). 18 - ومنها: تضريج الكعبة بالدماء، واعتقاد أن ذلك قربة. وهذا حرام، وكذلك تضميخ المساجد وتقذيرها. روى ابن أبي حاتم عن ابن جريج رحمه الله تعالى قال: كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: نحن أحق أن ننضح، فأنزل الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] (¬4). ¬
19 - ومنها: تلطيخ رأس الغلام بدم عقيقته.
19 - ومنها: تلطيخ رأس الغلام بدم عقيقته. وهو مكروه. روى أبو يعلى، والبزار - ورجاله ثقات - عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان في الجاهلية تؤخذ قطنة فتجعل في دم العقيقة، ثم توضع على رأسه - يعني: الولد - فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل مكان الدم خَلُوقاً (¬1). 20 - ومنها: الوأد - وهو من أشد الكبائر - وزيادة الفرح إذا بشر بالغلام، وزيادة الترح إذا بشر بالأنثى حياءً من الناس، وخوفاً من الفقر، وكانوا يئدون البنات لذلك. قال الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58، 59]. وذلك أن طوائف العرب كانوا يدفنون البنات أحياءً خوفاً من الفقر وطمعِ غير الاكفاء فيهن؛ فمنهم من كانت المرأة فيهم إذا حملت وكان أوان ولادتها، حفرت حفيرة فتمخضت على رأس الحفيرة؛ فإن ولدت جارية دست بها في الحفيرة، كان ولدت غلاماً حبسته. ¬
ومنهم: من كان يربي البنت حتى تصير سداسية، فيقول لأمها: زينيها، حتى إذا ذهب بها وقد حفر لها بئراً في الصحراء، فإذا بلغ بها البئر قال لها: انظري إلى هذا البئر، فدفعها من خلفها، ثم يهيل عليها التراب حتى يستوي البئر إلى الأرض. قال الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9] ومثل ذلك ما يفعله الجهلاء من أهل القرى وغيرهم من قتل النساء وإن كن أبكاراً، مهما سمعوا عنهن كلمةً من عدو أو غيره، ويزعمون أن ذلك من المروءة وتطهير العرض. وليس الأمر كذلك، بل قتل النفس التي حرم الله تعالى بغير حق أعظم الذنوب عند الله تعالى بعد الإشراك بالله تعالى. وروى أبو داود، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانَ لَهُ أُنْثَى وَلَمْ يئِدْها، وَلَمْ يُهِنْها، وَلَمْ يُؤثرْ وَلَدَهُ - يَعْنِي: الذُّكُورَ - عَلَيْها، أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ" (¬1). وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذهِ الْبَناتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتْراً مِنَ النَّارِ" (¬2). ¬
تنبيه
وروى أبو موسى المديني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن أوس بن ساعدة الأنصاري - رضي الله عنه - دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إن لي بناتٍ، وأنا أدعو عليهن بالموت. فقال: "يا ابْنَ ساعِدةَ! لا تَدْعُ عَلَيْهِنَّ؛ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ فِي البَناتِ، هُنَّ الْمُجَمِّلاتُ عِنْدَ النِّعْمَةِ، وَالْمُنْعِياتُ عِنْدَ الْمُصِيْبَةِ، وَالْمُمَرِّضاتُ عِنْدَ الشِّدَّةِ، لِيْنٌ عَلى الأَرْضِ، وَرِزْقُهُنَّ عَلى اللهِ" (¬1). * تَنْبِيْهٌ: روى أبو الشيخ في "الثواب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَيْتٌ لا صِبْيانَ فِيهِ لا بَرَكَةَ فِيهِ" (¬2)؛ أي: لا بركة كاملة أو ظاهرة فيه. والصبيان: جمع صبي بالمعنى الشامل للصبية. قال في "القاموس": والصبي: من لم يفطم بعد (¬3)، فهو شامل للذكور والإناث، مثل الولدان؛ وإن أوهم اللفظ اختصاصه بالذكور لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِنَّ الْبَرَكَةَ فِي البَناتِ". وأما حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: "دَفْنُ الْبناتِ مِنَ ¬
الْمَكْرُماتِ". رواه الخطيب (¬1)، فالمراد أن البنات يَمُتْنَ بقضاء الله تعالى، ثم يدفنَّ، فيكون دفنهن مكرمة لهن ولأوليائهن؛ فإن قبر البنت ستر لها كما ورد: للمرأة عشر عورات؛ يستر الزوج عورة واحدة، والقبر يستر العشر جميعاً (¬2). وروى ابن عدي في "الكامل" - وقال: حديث منكر - والحاكم في "تاريخ نيسابوري" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "لِلْمَرْأَةِ سِتْرانِ؛ الْقَبْرُ وَالزَّوْجُ". قيل: فأيهما أفضل؟ قال: "القَبْرُ" (¬3). ولا يجوز فهم حديث ابن عمر على ظاهر اللفظ، بل المعنى: دفن البنات إذا متن، أو بعد موتهن بقضاء الله تعالى؛ فإن الشرع والعقل يقبحان دفن الحي. ¬
21 - ومن عوائد الجاهلية: العزل عن النساء مخافة الولد فرارا من العيلة والفقر، أو حذرا من ولادة الإناث
ومن مكارم صعصعة بن ناجية المجاشعي - وهو جد الفرزدق الشاعر - ما رواه البزار، والطبراني عنه: أنه قال في حديث للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ظهر الإسلام وقد أحييت ثلاثمئة وستين موؤودة، أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل، فهل لي في ذلك من أجر؟ قال: "لَكَ أَجْرٌ إِذْ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ بِالإِسْلامِ". قال عباد - وهو أحد رواته -: ومصداق قول صعصعة قول الفرزدق: [من المتقارب] وَجَدِّي الَّذِي مَنَعَ الْوائِدَا ... تِ وَأَحْيَا الوَئيْدَ فَلَمْ يُوْأَدِ (¬1) 21 - ومن عوائد الجاهلية: العزل عن النساء مخافة الولد فراراً من العَيلَة والفقر، أو حذراً من ولادة الإناث. وهو مكروهٌ. ومن العلماء من حرمه مطلقاً. ومنهم من حرمه عن الحرائر دون الإماء، ويشير إلى أنه من فعل الجاهلية [ما] رواه الإمام أحمد، ومسلم، والأربعة عن جُدَامة بنت وهب رضي الله عنها قالت: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العزل، فقال: "ذاكَ الوَأْدُ الْخَفِيُّ"، وهي: {الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] (¬2). ¬
22 - ومن أفعال الجاهلية: قتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق.
وجدامة: بضم الميم، ودالها مهملة. 22 - ومن أفعال الجاهلية: قتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق. وأعظمه قتل الأولاد بالوأد كما علمت وبغيره. وفي الصحيح ": "إِنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ بَعْدَ الشِّرْكِ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ" (¬1). ووجهه ظاهر؛ فإن شفقة الوالد على الولد ليس فوقها شفقة، فإذا قتله فليس فوق قسوته قسوة. قال الله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]. روى البخاري، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا سَرَّك أن تعرف جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومئة من سورة الأنعام {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ} إلى قوله: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140] (¬2). وقال قتادة رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ} [الأنعام: 140]: هذا صنع أهل الجاهلية؛ كان أحدهم ¬
23 - ومنها: أنهم كانوا إذا قتل لهم قتيل لم يرضوا بقتل قاتله حتى يتجاوزوا، أو يقتلوا غير قاتله.
يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة، ويغذو كلبه. رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). وقال في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151]: من خشية الفاقة. قال: وكان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته مخافة الفاقة عليها والسبي. رواه عبد بن حميد، وأبو الشيخ (¬2). وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92]. فيه إشارة إلى أن تعمد قتل النفس بغير حق ليس من أخلاق المؤمنين، بل هو من أخلاق الجاهلية. 23 - ومنها: أنهم كانوا إذا قتل لهم قتيل لم يرضوا بقتل قاتله حتى يتجاوزوا، أو يقتلوا غير قاتله. قال الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]. روى البيهقي في "سننه" عن زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى قال: إن الناس كانوا في الجاهلية إذا قتل الرجل من القوم رجلًا لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلاً شريفاً إذا كان قاتلهم غير شريف، لم يقتلوا ¬
24 - ومنها: أخذ الإنسان بجريرة.
قاتلهم وقتلوا غيره، فوعظوا في ذلك يقول الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} إلى قوله: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]. قال: لا تقتل غير قاتل وليك (¬1). قال [الضحاك]: وهي اليوم على ذلك الوضع من المسلمين؛ لا يحل لهم أن يقتلوا إلا قاتلهم (¬2). وعن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال في الآية: لا يقتل اثنين بواحد (¬3)؛ أي: لا يقتل اثنين أحدهما لم يقتل. 24 - ومنها: أخذ الإنسان بجريرة. كما علمت من قتلهم غير قاتل وليهم. ولقد قالوا في أمثالهم: قدْ يُؤخذُ الجارُ بذنبِ الجارِ (¬4)؛ وهو خلف كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]. ذكر القرطبي في "تفسيره" أقوالاً منها: أنها نزلت رداً على العرب في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بأبيه وبابنه، وبجريرة خليله (¬5)، بل هو ¬
من الجاهلية الأولى التي كانت في الفترة بين نوح وإبراهيم كما روى ابن المنذر عن هذيل (¬1) بن شرحبيل قال: كان الرجل يؤخذ بذنب غيره بين نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام حتى جاء إبراهيم؛ فلا تزر وازرة وزر أخرى (¬2). وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال في قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]: كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الولي بالولي، حتى كان إبراهيم، فوفى أن لا تزر وازرة وزر أخرى؛ لا يؤخذ أحد بذنب غيره (¬3). وروى الشافعي، والبيهقي في "سننه" عن عمرو بن أوس رحمه الله تعالى قال: كان الرجل يؤخذ بذنب غيره، حتى جاء إبراهيم فقال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]؛ قال: بلغ وأدى {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] (¬4). وقوله: كان الرجل يؤخذ بذنب غيره؛ أي: شريعة فنسخت بما جاء به إبراهيم عليه السلام، أو عادة أجريت ولم تكن شريعة، فأبطلها إبراهيم عليه السلام، وبيَّن أنها نزلت شريعة. ¬
وإذا تأملت أحوال حكام هذه الأزمنة وجدتها لا تعدو أحوال أهل الجاهلية في كثير من الأمور؛ ألا تراهم إذا طلبوا غريماً وتغيب عنهم أخذوا أباه، أو ابنه، أو قريبه، أو جاره؟ وربما قتل قتيل، أو سرقت دارٌ أو دكان في محلة، وجاء الوالي وجماعته ومعهم قاض من قبل حاكم الشرع يقال: قاضي الكشف، فيأخذون من صاحب المصيبة أو من أهل المحلة جريمة، وسموها: أجرة القدم، أو حجة الكشف، ولا يمهلونه إلى تحصيل ما يأخذونه، بل يأمرونه بتسلم ذلك ممن استعد للربا في أبوابهم، ولعل ذلك فوق جهل الجاهلية. وروى الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن الهيثم بن عدي قال: دخل أبي بن الإبَّاء - بتشديد الموحدة - على الحجاج بن يوسف، فقال: [إني] موسوم بالحيلة، مشهور بالطاعة، خرج أخي مع [ابن الأشعث] (¬1) فحلق على اسمي، وحُرِمْتُ عطائي، وهُدِمَت داري. فقال الحجاج: أو ما سمعت ما قال الشاعر؟ قال. وما قال؟ قال: [من الكامل] جانِيكَ مَنْ يَجْنِي عَلَيْكَ وَقَدْ ... يَعْدِي الصَّحِيحَ مَبارِكُ الْجُرْبِ وَلَرُبَّ مَأخوذٍ بِذَنْبِ قَرِيبِه ... وَنَجا الْمُقارِفُ صاحِبُ الذَّنْبِ ¬
25 - ومنها: إعانة القاتل والظالم على ظلمه.
قال: أيها الأمير! إني سمعت الله يقول غير هذا. قال: وما قال جل ثناؤه؟ قال: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف: 78، 79]. قال: يا غلام! ارسم اسمَه، وابْنِ داره، وأعطه عطاءً (¬1). 25 - ومنها: إعانة القاتل والظالم على ظلمه. فيعاونون القاتل فيه دون أولياء المقتول الدية قهراً. ومن هذا القبيل: تعاون الناس الآن على الصلح بدون الحق على وجه القهر للمصالح وتهديده ليرضى، والصلح إنما يصلح ويكون خيراً إذا لم يكن فيه عدوان. وروى ابن جرير، وغيره عن الحسن رحمه الله تعالى في قوله - عز وجل -: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] قال: كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلاً ينضم إلى قومه، فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية، فيخرج الفار وقد أمن على نفسه، فيغتاله - يعني: ولي المقتول - ويرمي إليه بالدية (¬2). ¬
26 - ومنها: قتل القاتل بعد قبول الدية منه لما قاله الحسن.
26 - ومنها: قتل القاتل بعد قبول الدية منه لما قاله الحسن. وروى البخاري، والمفسرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} قال: قتل بعد قبول الدية {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] (¬1). وفي حديث سمرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أُعافِي رَجُلاً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّية". أخرجه سَمُّويه في "فوائده" مسنداً مرفوعاً هكذا (¬2). وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة مرسلاً (¬3). 27 - ومنها: البغي مطلقاً في القتل وغيره. وهو التعدي والاستطالة في الأمور. روى أبو داود في "ناسخه"، والبيهقي في "سننه" عن قتادة في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] قال: كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي منهم إذا كان فيهم عدد وعدة، فقتل لهم عبد قتله عبدُ قومٍ آخرين، قالوا: نقتل به الأحرار تعززاً وتفضلاً على غيرهم في أنفسهم، وإذا قتلت لهم أنثى قتلتها امرأة، قالوا: لن نقتل بها إلا رجلاً، فأنزل الله تعالى هذه الآية ¬
يخبرهم أن العبد بالعبد، والحر بالحر، والأنثى بالأنثى، ونهاهم عن البغي (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير: أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، فنزلت فيهم الآية (¬2). وروى مسلم، وأبو داود، وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْ تَواضَعُوا حَتَّى لا يَفْخَرَ أَحدٌ عَلى أَحَدٍ وَلا يَبْغِي أَحَدٌ عَلى أَحَدٍ" (¬3). وروى البخاري في "الأدب المفرد"، وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَواضَعُوا، وَلا يَبْغِي بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ" (¬4). ¬
28 - ومنها أنهم كانوا إذا قتل لأحدهم قتيل استوفى ذلك بنفسه.
28 - ومنها أنهم كانوا إذا قتل لأحدهم قتيل استوفى ذلك بنفسه. وفي الشريعة يرفع أمره إلى ولي الأمر في طلب ما استحقه من قصاص، أو حد قذف، أو تعزير، أو عقوبة، ويحرم عليه استيفاؤه بنفسه وإن وقع موقعه، ولا يستقل بأخذ ما يستحقه من غيره بيد غيره إلا إن أمن الفتنة، ولا يحق (¬1) له ما استحقه من دين على غريم مقر له غير ممتنع من الأداء، بل يطالبه. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]: ينصره السلطان على كل من قتله، ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاصٍ مسرف، قد عمل بحمية أهل الجاهلية، ولم يرض بحكم الله. أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬2). 29 - ومنها: الزنا سراً وجهراً، ونكاح المحارم، وتعاطي الأنكحة الفاسدة كالشغار - وهو أن يزوج الرجل موليته آخر على أن يزوجه موليته، ويضع كل واحد صداق الأخرى - والمتعة - وهي: النكاح بلا أجل، أو بلا بينة - والجمع بين الأختين، ونكاح زوجة الأب، وغير ذلك. ¬
روى المفسرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأساً في السر، ويستقبحونه في العلانية، فحرم الله تعالى الزنا في السر والعلانية (¬1). وروى ابن أبي حاتم عنه في قوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: نكاح الأمهات والبنات (¬2). {وَمَا بَطَنَ} قال: الزنا (¬3). وروى مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنه -، والإمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان عن أنس - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا شِغارَ فِي الإسْلامِ" (¬4). وروى البخاري عن علي رضي الله تعالى عنه، والإمام أحمد عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المتعة (¬5). ¬
وقال الله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]. وقال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]. قال محمد بن الحسن: كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية: قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]. قال: إلا اثنتين؛ إحداهما: امرأة الأب، والثانية: الجمع بين الأختين؛ ألا ترى أنه قال: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]، وقال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]، ولم يذكر في سائر المحرمات، {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (¬1). قال (¬2): هذا يخالف ما نقلناه عن ابن عباس في تفسير ما ظهر من الفواحش من نكاح الأمهات والبنات (¬3)؛ فإن في قوله تعالى: {تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] تعريضاً بما كان عليه أهل الجاهلية، إلا أن يحمل كلام ابن عباس على أنهم كانوا، أو ¬
كان منهم من يفعله لا على سبيل الاستحسان له والاستطابة، بل كان يفعله وهو في نفسه فاحشة. ويحمل كلام محمد بن الحسن على أنهم ما كانوا يعرفونه ديناً أو مقبولاً لا بأس به، بخلاف نكاح امرأة الأب والجمع بين الأختين. وكذلك ما حكي عن محمد بن السائب الكلبي أنه قال: كانت العرب في جاهليتها تحرم أشياء نزل القرآن بتحريمها؛ كانوا لا ينكحون الأمهات، ولا البنات، ولا الخالات، ولا العمات، وكان أقبح ما يصنعون أن يجمع الرجل بين الأختين، أو يحيف على امرأة أبيه، وكانوا يسمون من يفعل ذلك: الضيزن (¬1)؛ يعني: المعجمات. قلت: وقد اختلف العلماء في الاستثناء والوصف إذا تأخر عن جمل متعاقبة، هل يعودان إلى الجمل كلها، أم إلى الجملة الأخيرة، أو على الجمل إلا أن يفصل بينهن شرط أو نحوه فعلى ما بعده، أو يفرق بين العطف بالواو فيعودان معها إلى الجمل كلها، وبغيرها فيعودان على الأخيرة؟ أقوال: أرحجها الأخير عند إمام الحرمين. والأكثرون على الأول لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ¬
وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]. فالاستثناء يعود إلى قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الأخيرة على القول الأول. والقول [ ... ] فإن [ ... ] في الجميع، فالوارد على قول {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] فقط على القول الثاني. وعليه وعلى ما قبله من حلائل الأبناء فقط على القول الثالث. وعليه [ ... ] (¬1) واردة على كلام محمد بن الحسن. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كانت مناكح الجاهلية على أربعة أضرب؛ نكاح الرايات، ونكاح الرهط، ونكاح الاستيجاد، ونكاح الولاد. فأما نكاح الرايات فهو أن العاهرة في الجاهلية كانت تنصب على بابها راية ليعلم المار بها عهرها فيزني بها. وأما نكاح الرهط فهو أن النفر من القبيلة كانوا يشتركون في إصابة المرأة، فإذا جاءت بولد ألحق بأشبههم به. وأما نكاح الاستيجاد فهو أن المرأة كانت إذا أرادت ولداً نجيباً ¬
بذلت نفسها لنجيب كل قبيلة وسيدها، فلا تلد إلا نجيباً، فتلحقه بأيهم شاءت (¬1). وأما نكاح الولاد فهو النكاح الصحيح المقصود للتناسل الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وُلِدْتُ مِنْ نِكاحٍ لا مِنْ سِفاحٍ" (¬2). وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً لقي امرأة كانت بغياً في الجاهلية، فجعل يلاعبها حتى بسط يده إليها، فقالت المرأة: مه؛ فإن الله قد ذهب بالشرك - وفي رواية: ذهب بالجاهلية وجاءنا بالإسلام - فولى الرجل، فأصاب وجهه الحائط، فشجه، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: "أَنْتَ عَبْدٌ أَرادَ اللهُ بِكَ خَيْراً؛ عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ، وَإِذا أَرادَ اللهُ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوافَى بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ كَأَنَّهُ عيرٌ" (¬3). وقول المرأة: مه؛ فإن الله ذهب بالجاهلية وجاءنا بالإسلام؛ إشارةٌ إلى أنه لا ينبغي لمن أكرمه الله تعالى بالإسلام والدين بأن يتضمَّخ بما كان عليه أهل الجاهلية من الزنا وغيره من الفواحش والقبائح. وفيه أن وازع الإسلام هو الذي منعها عن الزنا التي كانت تتعاطاه ¬
تنبيه
في الجاهلية، فكذلك ينبغي أن يكون وازع الإسلام مانعاً للعبد من كل خُلُق لا يليق بالمسلمين. * تَنْبِيْهٌ: روى الحازمي في "الناسخ والمنسوخ" عن الشعبي رحمه الله تعالى في قصة مبايعة هند بنت عتبة: فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلا يَزْنِينَ" قالت: أَوَتَزني الحرة؟ لقد كنا نستنحيي من ذلك في الجاهلية، فكيف في الإسلام (¬1). 30 - ومن أعمال الجاهلية الفاحشة - وهو من جنس ما سبق -: المبادلة. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك وأبادلك امرأتي؛ أي: أنزل لك عن امرأتي وتنزل لي عن امرأتك، فأنزل الله تعالى: {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52]، قال: فدخل عيينة بن حصن الفزاري على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده عائشة رضي الله تعالى عنها، ودخل بغير إذن، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيْنَ الاسْتِئْذان؟ " قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! ما استأذنت على رجل من الأنصار منذ أدركت. ¬
31 - ومنها: أكل الأولياء مهور مولياتهم.
ثم قال: من هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذِهِ عائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ". قال: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ قال: "يا عُيَيْنَةُ! إِنَّ اللهَ حَرَّمَ ذَلِكَ". فلما خرج قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: من هذا؟ قال: "أَحْمَقٌ مُطاعٌ، وَإِنَّهُ عَلى ما تَرَيْنَ لَسَيِّدٌ فِي قَوْمِهِ" (¬1). قلت: وبلغني أن المبادلة الآن ربما جرت في أمراء الأعراب من بني خيار وغيرهم؛ استولى بعضهم على زوجة وبعث إليه بزوجته، وهذا ضلال مبين. 31 - ومنها: أكل الأولياء مهور مولياتهم. روى سعيد بن منصور، والمفسرون عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوج أيمه أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، ونزلت: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] (¬2). وهذا العمل الجاهلي الآن فاشٍ في جهلاء الأعراب ونحوهم من التركمان، والفلاحين يأخذون مهور النساء لأنفسهم، ويقتصرون منه ¬
32 - ومنها - وهو من أفعال المجوس أيضا -: كثرة الوقيد في الأعراس ونحوها.
على أمتعة جزئية تكسبها المرأة، وهذا حرام ما لم تكن المرأة ترضى بأن يأخذ وليها مهرها عن طيبة نفس منها بعد أن تعلم أن صداقها ملك لها لا يستحقه أحد غيرها لا من أقربائها ولا من غيرهم. 32 - ومنها - وهو من أفعال المجوس أيضاً -: كثرة الوقيد في الأعراس ونحوها. وما ينتهي من ذلك إلى حد الإسراف فإنه حرام أو مكروه. وكذلك تعالي البارود ونحوه مما فيه إتلاف الأموال. وقد كره لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال كما في "الصحيح" (¬1). وروى الثعلبي من طريق سعيد بن منصور عن عروة بن رُويم قال: بينما عبد الرحمن بن قُرط يعسُّ بحمص إذ مرت عروس وقد أوقدوا النيران، فضربهم بدرته حتى تفرقوا عنها، فلما أصبح قعد على [منبره] وقال: إن أبا جندلة نكح، فصنع جفنات من طعام، فرحم الله أبا جندلة، وصلى على آبائه، ولعن الله أصحاب عروسك؛ أوقدوا النيران، وتشبهوا بأهل الجهل، وإنه يطفئ نورهم يوم القيامة (¬2). ¬
33 - ومنها: قولهم لمن تزوج: بالرفاء والبنين، وقولهم للعنب: كرم، وتسميتهم المحرم: صفر، والعشاء: عتمة، والمغرب: عشاء.
33 - ومنها: قولهم لمن تزوج: بالرفاء والبنين، وقولهم للعنب: كرم، وتسميتهم المحرم: صفر، والعشاء: عتمة، والمغرب: عشاء. وكل ذلك مكروه. روى ابن ماجه عن عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أنه تزوج امرأة من بني جشم فقالوا: بالرفاء والبنين. فقال: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ بارِكْ لَهُمْ وَبارِكْ عَلَيْهِمْ" (¬1). قال صاحب "الصحاح": والرفاء: الالتحام والاتفاق، ويقال: رفَّيتُه تَرفيَةً: إذا قلت للمتزوج: بالرفاء والبنين (¬2). قال ابن السكيت: وإن شئت كان معناه: بالسكون والطمأنينة من قولهم: رفوت الرجل: إذا سكنته (¬3). وروى أبو دواد، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم بالأسانيد الصحيحة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفَّأ الرجل إذا تزوج قال: "بارَكَ اللهُ لَكَ، وَبارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ اللهُ بَيْنَكُما فِي خَيْرٍ" (¬4). ¬
وروى الشيخان عن أبي بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَقُولُونَ: الكَرْمُ؛ إِنَّما الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ". وفي رواية لمسلم: "لا تُسمُّوا العبَ الْكَرْمَ؛ فَإِنَّ الكَرْمَ قَلْبُ الْمُسْلِمِ" (¬1). وروى مسلم عن وائل بن حجر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقُولُوا: الكَرْمُ، وَلَكِنْ قُولُوا: العِنَبُ، وَالْحَبَلَةُ" (¬2)؛ أي: بفتح المهملة والموحدة، وقد تسكن. والنهي عن ذلك لأن الجاهلية كانت تسميه كرماً كما أشار إليه النووي في "الأذكار". أو خشية أن يدعو الناسَ حسنُ الاسم إلى شرب الخمر المتخذة منه، كما قال الخطابي (¬3). وروى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي وائل في قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] قال: نزلت في رجل من بني كنانة يقال له: نسيء؛ كان يجعل المحرم صفراً يستحل فيه المغانم (¬4). ¬
قال النووي في "الأذكار": يكره أن يسمى المحرم صفراً لأنه من عادة الجاهلية (¬1). وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرابُ عَلى اسْمِ صَلاتِكُمُ الْعِشاءَ؛ فَإِنَّها فِي كِتابِ اللهِ العِشاءُ، وَهُمْ يُعْتِمُونَ بِحلابِ الإِبِلِ" (¬2). وروى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرابُ عَلى اسْمِ صَلاتِكُمْ؛ فَإِنَّما هِيَ العِشاءُ، وَإِنَّما يَقُولُونَ العَتْمَةُ لإِعْتامِهِمُ الإِبِلَ" (¬3). وروى البخاري عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرابُ عَلى اسْمِ صَلاتِكُمُ الْمَغْرِب"، قال: "وَتَقُولُ الأَعْرابُ: العِشاءُ" (¬4). وما ذكرناه من كراهية تسمية العشاء عتمةً هو ما جزم به النووي في "المنهاج" (¬5)، و"الأذكار"، وأجاب عن ما وقع في بعض الأحاديث ¬
34 - ومن عوائد الجاهلية [قولهم]: أنعم الله بك عينا، وأنعم صباحا.
من تسمية العشاء العتمة لحديث: "لَوْ يَعْلَمُونَ ما فِي الصُّبْحِ وَالْعَتْمَةِ لأَتَوْهُما وَلَوْ حَبْواً" (¬1) بوجهين: أحدهما: أنه لبيان كون النهي ليس للتحريم بل للتنزيه. والثاني: أنه خوطب بها من يخاف أن يلتبس عليه المراد لو سماها عشاءً. قال: وأما تسمية الصبح غداة بلا كراهة على المذهب الصحيح. قال: وذكر جماعة كراهة ذلك، وليس بشيء. قال: ولا بأس بتسمية المغرب والعشاء: عشاءين. [ولا بأس يقول العشاء الآخرة، وما نقل عن الأصمعي أنه قال: لا يقال] (¬2): العشاء الآخرة [فغلط ظاهر] (¬3). لكنه صحح في "المجموع" أن تسمية العشاء عتمة خلاف الأولى كتسمية الصبح الغداة (¬4). 34 - ومن عوائد الجاهلية [قولهم]: أنعم الله بك عيناً، وأنعم صباحاً. روى أبو داود عن معمر عن قتادة، أو غيره، عن عمران بن الحصين ¬
رضي الله تعالى عنهما قال: كنا نقول في الجاهلية: أنعم الله بك عيناً، وأنعم [صباحاً]، فلما كان الإسلام نهينا عن ذلك (¬1). قال عبد الرزاق: قال معمر: يكره أن يقول الرجل: أنعم الله بك عيناً، ولا بأس أن يقول: أنعم الله عينك. قال أهل العلم: لا يحكم لمثل هذا الحديث بالصحة؛ فإن قتادة - وإن كان ثقة - فإن غيره مجهول، ويحتمل أن يكون عن غيره، فلا يثبت به حكم شرعي كما قال النووي في "الأذكار". قال: ولكن الاحتياط للإنسان اجتناب هذا اللفظ لاحتمال صحته، ولأن بعض العلماء يحتج بالمجهول (¬2). فأشار إلى أنه خلاف الأولى، وليس بمكروه لأن معناه غير منكر شرعاً. قال في "الصحاح": أنعم الله بك عيناً؛ أي: أقر الله عينك بمن تحب. قال: وكذلك: نعم الله بك عيناً نُعمة - أي: بالضم - مثل غَلِمَ غُلْمة، وكَرِهَ كُرْهة، ونَعِمَك عيناً مثلُه. قال: وقولهم: عم صباحاً: كلمة تحية كأنه محذوف من نَعِمَ يَنْعِمُ بالكسر؛ كما تقول: كُلْ مِنْ أَكَلَ يأكل، فحذف منه ¬
35 - ومن قبائح الجاهلية: إدمان شرب الخمر.
الألف استخفافاً" (¬1). وجعل في "القاموس" من المثال من مادة (وعم)، وهو الظاهر، فقال: وعم الديار كوعد وورث: قال لها: أنعمي، [ومنه: عِمْ] صباحاً ومساءاً وظلاماً (¬2). 35 - ومن قبائح الجاهلية: إدمان شرب الخمر. روى الطبراني بإسناد صحيح، وصححه عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن أبا بكر، وعمر، وناساً كانوا جلوساً بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم فيها علم، فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أسأله، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم، فأنكروا ذلك، ووثبوا إليه جميعاً حتى أتوه في داره، فأخبرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مَلِكاً مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرائِيلَ أَخَذَ رَجُلاً فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، أَوْ يَقْتُلَ نَفْساً، أَوْ يَزْنِيَ، أَوْ يَأْكُلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ، أَوْ يَقْتُلُوهُ، فَاخْتارَ الْخَمْرَ، وَإِنَّهُ لَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَرادُوهُ مِنْهُ". وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ أَحَدٍ شَرِبَها فَتُقْبَلَ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلةً، وَلا يَمُوتُ وَفِي مَثانَتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِها عَلَيْهِ الْجَنَّة؛ ¬
فَإِنْ ماتَ فِي أَرْبَعِينَ لَيْلةً ماتَ مِيْتةً جاهِلِيَّةً" (¬1). وقد تواردت الأخبار بأن جماعة حرموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية لما رأوا فيها من القبائح المخلة بالمروءة لأنه يخامر العقل، ويتلف المال، ويكون صاحبه ضحكة للصبيان، وأميراً للذبان، وطريحاً للقمامات، وجليساً للعاويات، وهو قيء في شدقه، وسلح على عقبه (¬2). وهذا عجيب أن يكون من الجاهلية من تنزه عن الخمر لهذه القبائح، ويكون من أهل الإيمان من يدمن شربها، ويلازم كأسها وتعبها. كلا لقد باعد صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - ما بين شاربها وبين الإيمان، وألحق من يدمن شربها بعبدة الأوثان. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ زَنىَ أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ نَزَعَ اللهُ مِنْهُ الإِيْمانَ كَما يَخْلَعُ الإِنْسانُ الْقَمِيصَ مِنْ رَأْسِهِ". رواه الحاكم (¬3). ¬
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لقِيَ اللهَ وَهُوَ مُدْمِنُ خَمْرٍ لَقِيَهُ كَعابِدِ وَثَنٍ". رواه ابن حبان في "صحيحه" (¬1). وممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية قيس بن عاصم المنقري رضي الله تعالى عنه؛ كان في جاهليته شريباً، ثم حرم الخمر على نفسه، وكان سبب ذلك أنه غمز عكنة ابنته وهو سكران، وسب أبويه، ولقي القمر فتكلم بشيء، وأعطى الخمَّار كثيراً من ماله، فلما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه، وقال فيها: [من الوافر] رَأَيْتُ الْخَمْرَ صالِحَةً وَفِيها ... خِصالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الْحَلِيما فَلا وَاللهِ أَشْرَبُها صَحِيحاً ... وَلا أُشْفَى بِها أَبَداً سَقِيما وَلا أُعْطِي بِها ثَمَناً حَياتِي ... وَلا أَدْعُو لَها أَبَداً نَدِيْما فَإِنَّ الْخَمْر تَفْضَحُ شارِبِيها ... وَتُجْنِيهِمْ بِها الأَمْرَ الْعَظِيما (¬2) وقال عامر بن الظَّرِب العُدواني، وكان من حكام العرب وخطبائها، وكان ممن حرَّم الخمر من أهل الجاهلية، وقال فيها: [من البسيط] ¬
إِنْ أَشْرَبِ الْخَمْرَ أَشْرَبْها لِلَذَّتِها ... وإِنْ أَدَعْها فَإِنِّي ماقِتٌ قالِي لَوْلا اللَّذاذَةُ وَالْهَيَمانُ لَمْ أَرَها ... وَلا رَأتْنِي إِلاَّ مِنْ مُدًى عالِي سَآَّلَةٌ لِلْفَتى ما لَيْسَ فِي يَدهِ ... ذَهَّابَة بِعُقولِ الْقَومِ وَالْمالِ تُوْرِثُ الْقَوْمَ أَصْعاباً بِآخِرَةٍ ... دَرَّاءَةٌ بِالْفَتَى ذِي النَّجْدَةِ الْخالِي أَقْسَمْتُ بِاللهِ أُسْقاها وَأَشْرَبُها ... حَتَّى يَفْرُقَ تُربُ الأَرْضِ أَوْصالِي (¬1) أي: لا أسقاها وأشربها، فحذف حرف النفي، ولو كان الفعل مثبتاً لجاء بنون التوكيد، والعرب تحذف حرف النفي كثيراً بعد القسم. والخمر مؤنثة، وقد تذكر، ويقال: خمرة. واعلم أن من مدح الخمر، أو حسَّن شربها لأحد، أو ألف في مدحها كتاباً أو قافية، أو حضر مجلس شربها مختاراً مطلقاً، أو غير مختار، وأمكنه الإنكار ولم ينكر، أو أقر شاربيها عليها، لقي الله تعالى يوم القيامة ولا حجة له. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَجْلِسْ عَلى مائِدَةٍ شُرِبَ عَلَيْها الْخَمْرُ". رواه الطبراني من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬2). ¬
تنبيه
* تنبِيهٌ: روى ابن عساكر بسند صحيح، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: والله ما قال أبو بكر - رضي الله عنه - شعراً قط في جاهلية ولا إسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية (¬1). أي: أعرض عنها بالكلية، لا أنه كان يشربها ثم تركها كما تقدم عن قيس بن عاصم. وكذلك ما أخرجه أبو نعيم بسند جيد، عن عائشة قالت: لقد حرم أبو بكر على نفسه الخمر في الجاهلية (¬2). ويدل على ما ذكرناه: ما أخرجه ابن عساكر عن أبي العالية قال: قيل لأبي بكر رضي الله تعالى عنه في مجمع من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل شربت الخمر في الجاهلية؟ فقال: أعوذ بالله. فقيل: ولِمَ؟ قال: كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي؛ فإن من شرب الخمر كان مضيعاً في عرضه ومروءته. قال: فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صَدَقَ أبُو بَكْرٍ" - مرتين (¬3). ¬
36 - ومن أعمال أهل الجاهلية
قال السيوطي: [مرسل] غريب سنداً، ومتناً (¬1). 36 - ومن أعمال أهل الجاهلية: ضرب آلات الملاهي واستماعها كالطنبور، والعود، والجنك، والسنطير، والرباب، والكمنجة، والشياب، والمزمار. وكذلك الغناء، والتصفيق بالكفين، والصفير لهواً ولعباً، واتخاذ القينات، وإباحتهن للسماع، وإيثار ذلك على ذكر الله تعالى وطاعته. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] روى ابن أبي حاتم عن عكرمة: أنه قال في تفسير الزور في الآية: لعب كان في الجاهلية (¬2). وروى الفريابي، وعبد بن حميد عن محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى أنه قال فيه: الغناء واللهو (¬3). وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة، يصفرون ويصفقون، فأنزل الله تعالى {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]. قال: والمكاء: الصفير، وإنما شبهوا بصفير الطير. ¬
والتصدية: التصفيق. وأنزل الله تعالى فيهم: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الآية. رواه ابن أبي حاتم، والضياء في "المختارة"، وغيرهما (¬1). وأخرجه بمعناه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬2). وقال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6]. روى جويبر عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في النضر بن الحارث اشترى قينة، فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه، وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه، فنزلت (¬3). وروى البخاري في "الأدب المفرد"، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"، وغيرهما عنه أنه قال في الآية: هو الغناء وأشباهه (¬4). وقال أبو الصَّهباء: سألت ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن ¬
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] قال: هو والله الغناء. رواه ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] قال: رجل يشتري جارية تغنيه ليلاً أو نهاراً (¬2). وقال عطاء الخراساني: نزلت الآية في الغناء، والطبل، والمزامير. أخرجه الحاكم في "الكنى" (¬3). وروى ابن أبي الدنيا عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ، بَعَثَنِي لأَمْحَقَ الْمَعازِفَ وَالْمَزامِيرَ، وَأَمْرَ الْجاهِلِيَّةِ وَالأَوْثانِ" (¬4). ¬
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ «وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ» تَألِيف العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة 977 هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة 1061 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى تَحقِيقَ وَدِرَاسَة لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ بِإِشْرَافِ نُورِ الدِّين طَالِب المُجَلَّد التَّاسِعُ دَارُ النَّوادِرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ (9)
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 7 - 84 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
تَابِع (13) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ وَالمُشْرِكِين
37 - ومن أعمال الجاهلية: قول الشعر المشتمل على هجاء من لا يجوز هجاؤه
تَابِع (13) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ وَالمُشْرِكِين 37 - ومن أعمال الجاهلية: قول الشعر المشتمل على هجاء من لا يجوز هجاؤه، أو على الغيبة ونحوها، أو على الفخر بالأنساب، أو الطعن فيها، أو على مدح ما لا يجوز مدحه، أو على أوصاف امرأة مخصوصة، أو على نياحة، أو غير ذلك من المحرمات. وعليه يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحاً خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْراً" (¬1). قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]. قال عكرمة رحمه الله تعالى: تهاجى شاعران في الجاهلية، وكان مع كل واحد منهم قيام من الناس، فأنزل الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]. رواه ابن أبي حاتم (¬2). وقال قتادة: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}: الشياطين (¬3). ¬
تنبيه
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] قال: يمدحون قوماً بباطل، ويشتمون قوماً بباطل (¬1). وقال مجاهد: {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225]: في كل فن يفننون (¬2). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]: هم الكفار يتبعون ضلال الجن والإنس. {في كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225]: في كل لغو يخوضون. {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226]: أكثر قولهم يكذبون. رواهما ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬3). * تنبِيْهٌ: روى الطبراني، والخطيب، وابن عساكر عن فروة بن سعيد بن [عفيف بن] معد يكرب، عن أبيه، عن جده: أنَّ امْرَأ القيس بن حجر ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ذاكَ رَجُلٌ مَذْكُورٌ فِي الدُّنْيا، مَنْسِيٌّ فِي الآخِرَةِ، شَرِيفٌ فِي الدُّنْيا، خامِلٌ فِي الآخِرَةِ، يَجِيْءُ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَعَهُ لِواءُ الشُّعَراءِ، ¬
38 - ومن قبائح الجاهلية: الخوض في الباطل.
يَقُودُهُمْ إِلَى النَّارِ" (¬1) 38 - ومن قبائح الجاهلية: الخوض في الباطل. قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 38 - 51]. قال قتادة في قوله: {عَنِ التَّذْكِرَةِ} [المدثر: 49]: القرآن. أخرجه ابن المنذر (¬2). ويحتمل أن يريد التذكرة بما ذكره لهم في الآية من أن أهل النار يخبرون بما تحققوه من أن السبب في دخولهم سَقر في ترك الصلاة والزكاة، والخوض في الباطل، والتكذيب بيوم الحساب، والإصرار على ذلك حتى أتاهم اليقين؛ أي: الموت. يقول: فما لهم بعد أن قضينا عليهم جواب أهل النار لأهل الجنة عن سؤالهم إياهم عن السبب في سلكهم في سقر، لا يتذكرون بذلك ¬
فيقبلوا على مخالفة المجرمين في هذه الأمور، بل أعرضوا عن التذكرة الداعية إليها بالكلية زيادة على إعراضهم عنها، ولسؤال أهل الجنة أهل النار عن سبب دخولهم إليها مع علمهم بالحال سابقاً في الدنيا بالإيمان، وحالاً في الجنة بالعيان حكمة؛ وهي أن الله تعالى يلهمهم ذلك تحسيراً لأهل النار على ما فاتهم، وتوبيخاً لهم ليكون ذلك زيادة في عذابهم وإهانتهم، وفائدة حكاية ذلك في القرآن بالتذكير والإنذار. وقوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] يريد قريشاً؛ فإن السورة مكية، وهي من أول ما نزل، وقد كانوا في جاهليتهم يفجؤهم الإنذار بما أعده الله للمجرمين من عذاب النار، فلم يرفعوا لذلك رأساً، ولم يروا بما هم عليه من الفقر بأساً، بل أعرضوا عن الذكر، وخاضوا مع الخائضين في الباطل، كذبوا بيوم الدين، وطعنوا على سيد المرسلين، فقالوا: شاعر، ساحر، به جِنَّة، أساطير الأولين، لا تسمعوا لهذا القرآن، والغوا فيه، وغير ذلك. وكذلك فسرت: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45]. وقال قتادة في الآية: يقولون: كنا كما غوى غاوٍ غوينا معه. رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "الصمت"، والطبراني بسند صحيح، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: أعظم الناس خطايا يوم القيامة ¬
أكثرُهم خوضاً في الباطل (¬1). وأخرجه ابن أبي الدنيا - ورواته ثقات - عن قتادة مرسلاً (¬2). قال في "الإحياء": وإليه الإشارة بقوله: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45] (¬3). روى أبو نعيم عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم كلاماً في معصية الله تعالى (¬4). وروى ابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِن أكثَرَ (¬5) خَطايا ابْن آدَمَ فِي لِسانِه" (¬6). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد"، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن عمر بن ذر - مرسلاً - قال: قال ¬
39 - ومن أخلاق أهل الجاهلية: ترك الصلاة بما لا يعني، ومنع المصلي من الصلاة، ونهيه عنها، وإيذاء المصلين باللفظ وغيره.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ عِنْدَ لِسانِ كُلِّ قائِلٍ؛ فَلْيتَّقِ اللهَ عبدٌ، وَلْيَنْظُرْ ما يَقُولُ" (¬1). وأخرجه الحكيم عن ابن عباس رضي الله تعالى مرفوعاً (¬2). 39 - ومن أخلاق أهل الجاهلية: ترك الصلاة بما لا يعني، ومنع المصلي من الصلاة، ونهيه عنها، وإيذاء المصلين باللفظ وغيره. كما يدل عليه قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43]. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]. وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 9 - 18]. روى مسلم، والنسائي، وآخرون عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال أبو جهل: هل يُعَفِّرُ محمدٌ وجهه إلا بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأنَّ على رقبته، ¬
ولأعفِّرن وجهه في التراب. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ليطأ على رقبته، قال: فما فجئهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً، وأجنحة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ دَنا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ الْمَلائِكَةُ عُضْواً عُضواً". قال: وأنزل الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] إلى آخر السورة، يعني: أبا جهل، {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17]؛ يعني: قومه، {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18] يعني: الملائكة (¬1). وروى الإمام أحمد، والترمذي وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فجاء أبو جهل: ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ قال: فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فزبره، فقال أبو جهل: إنك لتعلم: ما بها رجلٌ أكثر نادياً مني، فأنزل الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 17، 18]. قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله (¬2). ¬
40 - ومن عادات أهل الجاهلية: التحلق في المساجد والمعابد لأجل السمر وحديث الدنيا، لا لأجل الصلاة والعبادة، واللغو عند سماع القرآن، واللغط في مجالس الذكر.
روى ابن أبي شيبة، والمفسرون عن عبد الله بن الحارث رحمه الله تعالى قال: الزبانية أرجلهم في الأرض، ورؤوسهم في السماء (¬1). 40 - ومن عادات أهل الجاهلية: التحلق في المساجد والمعابد لأجل السَّمر وحديث الدنيا، لا لأجل الصلاة والعبادة، واللغو عند سماع القرآن، واللغط في مجالس الذكر. قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 66، 67] (¬2). قال ابن عباس في قوله: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67]: كانت قريش يتحلقون حلقاً حلقاً يتحدثون حول البيت. وقال سعيد بن جبير: كانت قريش تسمُر حول البيت، ولا يطوفون به، ويفتخرون به، فأنزل الله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا} [المؤمنون: 67] بالبيت الحرام (¬3). رواهما ابن أبي حاتم. وروى هو والنسائي، وصححه الحاكم، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} بالبيت؛ تقولون: نحن أهله، ¬
تهجرونه ولا تعمرونه (¬1). قلت: وهذا حال من يقعدون في هذه الأزمنة في المساجد - مسجد دمشق وغيره - خصوصاً بين المغرب والعشاء، يتحلقون ويتكلمون في الدنيا، ويقولون الْهُجر - بالضم - أي: الباطل، والمكر. وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمانِ قَوْم يَجْلِسُونَ فِي الْمَساجِدِ حِلَقاً حِلَقاً، إِمامُهُمُ الدّنْيا، فَلا تُجالِسُوهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حاجَةٌ" (¬2). وهو عند أبي نعيم، ولفظه: "سَيَأْتِي عَلَى الزَّمانٌ زَمانٌ يَقْعُدُونَ فِي الْمَساجِدِ حِلَقاً حِلَقاً [إنما همتهم الدنيا] (¬3) فَلا تُجالِسُوهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حاجَةٌ" (¬4). وروى البيهقي في "الشعب" عن الحسن - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمانٌ يَكُونُ حَدِيثُهُمْ فِي مَساجِدِهِمْ فِي أَمْرِ دُنْياهُمْ، فَلا تُجالِسُوهُمْ؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ بِهِمْ حاجَةٌ" (¬5). ¬
41 - ومن أخلاقهم: منع الحقوق الواجبة كالزكاة، وصلة الأرحام، والديون، والنهي عن فعل ذلك، والحيلولة بين المتصدق والصدقة.
وهو عند الحاكم في "المستدرك" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتِي عَلى النَّاس زَمانٌ يَتَحَلَّقُونَ فِي مَساجِدِهِمْ وَلَيْسَ هَمُّهُمْ إِلاَّ الدُّنْيا، لَيْسَ لِلَّهِ بِهِمْ حاجَةٌ فَلا تُجالِسُوهُمْ" (¬1). 41 - ومن أخلاقهم: منع الحقوق الواجبة كالزكاة، وصلة الأرحام، والديون، والنهي عن فعل ذلك، والحيلولة بين المتصدق والصدقة. قال الله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 43، 44]. وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 47]. قال في "الكشاف": نزلت في مشركي قريش حين قال لهم فقراء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطونا مما زعمتم من أموالكم أنها لله؛ يعنون قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136]، فحرموهم، وقالوا: لو شاء الله أطعمكم (¬2). وقال الله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 4 - 11]. ¬
روى ابن أبي حاتم، وغيره عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن أبا بكر اشترى بلالاً رضي الله تعالى عنهما من أمية بن خلف، وأبي بن خلف ببردة وعشر أواق، فأعتقه لله تعالى، فأنزل الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إلى قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 1 - 4]؛ يعني: سعي أبي بكر، وأمية بن خلف (¬1). روى عبد بن حميد، وغيره عن ابن عباس في قوله {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 5، 6] قال: أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 8، 9] قال: أبو سفيان بن حرب حين كان في جاهليته (¬2). أما ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من فك العاني، وقِرى الضيف، والمنائح، والصِّلات، ونحو ذلك من مكارم الأخلاق، فهو إما للرياء والسمعة، وهذا خلق جاهلي، وإما لمقتضى السليقة، وهذا ممدوح، لكن لا يثابون عليه لكفرهم؛ فإنهم لا يريدون به وجه الله. نعم، من أسلم منهم وكان متخلقاً بهذه الأخلاق، فاستصحبها في الإسلام، كان من خيار الناس وصفوتهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "النَّاسُ مَعادِنٌ ¬
42 - ومن أخلاقهم: التعبد والتقرب إلى الله تعالى بما لم يرد به الشرع، بل لمجرد الرأي والهوى
كَمَعادِنِ الذَّهبِ وَالْفِضَّةِ؛ خِيارُهُمْ فِي الْجاهِلِيَّةِ خِيارُهُمْ فِي الإِسْلامِ إِذا فَقُهُوا". رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). 42 - ومن أخلاقهم: التعبد والتقرب إلى الله تعالى بما لم يرد به الشرع، بل لمجرد الرأي والهوى. وهذا من أعظم أخلاقهم وأعمها، وبه يتحقق معنى الجاهلية. وأبلغ ما كان هنا الخلق مستحكماً من الناس في أزمنة الفترات، ولا سيما الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. ولا خفاء أن النبي المبعوث بعد الفترة أقوى حالاً وأشد عزماً ممن كان يبعث في غير زمان الفترة؛ حيث كان الدين قائماً لسد خلل ما. ومن ثم كان الأصح في محمد أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام أنهم كانوا خمسة؛ نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليهم وسلم؛ لأن نوحاً عليه السلام بعث على فترة من الناس كانت بعد آدم عليه الصلاة السلام، وإبراهيم عليه السلام على فترة بعد صالح عليه السلام، وموسى عليه السلام بعث على فترة كانت بعد يوسف عليه السلام، وعيسى عليه السلام بعث على فترة كانت بعد آل داود من بني إسرائيل، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بعث على فترة كانت بعد عيسى عليه السلام. ¬
روى البخاري عن عطاء بن يسار رحمه الله تعالى قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما؛ قلت: أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: أجل والله؛ إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن؛ يا أيها النبي! إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحِرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سَخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعيناً عُمياً، وآذاناً صُمًّا، وقلوباً غُلْفاً (¬1). وروى أبو نعيم في "الدلائل" عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى شعيب عليه السلام: إني باعث نبياً أمياً أفتح به آذاناً صماً، وقلوباً غُلْفاً، وأعيناً عمياً، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، عبدي المتوكل، المصطفى، المرفوع، الحبيب، المتحبب، المختار، لا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، رحيماً بالمؤمنين، يبكي للبهيمة المثقلة، ويبكي لليتيم في حجر الأرملة، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سَخَّاب في الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قَوَّال بالخَنَا، لو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته، ولو مشى على القصب الرعراع - يعني: اليابس - لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشراً ¬
تنبيه
ونذيراً، أسدوه لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمغفرة والمعروف خُلُقَه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به من بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأسمي به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العَيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب وأهواء مشتتة وأمم مختلفة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس (¬1). * تَنْبِيْهٌ: أشبه الأيام بأيام الجاهلية الأيام التي يخرج عقبها المهدي؛ فإنه لا يخرج حتى تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، وفتناً واختلافاً. روى نعيم بن حماد في "الفتن" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله! المهدي منا أئمةَ الهدى، أم من غيرنا؟ قال: "بَلْ مِنَّا؛ بِنا يُخْتَمُ الدِّينُ كَما بِنا فُتِحَ، وَبِنا يُسْتَنْقَذُونَ مِنْ ضَلالَةِ الْفِتْنَةِ كَما اسْتُنْقِذُوا مِنْ ضَلالَةِ الشِّرْكِ، وَبِنا يُؤَلَّفُ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فِي الدّينِ بَعْدَ عَداوَةِ الْفِتْنَةِ كَما ألَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَدِيْنهِمْ بَعْدَ عَداوَةِ الشِّرْك" (¬2). ¬
تنبيه آخر
* تَنْبِيهٌ آخَرُ: كل شيء يعمله العبد متعبداً به ولم يرد به الشرع - وإن لم يكن معروفاً من تعبدات الجاهلية - فهو به متشبه بأهل الجاهلية، عابدٌ لله تعالى على حرف - أي: جهل - فمن ثم كان العلم من أفضل العبادات، وأشرف الطاعات، وعظم فضل العالم وعلا مقامه كان قل اشتغاله بالنوافل. ومن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَوْمٌ عَلى عِلْمٍ خَيْر مِنْ صَلاةٍ عَلى جَهلٍ". وراه أبو يعلى، وأبو نعيم عن سلمان رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى الطبراني في "الكبير"، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب"، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا ابْنَ مَسْعُودٍ! أَيُّ عُرى الإِيْمانِ أَوْثَقُ؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "أَوْثَقُ عُرى الإِيْمانِ الْولايَةُ فِي اللهِ، وَالْحُبُّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللهِ". ثم قال: "يا ابْنَ مَسْعُودٍ! أتدْرِي أَيَّ النَّاسِ أَفْضَلَ؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. ¬
43 - ومن أخلاق الجاهلية: التقرب إلى الله تعالى بالسكوت؛ وإن كان هذا شرعا سابقا.
قال: "فَإِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ أَفْضَلُهُمْ عَمَلاً إِذا فَقُهُوا فِي دِيْنِهِمْ". ثم قال: "يا ابْنَ مَسْعُودٍ! أتدْرِي أَيَّ النَّاسِ أَعْلَمَ؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "إِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحقِّ إِذا اخْتَلَفَ فِيْهِ النَّاسُ؛ وَإِنْ كانَ مُقَصِّراً فِي عَمَلِهِ، وإِنْ كانَ يَزْحَفُ عَلى اسْتِهِ زَحْفاً" (¬1). وقلت في معنى الجملة الأخيرة: [من المديد] أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُ النَّاسِ بِالْحَقِّ ... إِذا ما رَأَيْتَ فِي النَّاسِ خُلْفا ذاكَ ما ضَرَّهُ وَلا نالَ مِنْهُ ... نَقْصُ أَعْمالِهِ وَإِنْ سارَ زَحْفا 43 - ومن أخلاق الجاهلية: التقرب إلى الله تعالى بالسكوت؛ وإن كان هذا شرعاً سابقاً. وإنما الصمت المأخوذ به في الشريعة عن الهُجر، والغيبة، والنميمة، والكذب، وما لا يعني، ونحوها، وأما التعبد بنفس السكوت فليس من هذه الشريعة. روى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه على امرأة من أحمس يقال لها: زينب، فرآها ¬
لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة. فقال لها: تكلمي؛ فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت (¬1). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن زينب بنت المهاجر الأحمسية قالت: خرجت حاجة ومعي امرأة، فضربت علي فسطاطاً، ونذرت أن لا أتكلم، فجاء رجل فوقف على باب الخيمة، فقال: السلام عليكم، فردت عليه صاحبتي، فقال: ما شأن صاحبتك لم ترد علي؟ قالت: إنها مصمت، إنها نذرت أن لا تتكلم. قال: تكلمي؛ فإنما هذا من فعل الجاهلية. قالت: فقلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: امرؤ من المهاجرين. قلت: من أي المهاجرين؟ قال: من قريش. قلت: من أي قريش؟ قال: إنكِ السؤول، أنا أبو بكر. قلت: يا خليفة رسول الله! إنا كنا حديثي عهد بجاهلية، لا نأمن ¬
بعضنا بعضنا، وقد جاء الله من الأمن مما ترى، فحتى متى يدوم لنا؟ قال: ما صلحت أئمتكم. قلت: من الأئمة؟ قال: أليس في قومك أشراف يطاعون؟ قلت: بلى. قال: أولئك الأئمة (¬1). وروى أبو داود بإسناد حسن، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُتْمَّ بعْدَ احْتِلامٍ، وَلا صماتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ" (¬2). قال الخطابي في هذا الحديث: كان أهل الجاهلية من نسكهم الصمات، وكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة، فيصمت ولا ينطق، فنُهوا - يعني: في الإسلام - عن ذلك، وأمروا بالذكر والحديث في الخير، انتهى (¬3). وأما قوله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26]؛ أي: صمتاً، فإنه شرع من قبلنا، ولا يلزمنا الأخذ ¬
44 - ومن أخلاقهم: الغزو لأجل المعصية والتجبر، وطلب الدنيا كما هو معلوم من أعمالهم، والأعراب الآن على دعواهم الإسلام يفعلون ذلك، وإن اعتقد بعضهم حرمته.
به على الأصح. وإن قلنا بالثاني فيلزمنا (¬1) الأخذ بشرع من قبلنا إلا إذا لم [ينهَ] (¬2) عنه في شرعنا، وقد نهينا عن صمت يوم إلى الليل كما علمت؛ نبه عليه النووي في "شرح المهمات" (¬3). 44 - ومن أخلاقهم: الغزو لأجل المعصية والتجبر، وطلب الدنيا كما هو معلوم من أعمالهم، والأعراب الآن على دعواهم الإسلام يفعلون ذلك، وإن اعتقد بعضهم حرمته. 45 - ومنها: حمل الرؤوس المقطوعة من بلد إلى بلد. وهذا والذي قبله وافق فيه أهل الجاهلية الأعاجم، وفعل ذلك بالرؤوس التي قطعت بحق ليس بمحرم إلا إن كان رأس مسلم؛ فإنه مُثلة، بل هو خلف الأولى. روى البيهقي عن الزهريّ قال: لم يحمل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة رأس قط إلا يوم بدر، وحمل إلى أبي بكر - رضي الله عنه - رأس فأنكر ذلك، وقال: وأول من حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما (¬4). وروى محمد بن زكريا الغلابي البصري في كتاب "أخبار زياد" ¬
عن الشعبي قال: لم يحمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا إلى أبي بكر، ولا إلى عمر، ولا إلى عثمان، ولا إلى علي رضي الله تعالى عنهم رأس، وأول من حمل رأسه عمرو بن الحمق حُمل رأسه إلى معاوية (¬1). وروى البيهقي عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه: أن عمرو ابن العاص، وشرحبيل بن حسنة بعثا عقبة بريداً برأس يناق بطريق الشام، فلما قدم على أبي بكر أنكر ذلك، فقال: يا خليفة رسول الله! إنهم يفعلون ذلك بنا. قال: أتأسياً واستنانًا بفارس والروم! لا يحمل إلي برأس، وإنما يكفي الكتاب والخبر (¬2). وعن معاوية بن خديج قال: هاجرنا على عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فبينما نحن عنده إذ طلع المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، قال: إنه قدم علينا برأس [يناق] البطريق، ولم يكن لنا به حاجة؛ إنما هذه سنة المعجم (¬3). وروى النسائي بسند صحيح، عن فيروز الديلمي رضي الله تعالى عنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - برأس الأسود العنسي (¬4). ¬
وهو وَهْمٌ (¬1) كما قال أبو أحمد الحاكم في "الكنى"؛ لأن الأسود قتل في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه سنة إحدى عشرة (¬2). وأما ما رواه أبو نعيم في "المعرفة" عن معاذ بن عمرو بن الجموح: أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه حزَّ رأس أبي جهل، وجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وما رواه البيهقي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: جئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأس مرحب (¬4)، فليس فيها أنه حمل من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام كما قال البيهقي (¬5). ¬
46 - ومن أعمال أهل الجاهلية
وفي "مراسيل أبي داود" عن أبي نضرة العبدي قال: لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العدو، فقال: "مَنْ جاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ عَلى اللهِ ما تَمَنَّى"، فجاءه رجلان برأس. الحديث. قال أبو داود: في هذا أحاديث، ولا يصح منها شيء (¬1). قال البيهقي: وهذا إن ثبت فإن فيه تحريضاً على قتل العدو، وليس فيه حمل الرأس من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام (¬2). وروى أبو حفص بن شاهين في "أفراده" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: إن أول رأس علق في الإسلام رأسُ أبي عزَّة الجمحي؛ ضرب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رأسَه بأُحد (¬3). كما أخرجه البيهقي عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى (¬4). 46 - ومن أعمال أهل الجاهلية: ما كانت العرب تفعله في الحج من الأمور المخالفة لمناسك إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وذلك أن العرب كانوا على دينين: حلة، وحميس. فالحميس: قريش وكل من ولدت من العرب، وكانت قريش إذا أنكحوا غريباً امرأة منهم اشترطوا عليه أن كل من ولدت له فهو ¬
أحمسي على دينهم. وكانت نساء الحميس لا ينسجن ولا يغزلن الشعر إذا أحرمن، وكانوا إذا أحرموا لا يأقطون الأقط، ولا يأكلون الزبد، ولا السمن، ولا يسلونه، ولا يمخضون اللبن، ولا يلبسون الوبر ولا الشعر، ولا يستظلون به ما داموا حُرُماً، وإنما يستظلون بالأدم، ولا يأكلون شيئاً من نبات الحرم، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم، ولا يخفرون فيها الذمة، ولا يظلمون فيها. وكانوا إذا أحرم الرجل منهم فإن كان من أهل المَدَر نقب نقباً في ظهر بيته، فمنه يدخل ومنه يخرج، ولا يدخل من بابه ولا يخرج، ولا يجوز تحت أسكفة بابه ولا عارضته، فإن أرادوا بعض أطعمتهم ومتاعهم تسوَّروا من ظهور بيوتهم وأدبارها، فنزلوا إلى حجرهم (¬1). وكانوا على ذلك حتى بعث الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فأحرم عام الحديبية، فدخل بيته وكان معه رجل من الأنصار، فوقف الأنصاري على الباب، فقال له: "أَلا تَدْخُلُ"؟ فقال: إني أحمسي يا رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَأَنا أَحْمَسِيّ، ديني وَدِيْنُكَ سَواءٌ". فدخل الأنصاري، فأنزل الله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ ¬
مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] (¬1). وكانت الحمس يقولون: لا تعظِّموا شيئاً من الحل، ولا تجاوزوا الحرم في الحج، وقصروا عن مناسك الحج والموقف من عرفة وهو من الحل، فلم يكونوا يقفون ولا يفيضون منه، وجعلوا موقفهم في طرف الحرم، من نَمِرة بمفضى المَأْزمين، يقفون به عشية عرفة، ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة، ويفيضون منه إلى المزدلفة (¬2). وقد أمر الله تعالى بمخالفتهم في ذلك، فأمر بالوقوف بعرفة والإفاضة منها، فقال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198، 199]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحَجُّ عَرَفةُ". رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن (¬3). وكانت الحلة يدفعون من عرفة والخمس من أطراف الحرم إذا ¬
طفلت الشمس للغروب، وكانت على رؤوس الرجال كأنها عمائم الرجال في وجوههم، فيبيتون جميعاً بمزدلفة حتى إذا كان في الغلس وقفت الحلة والحمس جميعاً على قزح، فلا يزالون عليه حتى إذا طلعت الشمس وصارت على رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم دفعوا من مزدلفة، وكانوا يقولون: أشرق ثبير كي ما نغير (¬1). فلما حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم عرفة كما روى الطبراني بسند صحيح، عن المِسْور بن مَخْرمة رضي الله تعالى عنهما قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أَمَّا بَعْدُ! فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالأَوْثانِ كانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ هَذا الْمَوْقف إِذا كانَتِ الشَّمْسُ عَلى رُؤُوسِ الْجِبالِ كَأَنَّها عَمائِمُ الرِّجالِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَإِنَّا لا نَدْفَعُ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَغِيْبَ الشَّمْسُ، وَكانُوا يَدْفَعُونَ مِنَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ إِذا كانَتِ الشَّمْسُ مُنْبَسِطَةً" (¬2). وفي رواية غيره: "وإِنَّاَ لا نَدْفَعُ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَيَحِلَّ فِطْرُ الصَّائِمِ، وَنَدْفَعُ مِنْ مُزْدلِفَةَ غَداً إِنْ شاءَ اللهُ تَعالَى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ هَدْيُنا مُخالِفٌ لِهَدْيِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالأَوْثانِ" (¬3). وروى الأئمة الستة رحمهم الله تعالى عن عمرو بن ميمون قال: ¬
47 - وكان من عادة الجاهلية
سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بجَمْع بعد ما صلى الصبح وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس [ويقولون]: أشرق ثبير، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالفهم، فأفاض قبل طلوع الشمس (¬1). 47 - وكان من عادة الجاهلية: ما يتفق الآن من جهلة الناس وعامتهم من سرعة السير، والإيضاع (¬2)، والازدحام عند الدفع من عرفات، والشريعة جاءت بالسكينة في السير. وصحح الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنما بدء الإيضاع من أهل البادية؛ كانوا يقفون حافتي الناس قد علقوا القباب والعصي، فإذا أفاضوا تقعقعوا، فأنفرت الناس، فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن ظفري ناقته لا يمس الأرض، وهو يقول: "يا أيُّها النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ" (¬3). وفي "صحيح البخاري" عنه: أنه دفع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وراءه زجراً شديداً، وضرباً للإبل، فأشار بسوط إليهم، وقال: "يا أيُّها النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ؛ فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإِيضاعِ" (¬4). ¬
وروى الشيخان، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أنه سئل: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير حين أفاض من عرفة - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أردفه من عرفات -؟ قال: كان يسير العَنَق، فإذا وجد فُرجة نَصَّ (¬1). وكانت الحمس يطوفون بالبيت وعليهم ثيابهم، وكانت الحلة يطوفون بالبيت عراة؛ الرجال بالنهار، والنساء بالليل، إلا من استعار ثوباً من أحمس. وكانت المرأة منهم إذا طافت عريانة وضعت إحدى يديها على قُبُلها، والأخرى دبرها تقول: [من الرجز] الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَما بَدا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ (¬2) وكان إذا بلغ أحدهم باب المسجد [قال للحمس]: من يعير مصوباً، من يعير معوزاً، فإذا أعاره أحمسي ثوبه طاف فيه، وإلا ألقى ثيابه بباب المسجد، ثم طاف عرياناً، وكانوا يقولون: لا نطوف في ¬
الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، ثم يرجع إلى ثيابه فيجدها لم تتحرك إلا أن يتكرم منهم متكرم فيطوف في ثيابه، فإذا طاف فيها لم يحل له أن يلبسها، ولا ينتفع بها، ويطرحها لَقىً لا يمسها أحد من خلق الله تعالى حتى تبليها الشمس والأمطار، ووطء الأقدام. وفيه يقول ورقة بن نوفل الأسدي: [من الطويل] كَفَى حَزَناً كَرْبِي عَلَيْهِ بِأنَّنَي ... لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ (¬1) أي: لا يمس. قال في "الصحاح": واللقى - بالفتح؛ أي: والقصر - الشيء الملقى لهوانه، والجمع: الألقاء. وقد أبطل الله - عز وجل - ما كان عليه أمر الجاهلية بقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. وأذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت هذه الآية: ألا لا يطوف بالبيت عريانٌ (¬2). وروى عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن عطاء رحمه الله تعالى قال: كان المشركون في الجاهلية يطوفون بالبيت عراة، فأنزل الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] (¬3). ¬
وروى ابن أبي شيبة، ومسلم، والنسائي، والمفسرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، وتقول: من يعيرني تطوافاً تجعله على فرجها، وتقول: [من الرجز] الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَما بَدا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ (¬1) وفي لفظ: إن النساء كن يطفن عراة إلا أن تجعل المرأة على فرجها خرقة، وتقول: اليوم ... إلى آخره، فنزلت هذه الآية {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] (¬2). وكانوا في الجاهلية يطوفون على الشمال. روى عبد بن حميد عن عكرمة قال: كان المشركون يطوفون بالبيت على الشمال، وهو قوله تعالى {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]؛ فإنها مثل نفخ البوق والتصدية طوافهم على الشمال (¬3). وكانوا في الجاهلية منهم من يسعى بين الصفا والمروة، ومنهم من كان يتحرج عن ذلك، فلما جاء الإسلام تحرج ناس عن ذلك، ¬
ورأوا أنه من أمر الجاهلية، فأنزل الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. روى الأئمة مالك، وأحمد، والشيخان، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن عروة: أنه قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] لا أرى على أحد جناحاً أن يطوف بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي! إنها لو كانت على ما أولتها كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يُهِلُّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهل بها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا} [البقرة: 158] الآية. قالت عائشة: ثم سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما (¬1). ¬
وروى مسلم، والترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: [كان] رجال من الأنصار ممن كان يهل لمناة في الجاهلية. ومناة: صنم بين مكة والمدينة. قالوا: يا نبي الله! إن كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما؟ فأنزل الله الآية (¬1). وكانوا لا يتبايعون في يوم عرفة ولا في أيام منى، فلما جاء الإسلام أحلَّ الله ذلك، فنزل {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]. وفي قراءة أبي بن كعب - رضي الله عنه -: في مواسم الحج؛ يعني: منى وعرفة (¬2). روى البخاري، والمفسرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثَّموا أن يتَّجروا في المواسم، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج (¬3). وروى عبد بن حميد عن قتادة رحمه الله تعالى في الآية قال: كان ناس من أهل الجاهلية يسمون ليلة النفر ليلة الصدر، وكانوا لا يعرجون ¬
على كسير، ولا ضالة، ولا لحاجة، ولا يبتغون فيها تجارة، فأحل الله تعالى ذلك كله للمؤمنين أن يعرجوا على حاجاتهم، ويبتغوا من فضل الله تعالى (¬1). وكانوا يذكرون فعل آبائهم في الجاهلية إذا وقفوا بعرفة، فأنزل الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة: 200] كما روى ابن جرير عن سعيد بن جبير، وعكرمة (¬2). وأخرج عن مجاهد قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة، فذكروا آباءهم، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم، فنزلت (¬3). وروى ابن أبي حاتم، والضياء في "المختارة" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الرايات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله تعالى الآية (¬4). ¬
وكانوا يرون أن أفجر الفجور العمرةُ في أشهر الحج، فبطل ذلك بالإسلام (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيامَةِ". رواه مسلم، وأبو داود عن جابر، وأبو داود، والترمذي عن ابن عباس (¬2). فاعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُمَرَهُ كلها في ذي القعدة (¬3). وفي كتاب الله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]. قال ابن عباس: يقول: فمن أحرم بالعمرة في أشهر الحج. رواه المفسرون (¬4). وروى عبد بن حميد عن الضحاك رحمه الله تعالى قال: التمتع: الاعتمار في أشهر الحج (¬5). ¬
وعن مجاهد قال: كان أهل الجاهلية إذا حجوا قالوا: إذا عفا الوَبَر، وتولى الدَّبَر، ودخل صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فأنزل الله التمتع بالعمرة تغييراً لما كان أهل الجاهلية يصنعون، وترخيصاً للناس (¬1). وروى أبو داود - وأصله في البخاري - عن ابن عباس قال: والله ما أعمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة في ذي الحجة إلا لينقطع بذلك لسن أهل الشرك؛ فإن هذا الحي من قريش مَنْ دان دينهم كانوا يقولون: إذا عفا الوبر، وبَرأَ الدبر، ودخل صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر، وكانوا يحرمون بالعمرة حين ينسلخ ذو الحجة والمحرم (¬2). وكان عمرو بن لحي - وهو أول من بدل ملة إبراهيم عليه السلام - غيَّر تلبية إبراهيم عليه السلام؛ بينما هو يسير على راحلته في بعض مواسم الحج وهو يلبي إذ مثل له إبليس في سورة شيخ نجدي على بعير أصهب، فسايره ساعة، ثم لبى إبليس: لبيك اللهم لبيك، فقال عمرو بن لحي مثل ذلك، فقال إبليس: لبيك لا شريك لك، فقال عمرو بن لحي مثل ذلك، فقال إبليس: إلا شريك هو لك، فقال عمرو: ما هذا؟ فقال إبليس لعنه الله: إن بعد هذا ما يصلحه إلا شريك ¬
هو لك، تملكه وما ملك، فقال عمرو: ما أرى؛ فلباها، ولبى الناس على ذلك، فكانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك (¬1). وفي ذلك - كما رواه ابن جرير، وابن المنذر عن الضحاك - أنزل الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] (¬2). ولم تزل تلك تلبيتهم حتى جاء الإسلام، ولبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبية إبراهيم عليه السلام، فلباها المسلمون. وكان من سنتهم أن الرجل يحدث الحدث يقتل، أو يلطم، أو يضرب، فيربط لحاة من لحا الحرم زيادة في رقبته، ويقول: أنا صرورة، فيقال: دعوا الصرورة بجعله، وإن رمي بحصره في رجله فلا يعرض له أحد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَرُورَةَ فِي الإِسْلامِ، وإِنَّ مَنْ أَحْدَثَ حَدثاً أُخِذَ بِحَدَثِهِ". رواه الأزرقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬3). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه: حديث: "لا صَرورَةَ فِي الإِسْلامِ" عن ابن عباس (¬4). وفي "القاموس": إن الصرورة الذي لم يحج، واقتصر عليه (¬5). ¬
وكانوا يمنعون الصرورة من العمرة حتى يحج، فجاء الإسلام بخلافه. روى الإمام أحمد - ورواته ثقات - عن أبي عمران بن أسلم: أنه قال لأم سلمة رضي الله تعالى عنها: أعتمر قبل أن أحج؟ قالت: قبل أن تحج، وإن شئت فبعد أن تحج. قال: فقلت: إنهم يقولون من كان صرورة فلا يصلح أن يعتمر قبل الحج، فسألت أمهات المؤمنين فقلن مثلما قالت. ثم رجع إليها فقالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَهِلُّوا يا آلَ مُحَمَّدٍ بِالْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ" (¬1). وأخرجه الطبراني باختصار إلا أنه قال: "أَهِلُّوا يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ" (¬2). وتقدم في الصرورة تفسير آخر، وهو الذي يتبتل ويتنزه عن النكاح على طريقة رهبانية النصارى. وحكى الأزهري في "شرح ألفاظ مختصر المزني" القولين: أنه الذي لم يحج، وأنه الذي لم يتزوج ولم يأت النساء. وأنشد للنابغة: [من الكامل] ¬
48 - ومن أفعال أهل الجاهلية: الفسوق، والرفث، والجدال في الحج.
لَوْ أَنَّها عَرَضَتْ لأَشْمَطَ راهِبٍ ... - عَبَدَ الإِلَهَ - صَرُوْرَةٍ مُتَعَبِّدِ قال: وقيل للذي لم ينكح: صرورة لصره على ماء ظهره به إياه. وقيل للذي لم يحج: صرورة؛ لصره على نفقته التي يبلغ بها إلى الحج، انتهى (¬1). وحكى الزمخشري في "الفائق" صارورة لغة في الصرورة؛ قال: ونظيره الضرورة والضارورة؛ يعني: بالمعجمة (¬2). قال في "القاموس": والضرورة الحاجة، كالضارورة والضارور، والضاروراء (¬3). وقال في الصاد المهملة: ورجل صرورة، وصرارة، وصارورة، وصارورى، وصروري، وصاروراء، والجمع: صرارة، وصرار (¬4). 48 - ومن أفعال أهل الجاهلية: الفسوق، والرفث، والجدال في الحج. قال الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإِعْرابُ وَالتَّعْرِيضُ لِلنِّساءِ ¬
بِالْجِماعِ وَالْفُسُوقُ وَالْمَعاصِي كُلُّها، وَالْجِدالُ جِدالُ الرَّجُلِ صاحِبَهُ". أخرجه الطبراني (¬1). وكره طاوس الإعراب للمحرم، قيل: وما الإعراب؟ قال: يقول: لو أحللت قد أصبتك. رواه ابن أبي شيبة (¬2). وروى ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى في الآية قال: الجدال: كانت قريش إذا اجتمعت بمنى، قال هؤلاء: حجنا أتم من حجكم، وقال هؤلاء: حجنا أتم من حجكم (¬3). وعن ابن زيد هنا قال: كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون، كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم عليه السلام، فقطعه الله حين أعلم نبيه بمناسكهم (¬4). وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَجَّ هَذا الْبَيْتَ فَلَم يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ¬
49 - ومنها: الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.
ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" (¬1). 49 - ومنها: الحكم بغير ما أنزل الله تعالى. بل لمجرد لرأي أو الهوى يخبط خبط عشواء، فربما أخذ حق هذا فأعطاه هذا، وربما ألزم بما لم يلزم، وربما حكم للشريف على الوضيع والحق مع الوضيع، أو للفقير على الغني - أي: بعكسه - والحق مع الآخرين ترفقاً للفقير، أو ميلاً إلى الغني. والشرع إنما جاء بإجراء الحق على مقتضاه على الشريف والوضيع، والغني والفقير، والقوي والضعيف؛ يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]. قال الله تعالى مقرعاً لليهود حين أرادوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بينهم بما كان عليه الجاهلية من التفاضل بين القتلى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. قال السدي رحمه الله تعالى: الحكم حكمان: حكم الله، وحكم الجاهلية، ثم تلا الآية. رواه أبو الشيخ (¬2). وقال قتادة رحمه الله تعالى: إن أهل الجاهلية كان يأكل شديدهم ¬
ضعيفهم، وعزيزهم ذليلهم. رواه عبد بن حميد (¬1). وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ مُتَّبعٌ فِي الإِسْلامِ سُنَّةَ الْجاهِلِيَّةِ، وَطالِبٌ دَمَ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُرِيقَ دَمَهُ" (¬2). وفسر البيضاوي حكم الجاهلية بالميل والمداهنة في الحكم (¬3). وروى البيهقي في "الدلائل" عن أبي عذبة الحضرمي قال: جاء رجل إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فأخبره أن أهل العراق قد حَصَبوا إمامهم، وكان عَوَّضهم به مكان إمام كان قبله، فخرج غضبان، فصلى فسها في صلاته، فلما سلم قال: يا أهل الشام! استعدوا لأهل العراق؛ فإن الشيطان قد باض فيهم وفرَّخ. ثم قال: اللهم قد ألبَسُوا علي فَأَلْبِسْ عليهم، وعجل عليهم بالغلام الثقفي الذي يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم. قال ابن لهيعة: وما ولد الحجاج يومئذ (¬4). ¬
50 - ومنها: ترك العدل في عطية أولاده؛ فإن السنة أن يساوي بينهم.
قال البيهقي: لا يقول عمر ذلك إلا توقيفاً (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن الحسن قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: اللهم كما ائتمنتهم فخانوني، ونصحتهم فغشوني، فابعث عليهم غلامَ ثقيفٍ يحكم في دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية (¬2). 50 - ومنها: ترك العدل في عطية أولاده؛ فإن السنة أن يساوي بينهم. كان طاوس رحمه الله تعالى إذا سئل عن التفضيل بين الأولاد في العطية قرأ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}. أخرجه ابن أبي شيبة (¬3). وروى الإمام الشافعي في "الأم"، والشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما: أن أباه أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي. فقال: "أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَ هَذا؟ " قال: لا. قال: "أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ سَواءً؟ " قال: نعم. ¬
51 - ومنها: التبني بحيث يعتقد أنه يؤثر في إرثه أو محرمية.
قال: "فَارْتَجِعْهُ" (¬1). وفي رواية للبخاري قال: "فَاتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ" (¬2). وأخرجه ابن أبي شيبة، ولفظه: انطلق بي أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليُشهده على عطيةٍ أعطانيها، قال: "لَكَ غَيْرُهُ؟ " قال: نعم. قال: "كُلَّهُمْ أَعْطَيْتَهُمْ مِثْلَ ما أَعْطَيْتَه؟ " قال: لا. قال: "فَلا أَشْهَدُ عَلى جَوْرٍ" (¬3). وقال إبراهيم (¬4): كانوا يستحبون أن يعدل الرجل بين ولده حتى في القُبَلِ. رواه ابن أبي شيبة (¬5). 51 - ومنها: التبنِّي بحيث يعتقد أنه يؤثر في إرثه أو محرمية. كما يتفق لبعض ذوي الأموال ممن لم يولد لهم - ولا سيما الترك - يتبنى الرجل أو المرأة ذكراً أو أنثى، ثم يعتقد أنه صار بذلك محرماً. ¬
وبلغني أن منهم من يأخذ الصغير فيدخله في قميصه، ثم يخرجه من جيبه، ويعتقد أنه بهذا الفعل يكون بينهما محرمية، وهذا ضلال وجاهلية. وكفى دليلاً على إبطال ذلك قصة زيد في تبني النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث بيَّن الله تعالى أن التبني لا يحدث محرمية بأَنْ أمره بتزوج زينب بعد أن طلقها زيد رضي الله تعالى عنهما: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]؛ أي: بالطلاق. وروى عبد الرزاق، وابن حبان في "صحيحه"، والطبراني عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال: كان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث من ميراثه حتى أنزل الله في ذلك: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] (¬1). وروى الخطيب في "تالي التلخيص" عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَعْدى النَّاسِ عَلى اللهِ تَعالَى مَنْ عَدا فِي الْحَرَمِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ بذُحُولِ الْجاهِلِيَّةِ". فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن فلاناً ابني. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ذَهَبَ أَمْرُ الْجاهِلِيَّةِ، لا دَعْوى فِي الإِسْلامِ؛ الْوَلَدُ ¬
52 - ومنها: الحلف بغير الله تعالى كالآباء، ورأس الأمير بحياته وحياة غيره، وهو مكروه.
لِلْفِراشِ، وَلِلْعاهِرِ الْحَجَرُ" (¬1). 52 - ومنها: الحلف بغير الله تعالى كالآباء، ورأس الأمير بحياته وحياة غيره، وهو مكروه. قال النووي: ومن أشدها كراهة الحلف بالأمانة (¬2). روى أبو داود بإسناد صحيح، عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ بِالأَمانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا" (¬3). وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ يَنْهاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبائِكُمْ؛ فَمَنْ كانَ حالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَسْكُتْ" (¬4). وروى أبو داود، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَحْلِفُوا بآبائِكُمْ وَلا بِأُمَّهاتِكُمْ وَلا بِالأَنْدادِ، وَلا تَحْلِفُوا بِاللهِ إِلاَّ وَأَنُتمْ صادِقُونَ" (¬5). قال صاحب "الكشاف" في قوله تعالى: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ¬
53 - ومنها: الإيلاء أكثر من أربعة أشهر إضرارا بالنساء.
وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44]: أقسموا بعزة فرعون، وهي من أيمان الجاهلية، وهكذا كل حلف بغير الله. ثم قال: ولقد استحدث الناس في هذا الباب، في إسلامهم جاهلية نُسيت لها الجاهلية الأولى، وذلك أن الواحد منهم لو أقسم بأسماء الله تعالى كلها وصفاته على شيء لم يقبل منه ولم يعتد بها حتى يقسم برأس السلطان؛ فإن أقسم به فذلك عندهم جهد اليمين التي ليست وراءها حلف لحالف (¬1). 53 - ومنها: الإيلاء أكثر من أربعة أشهر إضراراً بالنساء. وهو في الأصل القسم، ثم خص بأن يحلف أن لا يجامع زوجته. قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا}؛ أي: رجعوا إلى الجماع كما قاله الاكثرون {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنين وأكثر من ذلك، فوقَّت الله تعالى لهم أربعة أشهر؛ فإن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء؛ أي: فليس بإيلاء محرم. رواه سعيد بن منصور، والطبراني، والبيهقي، والخطيب في "تالي التلخيص" (¬2). ¬
54 - ومنها: الظهار.
54 - ومنها: الظِّهار. وعده هو والإيلاء طلاقًا، بل لم يكن طلاقهم إلا ظهاراً وإيلاءً. روى عبد الرزاق عن طاوس رحمه الله تعالى: كان طلاق أهل الجاهلية الظهار، فظاهر رجل في الإسلام وهو يريد الطلاق، فأنزل الله تعالى فيه الكفارة (¬1). وروى الطبراني عن ابن عباس قال: كان الظهار في الجاهلية تحريم النساء، فذكر الحديث (¬2). وروى عبد بن حميد عن أبي قلابة رضي الله تعالى عنه قال: إنما كان طلاقهم في الجاهلية الظهار والإيلاء (¬3). وروى البيهقي عن مقاتل بن حيان رحمه الله تعالى قال: كان الظهار والإيلاء طلاقاً في الجاهلية، فوقَّت الله تعالى في الإيلاء أربعة أشهر، وجعل في الظهار الكفارة (¬4). 55 - ومنها: أنهم كانوا لا يرون على المطلقة عدة. وروى عبد بن حميد عن قتادة رحمه الله تعالى في قوله {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] قال: كان أهل الجاهلية يطلق ¬
56 - ومنها: أكل الأولياء مهور مولياتهن.
أحدهم ليس لذلك عدة (¬1). وروى أبو داود عن أسماء بنت يزيد بن السَّكَن الأنصارية رضي الله تعالى عنها قالت: طلقت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله تعالى حين طلقت العدة للطلاق: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] (¬2). 56 - ومنها: أكل الأولياء مهورَ مولِّياتِهنَّ. وهذا في هذه الأعصار شأن أهل القرى من الفلاحين والأعراب أهل الوبر والشعر، حتى يعدو مهور مولياتهن كسباً من أكسابهم. روى سعيد بن منصور، والمفسرون عن أبي صالح رضي الله تعالى عنه قال: كان الرجل إذا زوج أيمه أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، ونزلت: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] (¬3). 57 - ومنها: ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في "القبس" قال: وكانت أهل الجاهلية تحلق رأس المولود وتلطِّخه بالدم، فشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - التصدق بِزِنتَه - يعني: الشعر -. قال: وقال العلماء: يلطخ بالخلوق رأسه. وقال أيضاً: وتكسر عظامها - يعني: العقيقة - خلافاً لما كانت ¬
58 - ومنها: ما ذكره الجوهري في "صحاحه"، وغيره من أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل لهم قتيل عقوا بسهم؛
تقوله الجاهلية: إنها لا يكسر لها عظم. انتهى (¬1). وذكر أصحابنا أنه يستحب أن لا يكسر لها عظم، تفاؤلاً بسلامة أعضاء المولود؛ فإن كسر كان خلف الأولى (¬2). 58 - ومنها: ما ذكره الجوهري في "صحاحه"، وغيره من أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل لهم قتيل عقوا بسهم؛ أي: رموا به نحو السماء، فإن رجع السهم ملطخاً بالدم لم يرضوا إلا بالقَوَد، فإن رجع نقياً مسحوا بلحاهم وصالحوا على الدية، وكان مسح اللحى علامة للصلح. وأنشدوا للهذلي: [من الكامل] عَقُّوا بِسَهْمٍ ثُمَّ قالُوا صالِحُوا ... يا لَيْتَنِي فِي القَوْمِ إِذْ مَسَحُوا اللِّحَى قال الجوهري: وذلك السهم يسمى: عقيقة، وهو سهم الاعتداد. قال: ويروى: عقوا بسهم - بفتح القاف - وهو من المعتل، وأنشد: [من البسيط] عَقَّوا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَحَدُ ... ثُمَّ اسْتَفاؤوا وَقالُوا حَبَّذا الوَضَحُ (¬3) ¬
59 - ومن عوائدهم وأحكامهم - وهو من تهاونهم بما كان عليه صالحوا آبائهم من التمسك بملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام من تعظيم الحرم، والإحرام بالنسك -
59 - ومن عوائدهم وأحكامهم - وهو من تهاونهم بما كان عليه صالحوا آبائهم من التمسك بملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام من تعظيم الحرم، والإحرام بالنسك -: قتل الصيد بالحرم وهم محرمون، وكان ذلك معروفاً فيهم كما قال قائلهم: [من البسيط] وَالْمؤمِنُ العائدات الطَّيْرِ يَمْسَحُها ... رُكْبانُ مَكَّةَ بَيْنَ الضال وَالسَّنَدِ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95]. قال أبو ذر رضي الله تعالى عنه في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95] قال: عفا كان في الجاهلية؛ أي: من قتل المحرم الصيد. قال: {وَمَنْ عَادَ} في الإسلام {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، وعليه مع ذلك الكفارة. أخرجه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ (¬1). وقيل: المعنى: عفا الله عما سلف منكم من ذلك في الإسلام ¬
60 - ومنها: التشديد على من يقتل الصيد بالمجاوزة في الحكم عليه عن الكفارة إلى العقوبة.
قبل نزول الآية. أو: في الحديبية. أو: عفا الله عما سلف منكم أول مرة بالكفارة (¬1). {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] يترك لا يحكم عليه بالكفارة حتى ينتقم الله منه. وهو مذهب ابن عباس، وشريح، وغيرهما. والأكثرون على أنه يحكم عليه كل مرة (¬2). وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن: أن رجلًا أصاب صيداً وهو محرم، فتجوز عنه، ثم عاد فأصاب صيداً آخر، فنزلت نار من السماء فأحرقته (¬3). 60 - ومنها: التشديد على من يقتل الصيد بالمجاوزة في الحكم عليه عن الكفارة إلى العقوبة. بل من أفعالهم التجاوز في الحدود والتعزيرات مطلقاً كما تقدم عنهم من المجاوزة في القَوَد إلى غير القاتل. فتجاوُزُ الحكام عن السياسات الشرعية أخلاقٌ جاهلية. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ¬
تنبيه
تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94]. قال ابن عباس في الآية: كانوا في الجاهلية إذا أحدث الرجل حدثاً، أو قتل، أو قتل صيداً وهو محرم أو بالحرم، ضرب ضرباً شديداً، وسلب ثيابه. رواه أبو الشيخ من طريق أبي صالح عنه (¬1). وروى ابن أبي حاتم من طريق قيس بن سعد عنه: أنه كان يقول في قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94]: أن يوسِّع بطنه وظهره جلداً، أو سلب ثيابه (¬2). يريد: أن ذلك كان عقوبته في صدر الإسلام كما كان ذلك حكمه في الجاهلية، ثم نسخ بالآية بعدها، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الآية. كما قال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: كان إذا ما أخذ شيئاً من الصيد أو قتله جلد مئة، ثم نزل الحكم بعدُ. أخرجه أبو الشيخ (¬3). * تنبِيهٌ: مما يدل على عظيم حرمة الحرم والإحرام أن الله تعالى لم يرض ¬
في جزاء من قتل صيدهما إلا بحكم عدلين فيه، ثم ألحقت السنة الخطأ في ذلك بالعمد، وجرى الأمر على ذلك لئلا يستخف الناس في ذلك أو يتساهلوا فيه؛ كما روى الشافعي، وابن المنذر ذلك عن عطاء (¬1). ورويا عن عمرو بن دينار رحمه الله تعالى قال: رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطأ (¬2). وروى المفسرون، والطبراني، والحاكم وصححه، عن قبيصة بن جابر رحمه الله تعالى قال: حججنا زمن عمر رضي الله تعالى عنه فرأينا ظبيًا، فقال أحدهما لصاحبه: أتراني أبلغه؟ فرمى بحجر فما أخطأ حشاه، فقتله، فأتينا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فسألناه عن ذلك، فإذا إلى جنبه رجل - يعني: عبد الرحمن بن عوف - فالتفت إليه فكلمه، ثم أقبل على صاحبنا، فقال: أعمداً قتلته أم خطأً؟ قال الرجل: تعمدت رميه وما أردت قتله. قال عمر: ما أراك إلا أشركت بين العمد والخطأ؛ اعمد إلى شاة فاذبحها، وتصدق بلحمها، وأسق إهابها؛ يعني: ادفعه إلى مسكين يجعله سقاء. قال: فقمنا من عنده فقلت لصاحبي: أيها الرجل! أَعْظِمْ شعائر الله، والله ما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى شاور صاحبه؛ اعمد ¬
إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذلك. قال قبيصة: وما أذكر الآية في سورة المائدة: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]. قال: فبلغ عمر رضي الله تعالى عنه مقالتي فلم يفجأ إلا ومعه الدَّرَّةَ، فعلا صاحبي ضرباً بها، وهو يقول: أقتلت الصيد في الحرم وسفَّهت الفتيا؟ ثم أقبل عليَّ فضربني، فقلت: يا أمير المؤمنين! لا أحل لك مني شيئاً مما حرم الله عليك؟ قال: يا قبيصة! إني أراك شاباً حديث السن، فصيح اللسان، فسيح الصدر، وإنه قد يكون في الوجل تسعة أخلاق صالحة وخلق سيئ، يتغلب خلقه السيئ أخلاقه الصالحة، فإياك وعثراتِ الشباب (¬1). قلت: ما فعل عمر رضي الله تعالى عنه - وقد صح الأمر بالاقتداء [به و] بأبي بكر رضي الله تعالى عنهما - دليلٌ على أنه يعزَّر على الذنب الذي لا حد فيه، وأنه قد يجتمع التعزير والكفارة، وأن من أفتي بحكم شرعي ولم يرض به يعزر، وأن من اعترض من هو أعلم منه بغير وجه أو بمجرد الرأي يعزر، وكذلك من دعا مستفتياً أرشده المفتي إلى شيء إلى مخالفته ولو بما هو أحوط منه رأيًا يؤدب، وأن الشباب ينبغي أن يتحفظ ¬
61 - ومن أخلاق الجاهلية: تحريم الحلال، وتحليل الحرام.
من سَورة الشباب وعثراته، ولكثرة ما في هذا الأثر من الفوائد أوردته هنا. 61 - ومن أخلاق الجاهلية: تحريم الحلال، وتحليل الحرام. - فمن الأول: تحريم البَحيرة، والسَّائبة، والوَصِيلة، والحام. قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 103، 104]. الواو للحال، والهمزة الداخلة عليها لإنكار الفعل على هذه الحال؛ أي: أكافيهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا على جاهلية وضلال لا يعلمون شيئاً مما تعبدوا به ولا يهتدون إلى شريعة؟ وفيه دليل على أن الاقتداء إنما يصح ممن علم أنه عالم مقتد، وأن الجاهل لا يكون قدوة. روى المفسرون عن ابن عباس قال: البحيرة هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكراً ذبحوه، فأكله الرجال دون النساء، كان كانت أنثى جَدَعوا آذانها، فقالوا: هي بحيرة. وفي رواية: فلا يجز لها وبر، ولا يذاق لها لبن. وأما السائبة: فكانوا يسيبون من أنعامهم لآلهتهم، لا يركبون لها ظهراً، ولا يحلبون لها لبنا، ولا يجُزُّون لها وبراً، ولا يحملون عليها شيئاً.
وأما الوصيلة: فالشاة إذا نتجت سبعة أبطن، نظروا إلى السابع فإن كان ذكراً أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كان ذكراً وهو حي ذبحوه، وإن كانت أنثى استحيوها، وإن كان ذكراً وأنثى في بطن استحيوهما، وقالوا: وصلته أخته، فحرمته علينا. وأما الحام: فالفحل من الإبل إذا ولد لولده؛ قالوا: حمى ظهره، فلا يحملون عليه شيئاً، ولا يجزون له وبراً، ولا يمنعونه من حمى مرعى عنه، ولا من حوض يشرب منه كان كان الحوض لغير صاحبه. وفي رواية: كان الرجل يكون له الفعل، فإذا لقح عشراً قيل: حام، فاتركوه (¬1). وروى الشيخان عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل، ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم (¬2). وروى الإمام أحمد، والحكيم الترمذي في "نوادره"، والبيهقي في "الأسماء والصفات"، والمفسرون عن أبي الأحوص، عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خُلْقان من الثياب، فقال لي: "هَلْ مِنْ مالٍ؟ ". ¬
قلت: نعم. قال: "مِنْ أَيِّ الْمالِ؟ ". قلت: من كل المال؛ من الإبل، والغنم، والخيل، والرقيق. قال: "فَإِذا آتاكَ اللهُ فَلْيُرَ عَلَيْكَ". ثم قال: "تُنْتِجُ إِبِلُكَ وافِيةً آذانُها". قلت: نعم؛ وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟ قال: "فَلَعَلَّكَ تَأْخُذُ مُوسَى فَتَقْطَعُ آذانَ طائِفَةٍ مِنْها وَتَقُولُ: هَذهِ بَحِيْرَةٌ، وَتَشُقُّ آذانَ طائِفَةٍ وَتَقُولُ: هَذهِ حَرامٌ"؟ قلت: نعم. قال: "فَلا تَفْعَلْ؛ إِنَّ كُلَّ ما آتاكَ اللهُ لَكَ حِلٌّ". ثم قال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103] (¬1). وروى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عامِرٍ الْخزاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ؛ وَكانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوائِبَ، وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ" (¬2). ¬
تنبيه
وروى ابن أبي شيبة، والحاكم وصححه، عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأكثم بن الجون: "يا أكثمُ! عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ فَرَأَيْتُ فِيها عَمْرَو بْنَ لَحْيٍ بنِ قَمعةَ بْنِ حَفِيفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، فَما رَأَيْتُ رَجُلاً أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ وَلا بِهِ مِنْكَ". فقال أكثم: أخشى أن يضرُّني شبهه يا رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إِنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كافِرٌ، إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْراهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ، وَحَمَى الْحامَ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه نحوه، وقال فيه: "وَرَأَيْتُ فِيها عَمْرَو بْنَ لَحْيٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَأَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ مَعْبَدُ بْنُ أَكْثَمٍ الْخزاعِيُّ". فقال معبد: يا رسول الله! أتخشى عليَّ من شبهه؟ قال: "لا، أَنْتَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كافِرٌ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَمَلَ الْعَرَبَ عَلى عِبادَةِ الأَصْنامِ" (¬2). * تنبِيهٌ: كثير من العوام يتحرجون عن صيد اليمام في الْحِلِّ، أو وهم ¬
حِلٌّ، وعن أكله، ويزعمون أن الحمامتين اللتين عشَّشتا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الغار كانتا من اليمام، ولم يثبت في ذلك شيء، والتحرج عن ذلك تشبه بالجاهلية في تحرجهم عن البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وكذلك التحرج عن صيد مكان مخصوص ما عدا مكة والمدينة [ .... ] (¬1) الطائف. - ومن الثاني، وهو تحليل الحرام: إباحتهم لأكل الميتة، والدم كالمنخنقة والموقوذة؛ أي: المقتولة بالعصا ونحوها، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السَّبُعُ إلا ما ذكيتم. قال ابن عباس: كانت العرب - يعني: في الجاهلية - تخنق الشاة، فإذا ماتت أكلوا لحمها. ذكره الثعلبي، وغيره (¬2). روى الطبراني، والحاكم وصححه، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شعائر الإسلام، فأتيتهم، فبينما نحن كذلك إذ جاؤوا بقصعة دم، واجتمعوا عليها يأكلونها، قالوا: هلم يا صُدي - واسم أبي أمامة: صدي بن عَجلان - فكل. قلت: ويحكم! إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم، وأنزل الله عليه. ¬
تتمة
قالوا: وما ذاك؟ فتلوت عليهم هذه الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] (¬1). وروى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا أودجوا الدابة، وأخذوا الدم فأكلوه، وقالوا: هو دم مسفوح (¬2). وروى أبو داود، وغيره، وصححه الحاكم عنه قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً، فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه، وأحل حلاله وحرَّم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، ومهما سكت عنه فهو عفو، ثم تلا هذه الآية: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] إلى آخر الآية (¬3). * تَتِمَّةٌ: قال الله - عز وجل -: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 138، 139]. ¬
قوله: {حِجْرٌ} [الأنعام: 138]؛ أي: حرام، ثم جعلوا تحليلها وتحريمها لأنفسهم، وقالوا: {لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ} فأحلوها للرجال، وحرموها على النساء. {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} [الأنعام: 138] أن تركب، وهي: البحيرة، والسائبة، والحام. {وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الأنعام: 138] إذا ولدوها، أو نحروها، أو لا يحجون عليها، وهي البحيرة؛ وكل ذلك افتراء منهم على الله. {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] يعنون ألبان البحائر، كما أخرجه ابن المنذر عن قتادة (¬1). وقال ابن عباس: كانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه، وكان للرجال دون النساء، كان كانت أنثى تركوها فلم يذبحوها، وإن كان ميتة فهم فيه شركاء؛ يعني: الرجال والنساء. أخرجه ابن أبي حاتم (¬2). وقال مجاهد في قوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139]: قولهم الكذب في ذلك. رواه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬3). ¬
62 - ومن عوائد أهل الجاهلية: أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار، ويأكلون أموال اليتامى والأرامل والضعفاء.
وهو على حذف مضاف؛ أي: جزاء وصفهم الذي وصفوه بألسنتهم من الكذب. ومن أشبه شيء بذلك من أفعال الجاهلية ما يقوله كثير من الأجناد إذا لبسوا الحرير، أو شربوا الخمور إذا عوتبوا في فعل ذلك مع إنكارهم إياه على غيرهم: نحن عسكر السلطان. فإن اعتقدوا حل ذلك لهم كفروا أو تعرضوا للكفر. وجعلت من ذلك عائشة رضي الله تعالى عنها تخصيص ذكور الأولاد بالصدقة، فروى البخاري في "تاريخه" عنها قالت: يعمد أحدكم إلى المال فيجعله للذكور من ولده؛ إن هذا إلا كما قال الله تعالى: {خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] (¬1). 62 - ومن عوائد أهل الجاهلية: أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار، ويأكلون أموال اليتامى والأرامل والضعفاء. وهذا أكثر من يفعله الآن سكان البوادي والفلاحون. روى أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغار الذكور حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له: أوس بن ثابت، وترك ابنتين وابناً صغيراً، فجاء ابنا عمه وهما عصبة، فأخذا ميراثه كله، فقالت امرأته لهما: تزوجا بهما - وكانت فيهما دَمامة - فأبيا، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
فقالت: يا رسول الله! توفي أوس، وترك ابناً صغيراً وابنتين، فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة فأخذا ميراثه، فقلت لهما: تزوجا ابنتيه، فأبيا. فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَدْرِي ما أقولُ"، فنزلت: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7]. فأرسل إلى خالد وعرفطة، فقال: "لا تُحَرِّكا مِنَ الْمِيْراثِ شَيْئاً؛ فَإِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيْهِ شَيْءٌ أَخْبَرْتُ عَنْهُ أَنَّ لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى نَصِيباً". ثم نزل بعد ذلك: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى قوله: {عَلِيمًا} [النساء: 127]. ثم نزل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 11 - 12]. فدعا بالميراث، فأعطى المرأة الثمن، وقسم ما بقي (¬1) للذكر مثل حظ الأنثيين (¬2). وقال زيد بن أسلم رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]: هذه لأهل الشرك، حين كانوا لا يورثونهم، ويأكلون أموالهم. أخرجه ابن جرير (¬3). ¬
63 - ومنها: تناول الأثمان المحرمة والأعواض المؤثمة؛ كثمن الكلب، والخمر، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، والعقود الفاسدة؛ كبيع الخمر، والكلب، والميتة، وبيع الغرر، وبيع حبل الحبلة، وعسب الفحل.
63 - ومنها: تناول الأثمان المحرمة والأعواض المؤثمة؛ كثمن الكلب، والخمر، ومهر البغي، وحُلْوان الكاهن، والعقود الفاسدة؛ كبيع الخمر، والكلب، والميتة، وبيع الغرر، وبيع حَبَل الحَبلَة، وعَسْب الفَحْل. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك كله، وتكلم عليه المحدثون، والفقهاء. روى الطيالسي، والبزار، وابن مردويه بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية فولدت له أولاداً، فلما حرم الله تعالى الزنا قال لها: ما لك لا تزنين؟ قالت: لا والله لا أزني أبداً، فضربها، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] (¬1). وفي "صحيح مسلم" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، وكان يريدهما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33] الآية (¬2). ¬
وفي رواية: أنه قرأ الآية: {ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن لهنَّ غفور رحيم} [النور: 33]؛ هكذا كان يقرؤها (¬1). وهي قراءة ابن مسعود أيضاً (¬2). وفسر سعيد بن جبير قراءته {لَهُنَّ} قال: للمكرهات، كما رواه ابن أبي حاتم (¬3). ولذلك كان سعيد بن جبير يقرؤها، كما رواه ابن جرير (¬4). وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: كان أهل الجاهلية يبغون إماءهم، فنهوا عن ذلك في الإسلام (¬5). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنى؛ يأخذون أجورهن، فنزلت الآية (¬6). أخرجهما ابن مروديه. وروى الإمامان مالك، والشافعي، والحفاظ البخاري، وأبو داود، والنسائي رحمهم الله تعالى، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن ¬
64 - ومنها: الربا وأكل ما يحصل منه، وتناوله، والتصرف فيه.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع حَبَل الحَبَلة. زاد في رواية: وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم ينتج الذي في بطنها (¬1). وروى الإمام مالك في "الموطأ" عن داود بن الحصين: أنه سمع ابن المسيب يقول: كان من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين (¬2). 64 - ومنها: الربا وأكل ما يحصل منه، وتناوله، والتصرف فيه. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279]. روى المفسرون عن السدي: أن الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة، كانا شريكين في الجاهلية يُسْلِفان في الربا إلى الناس من ثقيف من بني ضَمْرة، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ} [البقرة: 278] من فضل كان في زمن الجاهلية من الربا (¬3). ¬
وتقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ". وروى ابن جرير عن الضحاك في قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] قال: كان ربا يتبايعون به في الجاهلية، فلما أسلموا أمروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم (¬1). وروى ابن أبي حاتم، والبيهقي في "سننه" عن مجاهد في الآية قال: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدَّيْنُ، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني، فيؤخر عنه (¬2). وفي "الموطأ"، و"سنن البيهقي" عن زيد بن أسلم قال: كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل، فإذا حل الحق قال: أتقضي أم تربي؛ فين قضاه أخذ، وإلا زاده في حقه، وزاده الآخر في الأجل (¬3). وروى الإمام أحمد، والشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد فقرأهن على الناس، ثم حرم التجارة في الخمر (¬1). وروى أبو داود، والحاكم وصححه، عن جابر - رضي الله عنه - قال: لما نزلت: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ يَذَرِ الْمُخابَرَةَ فَلْيُؤْذِنْ بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولهِ" (¬2). قال في "القاموس": المخابرة: أن تزرع على النصف ونحوه، كالخَبِر - بالكسر - والمواكرة، والخبير: الأكَّار (¬3). وقال الفقهاء: هي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها والبذر من العامل. والمزارعة: هذه المعاملة والبذر من المالك. وأجاز الشافعي المزارعة مع المساقاة على الشجر بشرط اتحاد العامل، وتعذر إفراد الشجر بالسقي والبياض بالزراعة. والأصح من المذهب أنه لا تجوز المخابرة تبعاً للمساقاة لعدم ورودها؛ بخلاف عامل أهل خيبر على نخلها وأرضها بشطر ما يخرج ¬
65 - ومنها: القمار، وهو المراهنة على ما يأخذه الغالب؛ إلا المسابقة والمناضلة الشرعيتين، والنرد.
منها من ثمر أو زرع، كما في "الصحيحين" (¬1). وقد يفرق بينهما بأن المخابرة محض زيادة ينالها المخابر على أرضه، ولذلك ألحقها - صلى الله عليه وسلم - بالربا كما في حديث جابر. والمزارعة لا ينال فيها المزارع إلا ما حصل من أرضه وبذره، والعامل يأخذ أجرة عمله. 65 - ومنها: القمار، وهو المراهنة على ما يأخذه الغالب؛ إلا المسابقة والمناضلة الشرعيتين، والنَّرد. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] الآية. روى البخاري في "الأدب المفرد" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه كان يقال - يعني: في الجاهلية -: أين أيسار الجزور؟ فيجتمع العشرة، فيشترون الجزور بعشرة فصلان إلى الفصال، فيحلون السهام - يعني: الأزلام - فتصير تسعة حتى تصير إلى واحد، ويغرم الآخرون فصيلاً فصيلاً إلى الفصال؛ فهو الميسر (¬2) أخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى في الميسر قال: كانوا يشترون الجزور فيجعلونها أجزاءً، ثم يأخذون القداح فيلقونها، وينادى: يا ياسر الجزور! فمن خرج قدحه أخذ جزءاً ¬
بغير شيء، ومن لم يخرج قدحه حرم ولم يأخذ شيئاً (¬1). قال: وفي "القاموس": والميسر اللعب بالقداح، يسر ييسر؛ أي: كضرب يضرب. أو هو الجزور التي كانوا يتقامرون عليها؛ كانوا إذا أرادوا أن ييسروا اشتروا جزوراً نسيئة، ونحروه قبل أن ييسروا، وقسموه ثمانية وعشرين قسماً أو عشرة أقسام، فإذا خرج واحد واحد باسم رجل رجل ظهر فوز من خرجت لهم ذوات الأنصباء، وغرم من خرجت له الغفل، وهو النرد أو كل قمار (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"، وغيره عن قتادة رحمه الله تعالى قال: كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله، فيقعد حزيناً سليباً ينظر إلى ماله في يد غيره. قال: وكانت - يعني: المقامرة - تُورث بينهم العداوة والبغضاء، فنهى الله تعالى عن ذلك (¬3). وتقدم فيه: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. وروى هو وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عطاء، ¬
66 - ومنها: الجلب والجنب - وهما بفتحتين -.
وطاوس، ومجاهد رحمهم الله تعالى قالوا: كل شيء فيه قمار فهو من الميسر، حتى لعب الشيطان بالكعاب والجوز (¬1). وفسر ابن الزبير الميسر بالنردشير، كما أخرجه ابن أبي الدنيا، والبيهقي في "الشعب" (¬2). 66 - ومنها: الْجَلَب والْجَنَب - وهما بفتحتين -. وروى الإمام أحمد، وأبو داود من حديث ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا جَلَبَ وَلا جَنَبَ، وَلا تُؤْخَذُ صَدَقاتُهُمْ إِلاَّ فِي دُورِهِمْ" (¬3). قال ابن إسحاق: يعني لا جلب: أن تصدق الماشية في موضعها، ولا تجلب إلى المصدق. ومعنى لا جنب: أن يكون المصدق بأقصى مواضع أصحاب الصدقة فتجنب إليه، فنهوا عن ذلك، انتهى (¬4). وهذا كان من فعل الجاهلية إذا أخذوا الرباع؛ وهو ربع الغنيمة ونحوه، فنهى الشرع عن مثل ذلك في أخذ الصدقات، وأمر أن ¬
تؤخذ من أرباب المواشي بالرفق من غير أن يعنفوا، أو يكلفوا جلباً أو جنباً. وفسر الإمام مالك رحمه الله تعالى الجلب والجنب بخلاف ما فسره ابن إسحاق، فقال: الجلب أن يجلب الفرس في السباق وراعه، فيحرك الشيء يستحث به، فيسبق. والجنب: أن يجنب مع الفرس الذي سابق به فرسًا آخر، حتى إذا دنا تحول الراكب على الفرس الجنوب، فيسبق (¬1). وهذا التفسير ظاهر في ما رواه أبو داود عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا جَنَبَ وَلا جَلَبَ فِي الرِّهانِ" (¬2). أخرجه هو والإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن حبان وصححاه، بدون قوله: "فِي الرِّهانِ" (¬3). وقد أقر التفسيرين ابنُ الأثير، والترمذيُّ، وغيرهما (¬4). ¬
67 - ومنها: المكس.
وقال أبو عبيد: الجلب يكون في شيئين: في سباق الخيل: وهو أن يتبع الرجل فرسه، فيزجره ويجلب عليه، فيكون ذلك معونة للفرس على جريه. ويكون في الصدقة: وهو أن يقدم المصدق فينزل موضعًا، ثم يرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها ليأخذ صدقتها، فنهى عن ذلك، وأمر أن يصدقوا على مياههم (¬1). 67 - ومنها: المُكس. وهو كما قال في "القاموس": دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية (¬2). وفي "النهاية": إنه الضريبة التي يأخذها الماكس، وهو العَشَّار (¬3). وفيها أن العَشَّار: الْمَكَّاس، والعُشُور: المكوس التي تأخذها الملوك (¬4)؛ أي: ما عدا عُشر الزكاة فيما تجب فيه من المعشرات. ومن ذلك الرباع؛ يقال: ربَّع الجيش إذا أخذ منهم ربع الغنيمة، كان يفعل ذلك في الجاهلية [فرده] (¬5) الإسلام خمساً؛ قاله في ¬
"القاموس"، ثم فسر فيه الرباع بأنه ربع الغنيمة الذي كان يأخذه الرئيس في الجاهلية خالصاً (¬1). وقال السيوطي في "البدور السافرة": إن أخذ الربع من الغنائم والكسب كان عادة أمراء الجاهلية، وإذا نظرت إلى ما أحدث الحكام في هذه الأعصار على المسلمين في بضائعهم وتجاراتهم، وزروعهم وطرقهم مما يؤخذ باسم السلطان أو للوالي من قبله، ولصبيانهم وأعوالهم، علمت على أنهم على شَبهٍ ظاهر بأهل الجاهلية. ولعل ذلك يؤخذ من المسلمين كما تؤخذ الجزية من الذميين، بل أشد. وقد روى الإمام أحمد عن حرب بن هلال الثقفي، عن جده أبي أمية رجلٍ من تَغْلب رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ عَلى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ؛ إِنَّما الْعُشُورُ عَلى الْيَهُودِ وَالنَّصارَى" (¬2). وروى هو وأبو داود عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ عَلى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ" (¬3). وهي فِعْلة من الجزاء، سمي ما يؤخذ من الذمي جزية كأنها ¬
68 - ومنها: المغالقة على الخيل.
جَزت عن قتله، وسمي خراج الأرض جزية كأنه لازم لصاحب الأرض كما تلزم الجزية الذمي؛ كذا في "النهاية" (¬1). وعليه: فمعنى الحديث: أنه لا يُضرب على المسلم ضريبة تؤخذ منه في كل عام، فيُلزم بها كما يُلزم الذمي بجزيته، وتؤخذ منه طَوعاً أو كَرهاً. وهذه أفعال أكثر الأمراء في نواحي الشام وغيرها، يأخذون من الرجال في كل عام مالاً معيناً على كل واحد منهم كأنه حق يلزم رقابَهم، ويكتب بذلك دفاتر لهم، ويُنتظر صبيهم حتى يبلغ فيفرض عليه كما تُفرض الجزية على رجال أهل الذمة، بل تعدَّى بعضهم ففرض على غير آلات بلاده في بعض الأعوام قدراً من الغزل لأجل البندقيات؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. 68 - ومنها: المغالقة على الخيل. وهي من جنس القمار، إلا أني نبهت عليها لمزيد الفائدة والإيضاح. روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد عن أبي عمرو الشيباني، عن رجل من الأنصار رضي الله تعالى عنهم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْخَيْلُ ثَلاثةٌ؛ فَرَسٌ يَرْبِطُهُ الرَّجُلُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ فَثَمَنُهُ أَجْرٌ، وَعارِيَّتُهُ أَجْرٌ، وَعَلُفُه أَجْرٌ، وَفَرَسٌ يُغالِقُ فِيهْ الرَّجُلُ ويُراهِنُ؛ فَثَمَنُهُ وِزْرٌ، وَعَلَفُهُ وِزْرٌ، وَرُكُوبُهُ وِزْرٌ، وَفَرَسٌ لِلْبِطْنَةِ؛ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ سَداداً مِنَ الْفَقْرِ ¬
إِنْ شاءَ الله" (¬1). وفسر صاحب "النهاية" المغالقة بالمراهنة، وقال في الحديث: كأنه كره الرهان في الخيل إذا كان على رسم الجاهلية (¬2)، كان يشرط في السباق من الجانبين؛ كأن يشترط المتسابقان أن من سبق منهما فله على الآخر كذا؛ فإن هذا غير صحيح، ويحرم لتردد كل منهما بين الغُنم والغُرم، وهو سورة القمار المحرم إلا بمحلل فرسه كفؤ لفرسيهما إن سبق أخذ مالها، كان سبق لم يغرم شيئاً، فإن سبقهما أخذ المالين، وإن سبقاه وجاءا معاً أو مرتباً وهو مع الثاني فلا شيء لأحد، وإن جاء مع أحدهما، أو تأخر الآخر، فمال هذا السابق لنفسه، ومال المتأخر للمحلل، وللذي معه لأنهما سبقاه، وإن جاء أحدهما ثم المحلل، ثم الآخر، فمال الآخر للأول؛ سمي محللاً لأن العوض به صار حلالاً (¬3). روى أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَدْخَلَ فَرَساً بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ ¬
69 - ومنها: غلق الرهن.
فَرساً بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمارٌ" (¬1). وروى ابن حبان، وابن أبي عاصم في "الجهاد" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل، وجعل بينهما سباقاً، وجعل بينهما محللاً (¬2). وروى ابن أبي عاصم بإسناد فيه مجهول، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا جَلَبَ وَلا جَنَبَ إِذا لَمْ يَدْخُلِ الْمُتَراهِنانِ سَبقاً يَسْتَبِقانِ عَلَى السَّبْقِ بِهِ فَهُوَ حَرامٌ" (¬3). 69 - ومنها: غلق الرهن. يقال: غلِق الرهن - بكسر اللام الذي هي عين الكلمة - يغلَق - بفتحها - إذا استحقه المرتهن، وذلك إذا لم يستفكه. وكان هذا من فعل الجاهلية كما ذكره صاحب "النهاية"، وغيره: أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين ملك المرتهن الرهن، ¬
فأبطله الإسلام (¬1). وأنشدوا لزهير: [من البسيط] وَفارَقْتُكَ برهْن لا فِكاكَ لَه ... يَوْمَ الْوَداعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا (¬2) روى عبد الرزاق، والإمام الشافعي، وابن أبي شيبة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَغْلقُ مِنْ صاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ؛ لَهُ غُنْمُهُ، وَعَليَهْ غُرْمُهُ" (¬3). قال الشافعي: غنمه: زيادته، وغرمه: هلاكه (¬4). ورواه الدارقطني، وابن حبان، والحاكم وصححاه، ولفظه: "لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ راهِنِهِ؛ لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" (¬5). ¬
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وقوله: له غنمه وعليه غرمه، من كلام سعيد بن المسيب؛ يعني: إنه مندرج في الحديث. نقله عن الزهري (¬1). وقال عبد الرزاق: أنا معمر عن الزهريّ، عن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَغْلَقِ الرَّهْنُ". قلت للزهري: أرأيت قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ" أهو الرجل يقول: إن لم آتك بمالك فالرهن لك؟ قال: نعم. قال معمر: ثم بلغني عنه أنه قال: إن أهلك لم يذهب حق هذا، إنما هلك من رب الرهن؛ له غنمه، وعليه غرمه (¬2). لكن أخرجه ابن حزم - وقال: سنده حسن - عن شبابة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ، الرَّهْنُ لِمَنْ رَهَنَهُ؛ لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ" (¬3). وصحح هذه الرواية عبد الحق، وهي تدل على أن لا إدراج فيه (¬4). ¬
70 - ومنها: التعزي بعزاء الجاهلية.
70 - ومنها: التعزي بعزاء الجاهلية. والعزاء - بالفتح، والمد - مشترك بين النسب كما هنا والصبر. والتعزي الانتساب كالاعتزاز. والعزي اسم لدعوى المستغيث، وهو أن [يقول] (¬1): يا لفلان (¬2). وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه"، والدارقطني عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَعَزَّى بِعَزاءِ الْجاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ، وَلا تَكْنُوا" (¬3)؛ بفتح أوله، وإسكان ثانيه، وتخفيف ثالثه من الكناية ضد الصراحة. أي قولوا له: اعضض بأير أبيك، ولا تكنوا عن الأير بالهن تنكيلاً له وتأديباً (¬4). وروى الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن ابن مسعود، وابن باكويه الشيرازي في "الألقاب" عن أبي هريرة قالا رضي الله تعالى عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ¬
لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ أنْ جُيُوبَ، وَدَعا بِدَعْوى الْجاهِلِيَّةِ" (¬1). وهي كما في "النهاية" قوله: يا لفلان (¬2)؛ كانوا يدعو بعضهم بعضاً بذلك عند الأمر الحادث الشديد. والدعوى - بالفتح -، والدِّعوة - بالكسر - في النسب. والدعوة - بالفتح - في الطعام. قال في "الصحاح": هذا أكثر كلام العرب إلا عَدِيِّ الرَّبابَ؛ فإنهم يفتتحون الدال في النسب، ويكسرونها في الطعام (¬3). وروى ابن إسحاق، والمفسرون عن زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى قال: شاس بن قيس - وكان شيخاً قد عتا في الجاهلية عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها ¬
من قرار، فأمر فتى شاباً معه من يهود، فقال: اعمَد إليهم فاجلس معهم، ثم ذَكِّرْهم يوم بعاث، وما كان قبلهم، وأنشِدْهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج. ففعل، وتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلين من الحيين على الركب؛ أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددنا الآن جدعة، وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا؛ السلاحَ السلاحَ، موعدكم الظاهرة - والظاهرة: الحرة - فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: "يا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! ! اللهَ اللهَ! أَبِدَعْوى الْجاهِلِيَّةِ وَأَنا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ بَعْدَ أَنْ هَداكُمُ اللهُ إِلَى الإِسْلامِ، وَأَكْرَمَكُمْ بهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أمرَ الْجاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَألَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ، تَرْجِعُونَ إِلَى ما كُنتمْ عَلَيْهِ كُفَّاراً؟ ". فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيدهم من عدوهم لهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا، وعانق الرجال بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوهم شاس بن قيس، وأنزل الله تعالى في شأن شاس بن قيس
71 - ومن أعمال أهل الجاهلية: الاستقسام بالأزلام.
وما صنع: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} إلى قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98 - 99]. وأنزل في أوس بن قيظي، وجبار بن صخر، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} إلى قوله {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 100 - 105] (¬1). 71 - ومن أعمال أهل الجاهلية: الاستقسام بالأزلام. قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} إلى قوله {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} [المائدة: 3]. وقد تقدم بيانه في التشبه بالشيطان. وروى الطبراني - بإسنادين أحدهما حسن - عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ يَنالَ الدَّرَجاتِ الْعُلا مَنْ تَكَهَّنَ، أَوِ اسْتَقْسَمَ، أَوْ رَجَعَ مِنْ سَفَرة تَطَيُّراً" (¬2). ¬
72 - ومنها: تعليق التمائم والحروز، وتقليد الدابة الوثر والجرس، ونحو ذلك.
72 - ومنها: تعليق التمائم والحروز، وتقليد الدابة الوَثَر والجرس، ونحو ذلك. روى الإمام مالك، والشيخان، وأبو داود عن أبي بشير الأنصاري - رضي الله عنه -: أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولًا: لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت (¬1). قال مالك: أرى ذلك من العين (¬2). قال البغوي: كانوا يشدون بتلك الأوتار والقلائد التمائم، ويعلقون عليها العود يظنون أنها تعصم من الآفات، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعلمهم أنها لا تَرُدُّ من أمر الله. وقال غيره (¬3): إنما أمرهم بقطعها لأنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس (¬4). وروى الإمام أحمد، والترمذي، وآخرون، وصححه ابن جرير، والحاكم عن عبد الله بن عكيم رضي الله تعالى عنه، وابن حزم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ" (¬5). ¬
وأخرجه الطبراني في "الكبير" عن أبي معبد الجهني رضي الله تعالى عنه - مرفوعًا بلفظ: "مَنْ عَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: "مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ" (¬2). وعنه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ عَلَّقَ وَدَعَةً فَلا وَدعَ اللهُ لَهُ، وَمَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلا تَمَّمَ اللهُ لَهُ". وأخرجه الطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" (¬3). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الرُّقَى، وَالتَّمائِمَ، وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ" (¬4). والمراد بالرقى - جمع رقية -: ما كان بغير ذكر الله تعالى. والتمائم - جمع تميمة -: خرزات كانت العرب تعلقها في الجاهلية ¬
73 - ومنها: السحر والكهانة - وهما معروفان من فعل الجاهلية - والخط، والتنجيم.
على الصبيان يتقون بها العين بزعمهم. قال في "الصحاح": والتميمة: عُوذة - أي: بالضم - تُعلَّق على الإنسان (¬1). وفي "القاموس": التميم: جمع تميمة كالتمائم: الخرزة رقطاء تنصب (¬2) في السير، ثم تعقد في العنق، وتمم المولود: علقها عليه (¬3). والتولة - بضم المثناة فوق وبفتح الواو - كما ضبطه في "النهاية" (¬4). قال صاحب "الصحاح": قال الخليل: التِّولة والتُّولة - بكسر التاء وضمها -: شبيه بالسحر. قال الأصمعي: التولة ما تحبب به المرأة إلى زوجها (¬5). وذلك كله كان من عوائد الجاهلية، وأكثر الناس الآن يتحاشون من ذلك. 73 - ومنها: السحر والكهانة - وهما معروفان من فعل الجاهلية - والخط، والتنجيم. ووى مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه ¬
قال: قلت: يا رسول الله! أمور كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان؟ قال: "فَلا تَأْتُوا الْكُهَّانَ". قال: قلت: كنا نتطير؟ قال: "ذاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ فَلا يَصُدَّنَّكُمْ". قال: قلت: ومنا رجال يخطون؟ قال: "كانَ نبِيٌّ مِنَ الأَنْبِياءِ يَخُطُّ؛ فَمَنْ وافَقَ خَطَّهُ فَذاكَ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ وَلا مَنْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَه" (¬2). وكان من أخبث من استعمل السحر والشعبذة والنيرجات مسيلمةُ الكذاب لعنه الله تعالى، فقد حكي أنه كان يطوف قبل التنبؤ في الأسواق التي كانت العرب تلتقي فيها للتسوق والبَيَاعات كسوق الأُبُلَّة، والأنبار، والحيرة، وكان يلتمس تعلم الحيل، والنيرجات، واحتيالات أصحاب الرقى والنجوم، والخط والكهانة. ¬
74 - ومن أخلاقهم: الطيرة.
فمما عمل أنه صب على بيضة خَلًا حاذقًا كلما لانت وامتدت كالعلك أدخلها في قارورة ضيقة الرأس، وتركها حتى جفت ويبست، وعادت إلى حالها الأولى، فأخرجها إلى أصحابه وأهل بيته، وهم أعراب، وادعى أنها آية، فآمن به في ذلك المجلس جماعة. ووصل جناح طائر مقصوص من حيث لا يرون، فطار من ساعته. وقال لهم في ليلة منكرة الرياح مظلمة: إن الملك ينزل إلي الليلة، والملائكة تطير، وهي ذوات أجنحة، ولمجيء الملك زجل وخشخشة، فمن كان منكم طاهرًا فليدخل منزله، فإن من تأمله اختطف بصره. وقد اصطنع راية من رايات الصبيان التي ترسل يوم الريح بالخيوط، فلما كان في جوف الليل أرسلها، وقد علق فيها الجلاجل وجعل لها الأذناب والأجنحة، فلما سمعوا ذلك وراءه تصارخوا، وصاح بهم: من صرف بصره ودخل منزله فهو آمن، فأصبح القوم وقد أطبقوا على نصرته والدَّفعِ عنه، لعنه الله. 74 - ومن أخلاقهم: الطيرة. وهي في الأصل زجر الطير، ثم قيل لكل من تشاءم: تطير. وكانت العرب في الجاهلية تتيمن بالطائر السانح، وهو الذي يأتي من ناحية اليمين؛ أي: الذي يدل الشخص ميامنه، ويتشاءمون بالبارح، وهو الذي من ناحية الشمال؛ أي: الذي يوليه مياسره.
وكذلك الظباء إذا سنحت سانحة أو بارحة (¬1). وكانوا يقولون: إذا برحت من لي بالسانح بعد البارح (¬2). وكانوا إذا أراد أحدهم حاجة أتى الطائر في وَكْره فنفره، فإن أخذت ذات اليمين مضى لحاجته، وهذا هو السانح عندهم، وإن أخذت ذات الشمال رجع، وهذا هو البارح عندهم. وقد أبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: "أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلى مَكُناتِها" (¬3). وكانوا يتطيرون بصوت الغراب ويتأولونه البين، وبصوت البوم ويتأولونه الخراب، وكانوا يستدلون بمجادبات الطيور بعضها بعضًا على أمور، وبأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك (¬4). وقد جاء الشرع بالنهي عن التطير، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ" - ثلاثًا -. رواه أبو داود، وغيره، وصححه الترمذي، وابن حبان من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬5). وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثٌ لازِماتٌ لأُمَّتِي؛ سُوءُ الظَّنِّ، وَالْحَسَدُ، وَالطِّيَرَةُ". رواه أبو الشيخ في كتاب "التوبيخ"، والطبراني في "الكبير" ¬
عن حارثة بن النعمان رضي الله تعالى عنه (¬1)؛ فهو إخبار عما جُبِل عليه طباع البشر الذين منهم أمته، لا أنه أقرهم على ذلك؛ بدليل تتمة هذا الحديث، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِذا ظَنَنْتَ فَلا تُحَقِّقْ، وإِذا حَسَدْتَ فَلا تَبْغِ، وإِذا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ". فأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ما يجري على المرء من هذه الثلاث بمقتضى طباع البشرية، فلا يضره إلا إذا ذهب مع الظن حتى أنزله منزلة اليقين، واسترسل في الحسد حتى صار إلى البغي فيه، واعتقد أن له حقًا واستحقاقًا لتلك النعمة المحسود عليها، وأطاع الطيرة فوقف عندها، وامتنع من إمضاء ما تطير منه، فهذا هو الذي زجر عنه الشرع، ومنع منه الدين لأنه هو الذي يدخل تحت الاختيار. وفي "صحيح مسلم" عن معاوية بن الحكم الأسلمي - صلى الله عليه وسلم - قال: قلت: يا رسول الله! منا رجال يتطيرون؟ قال: "ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، فَلا يَضُرُّهُمْ" (¬2). أي: ما لم يقفوا مع الطيرة، أما لو وقف أحد مع الطيرة حتى ترك ما هو فيه من الأمر أو رجع من سفره مثلًا فإن الطيرة تضره، وهي الشرك بعينه. ¬
تنبيه
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ". قيل: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: "أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ، وَلا خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ، وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ، ثُمَّ يَمْضِي لِحاجَتِهِ" (¬1). وروى الأصبهاني في "ترغيبه" من طريق عبد الرزاق، عن زياد ابن أبي مريم قال: حدِّثنا أن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه كان غازيًا، فبينما هو يسير إذ أقبل في وجوههم ظباء يَسْعَين، فلما اقتربن منا وَلَّيْنَ مدبراتٍ، فقال له رجل: انزل أصلحك الله. - فقال له سعد: مماذا؟ تطيرت من قرونها حين أقبلت، أم من أذنابها حين أدبرت؟ إن هذه الطيرة لَبابٌ من الشرك. فلم ينزل سعد، ومضى (¬2). ومن طريقه قال: أنا معمر عن قتادة قال: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن مضيت فمُتَوكَلٌ، وإن نكصت فمُتَطَيِّرٌ (¬3). * تَنْبِيهٌ: لما كانت الطيرة مما غلب على طباع أكثر البشر - كما تقدم - ¬
علَّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يخلصنا من شر الطيرة فعلًا في حديث حارثة ابن النعمان، وقولًا في حديث عبد الله بن عمرو، وقد ذكرتُهما آنفًا. وروى ابن السني عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنهما قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطيرة، فقال: "أَصْدَقُها الفَأْلُ، وَلا تَرُدُّ مُسْلِمًا، وَإِذا رَأَيْتُمْ مِنَ الطِّيَرَةِ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ لا يَأْتِي بِالْحَسَناتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئاتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيْمِ" (¬1). فإن قلت: فما تصنع بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: "الطِّيَرَةُ فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ"؟ رواه الإمام أحمد عنه (¬2). ورواه الشيخان، وغيرهما من حديث سهل بن سعد، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم بلفظ: "إِنْ كانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ" (¬3). وكذلك حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل منا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إنا نزلنا دارًا فكثر فيها عددنا، ودَّرت ¬
فيها أموالنا، ثم تحولنا عنها إلى أخرى فقَلَّتْ فيها أموالنا، وقلَّ فيها عددنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَرُوها، وَهِيَ ذَمِيْمَةٌ". رواه ابن قتيبة في "مختلف الحديث" (¬1). قلت: أما الحديث الأول فهو مما استدركته عائشة على أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما فقالا: إن أبا هريرة رضي تعالى عنه يحدث أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "إِنَّ الطِّيَرَةَ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّابَّةِ وَالدَّارِ". فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - ما هكذا كان يقول، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كانَ أَهْلُ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّابَّةِ وَالدَّارِ". ثم قرأت عائشة: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] (¬2). وروى الطيالسي عن مكحول رحمه الله تعالى قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشُّؤْمُ فِي ثَلاثَةٍ؛ فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ". ¬
فقالت عائشة: لم يحفظ أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه دخل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "قاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ يَقُولُونَ: الشُّؤْمُ فِي ثَلاثَةٍ؛ فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ"، فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله (¬1) (¬2). وقد تقدم أن الطيرة من أخلاق اليهود والنصارى (¬3). وأما حديث أنس - رضي الله عنه -: فأجاب عنه ابن قتيبة: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بالتحول من الدار لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقال ظلها ¬
تنبيه
واستيحاشٍ بما نابهم فيها، وإن كان لا سبب لهم في ذلك (¬1). وجواب آخر: أنه أمرهم بالتحول منها خشية أن يعاد لهم الامتحان فيعودوا إلى التطير، ومن هذا القبيل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُوْرَدَنَّ مُمْرِضٌ عَلى مُصِحٍّ" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرارَكَ مِنَ الأَسَدِ" (¬3). إنما نهى عن الإيراد، وأمر بالفرار خشيةً من الوقوع في الطيرة لا أمرًا بها (¬4). وقد تقدم الكلام على ذلك في: النهي عن التشبه بنمرود وقومه؛ فافهم! * تَنْبِيهٌ: ما ذكرناه عن الجاهلية من التطير كان هو الغالب عليهم، وربما كان فيهم من لا يتطير، وكانوا ربما مدحوا على ترك الطيرة كما قال قائلهم - وهو الأعشى - يمدح رجلًا: [من الطويل] وَلَيْسَ بِمُرْتابٍ إِذا شَدَّ رَحْلَهُ ... يَقُولُ عَدانِي الْيَوْمَ واقٍ وَحاتِمُ ¬
وَلَكِنَّهُ يَمْضِي عَلى ذاكَ مُقْدِمًا ... إِذا صَدَّ عَنْ تِلْكَ الْهناةِ الْجَارِمُ (¬1) الواقي؛ كالقاضي: الصُّرد، وهو طائر فوق العصفور أبقع، نصفه أبيض ونصفه أسود، ضخم الرأس، ضخم المنقار، أصابعه عظيمة، لا يرى إلا في سعفة أو شجرة، ولا يقدر عليه أحد، وكنيته: أبو كبير، وله صفير مختلف يصفر لكل طائر يريد أن يصيده بلغته (¬2). قال في "الصحاح": ويقال: هو الواق - بكسر القاف بلا ياء - لأنه سمي بذلك لحكاية صوته، وأنشد بيته الآخر (¬3). والجثارم - بضم الجيم، وبالمثلثة - قال ابن قتيبة: هو الذي لا يتطير (¬4). والحاتم كما في "الصحاح": الغراب الأسود. قال في "القاموس": وغراب البين، وهو أحمر المنقار والرجلين (¬5). ¬
وسمي حاتمًا؛ قال في "الصحاح": لأنه يحتِم عندهم بالفراق؛ يعني: إنه مأخوذ من الحتم، وهو القضاء، والحاتم: القاضي (¬1). وقال المرقِّش: [من مجزوء الكامل المرفّل] وَلَقَدْ غَدَوْتُ وَكُنْتُ لا ... أَغْدُو عَلى واقٍ وَحاتِمْ فَإِذا الأَشائِمُ كَالأَيا ... مِنِ وَالأَيامِنُ كَالأَشائِمْ وَكَذاكَ لا خَيْرَ وَلا ... شَرَّ عَلَى أَحَدِ بِدائِمْ (¬2) وهذا كما كان في الجاهلية من كان يؤمن بالقدر كما قال قائلهم: [من الرجز] يا أَيُّها الْمُضْمِرُ هَمًّا لا تَهَمْ ... إِنَّكَ إِنْ تُقْدَرْ لَكَ الْحِمَى تحمْ وَلَوْ عَلَوْتَ شاهِقًا مِنَ الْعَلَمْ ... كَيْفَ يُوْقِيْكَ وَقَدْ جَفَّ الْقَلَمْ (¬3) وأنشد اللالكائي في "شرح السنة" لذي الإصبع العُدواني: [من الهزج] لَيْسَ الْمَرْءُ فِي شَيْءٍ ... مِنَ الإِبْرامِ وَالنَّقْضِ إِذا [أبرمَ] (¬4) أمرًا إخا ... لُهُ يَقْضِي وَلا يَقْضِي (¬5) ¬
75 - ومن أخلاق أهل الجاهلية: اعتقاد أن غير الله يضر أو ينفع حقيقة، والاستعانة بغير الله تعالى.
وأنشد الأصبهاني للبيد - وهو مما قاله قبل الإسلام - مشيرًا إلى المعنيين: الإيمان بالقدر، وإنكار الطيرة والتنجيم: [من الطويل] لَعَمْرُكَ ما تَدْرِي الطَّوارِقُ بِالْحَصا ... وَلا زاجِراتُ الطَّيْرِ ما اللهُ صانِعُ (¬1) قال في الصحاح: والطرق: الضرب بالحصا، وهو ضرب من التكهن، والطَّرَّاق: المتكهن، والطوارق: المتكهِّنات، وأنشد بيت لبيد (¬2). 75 - ومن أخلاق أهل الجاهلية: اعتقاد أن غير الله يضر أو ينفع حقيقة، والاستعانة بغير الله تعالى. قال الله تعالى حكاية عن الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان العرب في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه، فلا يكونون بشيء أشد وَلَعًا منهم بهم، فذلك قوله تعالى: {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]. رواه ابن مردويه (¬3). ¬
وقال الربيع بن أنس رحمه الله تعالى: كانوا يقولون: رب هذا الوادي من الجن، وكان أحدهم إذا دخل ذلك الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله تعالى، فيزيده بذلك رهقًا؛ أي: خوفًا. رواه عبد ابن حميد (¬1). وروى أبو نصر السجزي في "الإبانة" عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رجلًا من تميم كان جريًّا على الليل والرمال، وأنه سار ليلة في أرض مجنة فاستوحش، فعقل راحلته ثم توسد ذراعها، وقال: أعوذ بأعز أهل هذا الوادي من شر أهله، فأجاره شيخ منهم، وكان منهم شاب وكان سيدًا في الجن، فغضب الشاب لما أجاره الشيخ، فأخذ حربة له قد سقاها السم لينحر بها ناقة الرجل، فتلقاه الشيخ دون الناقة، فقال: [من الكامل] يا مالكُ بْنَ مُهَلْهَلٍ مَهْلًا ... فَذَلِكَ مَحْجِرِي وَإِزارِي عَنْ ناقَةِ الإِنْسانِ لا تَعْرِضْ لَهَا ... وَاخْتَرْ إِذا وَرَدَ الْمِياهُ أَبْوارِي إِنِّي ضَمِنْتُ لَهُ سَلامَةَ رَحْلِهِ ... فَاكْفُفْ يَمِينَكَ راشِدًا عَنْ جارِي وَلَقَدْ أتيْتَ إِلَيَّ ما لَمْ أَحْتَسِبْ ... أَلا رَعَيْتَ قَرابَتِي وَجِوارِي تَسْعَى إِلَيْهِ بِحَرْبَةٍ مَسْمُومَةٍ ... إِنِّي لِقُرْبِكَ يا أَبا الْيَقْطارِ فقال الفتى: [من الكامل] أَأَرَدْتَ أَنْ تَعْلُو وَتَخْفِضَ ذِكْرَنا ... فِي غَيْرِ مُزْريةٍ أَبا الْعَيْزارِ ¬
76 - ومن أخلاق أهل الجاهلية: الاستمطار بالأنواء، واعتقاد أنها ممطرة حقيقة، وقولهم: مطرنا بنوء كذا.
مُتَنَحِّلًا أَمْرًا لِغَيْرِكَ فَضْلُهُ ... فَارْحَلْ فَإِنَّ الْفَضْلَ لِلْبَزَّارِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ سَيِّدًا فِيما مَضَى ... إِنَّ الْخِيارَ هُمْ بَنُو الأَخْيارِ فَاقْصِدْ لِقَصْدِكَ يا مُنَكَّرُ إِنَّما ... كانَ الْمُجِيرُ مُهَلْهِلَ بْنَ دِثارِ فقال الشيخ: صدقت، كان أبوك سيدنا وأفضلنا، دع هذا الرجل لا أنازعك بعده أحدًا، فتركه، فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقص عليه القصة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا أَصابَ أَحَدًا مِنْكُمْ وَحْشةٌ، أَوْ نزَلَ بِأَرْضٍ مِجنةٍ فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِماتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لا يُجاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلا فاجِرٌ مِنْ شَرِّ ما يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها، وَمِنْ فِتَنِ اللَّيْلِ، وَمِنْ طَوارِقِ النَّهارِ إِلاَّ طارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ". وأنزل في ذلك: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] (¬1). 76 - ومن أخلاق أهل الجاهلية: الاستمطار بالأنواء، واعتقاد أنها ممطرة حقيقة، وقولهم: مُطرنا بنَوء كذا. قال الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ}؛ أي: شُكْرَ رزقِكم {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]. ¬
وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] قال: "شُكْرَكُمْ؛ يَقُولُونَ: مُطِرْنا بِنَوْءِ كَذا، وَبِنجْمِ كَذا" (¬1). وقال عبد الرحمن السُّلمي: قرأ علي رضي الله تعالى عنه الواقعة في الفجر فقال: وتجعلون شكركم أنكم تكذبون، فلما انصرف قال: إني قد عرفت أنه سيقول قائل: لم قرأها هكذا؟ إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها كذلك؛ كانوا إذا مطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله تعالى: وتجعلون شكركم أنكم إذا مطرتم تكذبون. رواه ابن مردويه (¬2). قال عوف: بلغني أن مشركي العرب كانوا إذا مطروا في الجاهلية قالوا: مطرنا بنوء كذا. رواه عبد بن حميد (¬3). وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: مطر الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شاكِرٌ وَمِنْهُمْ كافِرٌ؛ قالُوا: هَذهِ رَحْمَةٌ وَضَعَها اللهُ تَعالَى، وَقالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا"، فنزلت هذه الآيات: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ¬
حتى بلغ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 75 - 82] (¬1). قال شيخ الإسلام النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: إن قال مسلم: مطرنا بنوء كذا مريدًا أن النَّوء هو الموجد والفاعل المحدث الممطر، صار مرتدًا بلا شك، وإن قال مريدًا أنه علامة لنزول المطر، فنزل المطر عند هذه العلامة، ونزوله بفعل الله تعالى وخلقه، لم يكفر. واختلفوا في كراهته، والمختار أنه مكروه لأنه من ألفاظ الكفار، وهذا ظاهر الحديث، ونص عليه الشافعي في "الأم" (¬2)، وغيره؛ والله تعالى أعلم (¬3). وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ أَمْسَكَ اللهُ الْمَطَرَ عَنِ النَّاسِ سَبع سِنِينَ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ لأَصْبَحَتْ طائِفَةٌ كافِرِينَ يَقُولُونَ: هَذا بِنَوْءِ الْمِجْدَحِ"؛ يعني: الدبران (¬4). وهكذا في الحديث وقع تفسير المجدح بالدبران من الراوي، وهو - بالتحريك -: منزل من منازل القمر. وفي "القاموس": إنه الدبران، أو نجم صغير تحته، والثريا، وهو كمنبر، وبضم الميم منه (¬5). ¬
والحديث يحتمل وجهين: الأول: أنه على سبيل الفرض إشارة إلى أن هذا الاعتقاد لا يخلو الناس أن يكون فيهم من يعتقده ويقوله. والثاني: أن يكون فيه معجزة من حيث إنه إشارة أو إخبار بأنه أمر يأتي آخر الزمان بحبس المطر سبعًا، ثم يرسل فيقول قائل ذلك. قال جابر السُّوائي رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَخافُ عَلى أُمَّتِي ثَلاثًا؛ اسْتِسْقاءَكُمْ بِالأَنْواءِ، وَحَيْفَ السُّلْطانِ، وَتَكْذِيبًا بِالْقَدَرِ". رواه ابن جرير (¬1). وأخرجه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "ثَلاثٌ أَخافُ عَلى أُمَّتِي؛ الاسْتِسْقاءُ بِالأَنْواءِ، وَحَيْفُ السُّلْطانِ، وَالتَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ" (¬2). وروى البخاري في "تاريخه" - وقال: في إسناده نظر - والطبراني في "الكبير"، وآخرون عن مصعب بن عبيد الله بن جنادة بن مالك ¬
77 - ومن أعمال الجاهلية: الاستسقاء بالنيران، أو بنار شجر مخصوص، أو بغير ذلك ما سوى الدعاء والطلب من الله تعالى، والتوبة، والأعمال الصالحة، وكان التسليع في الجاهلية كما ذكره صاحب "الصحاح".
الأزدي، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ثَلاثٌ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْجاهِلِيَّةِ لا يَدَعُهُنَّ أَهْلُ الإِسْلامِ؛ اسْتِسْقاءٌ بِالْكَواكِبِ، وَطَعْنٌ فِي النَّسَبِ، وَالنِّياحَةُ عَلى الْمَيِّتِ" (¬1)، وله شواهد. 77 - ومن أعمال الجاهلية: الاستسقاء بالنيران، أو بنار شجر مخصوص، أو بغير ذلك ما سوى الدعاء والطلب من الله تعالى، والتوبة، والأعمال الصالحة، وكان التسليع في الجاهلية كما ذكره صاحب "الصحاح". قال في "القاموس": كانوا إذا أسنتوا علقوا السلع مع العشر بثيران الوحش، وحدروها من الجبال، وأشلوا في ذلك السلع - والعشراء؛ النار - يستمطرون بذلك. وفي "الصحاح": إنهم كانوا يعلقونها بذنابي البقر (¬2). وغلطه في "القاموس"، وقال: الصواب بأذناب البقر (¬3). يعني: إن الذنابا مفرد، وأوهم كلام "الصحاح" أنه جمع. ويشبه التسليع ما كان أهل مصر يصنعونه في جاهليتهم من إلقاء بكر في النيل بعد زفها وتزيينها ليوفى، وقصة مراجعة عمرو العاص ¬
لعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في ذلك، وإبطال عمر لهذه السنة الجاهلية مشهورة. وقد روى اللالكائي، والسِّلفي، وغيرهما عن قيس بن حجاج عمن حدثه: أن مصر لما فتحت أتى أهلها إلى عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه حين دخل بونة من أشهر [العجم] (¬1) وقالوا له: أيها الأمير! إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها. فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا تحتها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل. فقال لهم عمرو: إن هذا ما لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله. فأقاموا بونة وأبيب ومسرى لا يجري قليلًا ولا كثيرًا، حتى هموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب بذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فكتب: إنك أصبت بما فعلت، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، وإني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا، فألقها في النيل. فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو رضي الله تعالى عنهما أخذ البطاقة، ففتحها، فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل ¬
78 - ومن أعمال أهل الجاهلية: سب الدهر، والتشكي منه، ونسبة التقلبات إليه.
مصر: أما بعد! فإنك إن كنت إنما تجري من قِبَلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. قال: فألقى البطاقة في النيل، فلما ألقوا البطاقة أصبحوا يوم السبت وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة، وقطع الله تلك السُّنَّة عن أهل مصر إلى اليوم (¬1). 78 - ومن أعمال أهل الجاهلية: سب الدهر، والتشكي منه، ونسبة التقلبات إليه. قال الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. روى ابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، فأنزل الله تعالى هذه الآية (¬2). وأخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم بزيادة، ولفظه: فقال الله تعالى في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. ¬
79 - ومن أخلاقهم: أنهم كانوا يعتقدون أن الشمس والقمر لا تكسفان إلا لموت عظيم.
قال: وقال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار (¬1). وروى الشيخان عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قالَ اللهُ تَعالَى: يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ، وَأَنا الدَّهْرُ بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهارُ" (¬2). وروى أبو داود عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قالَ اللهُ تَعالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، فَيَقُولُ: يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَلا يَقُلْ أَحَدُكُمْ يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ؛ فَإِنِّي أَنا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنهَارَهُ" (¬3). قال الحافظ عبد العظيم: ومعنى الحديث: أن العرب كانت إذا نزل بأحدهم نازلة أو أصابته مصيبة أو مكروه سبَّ الدهر اعتقادًا منهم أن الذي أصابه فعل الدهر كما كانت العرب تستمطر بالأنواء؛ تقول: مطرنا بنوء كذا اعتقادًا أن ذلك فعل الأنواء، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬4). 79 - ومن أخلاقهم: أنهم كانوا يعتقدون أن الشمس والقمر لا تكسفان إلا لموت عظيم. وكذلك الحوادث العلوية كانقضاء النجم يعتقدون أنه لميلاد أو ممات. ¬
روى النسائي عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَهْلَ الْجاهِلِيَّةِ كانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْخَسِفانِ إِلاَّ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَماءِ الأَرْضِ، وَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْخَسِفانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَياتِهِ، وَلَكِنَّهُما خَلِيقَتانِ مِنْ خَلْقِهِ، يُحْدِثُ اللهُ فِي خَلْقِهِ ما يَشاءُ، فَأَيُّهُما انْخَسَفَ فَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ، أَوْ يُحْدِثَ اللهُ أَمْرًا" (¬1). وروى مسلم [عن ابن عباس - رضي الله عنهما -]، عن رجل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم: أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كُنتمْ تَقُولُونَ فِي الْجاهِلِيَّةِ إِذا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم؛ كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم، ومات رجل عظيم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِنَّها لا يُرْمَى بِها لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَياتِهِ، وَلَكِنْ ربُّنا تَبارَكَ اسْمُهُ إِذا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّماءِ الَّذِيْنَ يَلُونهمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذهِ السَّماءِ الدُّنْيا، ثمَّ قالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ بِماذا قالَ، فَيُخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّماواتِ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذ السَّماءَ الدُّنْيا، فَيْخَطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ، فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيائِهِمْ، وَيَرْمُونَ بِهِ ¬
80 - ومنها: دخول الإنسان على غيره، أو منزله بغير سلام ولا استئذان، واستبدال غيره به كقولهم: أنعم صباحا، وأنعم مساء، وحييتم صباحا، ومثل قول الناس الآن بعضهم لبعض: صباح الخير، مساء الخير من غير سلام، وكل ذلك مخالف للسنة.
فَما جاؤوا بِهِ عَلى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْذِفُونَ فِيْهِ وَيَزِيدُونَ" (¬1). 80 - ومنها: دخول الإنسان على غيره، أو منزله بغير سلام ولا استئذان، واستبدال غيره به كقولهم: أنعم صباحًا، وأنعم مساء، وحييتم صباحًا، ومثل قول الناس الآن بعضهم لبعض: صباح الخير، مساء الخير من غير سلام، وكل ذلك مخالف للسنة. روى القضاعي، والديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السَّلامُ تَحِيَّةٌ لِمِلَّتِنا، وَبَيانٌ لِذِمَّتِنا" (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلم عليه، يقول: حييت صباحًا، وحييت مساء، وكان ذلك تحية القوم بينهم، وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم، ويقول: قد دخلت، فيشق ذلك على الرجل، ولعله يكون مع أهله، فغير الله ذلك كله في [ستر وعفة] (¬3) فقال: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] الآية (¬4). قال: فلما نزلت آية التسليم والاستئذان في البيوت قال أبو بكر ¬
81 - ومنها: التحرج عن الأكل مع الضيف بخلا،
رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! كيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة، والشام وبيت المقدس، ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان؟ فرخص الله في ذلك، فأنزل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور: 29] بغير إذن (¬1). 81 - ومنها: التحرج عن الأكل مع الضيف بخلًا، ومع الخدام والفقراء ونحوهم استكبارًا في أنفسهم، واستحقارًا لمؤاكلتهم - وقد كان ذلك من فعل ملوك الجاهلية من العرب والروم والعجم - وعن أكل الإنسان وحده رياءً وسمعةً وافتخارًا بخلاف ما لو كان من باب المواساة وطلب البركة بالأكل مع الجماعة. روى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة رحمه الله تعالى قال: كان هذا الحي من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاته أن يأكل وحده في الجاهلية حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحفل وهو خارج حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61] (¬2). وروى المفسرون، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنهم كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره، ¬
82 - ومنها: الفخر بالآباء والأنساب والأحساب.
فرخَّص الله لهم فقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61] (¬1). عرَّفَنَا الله تعالى أن الأكل مباح في حالتي الاجتماع والانفراد ما لم يكن مقرونًا بقصد ممنوع منه كالافتخار والرياء، والاستكبار، والبخل. وفي تقديم قوله: {جَمِيعًا} إشارة إلى تفضيل الأكل مع الجماعة على الأكل مع الانفراد؛ لأن الجماعة رحمة، وفيها البركة كما في الحديث: "اجْتَمِعُوا عَلى طَعامِكُمْ يُبارَكْ لَكُمْ فِيهِ". 82 - ومنها: الفخر بالآباء والأنساب والأحساب. روى أبو داود، والترمذي وحسنه، والبيهقي بسند حسن واللفظ له، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَها بِالآباءِ، النَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرابٍ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَكافِرٌ شَقِيٌّ، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوامٌ يَفْتَخِرُونَ بِرِجالٍ إِنَّما هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلى اللهِ مِنَ الْجُعْلانِ الَّتِي [تدفع] (¬2) النَّتَن بِأَنْفِها" (¬3). ¬
والعبية - بضم المهملة، وكسرها، وكسر الموحدة المشددة، وبعدها مثناة تحت مشددة -: هي الفخر والنَّخْوة. وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجاهِلِيَّةِ، لا يَتْرُكُونهنَّ؛ الْفَخْرُ بِالأَحْسابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسابِ، وَالاسْتِسْقاءُ بِالنُّجُومِ، ثُمَّ النِّياحَةُ" (¬1). وروى ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء في "المختارة" عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم - أي: موسم الحج - يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] (¬2). وروى نحوه عن عبد الله بن الزبير، وأنس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء (¬3). وروى مسلم، وأبو داود، وابن ماجه عن عِياض بن حمار رحمه الله تعالى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ تَعالَى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَواضَعُوا ¬
83 - ومنها: الطعن في الأنساب.
حَتَّى لا يَفْخَر أَحَدٌ عَلى أَحَدٍ، وَلا يَبْغِي أَحَدٌ عَلى أَحَدٍ" (¬1). 83 - ومنها: الطعن في الأنساب. وهو من لوازم الفخر بالنسب؛ لأن الإنسان مهما افتخر على غيره برفعة نسبه عليه فقد وضع من نسب من فخر عليه، بل قد تذهب نفس المفتخر بنفسه إلى أنه لا يرضى أن يكون فوقه أشرف منه ليتم له الفخر بنسبه، ولذلك قرن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الخصلتين في الحديث المتقدم. وروى البخاري في "تاريخه"، والطبراني في "الكبير" عن جُنادة ابن مالك - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "ثَلاثٌ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْجاهِلِيَّةِ لا يَدَعُهُنَّ أَهْلُ الإِسْلامِ؛ اسْتِسْقاءٌ بِالْكَواكِبِ، وَطَعْنٌ فِي النَّسَبِ، وَالنِّياحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ" (¬2). 84 - ومنها: التنابز بالألقاب المشعرة بالذم. روى الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب"، وأصحاب السنن الأربعة، والمفسرون، وأبو يعلى، والطبراني، وآخرون، وصححه ابن حبان، والحاكم، عن أبي جبيرة بن الضحاك رضي الله تعالى عنه قال: فينا نزلت في بني سلمة: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]؛ قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، ¬
85 - ومنها: التمادح لا على وجه التقرب إلى الله تعالى بالإنصاف، وإنزال الناس منازلهم، بل على وجه المداهنة والمراءاة، والتقرب إلى قلوب الناس تحصيلا للأغراض الفاسدة.
وكان إذا دعي أحدهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله! إنه يكره هذا الاسم، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات: 11] (¬1). وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). 85 - ومنها: التمادح لا على وجه التقرب إلى الله تعالى بالإنصاف، وإنزال الناس منازلهم، بل على وجه المداهنة والمراءاة، والتقرب إلى قلوب الناس تحصيلًا للأغراض الفاسدة. وعليه كان تمادح أهل الجاهلية، وإياه عنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إِيَّاكُمْ وَالتَّمادُحَ؛ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ". رواه ابن ماجه من حديث معاوية رضي الله تعالى عنه (¬3). وروى ابن أبي الدنيا عن مطرِّف بن عبيد، عن عبيد رضي الله تعالى عنه قال: قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رهط من بني عامر فقالوا: أنت ¬
والدنا، وأنت سيدنا، وأنت أفضلنا علينا فضلًا، وأنت أطولنا علينا طولًا، وأنت الجفنة الغَّراء، وأنت وأنت، فقال: "قُولُوا قَوْلَكُمْ، وَلا يَسْتَهْوِيَنَّكمُ الشَّيْطانُ" (¬1). وأخرجه أبو داود، والنسائي في "اليوم والليلة" بلفظ آخر (¬2). وفيه إشارة إلى أن اللسان إذا أطلق في الثناء - ولو بالصدق - فيخشى أن يستهوي الشيطان إلى الزيادة المستغنى عنها؛ قاله في "الإحياء" (¬3). واعلم أن المدح قد يشتمل على كذب، أو رياء، أو شهادة بظن أو توهم، أو تفريح ظالم أو فاسق، وتجرئتهما على الظلم والفسق، وقد يُحدث في الممدوح كِبرًا أو إعجابًا، وهما مهلكان، أو فتورًا عن الخير، أو رضى عن النفس، ومن هنا كان المدح ذبحًا. وروى [ابن] زنجويه في كتاب "الأدب": أن رجلًا مدح رجلًا بحضور عمر رضي الله تعالى عنه [فقال]: عقرت الرجل عقرك الله (¬4). وعلى ما ذكرناه كانت أمداح أهل الجاهلية بعضهم ببعض، وربما ¬
86 - ومنها: التمدح وتزكية النفس.
كان الحامل لهم على المدح التوصل إلى الدنيا، وهو شرك صِرف، وجاهلية مَحْضة، وعليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اُحْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرابَ". رواه مسلم من حديث المقدام رضي الله تعالى عنه (¬1). وحمله بعضهم على ظاهره، وجعله إشارة إلى تعزيرهم بذلك. والأكثرون حملوه على المجاز، وأن المراد به مقابلتهم بالخيبة والحرمان، وهو خلاف ما قصدوه، وهو أبلغ من التعزير (¬2). 86 - ومنها: التمدح وتزكية النفس. وأمر أهل الجاهلية في ذلك مشهور، وأشعارهم مشحونة بذلك. قال الله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. 87 - ومنها: المشي في القميص من غير رداء، ونحوه مما يتم به التستر؛ لأن ذلك يؤدي إلى كشف العورة أو بدوها، وروح هذه الخصلة يرجع إلى قلة الحياء والتستر، وهما من الإيمان، وضدهما من الجهل. روى ابن ماجه عن عمران بن حصين، وأبي برزة رضي الله تعالى عنهم قالا: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فرأى قومًا قد طرحوا ¬
88 - ومنها: تبرج النساء.
أرديتهم يمشون في قمص، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبِفِعْلِ الْجاهِلِيَّةِ تَأْخُذُونَ؟ أَوَ بِصُنع الْجاهِلِيَّةِ تشَبَّهُونَ؟ فَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَدْعُوَ عَلَيْكُمْ دَعْوَةً تَرْجِعُونَ فِي غَيْرِ صُوَرِكُمْ"، فأخذوا أرديتهم ولم يعودوا لذلك (¬1). 88 - ومنها: تبرج النساء. قال الله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]. وروى عبد بن حميد عن معاوية بن قرة - رضي الله عنه - قال: كان نساء الجاهلية يلبسن الخلاخل الصُّم، فأنزل الله هذه الآية: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] (¬2). فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال، أو يكون على حليها جلاجل فتحركهن عند الرجال، فنهى الله عن ذلك لأنه من عمل الشيطان. رواه المفسرون (¬3). قلت: حدث هذا في الأزمنة المتأخرة في أكثر النساء أنهن يضعن في ضفائرهن الجلاجل، وربما مشين به في الأسواق، وربما سَمَّينه: ¬
89 - ومنها: اعتزال الحائض في المسكن والمؤاكلة، وتقدم أن اليهود كذلك.
منبه سيده، وظهورهن بذلك في الرجال، وإن تسترن وأكثر تسترهن بما لا يعد ساترًا حرام بالنص لأنه من التبرج بلا شك. وروى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن أبي نجيح رحمه الله تعالى في قوله: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] قال: التبختر (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال: التبرج أن تلقي الخمار على رأسها ولا تشده، فيوراي قلادتها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، قال: ثم عمت - يعني: الآية - نساء المؤمنين في التبرج؛ يعني: إنهن كلهن يشاركن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن ذلك (¬2). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة رحمه الله تعالى: أن التبرج مِشْية فيها تكسُّر وتغنُّج؛ نهاهن الله عز وجل عن ذلك (¬3). 89 - ومنها: اعتزال الحائض في المسكن والمؤاكلة، وتقدم أن اليهود كذلك. وإتيان الحائض، وتقدم أن النصارى كذلك. والأول كان هو الأول فيهم، وكان الثاني إنما يفعله رعاعهم. ¬
90 - ومنها: اعتقاد العدوى.
وروى عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] قال: كان الجاهلية لا تساكنهم حائض في بيت، ولا تؤاكلهم في إناء، فأنزل الله تعالى الآية في ذلك، فحرم الله تعالى فرجها ما دامت حائضًا، وأحل ما سوى ذلك (¬1). 90 - ومنها: اعتقاد العدوى. روى الإمام أحمد، والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجاهِلِيَّةِ لَنْ يَدَعَهُنَّ النَّاسُ؛ الطَّعْنُ فِي الأَنْسابِ، وَالنِّياحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالأَنْواءُ: مُطِرْنا بِنَوْءِ كَذا وَكَذا، وَالإِعْداءُ: جَرِبَ بَعِيرٌ فَأَجْرَبَ مِئَةً؛ فَمَنْ أَجْرَبَ الْبَعِيرَ الأَوَلَ؟ " (¬2). قال أبو عبيد القاسم بن سلام في - صلى الله عليه وسلم - "أمثاله": ومن أمثالهم في أخذ البريء بذنب صاحب الجناية قولُ النابعة الذبياني: [من الطويل] حَمَلْتَ عَليَّ ذَنْبَهُ وَتَرَكْتَهُ ... كَذِي الْعُرِّ يُكْوَى غَيْرُهُ وَهْوَ راتِعُ ثم قال: تزعم العرب أن الإبل إذا أصابها العر، فكووا الصحيح زال العر عن السقيم (¬3). ¬
91 - ومنها: النياحة على الميت، والنعي، ولطم الخدود، وخمش الوجوه، وحلق الشعور ونشرها، وشق الجيوب في المصائب، والإسعاد في ذلك.
قال الأصمعي: العر - بضم العين -: قروح تخرج متفرقة في مشافر الإبل وقوائمها، يسيل منها مثل الماء الأصفر، وكان أهل الجاهلية بجهلهم إذا أصاب أحدهم هذا الداء كووا أذن بعير يرتعي معها في مشفره؛ يرون أنهم إذا فعلوا ذلك ذهب القروح. قال: وأما العر - وهو الجرب - فلا يكوى منه (¬1). وفي "القاموس": إن العر - بالضم -: عروق في أعناق الفصلان، وداء يتمعط منه وبر الإبل (¬2). 91 - ومنها: النياحة على الميت، والنعي، ولطم الخدود، وخمش الوجوه، وحلق الشعور ونشرها، وشق الجيوب في المصائب، والإسعاد في ذلك. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إلى قوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: منعهن أن ينحن، وكان أهل الجاهلية - أي: الإناث - يمزقن الثياب، ويخدشن الوجوه، ويقطعن الشعر، ويدعون بالويل والثبور. رواه ابن جرير (¬3). وروى عبد الرزاق، والإمام أحمد عن أنس رضي الله تعالى عنه ¬
قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - على النساء حين بايعهن أن لا ينحن، فقلن: يا رسول الله! إن نساء أسعدننا في الجاهلية، فنسعدهن في الإسلام؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا إِسْعادَ فِي الإِسْلامَ، وَلا شِغَارَ، وَلا عَقْرَ، وَلا جَلَبَ وَلا جَنَبَ، وَمَنِ انْتَهَبَ فَلَيْسَ مِنَّا" (¬1). وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ؛ الْفَخْرُ فِي الأَحْسابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسابِ، وَالاسْتِسْقاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّياحَةُ". وقال: "النَّائِحَةُ إِذا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِها تُقامُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَعَلَيْها سِرْبالٌ مِنْ قَطِرانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جربٍ" (¬2). وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيوبَ، وَدَعا بِدَعْوى الْجاهِلِيَّةِ" (¬3)؛ أي: قولهم في المصيبة: يا ثبوراه، يا ويلاه. وروى الترمذي من حديثه - مرفوعًا، وصححه موقوفًا - قال: "إِيَّاكُمْ وَالْنَّعْيَ؛ فَإِنَّ الْنَّعْيَ مِنْ عَمَلِ الْجاهِلِيَّةِ" (¬4). ¬
وروى مسلم، والترمذي عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة (¬1). الصالقة: التي ترفع صوتها بالنوح والندب. والحالقة: التي تحلق رأسها عند المصيبة. والشاقة: التي تشق أثوابها لذلك. والأحاديث في الباب كثيرة. فإن قلت: صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى للناس النجاشيَّ في اليوم الذي مات فيه (¬2)، وأنه نعى للناس زيدًا، وجعفرًا، وعبد الله ابن رواحة - رضي الله عنهم - (¬3)، وصح في قصة الرجل الذي مات ليلًا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفلا كُنتمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ" (¬4) الحديث، وذلك يدل على جواز النعي؟ فالجواب كما قال النووي، وغيره: إن النعي المنهي عنه إنما هو نعي الجاهلية، وكانت عادتهم إذا مات منهم شريف بعثوا راكبًا يسير في الناس يقول: نعاء فلان، ويذكر مآثره، وربما اعتاد بعض العرب كون الذي ينعي الميت من النساء، ويكون مع النعي ضجيج وبكاء كما يفعله كثير من النسوة الآن إذا مات الميت خرجن في الأزقة، ومن بيت إلى بيت ينعينه ويندبنه. ¬
92 - ومن أعمال أهل الجاهلية: الوصية بالنوح، والتعديد، واللطم، وما ذكر معه.
فأما إعلام أهل الميت وأقربائه وأصدقائه مجردًا عن النوح والندب فقد استحسنه المحققون والأكثرون من أصحابنا، وغيرهم. وذكر صاحب "الحاوي" لأصحابنا وجهين في الاستحباب: - الإيذان بالميت. - وإشاعة موته بالنداء والإعلام. فاستحب ذلك بعضهم للغريب والقريب لما فيه من كثرة المصلين عليه والداعين له، وقال بعضهم: يستحب ذلك للقريب، ولا يستحب لغيره. قال النووي: والمختار استحبابه مطلقًا إذا كان مجرد إعلام (¬1). 92 - ومن أعمال أهل الجاهلية: الوصية بالنوح، والتعديد، واللطم، وما ذكر معه. روى الخطابي، وغيره أن أهل الجاهلية كانوا يوصون أهليهم بالبكاء عليهم، والنوح عليهم. وكان ذلك مشهورًا من مذاهبهم، وهو موجود في أشعارهم كقول الشاعر: [من الطويل] إِذا مِتُّ فَانْعِيْنِي بِما أَنا أَهْلُهُ ... وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يا أُمَّ مَعْبَدِ (¬2) ¬
93 - ومنها: الإحداد على الميت أكثر من ثلاث لغير الزوجة، وإحداد الزوجة أكثر من أربعة أشهر وعشر، أو من مدة الحمل.
وأما حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في "الصحيحين"، وغيرهما: "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكاءِ أَهْلِهِ" (¬1). وحديث أبيه رضي الله تعالى عنهما: "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِما نِيحَ عَلَيْهِ" (¬2) فهو محمول على ما إذا أوصى بذلك، وعليه جرى المزني، وبقية الأصحاب، وجمهور العلماء (¬3). 93 - ومنها: الإحداد على الميت أكثر من ثلاث لغير الزوجة، وإحداد الزوجة أكثر من أربعة أشهر وعشر، أو من مدة الحمل. روى الشيخان، وأبو داود، والنسائي عن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثٍ إلا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا؛ فإنها لا تكتحل، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا"، الحديث (¬4). وروى الإمام مالك، وهؤلاء، والترمذي عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة، عن أمها رضي الله تعالى عنها قالت: جاءت امرأة ¬
94 - ومنها - وهو من جنس الإحداد -: أن يغير هيئته لموت أبيه، أو ابنه، أو قريبه، ويخرج بهيئة مزرية خلاف عادته إظهارا للحزن.
إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا"؛ مرتين أو ثلاثًا كل ذلك يقول: "لا". ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّما هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كانَتْ إِحْداكُنَّ فِي الْجاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعرةِ عَلى رَأْسِ الْحَوْلِ". قال حميد: فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حِفْشًا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبًا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر، فتفتضُّ به، فقلما تفتضُّ بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره. وسئل مالك - رضي الله عنه -: ما تفتضُّ؟ قال: تمسح به جلدها (¬1). 94 - ومنها - وهو من جنس الإحداد -: أن يغير هيئته لموت أبيه، أو ابنه، أو قريبه، ويخرج بهيئة مزرية خلاف عادته إظهارًا للحزن. وأشد منه تحميم الوجه، أو صبغ الثوب بالزُّرقة أو السواد، وذلك كله من الجهل والجزع المخالف لما أمره الله به من الصبر ¬
95 - ومنها: أن يدفن مع الميت شيء من مال صامت، أو حيوان، أو يجعل عند قبره ليستأنس به، أو ليقيه من الأرض، أو لغير ذلك من الاعتقادات الفاسدة.
والرجوع إلى الله تعالى. روى ابن ماجه عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما، وأبي برزة رضي الله تعالى عنه قالا: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فرأى قومًا قد طرحوا أرديتهم يمشون في قميص، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبِفِعْلِ الْجاهِلِيَّةِ تَأْخُذُونَ؟ أَوْ بِصُنع الْجاهِلِيَّةِ تتَشَبَّهُونَ؟ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَدْعُوَ عَلَيْكُمْ دَعْوةً تَرْجِعُونَ فِي غَيْرِ صُوَرِكُمْ". قال: فأخذوا أرديتهم ولم يعودوا لذلك (¬1). 95 - ومنها: أن يدفن مع الميت شيء من مال صامت، أو حيوان، أو يجعل عند قبره ليستأنس به، أو ليقيه من الأرض، أو لغير ذلك من الاعتقادات الفاسدة. فإن دفن ما سوى الكفن والحنوط مع الميت إضاعة مال، وقد نهى عن إضاعة المال، وقد انقطع الميت عن الدنيا فلا يحس بشيء من الدنيا استئناسًا أو استيحاشًا. نعم، أنسه ووحشته بأعماله؛ أي: بما ترتب عليها من ثواب أو عقاب. نعم، يستأنس بالذكر والقرآن والدعاء، وينتفع بذلك، وبالصدقات. ذكر الشهرستاني في "الملل والنحل": أن بعض العرب كان إذا حضره الموت قال لوليه: ادفنوا معي راحلتي حتى أحشر عليها (¬2). ¬
وكانوا يربطون الناقة معكوسة إلى مؤخرها مما يلي ظهرها أو بطنها، ويتركونها حتى تموت عنده، ويسمونها: بلية. وقال جريبة بن الأشيم الأسدي حين حضره الموت يوصي ابنه سعدًا: [من الكامل] يا سَعْدُ إِمَّا أَهْلِكَنَّ فَإِنَّنِي ... أُوْصِيكَ إِنَّ أَخا الوُصاةِ الأَقْرَبُ لا تَتْرُكَنْ أَخاكَ يُحْشَرُ راجِلًا ... فِي الْحَشْرِ يُصْرعُ لِلْيَدَيْنِ وَيُنْكَبُ وَلَعَلَّ فِيما قَدْ تَرَكْتُ مَطِيَّةً ... فِي الْحَشْرِ أَرْكَبُها إِذا قِيلَ ارْكَبُوا وقال الجوهري في "صحاحه": البلية: الناقة التي كانت تُعقل في الجاهلية عند قبر صاحبها، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت؛ أو يحفر لها حفرة، وتترك فيها إلى أن تموت؛ لأنهم كانوا يزعمون أن الناس يحشرون ركبانًا على البلايا، أو مشاة إذا لم تُعكس مطاياهم على قبورهم، تقول منه: أَبْلَيتُ، وَبلَّيتُ؛ يعني: بالتشديد. قال الطرمَّاح: [من الوافر] مَنازِلُ لا تُرى الأَنْصابُ فِيها ... وَلا حُفَرُ الْمُبَلِّي لِلْمَنُونِ أي: إنها منازل أهل الإسلام دون الجاهلية. وقامت مبلِّيات فلان يَنُحْنَ عليه، وذلك أن يقُمن حول راحلته إذا مات (¬1). وقال في مادة: (ول ي): الوليَّة: البَرْذعة، ويقال: بل التي ¬
تكون تحت البرذعة، والجمع الولايا، وقولهم: كالبلايا رؤوسها في الولايا يعني: الناقة التي كان تعكس على قبر صاحبها، ثم تطرح الولية على رأسها إلى أن تموت، انتهى (¬1). والعكس كما في "القاموس"، وغيره: أن يشد حبلًا في خطم البعير إلى يديه ليذل، وذلك الحبل عكاس - بالكسر - (¬2)، وهو أحد الوجهين اللذين ذكرهما الشهرستاني (¬3). ولقد صادف الحق من اعتقد من العرب أن الناس منهم على مطايا، ولكنهم أخطؤوا فيما اعتقدوه من أن البلية تكون مطية إذا دفنت مع الميت أو عكست عنده حتى تموت صبرًا، وهلا أوصوا بالصدقة بها، أو بلحمها، وأطعموه الفقراء؛ فإن فيه رجاء لذلك. وفي الحديث: "اسْتَفْرِهُوا ضَحاياكُمْ؛ فَإِنَّها عَلى الصِّراطِ مَطاياكُمْ". رواه الديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬4). ويحتمل أن يكون التقدير: فإن ثوابها مطاياكم على الصراط. ¬
96 - ومن أخلاق أهل الجاهلية: معاداة أولياء الله تعالى، وإيذاؤهم، وإخراجهم من أوطانهم.
96 - ومن أخلاق أهل الجاهلية: معاداة أولياء الله تعالى، وإيذاؤهم، وإخراجهم من أوطانهم. وقد فعلوا ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبأصحابه حتى هاجروا إلى الحبشة، ثم إلى المدينة. وروى أبو يعلى بسند حسن، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة قال: "أَما وَاللهِ إِنِّي لأَخْرُجُ مِنْكِ وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللهِ إِلَيَّ وَأَكْرَمُها عَلَيَّ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي ما خَرَجْتُ" (¬1). وروى البزار بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف على الحزورة فقال: "لَقَدْ عَلِمْتِ أَنَّكِ أَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ أَخْرَجُونِيَ مِنْكِ لَما خَرَجْتُ" (¬2). 97 - ومنها: الغل، والحقد، والحسد، والعداوة، والبغضاء، والحمية. ما لم تكن العداوة لنصرة الله وأمره، ومن ثم امتنَّ الله تعالى على أوليائه بقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر: 47]. ¬
ومن ثم أيضًا أُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول في تعوذه: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]. وروى ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: أن هذه الآية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر: 47] نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه. قيل: وأي غل؟ قال: غل الجاهلية؛ إن بني تميم، وبني عدي، وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية غل، فلما أسلم هؤلاء تحابوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي يسخِّن يده، فيكمِّد بها خاصرة أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، فنزلت هذه الآية (¬1). وروى ابن إسحاق، وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى قال: مر شاس بن قيس - وكان يهوديًا - على نفر من الأوس والخزرج يتحدثون، فغاظه ما رأى من تألُّفهم بعد العداوة، فأمر شابًا معه من يهود أن يجلس بينهم، فيذكرهم يوم بعاث، ففعل، فتنازعوا وتفاخروا حتى وثب رجلان؛ أوس بن قيظي من الأوس، وجبار بن صخر من الخزرج، فتقاولا، وغضب الفريقان، وتواثبوا للقتال، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء حتى وعظهم، وأصلح بينهم، فسمعوا وأطاعوا، فأنزل الله تعالى في أوس وجبار: {يَا أَيُّهَا ¬
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 100 - 103] الآية (¬1). وقال أهل الأخبار: كان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم، فوقعت بين القبيلتين عداوة بسبب قتيل، فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم عشرين ومئة سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام، وألَّف بينهم برسوله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرهم الله تعالى بقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] (¬2). قال [ ... ] (¬3): والآية شاملة للأنصار وغيرهم ممن كانوا متعادين في الجاهلية متدابرين حتى امتن الله عليهم بالإسلام، فتحابوا وتواصلوا في ذات الله، وتعاونوا على البر والتقوى. وروى الإمام مالك، والشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقاطَعُوا، ¬
98 - ومنها: الأمن من مكر الله تعالى، واليأس من رحمته، وكفران نعمه وشدة الفرح بالنعمة مع نسيان المنعم بها، والفخر بما لا يملك، والبطر والاغترار بالله تعالى، والجزع من الضراء والمصاب.
وَلا تَدابَرُوا، وَلا تَباغَضُوا، وَلا تَحاسَدُوا، وَكُونُوا عِبادَ اللهِ إِخْوانًا، وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ" (¬1). ومن لطائف أبي نواس الحسن بن هانئ كما أورده عنه ابن كثير: [من السريع] يا سَيِّدِي عِنْدَكَ لِي مَظْلَمَة ... فَاسْتَفْتِ فِيها ابْنَ أَبِي خَيْثَمَة فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ عَنْ جَدِّهِ ... قالَ رَوى الضَّحَّاكُ عَنْ عِكْرِمَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُصْطَفى ... مُحَمَّدِ الْمَبْعُوثِ بِالْمَرْحَمَة إِنَّ انْقِطاعَ الْخِلِّ عَنْ خِلِّهِ ... فَوْقَ ثَلاثٍ رَبُّنا حَرَّمَه وَأَنْتَ مُذْ شَهْرٍ لَنا هاجِرٌ ... أَما تَخافُ اللهَ فِينا أَمَّه (¬2) 98 - ومنها: الأمن من مكر الله تعالى، واليأس من رحمته، وكفران نعمه وشدة الفرح بالنعمة مع نسيان المنعم بها، والفخر بما لا يملك، والبطر والاغترار بالله تعالى، والجزع من الضراء والمصاب. وكل ذلك أخلاق جاهلية منشؤها الجهل بالله وبالنفس وبالمال. ومن هنا قال موسى عليه السلام: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]. ¬
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من بيته قال: "بِسْمِ اللهِ، رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَزِلَّ، أَوْ أَضِلَّ، أَوْ أَظْلِمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ". أخرجه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها (¬1). وهو عند أبي داود بلفظ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ" (¬2). قال الله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 - 99]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9 - 11]. قال ابن جريج رحمه الله تعالى في الآية: يا ابن آدم! إذا كان لك نعمة من الله من السَّعة والأمن، والعافية فكُفورٌ لما بك منها، وإذا ¬
99 - ومنها: الإصرار والتمادي في الضلال، وعدم الاتعاظ بالآيات، وعدم الاستكانة والتضرع عند نزول البليات تجلدا على الله تعالى، ومكابرة في المعاندة لأمر الله تعالى.
نزعت منك يبتغي لك فراغك فيَؤُوس من رَوح الله، قَنُوط من رحمته، كذلك أمر الكافر (¬1). وفي قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} [هود: 10] قال: غرة بالله، وجرأة عليه، إنه لفرح والله لا يحب الفرحين، فخور بما أعطى لا يشكر الله تعالى. رواه ابن جرير، وأبو الشيخ (¬2). 99 - ومنها: الإصرار والتمادي في الضلال، وعدم الاتعاظ بالآيات، وعدم الاستكانة والتضرع عند نزول البليات تجلُّداً على الله تعالى، ومكابرة في المعاندة لأمر الله تعالى. قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ}، يعني: قريشًا، وسائر العرب، وسائر الناس {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون: 73 - 77]. قال مجاهد في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} [المؤمنون: 76]؛ يعني: السَّنَة والجوع. أخرجه ابن المنذر (¬3). ¬
وروى العسكري في "المواعظ" عن علي رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} [المؤمنون: 76] قال: لم يتواضعوا إلى الدعاء، ولم يخضعوا, ولو خضعوا لاستجاب لهم (¬1). وروى ابن جرير عن الحسن رحمه الله تعالى في الآية قال: إذا أصاب الناس من قبل السلطان بلاءٌ فلا يستقبلوا نقمة الله بالحمية، ولكن استقبلوها بالاستغفار، واستكينوا وتضرعوا إلى الله تعالى (¬2). واعلم أن هذا الخلق الجاهلي قد يتفق لبعض الشُّطَّار إذا نزل بهم البلاء من القتل، أو الجلد، أو غيرهما من العذاب؛ تجلدوا، وأظهروا الصبر والشجاعة على ذلك مفتخرين بالتجلد، عائبين على من يجزع منهم في مثل هذه الحالة. وبالجملة: فإن كل معصية فإنها تنشأ عن الجهل بالله تعالى، وأهل الجاهلية أشد جهالة بالله تعالى فهم أحق بأن تنسب كل معصية إليهم، ولكنا نبهنا في هذا الكتاب على هذه النبذة من أمهات أخلاقهم ليحذرها أهل المعرفة والديانة. ولما كان أبو جهل بن هشام مسارعًا في عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - متجرأً عليه سمي أبا جهل، كأن كل جهل فهو أصله، وهو منسوب إليه، وإنما كانت كنيته أبا الحكم. ومن لطائف الشيخ أحمد بن علوان أحد أولياء اليمن وساداته: ¬
تتمة
أنه قال: ثلاث خصال منكن فيه فهو يكنى أبا الجهل وإن كان عالمًا؛ الكبر، والحرص، والشح. وثلاث خصال من كن فيه فهو يكنى أبا العلم وإن كان أمياً؛ التواضع، والزهد، والسخاء. * تَتِمَّةٌ: روى ابن أبي شيبة عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: كنا نأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجلس أحدنا حيث ينتهي، وكانوا يتذاكرون الشعر وحديث الجاهلية عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهاهم، وربما تبسم (¬1). وعن عتبة بن عبد الرحمن، عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: كنت أجالس أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي في المسجد، فيتناشدون الأشعار، ويذكرون حديث الجاهلية (¬2). وعن أبي سلمة -يعني: ابن عبد الرحمن- قال: لم يكن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متحزِّقين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون (¬3). فعلم من ذلك أن ذكر حديث الجاهلية ليظهر فضل العلم والمعرفة والدين، ولتحذر أخلاقهم المناقضة للعلم من جملة ما كان ¬
عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم. وإنما المذموم من ذكر حديث الجاهلية ما كان على سبيل الاهتمام به، والاستحسان له والترغيب فيه، وهو مما يغلب على شرار الناس في آخر الزمان عند قيام الساعة، وقد بدت أوائله الآن، وصنعت منه يد الحدثان. روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: أكثروا الطواف بالبيت قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه، وأكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع. قيل: وكيف يرفع ما في صدور الرجال؟ قال: يسرى عليه ليلاً فيصبحون منه قَواء ينسون قول: لا إله إلا الله، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم، فذلك حين يقع القول عليهم؛ أي: المشار إليه بقوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} [النمل: 82] (¬1). وروى الطبراني عنه قال: يسرى على القرآن ليلاً، فيذهب به من أجواف الرجال، فلا يبقى في الأرض منه شيء (¬2). وروى هو وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والمفسرون، وصححه الحاكم، عنه قال: إن هذا القرآن سيرفع. ¬
قيل: كيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا، وأثبتناه في المصاحف؟ قال: يسرى عليه في ليلة واحدة فلا يترك منه آية في قلب ولا مصحف إلا رفعت، فتصبحون وليس فيكم منه شيء، ثم قرأ: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عنه قال: اقرؤوا القرآن قبل أن يرفع؛ فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع. قالوا: هذه المصاحف ترفع، فكيف بما في الصدور؟ قال: يعدى عليه ليلاً فيرفع من صدورهم، فيصبحون يقولون: لكأنما كنا نعلم شيئًا، ثم يقعون في الشعر (¬2). وروى الحاكم وصححه، والبيهقي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَدْرُسُ الإِسْلامُ كَما يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ حَتَّى لا يُدْرَى ما صِيامٌ وَلا صَدَقةٌ وَلا نُسُكٌ، وَيُسْرَى عَلى كِتابِ اللهِ تَعالَى في لَيْلَةٍ فَلا يَبْقَى مِنْهُ في الأَرْضِ آيَة، وَيَبْقَى الشَّيْخُ الْكَبِيْرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ: أَدْرَكْنا آباَءَنا عَلى هَذهِ الْكَلَمِة: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَنَحْنُ نَقُولُها" (¬3). ¬
يقال: درس الرسم دروسًا: عفا وانمحى، ودرسَتْه الريح، يكون لازمًا ومتعديًا. وحقيقة الدروس الذهاب قليلاً قليلاً، وشيئًا بعد شي. والمعنى: إن الإِسلام تنقص أموره وتذهب واحدًا بعد واحد حتى يؤول الأمر إلى الجاهلية، وأول الإمارات غرابة الإِسلام كما في الحديث: "بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيُعُودُ غَرِيبًا كَما بَدَأَ" (¬1). ثم ذهابه -والعياذ بالله تعالى- بالكلية حتى لا يبقى من يقول: لا إله إلا الله، وهي آخر ما يبقى منه، فعليهم تقوم الساعة. وروى محمَّد بن نصر عن الليث بن سعد رضي الله تعالى عنه: إنما يرفع القرآن حين يقبل الناس على الكتب -أي: المخالفة له، أو المكتوبة برأيهم، وبما يستحسنونه -ويكُبُّون عليها، ويتركون القرآن (¬2). • • • ¬
(14) باب النهي عن التشبه بالمنافقين
(14) باب النهي عن التشبه بالمنافقين
(14) باب النهي عن التشبه بالمنافقين اعلم أن النفاق على قسمين: - اعتقادي: وهو إبطان الكفر وإظهار الإِسلام، وهو أشد أنواع الكفر، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وهذا يخلد صاحبه في النار. - وعملي: بأن يعتقد اعتقاد المسلمين، ويعمل أعمال المنافقين، وهو من أشد المعاصي وأكبر الذنوب. وسمي النفاق نفاقاً لأن المنافق يستر كفره أو فجوره، فأشبه الداخل في النفق، وهو السِّرب يستتر فيه، أو أشبه المنافق باليربوع، له جُحر يقال له: النافقاء، وآخر يقال له: القاصعاء، فإذا طلب من القاصعاء خرج من النافقاء، وكذلك المنافق يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي دخل منه فيه (¬1). وأول من عرف بالنفاق من بني آدم كنعان بن نوح كما تقدم. ¬
وأول من عرف بالنفاق من هذه الأمة: عبدُ الله بن أبي ابنُ سلول. ولم يكن قبل الهجرة نفاق ولا بعدها حتى كانت وقعة بدر العظمى، وأعلى الله كلمته، وأظهر الإِسلام وأعز أهله، قام عبد الله بن أبي، وكان رأساً في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين الخزرج والأوس في الجاهلية، وكانوا قد عزموا أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخبر، فأسلموا واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإِسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال: هذا أمر قد توجه، فأظهر الدخول في الإِسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته، وآخرون من اليهود، ومن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، ولذلك لم تذكر صفات المنافقين إلا في السور المدنية، وكل آية نزلت في المنافقين فهي بعد غزاة بدر. واعلم أن من تشبه بالمنافقين في الاعتقاد كأن شك في شيء مما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، أو أنكر شيئًا منه، وتلبس بأقوال الإِسلام وأعماله ظاهراً تقية، وخوفاً على دمه أو ماله، فهذا منافق حقيقة، وهو كافر مخلد في الدرك الأسفل من النار إذا مات؛ والعياذ بالله على ذلك. وقد سئل حذيفة - رضي الله عنه -: من المنافق؟ قال: الذي يصف الإِسلام ولا يعمل به. رواه ابن أبي شيبة (¬1). ¬
وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: ما صدَّقَ أحدٌ بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف هذا الحائط لم يصدق بها حتى يتجهم عليها (¬1). وأما من تشبه بالمنافقين في الأخلاق، أو الأعمال، أو الأحوال مع صحة الاعتقاد والتصديق، فهذا لا نحكم عليه بالكفر، ولا يستوجب الخلود في النار، لكنه عرض نفسه لأن يحشر معهم، ويكون في زمرتهم، وربما كان هذا مستجراً لهم إلى اعتقادهم. روى ابن أبي شيبة عن علي رضي الله تعالى عنه قال: الإيمان يبدأ نقطة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت بياضاً حتى يبيض القلب كله. والنفاق يبدأ نقطة سوداء في القلب، كما ازداد النفاق ازدادت سواداً حتى يسود القلب كله. والذي نفسي بيده لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود (¬2). وروى الإِمام أحمد، والطبراني عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْقُلُوبُ أَرْبَعةٌ، قَلْبٌ أجردٌ وَفِيهِ سِراجٌ يُزْهِرُ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَقَلْبٌ أَسْودُ مَنْكُوسٌ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْكافِرِ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبوطٌ عَلى غِلافِهِ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنافِقِ، وَقَلْبٌ ¬
مُصفحٌ فِيهِ إِيْمان وَنفاقٌ، فَمَثَلُ الإِيْمانِ فِيْهِ مَثَلُ الْبَقْلَةِ يَمُدُّها الْماءُ الطَّيِّبُ، وَمَثَلُ النِّفاقِ فِيهِ مَثَلُ الْقَرْحَةِ فِيهِ يَمُدُّها الْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ، فَأَيُّ الْمادَّتَينِ غَلَبَتْ عَلَيهِ ذَهَبَتْ بهِ" (¬1). وهذا الحديث يدل على أن من النفاق ما لا يخرج من الإيمان, وهو ما لا يكون في الاعتقاد والتصديق، ولكن مهما لم يكن واعظ القلب مساعداً للإيمان، فربما غلبه النفاق فذهب بالقلب. فمن ثم كان التشبه بالمنافقين شديد القبح، عظيم الخطر. وقد قال الله تعالى في النهي عن التشبه بالمنافقين خاصة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156]. قال مجاهد: هذا قول عبد الله بن أبي، والمنافقين (¬2). وقال في قوله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156]: يحزنهم قولهم لا ينفعهم شيئًا. رواهما ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬3). ¬
1 - فمن أخلاق المنافقين -وهو أقبحها-
ولا يكاد المفسرون يختلفون في الآية نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين. والآية تحتمل أن تكون في النهي عن التشبه بهم في هذا القول، ويحتمل أن تكون في النهي عن التشبه مطلقًا في كل أمر من أمورهم، وهو الأقرب إلى التحقيق. 1 - فمن أخلاق المنافقين -وهو أقبحها-: الكفر بالله تعالى، أو بصفة من صفاته، أو بقضائه وقدره، وإنكار أن تكون الأشياء بمشيئته، وإنكار ما أخبر به على لسان رسله من المعاد والبعث والنشور، وما يكون في اليوم الآخر من الأمور. وكفر المنافقين أشد الكفر، ولذلك كانوا في الدَّرْك الأسفل من النار. وروى ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: جاء عبد الله بن أبي وفي يده عظم حائل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكسره بيده، ثم قال: يا محمَّد! كيف يبعثه الله وهو رميم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَبْعَثُ اللهُ هَذا، وُيمِيتُكَ، وَيُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ". قال الله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] (¬1). ¬
2 - ومنها: الاستهزاء بالدين وأهله.
2 - ومنها: الاستهزاء بالدين وأهله. قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 14، 15]. روى الثعلبي، وغيره بسند ضعيف، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبَي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عبد الله بن أُبَيٍّ: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فذهب فأخذ بيد أبي بكر - رضي الله عنه - فقال: مرحباً بالصديق سيد بني تيم، وشيخ الإِسلام، وثاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال: مرحبا بسيد بني عدي بن كعب، الفاروق، القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أخذ بيد علي رضي الله تعالى عنه وقال: مرحبا بابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسولَ الله، ثم افترقوا، فقال عبد الله بن أُبَيٍّ لأصحابه قبحهم الله: كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليهم خيراً، ورجع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبروه بذلك، فأنزلت هذه الآية (¬1). ¬
وروى البيهقي في "الأسماء والصفات" عن ابن عباس في قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 4 - 15] قال: في الآخرة يفتح لهم باب في جهنم من الجنة، ثم يقال لهم: تعالوا، فيقبلون يسبحون في النار، والمؤمنون على الأرائك، وهي السُّرر في الحِجال ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سد عنهم، فيضحك المؤمنون منهم، فذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] في الآخرة، ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت دونهم الأبواب، فذلك قوله: ({فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] (¬1). وروى ابن أبي الدنيا، والبيهقي بإسناد حسن، عن الحسن رحمه الله تعالى -مرسلاً- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالنَّاسِ يُفْتَحُ لأَحَدِهِمْ بابٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَيُقالُ: هَلُمَّ هَلُمَّ، فَيَأْتِيهِ بِكَرْبِهِ وَغَمِّهِ، فَإِذا أَتاهُ أُغْلِقَ دُونهُ، فَما يَزالُ كَذَلِكَ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُفْتَحُ لَهُ البابُ، فَيُقالُ: هَلُمَّ هَلُمَّ، فَلا يَأْتِيهِ" (¬2). ¬
3 - ومنها: إظهار الإيمان, والصلاح، والزهد والورع مع إبطان أضدادها.
وروى الإِمام أحمد، وغيره عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنا، وَيرْحَمْ صَغِيرَنا، وَيعْرِفْ لِعالِمِنا حَقَّهُ" (¬1). وروى الطبراني بإسناد حسن، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاثة لا يَسْتَخِفُّ بِهِمْ إِلاَّ مُنافِق؛ ذُو الشَّيْبَةِ في الإِسْلامِ، وَذُو الْعِلْمِ، وإمام مُقْسِطٌ" (¬2). 3 - ومنها: إظهار الإيمان, والصلاح، والزهد والورع مع إبطان أضدادها. وهو حقيقة النفاق كما قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]. روى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما عن السدي قال في الآية: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة، أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: جئت أريد الإِسلام، ويعلم الله إني لصادق، ¬
4 - ومنها: الإفساد في الأرض.
فأعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك منه، وذلك قوله تعالى: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة: 204]، ثم خرج من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع، وعَقَر الحمر، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 205] الآية (¬1). وروى عبد بن حميد عن قتادة رحمه الله تعالى في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] الآيات؛ قال: هذا نعت المنافق، نعت عبدًا خائن السريرة، كثير خنع الأخلاق، يَعْرِف بلسانه ويُنكِر بقلبه، ويصدق بلسانه ويخالف بعمله، ويصبح على حال ويمسي على غيره، ويتكفأ تكفؤ السفينة، كما هبت الريح هب فيها (¬2). وعن محمَّد بن سيرين رحمه الله تعالى: كانوا يتخوفون من هذه الآية (¬3). وروى ابن المنذر عنه أنه قال: لم يكن عندهم أخوف من هذه الآية (¬4). 4 - ومنها: الإفساد في الأرض. قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ¬
5 - ومنها: الظلم في الولاية، أو مطلقا، ولا سيما في الولاية والعدوان.
{وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204، 205]. والفساد شامل لإهلاك الحرث والنسل كما فعل الأخنس ابن شريق، ولغيره، فهو من عطف الخاص على العام، وهو ضد الصلاح كما قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]. وإن فسرنا الفساد بأخذ المال ظلمًا كما ذكره في "القاموس" (¬1) فالعطف في الآية للمغايرة، فيكون وصفه بوصفين؛ أخذ المال لنفسه من صاحبه، وإتلافه على صاحبه، وهما من أعمال المنافقين. 5 - ومنها: الظلم في الولاية، أو مطلقًا، ولا سيما في الولاية والعدوان. سئل مجاهد رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة: 205]، قال: يلي في الأرض فيعمل فيها بالعدوان، فيحبس الله تعالى بذلك المطر، فيهلك الحرث والنسل، ثم قرأ مجاهد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬2). وحيث استدل مجاهد بالآية فبيانه أن الناس إذا تظالموا ولَّى الله ¬
6 - ومنها: أن المنافق يدعي أن إفساده إصلاح، وأن ظلمه عدل،
تعالى عليهم ظالماً ينتقم به منهم كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]. وإذا عاث ذلك الظالم فيهم وجارَ قحطت الأرض، فحبس المطر عنها، فيفسد زرعها ونسلها، فإنْ نُسب الفساد إلى ظلم الظالم كان صحيحًا، وإن نسب إلى كسب الناس كان صحيحًا لتسببه عنهما. والآية الأولى من الأول، والثانية من الثاني. واعلم أنا لم نرَ أحدًا من طالبي الولايات كان في طلبه يعد من نفسه العدل والعفة والإصلاح، ثم تولى إلا رأيناه تولى عما كان يزعمه من نفسه، بل ربما ظهرت منه أنواع من الظلم والفساد، ولو تولى ما تولاه من كان يوعد من نفسه بمثل ذلك لقصر عنه، وسبب ذلك أن طالب الولاية قد كتم في نفسه خلاف ما يدعيه لها، فإذا أمكنه عَرْضه ظهرَ مرضه. ولقد قلت في ذلك: [من السريع] لِلَّهِ كَمْ مِنْ رَجُلٍ مُعْجَبٍ ... لِلنَّاسِ ما قَدْ قالَهُ وَادَّعى قَدْ وَعَدَ الإِصْلاحَ في قَوْلهِ ... وَفِعْلِهِ إِنْ في الرَّعايا رَعَى تَحْسِبُهُ مِمَّا تَرى صالِحًا ... لَكِنَّهُ إِذا تَوَلَّى سَعَى 6 - ومنها: أن المنافق يدعي أن إفساده إصلاح، وأن ظلمه عدل، وأن إساءته إحسان، وأن فجوره بِرُّ؛ {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104].
تنبيه
قال الله تعالى في المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 11، 12]. قال مجاهد في الآية: إذا ركبوا معصية فقيل لهم: لا تفعلوا، قالوا: إنما نحن على الهدى. رواه ابن جرير (¬1). * تنبِيهٌ: أكثر المفسرين أن الآية نزلت في عبد الله بن أُبَيٍّ وأصحابه المنافقين، وهي شاملة لمن جاء بمثل ما جاؤوا به. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11]: أي: إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. رواه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم (¬2). لكنهما رويا عن عباد بن عبد الله الأسدي قال: قرأ سلمان - رضي الله عنه -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11]، فقال: لم يجئ أهل هذه الآية بعد (¬3). ¬
7 - ومنها: أن المنافق يسفه المؤمن، ويرى أنه على ضلال وباطل.
أشار سلمان رضي الله تعالى عنه: إلى أن الآية إنما هي فيمن بيدهم الإصلاح والإفساد، وهم الولاة؛ فإن المنافقين الذين كانوا في ذلك العهد ما كان لهم ولاية، وإنما كان إفسادهم على سبيل الدس والاختلاس، والآية معناها واضح في ولاة السوء؛ فإنهم يفسدون في الأرض وهم يدَّعون الإصلاح، ولهم من الجلساء والمترددين إليهم من يحسن لهم ما هم فيه، ويمالؤنهم على ما هم عليه، وإذا دخل على ذلك الوالي من ينبهه على حاله إن أمكن تنبيهه، أو التلويح له عارضه أولئك الغاشُّون لأنفسهم ولرفيقهم، وزيفوا أمره، وتأولوا أمره ونهيه كيف أمكنتهم المعارضة، مشافهة له في حضرته، أو في غيبته بعد خروجه، {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12]؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون! 7 - ومنها: أن المنافق يُسفِّه المؤمن، ويرى أنه على ضلال وباطل. قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]. قال ابن مسعود، والربيع، وابن زيد في قوله: {كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}: يعنون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه ابن جرير (¬1). وأخرج هو وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ¬
8 - ومنها: التلدد في الخصومة، وكثرة الخصومات -فإن كانت في غير الحق كانت أقبح-
مثله، وزاد في قوله: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ}، يقول: الجهال، {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} يقول: لا يعقلون (¬1). فالمنافق من خلقه أنه يطعن على المؤمنين، ويجهِّل العلماء، ويسفه الفقهاء. والشافعي رضي الله تعالى عنه: [من الوافر] وَمَنْزِلَةُ الْفَقِيهِ مِنَ السَّفِيهِ ... كَمَنْزِلَةِ السَّفِيهِ مِنَ الْفَقِيهِ فَهَذا زاهِدٌ في عِلْمِ هَذا ... وَهَذا مِنْهُ أَزْهَدُ مِنْهُ فِيهِ 8 - ومنها: التلدُّد في الخصومة، وكثرة الخصومات -فإن كانت في غير الحق كانت أقبح- والجدال في القرآن، والمِراء والجدل، وهو القدرة على الخصومة، وإنما يباح من ذلك ما كان بقدر الحاجة فبم إظهار الحق، والتوصل إليه. قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]؛ أي: [شديد] الخصومة، كما رواه ابن جرير عن ابن عباس (¬2). وروى الشيخان، والترمذي، والنسائي عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَبْغَضُ الرِّجالِ إِلَى اللهِ الأَلَدُّ الْخَصِيمُ" (¬3). ¬
وروى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْجِدالُ في الْقُرآنِ كُفْر" (¬1). وروى الفريابي عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: يهدم الإِسلامَ ثلاثٌ: زلة عالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة مضلون (¬2). وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَفَى بِكَ إِثْماً أَنْ لا تَزالَ مُمارِياً، وَكَفَى بِكَ ظُلْماً أَنْ لا تَزالَ مُخاصِماً، وَكَفَى بِكَ كَذِباً أَنْ لا تَزالَ مُحَدِّثاً إِلاَّ حَدِيثاً في ذاتِ اللهِ تَعالَى" (¬3). وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: من كَثُرت خصومتُه لم يَسْلَم دينهُ. رواه الإِمام أحمد (¬4). وقال ابن شُبْرُمَة رحمه الله تعالى: من بالغ في الخصومة أثم, ومن قصر فيها خصم، ولا يطيق الحق من يبالي على من به دار الأمر، ¬
9 - ومنها: الفجور في الخصومة أو مطلقا.
وفضل الصبر التصبر، ومن لزم العفاف هانت عليه الملوك والسُّوقة. رواه البيهقي في "الشعب" (¬1). ولنا في عَقْدِه مع زيادة عليه: [من المنسرح] مَنْ عَفَّ في كَسْبِهِ وَمَطْعَمِه ... هانَ عَلَيْهِ الْمُلُوكُ وَالسُّوَقُ وَالْحَقُّ ما اسْطاعَهُ سِوى رَجُلٍ ... لَمْ يثنِهِ الْخَوْفُ لا وَلا الْمَلَقُ وإنْ تَصَبَّرْتَ كانَ لَك الصَّبْـ ... ـر قَرِينًا وَحَبَّذا الْخُلُقُ وَحَيْثُ بالَغْتَ في الْخُصُومَةِ لَمْ ... تَسْلَمْ مِنَ الإِثْمِ هَكَذَا الْحَمَقُ وَإِنْ تَقْصُرْ خُصِمْتَ فَالْهَ إِذَنْ ... عَنِ الْخُصُوماتِ حَتَّى يَذْهَبَ وَلا يَغُرَّنَّكَ الْمَدِيحُ إِذا ... أثنَى عَلَيْكَ الْوَرَى وإنْ صَدَقُوا أَبْدَوْا لَكَ الْمَدْحَ ثُمَّتَ انْقَلَبُوا ... فَقَبَّحُوا في الثَّنا وَما رَفَقُوا فَالْجَأْ إِلَى اللهِ إِنَّهُ الصَّمَدُ ... وَاهْرُبْ مِنَ النَّاسِ إِنهمْ فُرُقُ كُلُّ الأَذَى مِنْهُمْ إِذا اعْتُبِروا ... والْغَيْظُ مَهْما نَظَرْتَ وَالأَرَقُ 9 - ومنها: الفجور في الخصومة أو مطلقًا. ولا شك أن المنافقين فجار، والمؤمنين أبرار. روى الشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كانَ مُنافِقاً خالِصاً، وَمَنْ ¬
10 - ومنها: التكبر عن امتثال الأمر بالتقوى، والأنفة من قبول الحق إذا دعي إليه.
كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حَتَّى يَدَعَها؛ إِذا ائتمِنَ خانَ، وإذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا خاصَمَ فَجَرَ" (¬1). 10 - ومنها: التكبر عن امتثال الأمر بالتقوى، والأنفة من قبول الحق إذا دعي إليه. بل مطلق الاستكبار من أخلاق المنافقين والفجار. قال الله تعالى في الآية التي نزلت في الأخنس، وأمثاله من المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206]. روى البيهقي في "الشعب" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن من أكبر الذنب عند الله أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله، فيقول: عليك نفسَك، أنت تأمرني (¬2)؟ وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن الحسن: أن رجلًا قال لعمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه: اتق الله، فذهب رجل ليزجره، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ما فينا خير إن لم نكن من التواضع، والقرب من الناس بحيث إنه يمكنهم أن يشافهونا بالنصيحة والتذكير، ¬
تنبيه
والأمر بالتقوى، وما فيهم خير إن لم يكونوا من الصلابة في الدين، وقوة الإيمان, وعدم المداهنة في الحق بحيث يواجهوننا بالأمر بالتقوى (¬1). وأراد عمر بقوله: (فينا) نفسَه، ومن كان مثله في الولاية من ولاة الأمور، وبقوله: (فيهم) جلساء الولاة والمترددين إليهم، وحال الولاة وأصحابهم على خلاف ذلك. وروى ابن المنذر، والبيهقي عن سفيان قال: قال رجل لمالك ابن المِغْوَل رحمه الله تعالى: اتق الله، فسقط، فوضع خده على الأرض (¬2)؛ تواضعاً لله تعالى. * تنبِيهٌ: فَهِمَ عمر، وعلي، وابن عباس - رضي الله عنهما -وناهيك بهم رؤوس العلم- من قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]، أي: يبيع نفسه بعد قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206]، أن الناس ما دام فيهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مخلصاً لله تعالى يختلفون، ويقتتلون على الحق، وهو كذلك. ¬
فروى عبد بن حميد عن عكرمة: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا تلا هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} [البقرة: 204] إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة: 207] قال: اقتتل الرجلان (¬1). وروى هو والبخاري في "تاريخه"، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أنه قرأ هذه الآية فقال: اقتتلا وربِّ الكعبة (¬2). وروى عبد [بن حميد]، وابن جرير عن صالح أبي الخليل قال: سمع عمر رضي الله تعالى عنه إنسانا يقرأ هذه الآية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ} [البقرة: 206] إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]، فاسترجع، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ قام الرجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فقتل (¬3). وروى ابن جرير عن ابن زيد رحمه الله تعالى: أن ابن عباس قرأ هذه الآية عن عمر رضي الله تعالى عنهم فقال: اقتتل الرجال، فقال له عمر: ماذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين! أرى ها هنا من إذا أمر بتقوى الله أخذته ¬
11 - ومن أخلاق المنافقين: اتباع الهوى.
العزة بالإثم، وأرى من يَشْري نفسه ابتغاء مرضاة الله؛ يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشري نفسي، فقاتله. فقال له عمر: لله درُّك يا ابن عباس (¬1)! وصحح الحاكم عن ابن عباس قال: كنت قاعدًا عند عمر إذ جاءه كتاب: أن أهل الكوفة قرأ منهم القرآن كذا وكذا، فكبر، فقلت: اختلفوا، قال: من أي شيء عرفت؟ قلت: قرأت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204]، فإذا فعلوا ذلك لم يصبر صاحب القرآن. ثم قرأت: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ} [البقرة: 206] إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة: 207] الآية، فقال: صدقت صدقت، والذي نفسي بيده (¬2). 11 - ومن أخلاق المنافقين: اتباع الهوى. قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 43، 44]. روى القاضي أبو بكر جعفر بن محمَّد الفريابي في كتاب "صفة ¬
المنافق" عن الحسن: أنه قال في هذه الآية: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43]، قال: هو المنافق، لا يرى شيئًا إلا ركبه (¬1). وروى عبد بن حميد عن الحسن أنه قيل له: "في أهل القبلة شرك؟ قال: نعم، المنافق مشرك، إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون الله، وإن المنافق عَبَدَ هواه، ثم تلا هذه الآية (¬2). وروى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تَحْتَ ظِلِّ السَّماءِ مِنْ إِلَهٍ فَيُعْبَدَ مِنْ دُونِ الله أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ هَوىً مُتَّبَعٍ" (¬3). وروى أبو نعيم عن أبي قلابة رحمه الله تعالى قال: مثل أصحاب الأهواء مثل المنافقين؛ فإن الله تعالى ذكر المنافقين بقول مختلف وعمل مختلف، وجماع ذلك الضلال، وإن أهل الأهواء اختلفوا في الأهواء، واجتمعوا على السيف (¬4). وأنشد ذو النون، وحماد: [من الخفيف] ¬
تنبيه
قَدْ بَقِينا مُذَبْذَبِينَ حَيارَى ... نطلُبُ الصّدْقَ ما إِلَيْهِ سَبِيلُ فَدَواعِي الْهَوى تخِفُّ عَلَينا ... وَخِلافُ الْهَوى عَلَينا ثَقِيلُ (¬1) وروى الطبراني في "الأوسط" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ نَفْسٍ تُحْشَرُ عَلى هَواها؛ فَمَنْ هَوِيَ الْكُفْرَ فَهُوَ مَعَ الْكُفَّارِ، وَلا يَنْفَعُهُ عَمَلُهُ شَيْئا" (¬2). * تنبِيهٌ: إن قلنا يقول الحسن: إن قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] إلى آخره في المنافقين، فقد شُبِّهوا في الآية بالأنعام، ثم جعلوا أضل، ووجه جعلهم كالأنعام أنهم لا ينتفعون بالآيات التي دعوا بها إلى الله، وأن المنافق لا يهوى شيئًا إلا ركبه كما أن الأنعام كذلك. ووجه كونهم أضل: أن الأنعام تنقاد لمتعهدها، وتُميز من أحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها، وتتجنب ما يضرها، والمنافقون لا ينقادون لربهم، ولا يشكرون إحسانه، ويعصونه، ويطيعون عدوه وعدوهم إلى غير ذلك. لا جرمَ شبَّههم في موضع آخر بالجمادات، فقال تعالى: {وَإِذَا ¬
12 - ومن أخلاق المنافقين
رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4]. قال ابن عباس في قوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}: نخل قيام. رواه ابن أبي حاتم (¬1). وذلك أن الآية نزلت في عبد الله بن أُبَيٍّ وأصحابه، وكان جميل الصورة، حسن السيرة، وكان له ولأصحابه حلاوة لسان، فشبهوا بالنخل الطوال الحسان، إلا أنهن لا يعقلون شيئًا، ومآلهم إلى النار، فحسن الصورة والبزة والتزين في الهيئة لا تكون مكرمة في الإنسان وهو بهيمة في الأخلاق، جماد عند الاحتياج إليه. وما أحسن قول بعض المتقدمين: [من الكامل] أَأُخَيَّ إِنَّ مِنَ الرِّجالِ بَهِيمَةٌ ... في صُورَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ الْمُبْصِرِ فَطِنٌ بِكُلِّ مُصِيبَةٍ في مالِهِ ... فَإِذا يُصابُ بِدِينهِ لَمْ يَشْعُرِ (¬2) 12 - ومن أخلاق المنافقين: الابتداع في الدين، ومجالسة المبتدعين. روى الأصبهاني عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: إن لله ملائكة يطلبون حِلَقَ الذكر، فانظر مع من يكون مجلسك، لا يكون ¬
13 - ومنها: الخوض في الباطل واللعب.
مع صاحب بدعة؛ فإن الله لا ينظر إليهم. قال: وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة (¬1). 13 - ومنها: الخوض في الباطل واللعب. قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]. نزلت في رجل قال في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا، لا أرغب بطونًا, ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فلما سئل عن ذلك أجابوا بما حكى الله عنهم. كما رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬2). وقال قتادة: نزلت في ناس قالوا في غزوة تبوك: أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها، هيهات هيهات! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْتُمْ كَذا؟ قُلْتُمْ كَذا؟ " فقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب. رواه ابن أبي حاتم، وغيره (¬3). 14 - ومنها: الوقيعة في أهل العلم، وحملة القرآن. وهي من الكبائر، وإن كانت غيبة غيرهم من الصغائر على أصح ¬
15 - ومنها: السرور بمصيبة المؤمن، والشماتة له، والحزن والمساءة بنعمته وحسنته.
القولين لما في حديث ابن عمر، وما حكاه عن المنافقين. وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49]. قال الحسن: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسمُّوا منافقين. رواه عبد الرزاق، وغيره. وقوله: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}؛ أي: فرأوا أن نصرتهم يوم بدر مع قتلهم وكثرة العدو، فاغتروا بسبب دينهم، وهذا ليس من الغرور، بل من الإيمان, فسماه المنافقون غروراً، وعدُّوه عيبًا على المؤمنين. 15 - ومنها: السرور بمصيبة المؤمن، والشماتة له، والحزن والمَساءة بنعمته وحسنته. قال الله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 50، 51]. قال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: جعل المنافقون الذين تخلفوا في المدينة -يعني: عن تبوك -يخبرون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبار السوء، يقولون: إن محمدًا وأصحابه قد جهدوا في سفرتهم وهلكوا، فبلغهم تكذيب حديثهم، وعافية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فبينما هم كذلك
تنبيه
فأنزل الله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [التوبة: 50]. رواه ابن أبي حاتم (¬1). ولما كان اعتقاد المنافقين [كالقدرّية] (¬2)، لا يعتقدون أن النفع والضرر من الله تعالى، بل يشكون في ذلك. قال الله تعالى لنبيه آمراً له بإظهار اعتقاده: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]. قال مسلم بن يسار رحمه الله تعالى: الكلام في القدر واديان عريضان يهلك الناس فيهما لا يدرك غَورهما، فاعمل عمل رجل يعلم أنه لا ينجيه إلا عمله، وتوكل توكل رجل علم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له. رواه ابن أبي حاتم (¬3). وروى الإِمام أحمد، والبزار عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَة، وَما بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيْمانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ ما أَصابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَما أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ" (¬4). * تَنْبِيهٌ: المؤمن بعكس المنافق؛ يفرح بنعمهَ المؤمن، ويسر بسروره، ¬
16 - ومنها: التكذيب بالخارق الذي يظهر على يد الصادق كمعجزة النبي، وكرامة الولي.
ويساء بمساءته، ويحزن لمصيبته، ويهتم بهمه، ويعنى بأمره. روى الطبراني، وأبو نعيم، والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَصْبَحَ لا يَهْتَمُّ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ غَيْرُ اللهِ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ" (¬1). رواه الحاكم بنحوه من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬2). 16 - ومنها: التكذيب بالخارق الذي يظهر على يد الصادق كمعجزة النبي، وكرامة الولي. والإيمان بذلك من أصول السنة. قال أبو تراب النخشبي رحمه الله تعالى: من لم يؤمن بكرامة الولي فقد كفر (¬3). وهو على التغليظ، أو يريد كفران النعمة، أو من حيث إن كرامة الولي معجزة لنبيه، والتكذيب بالمعجزة كفرٌ حقيقة. قال الله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64]. قال بعض العلماء: كانوا يظهرون الحذر من الفضيحة بالأمر ¬
17 - ومنها: التهاون بالصلوات الخمس، أو بواحدة منها، والتشاغل عند القيام إليها، وتأخيرها إلى وقت لا يسعها، وترك الطمأنينة فيها.
الخارق، ونزول السورة بهتك أستارهم استهزاء فلا يؤمنون بذلك، بدليل قوله تعالى: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا}. ومثل هذا يتفق كثيرًا في هذه الأزمنة من كثير من الفسقة إذا آذوا ولياً أو عالمًا، أو من يستحق الإكرام والاحترام، إذا قيل له في ذلك يقول: دعه يعطبني، أو يقتلني بحاله. وهذا من باب الاستهزاء بالمؤمنين، وهو من أخلاق المنافقين، وهو حرام، ومن باب إنكار كرامة الولي، وهي بدعة محرمة. وكثيرًا ما ينتهي أحدُ مَنْ هذا وصفُه إلى الهلاك والدمار، وخراب الدمار، مع ما لعله يلقاه في دار القرار. 17 - ومنها: التهاون بالصلوات الخمس، أو بواحدة منها، والتشاغل عند القيام إليها، وتأخيرها إلى وقت لا يسعها، وترك الطمأنينة فيها. قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]. قال قتادة رحمه الله تعالى: والله لولا الناس ما صلى المنافق، وما يصلي إلا رياء وسمعة. رواه ابن جرير وغيره (¬1). وروى مسلم، وأبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تِلْكَ صَلاةُ الْمُنافِقِ؛ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذا ¬
تنبيه
كانَتْ بَيْنَ قَرْنيِ الشَّيطانِ قامَ فَنَقَرَ أَرْبعاً لا يَذْكُرُ الله فِيها إِلاَّ قَلِيلًا" (¬1). ورواه الأصبهاني، ولفظه: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِصَلاةِ الْمُنافِقِ؟ يَدَعُ الْعَصْرَ حَتَّى إِذا كانَتِ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْني شَيْطانٍ أَوْ عَلى قَرْني شَيْطانٍ قامَ فَنَقَرَ كَنَقْراتِ الدِّيكِ لا يَذْكُرُ الله فِيهِنَّ إِلاَّ قَلِيلاً" (¬2). وروى الدارقطني، والحاكم وصححه، عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِصَلاةِ الْمُنافِقِ؟ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعَصْرَ حَتَّى إِذا كانَتِ الشَّمْسُ كثِرْبِ الْبَقَرِ صَلاَّها" (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في "الهواتف" عن عبد الملك بن عبد العزيز، وغيره قالوا: أخرَّ الوليد بن عبد الملك صلاة العصر بمِنى حتى صارت الشمس على رؤوس الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال، فسمع صائحًا من الجبل: صلِّ لا صلى الله عليك، صلِّ لا صلى الله عليك (¬4). * تنبيهٌ: روى أبو الشيخ في "الثواب" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ في السِّرِّ رُفعَ عَنْهُ اسْمُ النِّفاقِ". ¬
تنبيه ثان
والمعنى أن الصلاة في السر أقرب إلى الإخلاص في العبودية، فإذا صلى العبد في السر كانت طاعة خالصة محضة، بها يحصل حقيقة الشكر المستوجب للزيادة، والزيادة من الإخلاص، فخلص من النفاق. ثم نظير ذلك في امتحان نفسك في الإخلاص أن تنظر إلى ما بين حالك في الملأ، وحالك في الخلاء من اختلاف صلاتك وسائر عباداتك؛ إن أديتها في السر أحسن منها في العلانية، أو مثلها فأنت مخلص، وإلا فمُراءٍ ومستهزئ كما روى أبو يعلى عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَسَّنَ الصَّلاةَ حَيْثُ يَراهُ النَّاسُ وَأَساءَها مِنْ حَيْثُ يَخْلُو، فَتِلْكَ اسْتِهانة اسْتَهانَ بِها رَبهِ" (¬1). وليس وراء الاستهانة بأمر الله تعالى نفاقٌ، كما ليس مثل تعظيم الله تعالى وتعظيم أمره إيمانٌ. * تنبِيهٌ ثانٍ: على ذكر قوله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142] روى أبو الشيخ، وابن عساكر عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ في خَلاءٍ لا يَراهُ إِلاَّ اللهُ وَالْمَلائِكَةُ كانَتْ لَهُ بَراءَة مِنَ النَّارِ" (¬2). ¬
18 - ومن أخلاق المنافقين: القعود عن الجماعة، وعن شهود الجماعة في المسجد.
وروى ابن أبي الدنيا في "الصمت"، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنه كان يكره أن يقول الرجل: إني كسلان، ويتأول هذه الآية (¬1). ومعناه أنه كان يكره ذلك تباعداً بالعبد عن إطلاق لفظٍ وَصَفَ الله تعالى به المنافقين على نفسه تبرِّياً من النفاق. 18 - ومن أخلاق المنافقين: القعود عن الجماعة، وعن شهود الجماعة في المسجد. روى مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: من سره أن يلقى الله غدًا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهن؛ فإن الله تعالى شرع لنبيكم - صلى الله عليه وسلم - سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته تركتم سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمَدُ إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحُطُّ عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا ولا يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف الأول، ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم ¬
تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم (¬1). وروى الإِمام أحمد، والطبراني عن معاذ بن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْجَفا كُلُّ الْجَفا، وَالْكُفْرُ وَالنِّفاقُ مَنْ سَمعَ مُنادِيَ اللهِ يُنادي إِلَى الصَّلاةِ فَلا يُجِيبهُ" (¬2). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أثقَلُ الصَّلاةِ عَلى الْمُنافِقِينَ صَلاةُ الْعِشاءِ وَصَلاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ ما فِيهِما لأَتَوْهُما وَلَوْ حَبْواً، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فتقامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِيَ رِجالٌ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبِ إِلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ" (¬3). روى الشافعي عن عبد الرحمن بن حرملة مرسلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَيْنَنا وَبَيْنَ الْمُنافِقِينَ شُهُودُ الْعِشاءِ وَالصُّبْحِ، لا يَسْتَطِيعُونهما"، أو نحو هذا (¬4). ¬
وروى البزار، والطبراني، وابن خزيمة في "صحيحه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا الظن فيه (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار رحمه الله تعالى قال: والله إني لأجد صفة المنافقين في التوراة: شرَّابين للقهوات، تبَّاعين للشهوات، لعَّابين بالكعبات، رقَّادين عن العتمات، مفرطين في الغدوات، ترَّاكين للصلوات، ترَّاكين للجماعات، ثم تلا هذه الآية: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59] (¬2). قوله: شرَّابين للقهوات، جمع قهوة، وهي من أسماء الخمر، فأشار إلى أن من أخلاق المنافقين إدمان شربها. وأما إطلاق القهوة على المتخذة من البُن أو من قشره فإنه عرف حادث حدث بعد التسعمئة من الهجرة. ويجوز أن يكون مراداً بما ذكره كعب عن كتاب الله تعالى التوراة، ويكون ذلك من باب إخبار الله تعالى بما يصير بعد، ولا يرد ذلك بأن قهوة البن مباحة بإجماع العلماء إلا قليلاً منهم أنكرها في أول خروجها، ثم تبين لأكثرهم إباحتها؛ إذ قد يكون من أخلاق المنافقين وأعمالهم ¬
تنبيه
ما ليس بحرام، فهو من قبيل اتباع الشهوات المعطوف عليها؛ إذ ليس كل شهوة حرام. وقوله: رقَّادين عن العتمات، جمع عتمة، وهي صلاة العشاء. وقوله: مفرطين في الغدوات، جمع غدوة، والمراد صلاة الغداة، وهي الصبح، وقد تقدم في حديثه - صلى الله عليه وسلم - أنها أثقل الصلوات على المنافقين. * تنبِيهٌ: المحافظة على الجماعة من أخلاق المؤمنين كما علمت مما ذكرته آنفًا، وأوغل ما يكون المؤمن في الإيمان ما حافظ على التكبيرة الأولى مع الإِمام. وبعض السلف فاتته التكبيرة مع الإِمام مرة فأعتق رقبة، فإن لم يتيسر له إدراك التكبيرة الأولى فالركعة الأولى لأنه -وإن أدرك الجماعة بإدراك بعض الصلاة مع الإِمام- فإن إدراكها في الكل أتم. روى عبد الرزاق عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ تَفُتْهُ الرَّكْعَةُ الأُوْلَى أَرْبَعِينَ صَباحا كُتِبَ لَهُ بَراءَتانِ؛ بَراءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَراءَةٌ مِنَ النِّفاقِ" (¬1). ورواه ابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "مَنْ صَلَّى في مَسْجِدٍ جَماعَة أربَعِينَ لَيْلةً لا تَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ الأُولَى مِنْ صَلاةِ الْعِشاءِ ¬
19 - ومن أخلاق المنافقين
كتَبَ اللهُ لَهُ بِها عِتْقًا مِنَ النَّارِ" (¬1). 19 - ومن أخلاق المنافقين: خروج من أدركه الأذان وهو في المسجد من المسجد قبل الصلاة إلا لعذر. روى ابن ماجه عن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَدْرَكَهُ الأَذانُ في الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَخْرُجْ لِحاجَتِهِ، وَهُوَ لا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ، فَهُوَ مُنافِقٌ" (¬2). وروى أبو داود في "مراسيله" عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ النِّداءِ إِلاَّ مُنافِقٌ؛ إِلاَّ لِعُذْرٍ، أَخْرَجَتْهُ حاجَةٌ" (¬3). ¬
20 - ومنها: ترك الصف الأول رغبة عنه إلا لعذر.
20 - ومنها: ترك الصف الأول رغبة عنه إلا لعذر. قال القاضي عياض في حديث مسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ صُفوفِ الرِّجالِ أَوَّلُها، وَشَرُّها آخِرُهَا" (¬1): قد يكون سماه شراً لمخالفة أمره فيها عليه الصلاة والسلام، وتحذيرًا من فعل المنافقين لتأخرهم عنه وعن سماع ما يأتي به، انتهى. قلت: والذي يظهر أن الذي كان من أفعال المنافقين إنما هو اتخاذ التأخر عن الصف الأول عادة رغبة عنه، وعن القرب من الإِمام بدليل حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَزالُ قَوْمٌ يتأَخَّرُونَ عَنِ الصَّفِّ الأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخرَهُمُ اللهُ إِلَى النَّارِ". رواه ابن ماجه (¬2). وفي "صحيح مسلم" عن أبي سعيد - رضي الله عنه - نحوه (¬3). 21 - ومنها: أن يعتاد أن لا يهتم بتكبيرة الإحرام. وقد علمت أن الاهتمام بها من أخلاق المؤمنين، ومن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الأُولَى كُتِبَ لَهُ بَراءَتانِ؛ بَراءَة مِنَ النَّارِ، وَبَراءَة مِنَ النِّفاقِ". رواه الترمذي ووقفه ¬
22 - ومنها: ترك صلاة الجمعة ثلاثا ولاء لغير عذر، وإن صلاها ظهرا.
عن أنس، وأخرجه البيهقي في "الشعب" مرفوعًا (¬1). ووجهه أنه إذا لازم على تحصيل تكبيرة الإحرام [ ... ] (¬2)، صار عادة له، فيبرأ من النفاق؛ لأن ترك الاهتمام بها يؤدي إلى ترك الاهتمام بأصل الصلاة، وهو من خلق المنافقين. ومن ثم قال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يديك منه (¬3). 22 - ومنها: ترك صلاة الجمعة ثلاثًا وَلاَء لغير عذر، وإن صلاها ظهراً. روى ابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما" عن أبي الجعد - وكانت له صحبة -رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تَرَكَ صَلاةَ الْجُمُعَةِ ثَلاثاً مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ مُنافِقٌ" (¬4). وروى الطبراني في "الكبير" عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَرَكَ ثَلاثَ جُمُعاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كُتِبَ مِنَ الْمُنافِقِينَ" (¬5). وروى أبو يعلى، والمروزي في كتاب "الجمعة" عن محمَّد بن ¬
23 - ومنها: ثقل قراءة القرآن أو سماعه على القلب، والثاني أقبح.
عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، عن عمه رضي الله تعالى عنه قال: من ترك الجمعة ثلاثا طُبع على قلبه، وجعل قلبه قلب منافق (¬1). وروى الشافعي، والبيهقي في "المعرفة" عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرِ كُتِبَ مُنافِقاً" (¬2). لم يقل في هذه الرواية: ثلاثًا. 23 - ومنها: ثقل قراءة القرآن أو سماعه على القلب، والثاني أقبح. روى ابن أبي شيبة، وأبو نعيم عن أبي الجوزاء رحمه الله تعالى قال: نقل الحجارة أيسر على المنافق من قراءة القرآن (¬3). وأما قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] ففيه أوجه: أحدها: أن العمل به ثقيل، كما أخرجه ابن المنذر، ومحمد بن نصر عن الحسن (¬4). ¬
والثاني: أنه ثقيل في الميزان يوم القيامة، أخرجه ابن المنذر أيضًا، وابن جرير عن الحسن أيضًا (¬1). والثالث: أن المراد بثقله: ما كان يأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - عند وحيه إليه؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها (¬2)، فما تستطيع أن تتحرك حتى يُسَرَّى عنه. وتلت عائشة رضي الله عنها -وهي التي روت هذا الحديث-: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] رواه الإِمام أحمد، وغيره، وصححه الحاكم (¬3). الرابع: أنه ثقيل على المنافق وإن كان المؤمنون يستسهلونه، ونظيره: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، وهذا يوافق ما نقلناه عن أبي الجوزاء. الخامس: أن قوله: {ثَقِيلًا} [المزمل: 5] يعني: تاماً كاملًا من قولهم: دينار ثاقل؛ أي: كامل الوزن. السادس: أنه بمعنى عظيمًا كما يقال: فلان ملك ثقيل؛ أي: عظيم. السابع: أنه نفيس، جليل المقدار، عظيم الخطر كما فسر به صاحب "النهاية" الحديث: "إِنِّي تارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ؛ كِتابَ اللهِ، وَعِتْرتي" (¬4). ¬
تنبيه
قال: سماها ثقلين لعظم قدرهما، يقال لكل نفيس خطير: ثقيل (¬1). الثامن: أن يكون معناه مصونا عن التبديل والتحريف، فقد حكى في "القاموس" أن الثقيل كل نفيس مصون، وحمل عليه الحديث (¬2). * تنبِيهٌ: لا يقرأ المنافق القرآن ولا يثقل عليه لمحل نظر الناس إليه، وهذا لا يناقض ما رويناه عن أبي الجوزاء؛ لأن ثقله عليه حيث فقد المعنى المذكور هو أغلب أحواله، ومتى قرأ على وجه العبادة خاليًا عن نظر الناس ثقل عليه واشتد، وكذلك حاله في سائر أعمال البر من الصلاة، والإيمان، والإقامة، والصيام، والحج، والعمرة، والصدقة، وغيرها؛ فإنها تخف على المنافق وترتاح نفسه إليها حين يكون بمَرْأى من الناس ومسمَع، وتثقل حيث يفقد هذا المعنى، ومن هنا فضل عمل السر على العلانية، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلاةَ قَومٌ وَما هُمْ بِمُؤْمِنينَ". رواه الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (¬3). 24 - ومن أخلاق المنافقين: الإقلال من ذكر الله تعالى. قال الله تعالى في المنافقين: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]. ¬
قال الحسن رحمه الله تعالى في الآية: إنما قل لأنه كان لغير الله. رواه ابن أبي شيبة (¬1). ورواه ابن سعد في "طبقاته"، ولفظه: يكثر التقنع (¬2). مع أخبار أخرى استوفاها السيوطي في جزء ألفه في الطيلسان. والحق أنه لا تعارض بينهما وبين ما سبق؛ فإن الاستغشاء والتقنع والاستخفاء تارة يكون لغرض صحيح كالحياء من الله تعالى، أو من الناس، وحفظ البصر عن فضول النظر، والاستخفاء من عدو يقصده، أو عدو يبصره وهو مصر، أو للتدري من ريح أو برد، وغير ذلك؛ فهذا مباح، بل سنة. وعليه: يحمل ما جاء في "الإرشاد": أن التقنع تارة يكون لغرض فاسد كالاستخفاء في ريبة، أو لختل معصوم، أو من غريمه وهو موسر، وعليه حمل الحديث عن لقمان، ومنه كان استغشاء المنافقين كما حمل الآية عليه عبد الله بن شداد بن الهاد. ومن الأول: استغشاء المؤمنين من الصحابة وغيرهم كما روى ابن أبي شيبة، والبيهقي في "الشعب" عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه خطب فقال: يا معشر المسلمين! استحيوا من الله؛ فوالذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب إلى الغائط في الفضاء متقنعاً ¬
25 - ومن أعمال المنافقين، وأخلاقهم
بثوبي استحياءً من الله تعالى. ولفظ ابن أبي شيبة: مغطياً رأسي (¬1). وروى ابن عدي في "الكامل" عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ بِالنَّهارِ فِقْهٌ، وَبِاللَّيْلِ رِيْبةٌ" (¬2). وروى ابن سعد عن حارثة بن مصعب قال: كان طاوس يتقنع، فإذا كان الليل حَسَر (¬3)؛ أي: كشف القناع. 25 - ومن أعمال المنافقين، وأخلاقهم: البَذَاء والفحش، والبيان كل البيان، وتشقيق الكلام. روى الإِمام أحمد، والترمذي، والحاكم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْحَياءُ وَالْعَيُّ شُعْبتانِ مِنَ الإِيْمانِ، وَالبَذاءُ وَالبَيانُ شعْبَتانِ مِنَ النِّفاقِ" (¬4). 26 - ومنها: كثرة الخصومات والمحاربات، والوكالة في ¬
الخصومة لغير غرض صحيح، ومشارَّة الناس خصوصاً إذا كان ذلك ممن له علم. روى اللالكائي في "السنة" عن الأحنف بن قيس رضي الله تعالى عنه قال: لكثرة الخصومات تورث النفاق في القلب (¬1). وعن جعفر بن محمَّد رحمهما الله تعالى قال: إياكم والخصومات في الدين؛ فإنها تشغل القلب، وتورث النفاق (¬2). وروى ابن عدي عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الكَذِبَ مِنْ أَبْوابِ النِّفاقِ، وإنَّ آيَةَ النِّفاقِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ جَدِلاً خَصِيماً" (¬3). وروى الإِمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححاه، عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما ضَلَّ قَوْم بَعْدَ هُدًى إِلاَّ أُوْتُوا الْجَدَلَ"، ثم تلا هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف: 58] (¬4). وروى ابن أبي الدنيا في "المداراة" عن ابن عباس رضي الله تعالى ¬
عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِيَّاكُمْ وَمشارَّةَ النَّاسِ؛ فَإِنَّها تَدْفِنُ الْمَبَرَّةَ، وَتُظْهِرُ العَوْرَةَ" (¬1). وقال الماوردي في كتاب "أدب الدين والدنيا": قال بعض الأدباء: ارْثُ لِروضَةٍ تَوَسَّطَها خنزير، وابْكِ لعلمٍ حواه شرير، انتهى (¬2). وقلت في عقده: [من الرجز] ارْثُ لِرَوْضَةٍ أَواها خِنْزِيرْ ... وَابْكِ لِعِلْمٍ قَدْ حَواهُ شِرِّيرْ وَاحْذَرْ مِنَ الشَّرِّ وَأَنْتَ عالِمٌ ... وَانْظُرْ فَما أَقْبَحَ هَذا التَّنْفِيرْ روى البخاري في "التاريخ" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شِرارُ النَّاسِ شِرارُ الْعُلَماءِ في النَّاسِ" (¬3). وفي حديث الأحوص بن حكيم، عن أبيه مرسلاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن شرار الخلق فقال: "اللهُمَّ غُفْراً" حتى كرر عليه فقال: "الْعُلَماءُ إِذا فَسَدُوا". ¬
27 - ومنها: التلاعن والتساب
وفي رواية "عُلَماءُ السُّوءِ" (¬1). وروى ابن عدي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَخْوَفُ ما أَخافُ عَلى أُمَّتِي كُلُّ مُنافِقٍ عَلِيمِ اللِّسانِ" (¬2). 27 - ومنها: التلاعن والتساب، والغلول والانتهاب، واللغط في المساجد، والصخب في الأسواق، والاستكبار، وإتيان الصلاة آخر الناس، بل والتكاسل عن كل خير -أي: وقته- إيثاراً للدَّعة، واعتزاراً بالصحة والقوة والغنى. روى الإِمام أحمد، ومحمد بن نصر المروزي في "الصلاة"، والبيهقي في "الشعب"، والأصبهاني في "الترغيب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ لِلْمُنافِقِينَ عَلاماتٍ يُعْرَفُونَ بِها؛ تَحِيَّتُهُمْ لَعْنَةٌ، وَطَعامُهُمْ نُهْبَةٌ، وَغَنِيمَتُهُمْ غُلُولٌ، لا يَقْرَبُونَ الْمَساجِدَ إِلاَّ هُجْراً، وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ دبراً مُتكبِّرِينَ، لا يَأْلَفُونَ وَلا يُؤْلَفُونَ، خُشُبٌ بِاللَّيْلِ، صُخُبٌ بِالنَّهارِ" (¬3). ¬
قوله: وإلا يَقْرَبُونَ الْمَساجِدَ إِلاَّ هُجْراً"- بضم الهاء، وإسكان الجيم- كما ضبطه ابن قتيبة، وقال: هو الخنا، والقبيح من القول (¬1). وعليه فقوله: "هجراً" مصدر في موضع الحال؛ أي: هاجرين مُفْحشي القول. وبعضهم يرويه: هجراً -بالفتح- أي: تركا، فالاستثناء منقطع؛ أي: لا يأتونها, لكنهم يتركونها. والوجهان ذكرهما صاحب "النهاية" في حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: وَلا يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ إِلاَّ هَجْرًا (¬2). وقد رواه الإِمام أحمد في "الزهد"، وغيره عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: مالي أرى علماءكم يذهبون وأرى جهالكم لا يتعلمون؟ تعلموا العلم قبل أن يرفع؛ فإن رفع العلم ذهاب العلماء. مالي أراكم تحرصون على ما قد تكفل لكم به، وتضيعون ما وُكلتم به؟ لأنا أعلم بشراركم من البيطار بالخيل؛ هم الذين لا يأتون الصلاة إلا دبراً، ولا يسمعون القرآن إلا هجرًا (¬3). ¬
28 - ومنها: التربص بالمؤمنين ولو بواحد منهم
وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن سعيد بن مسروق قال: قدمت الدهاقين الكوفة على عهد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، فجعلوا يتعجبون من صحتهم وحسن ألوانهم، فقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ما تعجبون؟ تلقون المؤمن أصح شيء قلبًا، وأمرض شيء جسمًا، وتلقون الفاجر أو المنافق أصح شيء جسمًا، وأمرضه قلبًا؟ والله لو صحت أجسامكم ومرضت قلوبكم لكنتم أهون على الله من الجعلان (¬1). وروى ابنه في "زوائده" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: لا تلقى المؤمن إلا شاحباً، ولا تلقى المنافق إلا وابصاً (¬2). الشاحب -بالحاء المهملة-: المتغير اللون، والشحب لعارض كما لمرض، والخوف، والحزن، والسفر (¬3). والوابص -بالموحدة والمهملة-: من الوبيص، وهو البريق (¬4). 28 - ومنها: التربص بالمؤمنين ولو بواحد منهم، وانتظار وقوع النوائب بهم، والشماتة بهم -وهو من الاغترار بالله- والأمن من مكر الله، والحسد، والحقد، وغير ذلك من قبائح القلوب. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) ¬
29 - ومنها: التمرد -وهو الأقدام- والعتو، والأشر، والبغي،
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} [النساء: 140 - 141]. قال مجاهد: هم المنافقون يتربصون بالمؤمنين. رواه ابن جرير، وابن المنذر (¬1). 29 - ومنها: التمرد -وهو الأقدام- والعتو، والأَشَر، والبغي، والسعي في ضرر المسلمين، وقصدهم بالأذى، والتشرر عليهم، وتكرر ذلك من المرء حتى يتقى ويحذر، ويترك، أو يدارى اتقاء شره. قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} [التوبة: 47]؛ أي: مهروا فيه، واستمروا عليه مقدمين. روى أبو نعيم عن صفوان بن عسال رضي الله تعالى عنه: قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأقبل رجل، فلما نظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، وَبِئْسَ الرَّجُلُ". ثم أدنيت مجلسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهُ مُنافِقٌ أُدارِيهِ عَنْ نِفاقِهِ، فَأَخْشَى أَنْ يُفْسِدَ عَلى غَيْرِهِ" (¬2). وروى الإِمام مالك في "الموطأ" عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: "بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ"، ثم أمر بوسادة فألقيت له، فقام، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها لما خرج: يا رسول الله! قلت: "بِئْسَ أَخُو العَشِيرَة"، ثم أمرت من يلقى إليه الوسادة؟ ¬
30 - ومنها: إرادة الفتنة بالمسلمين، وتخذيلهم، وولاية أعدائهم عليهم.
فقال: "مِنْ أَشْرارِ النَّاسِ مَنْ يُكْرِمُونهمُ اتِّقاءَ شَرِّهِمْ" (¬1). وتقدم بنحوه، وهو في "الصحيحين". ومن ألفاظه: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ الله يَومَ القِيامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقاءَ فُحْشِهِ". أخرجه الشيخان، وأبو داود، والترمذي (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في "الغيبة" عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ مَنْ يُخافُ لِسانه، أَوْ يُخافُ شَرُّه" (¬3). وأخرجه الطبراني في "الأوسط"، ولفظه: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَومَ القِيامَةِ مَنْ يَخافُ النَّاسُ شَرَّه" (¬4). 30 - ومنها: إرادة الفتنة بالمسلمين، وتخذيلهم، وولاية أعدائهم عليهم. قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} [التوبة: 47]؛ أي: أسرعوا ركائبهم تخذيلًا وإظهاراً للهزيمة، ¬
31 - ومنها: أن المنافق يرى أنه في فتنته على الحق، وأن خصمه المحق هو المفتتن.
أو أسرعوا بينكم بالإفساد كما تقدم. {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 47، 48]. نزلت في عبد الله بن أُبَي، وأصحابه المنافقين، انصرفوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وتخلفوا عنه في غزوة تبوك خذلانًا له، وطلباً للفتنة (¬1). وروى أبو القاسم الرافعي في "تاريخ قزوين" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْفِتْنة نائِمَةٌ، لَعَنَ اللهُ مَنْ أَيْقَظَها" (¬2). وروي نعيم بن حماد في "الفتن" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الْفِتْنَةُ راتِعَةٌ في بِلادِ اللهِ، نَطَأُ في خِطامِها، لا يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُوْقِظَها، وَيْلٌ لِمَنْ أَخَذَ بِخِطامِها" (¬3). 31 - ومنها: أن المنافق يرى أنه في فتنته على الحق، وأن خصمه المحق هو المفتتن. ومن هنا استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفتنة، وقال: "إِنَّ السَّعِيْدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ" (¬4). ¬
وذلك لأن الفتنة تبدو مشبهة، ثم ينحل أمرها. قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49]. نزلت في الحر بن قيس حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا حُرُّ بْنَ قَيْسٍ! ما تَقُولُ في مُجاهَدَةِ بَنِي الأَصْفَرِ؟ ". فقال: يا رسول الله! إني امرؤٌ صاحب نساء، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن. أخرجه الطبراني عن ابن عباس (¬1). وأخرج عنه أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اغْزُوا تَغْنَمُوا بَناتِ بَنِي الأَصْفَرِ"؛ يعني: الروم. فقال ناس من المنافقين: إنه ليفتنكم بالنساء، فنزلت (¬2). وروى سعيد بن منصور عن أبي عمرو الشيباني رحمه الله تعالى -مرسلاً- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نالَ قَوْم بِفِتْنَةٍ إِلاَّ أُوْتُوا بِها جَدَلاً، وَما نالَ قَوْمٌ في فِتْنَةٍ إِلاَّ كَانُوا لَها حزراً، إِنْ كانَتِ الْفِتْنَةُ إِثْماً قاطِعةً حاصِدَةً، وَهُمْ مَحْصُودُونَ بِها" (¬3). ¬
32 - ومنها: الخديعة، والمكر، واللؤم.
وهو معنى ما اشتهر على الألسنة: لا تكرهوا الفتن؛ فإن بها حصاد المنافقين. وقد أنكر هذا اللفظ الأئمة. نعم، روى ابن أبي شيبة، وأبو نعيم، والديلمي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَكْرَهُوا الْفِتْنَةَ في آخِرِ الزَّمانِ؛ فَإِنَّها تبيرُ الْمُنافِقِينَ" (¬1)؛ أي: تهلكهم. قال السخاوي: وهو ضعيف، انتهى (¬2). قلت: والحكمة في ذلك أن تبير الفتنة إنما يتبر بها ليتبر مال غيره أو نفسه، فعادت عليه الإبارة والإهلاك عقوبة له، وهذا قد يشاهد في الفتن كثيرًا. 32 - ومنها: الخديعة، والمكر، واللؤم. وهما من الكبائر. قال الله تعالى في المنافقين: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9]. وروى البيهقي في "الشعب" عن قيس بن سعد رضي الله تعالى ¬
33 - ومنها- ويدخل في ابتغاء الفتنة-: تتبع زلات العلماء.
عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ في النَّارِ" (¬1). وأجاد أبو العتاهية في قوله: [من الخفيف] لَيْسَ دنياً إِلاَّ بِدِيْنٍ وَلَيْسَ الدِّ ... ينُ إِلاَّ مَكارِمَ الأَخْلاقِ إِنَّما الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ في النَّا ... رِ هُما مِنْ خِصالِ أَهْلِ النِّفاقِ (¬2) وروى أبو داود، والترمذي، والحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيْمٌ، وَالْمُنافِقُ خَبٌّ لَئِيمٌ" (¬3). والخب -بالفتح، وقد تكسر-: الْخَدَّاع الذي يسعى بين الناس بالفساد. واللئيم من اللؤم، وهو ضد الكرم، وهو وإن كان خلقاً فقد يحصل بالتكلف والتقصد، وقد يكون طبيعة فيجتهد الإنسان في التبري منها، وتكلف الكرم، وهذا من خلق المؤمن كما أن ضده من خلق المنافق. 33 - ومنها- ويدخل في ابتغاء الفتنة-: تتبع زلات العلماء. وهو على قسمين: ¬
34 - ومنها: الخيانة والكذب -ولا سيما مع اليمين والحلف- وعصيان أولي الأمر، والخروج عليهم.
- تتبع رخص العلماء وزلاتهم ليحتج بها على معصية الله تعالى، وهو حرام. - وتتبع سقطات العلماء، وإظهارها، وإشاعتها لتنفير الناس عنهم وعن الاقتداء بهم. وكلاهما من أخلاق المنافقين. وقد روى الإِمام أحمد، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الَّذِي يَجْلِسُ لِيَسْمَعَ الْحِكْمَةَ وَلا يُحَدِّثُ عَنْ صاحِبِهِ إِلاَّ بِشَرِّ ما يَسْمَعُ كَمَثَلِ رَجُل أتى راعِياً فَقالَ: يا راعِي! اجْزُرْ لِي شَاة مِنْ غَنَمِكَ، قالَ: اذْهَبْ فَخُذْ بِأُذُنِ خَيْرِها شَاة، فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الْغَنَمِ" (¬1). وقال الشعبي رحمه الله تعالى: لو أصبت تسعًا وتسعين، وأخطأت واحدة، لأخذوا الواحدة وتركوا التسع والتسعين (¬2). 34 - ومنها: الخيانة والكذب -ولا سيما مع اليمين والحلف- وعصيان أولي الأمر، والخروج عليهم. قال الله تعالى في المنافقين: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42]. ¬
وقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56]. وقال تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] وقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 1 - 2]. وقال الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 107، 108]. نزلت في طعمة بن أبيرق، كان من الأنصار، ثم من بني ظفر، سرق درعاً لعمه كانت وديعة عندهم، ثم ألقاها في بيت يهودي، فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعذره، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء: 107 - 112]. فلما بيَّن الله تعالى شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين. أخرجه ابن المنذر، وابن جرير عن قتادة (¬1). وروى الشيخان، والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله ¬
تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آيَةُ الْمُنافِقِ ثَلاثة: إِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا ائتُمِنَ خانَ" (¬1). وروى القاضي أبو بكر جعفر بن محمَّد الفريابي في كتاب "صفة المنافق" عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: ثلاث من كن فيه فهو منافق؛ منها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان. ثم تلا هذه الآية: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] الآية (¬2). ورواه مرفوعًا، وهو في "الصحيحين" بزيادة (¬3). وروي بألفاظ من طرق عن ابن مسعود، وأنس، وغيرهما (¬4). وروى الخرائطي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْكَذِبَ بابٌ مِنْ أَبْوابِ النِّفاقِ" (¬5). وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلى كُلِّ خُلُقٍ لَيْسَ الْخِيانة وَالْكَذِبَ" (¬1). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: الكذب يجانب الإيمان (¬2). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن الحسن قال: الكذب جماع النفاق (¬3). وروى أبو الحسن بن قانع في "معجم الصحابة" عن ثعلبة الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَيُّ امْرِئٍ اقْتَطَعَ مالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كاذِبَةٍ كانَتْ نكتَةً سَوْداءَ أَوْ نِفاقاً في قَلْبِهِ، لا يُغَيِّرُها شَيْء إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ" (¬4). وروى الفريابي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: المنافق الذي إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا غنم غَلَّ، وإذا أمر عصى، وإذا لقي جبن؛ فمن كن فيه ففيه النفاق كله، ¬
تنبيهات
ومن كان فيه بعضهن ففيه بعض النفاق (¬1). * تنبِيهاتٌ: الأَوَّلُ: الكذب لا يختص باللسان. قال الله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18]. وروى أبو نعيم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أفلِّي رأس أخي عبد الرحمن، وأنا أُفقِّع أظفاري على غير شيء؛ قال: "مَهْلًا يا عائِشَةُ، أَما عَلِمْتِ أَنَّ هَذا مِنْ كَذِبِ الأَنامِلِ؟ " (¬2). التَّنْبِيهُ الثَّانِي: هذه الأحاديث مما عدَّه بعض العلماء مشكلاً من حيث إن هذه الخصال توجد في المصدق الذي ليس له شك، وقد أجمعوا أن من كان مصدقًا بقلبه ولسانه، وفعل هذه الخصال لا يكون كافرًا، ولا هو منافق يخلد في النار، وقد اجتمع في إخوة يوسف عليهم السلام أكثر هذه الخصال. والذي قال المحققون والأكثرون -قال النووي وهو الصحيح-: إن المعنى: أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافق فيها، متخلق بأخلاق المنافقين؛ فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وإضمار ما يظهر خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون ¬
نفاقه في حق من حدَّثه، أو وعده، أو ائتمنه، أو خاصمه، أو عصاه، أو غل منه (¬1). وروى أبو يعلى عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لَيْسَ الْخُلْفُ أَنْ يَعِدَ الرَّجُلَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ، وَلَكِنَّ الْخُلْفَ أَنْ يَعِدَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ لا يَفِيَ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: دخل أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ خِلالِ الْمُنافِقِ: إِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وِإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا ائتمِنَ خانَ". فخرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهما ثقيلان، فلقيتهما فقلت: ما لي أراكما ثقيلين؟ فقالا: حديثاً سمعناه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مِنْ خِلالِ الْمُنافِقِ: إِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذا ائتمِنَ خانَ". قلت: أولًا سألتماه؟ قالا: هِبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: لكني سائله. قال: فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: لقيني أبو بكر وعمر وهما ثقيلان، وذكرت مما قالا. ¬
فقال: "حَدَّثتهُما، وَلَمْ أَضَعْهُ عَلى الْمَوْضعِ الَّذِي يَضَعانِهِ، وَلَكِنَّ الْمُنافِقَ إِذا حَدَّثَ بِحَدِيث حَدَّثَ بِهِ، وَهُوَ يُحَدِّثَ نفسَهُ أَنَّهُ يَكْذِبُ، وإذا وَعَدَ وَعَدَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنه يُخْلِفُ، وَإِذا ائتمِنَ ائتمِنَ وَهُوَ يُحَدِّثُ، نفسَهُ أَنَّهُ يَخُونُ" (¬1). ثم رأيت في الحديث تأويلاً آخر: أنه محمول على من صار الكذب والخلف والخيانة عادة متكررةً منه، وخلفاً مستمرًا من أخلاقه. روى الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن الشعبي رحمه الله تعالى قال: لا أدري ما تقولون: من كان كذابًا فهو منافق (¬2)! وأنت خبير بما في صفة فَعَّال من المبالغة والتكثير. وفي الحديث: "وَلا يَزالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتُبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا" (¬3). التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ: روى الإِمام أحمد في "الزهد"، وأبو نعيم عن سعيد بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: إن أعظم الذنوب أن يقول الرجل: الله يعلم أني صادق، والله ¬
تتمة
يعلم أنه كاذب (¬1). قلت: هذا يقع كثيرًا في كلام بعض الناس إذا أراد تأكيد الحديث، وقد علمت ما فيه. وتقدم أن الأخنس بن شريق قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: جئت أريد الإِسلام، ويعلم الله أني لصادق، فأعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك منه، فذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة: 204]. ومن هنا كان من الألفاظ المذمومة ما يعتاده كثيرون؛ يريد أن يحلف على شيء فيتورع عن قوله: (والله) كراهية الحنث، أو إجلالاً لله تعالى وصوناً عن الحلف، ثم يقول: الله أعلم ما كان كذا، أو لو كان كذا، ونحوه. وفي هذه العبارة خطر؛ فإن قالها صاحبها وهو على يقين مما أكد بها فلا بأس، وإلا تعرض للكذب على الله تعالى، بل فيه التعرض للكذب على الله تعالى، بل فيه التعرض لوصفه تعالى بأنه يعلم الأمر بخلاف ما هو، ولو اعتقد ذلك كفر، كما نص عليه النووي في "الأذكار" (¬2). * تَتِمَّةٌ: روى الطبراني في "الأوسط"، وغيره عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه ¬
قال: لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الْعِدَةُ دينٌ" (¬1). وروى الخرائطي في "المكارم" عن الحسن مرسلاً: أن امرأة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فلم تجده عنده، فقالت: عدني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْعِدَةَ عَطِيَّةٌ" (¬2). وفي ذلك إشارة إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يعد وعداً إلا وهو جازم بالوفاء له، ولو للصبي الصغير لأجل شغله عن البكاء ونحوه، بل ينبغي للمؤمن إذا وعد أن يكون فعله أبلغ من قوله، ووفاؤه أحسن من وعده وأكمل، ولا يكون كما قال الشاعر: [من الطويل] لِسانُكَ أَحْلَى مِنْ جَنَى النَّحْلِ مَوْعِدًا ... وَكَفُّكَ بِالْمَعْرُوفِ أَضْيقُ مِنْ قُفْلِ تَمَنَّى الَّذِي يَأْتِيكَ حَتَّى إِذا انتُهَى ... إِلَى أَمَدٍ ناَوَلْتَهُ طَرَفَ الْحَبْلِ (¬3) ¬
35 - ومن أعمال المنافقين، وأخلاقهم: دعوى الدين ومقاماته لغير غرض صحيح، وخصوصا التقصير في العمل الموافق للدعوى.
وروى الخرائطي عن عبد الرحمن بن أبزى رحمه الله تعالى قال: كان داود عليه السلام يقول: لا تعدن أخاك شيئاً لا تنجزه له؛ فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة (¬1). 35 - ومن أعمال المنافقين، وأخلاقهم: دعوى الدين ومقاماته لغير غرض صحيح، وخصوصاً التقصير في العمل الموافق للدعوى. روى الفريابي عن الأوزاعي قال: إن المؤمن يقل الكلام ويكثر العمل، وإن المنافق يكثر الكلام ويقل العمل (¬2). 36 - ومنها: ترك العمل بالعلم، والإرشاد إلى البر مع رفض التلبس به. روى ابن أبي شيبة، والفريابي من طريقه عن حذيفة رضي الله تعالى عنه: أنه سئل عن المنافق فقال: الذي يَصِفُ الإِسلام ولا يعمل به (¬3). وروى الإِمام أحمد، والفريابي عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ أَخْوَفَ ما أَخافُ عَلى أُمَّتِي مُنافِق عَلِيمُ اللِّسانِ" (¬4). ¬
37 - ومنها: المبادرة إلى التكلم بالشيء قبل تدبر عواقبه.
وروى الفريابي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سئل: كيف يكون المنافق العلم؟ قال: عالم اللسان، جاهل القلب والعمل (¬1). وروى الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لا أَخافُ عَلى أُمَّتِي مُؤْمِنًا وَلا كافِراً؛ أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَحْجُزُهُ إِيْمانهُ، وَأَمَّا الكافِرُ فَيَقْمَعُهُ كُفْرُهُ, وَلَكِنْ أَخافُ عَلَيْهِمْ مُنافِقاً عَلِيمَ اللِّسانِ، يَقُولُ ما يَعْلَمُونَ، وَيَفْعَلُ ما يُنْكِرُونَ" (¬2). 37 - ومنها: المبادرة إلى التكلم بالشيء قبل تدبر عواقبه. روى الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: كانوا يقولون: إن لسان المؤمن وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه، ثم أمضاه بلسانه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا همَّ بالشيء أمضاه بلسانه، ولم يتدبره بقلبه (¬3). وروى الإِمام أحمد، وابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَسْتَقِيمُ إِيْمانُ عبد حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، ¬
38 - ومنها: الحرص على طلب الدنيا، والانهماك فيها، والاهتمام بتحصيلها،
وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسانُهُ" (¬1). 38 - ومنها: الحرص على طلب الدنيا، والانهماك فيها، والاهتمام بتحصيلها، وركوب كل صعب وذَلول في ذلك بحيث لا يبالي بجمعها من حلال أو حرام. روى البخاري في "تاريخه" عن كعب بن عاصم رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمُؤْمِنُ كَيِّس فَطِنٌ، حَذِرٌ، وَقَّافٌ، مُتَثَبِّتٌ لا يَعْجَلُ، عالِمٌ وَرِعٌ، وَالْمُنافِقُ هُمَزَةٌ، لُمَزَةٌ، حُطَمَةٌ، لا يَقِفُ عِنْدَ شُبْهَةٍ وَلا عِنْدَ مُحَرَّمٍ". ورواه الديلمي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وزاد فيه: "كَحاطِبِ اللَّيْلِ؛ لا يُبالِي مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ وَفِيما أَنْفَقَ" (¬2). 39 - ومنها: طلب رضي الناس بما يسخط الله تعالى، والحلف الكاذب لذلك. قال الله تعالى في المنافقين: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96]. ¬
بيَّن أنهم يطلبون رضى الناس دون رضى الله لأنهم يخافونهم دونه، والله أحق بالرضى والمخافة؛ فإن العبد إذا خاف الناس وأرضاهم بما يسخط الله لم يغنوا عنه شيئًا إذا ظهر فيه عقوبة تسخط الله تعالى. وقد روى الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَرْضى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ، وَمَنْ أَسْخَطَ النَّاسَ بِرِضَا اللهِ كَفاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ" (¬1). وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" -وإسناده كما قال الحافظ ابن حجر على شرط الشيخين (¬2) - ولفظه: "مَنْ أَرْضَى الله بِسَخَطِ النَّاسِ كَفاهُ اللهُ النَّاسَ، وَمَنْ أَرْضى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ" (¬3). وروى الحاكم وصححه، والديلمي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَرْضى سُلْطاناً بِما يُسْخِطُ الله عز وجل خَرَجَ مِنْ دِينِ اللهِ" (¬4). وروى الطبراني في "الصغير"، والديلمي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال ¬
40 - ومنها: أن يظهر للناس أنه على خوف من الله تعالى وخشية، أو تقوى فوق ما عنده.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثٌ مِنْ أَخْلاقِ الإِيْمانِ: مَنْ إِذا غَضِبَ لَمْ يُدْخِلْهُ غَضَبُهُ في باطِلٍ، وَمَنْ إِذا رَضِيَ لَمْ يُخْرِجْهُ رِضاهُ مِنْ حَقٍّ، وَمَنْ إِذا قَدِرَ لَمْ يَتَعاطَ ما لَيْسَ لَه" (¬1). 40 - ومنها: أن يظهر للناس أنه على خوف من الله تعالى وخشية، أو تقوى فوق ما عنده. فإن أظهر ما ليس فيه بالكلية، بل هو على خلافه كان أبلغ. وروى الديلمي، وابن النجار عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَرى النَّاسَ فَوْقَ ما عِنْدَهُ مِنَ الْخَشْيةِ فَهُوَ مُنافِقٌ" (¬2). وروى الحاكم في "تاريخه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تَهَيَّأ لِلنَّاسِ بِقَوْلهِ وَلِباسِهِ، وَخالَفَ ذَلِكَ في أَعْمالِهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ". 41 - ومنها: سوء الظن بالله تعالى، وسوء الاعتقاد. وروى الفريابي عن الحسن: أنه قال في هذه الآية: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 19، 20] قال: إن المؤمن ¬
42 - ومنها: إساءة الظن بالمسلمين فيما أحسنوا فيه، وحمل ذلك منهم على الرياء والغرض الفاسد.
أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن المنافق أساء الظن بربه فأساء العمل (¬1). 42 - ومنها: إساءة الظن بالمسلمين فيما أحسنوا فيه، وحمل ذلك منهم على الرياء والغرض الفاسد. والمؤمن يحمل أعمال المسلمين الحسنة على الكمال والإخلاص. نعم من تظاهر بالريب والظلم فهو أولى بإساءة الظن به. روى البخاري في "تاريخه" (¬2) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَساءَ بِأَخِيهِ الظَّنَّ فَقَدْ أَساءَ بِرَبِّهِ عز وجل؛ إِنَّ الله تعالَى يَقُولُ: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] ". والقرآن العظيم ناطق بأحوال المنافقين في إساءة الظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58]. كان لمزهم إياه في الصدقات مبني على إساءة ظنهم؛ فإن الآية نزلت فيمن قال عن قسمة قسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله كما يثبت في "صحيح البخاري"، وغيره (¬3). ¬
43 - ومنها: الرضا عند حصول الدنيا، والسخط بتحولها.
43 - ومنها: الرضا عند حصول الدنيا، والسخط بتحولها. كما قال الله تعالى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58]. وروى الطبراني في "الصغير" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَصْبَحَ حَزِيناً عَلى الدُّنْيا أَصْبَحَ ساخِطاً عَلى رَبِّهِ عز وجل" (¬1). وروى الترمذي عن أنس، والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِناهُ في قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيا وَهِيَ راغِمَةٌ، وَمَنْ كانَتِ الدّنْيا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيا إِلاَّ ما قُدِّرَ لَه" (¬2). وأخرجه ابن ماجه، والطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "مَنْ كانَتْ نِيَّتُهُ الآخِرَةَ جَمَعَ اللهُ لَهُ شَمْلَهُ وَجَعَلَ غِناهُ في قَلْبِهِ، وَأتتْهُ الدُّنْيا راغِمَةً، وَمَنْ كانَتْ نِيَّتُهُ الدّنْيا فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ, ¬
44 - ومنها: شهود العطاء والمنع من غير الله تعالى.
وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَه" (¬1). وفي وضع الظاهر موضع المضمر في الروايتين دقيقة، وهي: أن ما يأتيه من الدنيا قد يكون بعض ما طلبه بعينه، ولا يتم له كله، وقد لا يكون عين مطلوبه ولا بعضه، بل هو نوع آخر منها غير ما طلب منها، والألف والسلام للجنس لا للعهد. والحاصل: أن اهتمام العبد بالدنيا لا يفيد شيئًا غير ما كتب له وقدر، بل يعاقب عليه بالحرمان بالكلية، أو بحرمان البعض، أو بالتنغيص والتكدير فيه، وبتفريق الأمر، وتشتيت الشمل، وانتصاب الفقر بين عينيه، وذلك يحزنه على ما فات، والحزن على ما فات من الدنيا تسخط لمقدور الله تعالى. وفي الحديث: "مَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ" (¬2). 44 - ومنها: شهود العطاء والمنع من غير الله تعالى. روى الفريابي عن أبي مليكة الذماري رحمه الله تعالى قال: إن الرجل ليدخل على الإِمام فما يخرج إلا مشركا أو منافقاً؛ إن أعطاه نسي الذي أعطاه وحمده، وإن منعه خرج يذمه ويعيبه، فإذا فعل هذا ¬
45 - ومنها: غلبة الفرح واللهو واللعب على العبد.
بالإمام فقد نافق وأشرك، وإنما يعطي ويمنع الله (¬1). وفي المعنى قلت: [من البسيط] لا تَغْضَبَنْ عَلى خَلْقٍ إِذا مَنَعُوا ... وَلا تَرى الْفَضْلَ مِنْهُمُ إِنْ هُمُ بَلِ اشْهَدِ الْمَنع مِنْ مَوْلاكَ وَارْضَ ... فَالْخَيْرُ فِي عَيْنِ مَنْعِ اللهِ يُلْتَمَحُ وَحَيْثُ أَعْطاكَ بَعْضُ النَّاسِ نافِلَةً ... فَاللهُ أَعْطَى وَمِنْهُ تُشْهَدُ الْمِنَحُ 45 - ومنها: غلبة الفرح واللهو واللعب على العبد. روى الفريابي عن الحسن رحمه الله تعالى قال: لا تلقى المؤمن إلا شاحباً، ولا تلقى المنافق إلا وباصاً (¬2). وقال محمَّد بن علي رحمه الله تعالى: المؤمن بِشْره في وجهه، وحزنه في قلبه، والمنافق بشره في قلبه، وحزنه في وجهه (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن الحسن رحمه الله تعالى قال: إن المؤمنين عجلوا الخوف في الدنيا، فأمنهم الله يوم القيامة، وإن المنافقين أخَّروا الخوف في الدنيا، فأخافهم الله يوم القيامة (¬4). 46 - ومنها: الأمن من مكر الله تعالى، ومن سوء الخاتمة، والتحول من الإيمان إلى النفاق؛ والعياذ بالله. ¬
روى الطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا قال له: إني أخاف أن أكون منافقاً. قال: لو كنت منافقاً ما خفت ذلك (¬1). وروى الفريابي عن جبير بن نفير رحمه الله تعالى: أنه سمع أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه وهو في آخر صلاته وقد خرج من التشهد يتعوَّذ بالله من النفاق، فأكثر التعوذ منه، قال: فقال جبير: ما لك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟ فقال: دعنا عنك؛ والله إن الرجل لينقلب عن دينه في الساعة فيخلع منه (¬2). وقال أبو إدريس الخولاني رحمه الله تعالى: ما على ظهرها من بشر لا يخاف على إيمانه أن يذهب إلا ذهب (¬3). وقال أبو عثمان الجعد: قلت لأبي رجاء العطاردي رحمه الله تعالى: هل أدركت من أدركت من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخشون النفاق؛ وكان قد أدرك عمر رضي الله تعالى عنه؟ قال: نعم، قد أدركت منهم صدراً حسنًا، نعم شديدًا، نعم شديدًا. ¬
وقال الحسن رحمه الله تعالى: إن القوم لما رأوا أن هذا النفاق يغول الإيمان لم يكن لهم هم غير النفاق (¬1). وسأل أبان الحسن: تخاف النفاق؟ وقال: وما يؤمنني وقد خاف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (¬2). وقال المعلي بن زياد رحمه الله تعالى: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط وما بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن. وقال محمَّد بن سيرين رحمه الله تعالى: لم يكن شيء أخوفَ عَلَيَّ مِنْ قالٍ هذا القول من هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] (¬3). روى هذه الآثار الفريابي في كتابه في "صفة المنافق". وروى عبد بن حميد عن محمَّد بن سيرين قال: كانوا يتخوفون من هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] (¬4). ¬
47 - ومن أخلاق المنافقين: قلة المروءة، وعدم الغيرة، والقيادة، والدياثة.
وأخرجه ابن المنذر، ولفظه: لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية (¬1). وروى عبد بن حميد عن يحيى بن عتيق قال: كان محمَّد -يعني: ابن سيرين- يتلو هذه الآية عند ذكر الحجاج، ويقول: أنا لغير ذلك أخوف: {وَمِنَ النَّاسِ} [البقرة: 8]. إلى آخرها (¬2). 47 - ومن أخلاق المنافقين: قلة المروءة، وعدم الغيرة، والقيادة، والدياثة. روى البزار، والبيهقي في "الشعب"، والديلمي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْغَيْرَةُ مِنَ الإِيْمانِ، وَالْمَذاءُ مِنَ النِّفاقِ" (¬3) -بالمعجمة-: عدم غيرة الرجل على أهله. وقال في "القاموس": مذا، وأمذى: قاد على أهله، وأشار إلى أنه واوي. قال: والمذاء -كسماء-: جمع النساء والرجال، وتركهم يلاعب بعضهم بعضا، أو هو الدياثة. انتهى (¬4). ¬
وذكر في "النهاية" حديث: "الْمَذالُ مِنَ النِّفاقِ". قال في "القاموس": والمذال: المذاء، وأن يقلق الرجل بفراشه الذي يضاجع فيه حليلته، ويتحول عنه حتى يفترشها غيره (¬1). وعلى هذا اقتصر في "النهاية"، لكن وقع في عبارة السيوطي في "مختصر النهاية": فيفترشه غيره (¬2) - بعود الضمير إلى الفراش -وهو أعم من عوده إلى المرأة؛ إذ هو شامل لمطلق الإعراض عن مضاجعة الزوجة كراهية للعمل بالسنة من استحباب المضاجعة؛ إذ فيه هجر المرأة، وهو إيذاء لها وتعريض لفراشها أن يفترشه غيره، والغير شامل للذكر والأنثى، فربما دعا هجر المرأة أن تستبدل غير الرجل رجلًا بالمعاهرة، أو امرأة بالمساحقة. وقد روى ابن حبان في "صحيحه" عن عائشة، وابن ماجه عن ابن عباس، والطبراني في "الكبير" عن معاوية - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي" (¬3). وأخرجه ابن عساكر من حديث علي رضي الله تعالى عنه، وزاد: "ما أَكْرَمَ النِّساءَ إِلاَّ كَرِيْمٌ، وَلا أَهانهنَّ إِلاَّ لَئِيْمٌ" (¬4). ¬
48 - ومنها: التبتل.
وقد سبق أن اللؤم من صفة المنافقين. والمراد إكرام النساء وإهانتهن من حيث إنهن ضعاف لا يحتملن الانتقام، والعاقل لا يرى التشفي بالانتقام ممن هو أضعف منه. وروى الحاكم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِلنِّساءِ" (¬1). 48 - ومنها: التبتل. وهو ترك النكاح رغبة عن السنة، بخلاف تركه لمن لا حاجة له إليه، وهو لا يجد طَولاً. روى عبد الرزاق، والإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عكاف بن بشر التميمي، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ لَكَ مِنْ زَوْجَةٍ؟ " قال: لا. قال: "ولا جارِية؟ " قال: لا. قال: "وَأَنْتَ مُوْسِرٌ بِخَيْرٍ؟ " قال: وأنا موسر بخير. قال: "أَنْتَ إِذاً مِنْ إِخْوانِ الشَّياطِينِ، لَوْ كُنْتَ مِنَ النَّصارَى كُنْتَ مِنْ ¬
49 - ومنها: تبرج المرأة بالزينة.
رُهْبانِهِمْ، إِنَّ مِنْ سُنَّتِنا النكّاحَ، شِرارُكُمْ عُزَّابُكُمْ، وَأَراذِلُ مَوْتاكُمْ عُزَّابُكُمْ، بِالشَّيْطانِ تتَمَرَّسُونَ، ما لِلشَّيْطانِ مِنْ سِلاحٍ أَبْلَغَ في الصَّالِحِينَ مِنَ النِّساءِ، إِلاَّ الْمُتَزَوِّجِينَ، أُولَئِكَ الْمُطَهَّرُونَ الْمُبَرَّؤُونَ مِنَ الْخَنا، ويحَكَ يا عكافُ! إِنهنَّ صواحِبُ أيُّوبَ، وَداودَ، ويُوسُفَ، وَكرسُفَ". فقال له بشر بن عطية: ومن كرسف يا رسول الله؟ قال: "رَجُلٌ كانَ يَعْبُدُ الله بِساحِلِ الْبَحْرِ ثَلاثَمِئَةِ عامٍ، يَصُومُ النَّهارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ، ثُمَّ إِنَّهُ كَفَرَ بِاللهِ الْعَظِيمِ في سَبَبِ امْرَأَةٍ عَشِقَها، وَتَرَكَ ما كانَ عَلَيْهِ مِنْ عِبادَةِ رَبِّهِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَهُ اللهُ بِبَعْضِ ما كانَ مِنْهُ فَتابَ عَلَيْهِ. وَيْحَكَ يا عكافُ! تَزَوَّجْ وَإِلاَّ فَأَنْتَ مِنَ الْمُذَبْذَبِينَ" (¬1). والمذبذبون: هم المنافقون لأن الله تعالى قال في وصفهم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} [النساء: 143]. وأصل الذبذبة: تردد الشيء المعلق بالهواء. 49 - ومنها: تبرج المرأة بالزينة. يقال: تبرجت المرأة: إذا أظهرت زينتها للرجال. وأصله من برج -كفرح-: إذا اتسع أمره في المأكل والمشرب. أو من البرج -بالتحريك-: وهو أن يكون بياض العين محدقًا بالسواد كله. ¬
كأن المرأة تظهر للرجال حتى يحدقوا بها، وينظروا إليها. روى أبو نعيم، والخطيب عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمُتَخَلعاتُ وَالْمُتَبَرِّجاتُ هُنَّ الْمُنافِقاتُ" (¬1). وروى البيهقي عن ابن أبي أذينة الصدفي -مرسلاً- وعن سليمان ابن يسار -مرسلاً- قالا رحمهما الله تعالى: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ نِسائِكُمُ الوَلُودُ الوَدُودُ، وَالْمُواسيَةُ الْمُواتِيَةُ إِذا اتَّقَيْنَ الله، وَشَرُّ نِسائِكُمُ الْمُتَبَرجاتُ الْمُتَخَيِّلاتُ، وَهُنَّ الْمُنافِقاتُ، لا يدخلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ إلا مِثْلُ الْغُرابِ الأَعْصَمِ" (¬2). والأعصم: أبيض الجناحين. وقيل: أبيض الرِّجْل. وقال في "القاموس": الأحمر الرجلين والمنقار، أو في جناحيه ريشة بيضاء (¬3). واقتصر في "الصحاح" على الأخير (¬4). ¬
50 - ومنها: اختلاع المرأة نفسها من زوجها لغير ضرورة، وسؤالها إياه الطلاق من غير بأس.
50 - ومنها: اختلاع المرأة نفسها من زوجها لغير ضرورة، وسؤالها إياه الطلاق من غير بأس. وروى النسائي عن أبي هريرة، والطبراني في "الكبير" عن عقبة بن عامر قالا رضي الله تعالى عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُتَخَلِّعاتُ هُنَّ الْمُنافِقاتُ". وفي لفظ للطبراني: "إِنَّ الْمُتَخَلِّعاتِ وَالْمُتَبِّجاتِ هُنَّ الْمُنافِقاتُ" (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن ثوبان رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَها الطَّلاقَ مِنْ غَيْرِ بَأسٍ فَحَرام عَلَيْها رائِحَةُ الْجَنَّةِ" (¬2). 51 - ومنها: النثار، وانتهاب النثر في الولائم. والنِّثار -بكسر النون- والنَّثر -بفتحها وإسكان المثلثة في الأصل-: رمي الشيء مفرقاً. ¬
52 - ومنها: سوء الخلق، والمل من الزوج، أو الصاحب، أو الثوب، أو غير ذلك مما يلائم أشرا وبطرا، وهو داخل في سوء الخلق.
والنَّثَر -بفتحتين-: ما تناثر. والنثار في الولائم، وانتهاب ما ينتثر مكروه على المذهب. واستدل له الأذرعي بما في "مسند الإِمام أحمد" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلْمُنافِقِينَ عَلاماتٍ يُعْرَفُونَ بِها؛ تَحِيَّتُهُمْ لَعْنةٌ، وَطَعامُهُمْ نُهْبَةٌ" (¬1). وتقدم الحديث بزيادة. 52 - ومنها: سوء الخلق، والمل من الزوج، أو الصاحب، أو الثوب، أو غير ذلك مما يلائم أشرًا وبطراً، وهو داخل في سوء الخلق. والفرق بين سوء الخلق والحدة التي تعتري خيار الأمة كما تقدم: أن الحدة لا تخرج صاحبها إلى باطل، وفيئتها قريبة، وسوء الخلق يخرج صاحبه عن الحق، وينقلب فيصير عداوة وحقداً. ومن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ شَيْءٍ إلا لَهُ تَوْبَةٌ، إِلاَّ صاحِبَ سُوءِ الْخُلُقِ؛ فَإِنَّهُ لا يتوبُ مِنْ ذَنْبٍ إِلاَّ عادَ في شَرٍّ مِنْهُ". رواه الطبراني، وغيره عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وإسناده ضعيف (¬2). ¬
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ وَسُوءِ الأَخْلاقِ". رواه أبو داود، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). لا يقال: هذا الحديث يدل على أن سوء الأخلاق ليس من النفاق لأن العطف يقتضي المغايرة، بل هو من عطف الخاص على العام لمزيد الاعتناء به. وروى محمَّد بن نصر المروزي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيْماناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً، وإِنَّ الْمَرْءَ لَيَكُونُ مُؤْمِناً وإنَّ في خُلُقُهِ شَيْئاً، فَيْنَقُصُ ذَلِكَ مِنْ إِيْمانِهِ" (¬2). ومفهوم الحديث: أن أكمل المنافقين نفاقاً أسوؤهم أخلاقاً. وقد يقال: إن سوء الخلق وحده لا يكون نفاقاً حتى ينضم إليه البخل لما رواه البخاري في "الأدب المفرد"، والترمذي عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَصْلَتانِ لا يَجْتَمِعانِ في مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ" (¬3). وفي حديث رافع بن مُكيث -بالتصغير- وكان ممن شهد الحديبية - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "حُسْنُ الْخُلُقِ نَماءٌ، وَسُوءُ الْخُلُقِ ¬
شُؤْمٌ". أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود (1) وروى الخطيب عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ، وَشِرارُكُمْ أَسْوَؤُكُمْ أَخْلاقاً" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق"، وأبو الشيخ في "طبقات الأصبهانيين" بإسناد جيد، عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجاتِ الآخِرَةِ وَشَرَفَ الْمَنازِلِ، وإنَّهُ لَيَضْعُفُ عَنِ الْعِبادةِ، وإنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ أَسْفَلَ دَرْكِ جَهَنَّمَ" (¬3). ولا شك أن هذا منزل المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. ¬
وروى ابن أبي الدنيا في "المداراة" عن عبد العزيز بن حصين قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال: من ساء خلقه عذب نفسه، ومن أكثر كذبه ذهب جماله، ومن لاحى الرجال سقطت مروءته، ومن كثر همه سقم بدنه (¬1). وروى ابن السني، وأبو نعيم؛ كلاهما في "الطب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ساءَ خُلُقُهُ عَذَّبَ نَفْسَهُ، وَمَنْ كَثُرَ هَمُّهُ سَقُمَ بَدَنُهُ، وَمَنْ لاحى الرِّجالَ ذَهَبَتْ كَرامَتُهُ وَسَقَطَتْ مُرُوءَتُهُ" (¬2). وروى ابن مردويه، والأصبهاني عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: لا أمل ثوبي ما وسعني، ولا أمل زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا أمل دابتي ما حملت رحلي؛ إن الملالة من سيِّئِ الأخلاق (¬3). وفيه ذم الملالة والسآمة مما يلائم الإنسان من أهل، أو دابة، أوثوب، أو طعام؛ فإن الاجتزاء بما يسوء من عوز من خلق المؤمن. وروى الإِمام أحمد، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً؛ إِنْ كَرِهَ مِنْها خُلُقاً رَضِيَ مِنْها غَيْرَهُ" (¬4). والفِرك -بالكسر-: البغض من الزوجين. ¬
53 - ومنها: العبادة على جهل، و [ ... ] والتشاؤم بالعبادة والتطير بها.
وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَزَوَّجُوا وَلا تُطَلّقُوا؛ فَإِنَّ الله لا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَلا الذَّوَاقاتِ" (¬1). وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَحَبُّ الأَعْمالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُها وَإِنْ قَلَّ" (¬2). وروى مسلم، وأبو داود عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عمل عملًا أثبته (¬3)؛ أي: جعله ثابتًا لا يفارقه، ولا يتركه في وقته؛ أي: داوم عليه. 53 - ومنها: العبادة على جهل، و [ ... ] (¬4) والتشاؤم بالعبادة والتطير بها. وذلك من آثار سوء الخلق، ومن أقبح الْمَلَل. قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}؛ أي: على جهلْ. {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]. قال ابن عباس في الآية: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلامًا وأنتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ¬
54 - ومنها: الفرح بالدنيا، والترح بإدبارها، والغضب لها، والغرام بها.
ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء. رواه البخاري (¬1). وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 10، 11]. قال قتادة: هذا الآيات نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة؛ أي: وقد خرجوا مهاجرين. قال: وهذه الآيات العشر -أي: من أول سورة العنكبوت إلى ختام هذه الآية- مدنية. أخرجه ابن جرير (¬2). وروى ابن أبي شيبة، والمفسرون عن مجاهد في قوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11] قال: أناس يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاءً من الناس أو مصيبة في أنفسهم وأموالهم افتتنوا، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة (¬3). 54 - ومنها: الفرح بالدنيا، والترح بإدبارها، والغضب لها، والغرام بها. وإذا كان حب الدنيا رأس كل خطيئة فهي منبع النفاق. ¬
ألا ترى أن عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول حين أراد أهل المدينة أن يتوجوه ويملكوه عليهم، فأدركه الإِسلام وحال بينهم وبين ذلك، ثم هاجر إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقبلوا عليه، وأعرضوا عما همُّوا به من تتويج ابن أُبَيٍّ، كان ذلك داعياً لابن أُبَيٍّ إلى النفاق، وإضمار العداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكان قد أظهر الإِسلام لئلا يخرج عن قومه، ومنه أخذ المنافقون واقتدى به الأرذلون؟ قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58]. وفي تغيير الخطاب إشارة إلى أن السخط خلقهم اللازم لهم، والرضا طارئ عليهم بسبب ما يعرض عليهم من العطاء، فإذا انقطع العطاء عنهم عادوا إلى مكرهم. والآية نزلت في أبي الجواظ، وفي حرقوص بن زهير الملقب بذي الخويصرة، وهو رأس الخوارج، وكلاهما من المنافقين، قال كل منهما في قسمة قسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه لم يعدل فيها، فبين الله سبحانه أن ذلك من القائل إنما نشأ لشدة انكلابه على الدنيا، وطمعه فيها، ورضاه لها، وسخطه لمنعها، فأدى ذلك به إلى وقوعه في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - بما هو كفر صريح، ولو أنه رضي بالله تعالى ورسوله، واكتفى بما قسمه الله له لأغناه الله تعالى كما قال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]؛ أي: لكان ذلك خيراً لهم، وأعود عليهم.
وهذه صفة المؤمنين إذا ابتلاهم الله تعالى بالفقر والبلاء صبروا، وإذا أعطاهم العافية والدنيا لم يركنوا إليها, ولم يغتروا بها كما قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23]. ومن العجائب أن المنافق في عمره كله بين غرة بمالة، وفرح بإقباله، وحزن لما فاته، واغتمام بإدباره عنه حتى يدركه الموت على ذلك، فإن أدركه على غمه فغم الموت انضم إلى غم الفوت، وإن أدركه على غرته فأَعْظِم بحسرته! وما أحسن موعظةَ عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إذ كتب إلى يزيد بن عبد الملك: إياك إن تدركك المصرعة عند الغرة، فلا تقال العثرة، ولا تمكن من الرجعة، ولا يحمدك من خلفت بما تركت، ولا يعذرك من تقدم عليه بما اشتغلت به، والسلام. رواه الإِمام أحمد في "الزهد" (¬1). وروى فيه عن يزيد بن ميسرة قال: كان رجل ممن مضى جمع مالاً وولداً فأوعى، ثم أقبل على نفسه وهو في أهله قد جمع، فقال: أنعمي سنين! فأتاه ملك الموت عليه السلام فقرع الباب، فخرجوا إليه ¬
وهو متمثل بمسكين، فقال لهم: ادعوا لي صاحب الدار، فقالوا: يخرج سيدنا إلى مثلك؟ فودعوه، ثم مكث قليلاً، ثم عاد فقرع باب الدار، وصنع مثل ذلك، فقال: أخبروه أني ملك الموت، فلما سمع سيدهم قعد فزعاً، وقال: لينوا له بالكلام. فقالوا: ما تريد غير سيدنا بارك الله فيك؟ قال: لا. فدخل عليه فقال له: قم فأوص ما كنت موصياً؛ فإني قابضٌ نفسك قبل أن أخرج. فصاح أهله وبكوا، ثم قال: افتحوا له الصناديق والتوابيت، وافتحوا أوعية المال، وافتحوا أوعية الذهب والفضة. ففتحوا جميعًا، فأقبل إلى المال يلعنه ويسبه، ويقول: لعنت من مال، أنت الذي أنسيتني ربي تبارك وتعالى، وأغفلتني عن العمل لآخرتي حتى بلغني أجلي. فتكلم المال فقال: لا تسبني! ألم تكن وضيعاً في أعين الناس فرفعتك؟ ألم ير عليك من أثري؟ وكنت تحضر سدد الملوك فتدخل، ويحضر عباد الله الصالحون فلا يدخلون؟ ألم تكن تخطب بنات الملوك والسادة فتنكح، ويخطب عباد الله الصالحون فلا ينكحون؟ ألم تكن تنفق في سبيل الخبيث فلا أتعاص ولو أنفقتني في سبيل الله لم أتعاص عليك؟ وأنت اليوم تلومني؟ إنما خلقت أنا وأنتم يا بني آدم من تراب، فمنطلق ببِرِّ ومنطلق بإثم.
ثم قال يزيد بن ميسرة: فهكذا يقول المال؛ فاحذروا (¬1)! قلت: ولما كشفت هذه الحقيقة للعارفين بالله آثروا الحياة الباقية على الحياة الدنيا الفانية، فلم يطلبوا عزها, ولم يجزعوا لذلها، بل أمكنتهم فتركوها وتبرؤوا منها، وخطبتهم فَقَلُوها وأعرضوا عنها، فكانوا هم السابقين إلى نعيم الجنة، الظافرين بعظيم المنة. وقد روى الإِمام أحمد في "الزهد" عن العباس بن سالم اللخمي قال: بعث عمر بن عبد العزيز إلى أبي سالم الخشني، فحمل إليه على البريد ليسأله عن الحوض، فقدم به عليه، فسأله فقال: سمعت ثوبان رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ حَوْضِيَ مِنْ عَدَنٍ إِلَى عَمَّانَ الْبَلْقاءِ، ماؤُهُ أَشَدُّ بَياضاً مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأكاويبُهُ عَدَدَ النُّجُومِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَها أَبَدًا، أَوَّلُ النَّاسِ وُرُوداً عَلَيْهِ فُقَراءُ الْمُهاجِرينَ". فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: من هم يا رسول الله؟ قال: "هُمُ الشُّعْثُ رُؤُوساً، الدُّنْسُ ثِياباً، الَّذِينَ لا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعّماتِ، وَلا تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوابُ السُّدَدِ". فقال عمر بن عبد العزيز: لقد نكحت المتنعمات؛ فاطمة بنت عبد الملك، وقد فتحت لي السدد إلا أن يرحمني الله عز وجل، لا جرم لا أدهن ¬
55 - ومن أخلاق المنافقين: طلب الدنيا بعمل الآخرة وذكر الله، والقلب مصر على المعصية، وذكره تعالى وهو يريد بذكره غرضا فاسدا.
رأسي حتى يشعث، ولا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ (¬1). وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: نعمت الدار كانت الدنيا للمؤمن، وذاك أنه عمل فيها قليلاً، فأخذ زاده منها إلى الجنة، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق، وذلك أنه ضيع لياليه، وكان منها زاده إلى النار (¬2). وعن مالك بن دينار قال: سألنا الحسن عن عقوبة العالم. قال: موت القلب. قيل: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بالآخرة (¬3). وموت القلب هنا كناية عن خلوه عن الخير كما عبر بالمرض عن النفاق، والموت أشد الأمراض. 55 - ومن أخلاق المنافقين: طلب الدنيا بعمل الآخرة وذكرِ الله، والقلبُ مصر على المعصية، وذكرُه تعالى وهو يريد بذكره غرضاً فاسدًا. والمؤمن مطمئن القلب بذكر الله تعالى، لا يريد به غيره، ¬
ولا يعمل لغير وجهه. روى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: في زبور داود عليه السلام يقول: المنافق يسمي الله تعالى، وليس الله في كل همومه. وقال بعض العارفين: المؤمن همه البر، والمنافق همه دنياه. روى الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم عن الجارود بن المعلى رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ طَلَبَ الدُّنْيا بِعَمَلِ الآخِرَةِ طُمِسَ وَجْهُهُ وَمُحِقَ ذِكْرُهُ، وَأُثْبِتَ اسْمُهُ في أَهْلِ النَّارِ" (¬1). وقوله: "طُمِسَ وَجْهُهُ"؛ أي: في الآخرة، أو: طمس قلبه أراد بالوجه القلب، وبطمسه: الطبع عليه، كما يراد بالوجه القلب في دعاء الافتتاح. وقوله: "وَمُحِقَ ذِكْرُهُ" يعني: في الدنيا بأن يطلق الله على ألسنة الناس بالثناء السيئ إظهاراً لسريرته. وروى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
"مَنْ طَلَبَ الدُّنْيا بِعَمَلِ الآخِرَةِ فَلَيْسَ لَهُ في الآخِرَةِ مِنْ نَصِيْبٍ" (¬1). وقال بعض السلف: طلب الدنيا بالدف والمزمار أهون من طلبها بعمل الآخرة (¬2). وروى الإِمام أحمد عن شميط بن عجلان رحمه الله تعالى قال: إن الدينار والدرهم أَزِمَّةُ المنافقين بها يقادون إلى السوءات (¬3). وعن سفيان، عن رجل من أهل البصرة قال: رأيت في النوم عجوزاً عليها من كل الثياب، قلت: من أنت؟ قالت: أنا الدنيا. قلت: أعوذ بالله منك. قالت: لا يعيذك الله مني حتى تبغض الدينار والدرهم (¬4). وروى ابنه في "زوائده" عن شميط قال: كان يقال: علامة المنافق قلة ذكر الله عز وجل (¬5). وكان يقول: الذهب والفضة أَزِمَّةُ المنافقين بها يقادون إلى السوءات (¬6). ¬
تنبيه
وعنه قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: ألا ترى إلى المنافق كيف يخادعني وأنا أخدعه، يسبِّحني بطرف لسانه وقلبه بعيد مني (¬1)؟ * تَنْبِيهٌ: قَلَّ في هذه الأزمنة المتأخرة في سائر الآفاق من يسلم من هذا الخلق وغيره من أخلاق أهل النفاق. روى أبو عبد الرحمن السلمي، والديلمي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمانٌ هَمُّهُمْ بَطْنُهُمْ، وَشَرَفُهُمْ مَتاعُهُمْ، وَقِبْلَتُهُمْ نِساؤُهُمْ، وَدِيْنُهُمْ دَراهِمُهُمْ وَدَنانِيْرُهُمْ؛ أُوْلَئِكَ شَرُّ الْخَلْقِ، لا خَلاقَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعالَى" (¬2). وروى الإسماعيلي في "معجمه"، والديلمي -وأنكره الذهبي- عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَأَتِي عَلى النَّاسِ زَمانٌ يَكُونُ عامَّتُهُمْ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي الْعِبادَةِ، يَسْتَعْمِلُونَ أَهْلَ الْبِدَع -أي: يتخذونهم عمالاً وولاة- يُشْرِكُونَ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، يَأْخُذونَ عَلى قِراءَتِهِمْ وَعِلْمِهِمُ الْوَرِقَ -أي: الفضة- يَأْكُلُونَ الدُّنْيا بِالدِّينِ، هُمْ أتباعُ الدَّجَّالِ الأَعْورِ" (¬3)؛ أي: مثلهم، أو ¬
56 - ومن أعمال المنافقين: ركوب الأمور التي يعتذر منها، وارتكاب ما يستحى به، وعدم تذكر العواقب، والغش.
هم أتباعه لو خرج فيهم. ويؤخذ منه: أن أتباع أعور الدجال من أماراتهم اتصافهم بذلك. وروى ابن السني، والديلمي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمانٌ يَسْتَخْفِي الْمُؤْمِنُ فِيهِمْ كَما يَسْتَخْفِي الْمُنافِقُ فِيكُمْ" (¬1). ووجهه: كثرة المنافقين ورواج النفاق في الناس، وقلة المؤمنين مع مباينتهم لهم في زيهم وسمتهم ومطلوباتهم. 56 - ومن أعمال المنافقين: ركوب الأمور التي يعتذر منها، وارتكاب ما يستحى به، وعدم تذكر العواقب، والغش. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار قال: سألني ناس من التمَّارين، عن تمر واحد يأخذون منه الراق المتكسر يجعلونه فوقه وهو تمر واحد، فقلت لهم: لا أدري حتى أسأل الحسن، فأتيت الحسن فسألته، فقال الحسن رحمه الله تعالى: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالنِّفاقِ؟ ". فغطى رأسه ووجهه، وأخرج عيناً له واحدة، ثم قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالإِيْمانِ؟ ". فألقى عنه ثوبه. ¬
وروى الحاكم عن سعد بن أبي وقاص، والطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر، وابن عساكر عن أبي أيوب قالوا - رضي الله عنهم -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِيَّاكَ وَما يُعْتَذَرُ مِنْهُ" (¬1). ورواه الضياء المقدسي في "المختارة" عن أنس رضي الله تعالى عنه، ولفظه: "إِيَّاكَ وَكُلَّ ما يُعْتَذَرُ مِنْهُ" (¬2). وليس كل اعتذار صحيحًا ولا مقبولاً. ومن ثم لم يعذر المنافقون في تخلفهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستهزائهم به وبأصحابه كما قال الله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 64 - 66]. وقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ (66)} [التوبة: 66] أراد بالطائفة مخشي بن حمير؛ كان يضحك ولا يخوض، وكان ليمشي مجانباً للمنافقين، وربما أنكر ما وقع، فلما نزلت الآية تاب عن نفاقه، وأخلص، ¬
وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم مقتله، فقتل يوم اليمامة لا يعلم مقتله ولا من قتله، ولا يرى له عين ولا أثر كما أخرجه ابن أبي حاتم عن كعب ابن مالك رضي الله تعالى عنه (¬1). والطائفة: رجل فصاعدًا (¬2). وفي لفظ: الرجل والنفر (¬3). أخرجه بالأول عبد بن حميد، وبالثاني ابن أبي حاتم [عن ابن عباس - رضي الله عنهما -]. وروى ابن المنذر عن الكلبي: أن المستهزئين المذكورين في الآية كانوا ثلاثة رهط؛ كان رجل منهم لم يمالهم في الحديث يسير مجانباً لهم، يقال له: يزيد بن وديعة، فنزلت: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ (66)} [التوبة: 66] فسمي طائفةً وهو واحد كأنه يشير إلى أنه قام مقام جماعة (¬4). ونظيره الأمة: يقال للواحد والجماعة. قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: رأيت عبد الله بن أُبَيٍّ وهو يشتد قُدَّام النبي - صلى الله عليه وسلم - والأحجار تنكسه، وهو يقول: يا محمد! إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ ¬
تنبيه
تَسْتَهْزِئُونَ (65)} [التوبة: 65]؟ ". أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وغيره (¬1). * تَنْبِيهٌ: في هذا أن المنافق والكاذب في اعتذاره قد لا يوفق إلى اعتذار مقبول، بل يكون عذره أقبح من فعله، ألا ترى إلى اعتذار عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول رأس المنافقين؟ يقول: إنما كنا نخوض ونلعب؛ فإن الخوض واللعب [بالله] (¬2) وآياته ورسوله كفر، فكان عذره أقبح من فعله. 57 - ومن قبائح المنافقين: سوء الاعتقاد، والشك في موعود الله تعالى، والاستخفاف بأمره. قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)} [الأحزاب: 12]. نزلت في قول معتب بن قشير ومن كان معه على رأيه في غزوة الأحزاب: كان محمد يرى أن يأكل من كنوز كسرى، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط! ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً؛ كما ذكره المفسرون (¬3). ¬
58 - ومنها: الفرار من الزحف، والتولي، ونقض المعاهدة على الثبات، بل وغيره من الأمور كما تقدم.
58 - ومنها: الفرار من الزحف، والتولي، ونقض المعاهدة على الثبات، بل وغيره من الأمور كما تقدم. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 15 - 17]. والفرار من الزحف من الكبائر. وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15 - 16]. 59 - ومنها: التعويق عن الخير، والتثبيط عنه؛ جهادًا وغيره. قال الله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب: 18 - 19]. نزلت في ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحمًا لانتهبهم أبو سفيان وأصحابه،
دعوا هذا الرجل فإنه هالك. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة (¬1). ورويا عنه في قوله: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ (19)} [الأحزاب: 19] قال: أما عند الغنيمة فأشح قوم، وأسوأ مقاسمة، أعطونا، أعطونا؛ إنا قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم، وأخذله للحق (¬2). ودلت الآية على أن من أخلاق المنافقين الطمع والشح، وهو أعم من البخل، وقد تقدم أنه من أخلاقهم. وقد روى الطبراني في "الأوسط" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِيَّاكُمْ وَالطَّمَعَ؛ فَإِنَّهُ فَقْرٌ حاضِرٌ" (¬3). وروى أبو داود وصححه الحاكم، وغيره، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ؛ فَإِنَّما هَلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ؛ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا" (¬4). وفي الأخبار استعاذة النبي - صلى الله عليه وسلم - من البخل، ومن نفس لا تشبع، ¬
60 - ومنها: العجب، والتكبر، والتجبر، والفساد اعتمادا على ما أوتيه من قوة الجسد، ودوام الصحة، وكثرة الأموال والأولاد، والتكبر وسيلة الاستكبار، وتكلف الكبر، ودعواه للنفس.
ومن طمع يجر إلى طبع. 60 - ومنها: العجب، والتكبر، والتجبر، والفساد اعتماداً على ما أوتيه من قوة الجسد، ودوام الصحة، وكثرة الأموال والأولاد، والتكبر وسيلة الاستكبار، وتكلف الكبر، ودعواه للنفس. والكبر -بالكسر والضم-: الشرف. والكبرياء: أعظمه، ولا تصلح إلا لله تعالى. وفي الحديث القدسي: "الْكِبْرِياءُ رِدائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزارِيْ؛ فَمَنْ نازَعَنِي فِيهِما قَصَمْتُهُ" (¬1). والتجبر: التكبر، أو أبلغ منه. والجبار: المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقًا كما في "القاموس" (¬2)، بل يرى لنفسه الحق على كل أحد. أو الجبار: العيَّار، كما فسره به ابن عباس في قوله تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)} [إبراهيم: 15] (¬3). والعيار: الكثير المجيء والذهاب كأنه لا يرضى بحالة واحدة إعجاباً بنفسه، فلا يكون في أمر معجب إلا طلب لنفسه غيره؛ من عار البعير يعير: إذا ترك الشوك وانطلق إلى غيره. ¬
وقد سبق أن المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين. والاسم: العيارة، ويقال: هو عيير وحده؛ أي: معجب برأيه، أو العمل وحده. والعناد: مخالفة الحق، ورده وهو عارف به. والمعاندة: المفارقة، والمجانبة، والمعارضة بالخلاف. وكل ذلك من أخلاق المنافقين. قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [التوبة: 68]؛ أي: أنتم أيها المنافقون كالذين من قبلكم. {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ (69)} [التوبة: 69] أي: بنصيبهم من ملاذ الدنيا. {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا (69)} [التوبة: 69]: خضتم في الباطل واللهو في الدنيا معرضين عن الحق والآخرة؛ أي: كالخوض الذي خاضوه، مستعار من الجَوَلان في الماء، ولا يستعمل إلا في الباطل. وفي الحديث: "رُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِي مالِ اللهِ، لَهُ النَّارُ يَومَ الْقِيامَةِ" (¬1). ¬
وقال الله تعالى في المنافقين {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ (65)} [التوبة: 65]. وقال تعالى -حكاية عن أهل سقر، وهي الدرك الأسفل من النار، وهو منزل المنافقين-: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)} [المدثر: 45]؛ أي: كلما غوى غاوٍ غوينا معه، كما رواه ابن المنذر عن قتادة (¬1). وروى الترمذي وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيامَةِ لَهُ عَينانِ يُبْصِرانِ، وَأُذُنانِ يَسْمَعانِ، وَلِسانٌ يَنْطِقُ، فَيَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلاثَةٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعا مَعَ اللهِ إِلَها آخَرَ، وَبِالْمُصَوِّرِينَ" (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ فِي جَهَنَّمَ وادٍ يُقالُ لَهُ هَبْهَب؛ حَقٌّ عَلى اللهِ أَنْ يُسْكِنَهُ كُلَّ جَبَّارٍ" (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عبد الله بن دينار: أن داود عليه السلام كان يقول: كما أن أقرب الناس من الله تعالى يوم القيامة ¬
61 - ومنها: استصغار الذنب، والاستخفاف به، والأمن من عقوبته، وعدم مراقبة الله تعالى في كل الأحوال.
المتواضعون، كذلك أبعد الناس من الله الجبارون. والتواضع صفة النبيين؛ ألا ترى قوله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ (45)} [ق: 45]؟ وفي عيسى عليه السلام: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)} [مريم: 14]؟ وقال حكاية عن عيسى عليه السلام: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)} [مريم: 32]؟ والجبار الشقي: الذي يقتل على الغضب كما رواه ابن أبي حاتم عن سفيان. وقال العوام بن حوشب رحمه الله تعالى: إنك لا تكاد تجد عاقًا إلا تجده جباراً، ثم قرأ الآية. رواه ابن أبي حاتم (¬1). 61 - ومنها: استصغار الذنب، والاستخفاف به، والأمن من عقوبته، وعدم مراقبة الله تعالى في كل الأحوال. قال الله تعالى في أهل الإفك: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)} [النور: 15]. وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه -وأبهم رفعه- والبيهقي موقوفًا على ابن مسعود، ومرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمُؤْمِنُ يَرى ذَنْبَهُ كَالْجَبَلِ فَوْقَهُ يَخافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَالْمُنافِقُ يَرى ذَنْبَهُ ¬
62 - ومنها: تمني المغفرة مع الإصرار على المعاصي.
كَذُبابٍ مَرَّ عَلى أَنْفِهِ فَأَطارَهُ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "الإخلاص" عن أبي قلابة رحمه الله تعالى -مرسلاً- قال: "أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ رَجُلٌ لا يُراقِبُ اللهَ عز وجل فِي السِّرَّ، وَرَجُلٌ يُجالِسُ الأُمَراءَ، كُلَّما قالَ شَيْئًا قالَ: صَدَقَ الأَمِيرُ". 62 - ومنها: تمني المغفرة مع الإصرار على المعاصي. روى الإمام أحمد في "الزهد"، وأبو الشيخ، وأبو نعيم عن الحسن رحمه الله تعالى قال: المؤمن يعلم أن ما قال الله كما قال الله، والمؤمن أحسن الناس عملاً، وأشد الناس خوفًا، لو أنفق جبلاً من مال ما أمن دون أن يعاين، لا يزداد صلاحًا وبرًا وعبادة إلا ازداد فرقًا، يقول: لا أنجو. والمنافق يقول: سواد الناس كثير، وسيغفر لي، ولا بأس علي، فينسى العمل، ويتمنى على الله تعالى (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الحذر" عن فضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: إنما هو الأمن والخوف؛ فالمؤمن خائف وَجِلٌ كان كان محسنًا، والمنافق آمن متمنٍّ وإن كان مسيئًا. ¬
63 - ومنها: الاعتذار عن المعاصي والظلم بما ليس بعذر.
وروى ابن المبارك في "الزهد" عن الحسن قال: إن المؤمن جمع إحسانًا وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً، وتلا هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 57 - 58]. قال: وقال في المنافق: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] (¬1). 63 - ومنها: الاعتذار عن المعاصي والظلم بما ليس بعذر. كما يحتج كثير ممن يدخل المداخل المحرمة لتحصيل الدنيا بالعيال، وكما يحتج الظلمة عن الظلم بجريان العادة، أو بكثرة ما عليهم من المؤنة. قال الله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا (11)} [الفتح: 11] الآية. 64 - ومنها: التسويف بالتوبة حتى يدركه الموت. قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 17 - 18]. قال أبو العالية رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ} ¬
65 - ومنها: إظهار التوبة، وطلب الدعاء من الصالحين باللسان، والقلب على خلاف ذلك.
الآية [النساء: 17]: هذه للمؤمنين. وفي قوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ (18)} [النساء: 18] قال: هذه لأهل النفاق. وأنزل: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ (18)} [النساء: 18] قال: هذه لأهل الشرك. رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). والمعنى: أن المنافقين من شأنهم الإصرار على المعصية، والتسويف بالتوبة من حين إلى حين حتى يعاين أحدهم الموت، ويغرغر بروحه فيحال بينه وبين التوبة، وحينئذ يتوب فلا تنفعه التوبة؛ إذ "تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْعَبْدِ ما لَمْ يُغَرْغِرْ" (¬2) كما صح في الحديث. 65 - ومنها: إظهار التوبة، وطلب الدعاء من الصالحين باللسان، والقلبُ على خلاف ذلك. قال الله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (11)} [الفتح: 11]. وقالت رابعة العدوية رحمها الله تعالى: استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين (¬3). والمنافقون أكذبهم. ¬
66 - ومنها -وهي أقبح أعمال المنافقين وأجمعها للشر-: تشبههم بمن سلف قبلهم من اليهود والنصارى، والمشركين، والمنافقين، والفجار.
66 - ومنها -وهي أقبح أعمال المنافقين وأجمعها للشر-: تشبههم بمن سلف قبلهم من اليهود والنصارى، والمشركين، والمنافقين، والفجار. كما قال تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا (69)} [التوبة: 69]. وقال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا (11)} [الحشر: 11] الآيات إلى قوله تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر: 14 - 15]. قال مجاهد في قوله: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (15)} [الحشر: 15]: هم كفار قريش (¬1). وقال قتادة: هم بنو النضير (¬2). وقيل: هم بنو قينقاع (¬3). ورجحه الوالد في "تفسيره". وقيل: بنو قريظة (¬4). ¬
وكل هؤلاء يهود. وقيل: هم كل الأمم السالفة من عهد نوح عليه السلام إلى زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإنما قال: {قَرِيبًا} [الحشر: 15] لأن مسافة الدنيا كلها قريبة لانقضائها، وكما أن كل آتٍ قريب فكل ماض منها قريب لتتابعه. أو قال: {قَرِيبًا} [الحشر: 15] من حيث إن القرآن قرب أحوالهم منهم مما جمعه من أخبارهم، وقصه من سننهم ووقائعهم. واعلم أن قبائح المنافقين كثيرة لا تنحصر فيما ذكرناه. وبالجملة لا يفعل المنافق طاعة إلا معلولة، ولا يبتعد عن معصية إلا تقية، أو في ظاهر الحال، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} [التوبة: 67]؛ أي: المتلبسون بالفسق حقيقة لأنهم خارجون عن الأمر حقيقة بخلاف المؤمن؛ فإنه إذا وقعت منه معصية فعلى سبيل الزلة والخطأ، ولو التمس قلبه لوجده مصدقاً، ولذلك يخاف من ذنبه ويندم على فعله، ويكره ذلك من نفسه، فالفسق على ظاهره، والإيمان في قلبه، وإنما سمي إذا فعل كبيرة أو أصر على صغيرة فاسقاً احتياطاً للشهادة، وزجراً له عن المعصية، وتبكيتاً به ليرجع ويتوب، ومن ثم سمى أهل السنة الفاسق غير المنافق مؤمناً خلافاً للخوارج والمعتزلة؛ فإن الخوارج يسمونه كافرًا، والمعتزلة يقولون: هو بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر.
وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه" عن عمر رضي الله تعالى عنه، والإمام أحمد، وابن حبان، والحاكم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، والطبراني عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنتُهُ وَساءَتْهُ سَيَّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ" (¬1). وأنشد الحافظ أبو الفضل ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى لنفسه عقب إملاء هذا الحديث كما أخبرنا شيخ الإسلام والدي عن مشايخه، عنه: [من الكامل] الْمَرْءُ يَذْهَلُ حِينَ يَفْعَلُ سَيَّئًا ... وَيَعُودُ بِالإِيْمانِ وَالإِحْسانِ فَإِذا نَدِمْتَ عَلى الْخَطَأ وَفَرِحْتَ بِالْـ ... ـحُسْنَى فَذَاكَ عَلامَةُ الإِيْمانِ وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن عمران العَمَّي قال: جاء رجل إلى حذيفة رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا عبد الله! إني أخشى أن أكون منافقاً. ¬
قال: تصلي إذا خلوت؟ وتستغفر إذا أذنبت؟ قال: نعم. قال: اذهب، فما جعلك الله منافقًا (¬1). وروى الإمام أحمد -وحسنه ابن حجر- عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَالإِيمانِ مَثَلُ فَرَسٍ فِي آخِيَتِهِ (¬2)، يَجُولُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى آخِيَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَسْهُو ثُمَّ يَرْجِعُ؛ فَأَطْعِمُوا طَعامَكُمُ الأَتْقِياءَ، وَأَوْلُوا مَعْرُوفَكُمْ" (¬3). وروى البزار، والطبراني بإسناد حسن، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: المؤمن واهٍ راقعٌ، وسعيدٌ من مات على رقعة (¬4). وقوله: واهٍ راقعٌ؛ أي: مذنب مستغفر، مِنْ وَهَى السِّقاء: إذا انفتق خرزه. وروى عبد بن حميد، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى ¬
عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ ذَنْباً يَعْتادُهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، أَوْ ذَنْباً لا يَتْرُكُهُ حَتَّى يَمُوتَ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ خَطَّاءً نَسَّاءً، فَإِذا ذُكِّرَ ذَكَرَ" (¬1). والفينة -بفتح الفاء، وسكون الياء التحتانية، وبعدها نون-: الحالة، والساعة. والحاصل: أن المؤمن -وإن جرى عليه الحكم بالفسق والذنب- فإنه يرجع إلى تصديق قلبي، وإيمان سري، فكأنه بصدد التوبة في كل وقت وحين. على أن المنافق -وإن توغل في النفاق، وتمحض قلبه به- فباب التوبة له مفتوح أيضًا كسائر المشركين، فهو -وإن تمادى في أنواع النفاق وأخلاق المنافقين- فالتوبة غير محجوبة عنه. حتى إن من الناس من تجري عليه أحوال المنافقين والمارقين سائر عمره، فيتداركه الله تعالى بإيمان مقبول، وتوبة صحيحة، ولو قبل الغرغرة بالموت. وقد يتخلق بأخلاق المؤمنين ويعمل أعمال المسلمين سائر عمره، ثم يختم له بالنفاق؛ والعياذ بالله تعالى. ¬
ومصداق ذلك في الحديث الصحيح (¬1). وتأمل أمر إخوة يوسف عليه وعليهم السلام كيف جرى منهم أخبارهم لقتل يوسف وتغريبه، ثم طرحهم إياه في الجب، ثم كذبهم لأبيه على الذئب أنه أكله، وتزويرهم على قميصه بالدم، ثم إغلاظهم عليه، ثم بيع أخيهم بالثمن البخس، و [ ... ] (¬2) ثم قولهم: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، ثم تلافاهم الله بالتوبة، وجعلهم أنبياء، وختم لهم بالحسنى، ولم يَجْرِ عليهم نفاقُ الكفرة وإنما جرى منهم مثل أفعال المنافقين. وقصتهم أدل دليل على أنه ليس كل من جرى عليه مثل أعمال المنافقين يكون منافقًا خالصًا، بل هو متعرض له، وجائز عليه أن يتوب ويقلع، فيعود إلى آخية الإيمان وعقدة التصديق، ويستمر حتى يطهره الله تعالى من تلك الأدناس. نعم، توبة المنافق ينبغي أن تكون أبلغ من توبة غيره. ومن ثم اشترط الله تعالى على التائبين من المذنبين شرطين، ¬
تتمة
واشترط على التائبين من المنافقين أربعة شروط. فقال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ (146)} [النساء: 146] لأنهم كانوا يعتصمون بالناس وبالأموال، وكانوا يراؤون الناس بالأعمال، ولذلك اشترط عليهم الاعتصام بالله والإخلاص لله، فينبغي أن تكون توبة كل عبد على قدر معاصيه، قليلاً بقليل، وكثيراً بكثير، ويكون التائب في الإصلاح والإحسان على قدر ما كان أفسد ليكون كما قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)} [الكهف: 30]، و {أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170] كذلك. ذكره أبو طالب في كتاب "القوت" (¬1)، وهو حسن. * تَتِمَّةٌ: لا يخفى أن الإيمان والنفاق صفتان قلبيتان متقابلتان متضادتان، فأي خلق أو عمل اندرج في الإيمان كان علامة عليه، أو تتمة له، كان ضده مندرجاً في النفاق أو عَلَماً عليه، فينبغي أن نذكر هنا نبذة من الآيات والأحاديث الواردة في صفات المؤمن ليستدل بها على أضدادها فتجتنب. قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285] الآيتين. ¬
روى أبو داود في "مراسيله" عن جبير بن نفير، والحاكم وصححه، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ خَتَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِآيَتَيْنِ أَعْطانِيهِما مِنْ كَنْزِهِ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فتعَلَّمُوهُنَّ، وَعَلِّمُوهُنَّ نِساءكُمْ وَأَبْناءكُمْ؛ فَإِنَّها صَلاةٌ وَقُرْآنٌ وَدُعاءٌ" (¬1). وقال الله تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]. وقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]. وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71]. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحجرات: 10]. وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} [المجادلة: 22]. وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) ¬
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [المؤمنون: 1 - 11]. والصفات هاهنا كاشفة مبينة لصفات المؤمنين. وأما الأحاديث فنذكرها مسرودة من غير ذكر صحابتها، ولا مخرجها لأنها توجد في هذا الكتاب، أو أكثرها مخرجة، فآثرنا الاختصار هنا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإِيْمانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبةً: أَفْضَلُها قَوْلُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاها إِماطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَياءُ شُعْبةٌ مِنْ شُعَبِ الإِيْمانِ" (¬1). و"الإِيْمانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ" (¬2). "لا يَذُوقُ أَحَدٌ حَلاوَةَ الإِيْمانِ حَتَّى يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِواهُما" (¬3). ¬
"خَمْسٌ مِنَ الإِيْمانِ، مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُنَّ فَلا إِيْمانَ لَهُ: التَّسْلِيمُ لأَمْرِ اللهِ، وَالرِّضَا بِقَضاءِ اللهِ، وَالتَّفْوِيضُ إِلَى اللهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلى اللهِ، وَالصبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى" (¬1). "الصَّبْرُ نِصْفُ الإِيْمانِ، وَالْيَقِينُ الإِيْمانُ كُلُّهُ" (¬2). "الإِيْمانُ الصَّبْرُ وَالسَّماحَةُ" (¬3). "الإِيمانُ نِصْفانِ؛ فَنِصْفٌ فِي الصَّبْرِ، وَنصْفٌ فِي الشُّكْرِ" (¬4). "أَفْضَلُ الإِيْمانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُما كُنْتَ" (¬5). ¬
"لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيْقَةَ الإِيْمانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ ما أَصابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَما أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ" (¬1). و"لا يَسْتَقِيمُ إِيْمانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَخَلائِقُهُ" (¬2). "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيْماناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً" (¬3). "أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلٌ سَمْحُ الْبَيعِ، سَمْحُ الشِّراءَ، سَمْحُ الْقَضاءِ سَمْحُ الاقْتِضاءِ" (¬4). "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (¬5). "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هُواهُ تَبعاً لِما جِئْتُ بِهِ" (¬6). ¬
"لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَى يَأْمَنَ جارُهُ بَوائِقَهُ" (¬1). "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ" (¬2). "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ" (¬3) "يا مُعاذُ! إِنَّ الْمُؤْمِنَ قَيَّدَهُ الْقُرْآنُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ هَوى نَفْسِهِ" (¬4) "الطُّهورُ شَطْرُ الإِيْمانِ" (¬5). "لا يُحافِظُ عَلى الْوُضوءِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ" (¬6). "السَّواكُ نِصْفُ الإِيْمانِ، وَالْوُضوءُ نِصْفُ الإِيْمانِ". "الْبَذاذَةُ مِنَ الإِيْمانِ" (¬7). "إِذا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيْمانِ" (¬8). ¬
"الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ مُؤْمِنٍ" (¬1). "الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ لا يَدَعُ نَصِيحَتَهُ عَلَى كُلِّ حالٍ" (¬2). "الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتاعَ عَلَى بَيع أَخِيهِ وَلا يَخْطِبَ عَلى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ" (¬3). "الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ واحِدٍ، إِذا اشْتَكَى رَأْسَهُ تَداعَى لَهُ سائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ" (¬4). "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسانِهِ" (¬5). "إِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الإِيْمانِ" (¬6). "الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وُيؤْلَفُ، وَلا خَيْرَ فِيْمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ" (¬7). "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْعَطَّارِ؛ إِنْ جالَسْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ ماشَيْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ شارَكْتَهُ نَفَعَكَ" (¬8). ¬
"الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلى أَمْوالِهِمْ وَأَنْفِسِهِمْ" (¬1). "لا إِيْمانَ لِمَنْ لا أَمانَةَ لَهُ" (¬2). "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً" (¬3). "الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيْمٌ" (¬4). "الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ" (¬5). "الْمُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيَّنٌ تَخالُهُ مِنَ اللِّينِ أَحْمَقَ" (¬6). "الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنونَ لَيِّنونَ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ؛ إِنْ قِيدَ انْقادَ، وَإِنْ أُنِيخَ عَلى صَخْرَةٍ اسْتَناخَ" (¬7). "الْمُؤْمِنُ يَسِرُ الْمُؤْنَةِ" (¬8). ¬
"الْمُؤْمِنُ واهٍ راقعٌ؛ فَالسَّعِيدُ مَنْ ماتَ عَلى رُقْعَةٍ" (¬1). "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ السُّنْبُلَةِ؛ يَمِيلُ أَحْيانًا، وَيَقُومُ أَحْياناً" (¬2). "مِنْ تَمامِ إِيْمانِ الْعَبْدِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي كُلِّ حَدِيثِهِ" (¬3). "ثَلاثَةٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيْمانِ: الإِنْفاقُ فِي الإِقْتارِ، وبَذْلُ السَّلامِ لِلْعالَمِ، وَإِنْصافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِهِ" (¬4). "ذاقَ طَعْمَ الإِيْمانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبَّاً، وَبِالإِسْلامِ دِيْناً، ¬
وَبِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - نَبيًّا" (¬1). "خَصْلَتانِ لا يَجْتَمِعانِ فِي مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ" (¬2). "ثَلاثَةٌ مَنْ كانَتْ فِيهِ اسْتَكْمَلَ إِيْمانًا: رَجُلٌ لا يَخافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، وَلا يُرائِي بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ، وَإِذا عَرَضَ عَلَيْهِ أَمْرانِ أَحَدُهُما لِلدُّنْيا وَالآخَرُ لِلآخِرَةِ اخْتارَ أَمْرَ الآخِرَةِ عَلى الدُّنْيا" (¬3). "مِنْ أَخْلاقِ الْمُؤْمِنِ حُسْنُ الْحَدِيثِ إِذا حَدَّثَ، وَحُسْنُ الاسْتِماعِ إِذا حُدِّثَ، وَحُسْنُ الْبِشْرِ إِذا لَقِيَ، وَوَفاءٌ بِالْوَعْدِ إِذا وَعَدَ" (¬4). مثل المؤمن كمثل اللؤلؤة الحسنة؛ أين مالت فحسنها معها. وهذا أثر. "ثَلاثَةٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيْمانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِواهُما، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَما يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ" (¬5). ¬
"مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيْمانَ" (¬1). "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ اسْتَوْجَبَ الثَّوابَ وَاسْتَكْمَلَ الإِيْمانَ: خُلُقٌ يَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ، وَوَرَعٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَحارِمِ اللهِ، وَحِلْمٌ يَرُدُّهُ عَنْ جَهْلِ الْجاهِلِ" (¬2). "ثَلاثٌ مِنْ أَصْلِ الإِيْمانِ: الْكَفُّ عَنْ مَنْ قالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَلا يُكَفِّرُ بِذَنْبٍ، وَلا يُخْرِجُهُ مِنَ الإِسْلامِ بِعَمَلٍ" (¬3). "ثَلاثٌ مِنْ أَخْلاقِ الإِيْمانِ: مَنْ إِذا غَضِبَ لَمْ يُدْخِلْهُ غَضَبُهُ فِي باطِلٍ، وَمَنْ إِذا رَضِيَ لَمْ يُخْرِجْهُ رِضاهُ مِنْ حَقٍّ، وَمَنْ إِذا قَدِرَ لَمْ يَتَعاطَ ما لَيْسَ لَهُ" (¬4). "ما آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحارِمَهُ" (¬5). "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسانِهِ وَيَدِهِ" (¬6). ¬
"أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيْماناً رَجُلٌ يُجاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِنَفْسِهِ وَمالِهِ، وَرَجُلٌ يَعْبُدُ اللهَ فِي شِعْبٍ مِنَ الشَّعابِ قَدْ كَفَى النَّاسَ شَرَّهُ" (¬1). "الْمُؤْمِنُ لا يَزِيدُهُ طُولُ الْعُمُرِ إِلاَّ خَيْراً" (¬2). "الْمُؤْمِنُ ينضي شَيْطانهُ كَما ينضي أَحَدُكُمْ بَعيرَهُ [في السفر] " (¬3). "الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ عِيالهِ" (¬4). "الْمُؤْمِنُ مُكَفَّرٌ" (¬5)؛ [يعني] أَنْ يَصْطَنِعَ الْمَعْرُوفَ فَلا يُشْكَرُ عَلَيْهِ (¬6). "الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ " (¬7). ¬
"الْمُؤْمِنُ كَالْغَرِيبِ فِي الدُّنْيا لا يُنافِسُ فِي عِزِّها، وَلا يَجْزَعُ مِنْ ذُلَّها، النَّاسُ مِنْهُ فِي راحَةٍ، وَجَسَدُهُ مِنْهُ فِي عَناءٍ" (¬1). "الْمُؤْمِنُ بَيْنَ مَخافَتَيْنِ: ذَنْبٍ قَدْ مَضَى لا يَدْرِي ما يَصْنَعُ اللهُ فِيهِ، وَعُمُرٍ قَدْ بَقِيَ لا يَدْرِي ماذا يُصِيبُ فِيهِ" (¬2). "الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعاءٍ واحِدٍ، وَالْكافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعةِ أَمْعاءٍ" (¬3). "الْمُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعاءٍ واحِدٍ" (¬4). "الْمُؤْمِنُ يَغارُ وَاللهُ أَشَدُّ غَيْرَةً" (¬5). "الْمُؤْمِنُ لا يَشْفِي غَيْظَهُ" (¬6). "الْمُؤْمِنُ حاكِمٌ عَلى نَفْسِهِ، خاشِعٌ مُتَواضعٌ، قَدْ بَرِئَ مِنَ الْكِبْرِ، حَسَنُ الْخُلُقِ" (¬7). ¬
"الْمُؤْمِنُ حَقًّا الَّذِي إِذا أَحْسَنَ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَإذا أَساءَ ساءَتْهُ سَيَّئَتُهُ" (¬1). "الْمُؤْمِنُ يَسْهُو ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الإِيْمانِ" (¬2). "إِنَّ مِنْ أَخْلاقِ الْمُؤْمِنِ قُوَّةً فِي دِينٍ، وَحَزْماً فِي لِيْنٍ، وَإِيْماناً فِي يَقِيْنٍ، وَحِرْصًا فِي عِلْمٍ، وَشَفَقَةً فِي مِقَةٍ، وَحِلْماً فِي عِلْمٍ، وَقْصداً فِي غِنًى، وَعَمَلاً فِي فاقَةٍ، وَتَحَرُّجاً عَنْ طَبعٍ، وَكَسْباً فِي حَلالٍ، وَبراءً فِي اسْتِقامَةٍ، وَنشَاطًا فِي هُدىً، وَنهياً عَنْ شَهْوةٍ، وَرَحْمَةً لِلْمَجْهُودِ. وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ عِبادِ اللهِ، لا يَحِيفُ عَلى مَنْ يُبْغِضُ، وَلا يَأْثَمُ فِيْمَنْ يُحِبُّ، وَلا يُضَيِّعُ ما اسْتُوْدعَ، وَلا يَحْسُدُ، وَلا يَطْعَنُ، وَلا يَلْعَنُ، ويَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ وَإِنْ لَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهِ، وَلا يُنابِزُ بِالأَلْقابِ، فِي الصَّلاةِ مُتَخَشِّعاً، إِلَى الزَّكاةِ مُسْرِعاً، فِي الْبَلاءِ وَقُوراً، وَفِي الرَّخاءِ شَكُوراً، قانِعًا بِالَّذِي لَهُ، لا يَدَّعِي ما لَيْسَ لَهُ، لا يَغْلِبُهُ الشُّحُّ عَنْ مَعْرُوفٍ يُرِيدُهُ، يُخالِطُ النَّاسَ كَيْ يُفْهِمَ، وَإِنْ ظُلِمَ أَوْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ الرَّحْمَنُ هُوَ الَّذِي يَنتصِرُ لَهُ" (¬3). ¬
"يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلى كُلِّ خُلُقٍ لَيْسَ الْخِيانة وَالْكَذِبَ" (¬1). "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلا الْفاحِشِ وَلا الْبَذِيْءِ" (¬2). "لا يْبَهَتِ الْمُؤْمِنُ بَهْتةً يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَبْصارَهُمْ". "إِنَّ الإِيْمانَ قيد الْفَتْك؛ لا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ" (¬3). "مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوالِيْهِ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ" (¬4). "لا يَزْنِي الزَّانِي حِيْنَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِيْنَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِيْنَ يَشْرَبُها وَهُوَ مُؤْمِنٌ" (¬5). "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَلْبَسْ حَرِيْرًا وَلا ذَهَباً" (¬6). "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً" (¬7). ¬
"لَيْسَ الإِيْمانُ بِالتَّحَلِّي وَلا بِالتَّمَّني، وَلَكِنْ ما وَقَرَ فِى الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ" (¬1). "لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مُسْتَكْمِلِ الإِيْمانِ مَنْ لَمْ يَعُدَّ الْبَلاءَ نِعْمَةً وَالرَّخاءَ مُصِيْبةً" (¬2). "لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مُسْتَكْمِلِ الإِيْمانِ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي غَمٍّ ما لَمْ يَكُنْ فِي صَلاةٍ لأَنَّ الْمُصَليَ يُناجِي رَبَّهُ، وَإذا كانَ فِي غَيْرِ صَلاةٍ إِنَّما يُناجِي ابْنَ آدَمَ" (¬3). "لا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ واحِدٍ مَرَّتَيْنِ" (¬4). "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلَ خامَةِ الزَّرْعِ؛ مِنْ حَيْثُ أتتْها الرِّيْحُ كَفَتْها، ¬
فَإِذا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ" (¬1). "لَنْ يَشْبَعَ الْمُؤمِنُ مِنْ خَيْرٍ يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُوْنَ مُنْتَهاهُ الْجَنَّةَ" (¬2). "الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ؛ حَيْثُ وَجَدَها فَهُوَ أَحَقُّ بِها" (¬3). "الْعِلْمُ خَلِيلُ الْمُؤْمِنِ، وَالْعَقْلُ دَليلُهُ، وَالْعَمَلُ قَيِّمُهُ، وَالْحِلْمُ وَزِيرُهُ، وَالصَّبْرُ أَمِيرُ جُنُودِهِ، وَالرِّفْقُ والِدُهُ، وَالدِّينُ أَخُوهُ" (¬4). "الصَّلاةُ نُورُ الْمُؤْمِنِ" (¬5). ¬
"الشِّتاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ؛ قَصُرَ نهَارُهُ فَصامَ، وَطالَ لَيْلُهُ فَقامَ" (¬1). "الدُّنْيا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسِنَتُهُ، فَإِذا فارَقَ الدُّنْيا فارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ" (¬2). "الدُّعاءُ سِلاحُ الْمُؤْمِنِ، وَعِمادُ الدَّينِ، وَنوُرُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ" (¬3). "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ القائِمِ الصَّائِمِ" (¬4). "أَكْيَسُ الْمُؤْمِنِينَ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ، وَأَحْسَنُهُمْ لَهُ اسْتِعْداداً" (¬5). "الْمُؤْمِنُ بِخَيْرٍ عَلى كُلِّ حالٍ؛ تُنْزَعُ نَفْسُهُ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ وَهُوَ يَحْمَدُ اللهَ تَعالَى" (¬6). ¬
فصل
فَصْلُ اعلم أن من كان متحلياً بهذه الأوصاف الجميلة نشهد له بالإيمان، ولا نشهد على من اتصف بأضدادها بالنفاق مهما كان مقراً بالشهادتين؛ لأن النفاق أمر باطني لم نطلع عليه. نعم، نقول إذا ارتكب كبيرة، أو أصر على صغيرة وهو مقر بالشهادتين: هو فاسق، ولا نقول: منافق. ولكن هذه الأعمال القبيحة والأفعال السيئة أماراتٌ على النفاق مَظِنَّاتٌ له، وعلى كل مؤمن أن يتفقد قلبه كلما حصلت منه زلة، فيتنزه عنها خشية أن يركن إليها، وتسترسل فيها نفسه، فتكون عاقبته إلى النفاق؛ والعياذ بالله! وتأمل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77].
ألا ترى أن أصل زلة هؤلاء حب الدنيا؟ وحب الدنيا رأس كل خطيئة، فركنوا إلى حب الدنيا ومالوا إليها، وزين لهم أنهم إذا حصلت لهم وكثرت لديهم تصدقوا بها، وكانوا صالحين في التصرف بها، ولم يتدبروا عواقبها ويحذروا نوائبها، فحملهم الطيش على طلبها من الله عز وجل معاهدين له أن يتصدقوا ويكونوا صالحين، فلما أوتوها ابتلوا بحبها لأن طلبهم لها كان عن هوى وشهوة، ولم يكن عن حاجة وضرورة، فبخلوا بها، ثم آل بهم البخل إلى النفاق. ومن ثم كان السلف الصالحون يخافون على أنفسهم النفاق كثيرًا كما تقدم، وكانوا يرون أن الخوف من النفاق علامة البراءة منه لأن العبد لا يخلو من معصية ما، والمعصية قد تجر إلى النفاق كما علمت، بل قد تدعو إلى التجاهر بالكفر؛ والعياذ بالله! والدليل على ذلك قوله تعالى في اليهود: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} [البقرة: 61]. فقوله: {ذَلِكَ} [البقرة: 61] أي: الذل، والبواء بالغضب إنما حصل لهم بسبب أنهم كانوا يكفرون بالآيات، ويقتلون الأنبياء عليهم السلام. وقوله: {ذَلِكَ} [البقرة: 61] ثانياً؛ أي: الكفر، وقتل الأنبياء؛ إنما كان معهم بسبب العصيان والعدوان على غير الأنبياء.
كانوا يستخفون المعصية فيما بينهم وبين الله تعالى، والتعدي على أداني الناس حتى صار ذلك لهم عادة ودَيدناً، فاسترسلوا في العصيان والعدوان حتى هان عليهم الكفر بآيات الله، فكفروا بها، فصغُر عندهم التعدي على الأنبياء حتى تجرؤوا عليهم، فقتلوهم. والحاصل: أن العبد إذا تعاطى المكروه، وتكرر منه استجره إلى الصغيرة، فإذا فعلها وتكررت منه استجر إلى غيرها من المعاصي، ثم إلى الوقوع في الكبائر، ثم إلى الكفر والنفاق نعوذ بالله منها، وسبب ذلك غفلة العبد عن تفقد أحوال نفسه في كل وقت، وعدم الخوف على نفسه من النفاق، واغتيال القلب والتهاون بما يفعله من الذنوب، وعدم التدارك بالتوبة والاستغفار، وذلك كله خذلان من الله تعالى؛ إذ هو المقلب للقلوب، والمصرف لها، فهو الذي يلقي الغفلة عليها، ويقلبها ويصرفها كيف يشاء. ومن ثم استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من النفاق وكان يقول: "اللَّهُمَّ إِنَّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقاقِ، وَالنِّفاقِ، وَسُوءِ الأَخْلاقِ". رواه أبو داود، والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى الحكيم الترمذي في "النوادر"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"، والخطيب عن أم معبد الخزاعية رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِيَ مِنَ النِّفاقِ، ¬
تنبيه
وَعَمَلِيَ مِنَ الرَّياءِ، وَلِسانِيَ مِنَ الْكَذِبَ، وَعَيْنِيَ مِنَ الْخِيانَةِ؛ فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصّدُورُ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى: إن النفاق ليغتال قلب المؤمن اغتيالاً. * تَنْبِيهٌ: روى الطبراني بسند صحيح، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه حرملة بن زيد فجلس بين يدي رسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! الإيمان هاهنا -وأشار إلى لسانه- والنفاق هاهنا -وأشار إلى صدره- ولا نذكر الله إلا قليلاً. فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فردد ذلك عليه حرملة - رضي الله عنه -، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بطرف لسان حرملة، فقال: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ لِساناً صادِقاً، وَقَلْباً شاكِراً، وَارْزُقْهُ حُبِّيَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّنِي، وَصَيِّرْ أَمْرَهُ إلى الْخَيْرِ". فقال حرملة رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! إن لي إخواناً منافقين كنت فيهم رأساً، ألا أدلك عليهم؟ ¬
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ جاءَنا كَما جِئْتَ اسْتَغْفَرْنا لَهُ، وَمَنْ أَصَرَّ عَلى ذَنْبِهِ فَاللهُ أَوْلَى بِهِ، وَلا نَخْرِقُ عَلى أَحَدٍ سِتْراً" (¬1). قلت: فينبغي لمن عرف من نفسه النفاق، أو ظنه فيها، أو وجد من نفسه خلقاً من أخلاق المنافقين أن يتوب إلى الله تعالى كما تاب حرملة؛ فإن توبته من خالص قلبه وكان صادقاً فيها، وهذا هو حقيقة التوبة النصوح، فلما كان من الصدق بهذه المرتبة أكرمه الله تعالى بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي قوله: "لا نَخْرِقُ عَلى أَحَدٍ سِتْراً" إشارة إلى أنه من تاب إلى الله تعالى من ذنب لا ينبغي له أن يفضح من هو عاكف عليه، ولا يكشف عنه ستره، بل ينصحه. ثم إني رأيت في قوله - صلى الله عليه وسلم - لحرملة: "مَنْ جاءَنا كَما جِئْتَنا اسْتَغْفَرْنا لَهُ" حيث لم يقيد المجيء بالظرف بأن يقول: من جاءنا من إخوانك، أو منهم إشارة إلى حصول تلك السعادة لكل من جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمته في حال حياته - صلى الله عليه وسلم - وبعد مماته تائباً مستغفراً؛ فإنه حي في قبره. وهذا يوضحه غاية الإيضاح قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [النساء: 64]. ¬
ومن ثم استحسن العلماء من أصحابنا وغيرهم من أصحاب المناسك من جميع المذاهب لزائر قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ما روي عن محمد العتبي قال: كنت جالساً عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول -وفي رواية: يا خير الرسل- إن الله أنزل عليك كتابًا صادقاً قال فيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ (64)} [النساء: 64] الآية، وقد جئتك مستغفراً لذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي، ثم بكى وأنشد: [من البسيط] يا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ فِي القاعِ أَعْظُمُهُ ... فَطابَ مِنْ طِيْبِهِنَّ القاعُ وَالأَكَمُ نَفْسِي الْفِداءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ ساكِنُهُ ... فِيهِ الْعَفافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ قال: ثم استغفر وانصرف، فحملتني عيناي، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم فقال: يا عتبي! الحق الأعرابي فبشره بأن الله قد غفر له، فخرجت خلفه فلم أجده (¬1). ¬
وعندي أن من أراد أن يتنصل من ذنبه فتمام توبته أن يتوجه بقلبه إلى روح النبي - صلى الله عليه وسلم - حيثما كان من الأرض مهما لم يمكنه إتيان قبره الشريف، فذلك ما يمكنه من المجيء إليه، ثم يستغفر ويرجو من النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعته له في حصول المغفرة من الله تعالى؛ فإن لذلك تأثيراً عظيماً في حصول المقصود كما قلت: [من الوافر] إِذا قارَفْتَ ذَنْباً ثُمَّ أَمْسى ... فُؤادُكَ مِنْ نَدامَتِهِ كَئِيباً وَرُمْتَ سَلامَةً وَنَجاحَ أَمْرٍ ... بِخالِصِ تَوْبَةٍ تَمْحُو الذُّنُوبا فَوَجِّهْ وَجْهَ قَلْبِكَ نَحْوَ طَهَ ... فَإِنَّكَ سَوْفَ تَلْقَاهُ قَرِيباً وَكُنْ مُسْتَغْفِراً مِمَّا جَنَتْهُ ... يَداكَ وَتُبْ وَمَنْ لَكَ أَنْ تَتُوبا فَإِنَّكَ سَوْفُ تُبْصِرُهُ شَفِيعًا ... وَتُبْصِرُ رَبَّنا الأَعْلى مُجِيباً عَلَيْهِ صَلاتُنا فِي كُلِّ وَقْتٍ ... تَعُمُّ الْكَوْنَ تَعْطِيرًا وَطِيْباً وَسِيْلَتُنا إِلَى الرَّحْمَنِ طَهَ ... فَأَكْرِمْ بِالنَّبِيِّ لَنا حَبِيْباً ¬
خاتمة في ذكر فوائد متممة لهذا الباب
خَاتمَة في ذِكْرِ فَوَائد مُتَمَّمَة لِهَذَا البَاب روى الفريابي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه: إنه ليأتي على الرجل أحانين وما في جلده موضع إبرة من النفاق، وإنه ليأتي عليه أحانين وما في جلده موضع إبرة من إيمان (¬1). وعن خالد بن معدان رحمه الله تعالى قال: إياكم والخطرات؛ فإن الرجل قد تنافق يده دون سائر جسده (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: إنكم لتتكلمون كلامًا كنا نعده على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النفاق (¬3). وروى الطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" عنه قال: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصير بها منافقاً، وإني ¬
لأسمعها من أحدكم في اليوم في المجلس عشر مرات (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن أبي الزناد قال: خرجت مع مولاي وأنا غلام فسمعتُ حذيفة - رضي الله عنه - وهو يقول: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصير منافقاً، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات، لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، ولتَحاضُّنَّ على الخير، أو ليُسْحِتَنَّكم الله بعذاب جميعاً، أو ليؤمرن عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم (¬2). وروى الفريابي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: المؤمن في الدنيا بين كافر يقتله ومنافق يبغضه، ومؤمن يحسده، وشيطان قد وكل به (¬3). روى ابن لال في "مكارم الأخلاق" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُؤْمِنُ بَيْنَ خَمْسِ شَدائِدَ: مُؤْمِنٍ يَحْسُدُهُ، وَمُنافِقٍ يُبْغِضُهُ، وَكافِرٍ يَقْتُلُهُ، وَنَفْسٍ تُنازِعُهُ، وَشَيْطانٍ يُضِلُّهُ" (¬4). ¬
وروى الفريابي، وأبو نعيم عن خيثمة قال: والله ما أَحَبَّ مؤمناً منافقٌ قط (¬1). وروى أبو نعيم عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: لا يصطلح المؤمن والمنافق حتى يصطلح الذئب والحمل (¬2). وهو بالحاء المهملة: ولد الضأن. وروى ابن جرير عن الحسن رحمه الله تعالى: أنه تلا هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [المائدة: 105]، فقال: الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله (¬3). ومعناه: أن كراهية المؤمن لعمل المنافق تكفيه. ومحل هذا فيما إذا لم يمكنه أمره بالمعروف ولا نهيه عن المنكر مخافة الضرر؛ إذ علم الله أنه لا يقبل قوله. ¬
كما روى عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، والطبراني، وغيرهم عن الحسن: أن ابن مسعود - رضي الله عنه - سأله رجل عن قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]، فقال: أيها الناس! إنه ليس بزمانها؛ فإنها اليوم مقبولة، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف، فيصنع بكم كذا وكذا، أوقال: فلا يقبل منكم، فحينئذ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (105)} [المائدة: 105] (¬1). وفيه دليل على سقوط الأمر والنهي عمن علم أنه لا ينفع أو لا يقبل منه. وهو أحد قولين للعلماء، وعليه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وغيرُه. والثاني: أنه لا يسقط بخلاف ما لو خاف الضرر، وهو الراجح في مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه (¬2). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي عن بريدة رضي الله ¬
تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقُولُوا لِلْمُنافِقِ: سَيَّدُنا؛ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُنْ سَيَّدَكُمْ فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه، وأبو عمرو الداني في "الفتن" عن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَسُودَ كُلَّ قَبِيلَةٍ مُنافِقُوها" (¬2). وروى الداني عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: إن من أشراط [الساعة] أن توضع الأخيار، وترفع الأشرار، ويسود كل قبيلة منافقوها (¬3). وعن الحسن قال: كان يقال: يوشك أن يسود كل قبيلة منافقوها (¬4). وروى ابن السني عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتِي عَلى الزَّمانِ زَمانٌ يَسْتَخْفِي الْمُؤْمِنُ فِيهِمْ كَما يَسْتَخْفِي الْمُنافِقُ فِيْكُمُ الْيَوْمَ" (¬1). وروى ابن المبارك عن محمد بن حمزة بن عبد الله بن سلام مرسلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَصْلَتان لا تَكُونانِ"، والترمذي -وقال: غريب- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَصْلَتانِ لا تَجْتَمِعانِ فِي مُنافِقٍ: حُسْنُ سَمْتٍ وَلا فِقْهٌ فِي الدِّينِ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن ابن عمرو، وعن عقبة بن عامر، والطبراني، وابن عدي عن عصمة بن مالك رضي الله تعالى عنهم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَكْثَرُ مُنافِقِي أُمَّتِي قُرَّاؤُها" (¬3)؛ أي: الذين يقرؤون القرآن والعلم، ولا يكون لهم فقه ولا حسن سمت، أو الذين لا يعملون بما يقرؤون. وهذا الحديث من أخوف الأحاديث على القراء والعلماء، وكم من منافق عليم اللسان حسن الصوت بالقرآن. ¬
وروى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِلْمُنافِقِ ثَلاثُ عَلاماتٍ: مَعَ الْعُلَماءِ بِالاسْمِ، وَمَعَ الزُّهَّادِ بِالْفَضائِلِ، وَمَعَ الأَغْنِياءِ بِالتكلُّفِ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْغِناءُ يُنْبِتُ النِّفاقَ فِي الْقَلْبِ كَما يُنْبِتُ الْماءُ الْبَقْلَ" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْغِناءُ يُنْبِتُ النِّفاقَ فِي الْقَلْبِ كَما يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ" (¬3). قال بعض الصوفية: المراد بالغناء: ضد الفقر. وفيه نظر؛ لأن الغناء بالمد (¬4). ¬
لكن ذكر في "الإحياء" أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "حُبُّ الْمالِ وَالشَّرَفِ يُنْبِتانِ النِّفاقَ فِي الْقَلْبِ كَما يُنْبِتُ الْماءُ الْبَقْلَ" (¬1). وروى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْغِناءُ وَاللَّهْوُ يُنْبِتانِ النِّفاقَ فِي الْقَلْبِ كَما يُنْبِتُ الْماءُ الْعُشْبَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الْقُرْآنَ وَالذِّكْرَ لَيُنْبِتانِ الإِيْمانَ فِي الْقَلْبِ كَما يُنْبِتُ الْماءُ الْعُشْبَ" (¬2). عن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى قال: ليس على وجه الأرض أحد إلا وفيه فقر وحرص، ولكن من أخلاق المؤمنين أن يكونوا حُرَّاصاً على طلب الجنة، فقراء إلى ربهم، والمنافق حريص على الدنيا، فقير إلى الخلق (¬3). قلت: ومن ثم قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، ولم يقل: لما تنزل لأنه لا يناله إلا ما قسم له سابقاً، ولا يحدث له ما ليس في السابقة، وما كان سؤاله إلا إظهاراً ¬
للعبودية والافتقار إلى ما منَّ الله تعالى، لا إلى ما منَّ الناس. وقد قال ذلك وهو محتاج إلى رغيف أو ما يسد جوعته كما في الأثر: يتضرع المؤمن عند الحاجة افتقاراً إلى الله تعالى، وأما المنافق فتلجئه حاجته إلى التضرع إلى الناس، والافتقار إليهم وإلى ما في أيديهم، ولذلك كان رضاهم بحصول الدنيا، وسخطهم لمنعها. والمؤمن حاله في الغنى الشكر، وفي الفقر الصبر، يرجع إلى آخِية الإيمان. روى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقات الصوفية" عن حاتم الأصم رحمه الله تعالى قال: المنافق ما أخذ من الدنيا يأخذ بحرص، ويمنع بشك، وينفق بالرياء، والمؤمن يأخذ بالخوف، ويمسك بالسنة، وينفق لله تعالى خالصاً (¬1). وعن أبي العباس بن مسروق رحمه الله تعالى قال: المؤمن يقوى بذكر الله، والمنافق يقوى بالأكل (¬2). قلت: ويدل لذلك قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. أمر بذكر الله تعالى لأنه يقوي القلب، وإذا قوي القلب قوي الجسد. ¬
وروى ابن عساكر عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما حَلَفَ بِالطَّلاقِ مُؤْمِنٌ، وَلا اسْتَحْلَفَ بِهِ إِلاَّ مُنافِقٌ" (¬1). والمراد: أن المؤمن الكامل الإيمان لا يحلف بالطلاق، ولا استحلفه إلا منافق. ويقع في هذا الزمان كثيراً أن الرجل يحلف لآخر بكل يمين مغلظة مؤكدة فلا يصدقه حتى يحلف له بالطلاق، وكأن الوجه فيه أن المستحلف بالطلاق حيث لم يثق بالحلف بالله تعالى لم يطمئن قلبه بذكر الله تعالى، والطمأنينة بذكر الله تعالى من أخلاق المؤمنين كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28]: إذا حلف لهم بالله صدقوا، كما رواه أبو الشيخ عن السدي رحمه الله تعالى (¬2). وروى الشيخ جمال الدين بن عبد الهادي في كتاب "رائق الأخبار" عن عبد الله بن منازل رحمه الله تعالى قال: المؤمن يطلب عذر إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن شميط بن عجلان رحمه الله ¬
تعالى قال: إن هذه الدراهم والدنانير أَزِمَّةُ المنافقين، يقادون بها إلى السوءات (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن وهب بن منبه قال: من خصال المنافق: يحب المبرة، ويبغض الذم (¬2). قلت: ووجهه أن العبد يتحقق من نفسه أنه مخلوق من تراب ومن ماء مَهين، ثم هو موصوف بالضعف ومخلوق منه، وهو متحقق بالنقص والفاقة، والخطأ، والمرض والموت، فهو أحرى بالذم لا يستوجب مدحاً إلا إن وفقه الله تعالى إلى الإيمان والعمل الصالح حتى يموت على ذلك، والخاتمة مجهولة. فإن قلت: فما تصنع بقوله - صلى الله عليه وسلم -. "إِذا مُدِحَ الْمُؤْمِنُ فِي وَجْهِهِ رَبا الإِيْمانُ فِي قَلْبِهِ". رواه الطبراني في "الكبير"، والحاكم وصححه، عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما (¬3)؟ قلت: وجه: "رَبا الإِيْمانُ فِي قَلْبِهِ" أنه يرى إطلاق الألسنة عليه بالمدح دليلاً على حسن الخاتمة من قبيل التفاؤل؛ إذ المؤمنون ¬
شهداء الله في الأرض. فإن فرح بالمدح من هذه الحيثية لم يكن فرحه من أدلة النفاق، إلا أنه متى مدح بشيء وهو يعلم من نفسه أنه متصف بضده، وكلامُ وَهْبٍ محمولٌ على غير الفرح بالحيثية المذكورة. وعلامة زيادة إيمانه بالمدح أنه إذا مدح زادت صفته عند نفسه، وانكساره وافتقاره، فإن عظمت بالمدح نفسه، ونسي به عيبها ونقصها، وتمرد، فقد صار فرحه إلى النفاق. وروى الإمام أحمد، والترمذي -وأصله في "الصحيحين"- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ؛ لا تَزالُ الرِّيحُ تفِيئُهُ، وَلا يَزالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ بَلاءٌ، وَمَثَلُ الْمُنافِقِ كَمَثَلَ شَجَرَةِ الأَرُزِّ؛ لا تَهْتَزُّ حَتَّى تُسْتَحْصَدَ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: يعرف الناس ما كانوا في عافية، فإذا نزل البلاء صاروا إلى حقائق أعمالهم؛ يرجع المؤمن إلى إيمانه، ويرجع المنافق إلى نفاقه (¬2). وروى الإمام ابن أبي الدنيا في "المرض والكفارات" عن قيس بن ¬
أبي حازم رضي الله تعالى عنه قال: طلَّق خالد بن الوليد امرأته، ثم أحسن عليها الثناء، فقيل له: يا أبا سليمان! لأي شيء طلقتها؟ قال: ما طلقتها لأمر رابني منها، ولكن لم يصبها عندي بلاء (¬1). يعني: والمؤمن لا يخلو من البلاء. وروى أحمد عن أبي رزين العقيلي رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله! كيف يحيى الله الموتى؟ قال: "أَمَرَرْتَ بِأَرْضٍ مِنْ أرْضِكَ مُجْدِبةً، ثُمَّ مَرَرْتَ بِها مُخْصِبةً؟ " قال: نعم. قال: "كَذَلِكَ النُّشُورُ". قال: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: "أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِمَّا سِواهُما، وَأَنْ تُحْرَقَ بِالنَّارِ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تُشْرِكَ بِاللهِ، وَأَنْ تُحِبَّ غَيْرَ ذِي نَسَبٍ لا تُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ؟ فَإِذا كُنْتَ كَذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ حُبُّ الإِيْمانِ فِي قَلْبِكَ كَما دَخَلَ حُبُّ الْماءِ لِلظَّمْآنِ فِي الْيَوْمِ الْقائِظِ". قال: قلت: يا رسول الله! كيف لي بأن أعلم أني مؤمن؟ قال: "ما مِنْ أُمَّتِي -أو: مِنْ هَذهِ الأُمَّةِ- عَبْدٌ يَعْمَلُ حَسَنةً فَيَعْلَمُ ¬
أَنَّها حَسَنةٌ وَأَنَّ اللهَ جازِيهِ بِها خَيْراً، وَلا يَعْمَلُ سَيِّئةً، وَيَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْها وَيَعْلَمُ أَنْ لا يَغْفِرَ إِلاَّ هُوَ، إِلاَّ وَهُوَ مُؤْمِنٌ" (¬1). وروى البيهقي في "شعب الإيمان" عن السَّائب بن ملكان من أهل الشام -وكان قد أدرك الصحابة رضي الله عنهم- قال: لما دخل عمر- رضي الله تعالى عنه- الشام حَمِدَ الله تعالى، وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأمر بتقوى الله، وصلة الرحم، وصلاح ذات البين، وقال: عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، وإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد. لا يخلون رجل بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما. ومن ساءته سيئته وسرته حسنته فهو المؤمن. وأمارة النفاق: الذي تسوؤه سيئته ولا تسره حسنته، إن عمل خيراً لم يَرْجُ من الله ثواباً، وإن عمل شراً لم يخف من الله في ذلك الشر عقوبة. وأجمِلوا في طلب الدنيا؛ فإن الله قد تكفل بأرزاقكم، وكل سيتم له عمله الذي كان عاملاً. استعينوا بالله على أعمالكم؛ فإنه يمحو ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب. ¬
وصلى الله على نبينا وآله وعليه السلام ورحمة الله، السلام عليكم. قال البيهقي: هذه خطبة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على أهل الشام، أَثَرها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ونقل حجة الإسلام في "الإحياء" في رياضة النفس عن حاتم الأصم رحمه الله تعالى أنه قال: المؤمن مشغول بالفكر، والمنافق مشغول بالحرص والأمل. والمؤمن آيس من كل أحد إلا من الله، والمنافق راجٍ كلَّ أحد إلا الله. والمؤمن آمن كل أحد إلا من الله، والمنافق خائف من كل أحد إلا من الله. والمؤمن يقدم ماله دون دينه، والمنافق يقدم دينه دون ماله. والمؤمن يحسن ويبكي، والمنافق يسيء ويضحك. والمؤمن يحب الوحدة والخلوة، والمنافق يحب الخلطة والملأ. والمؤمن يزرع ويخشى الفساد، والمنافق يقلع ويرجو الحصاد. والمؤمن يأمر وينهى للسياسة فيصلح، والمنافق يأمر وينهى للرياسة فيفسد (¬2). ¬
وروى الإمام في "الزهد" عن طلحة بن مُصرِّف رحمه الله تعالى أنه قيل له: من الذي يسمن في الخصب والجدب؟ ومن الذي يهزل في الخصب والجدب؟ وما الذي هو أحلى من العسل ولا ينقطع؟ قال: أما الذي يسمن في الخصب والجدب فالمؤمن؛ إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر. وأما الذي يهزل فالفاجر؛ يعني: المنافق؛ إذا أعطي لم يشكر، وإن ابتُلي لم يصبر. وأما الذي هو أحلى من العسل ولا ينقطع فهي أُلفة الله التي ألَّف بين عباده (¬1). وروى البخاري في "التاريخ"، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آيَةُ ما بَيْنَنا وَبَيْنَ الْمُنافِقِينَ أَنَّهُم لا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ ماءِ زَمْزَمَ" (¬2). وروى الأزرقي عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التَّضَلُّعُ مِنْ ماءِ زَمْزَمَ بَراءَةٌ مِنَ النِّفاقِ" (¬3). وذكر أبو الليث السمرقندي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَمْسٌ لا تَكُونُ فِي الْمُنافِقِ: الْعِفَّةُ فِي الدِّينِ، وَالْوَرَعُ فِي اللِّسانِ، وَالسَّمْتُ فِي الْوَجْهِ، ¬
وَالنُّورُ فِي الْقَلْبِ، وَالْمَوَدَّةُ للمُسْلِمِينَ" وروى الخطيب عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: المؤمن يحاسب نفسه ويعلم أن له موقفاً بين يدي الله تعالى، والمنافق يَغْفَل عن نفسه؛ فرحم الله تعالى عبداً نظر لنفسه قبل نزول ملك الموت به (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: ما صَدَّقَ عبد بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف هذا الحائط لم يصدق بها حتى يتجهَّم عليها (¬2). قلت: قد يستدل لذلك بقوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى: 18]. وروى ابن أبي شيبة عن الحسن قال: إن المؤمنين عجلوا الخوف في الدنيا فآمنهم الله يوم القيامة، وإن المنافقين أخروا الخوف في الدنيا فأخافهم الله يوم القيامة (¬3). وفي الحديث: "يَقُولُ اللهُ تَعالَى: لا أَجْمَعُ عَلى عَبْدِيَ خَوْفَيْنِ، وَلا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ؛ فَمَنْ خافَنِي فِي الدُّنْيا أَمَّنْتُهُ يَومَ الْقِيامَةِ، وَمَنْ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيا أَخَفْتُهُ يَومَ الْقِيامَةِ" (¬4). ¬
والمراد: أن لا يخاف الله اغتراراً، أو جرأة عليه، أو عدم تصديق بوعوده، أو شكاً في قدرته سبحانه وتعالى، وهذا حال المنافقين، بخلاف ما لو كان الحامل له على ترك الخوف حسن ظنه بربه، ولا يصح هذا إلا مع الأعمال الصالحة، والأقوال السديدة، والأخلاق الجميلة. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن الضحاك رحمه الله تعالى قال: لا يضحك في الصلاة إلا منافق (¬1). وروى الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُؤْمِنُ كَالثَّوْبِ الأَبْيَضِ؛ يُصِيْبُهُ الْقَطْرَةُ مِنَ الدَّرَنِ فَتَسْتَبِيْنُ فِيهِ، وَالْمُنافِقُ كَالثَّوْبِ الدَّنِسِ فَلا تَسْتَبِينُ فِيهِ" (¬2). وتقدم قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود (¬3). وهو استعارة لصفاء قلب المؤمن وخلوه من أمراض القلب، ولِدَرَنِ قلب المنافق وامتلائه من الأمراض؛ عافانا الله تعالى منها. وروى الفريابي عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم ثلاثة: منافق يقرأ القرآن لا يخطئ فيه واواً ولا ألفاً، يجادل الناس أنه أعلم منهم ليضلهم عن الهدى، وزلة عالم، وأئمة مضلون (¬4). ¬
وتقدم في الحديث الصحيح تمثيل المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأَتْرُجة، والذي لا يقرأ القرآن بالتمر، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن بالريحانة، والذي لا يقرأ القرآن بالحنظلة (¬1). وأنشد في "التذكرة الحمدونية" لابن الرومي: [من البسيط] كُلُّ الْخِلالِ الَّتِي فِيكُمْ مَحاسِنُكُمْ ... تَشابَهَتْ فِيكُمُ الأَخْلاقُ وَالْخُلُقُ كَأَنَّكُمْ شَجَرُ الأُتْرُنْجِ طابَ مَعاً ... حِملاً وَنُوراً وَطابَ الْعُودُ وَالْوَرَقُ (¬2) وقلت في عقد الحديث المتقدم: [من البسيط] إِنَّ الْمُنافِقَ كَالرَّيْحانِ إِنْ قَرَأَ الْـ ... ـقُرْآنَ أَوْ لا فَمِثْلُ الْحَنْظَلِ الْكَرِهِ وَالتَّمْرُ أَوْ شَجَرُ الأُتْرُنْجِ طابَ ... كَما رَوَيْنا مِثالَ الْمُؤْمِنِ النَّزِهِ وروى الطبراني في "الأوسط" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الْمُنافِقُ لا يَحْفَظُ سُورَةَ هُودٍ، وَبَراءة، وَيس، وَالدُّخانِ، وَعَمَّ يَتَساءَلُونَ" (¬3). لا يحفظها متدبراً لها حافظاً لحدودها، فربما وجد في حفاظ القرآن من جمع كثيراً من خصال المنافقين، اللهم إلا أن يقال: إن من حفظ تلك السور فلا يتركهن أن يختم له بالإيمان. ¬
وروى الديلمي عن عبد الله بن جراد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُنافِقُ لا يُصَلِّي الضُّحَى وَلا يَقْرَأُ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نِيَّةُ الْمُؤْمِنُ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَعَمَلُ الْمُنافِقِ خَيْرٌ مِنْ نِيَّتِهِ، وَكُلٌّ يَعْمَلُ عَلى نِيَّتِهِ، فَإِذا عَمِلَ الْمُؤْمِنُ عَمَلاً نارَ فِي قَلْبِهِ نُوراً" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن الحسن رحمه الله تعالى قال: المؤمن يبلغ بنيته وتضعف قوته، والمنافق تضعف نيته وتبلغ قوته (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه: أنه قال -وكان في غزوة-: هؤلاء المشركون -يعني: العدو- وهؤلاء المؤمنون، وهؤلاء المنافقون، فيؤيد الله المؤمنين بقوة المنافقين، وينصر الله المنافقين بدعوة المؤمنين (¬4). وهذا يؤيده قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ". ¬
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذا الدّينَ بِأَقْوامٍ لا خَلاقَ لَهُم". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذا الدِّينَ بِأَقْوامٍ ما هُمْ مِنْ أَهْلِهِ". رواها الطبراني في "الكبير". وأصل الأول في "الصحيح". وروى الثالث الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه" (¬1). وروى الدينوري في "المجالسة" عن عثمان بن يزيد بن حوشب قال: بعث إلي المنصور بن جعفر قال: حدِّثني بوصية الحجاج بن يوسف فقلت: اعفني يا أمير المؤمنين. قال: حدثني بها. فقلت: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف: أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك، عليها يحيا وعليها يموت وعليها يبعث، وأوصى بتسعمئة درع حديد؛ ستمئة منها لمنافقي أهل العراق يغزون بها، وثلاثمئة للترك. قال: فرفع أبو جعفر رأسه إلى أبي العباس الطوسي فقال: هذه والله الشيعة، لا شيعتكم (¬2). قلت: وفي وصيته لمنافقي أهل العراق جرأة عظيمة لأن الوصية دليل الميل. ¬
ومثل هذه الوصية لا تصح لأن النفاق معصية، ولأن النفاق أمر قلبي، ولا يسع أحد الاعتراف به، ولا يكاد المنافقون يعرفون بالتوسم، ولو عرفوا لم يعترفوا، وكأن الحجاج تأول ما في الحديث من تأييد الدين بالرجل الفاجر، ورأى أن تأييد دولة الوليد من تأييد الدين، ولذلك قال أبو جعفر: هذه والله الشيعة. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن طارق بن عبد الرحمن قال: وقع الطاعون بالشام، فاستغرقها، فقال الناس: ما هذا إلا الطوفان، ألا إنه ليس ماء، فبلغ معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه، فقام خطيباً، فقال: إنه قد بلغني ما تقولون، إنما هذه رحمة من ربكم عز وجل، ودعوة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، وكفت الصالحين قبلكم، ولكن خافوا ما هو أشد من ذلك؛ أن يغدو الرجل منكم لا يدري أمؤمن هو أم منافق، وخافوا إمارة الصبيان (¬1). وروى الفريابي عن معاوية الهذلي -وكان من الصحابة رضي الله تعالى عنهم- قال: إن المنافق ليصلي فيكذبه الله عز وجل، ويصوم فيكذبه الله، ويتصدق فيكذبه الله، ويجاهد فيكذبه الله، ويقاتل فيُقْتَلَ، فيجعل في النار (¬2). وفيه إشارة إلى أن القتل في الجهاد لا يكفر النفاق لأن المنافق ¬
لا يقاتل في سبيل الله تعالى، بل يقاتل حمية، أو لطلب الدنيا. روى الفريابي، وأبو نعيم عن مالك بن دينار قال: قرأت في التوراة: بكبرياء المنافق يحترق المسكين. وقرأت في الزبور: انتقم من المنافق بالمنافق، ثم انتقم من المنافقين جميعاً. قال: ونظير ذلك في كتاب الله: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] (¬1). قلت: وفي معناه ما رواه الطبراني في "الأوسط" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ تَعالَى يَقُولُ: أَنْتَقِمُ مِمَّنْ أُبْغِضُ بِمَنْ أُبْغِضُ، ثُمَّ أُصَيِّرُ كُلاًّ إِلَى النَّارِ" (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط" أيضا عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عَلِيُّ! مَعَكَ يَومَ القِيامَةِ عَصاً مِنْ عِصِيِّ الْجَنَّةِ تَذُودُ بِها الْمُنافِقِينَ عَنْ حَوْضِي" (¬3). ¬
قلت: لعل النكتة في ذلك أن المنافقين لا يكادون يؤمنون بالحوض ولا بالبعث كما قال الحسن في كلامه المتقدم، وإن المنافق لو كانت النار خلف هذا الحائط لم يصدق بها حتى يقتحم عليها. ومن الشواهد لحديث أبي سعيد ما رواه الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة، وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالِبٍ صاحِبُ حَوْضِيَ يَومَ القِيامَةِ" (¬1). وروى أبو نعيم عن أبي قلابة رحمه الله تعالى قال: ينادي منادٍ يوم القيامة من قبل العرش: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، قال: فلا يبقى أحد إلا رفع رأسه. فيقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63]، فلا يبقى منافق إلا نكس [رأسه] (¬2). قلت: وهذا خزي عظيم للمنافق، وذَوده عن الحوض خزي آخر، بل المنافق يخزى من حين موته على النفاق، أو تخرج روحه قبيحة الهيئة، منتنة الرائحة، ثم تجري الفتنة عليه في القبر، فلا يثبته الله تعالى بالقول الثابت، بخلاف المؤمن، بل ما بعد القبر أشد عليه من القبر وما قبله. ¬
روى الحارث بن أبي أسامة، وأبو نعيم عن جابر - رضي الله عنه -: أنهم غزوا غزوة بين مكة والمدينة، فهاجت ريح شديدة دفنت الرجال، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هَذا لِمَوْتِ مُنافِقٍ". قال: فقدمنا المدينة، فرأينا منافقاً عظيم النفاق مات يومئذ (¬1). وروى الشيخان، وأبو داود، والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ العَبْدَ إِذا وُضعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحابُهُ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعالِهِمْ، يَأْتِيهِ مَلَكانِ فَيُقْعِدانِهِ، فَيَقُولانِ لَهُ: ما كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذا الرَّجُلِ -يَعْنِي النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَداً مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَراهُما جَمِيعاً. وَأَمَّا الْمُنافِقُ وَالْكافِرُ فَيُقالُ لَهُ: ما كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ ما يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ويُضْرَبُ بِمَطارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُها مَنْ يَلِيهِ إِلاَّ الثَّقَلانِ" (¬2). وروى الإمام أحمد، وابن أبي الدنيا، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
يقول: "إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِها، فَإِذا دَخَلَ الْمُؤْمِنُ قَبْرَهُ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحابُهُ، جاءَهُ مَلَكٌ شَدِيدُ الانْتِهارِ فَيَقُولُ: ما كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: أَقُولُ: إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَعَبْدُهُ، فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ الَّذِي كانَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَنْجاكَ اللهُ مِنْهُ وَأَبْدَلَكَ بِمَقْعَدِكَ الَّذِي تَرى مِنَ النَّارِ مَقْعَدَكَ الَّذِي تَرى مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَراهُما كِلَيْهِما، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: دَعُونِي أُبَشِّرْ أَهْلِي، فَيُقالُ: اسْكُنْ. قالَ: وَأَمَّا الْمُنافِقُ فَيُقْعَدُ إِذا تَوَلَّى عَنْهُ أَهْلُهُ، فَيُقالُ لَهُ: ما كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي، أقولُ ما يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقالُ لَهُ: لا دَرَيْتَ، هَذا مَقْعَدُكَ الَّذِي كانَ لَكَ مِنَ الْجَنَّةِ، قَدْ أَبْدَلَكَ مَكانَهُ مَقْعَدَكَ مِنَ النَّارِ". قال جابر: فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ فِي القَبْرِ عَلى ما ماتَ عَلَيْهِ؛ الْمُؤْمِنُ عَلى إِيْمانِهِ، وَالْمُنافِقُ عَلى نِفاقِهِ" (¬1). وروى اللالكائي في "السنة" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا قُبِرَ أَحَدُكُمْ أَتاهُ مَلَكانِ أَزْرَقانِ أَسْوَدانِ يُقالُ لأَحَدِهِما: مُنْكَرٌ، وَالآخَرِ: نَكِيْرٌ، فَيَقُولانِ لَهُ: ما كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذا الرَّجُلِ؟ فَهُوَ قائِلٌ ما كانَ يَقُولُهُ؛ فَإِنْ كانَ مُؤْمِناً قالَ: هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولانِ: ¬
قَدْ كُنَّا -وفي لفظٍ: إِنَّا كُنَّا- نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذا، فَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعينَ ذِراعاً، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِيَ فَأُخْبِرَهُمْ؟ -مَرَّتَيْنِ- فَيَقُولانِ -وفي لفظٍ: فَيُقالُ-: نَمْ كَنَوْمَةِ العَرُوسِ الَّذِي لا يُوْقِظُهُ إِلاَّ أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ. وَإِنْ كانَ مُنافِقَاً قالَ: لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئاً -زاد في لفظ: فَكُنْتُ أَقُولُهُ- فَيَقُولانِ: إِنَّا كُنَّا نَعْلَمُ -وفي لفظٍ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ- تَقُولُ هَذا، فَيُقالُ لِلأَرْضِ: الْتَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، وَتَخْتَلِفُ عَلَيْهِ أَضْلاعُهُ، فَلا يَزالُ مُعَذَّباً حَتَّى يَبْعَثَهُ اللهُ تَعالَى مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، والحاكم وصححاه، عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] أنزلت هذه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في سفر، فقال: "أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمِ ذَلِكَ؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذَلِكَ يَومَ يَقُولُ اللهُ تَعالَى لآدَمَ عَلَيهِ السَّلامُ: ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. قالَ: يا رَبِّ! وَما بَعْثُ النَّارِ؟ قالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِئَةٍ وَتسْعَةٌ وَتِسْعونَ إِلَى النَّارِ، وَواحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ". ¬
فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قارِبُوا وَسَدِّدُوا؛ فَإِنَّها لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلاَّ كانَ بَيْنَ يَدَيْها جاهِلِيَّةٌ، فَتُؤْخَذُ الْعِدةُ مِنَ الْجاهِلِيَّةِ، فَإِنْ تَمَّتْ وَإِلاَّ كَمُلَتْ مِنَ الْمُنافِقِينَ، وَما مَثَلَكُمْ وَالأُمَمَ إِلاَّ كَمَثَلِ الرَّقْمَةِ فِي ذِراعِ الدَّابَّةِ، أَوْ كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ". ثم قال: "وَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، فكبَّروا. ثم قال: "أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، فكبَّروا. ثم قال: "وَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، فكبَّروا. قال: ولا أدري ذكر الثلثين، أم لا (¬1). وفي هذا الحديث إشارة إلى أن أكثر أهل الجاهلية أكثر الناس؛ إذ منهم يأجوج ومأجوج، ومن لم تبلغه الدعوة، ثم الذين بلغتهم الدعوة، فمن لم يؤمن بقي على جاهليته، ومن آمن منهم إما أن يدخل الإيمان في قلبه أو لا، ومن لم يدخل الإيمان في قلوبهم أكثر ممن لم يدخل قلوبهم، فالمنافقون أكثر المسلمين، والمؤمنون حقيقةً أقلهم، يظهر بذلك أن أكثر الناس أهل الجاهلية، ثم أكثر الناس بعدهم المنافقون. قال الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]. ¬
وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]. وتنكير الفريق للتقليل باتفاق المفسرين. وروى الحاكم في "تاريخه" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيَأْتِيَنَّ عَلى النَّاسِ زَمانٌ لَوْ وَقَعَ حَجَرٌ مِنَ السَّماءِ إِلَى الأَرْضِ ما وَقَعَ إِلاَّ عَلى امْرَأَةٍ فاجِرَةٍ، أَوْ رَجُلِ مُنافِقٍ" (¬1). وروى الفريابي عن ابن شودب قال: قيل للحسن: يا أبا سعيد! اليوم نفاق؟ قال: لو خرجوا من أزقة البصرة لاستوحشتم فيها (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن أبي البختري رحمه الله تعالى قال: قال رجل: اللهم أهلك المنافقين. قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: لو هلكوا ما انتصفتم من عدوكم (¬3). ¬
وروى الفريابي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: المنافقون الذين فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل: وكيف ذاك؟ قال: إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإن هؤلاء يعلنون (¬1). وللمتنبي: [من الوافر] إِذا ما النَّاسُ جَرَّبَهُمْ لَبِيبُ ... فَإِنِّي قَدْ أَكَلْتُهُمْ وَذاقا فَلَمْ أَرَ وِدَّهُمْ إِلاَّ خِداعاً ... وَلَمْ أَرَ دِيْنَهُمْ إِلاَّ نِفاقاً (¬2) وقلت: [من الرجز] وَقائِلٍ ما لَكَ مِنْ رِفاقِ ... أَنْتَ وِإيَّاهُمْ عَلى وِفاقِ فَقُلْتُ دَعْنِي مُفردَ الرَّواقِ ... لا أَصْحَبُ النَّاسَ سِوى فَواقِ فَالْعِلْمُ أَضْحى كاسِدَ الأَسْواقِ ... وَسُوقُ أَهْلِ الْجَهْلِ فِي النِّفاقِ ما راجَ فِي النَّاسِ سِوى النِّفاقِ ... كَالْكِذْبِ وَالرِّياءِ فِي النِّفاقِ والنفاق آخر البيت -بالكسر-: جمع نفقة متحركاً؛ يقال: نفِقت -بالكسر- نفاق القوم؛ أي: نفدت نفقاتهم. قال الدينوري: وأنشد أبو بكر بن أبي الدنيا لإبراهيم بن العباس: [من مجزوء الكامل المرفل] ¬
تنبيه
خَلِّ النِّفاقَ وَأَهْلَهُ ... وَعَلَيْكَ فَانتُهِجِ الطَّرِيقا وَارْغَبْ بِنَفْسِكَ أَنْ تَرى ... إِلاَّ عَدُوًّا أَوْ صَدِيقاً (¬1) وقال منصور الفقيه: [من مجزوء الكامل المرفل] الصِّدْقُ أَوْلَى ما بِهِ ... دانَ امْرُؤٌ فَاجْعَلْهُ دِينا وَدعِ النِّفاقَ فَما رَأَيْ ... ـتُ مُنافِقاً إِلاَّ مَهِيناً (¬2) * تَنْبِيهٌ: ليس دخول الإنسان فيما يباح له من التمتعات الدنيوية من النفاق في شيء ما دام يرجع إلى الله عز وجل في أوقات الطاعة، ولكن مهما أمكن الإنسان أن يصرف مباحاته إلى الطاعات بالنية، وتأخر عن ذلك، كان تأخره قصوراً ولو كان في مقام الأبرار لأن حسنات الأبرار سيئات عند المقربين (¬3)؛ أي: يرى الوقوف في مقام البر عن الترقي فيه بالنية وتكثير المنويات، أو عن الترقي إلى أفضل منه سيئة، كما يروى: كل يوم لا أزداد فيه هدى فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم (¬4). والسيئة قد تجر إلى أسوأ منها؛ فإن غفل العبد عن نفسه، وطالت به الغفلة يوشك أن تفضي به الغفلة -والعياذ بالله- إلى النفاق. ¬
ومن ثم خاف حنظلة وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن يكون دخولهم في المباحات نفاقاً لأنهم كانوا يحملون أنفسهم على الاحتياط والعزائم لتوغلهم في محبة الله تعالى، وإقبالهم على طاعته وطاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحملهم على الرخصة تلطفاً بهم ورفقاً، ويقول: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَما يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزائِمُهُ" (¬1). روى مسلم عن حنظلة بن الربيع الأسيدي قال: لقيني أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة. فقال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكِّرنا الجنة والنار كأنَّا رأيَ عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافَسْنا الأزواج، والأولاد، والضيعات؛ نسينا كثيراً. قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: إنَّا لنَلْقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر رضي الله تعالى عنه حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَما ذاكَ؟ " قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا الجنة والنار كأنا رأي ¬
عينٍ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج، والأولاد، والضيعات؛ نسينا كثيراً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَالِّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ تَدُومونَ عَلى ما تَكُونُونَ عِنْدِيَ وَفِي الذِّكْرِ لَصافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ عَلى فُرُشِكُمْ وَطُرُقِكُمْ، لَكِنْ يا حَنْظَلَةُ ساعةً وَساعةً"؛ ثلاث مرات (¬1). والمعافسة: المعالجة. وفي رواية عن حنظلة رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوعظنا، فذكر النار، قال: ثم جئت البيت فضاحكت الصبيان، ولاعبت المرأة، قال: فخرجت، فلقيت أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فذكرت له ذلك، فقال: وأنا فعلت مثلما تذكر، فلقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله! نافق حنظلة. فقال: "مَهْ؟ " فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: وأنا قد فعلت مثل ما فعل. فقال: "يا حَنْظَلَةُ! ساعَةً وَساعَةً، لَوْ كانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَما تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ" (¬2). ¬
وروى أبو يعلى -ورواته ثقات- عن أنس - رضي الله عنه - قال: غدا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! هلكنا ورب الكعبة. قال: "وَما ذاكَ؟ " قالوا: النفاق، النفاق. قال: "ألسْتُمْ تَشْهَدُونَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ " قالوا: بلى. قال: "لَيْسَ ذاكَ النِّفاقَ". ثم عادوا الثانية؛ قالوا: يا رسول الله! فذكر مثله سواء. ثم عادوا الثالثة: فقالوا يا رسول الله! هلكنا ورب الكعبة. قال: "وَما ذاكَ؟ " قالوا: إنا إذا كنا عندك كنا على حالة، فإذا خرجنا من عندك همتنا الدنيا وأهلونا. قال: "لَوْ أَنَّكُمْ إِذا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدِيَ تَكُونونَ عَلى الْحالَةِ الَّتِي تَكُونُونَ عَلَيْها لَصافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ بِطُرُقِ الْمَدِينَةِ" (¬1). والله الموفق. *** ¬
النوع الثالث من القسم الثاني من الكتاب في النهي عن التشبه بالفسقة
النَّوْعُ الثَّالِث مِن القِسْمِ الثَّاني مِن الكِتَابِ في النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بالفَسَقَةِ الفاسق: إما أن يكون فسقه في اعتقاده، ويقال له: مبتدع. وإما أن يكون في غير اعتقاده. وكيف ما كان لا ينبغي للعدل أن يتشبه به، فتعين الكلام في هذا النوع في مقامين. وأول من فسق الفسق بنوعيه إبليس؛ فإنه امتنع عن السجود المأمور به، وقاس برأيه في مقابلة النص. قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]. فالفسَّاق أولياء الشيطان، وفي الآية تنفير عن الفسق بليغ، وتحذير عن التشبه بالفاسقين. ***
المقام الأول في النهي عن التشبه بالمبتدعة
المَقَامُ الأوَّلُ في النَّهي عَنِ التَّشَبُّهِ بِالمُبتَدعَة قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]؛ أي: أنت بريء منهم. قيل: هم أهل الكتاب. وقيل: المشركون بعضهم يعبد الملائكة، وبعضهم يعبد الأصنام. وقيل: هم أهل البدع. وهذا هو الأقرب؛ لأن براءة النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى وسائر المشركين كانت معلومة محققة قبل نزول الآية، وإنما المراد أن الذين فرقوا دينهم من أمتك لست منهم في شيء وإن كانوا ينسبون إلى اتباعك والاقتداء بك. روى الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]؛ قال: هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالأَهْواءِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ" (¬1). ¬
وأخرج في "الصغير" بإسناد جيد، عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159]: هُمْ أَصْحابُ الْبِدَعِ وَأَصْحابُ الأَهْواءِ، لَيْسَ لَهُمْ تَوْبةٌ، أنا مِنْهُمْ بَرِيْءٌ وَهُمْ مِنِّي بُرآءُ" (¬1). وقال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]. روى ابن جرير عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله تعالى عنه وعن آبائه أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات؛ فإنهم الذين يخوضون في آيات الله (¬2). قال ابن العربي: وهذا يدل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل. نقله القرطبي (¬3). ونقل عن ابن خواز مِنداد أنه قال: من خاض في آيات الله تُركت مجالسته وهجر -مؤمنا كان، أو كافراً-. قال: ولذلك منع أصحابنا -يعني: المالكية- الدخول [إلى] أرض العدو، ودخول الكنائس، والبِيَع، ومجالسة الكفار، وأهل البدع، وأن لا تُعتقد مودتهم، ولا يسمع كلامهم، ولا مناظرتهم. ¬
وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي رحمه الله تعالى: اسمع مني كلمة، فأعرض عنه وقال: ولا نصف كلمة. ومثله عن أيوب السختياني رحمه الله تعالى. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله من رجل أنه يبغض صاحب بدعة رجوت أن يغفر له. وروى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ وَقَّرَ صاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ أَعانَ عَلى هَدْمِ الإِسْلامِ" (¬1). قال القرطبي: فبطل بهذا كله قول من زعم أن مجالستهم جائزة، انتهى (¬2). وإذا كان هذا قول العلماء في مجالسة أهل البدع، وسماع مناظرتهم، فما ظنك بالتشبه بهم؟ ¬
وروى أبو نعيم عن أبي خالد الأحمر رحمه الله تعالى قال: كان عمرو بن قيس المُلائي رحمه الله تعالى يقول: لا تجالس صاحب زيغ فيزيغَ قلبك (¬1). وعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: من سمع ببدعة فلا يَحْكِها لجلسائه، لا يلقيها في قلوبهم (¬2). وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، والحاكم وصححه، واللالكائي عن عِرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة دمعت منها الأعين، ووَجِلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله! هذه موعظة مودع، فما تَعْهَد إلينا؟ قال: "قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلى الْبَيْضاءِ، لَيْلُها كَنَهارِها، لا يَزِيغُ عَنْها إِلاَّ هالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافاً كَثِيراً؛ فَعَلَيْكُمْ بِما عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْها بِالنَّواجِذِ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ كانَ عَبْداً حَبَشِيًّا، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ حَيْثُ قِيدَ انْقادَ" (¬3). رواه أبو داود، والترمذي، وصححه بلفظ آخر (¬4). ¬
وروى مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَمَّا بَعْدُ: فَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ كِتابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ" (¬1). وروى أبو نعيم عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَهْلُ الْبِدَعِ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ" (¬2). وروى ابن ماجه عن حذيفة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَقْبَلُ اللهُ لِصاحِبِ بِدْعَةٍ صَلاةً، وَلا صَوْماً، وَلا صَدَقَةً، وَلا حَجًّا، وَلا عُمْرَةً، وَلا صَرْفاً وَلا عَدْلاً؛ يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلامِ كَما تَخْرُجُ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ" (¬3). ومن ثم قال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله تعالى: من عمل بلا اتباع سنة فباطل عمله. رواه القشيري في "رسالته" (¬4). وقال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: إياكم وما يحدث الناس من البدع؛ فإن الدين لا يَذْهب من القلوب بِمَرَّة، ولكن الشيطان ¬
يحدث له بدعاً حتى يخرج الإيمان من قلبه، ويوشك أن يدع الناس ما ألزمهم الله من فرضه في الصلاة والصيام، والحلال والحرام، ويتكلمون في ربهم عز وجل، فمن أدرك ذلك الزمان فليهرب. قيل: يا أبا عبد الرحمن! فإلى أين؟ قال: إلى لا أين؛ يهرب بقلبه ودينه، لا تجالس أحداً من أهل البدع (¬1). وقال الحسن رحمه الله تعالى: أهل الأهواء بمنزلة اليهود والنصارى (¬2). وقال: لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم (¬3). وقال أبو الجوزاء رحمه الله تعالى: لأن يجاورني قردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني أحد من أصحاب الأهواء (¬4). قال أبو قلابة رحمه الله تعالى: لا تجالسوهم ولا تخالطوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلَبِّسوا عليكم كثيراً مما تعرفون (¬5). ¬
بيَّن أبو قلابة أن النهي عن مجالستهم سببه أن مجالستهم قد تفضي إلى التشبه بهم في بدعتهم وضلالتهم. وقال أيوب السختياني: قال لي أبو قلابة: يا أيوب! احفظ عني أربعاً: لا تقولن في القرآن برأيك، وإياك والقدرَ، وإذا ذُكر أصحابُ محمد - صلى الله عليه وسلم - فأمسك، ولا تمكِّن أصحاب الأهواء من سمعك (¬1). وقال قتادة رحمه الله تعالى: إن الرجل إذا ابتدع بدعة في طريق فخذ في غيره (¬2). وقال إسماعيل الطوسي: قال لي ابن المبارك رحمه الله تعالى: يكون مجلسك مع المساكين، وإياك أن تجالس صاحب بدعة (¬3). وقال الفضيل رحمه الله تعالى: من أتاه رجل يشاوره فَدَلَّه على مبتدع فقد غَشَّ الإسلام، واحذروا من الدخول على أصحاب البدع؛ فإنهم يصدون عن الحق (¬4). وقال رحمه الله تعالى: لا تجلس مع صاحب بدعة؛ فإني أخاف ¬
أن تنزل عليك اللعنة (¬1). وقال: صاحب البدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه، فمن جلس إلى صاحب بدعة وَرَّثه الله العمى (¬2). روى هذه الآثار اللالكائي في "السنة"، وغيره. وقال أحمد بن عبد الله بن يونس: سمعت مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه يقول: لو أن رجلاً ارتكب الكبائر كلها ما خلا الشركَ بالله تعالى لرجوت أن يجعله الله تعالى في الفردوس الأعلى إذا سلَّمه الله تعالى من الأهواء والبدع (¬3). وقال حميد الطويل رحمه الله تعالى: دخلنا على أبي العالية الرباحي -ونحن شببة- فقال: أرى عليكم من الإسلام سيما خير إن لم تكونوا حرورية، ومن أصحاب الأهواء (¬4). وقال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: مَنْ برَّأه الله عز وجل من هذه الأهواء، ومن هذا السلطان فما أحسنَ حالَه (¬5). ¬
وقال أحمد بن أبي يونس: سمعت رجلاً يقول لسفيان -يعني: الثوري-: يا أبا عبد الله! أوصني. قال: إياك والأهواءَ، إياك والخصومةَ، إياك والسلطانَ (¬1). وقال يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى: إذا رأيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق غيره (¬2). وقال إبراهيم الخواص رحمه الله تعالى: العافية أربعة أشياء: دين بلا بدعة، وعمل بلا آفة، وقلب بلا شغل، ونفس بلا شهوة. روى هذه الآثار الشيخ نصر المقدسي في كتاب "الحجة". روى أبو نعيم عن سفيان الثوري قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يتاب منها (¬3). وعنه قال: من أصغى سمعَه إلى صاحب بدعة فقد خرج من عصمة الله تعالى (¬4). وروى ابن أبي حاتم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] [عن سفيان بن عيينة] قال: كل صاحب ¬
بدعة ذليل (¬1). وروى أبو الشيخ عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذِلَّة تغشاه. قالوا: أين هي؟ قال: أو ما سمعتم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 152]؟ قالوا: يا أبا محمد! هذه لأصحاب العجل خاصة؟ قال: اقرأ ما بعدها {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]، فهي لكل مفترٍ ومبتدع إلى يوم القيامة (¬2). وروى البيهقي في "شعب الإيمان" عنه قال: لا تجد مبتدعاً إلا وجدته ذليلاً، ألم تسمع إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} [الأعراف: 152] الآية (¬3)؟ وأنشد ابن قتيبة في كتاب "تأويل مختلف الحديث" لعبد الله بن مصعب: [من المتقارب] ¬
تَرى الْمَرْءَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَقُولاَ ... وَأَسْلَمُ لِلْمَرْءِ أَنْ لا يَقُولا فَأَمْسِكْ عَلَيْكَ فُضولَ الْكَلامِ ... فَإِنَّ لِكُلِّ كَلامٍ فُضُولاً وَلا تَصْحَبَنَّ أَخا بِدْعَةٍ ... وَلا تْسَمَعَنَّ لَهُ الدَّهْرَ قِيلا فَإِنَّ مَقالَتَهُمْ كَالظِّلا ... لِ تُوْشِكُ أَفْياؤُها أَنْ تَزُولا وَقَدْ أَحْكَمَ اللهُ آياتِهِ ... وَكانَ الرَّسُولُ عَلَيْها دَلِيلا وَأَوْضَحَ لِلْمُسْلِمِينَ السَّبِيلَ ... فَلا تَتْبَعَنَّ سِواها سَبِيلا أُناسٌ لَهُمْ رِيْبَةٌ فِي الصُّدُورِ ... وَيُخْفُونَ فِي الْجَوْفِ مِنْها غَلِيلا إِذا أَحْدَثُوا بِدْعَةً فِي الْقُرَانِ ... تَعادَوا عَلَيْها فَكانُوا عُدُولا فَخَلِّهِمُ وَالَّذِي يُحْدِثُونَ ... وَوَلِّهِمُ مِنْكَ صَمْتاً جَمِيلا (¬1) واعلم أن البدع كثيرة لأنها سبل الشيطان، وقد تقدم أنها متعددة، وطريق السنة واحد كما وقعت الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. وقد تقدم الكلام على الآية، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر السبل بطرق الشيطان، وبين أنها متعددة، وأن سبيل الحق واحد، وهو الصراط المستقيم، وهو طريق أهل السنة والجماعة، فمن انحرف عن طريقهم في الاعتقاد فهو مبتدع، أو متشبه بأهل البدعة والضلالة. ¬
والمراد بطريق أهل السنة والجماعة ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام، وهو ما عليه السواد الأعظم من المسلمين في كل زمان، وهم الجماعة، والطائفة الظاهرون على الحق، والفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة. روى أصحاب السنن -وصححه الترمذي- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصارَى عَلى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقةً؛ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ واحِدَةٌ". قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "ما أَنا عَلَيْهِ وَأَصْحابِي" (¬1). وروي هذا الحديث من طرق أخرى: - منها: رواية عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، وقال فيها: "كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةٌ واحِدَةٌ". قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "ما أَنا عَلَيْهِ وَأَصْحابِي". حسنه الترمذي (¬2). ¬
- ومنها: رواية معاوية رضي الله تعالى عنه قال فيها: "اثْنَتانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَواحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَماعَةُ". رواه أبو داود، وغيره (¬1). - ومنها: رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال فيها: "كُلُّها فِي النَّارِ إِلاَّ واحِدَةٌ". فقيل: وما هذه الواحدة؟ فقبض على يده، وقال: "الْجَماعَةُ؛ فَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا". رواه [ابن جرير، وابن أبي حاتم]. وقوله في الآية والحديث: {وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] يعني: في أحوال الديانات والاعتقاد كما روي عن ابن مسعود، وغيره (¬2). وقيل: المعنى: ولا تفرقوا متبعين للهوى والأغراض المختلفة. وعليهما: فليس في الآية نهي عن الاختلاف في الفروع والأحكام، إذ المنهي عنه إنما هو اختلاف يؤدي إلى إفساد وتقاطع، وليس ذلك إلا في الاختلاف في العقائد والأصول. ¬
وأما الاختلاف في مسائل الاجتهاد فإنه سبب لاستخراج الحقوق والفرائض، وظهور دقائق الشريعة، ولم تزل الصحابة والعلماء بعدهم مختلفين في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متواصلون (¬1). وفي الحديث: "اخْتِلافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ" كما نقله خلائق من العلماء؛ منهم الشيخ نصر المقدسي، والحليمي، والبيهقي، وإمام الحرمين (¬2). ¬
ومن هذا القبيل اختلاف الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم، وكلُّهم على هدى من ربهم ورحمة، وهم مثابون مأجورون، لهم أجورهم ومثل أجور متبعيهم. ومنه أيضاً اختلاف العلماء في العلوم الشرعية، وما يحتاج إليه فيها، حيث إن منهم من مال إلى الحديث، ومنهم من مال إلى التفسير، ومنهم من مال إلى الفقه، ومنهم من مال إلى العربية. وكذلك اختلاف الصوفية رضي الله تعالى عنهم في رياضات النفوس وتربية المريدين؛ كل واحد سلك هو ومريدوه طريقة، فمنهم من طريق المجاهدات، ومنهم من طريقة المعاملات. وقد قال الشيخ نجم الدين الكبري رحمه الله تعالى: الطرق إلى الله عدد أنفاس الخلائق؛ أي: من حيث السلوك لا من حيث الاعتقاد؛ فإن عقائد أولياء الله تعالى متواردة على عقيدة واحدة، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة. وكذلك اختلاف أهل الصنائع والحِرف في صنائعهم وحرفهم؛ كل ذلك داخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اخْتِلافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ". وأما اختلافهم في الأصول فإنه عذاب كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْجَماعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذابٌ". رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند"، والقضاعي عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما (¬1). *** ¬
فَصَلٌ حيث علمت أن المبتدعة اثنتان وسبعون فرقة خالفوا أهل السنة والجماعة في الاعتقادات، فينبغي أن نشير لك إليهم؛ إذ لا يمكننا الإحاطة بمذاهبهم، فلا أقل من الإشارة إلى تعيينهم بالألقاب، وإلى أصول مذاهبهم الخبيثة وذكر أئمتهم لتكون حَذوراً من التشبه بهم في شيء مما هم عليه؛ فإن من تشبه بفرقة منهم حُشر مع تلك الفرقة تحت لواء إمامها كما قال الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71]. فالصادق المصدوق المفضل على سائر الأنبياء عليهم السلام، المقدم على جميع أهل الاقتداء، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي المصطفى المختار - صلى الله عليه وسلم - هو إمام الفرقة الناجية يحشرون تحت لوائه، وَيرِدون حوضَه - صلى الله عليه وسلم -، وغيرهم من الفرق تحت لواء معبد الجهني، أو جهم بن صفوان، أو بشر بن بسر، أو غيرهم من رؤوس الضلالة وأئمة البدعة؛ فانظر أنت تحت أي لواء تريد تكون يوم القيامة، فاعمل بعمل أهله. روى أبو يعلى بإسناد جيد، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ فِي أُمَّتِي نَيِّفاً وَسَبْعِينَ داعِياً،
كُلُّهُمْ داعٍ إِلَى النَّارِ" (¬1). اعلم أن أصول الفرق ستة: - القدرية. - والجبرية. - والمشبهة. - والمرجئة. - والخوارج. - والشيعة. فأما القدرية: فهم الذين يقولون: لا قدر، والأمر أنف، والعبد خالق لأفعال نفسه، ونفَوا صفات الله جميعاً، وأوجبوا تأويل أحاديث الصفات وآياتها. وقالوا: يجب على الله تعالى مراعاة مصلحة العبد، وأنكروا رؤية الله بالأبصار يوم القيامة، وقالوا بخلود المؤمن إذا فعل كبيرة في النار ما لم يتب، وأوجبوا شكر المنعم بالعقل قبل ورود الشرع، وسموا أنفسهم: أهل التوحيد، وأهل العدل، وسماهم الناس معتزلة، وقدرية لأنهم نفوا القدر. ¬
روى الإمام أحمد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا قَدَرَ؛ إِنْ مَرِضُوا فَلا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ ماتُوا فَلا تَشْهَدُوهُمْ" (¬1). ورواه أبو داود، والحاكم وصححه، ولفظهما: "الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ"، وذكر الحديث (¬2). وروى اللالكائي عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى قال: ذُكرت القدرية عند عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: إذا كان يوم القيامة جمع الناس في صعيد واحد، فينادي مناد يسمعه الأولون والآخرون: أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية (¬3). وروى الخطيب في "تالي التلخيص" عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُنادِي مُنادٍ يَوْمَ القِيامَةِ: لِيَقُمْ خُصَماءُ اللهِ، وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ" (¬4). وفي "صحيح مسلم": أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما تبرأ من معبد الجهني وأصحابه القائلين بأن الأمر أنف، وأنه لا قدر، وقال: ¬
والذي يحلف عليه عبد الله بن عمر! لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه، ما قَبِلَ اللهُ منه حتى يؤمن بالقدر (¬1). روى اللالكائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما هَلَكَتْ أُمَّةٌ قَطُّ إِلاَّ بِالشِّرْكِ بِاللهِ، وَما أَشْرَكَتْ أُمَّةٌ حَتَّى يَكُونَ بَدْءُ شِرْكِها التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ" (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمْ يَكُنْ شِرْكٌ مُنْذُ هَبَطَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ السَّماءِ إِلَى الأَرْضِ إِلاَّ كانَ بَدْؤُهُ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ، وَما أَشْرَكَتْ أُمَّةٌ إِلاَّ بِتَكْذِيبٍ بِالْقَدَرِ" (¬3). وروى الإمام أحمد، واللالكائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر فقال: دلوني عليه -وهو يومئذ أعمى- فقالوا له: ما تصنع به؟ ¬
فقال: والذي نفسي بيده! لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن دققت رقبته بيدي لأدقنها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَأَنِّي بِنِساءِ بَنِي فِهْرٍ يَطُفْنَ بالْخَزْرجِ تَصْطَكُّ أَلْياتُهُنَّ مُشْرِكاتٍ، وَهَذا أَوَّلُ شِرْكٍ فِي الإِسْلامِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَنْتَهِي بِهِمْ سُوءُ رَأْيِهِمْ حَتَّى يُخْرِجُوا اللهَ مِنْ أَنْ يُقَدِّرَ الْخَيْرَ كَما أَخْرَجُوهُ مِنْ أَنْ يُقَدِّرَ الشَّرَّ" (¬1). قلت: هذا الحديث يدل على أن أول ما قيل في إنكار القدر أنه قيل: إن الخير بقدر الله دون الشر، ثم قيل: إنهما ليسا بقدر الله تعالى. وروى البخاري في "التاريخ"، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، واللالكائي عن ابن عباس، وابنُ ماجه، وابن أبي عاصم في "السنة" عن جابر، وابن عباس، والخطيبُ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صِنْفانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُما فِي الإِسْلامِ نَصِيبٌ: الْمُرْجِئَةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ" (¬2). ¬
وروى ابن عدي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صِنْفانِ مِنْ أُمَّتِي لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْقَدَرِيِّةُ، وَالْمُرْجِئَةُ" (¬1). وروى أبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صِنْفانِ مِنْ أُمَّتِي لا تَنالُهُمْ شَفاعَتِي يَومَ الْقِيامَةِ: الْمُرْجِئَةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ" (¬2). وروى اللالكائي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمهم الله تعالى، عن أبيه، عن جده -مرسلاً- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صِنْفانِ مِنْ أُمَّتِي لا يَرِدانِ عَلَيَّ الْحَوْضَ: الْقَدَرِّيةُ، وَالْمُرْجِئَةُ" (¬3). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً؛ ¬
منهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وروى الدارقطني في "العلل" عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لُعِنَتِ الْقَدَرِيَّةُ عَلى لِسانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا" (¬2). وروى البزار، والطبراني في "الكبير" -بإسنادين أحدهما صحيح- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلاَّ يَجْعَلُ بَعْدَهُ فَتْرةً، وَمَلأَ مِنْ تِلْكَ الْفَتْرَةِ جَهَنَّمَ". زاد البزار: "وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ" (¬3). وروى أبو نعيم عن مالك رحمه الله تعالى: أنه سئل عن تزويج القدرية فقرأ: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] (¬4). ¬
وعنه أنه قال: رأيي فيهم أن يستتابوا؛ فإن تابوا وإلا قتلوا؛ يعني: القدرية (¬1). وعن مسعر رحمه الله تعالى أنه قال: التكذيب بالقدر أبو جاد الزندقة (¬2)؛ يعني: أولها. وفي معناه: ما روى الطبراني عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: ما كانت زندقة إلا بين يديها التكذيب بالقدر (¬3). وروى الإمام أحمد، واللالكائي بسند جيد، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مَسْخٌ" (¬4). زاد اللالكائي: "وَخَسْفٌ، أَلا وَذاكَ فِي الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ وَالزَّنْدَقَةِ" (¬5). ¬
وروى الإمام أحمد بسند صحيح، عن نافع رحمه الله تعالى قال: بينما نحن عند ابن عمر - رضي الله عنهما - قعوداً إذ جاءه رجل فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام -لرجل من أهل الشام، فقال ابن عمر: إنه بلغني أنه أحدث حدثاً، فإن كان كذلك فلا تقرأنَّ عليه مني السلام؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سَيَكُونُ مَسْخٌ وَقَذْفٌ، وَهُوَ فِي أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ" (¬1). وفي "صحيح مسلم" عن يحيى بن يعمر رحمه الله تعالى قال: أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني (¬2). وقال الحسن رحمه الله تعالى: لا تجالسوا معبد الجهني؛ فإنه ضال مضل (¬3). وقال طاوس: احذروا معبد الجهني؛ فإنه قدري (¬4). وقال: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان - رضي الله عنهما - حتى نشأ هاهنا حقير يقال له: سنسويه البقال؛ قال: وكان أول من تكلم في القدر (¬5). ¬
وقال يونس بن عبيد رحمه الله تعالى: أدركت البصرة وما بها قدري إلا سنسويه، ومعبد الجهني، وآخر ملعون في بني عرافة (¬1). وقال الأوزاعي: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن، وكان نصرانياً فأسلم، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد (¬2). وقال حوشب رحمه الله تعالى لعمرو بن عبيد: ما هذا الذي أحدثت؟ قد نَبَتْ قلوبُ إخوانِك عنك (¬3). روى هذه الآثار اللالكائي. وروى أبو نعيم عن الأوزاعي قال: قال حسان بن عطية رحمه الله تعالى لغيلان القدري: أما والله لو (¬4) كنت أعطيت لساناً لم نعطه، إنا لنعرف باطل ما تأتي به. وفي رواية: يا غيلان! إن يكن لساني يَكِلُّ عن جوابك فإن قلبي ينكر ما تقول. قال الأوزاعي: وكان غيلان رجلاً مُفَوَّهاً (¬5). ¬
وكان ممن تكلم في القدر: واصل بن عطاء، وثور بن يزيد، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم. ثم كثرت القدرية، وانقسموا إلى فئتين: - فمنهم من قال: إن الله تعالى لم يقدر الشر والمعاصي، بل قالوا: الخير مخلوق لله، والشر مخلوق للشيطان، ويقال لهؤلاء: ثنوية، وهم أقدم الفرقتين. وروى اللالكائي عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي قَومٌ يَكْفرُونَ بِاللهِ وَالْقُرْآنِ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ". قال: قلت: ماذا يقولون يا رسول الله؟ قال: "يَقُولُونَ: الْخَيْرُ مِنَ اللهِ، وَالشَّرُّ مِنْ إِبْلِيسَ"، وذكر الحديث (¬1). وقال بعض هؤلاء: إن الأعمال كلها مقدرة إلا الكفر. ومنهم من قال: الأعمال كلها غير مقدرة مطلقاً، وهم الأكثرون. وروى اللالكائي عن الأوزاعي رحمه الله تعالى قال: بلغني أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ذكر عنده قولهم في القدر فقال: ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يُخْرِجوا اللهَ من أن يكون قدَّرَ خيراً كما ¬
أخرجوه من أن يكون قدَّرَ شراً (¬1). * تَنْبِيهٌ: سبق في الحديث أن القدرية مجوس هذه الأمة، والمراد: الفرقة الأولى منهم. وأما الثانية فهم شر من المجوس. روى اللالكائي عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: كنت حاضراً عند عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فجاء رجل فقال: يا أبا عباس! أخبرني من القدرية؛ فإن الناس اختلفوا عندنا بالمشرق؟ فقال ابن عباس: القدرية قوم يكونون في آخر الزمان، دينهم الكلام، يقولون: إن الله تعالى لم يقدر المعاصي على خلقه، وهو معذبهم على ما قدَّرَ عليهم؛ فأولئك هم القدرية، وأولئك هم مجوس هذه الأمة، وأولئك ملعونون على لسان النبيين أجمعين، فلا تقاولوهم فيفتنوكم، ولا تجالسوهم، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشهدوا جنائزهم، أولئك اتِّباعُ الدجال أشهى إليهم من الماء البارد. فقال الرجل: يا أبا عباس! لا تَجِدْ عليَّ؛ فإني سائل مُبتلى بهم. قال: قل. قال: كيف صار في هذه الأمة مجوس وهذه أمة مرحومة؟ قال: أُخبرك لعل الله ينفعك. ¬
قال: افعل. قال: إن المجوس زعمت أن الله لم يخلق شيئاً من الهوام والقذر، ولم يخلق شيئاً يضر، وإنما يخلق النافع وكل شيء حسن، وإنما القذر هو الشر كله، والشر كله خَلْقُ إبليس وفعلُه. وقالت القدرية: إن الله لم يخلق الشر ولم يبتل به، قال: وإبليس رأس الشر كله، وهو مُقِرٌّ بأن الله خالقه. قالت القدرية: إن الله أراد من العباد أمراً لم يكن، وأخرجوه عن عز ملكه وقدرته، وأراد إبليس من العباد أمراً، وكان إبليس عند القدرية أقوى وأعز؛ أولئك القدرية -وكذبوا أعداء الله-. إن الله يبتلي ويعذب على ما ابتلى وهو غير ظالم، لا يسأل عما يفعل، وَيمُنُّ ويثيب على منِّه إيَّاهم، وهو فعَّال لما يريد، ولكنهم أعداء الله ظنوا به ظناً فحققوا ظنهم عند أنفسهم، وقالوا: نحن العالمون، والمثابون والمعذَّبون بأعمالنا، ليس لأحد علينا منة، وذهب عليهم المن من الله والخذلان. فقال الرجل: الحمد لله الذي منَّ بك يا أبا عباس، وفقك الله، نصرك الله، أعزك الله، أما والله لقد كنت من أشدهم قولاً أدين الله به، ولقد استبان لي قولُ الضياء، فأنا أُشهد اللهَ وأشهدكم أني تائب إلى الله، وراجع عما كنت أقوله، وقد أيقنت أن الخير من الله، وأن المعاصي خذلانه، يبتلي به من شاء من عباده، ولا مقدر إلا الله، ولا هادي ولا مضل غيره.
القدرية
قال عكرمة: فما زال الرجل عندنا باكياً حتى خرج غازياً في البحر، فاستُشهد رحمه الله تعالى (¬1). واعلم أن الفرقتين من القدرية عدلوا الله تعالى بخلقه، وسبق تسميتهم زنادقة، ولعل هذا وجه تسميتهم به. وروى ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في الزنادقة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]. قال: قالوا: إن الله لم يخلق الظلمة، ولا الخنافس، ولا العقارب، ولا شيئاً قبيحاً، وإنما خلق النور وكل شيء حسن، فنزلت فيهم هذه الآية (¬2). ثم القدرية فرق: أحدها: الواصلية: أصحاب واصل بن عطاء الغزَّال أبي حذيفة، ولم يكن غزَّالاً، ولكنه كان يلزم الغزَّالين ليعرف المنقطعات من النساء، فيجعل صدقته لهنَّ كما ذكره أبو العباس المبرد في "كامله". وكان طويل العنق بحيث يُعَيَّر به، وكان يلثغ في الراء فيجعلها غيناً، وكان يتحرز منها حتى ضرب بتجنبه منها المثل كما قال الصاحب بن عبَّاد: [من البسيط] ¬
نَعَم تَجَنَّبَ (لا) يَومَ العَطاءِ كَما ... تَجَنَّبَ ابْنُ عَطاءٍ لَثْغَةَ الرَّاءِ (¬1) وكان واصل من أصحاب الحسن البصري، فدخل رجل على الحسن رحمه الله تعالى فقال له: يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر تخرج بهم عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرحمون أصحاب الكبيرة، والكبيرة عندهم لا تضر الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا تضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ ففكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول: إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام، فاعتزل ومعه عمرو ابن عبيد إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد، يقرر ما أجاب به على جماعة. فقال الحسن: اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة (¬2). وقالوا بأنه لا قدر. وقالوا في الفريقين من أصحاب الجمل وأصحاب صفين: ¬
أحدهما مخطئ لا بعينه. وقالوا في عثمان رضي الله تعالى عنه، وقاتلته، وخاذلته: أحد الفريقين فاسق لا بعينه. وقالوا: لا نجيز شهادة طلحة، والزبير رضي الله تعالى عنهما على باقة بقل. وقالوا: يجوز أن يكون عثمان، وعلي رضي الله تعالى عنهما على الخطأ. ووافقهم عمرو بن عبيد على مذهبهم، وزاد عليهم أنه فسق [أحد] الفريقين (¬1). وروى أبو نعيم عن يونس بن عبيد: أنه عاتب ابنه في دخوله على عمرو بن عبيد، وقال له: أنهاك عن الزنا والسرقة، وشرب الخمر، ولأن تلقى الله بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو وأصحابه (¬2). وعنه قال: فتنة المعتزلة على هذه الأمة أشد من فتنة الأزارقة؛ لأنهم يزعمون أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضلوا، وأنهم لا تجوز شهادتهم لما أحدثوا، ويكذبون بالشفاعة والحوض، وينكرون عذاب القبر؛ أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم، ويجب على ¬
الفرقة الثانية: الهذيلية.
الإمام أن يستتيبهم، فإن تابوا وإلا نفاهم عن ديار المسلمين (¬1). الفرقة الثانية: الهذيلية. أصحاب أبي الهذيل العلاف القدري، كانوا ينفون الصفات، ويقولون بأن الله عالم، وعلمه ذاته، وكذلك بقية الصفات، وأثبتوا إرادة لا في محل يكون الباري بها مريداً. وقالوا: بعض كلام الباري لا في محل [وهو قوله]: كن، وبعضه في محل كالأمر، والنهي، والاستخبار. وقالوا: إن حركات أهل الخلدين تنقطع فيصيرون إلى سكون دائم. وقالوا: الحرام ليس برزق (¬2). الفرقة الثالثة: النظامية. أصحاب إبراهيم بن سَيَّار النَّظَّام القدري. ويقال لهم: القاسطية. قالوا: إن الله لا يقدر على الشر والمعصية، ولا على ما ليس فيه صلاح لعباده. وقال غيرهم من المعتزلة: يقدر، ولا يفعل ذلك. وقالوا: لا يقدر الله على زيادة أهل النعيم في نعيمهم، ولا على ¬
زيادة أهل النار في عذابهم، ولا على نقص ذلك. وقالوا: إن الله ليس مريداً على الحقيقة، فإن وصف بالإرادة فالمراد أنه خالقها، وإذا وصف بأنه مريد لأفعال عباده فالمراد أنه أمر بها. وقالوا كالفلاسفة: إن الإنسان في الحقيقة هو النفس والروح، والبدن آلتها. وقالوا كالفلاسفة أيضاً: إن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن، ولم يتقدم خلق آدم خلق أولاده، غير أن الله تعالى أكمن بعضهم في بعض. وقالوا: إن كل ما جاوز حد القدرة من الفعل فهو من فعل الله تعالي بإيجاب الخلقة؛ أي: إن الله طبع الحجر طبعاً إذا دفعته اندفع، وإذا بلغت قوة الدفع له مبلغها عاد الحجر إلى مكانه. وقالوا: إن الإجماع والقياس ليسا بحجة في الشرع، وإنما الحجة قول الإمام المعصوم. وقالوا: يجب على المفكر إذا كان عاقلاً متمكناً من النظر أن يحصل معرفة الله بالنظر والاستدلال قبل ورود السمع. وقالوا بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما يتصرف به من أفعاله. ومالوا إلى الرفض أيضاً فقالوا: لا إمامة إلا بالنص، ووقع النص على علي رضي الله تعالى عنه، إلا أن عمر رضي الله تعالى عنه كتم يوم السقيفة، ووقعوا في أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم -، ثم عابوا علياً
- منهم: الأسواري
رضي الله تعالى عنه، وكذبوا ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في روايته: "السَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمَّهِ" (¬1)، ووقعوا في الصحابة. وقالوا: من سرق أو ظلم دون نصاب الزكاة مئتي درهم لا يفسق (¬2). وذكر ابن قتيبة في كتاب "مختلف الحديث": أن النَّظَّام مع ما كان عليه من سوء العقيدة، كان شاطراً من الشطار، يغدو على مكر ويروح على مكر، ويبيت على حرام، ويدخل في الأدناس، ويركب الفواحش الشائنات. قال: وهو القائل: [من البسيط] مازِلْتُ آخُذُ رُوحَ الزقِّ فِي لُطُفٍ ... وَأَسْتَبِيحُ دَماً مِنْ غَيْرِ مَجْرُوحِ حَتَّى انْثَنَيْتُ وَلِي رُوحانِ فِي جَسَدٍ ... وَالزقُّ مُطَّرَحٌ جِسْمٌ بِلا رُوحِ (¬3) وضُلاَّل النظامية كثيرون. - منهم: الأسواري: أبو جعفر الإسكاف. وأسوار -بفتح الهمزة-: قرية من قرى أصبهان. زاد على ما تقدم من الاعتقادات: أن الله لا يقدر على ظلم العقلاء، بل على ظلم الأطفال والمجانين. ¬
- ومنهم: الفضل الحدثي، وأحمد بن خابط.
وكذلك قال جعفر بن حرب، وجعفر بن بشر، وزاد أيضاً: أن في فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس. وزعم أن إجماع الصحابة على حد شارب الخمر كان خطأ، وأن سارق الحبة الواحدة فاسق منخلع من الإيمان، وقال: إن استحقاق العقاب والخلود في النار يعرف (¬1). - ومنهم: الفضل الحدثي، وأحمد بن خابط. زادا أنهما أثبتا حكماً من أحكام الإلهية في المسيح كالنصارى، فزعما أنه هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة، وتأولوا عليه قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقالا: هو الذي يأتي في ظُلل من الغمام. وقالا -وتبعهما أحمد بن أيوب بن مانوس المعتزلي من تلامذة النَّظَّام أيضاً- بالتناسخ. قالوا: خلق الله داراً غير هذه الدار، وخلق فيها خلقاً وأمرهم بطاعات، فمن أطاعه في الكل أقره في دار النعيم، ومن عصاه في الكل أخرجه إلى دار العذاب المهين وهي النار، ومن أطاعه في البعض وعصاه في البعض أخرجه إلى دار الدنيا، وابتلاه بالخير والشر، والشدة والرخاء، والآلام واللذات على صور مختلفة من صور الناس، وسائر الحيوانات، وكلما كثرت طاعته وقلت معاصيه كانت ¬
الفرقة الرابعة: البشرية.
صورته أحسن، ثم لا يزال الحيوان يتقلب في الدنيا ما دامت معه ذنوبه وطاعاته. وقال أحمد بن مانوس: متى صارت النوبة إلى رتبة النبوة والملك، أو إلى رتبة البهيمة ارتفع التكلف. وقال الآخر: لا يرى الباري ذاهب العقل البتة، وحملوا نحو حديث: "سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَومَ القِيامَةِ كَما تَرَونَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ" على رؤية العقل الأول، فهما يقولان بالفلسفة، والتناسخ، والاغترار (¬1). الفرقة الرابعة: البِشرية. أصحاب بشر بن المعتمر المعتزلي، وهم الذين أحدثوا القول بالتولد، وزعموا أن الإدراكات كلها من الرؤية والسمع كاللون والطعم يجوز أن تكون متولدة من فعلي العبد. وقالوا: الاستطاعة سلامة البنية، وتخليتها من الآفات. وقالوا: لا يجب على الله رعاية الأصلح لأنه لا غاية لما يقدر عليه من الصلاح، وإنما يجب أن يمكن العبد بالقدرة والاستطاعة، ويزيح العلل بالدعوة والرسالة، وإذا تاب العبد من كبيرة ثم راجعها عاد إلى استحقاق العقوبة الأولى (¬2). ¬
الفرقة الخامسة: المعمرية.
الفرقة الخامسة: المعمرية. أصحاب معمر بن عباد السلمي، سموا أنفسهم أصحاب المعاني، وهم أعظم القدرية فِرية في نفي الصفات والقدر. وقالوا: إن الله -تعالى عن قولهم- لم يخلق شيئاً غير الأجسام والعرض من اختراعات الأجسام، إما طبعاً كحرق النار، أو اختياراً كالحيوان يُحدث الحركة. وقالوا: إرادة الله للشر غير الله، وغير خلقه للشيء، وغير الأمر والإخبار والحكم، فأشاروا إلى شيء مجهول. وقالوا: ليس للعبد فعل سوى الإرادة. وحقيقة الإنسان عندهم كالفلاسفة معنى آخر هو غير الجسد، وهو عالم قادر، مختار حكيم، لا متحرك ولا ساكن، ولا يرى ولا يحس، ولا يحويه مكان ولا زمان. وكانوا لا يقولون: إن الله قديم. وقيل: كانوا يقولون: محال أن يعلم الله نفسه، وأن يعلم غيره (¬1). الفرقة السادسة: المردارية. أصحاب عيسى بن صبيح الملقب بالمردار، كان يسمى: راهب المعتزلة، أخذ عن بشر بن المعتمر، ويقول في التولد، وزاد: أنه جوز وقوع فعل واحد من فاعلين على سبيل التولد. ¬
وقالوا: إن الناس قادرون على مثل القرآن، وكفَّروا من قال بقِدَم القرآن، ومن لابس السلطان، ومن قال: إن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وغلَوا في التكفير حتى كفَّروا الناس في قولهم: لا إله إلا الله. وحكي أن إبراهيم السندي سأل إمامهم عن أهل الأرض جميعاً فكفَّرهم، فقال له إبراهيم: الجنة التي عرضها كعرض السموات لا يدخلها إلا أنت وثلاثة وافقوك؟ فخزي. وقالوا: خلق القرآن في اللوح المحفوظ، وما نقرؤه حكاية عنه، وليس به. وأوجبوا معرفة الله تعالى بالعقل قبل الشرع. وقالوا بتحسين العقل وتقبيحه (¬1). روى اللالكائي عن محمد بن أبي كبشة قال: سمعت هاتفاً يهتف في البحر يقول: لا إله إلا الله، كذب المريسي على الله. قال: ثم هتف ثانية: لا إله إلا الله، على ثمامة والمريسي لعنه الله. قال: وكان معنا في المركب رجل من أصحاب المريسي، فَخَرَّ ميتاً (¬2). ¬
الفرقة السابعة: الثمامية.
الفرقة السابعة: الثمامية. أصحاب ثمامة بن أشرس التميمي المعتزلي. قالت الثمامية: المتولدات لا فاعل لها. وقالوا: الكفار، والزنادقة، والدهرية، والبهائم، والأطفال كلهم يصيرون يوم القيامة تراباً. وهم في الاستطاعة كالبشرية، والتقبيح كالمردارية (¬1). وقال ابن قتيبة -وذكر ثمامة-: ومن المحفوظ عنه المشهور: أنه رأى قوماً يتعادون إلى الجمعة إلى المسجد لخوفهم فوت الصلاة، فقال: انظروا إلى البقر، انظروا إلى الحمير. ثم قال لرجل من إخوانه: ما صنع هذا القرشي بالناس (¬2). الفرقة الثامنة: الهشامية. أصحاب هشام بن عمرو الفوطي. وقولهم في القدر أشد من سائر القدرية، ويمتنعون من إطلاق إضافات الأفعال إلى الله تعالى وإن ورد بها التنزيل. وقالوا: لا يؤلف بين قلوب المؤمنين، بل يتآلفون باختيارهم. وقالوا: لا يحبب الله الإيمان إلى المؤمنين، ولا يزينه في قلوبهم. ¬
الفرقة التاسعة: الجاحظية.
وقالوا: لا تنعقد الإمامة في زمن الفتنة والاختلاف، بل في حال السلامة والاتفاق -طعنوا بذلك على خلافة علي رضي الله تعالى عنه -. وقالوا: الجنة والنار غير مخلوقتين الآن، ثم وافقهم في ذلك سائر المعتزلة، وكانوا يعتقدون كفر من خالفهم من أهل القبلة، ويستحلون أموالهم. وكان عَبَّاد منهم يمتنع من إطلاق القول بأن الله تعالى خلق الكافر. وقال: النبوة باقية ما بقيت الدنيا، وهي جزاء على عمل (¬1). الفرقة التاسعة: الجاحظية. أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ، كان تلميذ النَّظَّام. ذكر ابن قتيبة: أن الجاحظ كان أشد المتكلمين تلطفاً لتعظيم الصغير حتى يعظم، وتصغير العظيم حتى يصغر، ويبلغ به الاقتدار على أن يعمل الشيء ونقيضه، فيحتج مرة للعثمانية على الرافضة، ومرة للزيدية على العثمانية، وربما استهزأ بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وربما احتج للنصارى على المؤمنين، فإذا صار إلى الرد عليهم تجوز في الحجة، وربما ذكر في كتبه المضحكات استمالة للأحداث والفسقة، وقد يرد على الشيء يرد به الحديث ككبد الحوت، وقرن الشيطان، وأن الحجر الأسود كان أبيض فسوَّده المشركون، ويذكر أشياء من خرافات أهل الكتاب كتنادم الديك والغراب، ودفن الهُدْهُد أمه في ¬
رأسه ونحو ذلك. قال: وهو مع هذا أكذب الأمة، أوضعه لحديث، وأنصره لباطل، انتهى ملخصاً (¬1). ومن ألطف ما اتفق ما ذكره الزمخشري في "ربيع الأبرار" عن الجاحظ أنه قال: ما أخجلتني إلا امرأة حملتني إلى صائغ فقالت: مثل هذا، فبقيت مبهوتاً، فسألت الصائغ، فقال: هي امرأة استعملتني صورة شيطان، فقلت: لا أدري كيف أصوره، فأتت بك، فقالت: مثله (¬2). وذلك أن الجاحظ كان قبيح الصورة، بشع المنظر، ناتئ العينين، ولذلك سمي الجاحظ، وقيل: [من الرجز] لَوْ مُسِخَ الْخِنْزِيرُ مَسْخاً ثانِياً ... ما كانَ إِلا دُونَ قُبْحِ الْجاحِظِ (¬3) وقال ابن خلِّكان: كان الجاحظ قد أصابه الفالج، وكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته، والنصف الأيسر لو قرض بالمقاريض لما أحس به من خَدَرِه وشدة برده، وكان يقول: اصطلحت على جسدي الأضداد؛ إن أكلت حاراً أخذ برأسي، وإن أكلت بارداً أخذ برجلي، وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها، انتهى (¬4). ¬
الفرقة العاشرة: الخياطية.
قال الجاحظ وأتباعه: إن المعارف كلها ضرورية طباعاً. وقالوا: الإرادة من الفاعل أن ينتفي السهو عنه، والإرادة المتعلقة بالعين ميل النفس إليه. وقالوا: ليس للعباد كسب سوى الإرادة، وتحصل منهم أفعالهم طباعاً. وقالوا: يوصف الباري بأنه مريد؛ أي: لا يصح عليه السهو في أفعاله، ولا الجهل. وقالوا: الخلق كلهم من العقلاء عالمون بأن الله خالقهم، ثم الجاهل منهم بالتوحيد معذور. وقالوا: إن الله لا يرى بالأبصار، ولا يريد المعاصي. وقالوا: إن أهل النار لا يخلدون في النار عذاباً، بل يصيرون إلى طبيعة النار. وقالوا: النار تجذب أهلها إليها دون أن يدخلهم الله فيها. وقالوا: القرآن جسد يجوز أن ينقلب مرة رجلاً، ومرة حيواناً. وكان الجاحظ مرة يفضل علياً، ومرة يؤخره، وغالب كلامه في كتبه يدل أنه كان مذبذباً بين الفرق، تارة يحتج لهؤلاء، وتارة لهؤلاء، وربما رد على الأحاديث واستهزأ بها (¬1). الفرقة العاشرة: الخياطية. وهم الكعبية، أصحاب أبي الحسن بن أبي عمرو الخياط المعتزلي، ¬
الفرقة الحادية عشرة: الجبائية.
وتلميذه أبي القاسم بن محمد الكعبي. قالوا: تسمية المعدوم شيئاً وجوهراً وعرضاً، وإن إرادة الله هي أنه غير مكره ولا كاره، وهي في أفعال نفسه الخلق، وفي أفعال غيره الأمر. وقالوا: معنى كونه سميعاً بَصيراً: أنه عالم بمتعلقهما. زاد الكعبي: إن فعل الرب واقع بغير إرادة ولا مشيئة منه لها، ولا يرى نفسه ولا غيره إلا بمعنى أنه يعلمه (¬1). الفرقة الحادية عشرة: الجُبَّائية. وهي البهشمية، أصحاب أبي علي محمد بن محمد بن عبد الوهاب الجُبَّائي، وابنه أبي هاشم عبد السلام. وجُبى -بضم الجيم، وتشديد الموحدة-: قرية من قرى البصرة. أخذ أبو هاشم عن أبيه، وأبوه عن رئيس المعتزلة بالبصرة أبي يوسف يعقوب بن عبد الله الشَّحَّام، وأبو علي أخذ عنه الكلام شيخ أهل السنة أبو الحسن الأشعري، ثم هداه الله فرد عليه مقالاته. ويروى أنه ناظره في ثلاثة إخوة؛ كان أحدهم مؤمناً براً تقياً، والثاني: كافراً فاسقاً، والثالث: صغيراً، فماتوا، فكيف حالهم؟ فقال أبو علي: الزاهد في الدرجات، والكافر في الدركات، والصغير من أهل السلامة. قال الشيخ أبو الحسن: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات ¬
الزاهد هل يؤذن له؟ قال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إن أخاك إنما وصل إلى الدرجات بطاعاته الكثيرة، وليس لك ذلك. قال الأشعري: فإن قال الصغير: التقصير ليس مني؛ فإني ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة؟ فقال الجبائي: يقول الباري جل وعلا: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت، وكنت مستحقاً للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك. قال الأشعري: فلو قال الكافر: يا إله العالمين! علمت حال أخي كما علمت حالي، فلم راعيت مصلحته دوني؟ فانقطع الجبائي (¬1). قالت الجبائية: إن لله إرادات حادثة لا في محل، وتعظيماً لا في محل إذا أراد تعظيم نفسه، وفناء لا في محل إذا أفنى العالم. وقالوا: إن الله متكلم بكلام يخلقه في محله، وهو أصوات وحروف. وقالوا: التكلم من فعل الكلام، لا مَنْ قام به. وقال الجبائي: يحدث الله قوله عند قراءة كل قارئ، ويحدث كلاماً لنفسه في محل القراءة. وقالوا: إن الله لا يرى بالأبصار في دار القرار، وأنكروا الشفاعة. وقالوا: العبد خالق لأفعال نفسه، مستقل بها. ¬
وقالوا: المعرفة، وشكر المنعم، ومعرفة الحسن والقبيح واجباتٌ بالعقل، وأثبتوا شريعة عقلية. وقالوا: مرتكب الكبيرة لا ولا (¬1)، وإذا لم يتب خلد في النار. وقالوا بوجوب الأصلح على الله تعالى للعبد، واللطف به، وأنكروا كرامات الأولياء. وقال أبو هاشم بإمكان استحقاق الذم والعقاب بلا معصية. وقال: لا تصح التوبة عن كبيرة مع الإصرار على غيرها عالماً بقبحها، ولا توبة مع عدم القدرة، فلا تصح توبة الزاني بعد ما جُبَّ، ولا الكاذب بعد ما خَرِس، إلى غير ذلك من قبائحه (¬2). *** وأما الجَبَرية فقال صاحب "القاموس": بالتحريك: خلاف القدرية، والتسكين لحن، وهو الصواب والتحريك للازدواج، انتهى (¬3). وهم الذين يقولون: إن العبد مجبور. وهم والمعتزلة في طرفي نقيض؛ فالمعتزلة يقولون: إن العبد يخلق أفعال نفسه، والجبرية يقولون: إن كل ما يجري من أفعال العبد فهو فعل الله تعالى، لا يثبتون للعبد كسباً. ¬
إحداها: الجهمية.
وأهل السنة وسط بين الفريقين لا تفريط ولا إفراط، ويعتقدون أن الله تعالى خالق العبد وما يعمل، ويثبتون للعبد قدرة، ويثبتون لقدرته أثراً ما في الفعل، وسموا ذلك الفعل شيئاً، ومنهم من يسميه اختياراً. وقد أخطأ المعتزلة في تسميتهم أهل السنة: مجبرة. ثم الجبرية منهم خالصة لا يثبتون للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً. ومتوسطون يثبتون للعبد قوة مؤثرة أصلاً. وقالوا كلهم: إن ما ورد من الوعيد إنما هو ترهيب؛ لأن الله تعالى لا يعذب العبد على فعل نفسه (¬1). ثم هم فرق: إحداها: الجهمية. أصحاب جهم بن صفوان، وهو أول من قال بخلق [القرآن]، أو ثانيه (¬2). كان كوفي الأصل فصيح اللسان، ولم يكن له علم، ولا جالس ¬
أهل العلم، بل كان يكلم المتكلمين، ويجالس الدهرية، حتى شك في الإسلام، ومكث أربعين يوماً لا يصلي (¬1). وقيل له: صف لنا ربك، فدخل البيت، ومكث أياماً، ثم خرج إليهم فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء، وفي كل شيء، ولا يخلو من شيء، فقتل على بدعته بأصبهان، فلما ضربت عنقه اسود وجهه (¬2). قال الإمام أبو زرعة الرازي رحمه الله تعالى: حدثت عن العلاء بن سويد قال: ذكر جهم عند عبد الله بن المبارك فقال: عجبت لشيطان إلى الناس داعياً إلى النار، واشتق اسمه من جهنم! ذكره اللالكائي (¬3). وروى أبو نعيم عن ابن المبارك رحمه الله تعالى قال: سمعت سفيان الثوري رحمه الله تعالى يقول: الجهمية كفار. فقيل لعبد الله بن المبارك: ما رأيك؟ قال: رأيي رأي سفيان (¬4). وعن علي بن الحسين بن شفيق قال: قال عبد الله بن المبارك: [من مجزوء الرمل] أَيُّها الطَّالِبُ عِلْماً ... ائْتِ حَمَّادَ بْنَ زَيْدِ ¬
فَاطْلُبِ الْعِلْمَ بِحِلْمٍ ... ثُمَّ قَيِّدْهُ بِقَيْدِ لا كَثَوْرٍ وَكَجَهْمٍ ... وَكَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ (¬1) يريد: ثور بن يزيد، وكان هو وعمرو بن عبيد قدريين. وروى الدارمي عن ابن المبارك قال: لأن أحكي كلام اليهود والنصارى أحب إلي من أن أحكي كلام الجهمية (¬2). وعن عيسى بن يونس رحمه الله تعالى قال: لا تجالسوا الجهمية، وبينوا للناس أمرهم يعرفوه فيحذرهم (¬3). وعن ابن المبارك: أنه كان يُخرج الجهميَّ من عِداد المسلمين (¬4). وعن وكيع رحمه الله تعالى: أنه كان يكفر الجهمية (¬5). قال الدارمي: وسمعت يحيى بن يحيى، وأبا توبة، وعلي بن المديني يكفرون الجهمية، ومن يدعي أن القرآن مخلوق (¬6). وروى اللالكائي عن مقاتل بن حيان قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه فقال لي: من أين أنت؟ ¬
فقلت: من أهل بلخ. فقال: كم بينك وبين النهر؟ قلت: كذا وكذا فرسخاً. قال: هل ظهر من وراء النهر رجل يقال له: جهم؟ قلت: لا. قال: سيظهر من وراء النهر رجل يقال له: جهم؛ يُهلك خلقاً من هذه الأمة، يدخلهم الله وإياه النار (¬1). قلت: مثل هذا لا يقال رأياً، فهو في مقام المرفوع. وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه: أن أول من أتى بخلق القرآن جعد ابن درهم في نيف وعشرين ومئة (¬2). وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن سعيد بن أحمد صاحب أبي إسحاق الفزاري قال: إنما خرج جهم سنة ثلاثين ومئة، فقال: القرآن مخلوق، فأكفره العلماء (¬3). قال ابن أبي حاتم: ظهر من بعدها بشر بن غياث المريسي، وكان والده صباغاً يهودياً (¬4). ¬
وروى اللالكائي عن يحيى بن يوسف الرازي: أنه رأى إبليس في المنام يقول: ما من مدينة إلا ولي فيها خليفة. قال: قلت: من خليفتك بالعراق؟ قال: بشر المريسي؛ دعا الناس إلى ما عجزت عنه، قال: القرآن مخلوق (¬1). ثم افترقت الجهمية على فرق: - فمنهم: من يجزم بخلق القرآن. - ومنهم: من وقف، وقال: لا أدري أمخلوق أم غير مخلوق؟ - ومنهم من قال بـ: لفظي مخلوق. وقال أهل السنة: القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو محفوظ في صدورنا، مقروء بألسنتنا، مكتوب في مصاحفنا. وقالت الجهمية: لا يوصف الباري بوصف خلقه فيكون حياً عالماً، بل يكون قادراً فاعلاً، وأثبتوا له علوماً لا في محل. وقالوا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وقالوا: من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه: لم يكفر. قالوا: إن الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، بل هو مجبور في أفعاله، والتكليف خير، والثواب والعقاب خير. ¬
وقالوا: حركات الخلدين تنقطع، والجنة والنار تفنيان. ووافقوا المعتزلة في نفي الصفات، وإثبات خلق الكلام، وإيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع، ونفي الرؤية (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن الأوزاعي رحمه الله تعالى قال: إني لأرجو أن يحجب الله تعالى جهماً وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعده أولياءه حين يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، فجحد جهم وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعد أولياءه (¬2). وذكر ابن الجوزي: أن من الجهمية من أنكر الرسل، وقال: إنما هم حكماء. ومنهم من أنكر عذاب القبر والشفاعة. ومنهم من قال: لا يدخل النار من عرف ربه، ومن دخلها لا يخرج منها أبداً (¬3). وروى أبو نعيم من طريق عبد الله ابن الإمام أحمد عن سليمان بن حرب قال: سمعت حماد بن زيد رحمه الله تعالى يقول -وذكر هؤلاء الجهمية- قال: إنما يجادلون أن يقولوا: ليس في السماء شيء (¬4). ¬
الفرقة الثانية من الجبرية: النجارية.
الفرقة الثانية من الجَبَرية: النَّجَّارية. أصحاب الحسين بن محمد النجار، وافقوا المعتزلة فيما وافقهم فيه الجهمية. ووافقوا الجهمية في أن العبد مجبور، وفي أكثر مسائلهم. ووافقوا المريسي في قوله: إن الله لم يزل مريداً لكل ما علم أنه سيحدث من خير وشر، وإيمان وكفر خلافاً للمعتزلة في ذلك. وقالوا: إن الله مريد لنفسه كما هو عالم بنفسه، ومعنى إرادته: أنه غير مستكره ولا مغلوب. وقالوا: إن الباري بكل مكان ذاتاً ووجوداً إلا على معنى العلم والقدرة. ومنهم من يقول: إن كلام الباري تعالى إذا قرئ فهو عَرَض، وإذا كتب فهو جسم، ويقال لهؤلاء: برغوثية. ومنهم من يقول: كلام الله غيره، وكل ما هو غيره مخلوق، ثم قالوا: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، وهذا تناقض، ويقال لهؤلاء: زعفرانية. ومنهم من يقول: كلام الله غيره، وهو مخلوق، لكن أجمع السلف على أن كلام الله غير مخلوق، فوافقناهم، وقلنا: إن قولهم، غير مخلوق؛ أي: على هذا الترتيب والنظم، بل هو مخلوق على غير هذا النمط، ويقال لهؤلاء: مستدركة (¬1). ¬
الفرقة الثالثة: الضرارية، والحفصية.
الفرقة الثالثة: الضرارية، والحفصية. أصحاب [ضرار بن عمرو و] حفص الفرد. قالوا: إن الله عالم قدير على معنى أنه ليس بجاهل ولا عاجز. وقالوا: للعبد حاسة سادسة يرى بها الباري، وثواب الجنة. وقالوا: أفعال العباد خلق الله حقيقة، وجوَّزوا حصول فعل بين فاعلين. وقالوا: لا حجة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الإجماع فقط، وما نقل عنه من أخبار الآحاد لم يقبلوه. وقال ضرار: تصلح الإمامة في غير قريش حتى لو اجتمع النبطي والقرشي قدِّم النبطي لأنه أقل عدداً وأضعف وسيلة، فيمكننا خلعه متى شئنا (¬1). وروى اللالكائي عن الربيع بن سليمان قال: قال حفص الفرد: كلام الله مخلوق، فقال الشافعي رضي الله تعالى عنه له: كفرت بالله العظيم (¬2). روى أبو نعيم من طريق عبد الله ابن الإمام أحمد عن فطر بن [حماد ابن واقد قال: سألت] حماد بن زيد رحمه الله فقلت: يا أبا إسماعيل! إمام لنا يقول: القرآن مخلوق؛ أصلِّي خلفه؟ قال: لا، ولا كرامة (¬3). ¬
أخبرنا شيخنا العلامة زين الدين عمر بن محمد بن سلطان الحنفي إجازةً، عن المحدث المفنن العلامة شمس الدين محمد بن طولون الحنفي الصالحي إجازةً، قال: أنا المحدث العلامة جمال الدين يوسف ابن حسن بن عبد الهادي الحنبلي عُرف بابن المِبْرَد قال: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الهادي، عن الصلاح بن أبي عمر قال: أنبأنا أبو الحسين ابن النجار، أنا أبو حفص عمر بن طبرزذ سماعاً، أنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: قرأت على أبي بكر أحمد بن محمد بن حمدويه: أن أبا نظر بن أحمد بن محمد بن حسون أخبرهم: أن أبا الطيب عبد المنعم بن عبد الله بن غلبون المقرئ أخبرهم قال: أنا عمر ابن زيد بن خلف المصري -وكان رجلاً صالحاً- قال: حدثنا عبد الله بن محمد الشعراني قال: سمعت أبا علي بن أبي النجم يقول: بت ليلة في أيام أبي خراش وابن خلف المغافري بمصر، وكانت ليلة الجمعة، وأنا أقول: لا أدري ممن أسمع من أبي خراش، وكان يقول بخلق القرآن، أم من خلف؟ وكان يقول: الكل كلام الله غير مخلوق، فلما أويت إلى فراشي رأيت هاتفاً قد جاءني فقال لي: قم، فقمت، فقال لي: قل، قلت: وما أقول؟ قال: قل: [من مجزوء الكامل] لا وَالَّذِي رَفَعَ السَّما ... ءَ بِلا دَعائِمَ لِلنَّظَر فَتَزَيَّنَتْ بِالسَّاطِعا ... تِ اللاَّمِعاتِ وَباِلقَمَر ما قالَ خَلْقٌ بِالْقُرَ ... انِ بِرَأْيِهِ إِلا كَفَر بَلْ هُوْ كَلامٌ مُنْزَلٌ ... مِنْ عِنْدِ خَلاَّقِ البَشَر
المشبهة
فلما فرغ قال لي: اكتب، فمددت يدي إلى كتاب من كتبي وكتبته، فلما أصبحت ذكرت الرؤيا، فمددت يدي إلى طاقة إلى جانبي فوجدت خطي على كتاب من كتبي بما قال لي الهاتف، فجلست ولم أخرج إلى الطريق، فلما علا النهار خرجت إلى حوائجي، فمشيت قليلاً فإذا برجل قد قام إليَّ وسلَّم عليَّ، وقال لي: أخبرني بالرؤيا التي رأيتها البارحة، فقلت: من أخبرك؟ فقال: قد ذاعت في الناس وتحدثوا بها، فأخبرته بها (¬1). *** وأما المشبهة: فهم الذين يشبهون الله تعالى بخلقه، والله سبحانه وتعالى يقول عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وروى اللالكائي عن نعيم بن حماد رحمه الله تعالى قال: من شبَّه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وَصَفَ الله تعالى به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه (¬2). ثم المشبهة منهم حلولية: يقولون بجواز ظهور الباري تعالى في صورة شخص كما ظهر جبريل عليه السلام في صورة دحية، وحملوا على ذلك الحديث: "رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ" (¬3). ¬
إحداهما: الحشوية
ومنهم غير حلولية، ولكن يقولون: له صورة مخصوصة به (¬1). ثم من المشبهة شيعية، وسيأتي بيانهم. وغير شيعية، وهم فرقتان: إحداهما: الحشوية: كمضر وكهمس وأحمد الهجيمي، وداود الجواربي من المتقدمين، وابن الراعون، وغيره من متأخري الحنابلة، وإنما حملهم على ذلك كثرة أحاديث الصفات وآياتها الناطقة بما آمن به السلف من غير تأويل ولا تمثيل، وتأول الخلف بما لا يؤدي إلى التعطيل كالوجه، واليد، والعين، والبصر، والسمع، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء، وغير ذلك مما دلت عليه النصوص المشكلة، ونفت ذلك الجهمية كما تقدم (¬2). وقال الفضيل بن عياض، ويحيى بن معين: إذا قال الجهمي: أنا أكفر برب ينزل، فقل: أنا أومن برب يفعل ما يشاء. رواه اللالكائي (¬3). وقال يزيد بن هارون رحمه الله تعالى: إن الجهمية غلت، ففرعت في غلوها إلى أن نفت. وإن المشبهة غلت ففرعت في غلوها حتى مثَّلت. فالجهمية يستتابون، والمشبهة كذا وكذا؛ رماهم بأمر عظيم (¬4). ¬
وقال وكيع رحمه الله تعالى: وصف داود الجواربي الرب عز وجل فكفر في صفته، فرد عليه المريسي فكفر المريسي في رده عليه؛ إذ قال: هو في كل شيء (¬1). رواهما ابن أبي حاتم. ثم أجاز المشتبه على ربهم الملامسة والمصافحة، وقالوا: إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الاجتهاد والرياضة إلى حد الإخلاص والاتحاد المحض. وقالوا: معبودهم صورة ذات أعضاء وأبعاض؛ إما روحانية أو جثمانية. ومنهم من قال: من لحم ودم، وله جوارح من يد، ورجل، ورأس، ولسان، وعينين، وأذنين (¬2). وقال الجواربي: اعفوني من الفرج، واللحية، واسألوني عما وراء ذلك (¬3). وتأولوا على ذلك جميع آيات الصفات وأحاديثه، وجاؤوا بأكاذيب اقتبسوها من اليهود وغيرهم. قد قالوا: شكت عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رَمَدت عيناه، وإن العرش ليئط من تحته كأطيط الرجل الحديد، ¬
الفرقة الثانية: الكرامية.
وإنه ليفضل منه من كل جانب أربع أصابع؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. وقالوا في القرآن: إن الحروف والرقوم المكتوبة قديمة أزلية (¬1). الفرقة الثانية: الكَرَّامية. أصحاب محمد بن كَرَّام، واشتهر فيه تشديد الراء، وعليه اقتصر صاحب "القاموس"؛ قال: ومحمد بن كرام كشدَّاد: [إمام] (¬2) الكرامية القائل بأن معبوده مستقر على العرش، وأنه جوهر (¬3)؛ تعالى [الله] عن ذلك علواً كبيراً (¬4). وذكر الشيخ تاج الدين بن السبكي: أنه رأى بخط الشيخ تقي الدين بن الصلاح في بعض مجاميعه: أنه محمد بن كرام -بالتخفيف- وأن أبا الفتح السبتي أنشد: [من الكامل] إِنَّ الَّذِينَ تُحِبُّهُمْ لَمْ يَقْتَدُوا ... بِمُحَمَّدِ بْنِ كَرَامِ غَيْرُ كِرامِ الرَّأْيُ رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ وَحْدَهُ ... وَالدِّينُ دِينُ مُحَمَّدِ بْنِ كَرَامِ (¬5) ¬
وكان محمد بن كرام يتزهد ويتقشف، وكان معه جماعة من الفقراء، وكان يلبس مُسُك ضأن مدبوغاً غير مَخِيط، وعلى رأسه قَلَنْسوة بيضاء، وقد نصبت له دكان من لبن، وكان تطرح له قطعة فرو يجلس عليها يعظ ويذكر، وكان مع ذلك مجسماً مبتدعاً، قام عليه الحافظ أبو سعيد الدارمي، وطرده من هَرَاة. وقال هو وأصحابه: إن إلههم مستقر على العرش استقراراً، وهو في جهة فوق ذاتاً، وأنه أحدي الذات يماسُّ العرش من الصفحة العليا، ينتقل وينزل. ثم كان منهم طائفة غالية أطلقوا عليه لفظ الجسم، ثم اختلفوا؛ فقيل: يتناهى من الجهات الست، وقيل: من جهة تحت فقط، وقيل: لا يتتابع لأنه عظيم. وطائفة مقاربة قالوا: إن قلنا: إنه جسم، فالمراد أنه قائم بذاته، وإن قلنا: (فوق) فالمراد العلو، وقالوا في الاستواء: إنه مع نفي المجاورة، والمماسة، والتمكين بالذات (¬1). ويقال لهؤلاء: هيصمية نسبة إلى محمد بن هيصم. وفي "القاموس": إنهم منسوبون إلى موضع (¬2). وحاصل طريقتهم أنهم يتأولون قبائح ابن كرام. ¬
ومن مسائلهم ما لا يقبل التأويل؛ فإن الطائفة كلهم قالوا: يجوز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى. وقالوا: ما يحدث في ذاته إن يحدث بقدرته، وما يحدث مبايناً عن ذاته فإنما يحدث بواسطة الإحداث. ويعنون بالإحداث: الإيجاد والإعدام، وهما القول والإرادة؛ إذ زعموا أن في ذاته حوادث كثيرة كالإخبار عن الأمور الماضية والآتية، والوعد والوعيد، والأحكام. وقالوا كالمعتزلة: إن العقل يحسن ويقبح، ويوجب معرفة الله قبل الشرع. وقالوا: الإيمان الإقرار فقط دون التصديق بالقلب والعمل بالجوارح. وقالوا: النبوة والرسالة صفتان سوى الوحي، والأمر بالتبليغ، والأمر بالمعجزة، والعصمة، وصاحب هذه الصفة رسول الله، ويجب على الله إرساله لا غير، وهو حينئذ مرسل، وكل مرسل رسول الله، ولا عكس، ويجوز عزل المرسل دون الرسول، وليس من الحكمة إرسال رسول واحد، فلا يجوز الاقتصار عليه، بل لا بد من التعدد. وقالوا: يجوز نصب إمامين في عصر واحد كعلي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، إلا أن إمامة علي على وفق السنة دون معاوية، لكن تجب طاعة رعيته له.
المرجئة
وقالوا: إن الإمامة تثبت بإجماع الأمة دون النص والنصين، وصوَّبوا أمر معاوية فيما استبد به من الأحكام قتالاً على طلب قتلة عثمان رضي الله تعالى عنه، واستقلالاً بمال بيت المال. وقالوا: إيمان المنافقين كإيمان الأنبياء، والكلمتان ليستا بإيمان إلا بعد الردة. وبالجملة إنهم من أخبث الفرق قبَّحهم الله تعالى (¬1). *** وأما المرجئة: فهم الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، والإيمان عندهم الإقرار فقط، أو الإقرار والمعرفة. قال وكيع: أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة تقول: الإيمان قول بلا عمل، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة. رواه اللالكائي (¬2). وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: [ارج كل شيء] مما لا تعلم إلا الله، ولا تكن مرجئاً، واعلم أن ما أصابك من الله، ولا تكن قدرياً. وقال: لقد تركت المرجئة هذا الدين أرق من السابري (¬3). رواه أبو نعيم (¬4). ¬
وروى البخاري في "تاريخه"، والترمذي وحسنه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وابن ماجه عنه، وعن جابر رضي الله تعالى عنه، والخطيب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صِنْفانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُما فِي الإسْلامِ نَصِيبٌ: الْمُرْجِئَةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" عن واثلة وعن جابر - رضي الله عنهما -، وأبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صِنْفانِ مِنْ أُمَّتِي لا تَنالُهُمْ شَفاعَتِي: الْمُرْجِئَةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ" (¬2). قلت: الحكمة في ذلك أن القدرية ينكرون الشفاعة، والمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، فيحتاج إلى الشفاعة، فَحُرِموها لذلك. وروى الطبراني في "الأوسط" بإسناد صحيح، عن أنس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صِنْفانِ مِنْ أُمَّتِي لا يَرِدانِ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَلا يَدْخُلانِ الْجَنَّةَ: الْمُرْجِئَةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ" (¬3). ¬
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْقَدَرِّيةُ وَالْمُرْجِئَةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ" (¬1). وروى اللالكائي عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً آخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وتقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اتقوا الإرجاء؛ فإنه شعبة من النصرانية (¬3). وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: المرجئة يهود القبلة (¬4). وقال أبو جعفر محمد بن علي رحمهما الله تعالى: ما ليل بليل، ولا نهار بنهار أشبه بالمرجئة من اليهود (¬5). رواهما اللالكائي. وروى الرافعي في "تاريخ قزوين" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَهُودُ أُمَّتِي الْمُرْجِئَةُ" (¬6). ¬
إحداها: اليونسية.
وروى أبو نعيم [عن سفيان] رحمه الله تعالى قال: ليس أحد أبعد من كتاب الله من المرجئة (¬1). وروى الخطيب في "المتشابه" عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: لَفتنتهم أخوف عندي على هذه الأمة من فتنة الأزارقة (¬2)؛ يعني: المرجئة. ثم المرجئة منهم من أضاف إلى الإرجاء إنكار القدر، ومنهم من أضاف إليه الخروج عن الإمام، ومنهم من أخلص الإرجاء. ثم هم ثمان فرق: إحداها: اليونسية. أصحاب يونس الشمري، قالوا: الإيمان المعرفة بالله، والخضوع والمحبة بالقلب، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن، وما سوى المعرفة من الطاعة فلا يضر تركه (¬3). الثانية: العبدية. أصحاب عبيد بن المكيت، قالوا: ما دون الشرك مغفور لا محالة، وإن العبد إذا مات على توحيد لم يضره ما اقترف من الإثم، وعِلْمُ الله ¬
الثالثة: الغسانية
وكلامه لم يزل شيء وغيره. وقالوا: إن الله على صورة الله، فهم مرجئة مجسمة (¬1). الفرقة الثالثة: الغسَّانية. أصحاب غسان الكوفي، قالوا: الإيمان: المعرفة والإقرار بما جاء به الرسول إجمالاً، والإيمان يزيد ولا ينقص. وقالوا: من قال: أعلم أن الله حرم لحم الخنزير، ولا أدري هذا الخنزير الذي حرمه هو هذه الشاة أو غيرها، لم يكفر، ومن قال: أعلم أن الله فرض الحج إلى الكعبة، وإني لا أدري أين الكعبة، ولعلها بالهند، لم يكفر. وقالوا: من نكح أمه، أو قتل أباه، أو شرب في آنية الذهب الخمر فإنه مؤمن كامل الإيمان (¬2). الفرقة الرابعة: الثوبانية. أصحاب ثوبان المرجئ، قالوا: الإيمان المعرفة والإقرار لله ورسوله. وقالوا: ما جاز في العقل تركه ليس من الإيمان. وقالوا: لو عفا الله عن عاص في القيامة عفا عن كل مؤمن عاص ¬
الخامسة: الغيلانية
هو في مثل حاله، وإن أخرج من النار أحد أخرج من هو في مثل حاله، ولم يجزموا القول بأن المؤمنين يخرجون لا محالة من النار (¬1). الفرقة الخامسة: الغيلانية. أصحاب غيلان بن مروان الدمشقي، قالوا بمقالة الثوبانية؛ قالوا: إن المعرفة نوعان: نظرية: وهي علمه بأن للعالم صانعاً ولنفسه خالقاً، وهذه المعرفة لا تسمى إيماناً عندهم. ومكتسبة: وهي التي تسمى المحبة والخضوع والإقرار إيماناً (¬2). وقالوا: القدر [خيره وشره] (¬3) من العبد. وقالوا: الإمامة تصلح في غير قريش، وكل من كان قائلاً بالكتاب والسنة كان مستحقاً لها، ولا تثبت الإمامة إلا بإجماع الأمة، فهم: مرجئة قدرية خوارج (¬4)، ولهذا كان غيلان أضر على الأمة من إبليس كما روى ابن عدي في "الكامل"، والبيهقي في "الدلائل" عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَكُونُ فِي أُمَّتِي رَجُلٌ يُقالُ لَهُ: وَهب؛ يَهَبُ اللهُ لَهُ الْحِكْمَةُ، وَرَجُلٌ يُقالُ لَهُ: غَيْلانُ؛ هُوَ ¬
السادسة: التومنية
أَضَرُّ عَلى النَّاسِ مِنْ إِبْلِيسَ" (¬1). الفرقة السادسة: التومنية. أصحاب معاذ التومني، قالوا: الإيمان هو هذه الأمور كلها: المعرفة، والتصديق، والمحبة، والإخلاص، والإقرار؛ فمن ترك خصلة من هذه كفر، ولا يقال بواحدة من هذه الخصال إيمان، ولا بعض إيمان، ولا يقال لمن أتى بمعصية لم يجمع عليها المسلمون: إنه فاسق ولا عاص، بل يقال في الإخبار عنه: فسق وعصى. مال إلى هذا بشر المريسي أيضاً، وابن الراوندي، وقالا: إن السجود للشمس والقمر والصنم ليس كفر في نفسه، ولكنه علامة الكفر (¬2). الفرقة السابعة: الصالحية. أصحاب صالح بن عمرو، قالوا: الإيمان المعرفة بأن للعالم صانعاً فقط، ولا يزيد ولا ينقص، والكفر هو الجهل به. وقالوا: القائل: ثالث ثلاثة لا يكفر، لكن لا يظهر هذا القول إلا من كافر. ¬
الثامنة: الشمرية
وقالوا: يصح الإيمان بالله ممن لم يؤمن بالرسول. وقالوا: الصلاة ونحوها ليست عبادة، وإنما العبادة الإيمان فقط (¬1). الفرقة الثامنة: الشمرية. أصحاب شَمَّر المرجئ القدري، هم في الإيمان كاليونسية، وزادوا: لا يجب على العبد الإيمان بالرسل والأنبياء حتى تقوم عليهم حجتهم، وليس الإيمان بهم والإقرار بما جاؤوا به داخلاً في الإيمان الأصلي. وقالوا بالعدل والقدر، ولم يضيفوا من القدر إلى الباري شيئاً (¬2). وأما الخوارج: فهم كل فرقة خرجت على الإمام في كل زمان ولو كان واحداً. وروى ابن أبي شيبة، والحاكم وصححه، واللالكائي عن عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الْخَوارِجُ كِلابُ النَّارِ" (¬3). ¬
والمراد هنا الحَرُورية الذين خرجوا على علي رضي الله تعالى عنه بحروراء، وهي بجَلُولاء، -وقد تقصر- قرية بالكوفة، ومن كان على اعتقادهم من الفرق، وكلهم يتبرؤون من عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما، ويقدمون ذلك على كل طاعة، ويكفرون أصحاب الكبائر، ويقولون بخلودهم في النار، ولذلك سموا: وعيدية، ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقاً واجباً. روى اللالكائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كلام القدرية كفر، وكلام الحرورية ضلالة، وكلام الشيعة هَلَكة (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: سئل أبي رضي الله تعالى عنه عن الخوارج، فقال: هم قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم (¬2). وروى الحاكم وصححه، عن مصعب بن سعد قال: كنت أقرأ على أبي حتى بلغت هذه الآية: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} [الكهف: 103] الآية، قلت: يا أبتاه! أهم الخوارج يا أبه؟ قال: لا يا بني، اقرأ الآية التي بعدها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف: 105] الآية. قال: هم المجتهدون من النصارى، وقالوا: ليس في الجنة طعام ¬
ولا شراب، ولكن الخوارج هم [الفاسقون]: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27] (¬1). وروى البخاري، والمفسرون عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: الحرورية هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان يسميهم الفاسقين (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن عمير بن إسحاق قال: ذكر الخوارج عند أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فقال: أولئك شر الخلق (¬3). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال في قتال الخوارج: لهو أحب إليَّ من قتال الدَّيلم (¬4). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن كعب رحمه الله تعالى قال: للشهيد نوران؛ أي: نور الإيمان، ونور الشهادة، ولمن قتله الخوارج عشرة أنوار، ولجهنم سبعة أبواب، منها: باب للحرورية، ولقد خرجوا على نبي الله داود عليه السلام في زمانه (¬5). ¬
المحكمة الأولى: وهم الحرورية.
ثم الخوارج فرق: الْمُحَكِّمة الأولى: وهم الحرورية. خرجوا على علي رضي الله تعالى عنه حين جرى أمر الحكمين، فاجتمعوا بحروراء من ناحية الكوفة، جوَّزوا أن لا يكون إمام، وإذا احتيج إليه جاز أن يكون من غير قريش، وخطَّؤوا عليًا في التحكيم، ثم كفروه ولعنوه، وطعنوا على عثمان، وعلى أصحاب الجمل وصفين، فقتلهم علي - رضي الله عنه - فلم يبق منهم إلا دون العشرة، انهزم اثنان منهم إلى عمان، واثنان إلى كَرمان، واثنان إلى سجستان، واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى جبل مردان باليمن، وظهرت بدع الخوارج منهم، وبقيت من بعدهم (¬1). روى الشيخان عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتبسم تبسمًا إذ أتاه ذو الخويصرة، فقال: يا رسول الله! اعدل. قال: "ويلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذا لَمْ أَعْدِلْ؟ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِذا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ". قال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! ائذن لي فيه أضرب عنقه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِنَّ لَهُ أَصْحابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَع ¬
صَلاتِهِمْ، وَصِيامَهُ مَعَ صِيامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ، إِحْدى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبضْعَةِ، يَخْرُجُونَ عَلى خَيْرِ قَرْيةٍ مِنَ النَّاسِ". قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرَّجل، فالتمس فوجد فأتي به حتّى نظرت إليه على نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الّذي نعت (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والشيخان عن سهل بن حنيف رضي الله تعالى عنه: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَخْرُجُ مِنَ الْمَشْرِقِ أَقْوامٌ مُحَلَّقَةٌ رُؤُوسُهُمْ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، لا يَعْدُو تَراقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" (¬2). وروى أبو نصر السجزي في "الإبانة"، والخطيب، وابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه: أنّه سمع رسول الله يقول: "يَخْرُجُ قَومٌ مِنَ الْمَشْرِقِ حِلْقانُ الرُّؤُوسِ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُمْ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلُوهُ، وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ" (¬3). ¬
وروى الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه عن أبي ذر، ورافع بن عمرو الغفاري معًا رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوم يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لا يُجاوِزُ حَلاقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَما يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ" (¬1). لم يقيدهم في هذا الحديث بأنّهم من المشرق، فهو شامل لسائر الخوارج. وروى ابن أبي شيبة عن أبي غالب قال: كنت في مسجد دمشق، فجاؤوا بسبعين رأسًا من رؤوس الحرورية، فنصبت على درج المسجد، فجاء أبو أمامة رضي الله تعالى عنه فنظر إليهم فقال: كلاب جهنم، شر قتلى قُتلوا تحت ظل السَّماء، ومن قَتلوا خير قتلى تحت ظل السَّماء (¬2). وقوله: من رؤوس الحرورية: ليسوا من أهل حروراء؛ لأنّ أولئك استأصلهم علي رضي الله تعالى عنه إِلَّا عشرة، بل هم طائفة اعتقدوا ما اعتقدته الحرورية من الخروج على الإمام وغيره، فنسبهم أبو أمامة إليهم. ¬
الفرقة الثانية من الخوارج: الأزارقة.
الفرقة الثّانية من الخوارج: الأزارقة. أصحاب نافع بن الأزرق الذين خرجوا معه بالبصرة إلى الأهواز وما وراءها في أيّام عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، كفَّروا عليًا رضي الله تعالى عنه، وكفروا عثمان، وطلحة، والزبير، وعائشة، وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهم، وكفَّروا سائر المسلمين، وكفَّروا من قعد عن القتال معهم، وأباحوا قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم، وأسقطوا الرَّجْم عن الزاني المحصن، وحد القذف عن قاذف المحصنين من الرجال دون قاذف المحصنات من النِّساء. وقالوا: أطفال المشركين معهم في النّار. وهم عدو كلّ من لم ير رأيهم، أو من تخلف عن القتال معهم. وقالوا: إنَّ التقية غير جائزة في قول ولا عمل، ويجوِّزون الكفر على الأنبياء عليهم السّلام قبل البعثة وبعدها. وقالوا: من ارتكب كبيرة يكفر ويخلد في النّار (¬1). وصوَّبوا فعل اللعين عبد الرّحمن بن مُلْجِم قاتل علي رضي الله تعالى عنه، ولعن الله قاتله. وقال عمران بن حطان مفتي الأزارقة، وزاهدهم، وشاعرهم قبحه الله في ضربة اللعين عبد الرّحمن بن ملجم المرادي لعلّي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: [من البسيط] ¬
يا ضَرْبَةً مِنْ كَمِيٍّ ما أَرادَ بِها ... إِلاَّ لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي العَرْشِ رِضْوانا إِنِّي لأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسِبُهُ ... أَوْفَى البَرِيَّةِ عِنْدَ اللهِ مِيزانا لِلَّهِ دَرُّ الْمُرادِيِّ الَّذِي سَفَكَتْ ... كَفَّاهُ مُهْجَةَ شَرِّ الْخَلْقِ إِنْسانا أَمْسَى عَشِيَّةَ غَشَّاهُ بِضَرْبَتِهِ ... مِمَّا جَناهُ مِنَ الآثامِ عُرْيانا (¬1) وقد عارض ابنَ حطان جماعةٌ من العلماء، منهم بكر بن حماد الشاهرتي، فقال من أبيات أجاد فيها: [من البسيط] ذَكَرْتُ قاتِلَهُ وَالدَّمْعُ مُنْحَدِرٌ ... فَقُلْتُ سُبْحانَ رَبِّ الْعَرْشِ سُبْحانا إِنّي لأَحْسِبُهُ ما كانَ مِنْ بَشَرٍ ... يَخْشَى الْمَعادَ وَلَكِنْ كانَ شَيْطانا كَعاقِرِ النَّاقَةِ الأُولَى الَّتِي حَلَبَتْ ... عَلَى ثَمُودَ بِأَرْضِ الْحِجْرِ خُسْرانا قَدْ كانَ يُخْبِرُهُمْ أَنْ سَوْفَ يَخْضِبُها ... قَبْلَ الْمَنِيَّةِ أَزْمانًا فَأَزْمانا فَلا عَفا اللهُ عَنْهُ ما تَحَمَّلَهُ ... وَلا سَقَى قَبْرَ عِمْرانَ بْنِ حطَّانا (¬2) أشار إلى ما رواه الإمام أحمد، والطبراني عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "أَلا أُحَدّثُكُما بِأَشْقَى النَّاسِ رَجُلَيْنِ؟ " ¬
قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "أُحَيْمِرُ ثَمودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يا عَلِيُّ عَلى هَذِهِ - يعني: قَرنه - حَتَّى تَبْتَلَّ هَذِهِ - يعني: لحيته -" (¬1). وروى الطبراني عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلّي: "مَنْ أَشْقَى ثَمُودَ؟ " قال: من عقر الناقة. قال: "فَمَنْ أَشْقَى هَذ الأُمَّةِ؟ " قال: الله أعلم. قال: "قاتِلُكَ" (¬2). وروى الطبراني أيضًا بإسناد حسن، عن أبي سنان الدؤلي: أنّه عاد عليًا في شكوى اشتكاها، قال: فقلت له: تخوفنا عليك في شكواك هذه. فقال: ولكني والله ما تخوفت على نفسي منه لأني سمعت ¬
- ومن قبائح الأزارقة
الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّكَ سَتُضْرَبُ بِضَرْبَةٍ هُنا، وَضَرْبَةً هاهُنا - وأشار إلى صُدْغه - فَيَسِيلُ دَمُها حَتَّى تَخْتَضِبَ لِحْيَتُكَ، وَيَكُونَ صاحِبُها أَشْقاها كَما كانَ عاقِرُ النَّاقَةِ أَشْقى ثَمُودَ" (¬1). ورواه أبو يعلى، ولفظه: أخبرني الصادق الصدوق: أني لا أموت حتّى أضرب على هذه - وأشار إلى مقدم رأسه الأيسر - فتخضب هذه منها بدم - وأخذ بلحيته - وقال: "قاتِلُكَ أَشْقى هَذهِ الأُمَّةِ كَما عَقَرَ ناقَةَ اللهِ أَشْقَى بَنِي فُلانٍ مِنْ ثَمُودَ" (¬2). - ومن قبائح الأزارقة: ما رواه الطبراني في "الأوسط"، و"الكبير" عن حُميد بن هلال قال: غزا عمارة بن قرص الليثي رضي الله تعالى عنه غزاة له، فمكث فيها ما شاء الله، ثمّ رجع حتّى إذا كان قريبًا من الأهواز سمع صوت الأذان، فقال: والله ما لي عهد بصلاة بجماعة من المسلمين منذ ثلاث، وقصد نحو الأذان يريد الصّلاة، فإذا هو بالأزارقة، فقالوا له: ¬
ما جاء بك يا عدو الله؟ فقال: ما أنتم إخواني؟ قال: أنت أخو الشيطان. فقال: ألَّا ترضون مني بما رضي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: أي شيء رضي به منك؟ قال: أتيته وأنا كافر، فشهدت أن لا إله إِلَّا الله، وأنّه رسول الله، فخلَّى عني. فأخذوه فقتلوه (¬1). وروى الدينوري في "مجالسته" عن هشام بن حسان قال: بينما نحن عند الحسن رحمه الله تعالى إذ أقبل رجل من الأزارقة فقال له: يا أبا سعيد! ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: فاحمرت وجنتا الحسن: رحم الله تعالى عليًا؛ إنَّ عليًا كان سهما لله صائبا في أعدائه، وكان في محلة العلم أعرفها وأقربها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان رهباني هذه الأُمَّة، لم يكن لمال الله بالسروقة، ولا في أمر الله بالنؤمة، أعطي القرآن عزيمة عليه، وكان منه في رياض مونقة، وأعلام بينة، ذاك علي بن أبي طالب يا لُكَع (¬2)! ¬
الفرقة الثالثة من الخوارج: النجدية.
وهو تعريض من الحسن رحمه الله تعالى بأن الأزارقة كانوا يعتقدون في علي خلاف ما وصفه به. ولقد أشار النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى هلاك الأزارقة، وغيرهم ممّن يبغض عليًا رضي الله تعالى عنه ويعتقد فيه السوء كما هلك فيه من غلا في حبه حتّى أنزله في غير منزلته بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يَهْلَكُ فِيكَ رَجُلانِ: مُحِبٌّ غالٍ، وَمُبْغِضٌ قالٍ" (¬1). وروى اللالكائي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنا نعرف نفاق الرَّجل ببغضه لعلّي (¬2). وعنه: ما كنا نعرف منافقينا معشرَ الأنصار إِلَّا ببغضهم عليًا رضي الله تعالى عنه (¬3). الفرقة الثّالثة من الخوارج: النجدية. أصحاب نجدة، ويقال: النجدة بن عامر الحنفي، ويقال لهم: العاذرية. قالوا: الدِّين أمران: أحدهما: لا يعذر الجاهل به، وهو معرفة الله ورسوله، وتحريم دماء المسلمين بغير رضاهم، والإقرار بما جاء به من عند الله جملة. ¬
والثّاني: ما يعذر النَّاس فيه حتّى تقوم عليهم الحجة، وهو ما سوى ذلك من الحلال والحرام. وقالوا: من أصر على صغيرة فهو مشرك، ومن عمل كبيرة كالزنا والسّرقة غير مصرٍّ لم يكفر. وقالوا: لا حاجة للناس إلى إمام قط، وإنما عليهم أن يعاملوا بالإنصاف فيما بينهم، فإن احتاجوا إلى إمام جاز لهم أن ينصبوه. وخالفوا الأزارقة فقالوا بجواز التقية والقعود عن القتال (¬1). خرج نجدة الحروري باليمامة في جمع في سنة ست وستين من الهجرة، فأتى البصرة، وقاتل أهلها، ثمّ حج فوقف الجمعة، ووقف وحده بعرفة، ووقف ابن الزبير بالناس، ووقف ابن الحنفية بجيشه الذين أتوه من العراق وحده، وتوادعوا الحرب حين ينقضي الحجِّ والموسم، ثمّ قتل نجدة في سنة ثمان وستين (¬2). وروى الإمام أحمد عن عطاء قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما يسأله عن قتل الصبيان، فكتب إليه: إن كنت الخضر تعرف الكافر من المسلم فاقتلهم (¬3). ¬
الفرقة الرابعة: البيهسية.
وروى ابن أبي شيبة عن يزيد بن هرمز: أن نجدة كتب إلى ابن عبّاس يسأله عن ذلك، ويقول: إنَّ العالم صاحب موسى قد قتل الوليد، فكتب إليه ابن عبّاس: لو كنت تعلم من الولدان ما علم ذلك العالم من ذلك الوليد، ولكنك لا تعلم (¬1). الفرقة الرّابعة: البيهسية. أصحاب أبي البيهس الهيصم بن جابر. وقيل: اسمه بيهس؛ بفتح الموحدة، وسكون المثناة تحت. قالوا: إنَّ الإمام إذا كفر كفرت الرعية شاهدهم وغائبهم، ومن فعل شيئًا ولم يعلم أهو حلال أم حرام يكفر. ومنهم من يقول: من واقع حرامًا ولم يعلم تحريمه كفر. وقال بعضهم: السكر إن كان من مال حلال لا يؤاخذ بما قال صاحبه فيه أو فعل. وقال آخرون: إنَّ السكر إذا انضم إليه كبيرة أخرى كان كفرًا. وقالوا: الأطفال مع آبائهم جنة أو نارًا. وقال بعضهم: من رجع من دار الهجرة إلى القعود برئنا منه. ووافقوا القدرية في القدر. وقالوا: لا يسلم أحد حتّى يقر بمعرفة الله صرسوله وما جاء به، ¬
الفرقة الخامسة: العجاردية.
والولاية لأولياء الله، والبراءة من أعدائه (¬1). ومن الغرائب: ما قرأته بخط البرهان بن جماعة نقلًا عن "الفنون" لابن عقيل الحنبلي: أن الأصمعي نقل أن هميس الخارجي لما أخذ قطعت يداه ورجلاه، ثمّ ترك يتمرغ في التراب ليلته، فلما أصبح قال: هل أحد يفرغ علي دلوين من ماء؛ فإني احتلمت في هذه اللَّيلة. قال ابن عقيل: فانظر إلى قوة طبيعته وقوة دينه. قلت: يحتمل أنّه كاذب في ذلك، وهو الظّاهر من حاله إظهارًا للديانة رياء و [هو] (¬2) في هذه الحالة، وثمرته التصميم على بدعته، وأنّه على حق فيها. الفرقة الخامسة: العجاردية. أصحاب عبد الكريم بن عجرد. وقال في "القاموس": ابن العجرد رئيس الخوارج، وأصحاب العجارد (¬3)؛ يعني: بغير هاء. قيل: كان من أصحاب أبي البيهس، ثمّ خالفه في أمور، ووافق ¬
العاذرية في بدعهم. وقال هو وأصحابه: تجب البراءة عن الطفل حتّى يدَّعي الإسلام، ويجب دعاؤه إليه إذا بلغ، وأطفال المشركين في النّار مع آبائهم، ولا يرون المال فيئًا حتّى يقتل صاحبه، وكفَّروا أهل الكبائر، وأنكروا سورة يوسف من القرآن، وقالوا: إنّما هي قصة من القصص، قالوا: ولا تجوز أن تكون قصة العشق في القرآن (¬1). ثمّ افترقوا إلى فرق: الصلتية: أصحاب عثمان بن أبي الصلت، والصلت بن أبي الصلت. قالوا: إذا أسلم الرَّجل توليناه، وتبرأنا من أطفاله حتّى يبلغوا فيسلموا، وليس لأطفال المسلمين والمشركين ولاية ولا عداوة حتّى يبلغوا. والميمونية: أصحاب ميمون؛ وافقوا القدرية في القدر. وقالوا: إنَّ الله يريد الخير دون الشر والمعاصي، وأجازوا نكاح بنات البنات، وبنات أولاد الإخوة والأخوات. وقالوا بوجوب قتال السلطان إذا جار، ومن رضي بحكمه دون من أنكره إِلَّا من أعانه أو طعن في دين الخوارج. ¬
وقالوا: أطفال المشركين في الجنَّة. والحمزية: أصحاب حمزة بن أدرك، وافقوا الميمونية في كلّ بدعهم إِلَّا في أطفال مخالفيهم والمشركين، فقالوا: في النّار، وجوَّزوا إمامين في عصر واحد ما لم تجتمع الكلمة، وتُقهر الأعداء. والخلفية: أصحاب خلف الخارجي. الشعيبية: أصحاب شعيب بن محمّد. هما والحمزية سواء في البدعة، إِلَّا أن الخلفية قالوا: القدر خيره وشره من الله كأهل السُّنَّة، وقال الحمزية: من العبد كالقدرية. الأطرافية، ويقال الغالبية: أصحاب غالب بن شادرك السجستاني، هم على اعتقاد الحمزية، وزادوا عليهم أنّهم أثبتوا واجبات عقلية، وعذروا أصحاب الأطراف في ترك ما يعرفونه من الشّريعة إذا أتوا بما يعرف لزومه من جهة العقل، ولذلك سموا أطرافية. والحازمية: هم كالشعيبية، وزادوا عليهم القول بالموافاة، وأن الله تعالى إنّما يتولى العباد على ما هم صائرون إليه في آخر أمرهم من الإيمان، ويبرأ منهم على ما علم أنّهم صائرون إليه في آخر أمرهم من الكفر، وتوقفوا في البراءة من علي رضي الله تعالى عنه، وصرَّحوا بالبراءة من غيره ممّن تبرأ منهم الخوارج. ثمّ من الحازمية فرقه معلومية قالوا: المؤمّن من عرف الله بجميع
أسمائه، والاستطاعة قبل العقل، وأفعال العباد مخلوقة لهم. وفرقة مجهولية: قالوا: من عرف الله ببعض أسمائه وصفاته، وجهل بعضها فهو مؤمن. وقالوا: أفعال العبد مخلوقة لله تعالى؛ كذلك نقله الشهرستاني، وعكس النقل في "المواقف"، فذكر أن المجهولية تقول: أفعال العبد مخلوقة له، والمعلومية تقول: لله تعالى (¬1). والثعلبية: أصحاب ثعلبة الخارجي، كان هو وعبد الكريم بن عجرد يدًا واحدة حتّى اختلفا في الأطفال، فقال ثعلبة: أنا أواليهم صغارًا وكبارًا حتّى نرى منهم إنكارًا للحق ورضى بالجور، فتبرأت منه العجاردة. وقيل: إنَّ الثعالبة يقولون: لا حكم للأطفال حتّى يبلغوا ويدعوا، وكانوا يرون أخذ الزَّكاة وإعطاءهم منها. ثمّ صارت الثعالبة فرقًا: - منهم: أخنس بن قيس ثعلبية، إِلَّا أنّهم توقفوا في جميع من كان في دار التقية من أهل القبلة إِلَّا من عرف منه الإيمان فتركوه، أو كفر فتبرؤوا منه، وحرموا الاغتيال والقتل والسّرقة، وجوزوا تزويج المسلمات من مشركي قومهم، ووافقوا الخوارج في كلّ أصولهم. ¬
- ومنهم: أصحاب معبد: خالفوا الأخنسية في تزويج المسلمات بالمشركين. وقالوا: لا تؤخذ الزَّكاة من العبد، وجوزوا أن تكون سهام الزَّكاة سهمًا واحدًا في التقية، وهم على دين الخوارج. - ومنهم: أصحاب الرشيد الثعلبي الخارجي، ويقال لهم: العشرية؛ لأنّ الثعلبية كانوا يوجبون فيما سقي من الأنّهار والقنوات نصف العشر، فأخبرهم زياد بن عبد الرّحمن أن فيه العشر، ولا تجوز البراءة ممّن قال: فيه نصف العشر، فقال الرشيد: تجب البراءة منه. - ومنهم: أصحاب شيبان بن سلمة الخارجي، في أيّام أبي مسلم كان من الثعالبة، لكنه وافق جهم بن صفوان في الجبر، ونفي القدرة الحادثة. - ومنهم: أصحاب مكرم العجلي الثعلبي، تفرد عنهم بأن تارك الصّلاة كافر، لا من جهة الترك، بل لجهله بالله، وكذلك قال بإكفار سائر أهل المعاصي من هذه الحيثية. وقالوا بالموافاة، ومعنى الموافاة: أن الله تعالى لم يوال عبده، ولم يعاده إِلَّا على ما هو صائر إليه من موافاة الموت، لا على عمله الّذي هو عليه (¬1). ¬
الفرقة السادسة من الخوارج: الإباضية.
الفرقة السّادسة من الخوارج: الإباضية. أصحاب عبد الله بن إباض التميمي. قالوا: إنَّ مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة، ومواريثهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال، وما سواه حرام، ودار مخالفيهم دار السّلام إِلَّا معسكر السلطان، وتقبل شهادة مخالفيهم عليهم. وقالوا: مرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن، وهو قريب من رأي المعتزلة. وقالوا: فعل العبد مخلوق لله تعالى، وهو مكتسب للعبد حقيقة لا مجازًا. وقالوا: يفنى العالم بفناء أهل التكليف. وقالوا: أهل الكبيرة كافر نعمة لا ملة. وتوقفوا في أولاد الكفار، وفي النفاق أشرك أم لا، وأجازوا بعثة رسول بلا دليل (¬1). ثمّ افترقوا إلى: حفصية: قالوا بين الشرك والإيمان خصلة، وهي معرفة الله وحده، فمن عرف الله وحده ثمّ كفر بما سواه من رسول أو كتاب أو ¬
بعث، وارتكب الكبائر فهو كافر، لكنه بريء من الشرك. وحارثية: قالوا كالمعتزلة بالاستطاعة قبل الفعل، وأثبتوا طاعة لا يراد بها الله تعالى. ويزيدية: يقولون: المحكِّمة الأولى قبل الأزارقة، فمن بعدهم إِلَّا الإباضية فإنهم أولياؤهم، وزعموا أن الله تعالى سيبعث رسولًا من العجم، وينزل عليه كتابا قد كتب في السَّماء ينزل جملة واحدة، ويترك الشّريعة المحمدية. وقالوا: نتولى من شهد لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة من أهل الكبائر وإن لم يدخل في دينه. وقالوا: إنَّ أصحاب الحدود من موافقيهم وغيرهم كفار مشركون، وكل ذنب صغير أو كبير شركٌ (¬1). وروى الخطيب في "تالي التلخيص" عن أبي الشعثاء جابر بن يزيد رحمه الله تعالى - وكانت الإباضية تنتحله - فقيل له: إنَّ الإباضية تنتحلك، قال: أبرأ إلى الله من ذلك (¬2). وروى الدينوري من طريق ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك، عن ¬
الفرقة السابعة من الخوارج: الأصفرية الزيادية.
عبد الله بن مسلم - وهو رجل من أهل مرو - قال: كنت أجالس ابن سيرين رحمه الله تعالى فتركت مجالسته، وجالست قومًا مَنْ الإباضية، فرأيت فيما يرى النائم كأني مع قوم يحملون جنازة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فأتيت ابن سيرين، فذكرت ذلك له، فقال: ما لك جالست أقوامًا يريدون أن يدفنوا ما جاء به محمّد - صلى الله عليه وسلم - (¬1)؟ الفرقة السابعة من الخوارج: الأصفرية الزيادية. أصحاب زياد بن الأصفر، خالفوا الإباضية والأزارقة والنجدية، فلم يكفروا من قعد عن القتال معهم إذا توافقوا في الاعتقاد، ولم يسقطوا الرَّجْم عن المحصن، ولم يحلوا قتل أطفال مخالفيهم، ولم يكفروا الأطفال. وقالوا: التقية جائزة في القول والعمل، وما كان من المعاصي عليه حد واقع لا يتعدى بصاحبه الاسم الّذي لزمه به الحدّ فيقال: زان سارق، لا كافر مشرك، وما كان من الكبائر ممّا لشرفه حد معظم قدره كترك الصّلاة فهو كفر. وقالوا: نحن مؤمنون عند أنفسنا، ولا ندري لعلّنا خرجنا من الإيمان عند الله. وقالوا: الشرك شركان: طاعة الشيطان، وعبادة الأوثان. ¬
تنبيه
وهم على أصول بقية الخوارج؛ قبحهم الله أجمعين (¬1). * تَنْبِيهٌ: جاء في الحديث ما يدلُّ على بقاء الخوارج إلى آخر الزّمان، فهم موجودون في النَّاس أبدًا، إِلَّا أنّهم [يظهرون] تارة ويخفون أخرى، لكن لا على كلّ النَّاس، يعرفهم أهل العلم بسيماهم، ولو قيل: إنَّ السكمانية منهم لم يبعد؛ فإنهم يخرجون مع كلّ خارج على السلطان، ويقولون: من كلّ طعام اليهودي قاتل معه. وروى ابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي، والحاكم وصححه، عن أبي برزةَ رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمانِ قَومٌ يَقْرَؤُونَ مِنَ الْقُرْآنِ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، سِيْماهُمُ التَّحْلِيقُ، لا يَزالُونَ يَخْرُجُونَ حَتَى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، فَإِذا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَهُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ" (¬2). وتأمل قوله في هذا الحديث: "يَقْرَؤُونَ مِنَ الْقُرآنِ"، ولم يصفهم بجَودة القراءة كما ذكر في وصف الخوارج الأولى؛ فإن السكمانية أكثرهم عوام، لا يقرؤون من القرآن إِلَّا الفاتحة، ومعها سورة أو ¬
الشيعة
سور، ولكن جاء في الحديث ما يدلُّ على أن الخارجين منهم لا تطول مدتهم، بل يكون هلاكهم أقرب شيء إلى خروجهم. روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي قَوم يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلامِ، فَإِذا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، فَطُوبَى لِمَنْ قتلَهُمْ، ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ قتلُوهُ، كُلَّما طَلَعَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قَطَعَهُ اللهُ عَزَّ وَجّلَّ" (¬1). وأمّا الشيعة: فيجمعهم مشايعة علي رضي الله تعالى عنه، والقول بإمامته وخلافته بالنص الجلي أو الخفي، واعتقدوا أن الخلافة لا تخرج عن ولده. وقالوا بوجوب عصمة الأئمة من الكبائر والصغائر، وأنكروا فضيلة أبي بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما على علي رضي الله تعالى عنه، وتكلموا في خلافتهما، وهو خلاف قول علي وآل البيت - رضي الله عنهم - (¬2). روى اللالكائي عن الشّعبيّ رحمه الله تعالى قال: لو كانت الشيعة من الطير لكانوا رُخْمًا، ولو كانوا من الدواب لكانوا حُمْرًا. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد، والبزار، وأبو يعلى عن علي ¬
رضي الله تعالى عنه قال: دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِنَّ فِيكَ مَثَلًا مِنْ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِما السَّلامُ؛ أَبْغَضَتْهُ اليَهُودُ حَتَّى بَهَتُوا أُمِّهُ، وَأَحَبَّتْهُ النَّصارَى حَتَّى أَنْزَلُوهُ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي لَيْسَ بِهِ". ألَّا وإنه ليهلك فِيَّ اثنان: محب مفرط يفرطني بما ليس في، ومبغض يحمله شنآني علي أن يبهتني، ألَّا وإني لست بنبي، ولا يوحى إلي، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم (¬1). وكلام علي وأولاده الكِرام رضي الله تعالى عنهم في فضل أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وفي الرَّدِّ على الشيعة مدوَّن في كتب الحديث والتاريخ، ولولا خوف الإطالة لأتينا منه بنبذة صالحة. وروى أبو نعيم عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن، عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ ¬
الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، فَقِيلَ لِي: يا مُحَمَّدُ! اشْفَعْ، فَأَخْرِجْ مَنْ شِئْتَ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ النَّارِ - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: - فَشَفاعَتِي يَوْمَئِذٍ مُحَرَّمَة عَلى رَجُلٍ لَقِيَ اللهَ بِشَتِيمَةِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحابِي" (¬1). وعن مالك رحمه الله تعالى: أنّه ذكر عنده رجال تنقَّصوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ هذه الآية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} حتّى بلغ {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، وقال: من أصبح من الناس فى قلبه غيظ على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته الآية (¬2). وقد افترقت الشيعة إلى خمس فرق: - كيسانية. - وزيدية. - وإمامية. - وغلاة. - وإسماعيلية. ويطلق على هؤلاء كلهم روافض إِلَّا الزيدية، كما سيأتي. وروى البيهقي عن علي، وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهم قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَكُونُ فِي أُمَّتِي قَوْم يُسَمَّوْنَ الرَّافِضَةَ ¬
يَرْفُضُونَ الإِسْلامِ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط"، واللالكائي عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندي، فغدت إليه فاطمة رضي الله تعالى عنها ومعها علي - رضي الله عنه -، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه وقال: "أَبْشِرْ يا عَلِيُّ! أَنْتَ وَشِيعَتُكُ فِي الْجَنَّةِ، إِلَّا أَنَّ مِمَّنْ يَزْعُمُ مُشايَعَتَكَ، أَقْوامًا يَضْفُزُونَ الإِسلامَ، ثُمَّ يَلْفِظُونَهُ - ثلاث مراتٍ - يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُمْ، لهُمْ نبزٌ، يُقالُ لَهُمُ: الرَّافِضَةُ، فَإِنْ أَدْرَكْتَهُمْ فَجاهِدْهُمْ؟ فَإِنَّهمْ مُشْرِكُونَ". قالوا: يا رسول الله! فما العلامة فيهم؟ قال: "لا يَشْهَدُونَ جُمُعة وَلا جَماعة، يَطْعَنُونَ عَلى السَّلَفِ" (¬2). وقوله: "يَضْفُزونَ" - بضم الفاء - من: ضفز البعير - بالضاد المعجمة، والفاء والزاي -: إذا لقم، أو مع كراهية. ¬
وروى أبو يعلى بسند حسن، عن فاطمة رضي الله تعالى عنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: نظر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى علي - رضي الله عنه - فقال: "هَذا فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ قَومًا يَلْقُمونَ الإِسْلامَ، يَرْفُضُونَهُ، لَهُم نبزٌ، يُقالُ لَهُمُ: الرَّافِضَةُ، مَنْ لَقِيَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ؟ فَإِنَّهمْ مُشْرِكُونَ" (¬1). وروى الطبراني بسند حسن، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كنت عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا عَلِيُّ! سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي قَومٌ يَنْتَحِلُونَ حُبَّ أَهْلِ البَيْتِ، لَهُمْ نبزٌ، يُسَمَّوْنَ الرَّافِضَةُ، قاتِلُوهُمْ؛ فَإِنَّهمْ مُشْرِكُونَ" (¬2). وأخرجه البزار، وأبو يعلى، والطبراني بأسانيد جيدة بنحوه (¬3). ومن المسائل المشهورة عن الروافض أنّهم يقولون بمسح الرجلين في الوضوء دون الغسل، ولا يقولون بالمسح على الخفَّين، ¬
وهذا من أعجب أحوالهم، حتّى إنَّ الواحد من غلاتهم ربما تألى فقال: برئت من ولاية أمير المؤمنين، ومسحت على خفي إنَّ فعلت كذا كما ذكره الخطابي رحمه الله تعالى. وقال حدثني أحمد بن فراس قال: نا أحمد بن علي المرزوي قال: نا ابن أبي الجوال أن الحسن بن يزيد غضب على كاتب له، فحبسه وأخذ ماله، فكتب إليه من الحبس: [من الرجز] أَشْكُو إِلَى اللهِ ما لَقِيتُ ... أَحْبَبْتُ قَوْمًا بِهِمُ بُلِيتُ لا أَشْتُمُ الصَّالِحِينَ جَهلًا ... وَلا تَشَيَّعْتُ ما بَقِيتُ أَمْسَحُ خُفّيَّ بِبَطْنِ كَفِّي ... وَلَوْ عَلى جِيفَةٍ وَطِيتُ قال: فدعا به من الحبس، ورد ماله عليه، وأكرمه (¬1). وروى أبو نعيم، واللالكائي عن الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه قال: لم أر أحدًا من أصحاب الأهواء أشهد للزور من الرافضة (¬2). وروى اللالكائي عن محمّد بن يوسف الفيريابي قال: ما أدري الرافضة، والجهمية إِلَّا زنادقة (¬3). وعن سفيان الثّوريّ رحمه الله تعالى أنّه سئل: أتصلّي خلف من يبغض أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما؟ ¬
الكيسانية
قال: لا (¬1). وعن أبي إسحاق السبيعي رحمه الله تعالى أنّه قيل له: ما ترى في الصّلاة خلف مَنْ سبَّ أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما؟ قال: لا يصلّى خلفهم (¬2). وعن النضر بن شميل رحمه الله تعالى قال: سمعت المأمون يقول: القدر دين الخرز، والرفض دين النبط، والإرجاء دين الملوك (¬3). ثمّ افترقت فرق الشيعة الخمس فرقًا: فأما الكيسانية: فهم أصحاب كيسان. قال في "القاموس": وهو لقب المختار بن أبي عبيد المنسوب إليه الكيسانية من الرافضة، تولَّوا عليًا - رضي الله عنه -، واعتقدوا إمامته دون الشيخين (¬4). وقالوا: الدِّين طاعة رجل واحد. وقال بعضهم بترك القضايا الشرعية بعد الوصول إلى طاعة رجل واحد. ¬
المختارية
وقال بعضهم بالتناسخ، والحلول، والرجعة بعد الموت. وقال بعضهم: الإمام واحد لا يموت، ولا يجوز أن يموت حتّى يرجع. وقال بعضهم: تتعدى الإمامة إلى غيره. وكلهم حيارى، ومنهم من أنكر البعث (¬1). ثمّ هم فرق: إحداها: المختارية. أصحاب المختار بن أبي عبيد، كان خارجيا، ثمّ زبيريًا، ثمّ شيعيا، ثمّ كيسانيًا، ثمّ ادعى النبوة لنفسه، وتبعه جماعة من الكيسانية، فقالوا بإمامة محمّد بن الحنفية بعد أبيه علي رضي الله تعالى عنهما، وقيل: بعد أخويه الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما. وكان المختار يدعو النَّاس إليه، ويظهر أنّه من رجاله ودعاته، فلما بلغ ابن الحنفية ذلك تبرأ منه، وقام المختار يطلب ثأر الحسين ليلًا ونهارًا، وكان يجيز البداء على الله تعالى، وكان يقول: قد يظهر الله تعالى خلاف ما علم، وقد يبدو له الصواب في خلاف ما أراد وحَكَم، وكان يدَّعي علم ما يحدث من الأحوال بوحي أو رسالة من الإمام، فإذا وعد أصحابه بكون شيء فوافق قوله جعله دليلًا على صدق دعواه، فإذا لم يوافق قوله قال: قد بدا لربكم، وكان له زخارف ¬
الهاشمية
باردة يلبس بها على النَّاس، وكان ممّن يعتقد إمامة ابن الحنفية بعد أخويه، وأنّه لم يمت ولن يموت حتّى يرجع. [ومن القائلين بهذا القول] كثير عزة، وقال في ذلك: [من الوافر] أَلا إِنَّ الأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ ... وُلاةَ الْحَقِّ أَرْبَعَةٌ سَواءُ عَلِيٌّ وَالثَّلاثَةُ مِنْ بَنِيهِ ... هُمُ الأَسْباطُ لَيْسَ لَهُمْ خَفاءُ فَسِبْطٌ سِبْطُ إِيْمانٍ وِبِرٍّ ... وَسِبْطٌ غَيَّبَتْهُ كَرْبَلاءُ تَغَيَّبَ لا يُرَى فِيْهِمْ زَمانًا ... بِرَضْوى عِنْدَهُ عَسَلٌ وَماءُ (¬1) وأقول معارضًا لكثير عزة: [من الوافر] أَلا إِنَّ الأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ ... وُلاةَ الْحَقِّ أَرْبَعَةٌ سَواءُ هُمُ الصِّدِّيقُ وَالْفارُوقُ حَقًّا ... وَعُثْمانٌ يُسَرْبِلُهُ الْحَياءُ وَبابُ الْعِلْمِ مَوْلانا عَلِيٌّ ... أَبُو الْحَسَنَيْنِ شِيْمَتُهُ الوَفاءُ قَضَى وَقَضَى بَنُوهُ وَكُلُّ مَرْءٍ ... يَمُوتُ وَما لِمَخْلُوقٍ بَقاءُ الفرقة الثّانية من الكيسانية: الهاشمية. قالوا: إنَّ ابن الحنفية أفضى بالإمامة وأسرار العالم والعلوم إلى ولده أبي هاشم، ثمَّ لما مات أبو هاشم اختلفوا في الإمام بعده. ¬
الجعفرية
- منهم من قال: أفضى أبو هاشم بالإمامة إلى أبي محمّد بن علي ابن عبد الله بن عبّاس، وانجرت الوصيَّة في ولده إلى أبي العباس عبد الله السفاح. - ومنهم من قال: الإمامة بعد أبي هاشم لابن أخيه الحسين بن علي بن محمّد. - ومنهم من قال: بل إلى أخيه علي بن محمّد بن الحنفية (¬1). الفرقة الثّالثة: الجعفرية. قالوا: أفضى أبو هاشم إلى عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي، وتحولت روح أبي هاشم إليه، وكان الرَّجل لا يرجع إلى علم وديانة، فاطلعوا على كذبه، فأعرضوا عنه، وقالوا بإمامة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكان يرى عبد الله بن معاوية أن الأرواح تتناسخ من شخص إلى شخص، وأن الثّواب والعقاب في هذه الأشخاص، وقال: إنَّ روح الإله تناسخت حتّى حلت فيه، وادعى الألوهية والنبوة جميعا، وأنّه يعلم الغيب، ثمّ اعتقد أتباعه ذلك، وهلك بخراسان، وافترقت أصحابه. قيل: لم يمت ويرجع. وقيل: تحولت روحه إلى شخص الحارث بن إسحاق بن زيد بن الحارث الأنصاري. ¬
الحلولية
وهم الحلولية: يبيحون المحرمات، ويعيشون عيش من لا تكليف، فهم تناسخية حلولية إباحية، قبحهم الله تعالى، وهم الفرقة الرّابعة، وهم من أخبث الفرق (¬1). الفرقة الخامسة: البيانية. أصحاب بيان بن سمعان النهدي. قالوا بانتقال الإمامة من أبي هاشم إليه. وذكر ابن قتيبة أنَّه كان يقول لهم: إلي أشار الله تعالى بقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138]، وأنّه كان يقول بخلق القرآن (¬2). وقالوا: حل في علي جزء إلهي واتحد به، ثمّ قالوا: تناسخ الجزء الإلهي حتّى دخل إلى بيان، وزعموا أن معبودهم على سورة إنسان. وقالوا: يهلك إِلَّا وجهه. وقالوا فى قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]: إنّه علي. والحاصل: إنهم شيعية تناسخية، مشبهة، معطلة، جهمية (¬3). ¬
الرزامية
الفرقة السّادسة: الرِّزامية. بكسر الراء: أصحاب رزام، قالوا: أوصى بالإمامة أبو هاشم إلى علي بن عبد الله بن عبّاس، ثم إلى ولده محمّد، ثمّ إلى ولده إبراهيم، وهو صاحب أبي مسلم الّذي دعا إليه وقال بإمامته، وادعوا حلول الإلهية فيه، وقالوا بتناسخ الأرواح (¬1). وأمّا الزيدية: فهم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب، ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها، ولم يجوزوها لغيرهم، ولم يخصوا بها أحدًا دون أحد، بل من خرج منهم بالإمامة، وكان زاهدًا، شجاعًا، سخيًا، عالمًا، وجبت طاعته، وجوزوا خروج إمامين في قطرين. وكان زيد ينتحل مذهب المعتزلة، وقال بجواز إمامة المفضول لمصلحة لتسكين الفتنة، وحمل على ذلك خلافة أبي بكر وعمر مع أن عليًا أفضل منهما على اعتقاده، ولهذه المقالة رفضته شيعة الكوفة حين علموا أنّه لم يتبرأ من الشيخين رضي الله تعالى عنهما، ولذلك سموا رافضة، وجرت بينه وبين أخيه الباقر مناظرات لا من هذا الوجه، بل من حيث تلمذ لواصل بن عطاء شيخ المعتزلة، مع أنّه يجوز الخطأ على جده في وقعة الجمل وصفين، ومن حيث إنّه تكلم في القدر على خلاف ما عليه أهل البيت، ومن حيث إنّه كان يرى الخروج شرطًا في ¬
السليمانية
كون الإمام إمامًا (¬1). وآل أمر الزيدية آخرًا إلى أن قالوا: لا تجوز إمامة المفضول، وطعنوا في الصّحابة طعن الإمامية، وافترقوا ثلاث فرق: إحداها: الجارودية. أصحاب ابن الجارود زياد بن المنذر الهمداني الكوفي الأعمى. قالوا: نصّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على إمامة علي رضي الله تعالى عنه وصفًا ولم يسمه، وخطؤوا الصّحابة حيث لم يتعرفوا ذلك الوصف، ويطلبوا ذلك الموصوف، وإنما نصبوا أبا بكر باختيارهم، فكفَّروهم بذلك، وخالفوا إمامهم زيد في هذه المقالة، وتبرؤوا من أبي بكر وعمر، وقالوا: علي أفضل الخلق، وقالوا: الإمامة مقصورة على ولد فاطمة. ثمّ اختلفوا في تعيين الإمام بعد الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما من أولادهما. وقالوا بالإمام المنتظر، واختلفوا فيه، وبعضهم قال بالرجعة، ويحلون المتعة (¬2). الفرقة الثّانية من الزيدية: السليمانية. أصحاب سليمان بن حرب. ¬
قالوا: الإمامة شورى بين الخلق، وتصح في المفضول مع وجود الفاضل، وخطَّؤوا الأُمَّة في بَيعة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - خطأً دونَ الفسق، وكفَّروا عثمان، وعائشة، وطلحة، والزبير رضي الله تعالى عنهم، وقبح الله السليمانية، ثمّ طعنوا على الرافضة؛ فهم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء (¬1). الفرقة الثّالثة من الزيدية: الصالحية. وهم أصحاب الحسن بن صالح بن حي. والبترية: أصحاب كبير البتري الأبتر (¬2)، وهما متفقان في المذهب، وهما كالسليمانية، لكن توقفوا في عثمان رضي الله تعالى عنه أهو مؤمن أو كافر. وقالوا: علي أفضل النَّاس بعد الأنبياء وأولاهم بالإمامة، لكن ترك حقه، ورضي وسلَّم، فرضينا بما رضي به، وأجازوا إمامة المفضول إذا رضي الأفضل. وقالوا: من شهر سيفه من ولد الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، وكان عالمًا، زاهدًا، شجاعًا، سخيًا، فهو الإمام. وشرط بعضهم صباحة الوجه أيضًا. وهم في الأصول كالمعتزلة سواء، وفي الفروع كالحنفية إِلَّا في ¬
الإمامية
أشياء فكالشّافعيّة (¬1). وأمّا الإمامية: فهم القائلون بإمامة علي نصًا وتعيينًا. قالوا: وما كان في الإسلام والدين أمر أهم من تعيين الإمام، ولا يجوز أن يكون ذلك مفوضًا إلى الأُمَّة، بل يجب على الشارع أن يعين لهم إمامًا يرجعون إليه ويعولون عليه، وقد عين عليًا، ولكن خالفت الأُمَّة فأقاموا أبا بكر، فنسبوهم إلى الظلم والعدوان، والمخالفة والعصيان، ووقعوا في كبار الصّحابة طعنًا وتكفيرًا، ثم لم يثبتوا في تعيين الإمام بعد الحسن والحسين وعلي بن الحسين على رأي واحد، بل اختلفوا اختلافًا كثيرًا، ثمّ ساقوا الإمامة إلى جعفر بن محمّد الصادق، واختلفوا في المنصوص عليه بعده من أولاده؛ إذ كان له خمسة أولاد، وقيل: ستة: محمّد، وإسحاق، وعبد الله، وموسى، وإسماعيل، وعلي، وكانوا في الأوّل على مذهب أئمتهم في الأصول، ثم لما اختلفت الروايات عن أئمتهم صار بعضهم معتزلة، وبعضهم وعيدية، وبعضهم مشبهة، وبعضهم سلفية (¬2). ومن حيث اختلفوا في تعيين الإمام من أولاد جعفر فهم فرق، ¬
إحداها الناروسية.
لكن الذين اشتهرت بدعهم فهم ثلاث فقط: إحداها الناروسية. أتباع رجل يقال له ناروس، أو نسبة إلى قرية ناروسا. قالوا: إنَّ الصادق حي ولن يموت حتّى يظهر اسمه، وهو القائم المهدي. وحكي عنهم أنّهم يقولون: إنَّ عليًا قد مات، وستكشف الأرض عنه فيملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا (¬1). الفرقة الثّانية: الواقفية. توقفوا في جعفر هل مات وأسند الإمامة في أولاده، وهو إمام منتظر، وتوقفوا قبله في أبيه الباقر كما توقفوا فيه، وهما بريئان منهم (¬2). الفرقة الثّالثة: الموسوية. جزموا بإمامة موسى الكاظم، ولذلك يقال لهم: موسوية، ويقال لهم أيضًا: مفضلية لأنّ من أئمتهم القائلين بذلك المفضل بن عمرو. ثمّ لما مات موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه وعن آبائه انقسموا فيه ثلاث فرق: ¬
- فرقة توقفوا في موته أمات أم لم يمت؟ ويقال لهم: ممطورة لأنّ علي بن إسماعيل بن جعفر الصادق قال لهم: ما أنتم إِلَّا كلاب ممطورة. - وفرقة قالوا: إنّه لم يمت، وسيخرج بعد الغيبة، ويقال لهم: الواقفة لأنّهم وقفوا في الإمامة على موسى الكاظم. - وفرقة قطعوا بموته، ويقال لهم: قطعية. ثمّ اختلفوا في الإمام بعده من أولاده، ولم يشتهر منهم إِلَّا الفرقة الاثني عشرية القائلين بإمامة علي الرضا بن موسى الكاظم. والأئمة الاثنا عشر عند هؤلاء: 1 - علي المرتضى. 2 - حسن المجتبى. 3 - حسين الشهيد. 4 - علي السَّجَّاد الملقب زين العابدين. 5 - محمّد الباقر. 6 - جعفر الصادق. 7 - موسى الكاظم. 8 - علي الرضا. 9 - محمّد التقي، ويقال له: محمّد الجود. 10 - علي بن محمّد التقي.
الغلاة
11 - الحسن العسكري. 12 - محمّد المنتظر، وهو الثّاني عشر، ويعتقد هؤلاء الفرقة أن محمّد المذكور هو المهدي، وأنّه تغيب وهو ابن خمس سنوات، وقيل: تسع سنين (¬1). وقد اختلفت الشيعة في الإمام المنتظر على نحو عشرين قولًا، منهم من يقول: هو علي بن أبي طالب. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند" عن عاصم بن ضمرة قال: قلت للحسن بن علي - رضي الله عنهما -: إنَّ الشيعة يزعمون أن عليًا يرجع؟ قال: كذب أولئك الكذابون، لو علمنا ذلك ما تزوج نساؤه، ولا قسمنا ميراثه (¬2). والحق أن خروج المهدي من آل البيت آخر الزّمان حق، وأن اسمه: محمّد بن عبد الله كما وردت الأحاديث الصحيحة بذلك، وأنّه غير من ذكرته الشيعة وعينته كلّ فرقة منهم. وأمّا الغلاة: فهم الذين غلوا في حق أئمتهم حتّى أخرجوهم من حدود الخلق، وأثبتوا لهم أحكام الإلهية، ولحقوا بذلك اليهود ¬
فرقة يقال لهم بأصبهان: خرمية، وكودية، وبالري: مزدكية، وسادنية، وبأذربيجان: دقولية، وبما وراء النهر: مبيضة، وبموضع آخر: محمرة
والنصارى والحلولية. ولهم ألقاب بكل بلد: - منها: فرقة يقال لهم بأصبهان: خرمية، وكودية، وبالري: مزدكية، وسادنية، وبأذربيجان: دقولية، وبما وراء النهر: مبيضة، وبموضع آخر: محمرة. وروى ابن أبي شيبة، واللالكائي عن السدي رحمه الله تعالى قال: قال علي - رضي الله عنه - على المنبر: اللَّهُمَّ العن كلّ مبغض لنا، قال: وكل محب لنا غال (¬1). وروى اللالكائي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: يهلك فِيَّ رجلان: كلّ مفرط في حبي، ومفرط في بغضي (¬2). وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنّه قال: يا أهل العراق! أحبونا حب الإسلام، فوالله ما زال حبكم بنا حتّى صار شينًا (¬3). وعن محمّد بن عبيد الله العرزي قال: أتى أبو جعفر محمّد بن علي ابن حسن - يعني: الباقر - رضي الله تعالى عنهم بدابة يريد أن يركبها، ¬
فلم يقدر، فرفعناه حتّى ركبها، فقال: اللَّهُمَّ اخز قومًا يزعمون، أو يقولون: إنِّي أذهب في ليلة إلى الكوفة، وأرجع من ليلتي (¬1). والغلاة اثنتا عشرة فرقة: إحداها: السبئية: أصحاب عبد الله بن سبأ، قال لعلّي رضي الله تعالى عنه: أنت الإله حقًّا، فنفاه إلى المدائن. كان يهوديًا فأسلم، وكان يقول في يهوديته في يوشع بن نون عليه السّلام مثلما قال في بدعته في علي، وهو أول من قال: إنَّ عليًا حي لم يقتل، وفيه الجزء الإلهي، وأنّه في السحاب والرعد صوته، والبرق سوطه، وأنّه ينزل إلى الأرض. وقال بالتناسخ، وتبعه أصحابه في ذلك كله (¬2). وروي عن السدي قال: قال لي عبد الله بن حسن رضي الله تعالى عنهما: يا سدي! أخبرني عن شيعتنا قبلكم بالكوفة. قال: قلت: إنَّ قوما ينتحلون حبكم يزعمون أن الأرواح تتناسخ. قال: يا سدي! كذب هؤلاء، ليس هؤلاء منا ولا نحن منهم (¬3). ¬
وروى أبو نعيم عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه قال: شيعتنا من أطاع الله (¬1). وروى اللالكائي عن جعفر بن محمّد، عن أبيه رضي الله تعالى عنهما: أن عليًا رضي الله تعالى عنه أقبل في عمامة يقال لها السحاب، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "هَذا عَلِيّ أَبُو حَسنٍ، أَوْ هَذا أَبو حُسَينٍ قَدْ أَقْبَلَ فِي السَّحابِ" يعني: عمامة على علي، فحرف هؤلاء، وقالوا: علي في السحاب (¬2). وروى ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: لما قتل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حملوه ليدفنوه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينما هم في مسيرهم ليلًا إذ ند الجمل الّذي هو عليه، فلم يدر أين ذهب، ولم يقدر عليه، قال: فلذلك تقول أهل العراق: هو في السحاب. وروى الدينوري عن ابن قتيبة قال: ما نعلم في أهل البدع والأهواء قومًا أضعف عقولًا ولا أكثر اختلافًا وتخليطًا من الرافضة؛ وذلك أنا لا نعلم في أهل الأهواء والبدع قومًا ادعوا الربوبية لبشر غيرهم؛ لأنّ عبد الله بن سبأ وأصحابه ادعوا الربوبية لعلّي - رضي الله عنه - فأحرقهم بالنار، وقال علي في ذلك: [من الرجز] ¬
الفرقة الثانية من الغلاة: الكاملية.
لَمَّا رَأَيْتُ الأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا ... أَجَّجْتُ نارًا وَدَعَوْتُ قنْبرًا (¬1) الفرقة الثّانية من الغلاة: الكاملية. أصحاب أبي كامل، كفَّروا جميع الصّحابة بتركهم بيعة علي، وطعنوا فيه بتركه حقه، ولم يعذروه في قعوده عن ذلك مع أنّهم غلوا فيه. وقالوا: الإمامة نور يتناسخ من شخص إلى شخص، وتارة يكون ذلك النور نبوة، وتارة إمامة. وقالوا بتناسخ الأرواح وقت الموت (¬2). الفرقة الثّالثة: العلبائية. أصحاب علباء بن ذراع القزويني الدوسي، وقيل: الأسدي، كانوا يفضلون عليًا على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقالوا: إنّه بعث محمدًا ليدعو إليه، فدعا إلى نفسه، ويقال لهؤلاء: ذَمية -بالفتح- قبحهم الله تعالى. - ومنهم من قال بألوهية الخمسة الذين كانوا أصحاب الكساء وقت المباهلة: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وقالوا: خمستهم شيء واحد، وحل الرُّوح الإلهي فيهم سوية. ¬
الفرقة الرابعة من الغلاة: المغيرية.
فقاتل الله هؤلاء ما أشد فريتهم! وأشنع مريتهم! لقد تجاوزوا النصارى في قولهم بالثلاثة. ومن العجائب أن آية المباهلة إنّما أنزلت لبيان كذب النصارى في قولهم: ثالث ثلاثة، أو قولهم بألوهية ثلاثة، وإنَّما الله تعالى إله واحد، وهؤلاء الداعين يقولون: سادس ستة، أو يقولون بألوهية ستة (¬1)! الفرقة الرّابعة من الغلاة: المغيرية. أصحاب المغيرة بن سعد العجلي، ادعى أن الإمام بعد محمّد ابن علي بن الحسين: محمّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين الخارج بالمدينة، وزعم أنّه حي لم يمت، ثمّ ادعى الإمامة لنفسه بعد محمّد، وادعى النبوة لنفسه، وغلا في حق علي رضي الله تعالى عنه غلوًا لا يعتقده عاقل، وتبعه أصحابه. وقالوا جميعًا: إنَّ معبودهم صورة وجسم ذو أعضاء عدد حروف المعجم، وأمثالها صورته سورة من نور، على رأسه تاج، وله قلب تنبع منه الحكمة بخلق الاسم الأعظم، فطار فصار على رأسه تاجًا، وكتب على كفه أعمال العباد، فغضب من المعاصي، فعرق فخرج من عرقه البحر، إلى غير ذلك من الكفر الصريح، والضلال القبيح، ثمّ وقعوا في أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - تضليلًا وتكفيرًا؛ ¬
الفرقة الخامسة من الغلاة: المنصورية.
قبحهم الله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا (¬1). الفرقة الخامسة من الغلاة: المنصورية. أصحاب أبي المنصور العجلي، زعم الانتساب إلى محمّد الباقر، فتبرأ منه الباقر وطرده، فلما توفي الباقر رضي الله تعالى عنه قال: انتقلت الإمامة إليَّ، وتظاهر بذلك، فتبعه جماعة بالكوفة. ولما ادعى الإمامة لنفسه زعم أنّه عرج به إلى السَّماء، ورأى معبوده، ومسح رأسه بيده، وقال: يا بني! انزل فبَلِّغْ عني، ثمّ أهبط إلى الأرض. وكان يقول لأصحابه: فِيَّ نزل: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} [الطور: 44]. وكان يقول: الكف هو الله، والكف هو علي، فهو اتحادي حلولي. وزعم هو وأصحابه أن الرسالة والرسل لا تنقطع، وأن الجنَّة [رجل] أمروا بموالاته، وهو الإمام، والنار رجل أمروا بمعاداته، وهو خصم الإمام، وتاولوا الفرائض كلها أسماء رجال أمروا بموالاتهم، والمحرمات أسماء رجال أمروا بمعاداتهم. واستحلوا قتل مخالفيهم، وأخذ أموالهم، ووطء نسائهم. وقالوا: أول ما خلق الله عيسى بن مريم، وعلي بن أبي طالب (¬2). ¬
الفرقة السادسة من الغلاة: الخطابية.
الفرقة السّادسة من الغلاة: الخطابية. أصحاب أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب الأسدي الأجذع، زعم الانتساب إلى جعفر الصادق، فلما وقف الصادق على غلوه فيه تبرأ منه ولعنه، وأخبر أصحابه بالتبرؤ منه، وشدد في ذلك، فلما اعتزل عنه ادعى الأمر لنفسه. قال هو وأصحابه بألوهية جعفر وآبائه، وقال: هم أبناء الله وأحباؤه، وزعموا أن الأئمة أنبياء، ثمّ آلهة. وقالوا: الإلهية نور في النبوة، والنبوة نور في الإمامة، ولا يخلو العالم من هذه الأنوار. وقُتل الخبيث أبو الخطّاب بسبخة البصرة (¬1). قال في "القاموس": والخطابية - مشددة -: قرية ببغداد، وقوم من الرافضة نسبوا إلى أبي الخطّاب، كان يأمرهم بشهادة الزور على مخالفيهم، انتهى (¬2). ولما قتل أبو الخطّاب افترق قومه بعده فرقًا: - معمرية: قالوا: إنَّ الإمام بعده رجل يقال له: معمر، ودانوا به كما دانوا بأبي الخطّاب، وزعموا أن الدنيا لا تفنى، وأن الجنَّة ما يصيب النَّاس من خير ونعمة، والنار ما يصيبهم من شر وبلية، واستحلوا الخّمْرِ، ¬
الفرقة السابعة من الغلاة: الكيالية.
والزنا، وسائر المحرمات، وترك الصّلاة والفرائض. - وفريعية: قالوا: إنَّ الإمام بعد أبي الخطّاب رجل يقال له: فريع. قالوا: ظهر الإله بصورة جعفر الصادق إلى الخلق. وقالوا: كلّ مؤمن يوحى إليه، وزعموا أن منهم من هو أفضل من جبريل وميكائيل عليهما السّلام، ولا يقال لمن انتهى أجله: إنّه مات، بل رفع إلى الملكوت، وادعوا رؤية أمواتهم بكرة وعشيًا. - وعميرية: ويقال لهم: عجلية. قالوا: إنَّ الإمام بعد أبي الخطّاب عمير بن بنان العجلي، واعتقدوا ما اعتقدته المعمرية، إِلَّا أنّهم اعترفوا بأنّهم يموتون، ونصبوا خيمة بكناسة الكوفة يجتمعون فيها على عبادة الصادق. - وصيرفية: قالوا: الإمام بعد أبي الخطّاب مفضل الصيرفي، وكانوا يقولون بإلهية جعفر دون نبوته ورسالته. قال الشهرستاني: وتبرأ من هؤلاء كلهم جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وطردهم، ولعنهم؛ فإن القوم حيارى جاهلون بحال الأئمة، تائهون؛ قبحهم الله تعالى (¬1). الفرقة السابعة من الغلاة: الكيالية. أصحاب أحمد الكيال، وكان من دعاة بعض آل البيت، لعلّه ¬
الفرقة الثامنة من الغلاة: الهشامية.
سمع كلمات علية، فخلطها برأيه العاطل، وأبدع في كلّ باب كلمات غير مسموعة ولا معقولة، وربما عاند الحس، فلما وقف آل البيت على بدعته تبرؤوا منه، فصرف الدّعوة إلى نفسه، فادعى أنّه الإمام أولًا، ثمّ ادعى أنّه القائم ثانيًا. وقال هو وأصحابه: الأنبياء تارة أهل التقليد عجزة، والقائم قائد أهل النظر، وأهل النظر هم أولوا الألباب (¬1). الفرقة الثامنة من الغلاة: الهشامية. أصحاب هشام بن الحكم المشبه، وهشام بن سالم الجواليقي الناسج على منواله في التشبيه. قالوا: إنَّ بين معبودهم وبين الأجسام تشابهًا ما، ولولا ذلك لما دلت عليه. وقالوا: معبودهم جسم ذو أبعاض، وله قدر، لكن لا يشبهه شيء من المخلوقات. وحكي أنّهم يقولون: إنّه سبعة أشبار بشبر نفسه، وإنه في جهة مخصوصة، وله حركة هي فعله، وليست من مكان إلى مكان، وقالوا: إنّه بالذات لا بالقدر. وحكي أنّهم يقولون: إنّه ماسٌّ لعرشه، لا يفضل منه عنه شيء. ¬
الفرقة التاسعة من الغلاة: الزرارية.
وقالوا: إنَّ الله لم يزل عالمًا بنفسه وبالأشياء بعد كونها، ولا يقال فيه: قديم ولا محدث لأنّه صفته، والصِّفَة لا توصف. وقالوا: كلامه صفته، لا يقال: مخلوق، ولا غير مخلوق. وقالوا: الاستطاعة كلّ ما لا يكون الفعل إِلَّا به كالآلة، والجارحة، والوقت، والمكان. وقال هشام بن سالم: إنَّ معبوده على صورة إنسان أعلاه مجوف، وأسفله مصمت، نور يتلألأ، وله يد، ورجل، وعين، وأذن، وأنف، ووفرة سوداء هي نور أسود، لكنه ليس بلحم ولا دم. وقال: تجوز المعصية على الأنبياء دون الأئمة، وفرق بينهما: أن النّبيّ ينبه على وجه الخطأ فيتوب منه، بخلاف الإمام. وقالوا في علي: إنّه الله واجب الطّاعة (¬1). الفرقة التّاسعة من الغلاة: الزرارية. أصحاب زرارة بن أعين. قالوا بحدوث الصفات لله تعالى، وقبل حدوثها لم يكن حيًا، ولا عالمًا، ولا قادرًا، ولا مريدًا، ولا سميعًا، ولا بصيرًا، ولا متكلمًا. وقالوا: لا يسع جهل الإمام، ومعارفه كلها ضرورية، وكل ما يعرفه غير الإمام بالنظر فهو عند الإمام أول ضروري، ونظريات ¬
الفرقه العاشرة: النعمانية، ويقال لهم: الشيطانية.
الإمام لا يدركها غيره. وكان زرارة يقول بإمامة عبد الله بن جعفر، ثمّ مال عنه، وقال بإمامة موسى بن جعفر (¬1). وروى اللالكائي عن السدي رضي الله تعالى عنه قال: قلت لعبد الله بن حسن: إنَّ عندنا قومًا ينتحلونكم - يعني: آل البيت - يزعمون أن العلم سكب في قلوبكم. فقال: يا سدي! ليس هؤلاء منا ولا نحن منهم، من أتى منا الفقهاء وجالسهم كان عالمًا، ومن لم يأتهم منا كان جاهلًا (¬2). وعن أيوب السختياني قال: سمعت جعفر بن محمّد رحمه الله تعالى يقول: إنا والله لا نعلم كلّ ما يسألونا، ولغيرنا أعلم منا (¬3). الفرقه العاشرة: النعمانية، ويقال لهم: الشيطانية. أصحاب محمّد بن النعمان أبي جعفر الأحول الملقب: شيطان الطاق، وافقوا الهشامية في أن الله تعالى لا يعلم شيئًا حتّى يكون. وقالوا: القدرة غير الإرادة، والإرادة هي الفعل. وقالوا: معبودهم نور على سورة إنسان، ويأبى أن يكون جسمًا، ¬
الفرقة الحادية عشرة: اليوسفية.
لكن ورد في الخبر: "خَلَقَ آدَمَ عَلى صُورَتِهِ" (¬1)، فوجب تصديقه. وقالوا: إنَّ الفرقة الناجية هي الشيعة. وقيل: إنَّ هشام بن سالم، ومحمد بن النعمان أمسكا آخرآ عن الكلام في الله تعالى (¬2). الفرقة الحادية عشرة: اليوسفية. ويقال: اليونسية، أصحاب يوسف، أو يونس بن عبد الرّحمن مولى آل يقطين من مشبهة الشيعة. قالوا: إنَّ الملائكة تحمل العرش بالله، وهو أقوى منها كالكرسي تحمله رجلاه (¬3). الفرقة الثّانية عشرة: النصيرية، ويقال لهم: الإسحاقية. قالوا: ظهور الروحاني بالجسد الجثماني لا ينكر كظهور جبريل -عليه السّلام- في سورة أعرابي، وظهور الشيطان في صورة إنسان حتّى يعمل الشر، وظهور الجن في صورة شخص يتكلم على لسانه، فكذلك يقولون: ظهر الله تعالى في صورة أشخاص. قالوا: ولما كان علي وأولاده أفضل البرية بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قلنا: ¬
تتمة
ظهر الحق بصورهم، ونطق بلسانهم، فلذلك أطلقنا الإلهية عليهم بباطن الأسرار، ولذلك شبه علي بعيسى بن مريم، وبالقوة الإلهية اقتلع باب خيبر. وربما قالوا: إنَّ لعلّي مع محمّد - صلى الله عليه وسلم - شركة في النبوة، قالوا: ولذلك قال علي: أنا من أحمد كالضوء من الضوء. قال الشهرستاني: والنصيرية أميل إلى تقرير الجزء الإلهي، والإسحاقية أميل إلى تقرير الشركة في النبوة (¬1). * تَتِمَّةٌ: إذا تأملت قبائح الغلاة من الروافض من دعوى الألوهية لعلّي، ثمّ انتقالها في أولاده، علمت أنّهم بذلك كفار مشركون؛ إذ لا شك في كفر من هذا اعتقاده، ولا خلاف فيه، وإنّما الخلاف في الرفض الخالي عن المكفرات المجمع عليها، ومن المعلوم أن كفرهم لم يكن إِلَّا من غلوهم وتهورهم فيه حتّى ضلت عقولهم، وضعفت آراؤهم. وقال الدينوري في "المجالسة": حدّثنا عبد الله بن مسلم قال: ما نعلم في أهل البدع والأهواء قومًا ادعوا الربوبية لبشر غير الرافضة لأنّ عبد الله بن سبأ وأصحابه ادعوا الربوبية لعلّي فأحرقهم بالنار، وقال علي رضي الله تعالى عنه: [من الرجز] لَمَّا رَأَيْتُ الأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا ... أَجَّجْتُ نارًا وَدَعَوْتُ قنْبرًا (¬2) ¬
الإسماعيلية
قلت: هذا إن صح فعليه يتمشى ما اعتاده حكام هذه الأمصار من تحريق الرافضة بالنار. ونظير ذلك ما رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي من طريقه بإسناد جيد، عن محمّد بن المنكدر: أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنّه وجد رجلًا في بعض ضواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فجمع لذلك أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فقال علي رضي الله تعالى عنه: إنَّ هذا ذنب لم يعمل به أمة إِلَّا أمة واحدة، ففعل الله بهم ما قد علمتم؛ أرى أن نحرقه بالنار، فأمر به أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن يحرق بالنار (¬1). قال الحافظ عبد العظيم المنذري: حرق اللوطية بالنار أربعة من الخلفاء: أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الملك (¬2). وقد تقدّم حكم اللوطي في المذاهب الأربعة. وأمّا الإسماعيلية: فهم الذين يقولون بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وهو أكبر أولاده. قالوا: هو المنصوص على إمامته. ¬
وقد مات إسماعيل في حياة أبيه، فأشهد على موته، وكتب به محضرًا خشية أن تضل الشيعة فيه، ويأبى الله إِلَّا أن يضلوا، فاختلفوا فيه هل مات أم لا؟ فقيل: إنّه لم يمت إِلَّا أن جعفرًا أظهر موته تقيةً من خلفاء بني العباس. وقيل: بل موته صحيح. والفائدة في النص على إسماعيل: بقاء الإمامة في ولده، فالإمام بعده ولده محمّد بن إسماعيل، وهو السابع القائم، وإنَّما تبرأت الشيعة منه للأئمة المستورين الذين كانوا يستترون في البلاد يظهرون دعاتهم. ثمّ منهم من وقف على محمّد بن إسماعيل، وقال برجعته بعد غيبته. ومنهم من ساق الإمامة في أولاده المستورين، ثمّ في الظاهرين القائمين من بعدهم، ويقال لهؤلاء: باطنية لقولهم: إنَّ للقرآن ظاهرًا وباطنًا، والمراد منه باطنه لا ظاهره، والمتمسك بظاهره معذب بالمشقة في الاكتساب، وباطنه مؤد إلى ترك العمل بظاهره، وانجرت بهم هذه المقالة إلى الانحلال عن الدِّين. ويقال لهؤلاء أيضًا: بابكية؛ لأنّ منهم من تبع بابك الخرمي بأذربيجان، وكان يعتقد اعتقاد المجوس. ويقال لهم: محمرة للُبسهم الحمرة في أيّام بابك، أو لأنّهم كانوا
يسمون المسلمين حميرًا لأخذهم بظاهر القرآن وبالشريعة. ويقال لهم: قرامطة لأنّ أول من دعا النَّاس إلى مذهبهم يقال له: حمدان قرمط، وهي إحدى قرى واسط (¬1). وقال في "القاموس": القرامطة جيل من النَّاس، الواحد: قرمط (¬2). ويقال لهم بخراسان: ملحدة، وملاحدة، وتعليمية لقولهم: لا بد من إمام معلم. ويقال لهم: سبعية لقولهم: إنّما تدور أحكام الأئمة على سبعة سبعة كأيام الأسبوع، والسماوات السبع، والكواكب السبعة، وهي المدبرات أمرًا، والبحار السبعة، وزعموا أن النطقاء بالشرائع سبعة، وهم الرسل: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، والمهدي؛ قالوا: وهو سابع النطقاء. وقالوا: وبين كلّ اثنين من النطقاء سبعة أئمة يتممون شريعة الناطق قبلهم. قالوا: لا بد في كلّ عصر من سبعة بهم يقتدى ويهتدى، وهم متفاوتون: أحدهم: إمام يؤدِّي عن الله تعالى، وهو غاية الأدلة في دين الله. ¬
وثانيهم: حجة يؤدِّي عن الإمام، ويحمل عليه، ويحتج به. وثالثهم: ذو مصة يمص العلم من الحجة. ورابعهم، وخامسهم، وسادسهم: دعاة وأبواب؛ أكبرهم رافع يرفع درجات المؤمنين. أوسطهم مأذون بأخذ العهد على الظالمين من أهل الظّاهر فيدخلهم في ذمة الإمام، ويفتح لهم باب العلم والمعرفة. وأصغرهم مكلب لم يؤذن له في الدّعوة، بل في الاحتجاج على النَّاس، يحتج على من وجده من أهل الظّاهر حتّى يكسر عليه مذهبه بحيث يرغب عنه، ويطلب الحق من المكلب، فيدلُّه على الداعي المأذون، فيأخذ العهد عليه بشهود ككلب الصَّيد. وسابعهم: مؤمن آمن، ودخل في عهد الإمام (¬1). قالوا: والنقباء تدور أحكامهم على اثني عشر. قالوا: ومن ثمّ قررت الإمامية القطعية عدد أئمتهم اثني عشر، وإنما هي عدة النقباء. ومن مذهبهم: أن من مات ولم يعرف إمام عصره وزمانه، أو مات ولم يكن له في عنقه بيعة إمام معصوم مات ميتة جاهلية. قال العضد في "مواقفه": وأصل دعوتهم على إبطال الشرائع مع الغيارية من المجوس، راموا عند شوكة الإسلام تأويل الشرائع على ¬
وجه يعود على قواعد أسلافهم. ورأسهم: حمدان قرمط. وقيل: عبد الله بن ميمون القداح. ولهم في الدعوى مراتب: - الذوق: وهو تفرس حال المدعو هل هو قابل للدعوة أم لا، ولذلك منعوا البذر في السبخة؛ أي: دعوة من ليس قائلًا لها، والتكلم في بيت فيه سراج، أو رقعة، أو متكلم. -[ثم التأنيس باستمالة كلّ أحد بما يميل إليه من زهد وخلاعة] (¬1). - ثمّ التشكيك في أركان الشّريعة بمقطعات السور كَـ: {الم}، و {حم}، وقضاء صوم الحائض دون صلاتها، والغسل من المني دون البول، وعدد الركعات ليتعلّق قلبه بمراجعتهم فيها. - ثمّ الربط: أخذ الميثاق منه يجب اعتقاده أن لا يفشي لهم سرًا، وجوابه على الإمام في كلّ ما يشكل عليه. - ثمّ التدليس: وهو دعوى موافقة أكابر الدِّين والدنيا لهم حتّى يزداد ميله. - ثمّ التأسيس: وهو تمهيد مقدمات يقبلها المدعو. ¬
- ومن عقائدهم الفاسدة
- ثمّ السلخ عن الاعتقادات: وحينئذ يأخذون في الإباحة، والحث على استعجال اللذات، وتأويل الشرائع (¬1). فقولهم: الوضوء عبارة عن موالاة الإمام. والتيمُّم: الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام. والصلاة: عبارة عن الباطن الّذي هو الرسول بدليل أن الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. والغسل: تجديد العهد. والزكاة: تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه إلى غير ذلك من قبائح تأويلاتهم الفاسدة؛ قبحهم الله تعالى. - ومن عقائدهم الفاسدة: أن البارئ - تعالى عن قولهم - لا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، وكذلك في جميع الصفات؛ قالوا: لأنّ الإثبات الحقيقي يقتضي الشركة بينه وبين سائر الموجودات، وذلك تشبيه. وزعموا أن معنى أنّه عالم قادر: واهب العلم والقدرة، لا قام به العلم والقدرة. وربما خلطوا كلامهم بالفلسفة فقالوا: إنَّ البارئ - تعالى - أبدع بالأمر العقل التام، وبمتوسطه أبدع النفس الّتي ليست تامة، فاشتاقت النفس إلى العقل التام مستفيضة منه، فاحتاجت إلى الحركة من النقصان ¬
إلى كمال، ولن تتم الحركة إِلَّا بآلتها، فحدثت الأجرام الفلكية، وتحركت بحركة دورية بتدبير النفس، فحدث بتوسطه الطبائع البسيطة العنصرية، وبتوسط البسائط حدثت المركبات من المعادن، والنباتات، والحيوانات، وأفضلها الإنسان لاستعداده لفيض الأنوار القدسية عليه، واتصالها بالعالم العلّوي، وحيث كان العالم العلّوي مشتملًا على عقل كامل كلي ونفس ناقصة كلية يكون مصدرًا للكائنات، وجب أن يكون في العالم السفلي عقل كامل يكون وسيلة إلى النجاة، وهو الرسول الناطق، ونفس ناطقة نسبتها إلى الباطن في تعريف طرق النجاة، نسبة النفس الأولى إلى العقل الأوّل، وهو الإمام الّذي هو وصي الناطق، وكما أن تحرك الأفلاك بتحرك العقل والنفس، كذلك تتحرك النفوس إلى النجاة بتحريك الناطق والوصي، وتدور الحركات في كلّ زمان دائر على سبعة سبعة حتّى ينتهي الدور إلى الآخر، وهو دور المهدي، ويدخل زمان القيامة، ويرتفع التكليف. ثمّ قالوا: ما من فريضة، ولا حكم من أحكام الشّريعة إِلَّا وله وزان من العالم عددًا في مقابلة عدد، وحكما في مطابقة حكم؛ فإن الشرائع عوالم روحانية أمرية، والعوالم شرائع جسمانية خلقية، وكذلك التركيبات في الحروف والكلمات على وزان تركيبات الصور والأجسام. وهذه المقالات كانت طرائق قدمائهم وأسلافهم، ولما ظهر الحسن ابن الصباح أظهر دعوته، وقصر على إلزامات دعوته، واستظهر بالرجال، وتحصن بالقلاع، وكثرت شوكتهم، وخافت ملوك السوء منهم.
تنبيه
وحاصل كلامه في تقرير الاحتياج إلى العلم، ثمّ إنّه منع العوام عن الخوض في العلوم، والخواص عن مطالعة الكتب المتقدمة لئلا يطلعوا على فضائحهم، ثمّ إنهم تفلسفوا ولم يزالوا مستهزئين بالأمور الدينية والأحكام الشرعية حتّى أظهروا إسقاط التكليف، وأباحوا المحرمات، وصاروا كالحيوانات العجماوات بلا ضابط ديني، ولا وازع شرعي؛ نعوذ بالله من الضلالة والجهالة، ونسأله الصيانة في كلّ حال (¬1). * تَنْبِيهٌ: من قبائح الرافضة في التّأويل ما نقله ابن قتيبة من قولهم في قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]: إنَّ سليمان عبارة عن الإمام، ورث عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقولهم في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]: إنها عائشة رضي الله تعالى عنها. وفي قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ} [البقرة: 73]: إنّه طلحة، والزبير رضي الله تعالى عنهما. وقولهم في الخّمْرِ والميسر: إنهما أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. والجبت والطاغوت: إنهما معاوية، وعمرو بن العاص - رضي الله عنهما - (¬2). ¬
في عجائب يُرغب عن ذكرها، ويرغب العاقل عن سمعها، ولا شك أن من هذا اعتقاده فهو كافر. وروى اللالكائي عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما: أن عائشة رضي الله تعالى عنها ذكرت عند رجل فسبها، فقيل: أتسب أمك. قال: ما هي أمي. فبلغها فقالت: صدق؛ أنا أم المؤمنين، وأمّا الكافرون فلست لهم بأم (¬1). ولما اطلع جماعة من السلف الصالح على قبائح الروافض الّتي تؤذن بالانحلال عن الدِّين كفروهم، ومنهم من جعلهم شرًا من اليهود والنصارى كما روي عن الشّعبيّ، وقد ذكر منه كلامه في: التشبه بأهل الكتابين. وقال أحمد بن يونس: إنا لا نأكل ذبيحة رجل رافضي؛ كأنّه عنده مرتد (¬2). وقال محمّد بن يوسف الفريابي: ما أرى الرافضة والجهمية إِلَّا زنادقة (¬3). ¬
ولقد أخرج التشيع والغلو فيه كثيرًا من الروافض عن حيز العقل، وأدخلهم في عداد أهل الحماقة والجهل كما يدلُّ على ذلك تأويلاتهم المشار إليها آنفًا. ومن ذلك ما ذكره الحافظ المزي في "تهذيب الكمال" عن أبي الحسين بن المظفر الحافظ، عن القاسم بن زكريا المطرز قال: وردت الكوفة نكتب عن شيوخها كلهم غير عباد بن يعقوب - وكان عباد شيعيًا - فلما فرغت دخلت إليه، وكان يمتحن من يسمع منه، فقال لي: من حفر البحر؟ قلت له: الله خلق البحر. قال: هو كذلك، ولكن من حفره؟ فقلت: يذكر الشّيخ. فقال: حفره علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. ثمّ قال: من أجراه؟ قلت له: مجري الأنهار ومنبع العيون. فقال: هو كذلك، ولكن من أجرى البحر؟ فقلت: يفيدني الشّيخ. فقال: أجراه الحسين بن علي - رضي الله عنه -. - قال: وكان عباد مكفوفًا، ورأيت في داره سيفًا معلقًا وحجفة - فقلت: أيها الشّيخ! لمن هذا السيف؟
فقال: لي، أعددته لأقاتل به مع المهدي. قال: فلما فرغت من سماع ما أردت أن أسمعه منه، وعزمت على الخروج عن البلد، دخلت عليه، فسألني من حفر البحر، فقلت: حفره معاوية، وأجراه عمرو بن العاص، ثمّ وليت من بين يديه، وجعلت أمشي، وجعل يصيح: أدركوا الفاسق عدو الله فاقتلوه (¬1). ومما زعمه الروافض، ووافقهم عليه بعض سخفاء العقول ما أنكره ابن قتيبة، وغيره من أئمة الحديث قديمًا وحديثًا، ومن متأخريهم شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر العسقلاني ما ادعته طوائف منهم أنّهم يعلمون بعض المغيبات والأمور الباطنة ممّا وقع إليهم من الجفر المنسوب إلى سيدنا علي رضي الله تعالى عنه، وهو جلد جفر ادعوا أن عليًا رضي الله تعالى عنه كتب فيه كلّ ما يحتاجون إلى علمه، وكل ما يكون إلى يوم القيامة، وقد ذكر هذا الجفر هارون بن سعد العجلي، وهو رأس الزيدية، فقال: [من الطويل] ألمْ تَرَ أَنَّ الرَّافِضِينَ تَفَرَّقُوا ... وَكُلُّهُمُ فِي جَعْفَرٍ قالَ مُنْكَرا فَطائِفَةٌ قالُوا: إِمامٌ، وَمِنْهُمُ ... طَوائِفُ سَمَّتْهُ النَّبِيَّ الْمُطَهَّرا وَمِنْ عَجَبٍ لَمْ أَقْضِهِ جِلْدُ جَفْرِهِمْ ... بَرِئْتُ إِلَى الرَّحْمَنِ مِمَّنْ تَجَعْفَرا بَرِئْتُ إِلَى الرَّحْمَن مِنْ كُلِّ رافِضٍ ... بَصِير بِبابِ الْكُفْرِ فِي الدِّينِ أَعْوَرا ¬
إِذا كَفَّ أَهْلُ الْحَقِّ عَنْ بِدْعَةٍ مَضَى ... عَلَيْها وَإِنْ يَمْضُوا عَلى الْحَقِّ قَصَّرا وَلَوْ قالَ إِنَّ الفيلَ ضَبٌّ لَصَدَّقُوا ... وَلَوْ قالَ زُنْجِيٌّ تَحَوَّلَ أَحْمَرا وَأَخْلَفُ مِنْ بَوْلِ الْبَعِيرِ فَإِنَّهُ ... إِذا هُوَ للإقْبالِ وُجِّهَ أَدْبَرا فقبِّحَ أَقْوام رَمَوْهُ بِفِرْيَةٍ ... كَما قالَ فِي عِيسَى الفِرى مَنْ تَنَصَّرا (¬1) ولم يكن حب الآل وموالاتهم [من] الرفض لولا هذه العظائم؛ فإن حب آل البيت رضي الله تعالى عنهم فرض واجب، كما أن حب الصّحابة رضي الله تعالى عنهم وقول الخير فيهم، والسكوت عما شَجَر بينهم كذلك. ولقد كان الإمام الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه يوالي آل البيت، ويثني عليهم حتّى نسبته الخوارج إلى الرفض، وله فيهم - رضي الله عنه - وعنهم: [من مجزوء الكامل] آلُ النَّبِيِّ ذَرِيعَتِي ... وَهُمُ إِلَيْهِ وَسِيلَتِي أَرْجُو بِهِمْ أُعْطَى غَدًا ... بِيَدِي الْيَمِينِ صَحِيفَتِي وقال ابن أبي حاتم: أنشدنا المزني قال: سمعت الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه ينشد: [من الطويل] إِذا نَحْنُ فَضَّلْنا عَلِيًّا فَإِنَّنَا ... رَوافِضُ بِالتَّفْضِيلِ عِنْدَ ذَوِي ¬
وَفَضْلُ أَبِي بَكْرٍ إِذا ما ذَكَرْتُهُ ... رُمِيتُ بِنَصْبٍ عِنْدَ ذِكْرِي فَلا زِلْتُ وَالرَّفْضُ وَنصبٌ كِلاهُما ... بِحُبِّهِما حَتَى أُوَسَّدَ فِي الرَّمْلِ (¬1) أخبرنا شيخ الإسلام والدي: أن شيخي الإسلام أبا يحيى زكريا الأنصاري، وأبا إسحاق إبراهيم القلقشندي قالا: أنا العز عبد الرحيم ابن الفرات الحنفي، أنا قاضي القضاة تاج الدِّين عبد الوهّاب بن قاضي القضاة تقي الدِّين علي بن عبد الكافي السبكي، أنا أبي، أنا أحمد بن محمّد بن الحسن بن سالم الصواف بدمشق، أنا أبو الحسن علي بن الحسن بن محمّد بن عبد الصمد السخاوي، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمّد السلفي، أنا أبو الحسن علي بن الحسن بن الحسين الموازيني، عن القاضي أبي عبد الله محمّد بن سلامة بن جعفر القضاعي المصري كتابةً قال: قرأت على أبي عبد الرّحمن محمّد بن أحمد بن إسحاق الحلبي، قال: حدثني جدي محمّد وأحمد، قالا: سمعنا جعفر بن أحمد بن الرواس بدمشق، سمعت الربيع بن سليمان يقول: خرجنا مع الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه من مكّة يريد مِنَى، فلم ينزل واديًا، ولم يصعد شِعْبًا إِلَّا وهو يقول: [من الكامل] يا راكِبًا قِفْ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى ... وَاهْتفْ بِقاعِدِ خِيْفِها وَالنَّاهِضِ سَحَرًا إِذا فاضَ الْحَجِيجُ إِلَى ... فَيْضًا كَمْلُتَطَمِ الفُراتِ العارِضِ ¬
إِنْ كانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ ... فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلانِ أَنِّي رافِضِي (¬1) وروى أبو نعيم عن مجاهد قال: شيعة علي - رضي الله عنه -: الحكماء العلماء، الذُّبل الشفاه، الأخيار، الذين يعرفون بالرهبانية من أثر العبادة (¬2). وعن علي - رضي الله عنه - قال: " إنَّ ابنَي فاطمةَ - رضي الله عنه - اشترك فيه البرّ والفاجر، وإني كتب إلي وعهد إلي أني لا يحبك إِلَّا مؤمن، ولا يبغضك إِلَّا منافق (¬3). والمراد بحبه أن لا يبلغ التلف والغلو. وروى ابن عساكر عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا عَلِيُّ! إِنَّ الإِسْلامَ عُريانٌ، لِباسُهُ التَّقْوى، وَرِياشُهُ الْهُدى، وَزِينَتُهُ الْحَياءُ، وَعِمادُهُ الوَرَعُ، وَمِلاكُهُ العَمَلُ الصَّالِحُ، وَأَساسُ الإِسْلامِ حُبِّي وَحُبُّ آلِ بَيْتِي" (¬4). وروى أبو نعيم في "فضائل الصّحابة" رضي الله تعالى عنهم، عن علي رضي الله تعالى عنه، وابن عساكر عنه، وعن حذيفة - رضي الله عنه -: أن ¬
النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعلّي - رضي الله عنه -: "يا عَلِىُّ! إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَتَّخِذَ أَبا بَكْرٍ والِدًا، وَعُمَرَ مُشِيرًا، وَعُثْمانَ سَنَدًا، وَأَنْتَ يا عَلِيُّ ظَهْرًا، فَأَنْتُمْ أَرْبَعَة قَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَكُمْ فِي أُمِّ الْكِتابِ، لا يُحِبُّكُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضُكُمْ إِلَّا فاجِرٌ، خَلائِفُ نُبُوَّتي، وَعَقْدُ ذِمَّتِي، وَحُجَّتِي عَلَى أُمَّتِي؛ لا تَقاطَعوا، وَلا تَدابَروا، وَتَغافَروا" (¬1). وروى اللالكائي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن اللهَ تَعالَى اخْتارَ أَصْحابِيَ عَلى جَمِيعِ الْعالَمِينَ سِوى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَاخْتارَ لِي مِنْ أَصْحابِيَ أَرْبَعَةً؛ أَبا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمانَ، وَعَلِيًّا، فَهَؤُلاءِ خَيْرُ أَصْحابِي، وَأَصْحابِي كُلُّهُمْ خَيْرٌ، وَاخْتارَ أُمَّتِي عَلى سائِرِ الأُمَمِ" (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَجْتَمعُ حُبُّ هَؤُلاءِ الأَرْبَعَةِ إِلَّا فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمانَ، وَعَلِيٍّ - رضي الله عنه -" (¬3). ¬
وعن أيوب السختياني رضي الله تعالى عنه قال: من أحب أبا بكر الصديق فقد أقام الدِّين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب علي بن أبي طالب فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب محمّد - صلى الله عليه وسلم - فقد برئ من النفاق (¬1). * * * ¬
فَصْلٌ حيث ذكرنا لك هنا اعتقادات الفرق الهالكة لتكون حَذورًا من التشبه بهم في تلك الاعتقادات الفاسدة، فينبغي أن نذكر هنا عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة من السلف والخلف، وهم الفرقة الناجية، منهم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري رحمهم الله تعالى، وحشرنا في زمرتهم لتكون حريصًا على التشبه بهم في ذلك إمّا بطريق الاستدلال بالأدلة القاطعة إنَّ كنت من أهله، وإما بالاعتقاد الجازم الّذي لا يتداخله شك. فنعتقد أن الله تعالى واجب الوجود، وقديم أزلي، لا ابتداء له، باقٍ أبديٌّ لا انتهاء له، وهو واحد لا ينقسم ولا يشبه بوجه، لا تشبه ذاته الذوات، ولا صفاته الصفات، ليس بجوهر، ولا جسم، ولا عرض لأنّها حوادث، وهو منزه عن الحدوث، والمكان، والزمان، وليس هو كغيره محلًّا للحوادث، ولا يحل في شيء، ولا هو في حيز ولا جهة، ولا تصح عليه الحركة والانتقال، ولا الجهل ولا الكذب، ولا شيء من صفات النقص، ولم يزل سبحانه موجودًا بأسمائه وصفات ذاته.
وهي: الحياة، والعلّم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام. فهو حي، عليم، مريد، قدير، سميع، بصير، متكلم. وهي صفات أزلية قائمة بذاته سبحانه. وما ورد في الكتاب والسُّنَّة من مشكلات الصفات كالوجه، والعين، والطرف، والنظر، واليد، والروح، والنفس، والاستواء، والنزول نثبته؛ أي: نعتقد أنّه ثابت كما هو، ونؤمن به بما يظهر لنا من معناه، وما أشكل علينا واشتبه فوَّضنا علمه إلى الله تعالى كما هو مذهب السلف مع التنزيه له سبحانه عن ظاهره، وجهلُنا بتفصيله لا يقدح في اعتقادنا المراد منه مجملًا. أو أولناه بما يليق بجلال الله تعالى كما هو مذهب الخلف. قال الجد الرضي الغزي رحمه الله تعالى: والتسليم أسلم، والتأويل أحكم (¬1). ¬
والقرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق، وهو محفوظ في صدورنا، مكتوب في مصاحفنا، مقروء بألسنتنا. والله سبحانه وتعالى خلق العباد وأعمالهم، وهو غني عن العالمين، ولا خالق غيره. والقدر منه سبحانه وتعالى خيره وشره، وكل شيء بقضاء وقدر حتّى العجز والكَيْس. خلق هذا العالم البديع من غير حاجة منه إليه. ولا يجب على الله تعالى شيء، بل هو فعال لما يريد، فإن أثاب الطائعين فمن فضله، وإن عاقب العاصين فبعدله إِلَّا أن يغفر بفضله ما دون الشرك ممّا يشاء من العباد، وله أن يثيب العاصي، ويعاقب المطيع، ويؤلم الطفل والدابة لأنّه لا يسأل عما يفعل (¬1)، ويستحيل وصفه بالظلم، والسعيد سعيد الأزل، والشقي شقي الأزل. وقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]؛ أي: في اللوح المحفوظ. {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]؛ أي: أصله الّذي لا يغير منه شيء، كما قال ابن عبّاس، وغيره (¬2). ¬
والرضا والمحبة غير الإرادة والمشيئة، فهو الهادي والمضل حقيقة، لا يكون في ملكه إِلَّا ما يشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يجب لهم العصمة والتوفيق. خلق قدره الطّاعة في العبد، وضده الخذلان، خلق قدره المعصية في العبد، ثمّ للعبد ما كسب وعليه ما اكتسب، ولا حجة على الله تعالى، ولله الحجة البالغة. والختم والطبع والأكنة والران المذكورة في القرآن كلها بمعنى خلق الضلالة في القلب. أرسل الله سبحانه وتعالى رسله إلى خلقه مؤيدًا لهم بالمعجزات، وخص محمدًا - صلى الله عليه وسلم - منهم بأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وينزل عيسى عليه السّلام في آخر الزّمان مقررًا لشريعته. وأفضل المرسلين محمّد - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ إبراهيم، وموسى، ونوح، وعيسى عليهم الصّلاة والسلام. وهؤلاء هم أولوا العزم على الأصح. وقيل: كلهم، وتقدم الكلام على ذلك. ثمّ أفضل الخلق بعد هؤلاء بقية الرسل، ثمّ بقية الأنبياء، ثمّ خواص الملائكة، ثمّ البشر. وأفضل البشر بعد الأنبياء عليهم السّلام أبو بكر، فعمر، فعثمان، فعلي، فبقية العشرة، فبقية أهل بدر، فبقية أهل بيعة الرضوان رضي الله تعالى عنهم.
والإيمان: التصديق بالقلب بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، واليوم الآخر. والتلفظ بالشهادتين؛ قيل: شرط للإيمان، وعليه إمام الحرمين، والغزالي، وغيرهم. وقيل: شطر منه، وعليه الجمهور. ولا يستكمل العبد الإيمان إِلَّا بالأعمال الصالحة الّتي هي شعب الإيمان، وهو معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل ونية، ويزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية (¬1). ولا يذهب الفسق الإيمان، بل من مات مصدقًا بقلبه وهو فاسق بما دون الشرك مات مؤمنًا، وهو تحت المشيئة؛ إن شاء الله عاقبه، وإن شاء عفا عنه، ولا يخلد في النّار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. ونؤمن؛ أي: نصدق بالبعث بعد الموت، والإعادة للروح والجسد، وعذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين، والحشر، والقيام لرب العالمين، والشفاعة، والحوض، والرؤية، والصراط، والميزان، والحساب، والجنة والنار، وأنّهما مخلوقتان موجودتان الآن، ونؤمن أن المؤمنين يرون ربهم -عَزَّ وَجَلَّ - يوم القيامة، وفي الجنَّة، ويحجب الكفار عن رؤيته كما جاء بذلك الكتاب والسُّنَّة. ¬
ونصب الإمام واجب على النَّاس لسد الثغور، وتجهيز الجيوش، وقهر المتغلبة والمتلصصة -ولو كان المنصوب مفضولًا- فإن نصبه يكفي في الخروج من عهدة هذا الواجب، ولا يجوز الخروج عليه وإن جارٍ. والصحابة - رضي الله عنهم - كلهم عدول أخيار، وما شجر بينهم نسكت عنه، ونرى أن الكل مأجورون، وكان علي رضي الله تعالى عنه على الصواب فله أجران. وأول الخلفاء الراشدين أبو بكر رضي الله تعالى عنه، والخلفاء على ترتبيهم في الفضيلة رضي الله تعالى عنهم، ولم يثبت عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قبل الإسلام حالة كفر، بل كان ملحوظا بالرضا والتوفيق. وروى ابن عساكر عن أبي العالية الرياحي قال: قيل لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في مجمع من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل شربت الخَمْرِ في الجاهلية؟ فقال: أعوذ بالله! فقيل: ولم؟ قال: كنت أحفظ مروءتي، وأصون عرضي؛ فإن من شرب الخَمْرِ كان مضيعًا لعرضه ومروءته. قال: فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ" مرتين (¬1). وعائشة رضي الله تعالى عنها بريئة في كلّ ما وقع فيه أصحاب ¬
الإفك، برَّأها الله تعالى، ومن قذفها بعد تبرئته إياها فهو كافر، ومن أنكر صحبة أبيها فهو كافر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم. وأئمة المذاهب الأربعة أبو حنيفة، ومالك، والشّافعيّ، وأحمد، وسائر أئمة المسلمين [ ... ] (¬1) رضي الله تعالى عنهم كالسفيانين، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وداود الظاهري -دون أئمة المبتدعة- على هدى من ربهم في العقائد وغيرها، ولا التفات إلى من تكلم فيهم بما هم بريئون منه، واختلافهم في الفروع رحمة، وهم مثابون على اجتهادهم. وأبو الحسن الأشعري إمام في السُّنَّة، مقدم في الطريق في الاعتقاد على غيره. وأبو القاسم الجنيد، وأمثاله من الصوفية كأبي الحسن الثّوريّ، وأبي محمّد الحريري، وابن عطاء، وسائر رجال "الرسالة" لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، و"الحلية" لأبي نعيم الأصبهاني، ومن كان على طريقتهم من المتأخرين كأبي عبد الرّحمن السلمي، وأبي على الدقاق، والقشيري، والغزالي، وأخيه، والسهروردي، والشيخ عبد القادر الجيلاني، وطبقة بعد طبقة إلى عصرنا كلهم على طريقة السداد، والعمل بالكتاب والسُّنَّة، والبراءة من البدعة، دون من انحرف عن هذه الطريقة. ¬
وفي طريقتهم ألفية جدي رضي الله تعالى عنه المسماة بِـ: "الجوهر الفريد في أدب الصوفي والمريد"، وشرحها الّذي كتبته عليها، وسميته: "منبر التّوحيد"، وقد جمعت فيه بتوفيق الله متفرقات الطريق على وجه التحقيق؛ فعليك بالتشبه بهؤلاء كلهم، والعمل بطريقتهم، لعلّك تحشر معهم. وأخبرنا والدي شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إجازةً عن القاضي زكريا، عن ابن الفرات، عن أبي حفص المراغي، وجماعة قالوا: أنا الفخر أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد عُرف بابن البخاري، عن أبي المكارم أحمد بن محمّد بن اللَّبَّان، وأبي الحسن مسعود بن محمّد بن أبي منصور الكمال قالا: أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد، أنا الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ثنا محمّد بن عمر بن سالم، ثنا جعفر بن محمّد الفريابي، ثنا المسيَّب بن واضح، ثنا ابن إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي قال: كان يقال: خمس عليها أصحاب محمّد - صلى الله عليه وسلم - والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السُّنَّة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله (¬1). وبه إلى أبي نعيم: ثنا أبو جعفر محمّد بن عبد الله بن عروة قال: سمعت يوسف بن موسى القطان يحدث أن الأوزاعي قال: رأيت رب العزة سبحانه وتعالى في المنام، فقال لي: يا عبد الرّحمن! أنت الّذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ ¬
فقلت: بفضلك يا رب. فقال: تمن علي؟ فقلت: يا رب أمتني على الإسلام. فقال: وعلى السُّنَّة (¬1). وقال أبو القاسم الأصبهاني في "ترغيبه": أنا عبد الواحد بن إسماعيل الروياني في كتابه، أنا أبو محمّد الحباري قال: سمعت أبا محمّد الحسين بن علي سنة تسعين - بتقديم التاء - ومئتين يقول: علامة أهل السُّنَّة كثرة الصّلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. - ومن اللطائف: ما رواه الدينوري عن الشّعبيّ رحمه الله تعالى قال: أحب أهل بيت نبيك - صلى الله عليه وسلم - ولا تكن رافضيًا، واعمل بالقرآن ولا تكن حروريًا، واعلم أن ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، ولا تكن قدريًا، وأطع الإمام ولو كان عبدًا حبشيًا (¬2). ونقل الأستاذ أبو القاسم القشيري في جزء جمع فيه كلام أبي علي الدقاق نقلًا عنه؛ قال: وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: نحن وأصحابنا قاصدون إلى الله تعالى، وأهل البدع راجعون عنه، وأهل الغفلة يدورون يَمْنة وَيسْرة، وقعوا في الوحل و [ ... ] (¬3). * * * ¬
المقام الثاني في النهي عن التشبه بغير المبتدعة من الفسقة
المَقَامُ الثَّانِي فِي النَّهْي عَنِ التَّشَبُّهِ بغَيْرِ المُبْتَدِعَةِ مِن الفَسَقَةِ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18، 19]. نهى الله تعالى المؤمنين عن التشبه بالفاسقين إشارة إلى أن الإيمان لا يكمل إِلَّا بالتقوى، والتنزه عن الفسق. وروي عن محمّد بن النضر الحارثي رحمه الله تعالى - مرسلًا - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإِيْمانُ عَفِيفٌ عَنِ الْمَحارِمِ، عَفِيفٌ عَنِ الْمَطامعِ" (¬1). قال سفيان في الآية: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم. وقال مقاتل: {نَسُوا اللَّهَ}: تركوا أمره. {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]: أن يعملوا خيرًا. بل قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: نسوا الله عند ¬
الذنوب فأنساهم أنفسهم عند التوبة. نقل ذلك القرطبي، وغيره (¬1). وقول سهل من أحسن التفاسير، ويدلُّ عليه قول تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]، لأنّ الفسق لا يدوم مع التوبة. والمعنى: إنَّ من نسي الله تعالى عند ارتكاب الذنب فلم يذكر عظمته، بل عصاه غير خائف منه، ولا مستحي من اطلاعه عليه، ولم يعقب معصيته ندمه عليها، فربما كان ذلك سببًا لمنعه عن التوبة، فيحق عليه اسم الفسق، بخلاف من أتبع الذنب بالندم والخوف والحزن؛ فإن حسنته تذهب سيئته، فلا يحق عليه اسم الفسق. وروى الإمام أحمد، والنسائي، والطبراني، والبيهقي عن حذيفة - رضي الله عنه -، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ بلُحُونِ العَرَبِ وَأَصْواتِها، وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْكِتابَيْنِ، وَأَهْلِ الْفِسْقِ؛ فَإِنَّهُ سَيَجِيْءُ بَعْدِيَ قَومٌ يُرَجِّعُونَ بِالْقُرآنِ تَرْجِيعَ الْغِناءِ وَالرَّهْبانِيَّةِ وَالنَّوْحِ، لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُمْ، مَفْتُونةٌ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ مَنْ يُعْجِبُهُمْ شَأْنهمْ" (¬2). هذا الحديث يدلُّ على النّهي عن التشبه بأهل الفسق في ظاهر أعمالهم -وإن لم يكن المتشبه بهم على مثل قلوبهم- فإن التشبه بهم في بعض الأعمال قد يفضي بالمتشبه إلى التشبه بهم في التوغل في ¬
الفسق، ونسيان عظمة الله تعالى عند المعصية، فإذًا التشبه بهم منهي على كلّ حال. وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108]. فالمتشبه بالفاسق متعرض لحرمان الهداية من الله تعالى، وأي مصيبة وراء هذه المصيبة؟ {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]. قوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]؛ أي: خرج عنه فلم يمتثل أمره، ولم يطعه فيه، فالشيطان أول من فسق، وكل فاسق فالشيطان إمامه وقدوته. وقال قطرب: في الكلام حذف، والتقدير: ففسق عن [رد] أمر ربه؛ أي: بسبب رده أمر الله تعالى (¬1). {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50]، بعد أن علمتم بفسقه وفسق ذريته، والحال أنّهم أعداء لكم؟ فإذا كان الذم واقفًا على موالاة الفاسق فكيف بمتابعته في الفسق، وتشبهه به فيه؟ وقوله تعالى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]، لم يقل: لهم، ¬
بل وضع الظّاهر موضع المضمر، ووصفهم بالظلم إشارة إلى تعليل ذمهم بالظلم، وهو موالاة الفاسق مع عداوته، وليس ذلك تركيبًا للعلّة، بل الفاسق لا ينبغي أن يوالى مع فسقه ولو كان صديقًا، فكيف يوالى وهو عدو؟ وروى ابن مردويه عن كثير بن عطية، عن رجل، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنّه قال: "اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لِفاجرٍ وَلا فاسِقٍ عِنْدِيَ يَدًا وَلا نِعْمَةً، فَيَوَدَّهُ قَلْبِي" (¬1). سأل ربه -عَزَّ وَجَلَّ- أن يجنبه نعمة الفاسق لئلا تؤدي به إلى أن يكون له في قلبه ميل إليه ومودة له؛ إذ القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها كما تقدّم في أول الكتاب، ثمّ الحب والمودة قد تؤدي إلى التشبه بالمودود. وقال سفيان الثّوريّ رحمه الله تعالى: إنِّي لألقى الرَّجل أبغضه، فيقول لي: كيف أصبحت؟ فيلين له قلبي، فكيف ممّن أكل ثريدهم ووطئ بساطهم؟ رواه أبو نعيم (¬2). فيتعين على العبد تجنب الفاسقين، والتباعد عنهم بقدر الإمكان، وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره (¬3). ¬
ثمّ الفسق في اللُّغة: الخروج عن الشيء. وحقيقته في الشّرع كما قال القاضي أبو الحسن الماوردي: فيمن يكون مسخوط الدِّين والطريقة لخروجه عن الاعتدال، ولذلك كانت العدالة مقابلة للفسق، والعَدْل مَنْ كان مرضي الدِّين والمروءة (¬1). ويتحقق فسق العبد بارتكابه لكبيرة، أو إصراره على صغيرة، أو غلبة الصغائر عليه. وهل الإخلال بالمروءة يخل بالعدالة أم لا يخل بها ولكنه يخل بقبول الشّهادة؟ قولان، وبالثّاني جزم القرطبي، والنووي في كتب الفقه. وبالأول أخذ الأصوليون، وغيرهم، وهو الّذي جزم به القرطبي في "تفسيره" (¬2). وعليه: فالإخلال داخل في مسمى الفسق. وقد اختلف أصحابنا في تعاطي ما يخل بالمروءة، هل يحرم أم لا؟ على ثلاثة أوجه، ثالثها: يحرم أن تحمل شهادته. ولما كان كتابنا هذا موضوعه على التنزه من الرذائل كلها، ناسب أن ندخل في الفسق الإخلال بالمروءة ليكون ذلك داخلًا في النّهي عن ¬
التشبه بالفساق، وليكون الكتاب جامعًا للنهي عن كلّ ما ليس مستحسنًا في الشّرع. على أن من يقول بإباحة تعاطي ما يخل بالمروءة لا يسعه أن يقول: إنّه غير مكروه، ولا خلاف الأولى، وهما داخلان في قسم المنهي عنه، على أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التشبه بمرتكبهما، وذلك فيما رواه الإمام أحمد، والشيخان، والنسائي، وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبد الله! لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانِ؛ كانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيامَ اللَّيْلِ" (¬1). وذكر الغزالي في "الإحياء": أن المباح يصير بالمواظبة عليه صغيرةً؛ كالشطرنج، والترنم بالغناء على الدوام (¬2). وأراد بالمباح بعض أقسامه، وهو المكروه وخلاف الأولى بدليل التمثيل، ولأن من المباح ما لا يتأتى فيه ما ذكر قطعًا كالأكل، والنكاح. فإذًا لتشبه بالفساق يحصل بأحد ثلاثة أمور: الأول: ارتكاب كبيرة. الثّاني: الإصرار على صغيرة، أو غلبة الصغائر. ¬
الثّالث: الإخلال بالمروءة إذا اتخذه ديدنًا أو عادة، وهو داخل فيما قبله على أحد الأقوال. فتعين أن نشير إلى الكبائر، والصغائر، وما يخل بالمروءة، وذلك في ثلاثة فصول.
الفصل الأول
الفَصْلُ الأوَّلُ اختلف العلماء في تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر، فقال بعضهم: لا صغيرة، والذنوب كلها كبائر من حيث النظر إلى عظمة من يعصى بها، ويخالف أمره. روى أبو نعيم بسند ضعيف، عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تَنْظُرُوا إِلَى صَغِيرِ الذُّنُوبِ، وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى مَنِ اجْتَرَأْتُمْ". قال أبو نعيم: وهو مشهور من قول بلال بن سعد (¬1). والأصح أن من الذنوب كبائر، ومنها صغائر. الكبائر: لا يكفرها إِلَّا التوبة، وبعض الطاعات المخصوصة كالهجرة، والحج. والصغائر: تكفرها الطاعات، واجتناب الكبائر. ¬
قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]. وقال تعالى: {الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. وروى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّلَواتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضانُ إِلَى رَمَضانَ مُكَفِّراتٌ لِما بَيْنَهُنَّ ما اجْتُنِبَتِ الْكَبائِرُ" (¬1). وروى مسلم عن عمرو بن سعيد بن العاص قال: كنت عند عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فدعا بطهور ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبةٌ، فَيُحْسِنُ طُهُورَها وَخُشُوعَها إِلَّا كانَ كَفَّارَةً لِما قَبْلَها مِنَ الذُّنُوبِ ما لَمْ يَأْتِ كَبِيرةً" (¬2). وأنشد الحافظ ابن حجر العسقلاني في عقب إملائه هذا الحديث لنفسه: [من الرمل] أَحْسِنِ التَّطْهِيرَ وَاخْشَعْ قانِتًا ... مُطْمَئِنًّا فِي جَمِيعِ الرَّكَعاتِ فَهْيَ كَفَّارَةُ ما قَدَّمْتَهُ ... مِنْ صَغِيرِ الذَّنْبِ إِنَّ الْحَسَناتِ وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، عن ¬
أبي ذر رضي الله تعالى عنه، والإمامُ أحمد، والترمذي، والبيهقي في "السنن" عن معاذ، وابنُ عساكر عن أنس رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتَّقِ اللهَ ما اسْتَطَعْتَ، وَأتبعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُها، وَخالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" (¬1). وأنشد شيخ الإسلام والدي رحمه الله تعالى عقب إملائه لهذا الحديث نفسه: [من الرمل] اتَّقِ اللهَ تَعالَى ما اسْتَطَعْـ ... ـتَ وَأتبعْ سَيِّئاتٍ حَسَنَة خالِقِ النَّاسَ بِخُلْقٍ حَسَنٍ ... ذَا الْحَدِيثُ التِّرْمِذِيْ قَدْ حَسَّنَه وقلت في عقده: [من الرمل] خالِقِ النَّاسَ بِخُلْقٍ حَسَنٍ ... ثُمَّ أتبعْ سَيِّئًا بِالْحَسَنِ وَاتَّقِ اللهَ تَعالَى ما اسْتَطَعْـ ... ـتَ رَواهُ التِّرْمِذِيْ فِي السُّنَنِ وروى أبو يعلى - ورجاله رجال الصحيح - عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنّه قال: يا رسول الله! علمني شيئًا يقربني من الجنَّة، ويباعدني من النّار. ¬
قال: "إِذا عَمِلْتَ سَتئَةً فَأَتْبِعْها حَسَنَةً". قال: قلت: أَمِنَ الحسنات لا إله إِلَّا الله؟ قال: "هِيَ أَحْسَنُ الْحَسَناتِ" (¬1). وقلت في معناه: [من السريع] إِذا أَصَبْتَ الذَّنْبَ فَفِي عُقْباهُ ... أَحْسِنْ عَمَلًا عَساهُ أَنْ يُمْحاهُ وَالذِّكْرُ أَجَلُّ كُلِّ ما تُحْسِنُهُ ... وَالأَحْسَنُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ والأحاديث في ذلك كثيرة. ثمّ اختلفوا في ضبط الكبيرة، فمنهم من ضبطها بالحد، فقيل: ما ورد عليه بخصوصه توعد شديد. وقيل: ما وجب على فاعله حد (¬2). واختار الوالد الجمع بين القولين. وقيل: ما عظم ضرره في الوجود. وجمع القرطبي بينه وبين الأوّل، فقال: كلّ ذنب عظَّم الشّرع التوعد فيه بالعقاب وشدده، أو عظم ضرره في الوجود فهو كبيرة (¬3). ¬
ووراء ذلك أقوال أخر، وما ذكرناه أقرب الأقوال إلى الصواب. ومنهم من ضبطها بالعد، فقيل: هي أربع، وقيل: سبع. وقال ابن عبّاس: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وفي رواية: هي إلى السبعمئة أقرب. رواه ابن جرير (¬1). قال العلماء: وذلك باعتبار كثرة أنواعها وأصنافها. وبلغ بها الوالد رحمه الله تعالى أكثر من مئة، وهو حاصل ما ذكره أصحابنا الشّافعيّة رحمهم الله تعالى، وهي بعد الشرك بالله تعالى: 1 - قتل النفس بغير حق؛ ولو نفس القاتل. 2 - وقطع عضو من نفسه أو غيره إِلَّا بحكم الشّرع. 3 - وإتلاف منفعة العضو. 4 - والزنا. 5 - واللواط. 6 - وشرب الخَمْرِ وسائر المسكرات. 7 - والسرقة. 8 - والغصب. 9 - والقمار. ¬
10 - والرشوة. 11 - والربا. 12 - وأكل مال اليتيم. 13 - والخيانة في الكَيل والميزان، ونحوهما. 14 - والمُكْس. 15 - وشهادة الزور. 16 - وكتم الشَّهادة المتعينة ما لم يخش ضررًا. 17 - واليمين الغَموس. 18 - وعقوق الوالدين. 19 - وقطيعة الرّحم. 20 - وترك الصّلاة. 21 - والصلاة مع الحدث. 22 - وتقديمها وتأخيرها بلا عذر. 23 - وترك الجمعة ممّن تعينت عليه. 24 - ومنع الزَّكاة. 25 - وتأخير الحجِّ مع الاستطاعة وخوف العضب؛ على أن من مات بعد تمكنه من الحجِّ سنين تبين بعد موته أو عضبه فَسقَ في السنة الأخيرة. ومن قال بأن وجوب الحجِّ على الفور يحكم بالفسق بمجرد
التأخير مع الاستطاعة، فيكون كبيرة. 26 - وكذلك إفساده - ولو كان تطوعًا - بالجماع قبل التحللين. 27 - والفطر في رمضان بغير عذر. 28 - والفرار من الزحف. 29 - والأمن من مكر الله. 30 - واليأس من رحمة الله تعالى. 31 - والكذب على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. 32 - وسب الصّحابة؛ ولو واحدًا منهم. 33 - واستحلال اللعنة. 34 - وإيذاء أولياء الله تعالى؛ ولو واحدًا. 35 - وترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ما لم يخش ضررًا. 36 - ونسيان القرآن بعد حفظه. 37 - والوقيعة في أهل القرآن وأهل العلم. 38 - والتسبب في شتم الأبوين. 39 - والرياء. 40 - والمَن. 41 - والابتداع في الدِّين. 42 - والدعوة إلى البدعة.
34 - والتكبر. 44 - والإسبال خيلاءَ؛ بل الاحتياط مطلقًا. 45 - والحسد. 46 - والحقد. 47 - والغِل. 48 - وسوء الظن بالله تعالى. 49 - وإيقاع الفتنة بين المسلمين. 50 - ودلهم أعداءهم على عوراتهم. 51 - والإشارة إلى مسلم بسلاح ونحوه؛ بل ترويعه مطلقًا لغير تعزير مطلقًا. 52 - وقذف المحصنات. 53 - والسحر، والكهانة، وطلبهما، والسِّعاية. 54 - وضرب المسلم بغير حق. 55 - وقتل ما لا يضر من الحيوانات كالهرة. 56 - وحرق الحيوان. 57 - والغُلول. 58 - وقطع الطريق. 59 - والنميمة.
60 - وأكل الميِّتة، والدم المسفوح، والخنزير إِلَّا المضطر. 61 - والوطء في الحيض. 62 - وإتيان البهيمة. 63 - والظهار. 64 - والسحاق. 65 - والدياثة و [ ... ] (¬1) 66 - والتحليل. 67 - واللعب بالنرد. 68 - وتصوير الحيوانات. 69 - والانتساب إلى غير الآباء، أو إلى غير الموالي. 75 - وبيع الحر، وأكل ثمنه. 71 - ومهر البغي. 72 - وحُلوان الكاهن. 73 - وثمن الخَمْرِ. 74 - وثمن الكلب. 75 - ومنع فضل الماء عن المحتاجين وأبناء السبيل. 76 - والخروج على الإمام؛ ولو جائرًا. ¬
77 - والإضرار في الوصيَّة. 78 - ووسم وجوه الحيوان. 79 - وتغيير منار الأرض. 80 - وتخبيث العبد على سيده، والزوجة على بعلها، والابن على أبيه أو أمه. 81 - والمِراء. 82 - والتلدُّد في الخصومات مع كثرتها. 83 - وتشبه الرَّجل بالمرأة، والمرأة بالرجل. ويقال للأول: تخنيث، وتخنث، وللثاني: ترجل. 84 - وكفران النعمة. 85 - وجحد الحق. 86 - والبغي. 87 - والعشق. 88 - والغدر. 89 - والمكر. 90 - والخديعة إِلَّا في الحرب، أو في استخلاص الحق. 91 - وتعلم العلم للدنيا. 92 - وكتمان العلم عن السائل عنه إذا تعين الإظهار، ولم يخش ضررًا.
93 - واعتياد أن لا يستبرئ من البول والغائط. 94 - والإصرار على صغيرة. 95 - والاستكثار من الكبائر. 96 - والاستهانة بالذنب، والتجاهر به، والتبجح والافتخار به، والسرور به. وبهذه الأمور تصير الصغيرة كبيرة كما نصّ عليه حجة الإسلام في "الإحياء" (¬1). وكذلك نصّ عنه أنّها تفسير كبيرة بكون الآتي بها عالمًا يقتدى به، ومحل ذلك أن يأتي العالم بالمعصية في ملأ بحيث لا يأمن أن تحكى عنه، وهو ظاهر وجيه. روى أبو نعيم - وقال: صحيح - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنْ شِرارِ أُمَّتِي الْمُجاهِرِينَ". قيل: يا رسول الله! وما المجاهرون؟ قال: "الَّذِي يُذْنِبُ بِاللَّيْلِ فَيَسْتُرُ اللهُ عَلَيهِ، فَيُصْبحُ، فَيُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذا وَكَذا، فَيَهْتِكُ سِتْرَ اللهِ عَلَيهِ" (¬2). وروى الدينوري عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ¬
قال: من أعظم الذنب أن يستخف الرَّجل بذنبه (¬1). وعن القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنّه سئل: من أعظم النَّاس ذنبًا؟ قال: أعظم النَّاس ذنبًا أن يستخف المرء بذنبه (¬2). وعن العوَّام بن حوشب أنّه قال: الابتهار بالذنب أعظم من ركوبه. قال ابن قتيبة: هو أن يقول الرَّجل: زنيت ولم يزن، وقتلت ولم يفعل؛ يتبجح بذلك ويفتخر به. يقول: فذاك أشد على الرَّجل من ركوبه لأنّه لم يدعه على نفسه إِلَّا وهو لو قدر عليه لفعل، فهو كفاعله بالنية، وزاد على ذلك بهتكه ستر نفسه، وقحته وقلة مبالاته به. قال: ويقال: ابتهر الشاعر الجارية إذا قال: زنيت بها، ولم يفعل (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَخافُ عَلى أُمَّتِي ثَلاثًا: زَلَّةَ عالِمٍ، وَجِدالَ مُنافِقٍ بِالقُرْآنِ، وَالتَّكْذِيبَ بِالقَدَرِ" (¬4). ¬
وروى عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن عبد الله بن أبي جعفر رحمه الله تعالى قال: قيل لعيسى - عليه السّلام -: يا روح الله وكلمته! من أشد النَّاس فتنة؟ قال: زلة عالِم؛ إذا زل زل بزلته عالَم كثير (¬1). وعن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال: يهدم الإيمان ثلاثة: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون (¬2). وقد قيل: [من الرمل] زَلَّةُ العالِمِ مُسْتَعْظَمَةٌ ... إِذْ بِها أَصْبَحَ فِي النَّاسِ مَثَل وروى الدرامي عن هرم بن حيان رحمه الله تعالى أنّه قال: إياكم والعالم الفاسق. فبلغ عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه، فكتب إليه: وأشفق منها في العالم الفاسق. قال: فكتب إليه هرم: يا أمير المؤمنين! والله ما أردت إِلَّا الخير؛ يكون إمام يتكلم بالعلّم، ويعمل بالفسق، فيشبه على النَّاس، فيضلوا (¬3). وروى أبو نعيم عن موسى بن أعين قال: قال لي الأوزاعي رحمه ¬
تنبيه
الله تعالى: يا أبا سعيد! كنا نمزح ونضحك، فأمّا إذ صرنا يقتدى بنا ما أرى يسعنا التبسم (¬1). * تَنْبِيهٌ: من الكبائر الّتي لم أجد من نبه عليها من الفقهاء: الأنفة عن قبول النصيحة، وعن امتثال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إِلَّا أن يكون داخلًا في الكبر، بل هو من أقبح أنواعه. قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206] الآية. وروى البيهقي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عثه: من أكبر الذنب عند الله أن يقول الرَّجل لأخيه: اتق الله، فيقول: عليك نفسَك (¬2). وروى الدينوري عن الحسن رحمه الله تعالى قال: ما من صاحب كبيرة لا يكون وَجِل القلب إِلَّا كان ميت القلب (¬3). ¬
وروى أبو نعيم عنه قال: إنَّ أفسق الفاسقين الّذي يركب كلّ كبيرة، ويسحب على ثيابه ويقول: ليس عليك بأس، سيعلم أن الله ربما عجل العقوبة في الدنيا، وربما أخرها ليوم الحساب (¬1). * * * ¬
الفصل الثاني
الفَصْلُ الثَّاني الصغائر كثيرة، وحصرها عَسِر، ولكن منها: 1 - نظر الرَّجل إلى امرأة أجنبية كبيرة إِلَّا لمعاملة ونحوها بقدر الحاجة. - وإلى ما بين السرة والركبة من ذات محرمية غير الحليلة. - وإلى فرج صغيرة لا تشتهى. - وإلى أمرد جميل غير محرم إِلَّا لتعليم ونحوه. - ونظر المرأة إلى الرَّجل الأجنبي. - وإلى ما بين السرة والركبة من المحرم، ومن المرأة. - وإلى فرج صغير لا يشتهى إِلَّا لو كانت ترضعه أو تربيه. - وحكم المس حكم النظر. - وكذلك مضاجعة رجلين. - ومضاجعة امرأتين ليس بينهما شعار إِلَّا الزوجين، أو الرَّجل وامرأته الخلية عن نكاح غيره.
- ومصافحة الأمرد غير المحرم. - وكثرة الضحك بغير عجب. - والضحك في الصّلاة بغير حاجة. - والكذب من غير ضرورة، ولا [ ... ] (¬1) إِلَّا ما تقدّم أنّه كبيرة. - وغيبة غير أهل العلم والقرآن إِلَّا لمستفت، ومتظلِّم، ومعرِّف باللقب، وإلا غيبة معلن بالفسق؛ فمال الأذرعي: إلى أن الغيبة كبيرة مطلقا في غير ما ذكر، ونقل القرطبي الإجماع عليه، وهو ظاهر الأحاديث (¬2). - والسكوت عن الغيبة من غير إنكار. - وكثرة الخصومات. - وهجر المسلم فوق ثلاث إِلَّا لغرض ديني، أو لدفع مضرة. - والاطلاع على دُور الأجانب. - والنياحة، والصياح، وشق الجيب، ولطم الخد والصدر، ونشر الشعر في المصائب. وقال الأذرعي: إنَّ كانت هذه الخمسة سخطًا للقضاء فالظاهر أنّها كبيرة (¬3). ¬
- والصلاة الّتي لا سبب لها في أوقات الكراهة. - والمرور بين يدي المصلّي بشرطه. - ومسابقة الإمام في أفعال الصّلاة. - وتخطي رقاب النَّاس إِلَّا للإمام إذا لم يبلغ المحراب إِلَّا بالتخطي، ولمن وجد في الصفوف الّتي بين يديه فرجة، ونحو ذلك. - واتخاذ مكان من المسجد للبيع والشراء، ونشدان الضالة فيه. - وإدخال الصغار والمجانين إليه إن خيف منهم التنجيس والبول فيه؛ ولو في إناء. - والفَصْد والحجامة فيه إِلَّا في الإناء. - والدخول إليه بلحم يخشى منه تلويث، وكذلك غيره. - ودخول، أو إدخال سَلِسِ بولٍ، أو نحوه، وحائض إن خيف منها تلويثه. - ووضع النّجاسة على سطحه، وفي الطرق. - والبصاق في المسجد. - ومكث الجنب فيه. - وقراءته القرآن بقصده. - وكذلك الحائض والنفساء، وصلاتهما، وصلاة الجنب والمحدث، وطوافهما، ولعلّهما كبيرة.
- وحملهما المصحف، ومسهما إياه. - وطلاق الزوجة في الحيض، أو في طهر جامعها فيه. - وكشف العورة لغير حاجة ولا ضرورة؛ ولو في الخلوة. - واستقبال القبلة ببول أو غائط بالصحراء ونحوها من غير ساتر. - والتغوط في الطريق. - ونبذ الميِّت المحتوم من غير دفن، أو ترك تغسيله والصلاة عليه إِلَّا شهيدًا. - وترك تكفينه. - وحمله على هيئة مُزْرية. - وكسر عظمه. - والاستخفاف به. - والجلوس على قبره، ونبشه من غير ضرورة، ونقله إِلَّا ما استثني. - ودفنه إلى غير القبلة. - واعتداء الساعي في الزَّكاة. - وقُبلة الصائم إذا حركت شهوته. - والوصال في الصوم. - ووطء الحائض إذا طَهُرت قبل أن تغتسل. - واستمتاع بزوجته الّتي ظاهر منها قبل الكفارة.
- والإيلاء أكثر من أربعة أشهر. - ووطء الرَّجل مطلقته الرجعية قبل الرجعة. - ووطء أمة مسبية قبل مضي مدة الاستبراء. - والاستمتاع بأمة دخلت في ملكه قبل انقضاء مدة الاستبراء. - ووطء الحليلة في الدبر، ولم يعده من الكبائر لاختلاف العلماء فيه، بخلاف وطء الحائض. لكن ذكر النووي أن المتأخرين انعقد إجماعهم على تحريمه (¬1)، ولعلّه داخل في مسمى اللواط، فيكون كبيرة. وفي الحديث تسميته: "اللوطية الصغرى" (¬2). - والخلوة بالأجنبية. - واجتلاب المني بيده، ونحوها، أو بيد غير حليلته. - والاستمتاع بالأجنبية بدون وطء، أو بالغلام الأمرد. - ومسافرة المرأة وحدها بغير زوج، أو محرم، أو نسوة ثقات. - وتسويف المرأة لحليلها بأن يدعوها إلى فراشه فتقول: سوف حتّى تغلب عيناه، أو يفتر. - وتفسيلها له بأن تقول له: أنا حائض إذا أرادها على نفسه، ¬
وهي كاذبة؛ ففي الحديث لَعْنُها على ذلك (¬1). - وتحديثها بما يصير بينها وبين حليلها من جماع ونحوه. - وتحديثه بذلك. - والخِطبة على خِطبة من صرح له بالإجابة ما لم يأذن أو يترك. - والسَّوم على سَوم الغير بعد استقرار الثّمن بالتراضي به صريحًا. - والبيع على بيع الغير قبل لزومه. - وشراؤه بعد شرائه قبل اللزوم ما لم يأذن في ذلك. - والنجش بأن تزيد في ثمن السلعة لا لرغبته فيها، بل ليخدع غيره. - وبيع العنب والرطب ونحوهما لمن يعصرها خمرًا. - وبيع الأمرد ممّن يغلب على ظنه أنّه يلوط به. - والتفريق بين الأُمَّة وولدها ببيع ونحوه - وإن رضيت - ما لم يميز. ¬
- وتعاطي العقود الفاسدة كبيع المصحف، وكتب العلوم الشرعية، والمسلم للكافر، وبيع السلاح، وكل ما يستعان به في الحرب للحربي، وبيع ماء الفحل، وبيع [حبل الحبلة] (¬1) بأن تبيع نتاج النتاج، أو إلى نتاج النتاج، وبيع ما في بطون الحيوان، وغير ذلك. - والاحتكار: وهو شراء ما تعم حاجة النَّاس إليه من القوت؛ كالقمح، والملح، والأرز وقت الغلاء ليبيعه بأغلى. - والتسعير. - وتلقِّي الركبان بأن يتلقى طائفة يحملون متاعًا إلى البلد فيشتريه منهم قبل قدومهم ومعرفتهم بالسعر، ولهم الخيار إذا عرفوا الغبن. - وبيع الحاضر للبادي: بأن يقدم غريب بمتاع تعم الحاجة إليه - وإن لم يظهر به سعة في البلد - ليبيعه بسعر يومه، فيقول له بعض أهل البلد: اتركه عندي لأبيعه لك بالتدريج بأغلى، فيجيبه لذلك؛ وكلاهما مرتكب لصغيرة. - والتصرية: وهي ترك حلب الناقة أو غيرها مدة قبل بيعها ليتوهم المشتري كثرة لبنها، وله الخيارة فإن ردها بعد تلف اللبن رد معها صاعًا من التّمر. - وبيع المعيب من غير بيان عيبه. - والكذب في تخيير المشتري. ¬
- واقتناء الكلب لغير صيد، أو حراسة، أو ماشية. وفي معناه: اقتناء السِّباع، والخنازير، والقردة، وأمثال هذه يعوز اقتناؤها إلى نفقة، وهي إضاعة مال، وهي حرام. - وإعارة الجارية لغير محرم. - وقذف المملوك، والعاهرة، والصغيرة الّتي لا تحتمل الوطء. - وضرب المسلم ضربًا خفيفًا لا يتألم منه. - وانتهاك حرمته بكل قول أو فعل بغير حق. - والعبوس بوجه الوالدين. - وإظهار السآمة منهما كقوله: أف؛ فإن تجاوز ذلك إلى الانتهار كان كبيرة. - ورد الغني السائل محرومًا، بل يعطيه ولو ظلفًا محرقًا. - وسرقة الشيء التافه، أو ما لا يتمول كالكلب النافع، وغصبه. - وترك الجمعة مرّة أو مرتين إذا صلاها ظهرًا. - والمداومة على ترك السنن والرواتب. - والأكل والشرب للرجل والمرأة جميعًا في آنية الذهب والفضة، والإناء المضبَّب بالذهب مطلقًا، أو بالفضة ضبة كبيرة لغير حاجة. - ولبس الرَّجل ما أكثرُه حريرٌ لغير ضرورة كالقمل، والحكة، وكالبرد ما لم يجد غيره.
- وتختم الرَّجل بخاتم الذهب، وغيره من الحِلية في حق الرجال كبيرة. - وضرب الملاهي إِلَّا الدف، وطبل الحجيج ونحوه، والاستماع إليها، واتخاذها، وبيعها وشراؤها، وإهداؤها لمن يلعب بها، أو تضرب بين يديه. - والمداومة على اللعب بالشطرنج؛ وقرن اللعب به بالفحش، أو بإخراج صلاةٍ عن وقتها. - واللعب به مع من يعتقد تحريمه. - والمداومة على اللعب بالحمام، وعلى استماع الغناء، وعلى الغناء للناس، وأخذ الأجرة عليه، وعلى ضرب الدف، وعلى إنشاء الشعر وإنشاده إِلَّا ما كان منه مستحبًا لتفيد فائدة عليه، ومدح النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعلى الرقص، وعلى الاختصار في الصّلاة، والالتفات فيها، وتفقيع الأصابع، وعلى كلّ مكروه. - والتضيفن: وهو حضور الطّعام بغير إذن المضيف. - وترك الجماعة لغير عذر. - وإضاعة المال. - والتقتير على من تلزمه نفقته. - وتضييع العيال. - والسجود لمخلوق على نعت التحية، والانحناء له. - والشفاعة في حد من حدود الله إِلَّا عند مستحقه؛ أي: في ترك
حق لا يجوز تركه كالشفاعة إلى ولي اليتيم، وناظر الوقف في بعض حقوقها. - والجلوس في وسط حلقة العلم، إِلَّا لمن جرت العادةُ بجلوسه وسْطَها لمستملي الحديث. - وترك الغزو، وتحديث النفس به معًا. - وإخافة الجار بحيث لا يَأْمَنْ بوائِقَه. - وترك رد السّلام المتعين رده لغير عذر. - ولبس المزعفر والمعصفر للرجل. - والوشم، والوشر (¬1)، ووصل الشعر، ونتف الشيب، وخضبه بالسواد إِلَّا للمجاهد. - وحلق لحية الرَّجل، ورأس المرأة لغير ضرورة. - وتنميص وجه المرأة، وتحمير وجنتها إِلَّا بإذن الزوج؛ وهما للرجل كبيرة. - وترك الختان. - وبيع شيء من لحم الأضحية، وإتلافه، وبيع جلدها، وإعطاء أجرة الذَّبح من لحمها. - والذبح تقربًا إلى السلطان ونحوه. - وذبيحة الجن إِلَّا إذا قصد التقرب إلى الله ليكفيه شرهم. ¬
- وصوم يومي العيد، أو أحدهما، وأيام التّشريق. - ومحرمات الإحرام. - والتعرض لصيد الحرمين. - و [ .... ] (¬1) الطائف سواء في ذلك المحرم وغيره. - وكذلك قطع نبات الأماكن الثّلاثة. - ونقل تراب حرم مكّة وأحجاره إلى الحل. - وأخذ طيب الكعبة وسترها ما لم يتصرف فيه الإمام. - وقتل ما نُهي عن قتله من الحيوان في الحل أو الحرم كالنحل، والنمل السّليماني، والخُطَّاف، والخفاش، والضفدع، والهُدْهُد، وما فيه منفعة مباحة ككلب الصَّيد، وأكل ما يضر كالحجر، والتراب، والزجاج، والمسمومات كالأفيون إِلَّا قليلًا للتداوي. - وأكل المستقذرات، وبيض ما لا يؤكل كالحَدَأة. - وأكل ما يسكر، أو يخدر من النباتات كالحشيشة؛ وإن لم يطرب. ولا يتداوى به إِلَّا عند فقد غيره، ولا يجوز التّداوي بالخمر مطلقًا. - وأكل النجس والمتنجس، وإطعامه غيره. - والتضمخ بالنّجاسة لغير عذر كالتداوي. ¬
تنبيه
- والمناقرة بين الديوك. - والمناطحة بين الكِباش. - وترك الوفاء بالنذر ما لم يكن في معصية، فلا ينعقد من أصله. - وترك كفارة اليمين وغيرها. - وترك قضاء رمضان حتّى يدخل رمضان آخر. - وتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين. - والصوم بعد نصف شعبان إِلَّا ممّن له عادة أو قضاء. - وترك تسوية القاضي بين الخصمين في الإذن لهما بالدخول، والقيام لهما، واستماع كلامهما، وطلاقة الوجه، ورد السّلام، والمجلس، واتهام الخصم بأن يشهد عليه. - وإعانة المبطل؛ ولو بالمشي معه. - وإعانة كلّ ذي صغيرة عليه، والرضا بها، والسكوت عن إنكارها ما لم يخش ضررًا. ولا حصر للصغائر فيما ذكرنا، لكنه معظمها. * تَنْبِيهٌ: روى أبو نعيم عن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تنظُرُوا فِي صِغَرِ الذُّنُوبِ، وَلَكِنِ انْظُرُوا عَلى مَنِ اجْتَرَأْتُمْ" (¬1). * * * ¬
الفصل الثالث
الفّصْلُ الثَّالِثُ المروءة على قسمين: - ما هو شرط في العدالة. - وما ليس مشروطًا فيها. وأمّا القسم الأوّل: فهو تخلق المرء بخلق أمثاله في زمانه ومكانه، فمن اختلَّت فيه هذه المروءة لم تقبل شهادته؛ لأنّ طرح هذا القذر من المروءة إمّا لنقصٍ في العقل، وإما لقلة المبالاة والحياء. أمّا الأوّل فظاهر. وأمّا الثّاني فلأنَّ من لا حياء له يصنع ما يشاء، كما في الحديث: "إِذا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ ما شِئْتَ" (¬1). وقيل: [من الوافر] ¬
وَرُبَّ قَبِيحَةٍ ما حالَ بَيْنِي ... وَبَيْنَ رُكُوبِها إِلَّا الْحَياءُ إِذا لَمْ تَخْشَ عاقِبَةَ اللَّيالِي ... وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنع ما تَشاءُ وروى الدينوري عن المدائني قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه: ما وجدت لئيمًا قط إِلَّا وجدته رقيق المروءة (¬1). وقال الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب "البرّ والصلة": بلغنا أن وفدًا وفدوا على معاوية رضي الله تعالى عنه فقال: ما تعدُّون المروءة فيكم؟ قالوا: العفاف في الدِّين، والإصلاح في المعيشة. فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: اسمع يا يزيد (¬2). وروى أبو نعيم عن أبي الوليد الجارودي قال: سمعت الشّافعيَّ رضي الله تعالى عنه يقول: لو علمت أن الماء البارد ينقص من مروءتي ما شربته (¬3). وروى الخطيب عن أبي الحسن بن سمعون رحمه الله تعالى قال: رأيت المعاصي نَذَالة فتركتها مروءةً، فاستحالت ديانةً (¬4). ¬
ويروى نحو هذا عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه. وقال الخرائطي: وكان يقال: آفة المروءة خُلْفُ الوعد (¬1). ويعجبني هنا ما ذكره الحاكم في "تاريخ نيسابور" عن أبي الحسن علي بن أحمد البُوشَنْجي العالم الزاهد الصوفي رحمه الله تعالى: أنّه سئل عن المروءة فقال: ترك ما يكرهه الكرام الكاتبون. ونقل عنه أبو عبد الرّحمن السلمي في "طبقاته": أنّه سئل عن المروءة فقال: ترك استعمال ما هو محرم عليكم مع الكرام الكاتبين. قال: وسئل مرّة أخرى: ما المروءة؟ فقال: حسن السر (¬2). وروى أبو نعيم عن عبد الواحد بن زيد رحمه الله تعالى قال: جالسوا أهل الدِّين، فإن لم تجدوهم فجالسوا أهل المروءات؛ فإنهم لا يَرْفُثُون في مجالسهم (¬3). وأراد بذلك بعض أنواع المروءة؛ فإن كمالها يرجع إلى استكمال الدِّين. ونقل الطرطوشي في "سراج الملوك" عن بزرجمهر قال: لم أر ظهيرًا على ثقل الدولة كالصبر، ولا مُذِلًا للحسَّاد كالتجمُّل، ¬
ولا مكسبة للإجلال كتوقي المزاح، ولا مَجْلبة للمَقْت كالعُجْب، ولا مَتلفة للمروءة كاستعمال الهَزَل في موضع الجد (¬1). فمن الأمور المخلة بالمروءة: - الأكل في السوق، لنفس السوق، ومَن عادته أن يأكل حيث يجد لترك التكلف، وكذلك الشرب إذا اشتد عطشه. - والمشي مكشوف الرّأس إذا كان ممّن لا يليق به مثل ذلك. - والتعري من الثِّياب في بلد يلبس فيه أهل الصيانة ثيابهم كالشام دون الحجاز ونحوه. - ولبس الفقيه القباء والقَلَنْسُوة حيث لا يعتاده الفقهاء. - وتقبيل الزوجة، أو الأُمَّة بحضرة النَّاس؛ ولو نسوة محارم. - ونزع السراويل حيث يلبس أهل الصيانة سراويلهم. - وإكثار الحكايات المضحكة ما لم تشتمل على كذب أو سُخْرية بمسلم، أو غيبة فتحرُم. - والتجاوز في الدعابة عن حُسن العشرة مع الأهل والجيران إلى حد السُّخْف والمُجون. - ومد الرِّجل بين النَّاس إِلَّا لمرض ونحوه. - ولبس التاجر ثوب الحمَّال ونحوه. ¬
- وتعمُّم الحمَّال والقصاب ونحوهما بعمامة الفقهاء والقضاة. - ولبسه الطَّيلُسان وطوافه في الأسواق راكبًا على بغلة ثمينة ونحوها، فيصير ضحكة للناس، فإن قصد بلباس زي السخرية منهم حَرُم، وقيل: كفر. - ولباس الفقيه ونحوه لباس الأجناد، أو لباس الذعار. - وتبذُّل الرَّجل المعتبر بنقل الماء والأطعمة إلى بيته شُحًّا وبخلًا، لا إذا فعله استكانة، وتواضعًا، واقتداءً بالسلف في ترك التكلف. - واتخاذ الرَّجل للدبوقة (¬1)، وإرسالها بين الكتفين كالمرأة، أو على الناصية ومقدم الرّأس في الحمام ونحوه كما نصّ عليه الأذرعي، وهو ظاهر. - ونتف اللحية. - والحرفة الدَّنِيَّة كالحجامة، وكنس الأخلية ما لم يكن معتادًا لها، فقيل: ما لم تكن حرفة أبيه. ومدار هذا الباب على العرف؛ فيختلف باختلاف الحال، والمقام، والزمان، والمكان. - وأمّا المروءة الّتي لا تشترط في العدالة، بل هي أعم من العدالة، وهي أخلاق شريفة، وكمالات مرضية كالإحسان والإفضال، والعفو، والاحتمال، فقد اختلفت أقوال النَّاس فيها، وذكر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ¬
بعض أفرادها فيما رواه ابن عساكر عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ الرِّبْحُ عَلى الإِخْوانِ" (¬1). وروى أبو نعيم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل من ثقيف: "ما الْمُرُوءَةُ فِيْكُمْ يا أَخا ثَقِيفٍ؟ " قال: الإنصاف والإصلاح. قال: "وَكَذَلِكَ فِينا" (¬2). وقال الخرائطي: سمعت أبا موسى عمران بن موسى يقول: بلغني أن سفيان الثّوريّ رحمه الله تعالى سئل عن المروءة ما هي؟ قال: الإنصاف من نفسك والفضل؛ ألم تسمع الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]؟ وهو التفضل (¬3). ولا يتم الأمر إِلَّا بهما؛ ألَّا تراه لو أعطى جميع ما يملك، ولم يُنصف من نفسه، لم يكن له مروءة لأنّه لا يريد أن يعطيَ شيئًا إِلَّا يأخذ من صاحبه مثله؟ وليس هذا مروءة. وروى ابن النجار عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: ¬
أنّه مر بقومٍ يتحدثون، فقال: فيم أنتم؟ قالوا: نتذكر المروءة. فقال: أوَ مَا كفاكم الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذلك في كتابه إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]؟ فما بعد هذا (¬1)؟ وروى أبو نعيم عن المزني قال: سمعت الشّافعيّ رحمه الله تعالى يقول: العلم مروءة من لا مروءة له (¬2). وروى الدينوري في "المجالسة" عن إبراهيم النخعي رضي الله تعالى عنه قال: ليس من المروءة كثرة الالتفات في الطريق. قال: ويقال: سرعة المشي تُذهب ببهاء المؤمّن (¬3). وعن محمّد بن عمار قال: ما شيء أشد من حمل المروءة. قيل له: وأي شيء هي المروءة؟ قال: أن لا تعمل شيئًا في السر تستحيي منه في العلانيّة (¬4). وعن الأصمعي رحمه الله تعالى قال: ثلاثة يُحكم لهم بالمروءة ¬
حتّى يتكلموا: رجل رأيته راكبًا، أو شممت منه رائحة طيبة، أو سمعته يعرب. قال: وثلاثة يحكم لهم بالدناءة حتّى يعرفوا: رجل يتكلم بالفارسية في مِصْرٍ عربي - قلت: وفي معنى الفارسية: التركية، ونحوها - قال: أو رجل رأيته على طريق ينازع في القدر، ورجل شممتَ منه رائحة [نبيذ] (¬1). وأنشد: [من البسيط] نَوْمُ الغَداةِ وَشُرْبٌ بِالْعَشِيَّاتِ ... مُوَكَّلانِ بِهَدْمٍ لِلْمُرُوءاتِ (¬2) وعن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قال: قال محمّد بن نصر الحارثي رحمه الله تعالى: أول المروءة طلاقة الوجه. والثّاني: التودد إلى النَّاس. والثّالث: قضاء الحوائج. ومن فاته حَسَبُ نفسه لم ينفعه حسب أبيه؛ يعني: الدِّين (¬3). وعن المدائني قال: قال معاوية للحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم: ما المروءة يا أبا محمّد؟ فقال: فقه الرَّجل في دينه، وإصلاح معيشته، وحسن مخالقته. ¬
قال: فما النجدة؟ قال: الذب عن الجار، والإقدام على الكريهة، والصبر على النائبة. قال: فما الجود؟ قال: التبرع بالمعروف، والإعطاء قبل السؤال، والإطعام في المحل (¬1). وعن الزِّيادي قال: سئل بعض الحكماء عن المروءة، فقال: إنصاف مَنْ هو دُونك، والسمو إلى من هو فوقك، والجزاء بما أوتي إليك من خير أو شر (¬2). قلت: وهذا معنى قول النَّاس: مقابلة الفاسد بالفاسد من المروءة، وهذا مشروط بالسلامة من الإثم كأن تزيد على فاسده، أو تكون ممَّا لا يأذن الشّرع فيه، ثمّ العفو أولى وأحسن. وروى الدينوري عن مسلم بن قتيبة قال: قال بعض حكماء العرب: ما أعان على نظم مروءات الرجال كالنساء الصوالح (¬3). قال مسلم: الدنيا: العافية، والشباب: الصِّحَّة، والمروءة: الصبر على الرجال، ولا خير في المعروف إذا أحصي. ¬
قال: ومن المروءة أيضًا: أن تصون ثوبي جمعتك، وتكثر تعاهد صبيتك، وتعرف المسجد بمحلتك (¬1). وروى الحاكم في "مناقب الشّافعيّ" عن البويطي عنه رحمهما الله تعالى أنّه قال: ليس من المروءة أن يخبر الرَّجل بسنه (¬2). وروى أبو نعيم عن الزّهريُّ رحمه الله تعالى قال: ما أحدث النَّاس مروءة أعجب إليَّ من الفصاحة (¬3). وروى ابن باكويه الشيرازي، ومن طريقه ابن الجوزي عن أحمد ابن الصلت قال: سمعت بشر بن الحارث يقول رحمه الله تعالى: ليس من المروءة أن تحب ما يبغض حبيبك (¬4). قلت: أشار إلى أن من كان الله حبيبه، فمروءته أن يحب ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه الله، ولا يبغض ما أحب الله، ولا يحب ما أبغضه الله. وفيه معنى آخر: وهو أن من له صديق يعلم منه الصداقة والديانة والمحبة والصيانة، فليس من المروءة أن يصادق عدو صديقه. ¬
وروى الدينوري عن الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى: أنّه سئل عن المروءة، فقال: العفة والحرفة (¬1). قال المغيرة: المروءة العفة عما حرم الله، والحرفة فيما أحله (¬2). وعليه يحمل كلام الأحنف. ويروى عن الأحنف أيضًا أنّه قال: المروءة صدق اللسان، ومواساة الإخوان، وذكر الله في كلّ مكان (¬3). وروى السلمي في "طبقاته" عن عمرو بن عثمان المكي رحمه الله تعالى قال: المروءة: التغافل عن زلل الإخوان (¬4). وروى الخطيب عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ يُنْصِتَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ إِذا حَدَّثَهُ، وَمِنْ حُسْنِ الْمُواساةِ أَنْ يَقِفَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ إِذا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ" (¬5). قلت: وكذلك إذا كان معه في سفر أو طريق، ووقعت دابته، أو عرض له أمر يقف معه ويساعده. ¬
وروى الدينوري عن الأصمعي، عن أبيه قال: قال الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى: جنِّبوا مجالسنا ذكر النِّساء والطعام؛ فإني أبغض الرَّجل أن يكون وصَّافا لفرجه وبطنه، وإن من المروءة والديانة أن يترك الرَّجل الطّعام وهو يشتهيه (¬1). ومن أجمع ما قيل في المروءة ما حكي عن العتَّابي أنّه قيل له: ما المروءة؟ قال: ترك اللَّذَّة. قيل له: فما اللَّذَّة؟ قال: ترك المروءة (¬2). وبيانه: أن المرء مهما استرسل فيما يستلذه لقضاء شهوته نقص بقدرها من نخوته، لأنّ الاسترسال في الشهوات يرق رداء الحياء، ويربي القِحة، وبذلك تذهب المروءة. ومن هنا قيل: "إِذا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ ما شِئْتَ"، وهو "مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى" كما في الحديث (¬3). وروى ابن عساكر عن الزّهريُّ رحمه الله تعالى قال: ما طلب النَّاس شيئًا خيرًا من المروءة، ومن المروءة: ترك صحبة من لا خير ¬
فيه، ولا يستفاد منه عقل؛ فتركُه خير من كلامه (¬1). وروى الدينوري عن الحسن بن علي الخلال رحمه الله تعالى قال: قال بعض الحكماء: مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب صدأ الذنوب، ومجالسة ذوي المروءة تدل على مكارم الأخلاق، ومجالسة العلماء تفتح ذكاء القلوب، ومن عرف تقلُّب الزّمان لم يركن إليه (¬2). وروى أبو نعيم عن بشر بن الحارث رحمه الله تعالى قال: قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: لا تكمل مروءة الرَّجل حتّى يسلم منه عدوُّه. قال بشر: كيف والآن لا يسلم منه صديقه (¬3). وعن سفيان الثّوريّ رحمه الله تعالى قال: لقد أدركنا أقوامًا شُطَّارهم لمروآتهم أتقى (¬4) من قُرَّاء هذا الزّمان (¬5). قال في "القاموس": الشاطر: الّذي أعيا أهله خُبثًا (¬6). ¬
وسئل عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عن المروءة فقال: تقوى الله، وصلة الرّحم (¬1). نصّ على صلة الرّحم - وإن كانت داخلة في التقوى - لأنّها كالأهل بالنسبة إلى سائر أنواع البر؛ لأنّ من قصَّر في حق أرحامه كان في حق غيرهم أشد تقصيرًا، ولأن القرابة داعية إلى حفظ الحقوق وحسن الصنيعة، فإذا لم تكن القرابة مؤثرة ذلك فغيرها لا يؤثره. وروى ابن عساكر عن ربيعة بن عبد الرّحمن رحمه الله تعالى أنّه قال: للسفر مروءة، وللحضر مروءة. فأمّا مروءة السَّفر: فبذل الزَّاد، وقلَّة الخلاف على أصحابك، وكثرة المزح في غير ما يسخط الله تعالى. وأمّا مروءة الحضر: فإدمان الاختلاف إلى المساجد، وكثرة الإخوان، وقراءة القرآن (¬2). واعلم أن المروءة إمّا أن تكون ثمرتها راجعة إلى نفس المرء، وإما إلى غيره. أمّا المروءة الّتي تعود ثمرتها إلى نفس المرء فهي: العفة عن المحارم، وهي ضبط الفرج، وكف اللسان عن المآثم، والكف عن ¬
تتمة
التجاهر بالظلم، والتنزه عن الاستمرار بالخيانة، والنزاهة عن المطامع الذميمة، ومواقف الرِّيبة، وصيانة النفس عن حمل المِنَن، والاسترسال، والاستعانة بالتماس الكفاية، وتقدير المادة. وأمّا المروءة الّتي تعود ثمرتها على غير المرء فهي: إسعاف الأهل والإخوان والجيران وغيرهم في النوائب، والعفو عن الزلات، وعن بعض الحقوق المالية -ولو بالتخفيف والإنظار- والحقوق الأحوالية كالرضا بالدون من المجلس، وطرح المنازعة في الرتب، والتقدم في المحافل، والمسامحة في المعاملات، والإفضال جودًا على شكور، أو تآلفًا لنفور، أو استكفافًا ودفاعًا عن العرض. فمن أتى بذلك كله فهو المرء الكامل المروءة كما يؤخذ من كلام القاضي الماوردي في كتاب "أدب الدِّين والدنيا" (¬1). * تَتِمَّةٌ: روى الدينوري عن المدائني قال: قال عمر - رضي الله عنه -: ما وجدت لئيمًا قط إِلَّا وجدته رقيق المروءة (¬2). ويناسب هذا ما يحرم على الألسنة من المدح بكمال المروءة، والذم بنقصانها. ونقل ابن عبد ربه في "عقده" عن الأحنف بن قيس أنه قال: ¬
لا مروءة لكذوب، ولا سؤدد لبخيل، ولا ورع لسيء الخلق (¬1). وعن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه أنّه قال: المروءة مروءتان؛ مروءة ظاهرة، ومروعة باطنة؛ فالمروءة الظاهرة الرياش، والمروعة الباطنة العفاف (¬2). وعن العتبي، عن أبيه قال: لا تتم مروءة الرَّجل إِلَّا بخمس: أن يكون عالمًا، عاقلًا، صادقًا، ذا بيان، مستغنيًا عن النَّاس (¬3). وذكر حجة الإسلام في "الإحياء" عن لقمان -عليه السَّلام - أنّه قال لابنه: يا بني! استغن بالكسب الحلال عن الفقر؛ فإنّه ما افتقر أحد قط إِلَّا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب في مروءته؛ وأعظم من هذا استخفاف النَّاس به (¬4). وروى أبو نعيم عن الحارث قال: سأل علي ابنه الحسن رضي الله تعالى عنهما عن أشياء من المروءة، فقال: يا بني! ما السَّداد؟ قال: يا أبه! دفع المنكر بالمعروف. قال: فما الشرف؟ قال: اصطناع العشيرة، وحمل الجَريرة. ¬
قال: فما المروءة؟ قال: العفاف، وإصلاح المال. قال: فما الرقة؟ قال: النظر في اليسير، ومنع الحقير. قال: فما اللؤم؟ قال: إحراز المرء نفسه، وبذله عرسه. قال: فما السماحة؟ قال: البذل في اليسر والعسر. قال: فما الشح؟ قال: أن ترى ما في يديك شرفًا وما أنفقته تَلَفًا. قال: فما الإخاء؟ قال: المواساة في الشدة والرخاء. قال: فما الجبن؟ قال: الجرأة على الصديق، والنكول عن العدو. قال: فما الغنيمة؟ قال: الرغبة في التقوى والزهادة في [الدنيا] هي الغنيمة الباردة. قال: فما الحكمة؟ قال: كظم الغيظ وملك النفس. قال: فما الغنى؟
قال: رضى النفس بما قسم الله -عز وجل- لها وإن قل. قال: فما الفقر؟ قال: شَرَه النفس في كلّ شيء. قال: فما المنعة؟ قال: شدة البأس، ومنازعة أعز النَّاس. قال: فما [الذل؟ قال: الفزع عند [المصدوقة]. قال: فما العي؟ قال: العبث باللحية، وكثرة البزق عند المخاطبة. قال: فما الجرأة؟ قال: موافقة الأقران. قال: فما الكُلفة؟ قال: كلامك فيما لا يعنيك. قال: فما المجد؟ قال: أن تعطي في المغرم، وتعفو في الجرم. قال: فما العقل؟ قال: حفظ القلب كلّ ما استوعبته. قال: فما الخرق؟ قال: معاداتك إمامك، ورفعك عليه كلامك.
قال: فما السَّناء؟ قال: إتيان الجميل، وترك القبيح. قال: فما الحزم؟ قال: طول الأناة، والرفق بالولاة. قال: فما السَّفَه؟ قال: اتباع الدُّنَاة، ومصاحبة الغُواة. قال: فما الغفلة؟ قال: تركك المسجد، وطاعتك المفسد. قال: فما الحرمان؟ قال: تركك حظك وقد عرض عليك. قال: فما السَّيِّد؟ قال: الأحمق في ماله، والمتهاون في عرضه، يُشتم فلا يجيب، المتحزن بأمر عشيرته هو السَّيِّد. فقال علي - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا فَقْرَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ وَلا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ العَقْلِ" (¬1). * * * ¬
فَصْلٌ قال النصرأباذي رحمه الله تعالى: المروءة شعبة من الفتوة، والظاهر أن الفتوة تمام المروءة (¬1). وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان (¬2). وقال سهل رحمه الله تعالى: الفتوة اتباع السُّنَّة. وقال الجنيد رحمه الله تعالى: الفتوة كف الأذى، وبذل الندى (¬3). قلت: وفي معناه ما أنشده البيهقي في "شعب الإيمان ": [من الرجز] ما الْمَرْءُ إِلاَّ مَنْ أَطاعَ رَبَّهُ ... وَلا الفَتَى إِلَّا الْمُواسِي صَحْبَهُ ¬
كُلُّ امْرِئٍ يَومًا سَيَلْقَى حَتْفَهُ ... إِنْ كَرِهَ الْمَوْتَ وَإِنْ أَحَبَّهُ (¬1) وأنشد ابن عساكر في "تاريخه" عن ابن الدواليبي هكذا: [من الرجز] كُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا سَيَقْضِي نَحْبَهُ ... إِنْ كَرِهَ الْمَوْتَ وَإِنْ أَحَبَّهُ ما الْمَرْءُ إِلاَّ مَنْ يُواسِي صَحْبَهُ ... وَلا الفَتَى إِلَّا الْمُطِيعُ رَبَّهُ (¬2) وروى الخطيب في "التلخيص" عن إبراهيم بن جناح المحاربي قال: سمعت أبا نواس يقول: سبقني والبة إلى بيتين من الشعر قالهما، وددت أني كنت سبقته إليهما وأن بعض أعضائي اختلج مني، وهو قوله: [من الطويل] وَلَيْسَ فَتَى الفِتْيانِ مَنْ راحَ وَاغْتَدَى ... لِشُرْبِ صَبُوحٍ أَوْ لِشُرْبُ غَبُوقِ وَلَكِنْ فتى الفِتْيانِ مَنْ راحَ وَاغْتَدَى ... لِضُرِّ عَدُوٍّ أَوْ لِنَفْعِ صَدِيقِ (¬3) والقول الجامع في الفتوة أنّها أمران: الأوّل: الإقبال على الطّاعة مع قيام دواعي المعصية. ولذلك سمي أصحاب الكهف فتية؛ فإنهم أكثروا طاعة الله تعالى مع ما كان يدعوهم إلى المعصية من شرف أنسابهم، وعرض ملكهم ¬
عليهم الدنيا، ورد الأمر إليهم إنَّ اتبعوا دينه، فأقبلوا على الطّاعة وتركوا ذلك كله. ولقد أحسن الإمام أحمد رحمه الله تعالى حين سئل عن الفتوة فقال: ترك ما تهوى لِمَا تخشى (¬1). والأمر الثَّاني: معاملة الخلق بالوفاء والإفضال -وَإِنْ قابلوه بالجفاء والحرمان- تعظيمًا لوجه الله تعالى. ولذلك أجرى الله تعالى على ألسنة قوم إبراهيم -عليه السّلام- تسميته بالفتى في قولهم {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]، كان يعترفوا له بالفتوة في نفس اعتقادهم؛ لأنّ إبراهيم -عليه السّلام- كان يعاملهم بالوفاء بدعوتهم إلى الله تعالى تعظيمًا له، وعطفًا عليهم، وكانوا يعاملونه بالجفاء جهالة بالله تعالى، وتفضيله إبراهيم عليه السَّلام، ومن ثَمَّ شهد الله تعالى له بالوفاء في قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، ليدخل في الفتوة - على ما بيناه - جميعُ العبادات والتطوعات، والإيثار والإحسان، وقضاء حوائج الإخوان، والعفو، واحتمال الأذى، وغير ذلك. وقد أشارت إلى ذلك الفاضلة الكاملة زينب بنت رضي الدِّين الغزي شقيقة والدي رحمهم الله تعالى - وكانت من العلماء - بقولها: [من السريع] ¬
لَيْسَ الفَتَى كُلُّ الفَتَى عِنْدَنا ... إِلَّا الَّذِي يَنْهَى عَنِ الفُحْشِ يَأْتِي إِلَى الْخَيْراتِ مِنْ بابِها ... وَيَفْعَلُ الْخَيْرَ بِلا فُحْشِ وروى ابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن رويم بن محمّد رحمه الله تعالى قال: الفتوة أن تعذر إخوانك في زللهم، ولا تعاملهم بما يحوجك إلى الاعتذار إليهم (¬1). وروى الشّيخ أبو عبد الرّحمن السلمي في "طبقاته" عن معروف الكرخي رحمه الله تعالى قال: للفتيان ثلاث علامات: وفاء بلا خلاف، ومدح بلا جور، وعطاء بلا سؤال (¬2). وعن محمّد بن الفضل البلخي رحمه الله تعالى أنّه سئل: ما الفتوة؟ قال: حفظ السر مع الله تعالى على الموافقة، وحفظ الظّاهر مع الخلق بحسن العشرة، واستعمال الخلق (¬3)؛ أي الحسن الجميل. فينبغي التشبه بأهل الفتوة والمروءة في حمل أثقال الفتوات والمروءات، لا في الزي والدعوى مع خلو النفس عن كمالات الفتوة، وخصال المروءة؛ فإن ذلك يلحق العبد بأهل السَّفالة والنذالة، ¬
وليس لعاقل أن يلحق نفسه بهؤلاء لا في هذا الخلق، ولا في غيره من أخلاق الأنذال والأوباش. وفي "الحلية" لأبي نعيم: قيل لأبي عبد الله - يعني: السجزي - رحمه الله تعالى: ما يدفعك عن لبس المرقعة؟ فقال: من النفاق أن تلبس لباس الفتيان، ولا تدخل في حَمَلة أثقال الفتوة، فما يلبس لباس الفتيان من يقدر على حمل أثقال الفتوة. فقيل له: وما الفتوة؟ قال: رؤية أعذار الخلق وتقصيرك، وتمامهم ونقصانك، والشفقة على الخلق برهم وفاجرهم، وكمال الفتوة هو أن لا يشغلك الخلق عن الله تعالى (¬1). وروى السلمي عن شاه الكرماني رحمه الله تعالى قال: الفتوة من طباع الأحرار، واللؤم من شِيَم الأنذال (¬2). وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته": أصل الفتوة أن يكون العبد أبدًا ساعيًا في أمر غيره (¬3)؛ أي: موافقًا في ذلك للشرع. ثمّ أسند حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَزالُ اللهُ تَعالَى فِي حاجَةِ ¬
العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ فِي حاجَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ" (¬1). وقال: سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: سمعت النصرأباذي يقول: سمي أصحابُ الكهف فتية لأنّهم آمنوا بربهم من غير واسطة. قال: وقال: الفتى من كسر الصنم؛ قال الله تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]. وقال -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} [الأنبياء: 58]. قال: وصنم كلّ إنسان نفسه؛ فمن خالف هواه فهو فتى على الحقيقة (¬2). ولنا في معنى كلام النصرأباذي رحمه الله تعالى: [من الرجز] إِنَّ الفَتَى لَمَنْ يُخالِفُ الْهَوى ... ما ضَلَّ عَنْ طَرِيقِهِ وَلا غَوى لاحَ لَهُ يَوْمُ الْمآبِ فَارْعَوى ... ثُمَّ اسْتَقامَ فِي الطَّرِيقِ وَاسْتَوى قال القشيري رحمه الله تعالى: وقال الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى: الفتوة أن تنصف ولا تنتصف. قال: وقال عمرو بن عثمان المكي رحمه الله تعالى: الفتوة حسن الخلق. ¬
وسئل الجنيد رحمه الله تعالى عن الفتوة، فقال: لا تنافي فقيرًا، ولا تعارض غنيًا. قال: وقال محمّد بن علي التّرمذيّ يرحمه الله تعالى: الفتوة أن يستوي عندك المقيم والطارئ (¬1)؛ يعني: في المعاشرة، والإكرام، ونحوهما، وفي عدم الالتفات إلى أحد منهما في فعل أو ترك، فيكون إشارة إلى الإخلاص والصدق ... (¬2). في معنى ما نقله أيضًا عن النصرأباذي: لمروءة شعبة من الفتوة، وهو الإعراض عن الكونين، والأَنفَة منهم؛ يعني: شغلًا بالله تعالى، وفناءً في حبه، وارتباطًا بأوامره. وقيل: الفتوة إظهار النعمة، وإسرار المحنة. نقله التستري (¬3). وقال رحمه الله تعالى: واعلم أن من الفتوة الستر على عيوب الأصدقاء؛ لاسيما إذا كان لهم فيه شماتة الأعداء (¬4). [من المتقارب] رَأَيْتُ الفَتَى مَنْ يُغَطِّي الزَّلَلْ ... وَيَرْفُو مِنَ الأَصْدِقاءِ الْخَلَلْ ¬
وَيُظْهِرُ أَحْسَنَ أَعْمالِهِمْ ... وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ بِحُسْنِ العَمَلْ أخبرنا والدي رحمه الله تعالى، أنا شيخنا زكريا الأنصاري عن العز ابن الفرات الحنفي، عن قاضي القضاة تاج الدِّين السبكي، أنا قاضي القضاة أبو عبد الله محمّد بن إبراهيم الشّافعيّ كتابةً عن أبي الفضل بن أبي العباس بن الحسين بن محمّد بن أحمد الدمشقي، عن الإمام أبي الخطّاب عمر بن محمّد بن عبد الله الكرماني، أنا أبو بكر محمّد بن إسماعيل بن محمّد القرشي النقيسي قال: سمعت أبا عبد الرّحمن السلمي يقول: سمعت يحيى بن منصور يقول: سمعت الفربري، سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه يقول - وقصده رجل فطلب منه شيئا، فأعطاه ما أمكنه - ثمّ أنشأ يقول: [من البسيط] يا لَهْفَ نَفْسِي عَلى مال أُفَرِّقُهُ ... عَلى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوءاتِ إِنَّ اعْتِذارِي إِلَى مَنْ جاءَ يَسْأَلُنِي ... ما لَيْسَ عِنْدِي لَمِنْ إِحْدى الْمُصِيباتِ (¬1) * * * ¬
فَصْلٌ كثيرًا ما يقع في عبارات الفقهاء التعبير بالسَّفَه عما يُسقط المروءة كقول الماوردي: نتف اللحية سفه تُرَدُّ به الشّهادة (¬1). وقول القاضي حسين: في اعتياد الرَّجل البول قائمًا: تُرَدُّ به الشّهادة لأنّه يعد سفهًا. ويفهم من ذلك أن السفه يقابل المروءة، والمشهور أنّه يقابل الحلم، وفسروا السفه في باب الْحَجْر بسوء التصرف في المال. وقال القاضي البيضاوي: والسفه خِفَّة وسخافة دائمة يقتضيهما نقصان العقل، انتهى (¬2). وقال صاحب "القاموس": السفه -محركة، وكسحاب، وسحابة- خفة الحلم، أو نقيضه، أو الجهل (¬3). قلت: والذي تحرَّر لي أن السفه إمّا أن يكون في الدِّين، وإما أن ¬
يكون في الدنيا؛ وكلاهما مذموم. فمن الأوّل: قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، أي: اِسْتَمْهَنَهَا وأذَلَّها، واستخف بها. والمعنى: لا يرغب عن ملة إبراهيم -عليه السّلام - إِلَّا من حملته الخفة والسخف على امتهان نفسه وإذلالها بتعريضها لعذاب الآخرة، أو لحرمان الثّواب يوم المآب. ومن الثّاني: قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]. والمعنى: إنَّ إيتاء المال السفيه يؤدِّي إلى ضياعه، وقد كره الله تعالى لنا إضاعة المال؛ فإن السفيه تحمله الخفة والطيش على التبذير، وصرف الأموال في غير مصارفها، فتذهب باطلة. فحقيقة السفه: أن تحمل المرء الخفة والسخافة وضعف الرأي على معصية الله تعالى، ومخالفة سنن الصالحين، والاشتطاط على النَّاس، وسوء التصرف في الأموال وغيرها من نعم الله تعالى كصرف نعمة الفراغ والصحة في اللهو واللعب، وصرف نعمة الفطانة والذكاء والصنعة في العلوم أو الأعمال الّتي لا يعود نفعها عليه في العاقبة كالسحر، والأوفاق، والتنجيم، والموسيقا، وكعمل آلات اللهو، والملاعب، والتصاوير، فمن فعل ذلك أو شيئًا منه كان سفيهًا، ومن تشبَّه بالسفهاء فهو منهم، ومن عاشر السفهاء يوشك أن يتشبه بهم،
وَيسْري إلى طبعه شيء من طباعهم. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن عمير بن حبيب بن حماسة - وكانت له صحبة - رضي الله تعالى عنه: أنّه أوصى بنيه فقال: يا بني! إياكم ومجالسةَ السفهاء؛ فإن مجالستهم داء، إنَّ من حلم على السفيه يسره بحلمه، ومن لا يقر بقليل ما يأتي به السفيه يقر بالكثير، ومن يصبر على ما يكره يدرك ما يحب، وإذا أراد أحدكم أن يأمر النَّاس بالمعروف وينهاهم عن المنكر فليوطّن نفسه على الصبر على الأذى، وليوقِنْ بالثواب من الله -عزَّ وَجَلَّ-؛ فإن من يثق بالثواب من الله تعالى لا يجد مسِّ الأذى (¬1). ثمّ اعلم أن السفه شجرة مددها الحمق، ولذلك حجر على السفيه. ويرى السفيه الحق باطلًا، والقبيح حسنًا، والإحسان والنصيحة إساءة وغشًا، والصديق عدوًا، والنافع ضارًا، والضار نافعًا، والخير شرًا. وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: يا هؤلاء! إنَّ الكلب إذا طرح إليه الذهب والفضة لم يعرفهما، وإذا طرح عليه العظم أكب عليه، كذلك سفهاؤكم لا يعرفون الحق. رواه الإمام أحمد في "الزهد"، ومن طريقه أبو نعيم (¬2). ¬
قال مالك بن دينار أيضًا: لولا سفهاؤكم للبست لباسًا لا يراني محزون إِلَّا بكى. رواه أبو نعيم (¬1). وفيه تأييد لالتزام العالم زي العلماء، وكل واحد من أهل صناعة زيهم لئلا يجترئ السفهاء على ذوي المروءات؛ وهو نفيس. وإذا كان زي السفهاء قبيحًا بالعلّماء، فتخلُّق العلماء بأخلاق السفهاء أقبح. وقال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: إذا كان نهاري نهار سفيه، وليلي ليل جاهل، فما أصنع بالعلم الّذي كتبت؟ رواه ابن الجوزي في "صفة الصفوة" (¬2). وأشقى السفهاء من يسمي سفهه عقلًا، وجهله علمًا، ويستكمل رأي نفسه في ذلك، ويرى أن العقلاء والفضلاء والعلماء سفهاء لأنّه قد دلس على نفسه بما يروج سوقه، ولا يستحسن رأيه عند أهل النُّبل والكمال، ولو طمع أنّه يخفى عليهم، فلا ولله لا يخفى على الله تعالى حقيقة أمره، بل الله تعالى يهتك ستره، ويوضح للناس أمره، ألَّا ترى المنافقين حين أطلقوا اسم السفه على الصّحابة رضي الله تعالى عنهم كيف قلب الله لقبهم عليهم، ووسمهم بالاسم الّذي سمُّوهم به، فقال ¬
تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]؟ فانظر كيف رد الله عليهم هذا اللقب حين لقبوا به المؤمنين إذ قالوا: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13]؟ وقولُه - سبحانه - الحقُّ إشارة إلى أن من أعرض عن الدَّليل، ثمّ نسبه المتمسك به إلى السفاهة، فهو السفيه حقيقة، ومن باع آخرته بدنياه فهو السفيه، ومن عادى محمدًا فقد عادى الله، ومن عادى الله فهو السفيه المستوجب لذمه، المستحق لعقوبته. ولله در الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه حيث يقول: من تزين بباطل فلا بد أن ينهتك ستره (¬1). وقال العلّامة الجد رضي الله تعالى عنه: [من السريع] قُولُوا لِمَنْ بَهْرَجَ فِي عُمْرِهِ ... بِالعِلْمِ إِذْ ضاقَ بِهِ الْمَخْرَجُ يا صاحِبَ التَّمْوِيهِ بَيْنَ الوَرَى ... لا بُدَّ أَنْ يَنْكَشِفَ البَهْرَجُ واعلم أنّه قد جرت عادة الله تعالى في كلّ ذي رأي أن يستحسن رأيه ويفخر كما قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]. وأنشد الحاكم بإسناده إلى الربيع قال: سمعت الشّافعيّ - رضي الله عنه - يقول: [من الوافر] وَمَنْزِلَةُ السَّفِيهِ مِنَ الفَقِيهِ ... كَمَنْزِلَةِ الفَقِيهِ مِنَ السَّفِيهِ ¬
فَهَذا زاهِدٌ فِي عِلْمِ هَذا ... وَهَذا فِيهِ أَزْهَدُ مِنْهُ فِيهِ إِذا غَلَبَ الشَّقاءُ عَلى سَفِيهٍ ... تَنَطَّعَ فِي مُخالَفَةِ الفَقِيهِ (¬1) وهذه أعظم المُهْلِكات الّتي أشار إليها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي ثعلبة الخشنيِّ رضي الله تعالى عنه: "مُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِذا رَأَيْتَ شُحًّا مُطاعًا، وَهَوىً مُتَّبَعًا، وَدُنْيا مُؤْثَرةٌ، وإِعْجابَ كُلِّ ذِي رَأْي بِرَأَيْهِ فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ وَدعَ العَوامَّ" الحديث. رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه (¬2). ونص النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر رواه الطبراني وغيره: أن هذه الأمور مهلكات (¬3). وقال الدينوري في "المجالسة": أنشدنا محمّد بن عبد العزيز لموسى بن سعيد بن عبد الرّحمن المقنع الأنصاري: [من الطويل] ثَلاثُ خِلالٍ كُلُّها غَيْرُ طائِلِ ... يَطُفْنَ بِقَلْبِ الْمَرْءِ دُونَ غَشائِهِ هَوى النَّفْسِ ما لا خَيْرَ فِيهِ وَشُحُّها ... وإِعْجابُ ذِي الرَّأْيِ السَّفِيهِ بِرَأْيِهِ (¬4) ¬
ولا يكون الإعجاب بالرأي مهلكًا إِلَّا إذا كان مخالفًا للحق، وهو الرأي السفيه، وإذا وافق الرأي الحق فلا يضره الإعجاب به من حيث إنّه حق، بل من حيث إنّه منسوب إليه. والإعجاب بالرأي من هذه الحيثية هو الغالب على النَّاس، ولذلك جاء ذم الإعجاب بالرأي في الحديث مطلقًا، فالعالم العامل والفقيه الخاشع مهما أعجبه ما هو عليه من حيث إنّه حق مأمور به مع التبرؤ من الحول والقوة ليستحث نفسه على طلب الزيادة منه عملًا بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وليبعث غيره على الاقتداء به ليفوز بالنجاة والنجاح، فإن ذلك دليل الخير والسعادة. ومن هذا القبيل: ما رواه ابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنّه قال: والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إِلَّا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته (¬1). وروي نظير ذلك عن علي، ومعاوية، وسعيد بن المسيَّب، وغيرهم (¬2). وأمّا السفيه فإنّه مهما أعجب بنفسه وسفَهِهِ ودعا النَّاس إلى مثل عمله، وصرف فكره وفطنته في تقبيح حال العلماء الكُمَّل، ومخالفتهم ¬
في القول أو الرأي أو العمل، فذلك دليل شقاوته كما أشار إليه الشّافعيّ رحمه الله تعالى (¬1). ومن ثمّ لا ينبغي أن يقر السفيه على ما يصنعه مخالفاَّ للسنة، ولا يُحَسَّن له رأي ولا عمل، بل ولا تقبل له هدية؛ فإن قبول هدية المرء دليل المحبة والرضا عنه كما قال حذيفة المرعشي رحمه الله تعالى: إياكم وهدايا الفجار والسفهاء؛ فإنكم إن قبلتموها ظنوا أنكم قد رضيتم فعلهم. رواه ابن جهضم (¬2). بل ينبغي نهيه، وزجره، ومنعه. روى الطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "السنن" عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه -: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذُوا عَلى أَيْدِي سُفَهائِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَهْلَكُوا، أَوْ تُهْلِكُوا" (¬3). وفي معنى الحديث قول العرب: حكموا سفهاؤكم بالكلف؛ أي: امنعوهم. قال في "الصحاح": يقال: حكمت السفيه، وأحكمته: إذا أخذت على يده. ¬
قال جرير: [من الكامل] أَبَنِي حَنِيفَةَ حَكِّمُوا سُفَهاءَكَمْ ... إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبا وكأنه مأخذ من حلة اللجام، وهي بالتحريك: ما أحاط بحنك الدابة، فقال منه: حكمت الدابة حكمًا، وأحكمته (¬1). ومنهم من ينشد البيت: حلموا - باللام - أي: احملوهم على الحلم؛ كأنّه فر من إيهام معنى التحكيم الّذي هو جعلهم حكامًا؛ فإنّه لا يليق الأمر به. ولقد جرت عادة الله تعالى في خلقه منذ خلق آدم -عليه السّلام- إلى عصرنا أنّه لم يكن عليم حكيم دخل في ولاية الله تعالى إِلَّا ابتلي بسفيه يُباريه ويُماريه، ويعاديه ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حَيَّ عن بينة كابتلاء آدم بإبليس، وهابيل بقابيل، ونوح وهود وصالح وشعيب بأقوامهم، وإبراهيم بنمرود وقومه، ولوط بأهل سَدُوم، وموسى بفرعون وقومه، وعيسى باليهود، ومحمد صلّى الله عليه وعلى سائر الأنبياء وسلم بأبي جهل وصناديد قريش، ثمّ بكعب بن الأشرف وأحبار يهود، وبالسيد والعاقب، ومن معهما من نصارى نجران، وبعبد الله بن أُبَي ابن سلول والمنافقين. وكل هؤلاء السفهاء أُعجبوا برأيهم، وسفَّهوا أحلام خيارهم. فقال إبليس: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61]. ¬
وقال لآدم وحواء عليهما السّلام ما تحصيلُه: إنَّ ترككما الشجرةَ سفهٌ لأنّها شجرة الخُلد، والأكل منها يلحقكما بالملائكة، ومن أعرض عن هذا فهو سفيه. وقال قابيل لأخيه: {لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة: 27]، ثمّ قتله، ولى تمنعه الأخوة من السفه. وقال قوم نوح -عليه السّلام-: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ} [الأعراف: 60، 61]. وقال قوم هود -عليه السّلام-: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66]. وقال قوم صالح -عليه السّلام-: {يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود: 62]. وقال قوم شعيب -عليه السّلام- {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} إلى قوله: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: ] [هود: 87 - 91]: وقال قوم إبراهيم -عليه السّلام-: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 59]. وقال قوم لوط -عليه السّلام-: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56].
وقال فرعون: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]. وقالت قريش عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إنّه سَفَّه أحلامهم، وصَبَأ عن دينهم. وقالوا: ساحر وشاعر ومجنون. وسمَّوه صابئًا، ومذممًا، وابن أبي كبشة. وقال أهل الكتابين: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135] وقال المنافقون: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13]. {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]. ثمّ صارت هذه السُّنَّة في هذه الأُمَّة إلى الآن؛ ما ظهر منها ظاهر بحق يدعو إلى الله على بصيرة بطريق الوراثة عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يأمر بسنة وينهى عن مخالفة شريعته، إِلَّا ابتلي بسفيه يسفِّه رأيه، ويقبِّح طريقه؛ ولا حول ولا قوة إِلَّا بالله. * تَنْبِيهٌ: وظيفة العدل الرشيد مع السفيه أمور: الأوّل: أن لا يتشبه بالسفهاء. ومتى رغبت عن حال الراشدين التحقت بالسفهاء؛ ألَّا ترى قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]؟ الثّاني: أن تأخذ على يد السفيه، وتنكر عليه وتنهاه، إِلَّا عند خوف الفتنة أو الضرر؛ فإن التغافل عن السفهاء ربما أدى إلى هلاك العامة.
روى الإمام عبد الله بن المبارك عن الشّعبيّ رحمه الله تعالى قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما يقول على هذا المنبر: يا أيها النَّاس! خذوا على أيدي سفهائكم؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ قَوْمًا رَكِبُوا فِي سَفِينَةٍ، فَاقْتَسَمُوها، فَأَصابَ كُلُّ واحِدٍ مَكانًا، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْهُ الفَأْسَ فَنَقَرَ مَكانَهُ، قالُوا: ما تَصْنعُ؟ قالَ: مَكانِي أَصْنَعُ بِهِ ما شِئْتُ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلى يَدَيْهِ نَجَوْا وَنَجا، وإِنْ تَرَكُوهُ غَرِقَ وَغَرِقُوا؛ خُذوا عَلى أَيْدِي سُفَهائِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَهْلَكُوا" (¬1). وقد قلت سابقًا: إنّه متى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان سببًا للهلاك وعموم الفساد. الثّالث: أن تصرم السفيه وتهجره حيث خِفْتَ الفتنة من أمره ونهيه، أو علمت أن الموعظة لا تؤثر فيه. قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وروى الطبراني، والبيهقي في "الشعب" بسند صحيح، عن عمر ابن قيس بن بشير بن عمر، عن أبيه، عن جده بشير بن عمر رضي الله تعالى عنه -وكان قد رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم- قال: أصرم الأحمق (¬2). ¬
الرّابع: أن لا تحسن له حالًا، ولا تؤتيه لك مالًا، ولا تُسْلِمه قِيادك، ولا تُوليه أمرًا لا يقوم به رأيه، ولا يحتمله عقله. قال الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]. روى ابن أبي شيبة، وغيره عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه - موقوفا - والحاكم وصححه، والبيهقي عنه مرفوعا إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاثة يَدْعُونَ اللهَ فَلا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ؛ رَجُلٌ كانَتْ تَحْتَهُ امْرَأة سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْها، وَرَجُل كانَ لَهُ عَلى رَجُلٍ مالٌ فَلَمْ يُشْهِدْ، وَرَجُلٌ آتَى سَفِيها مالَهُ وَقَدْ قالَ اللهُ تَعالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] " (¬1).وقلت عاقدًا له: [من الرجز] ثَلاثَة يَدْعُونَ رَبَّهُمْ وَلا ... يُجِيبُهُمْ فِي خَبَرٍ مُصَدَّقِ مُؤتِي السَّفِيهَ مالَهُ وَمَنْ إذا ... عَامَلَ لَمْ يُشْهِدْ وَلَمْ يَسْتَوْثِقِ وَرَجُل زَوْجَتُهُ مُسِيئَةٌ ... أَخْلاقَهَا ثَمَّتَ لَمْ يُطَلِّقِ ¬
* تَنْبِيهٌ: روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ النِّساءَ السُّفَهاءُ إِلاَّ الَّتِي أَطاعَتْ قَيِّمَها" (¬1). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ (5)} [النساء: 5] قال: هم بَنُوك والنساء (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: الخدم، وهم شياطين الإنس (¬3). ووجه تفسيرهم بما ذكر - وإن كان الحكم عاماً - لوجهين: أحدهما: أن المرء العاقل لا يؤتي ماله لكل من لقيه، وإنما يسمح بماله لمن يكون أعز عليه من ماله، أو لمن يخصه من ولد أو زوجة أو خادم، فوقع النهي عن إيتاء سفهائكم المال لأنه تعريض له لأن يضيع. وفسرت السفهاء بمطلق الصبيان والنساء؛ لأن الغالب عليهم ¬
السفه، وهو حالهم لأنهم لا يتعبون في تحصيله، فلا يُحسنون إمساكه، وإذا صرفوه والتمسوا غيره وجدوه، فإذا منعوا منه تنبهوا لحالهم، فتنصلوا منه، وتحلَّوا بحِلْية الرشد. وثاني الوجهين: أنه إذا نهي عن إيتاء المال لأقرب الناس إليه إذا كانوا سفهاء، فالسفهاء غيرهم أولى بالنهي والمنع منه. وفي الآية تفسير آخر: أن المراد بالآية النهي عن دفع مال اليتيم والمحجور عليه إليه ما لم يرشد. ونسب المال إلى الأولياء تنزيلاً لليتيم ونحوه منزلة نفسه؛ لأن المؤمنين إخوة كما قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (29)} [النساء: 29]؛ أي: لا يقتل بعضكم بعضًا. روى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ}، قال: هم اليتامى. {أَمْوَالَكُمُ (5)} [النساء: 5]، قال: أموالهم؛ بمنزلة قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (29)} [النساء: 29] (¬1). الخامس من الأمور: أن ترفق بالسفيه الذي هو تحت ولايتك من ولد، أو امرأة، أو خادم، أو يتيم، ونحوه بالإنفاق عليه بقدر الحاجة، وتحريضه على كسوته ونحوها، وأن يتلطف به في الخطاب والنصيحة، وتعرَّفه وجه منعه من مالك أو من ماله لعله يرشد. ¬
قال الله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} [النساء: 5]. هذا حيثما تُوسِّم له النجاح والفلاح، وظُنَّ منه الاصطلاح، وأما إذا أيس رشده وخيره، وعلم أن الرفق به في الخطاب، واللين معه في الكلام يزيد في فساده، ولا يميله عن سفهه، فليس له إلا الزجر والهجر. روى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ يَراهُ أَهْلُ البَيْتِ" (¬1). وأخرجه الطبراني في "الكبير" من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وزاد: "فَإِنَّهُ أَدَبٌ لَهُمْ" (¬2). وقال لقمان عليه السلام: ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع (¬3). ولا يخفى على العارف الحكيم الأنفع والأصلح في تأديب السفهاء ومعاشرتهم، وفي التأدب مع العلماء ومعاملتهم، كما روى أبو نعيم عن معاوية بن قُرَّة رحمه الله تعالى قال: مكتوب في الحكمة: ¬
لا تجالس بحلمك السفهاء، ولا تجالس بسفهك العلماء (¬1). ويقال في المثل: سفيهًا لم يجد مسافهًا (¬2). وربما قيل: سفيهٌ بالرفع؛ يضرب في الإعراض عن الجاهلين، وترك مسافهتهم، فلا ينبغي أن تقابل السفيه بمثل سفهه، ولا تتفقه في جوابه؛ فإن العي هنا أولى من الفهم والفطنة. روى الدينوري رحمه الله تعالى عن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: لا أعتذر من العي في خصلتين: إذا خاطبت سفيهاً، أو طلبت حاجة لنفسي (¬3). وقلت في عقد معناه [من المنسرح]: العِيُّ فِي خَصْلَتَيْنِ خَيْرٌ ... مِنْ فِطْنَتِي وَاحْتِكامِ حَدْسِي مَتَى أُخاطِبْ سَفِيهَ قَوْمٍ ... أَوْ أَبْتَغِي حاجَةً لِنَفْسِي * تَتِمَّةٌ: روى أبو نعيم عن سعيد بن عبد العزيز قال: قال سليمان لابنه عليهما السلام: يا بني! نظرت في العلم فكثر همي، ونظرت في الحكمة فكبر سني، ونظرت فإذا مع الصحة سقم، وإذا مع الشباب ¬
كبر، وإذا مع الحياة موت، وإذا تربتي وتربة السفيه واحدة، إلا أَنْ أفضله يوم القيامة بعملي (¬1). ¬
فَصْلٌ من التشبه بالسفهاء التشبه بالسفلة، والدنيء، والخسيس، والنذل، والوبش، والوغد، والرَّذِل، والطَّغَام، واللئيم، والغوغاء، ومرء السوء. وهذه الأوصاف كلها مذمة لا ينبغي التشبه بمن اتصف بها. فأما السفلة - بكسر الفاء - على وزن فرحة، وتنقل كسرة الفاء إلى السين، وهو أفصح: هم أسافل الناس وغوغاؤهم كما في "القاموس" (¬1). وقد سفل - ككَرُم، وعلِمَ، ونصَرَ - سفالاً وسُفولاً - بالضم - وتسفل، وسفل في خلقه، وعلمه - ككرم - سفلاً، ويضم، وسفالاً - ككتاب - وفي الشيء: سفلاً - بالضم -: نزل من أعلاه إلى أسفله. وقال في "الصحاح": السفلة: السقاط من الناس. يقال: هو من السفلة، ولا تقل: هو سفلة لأنها جمع، والعامة تقول: رجلٌ سفلة من قومٍ سفل. ¬
قال ابن السِّكِّيت: وبعض العرب تخفف فتقول: فلان من سفلة الناس، فتنقل كسرة الفاء إلى السين. انتهى. وربما قيل: فلان من السفلة - بفتحتين - وهو جميع سافل، من السفول. ويقع في كلام الفقهاء: فلان السفلة على الواحد، وقد حكينا عن "الصحاح" أنه من قول العامة. قال الفقهاء: السفلة: من تعاطى الأفعال الدنئة ويعتادها، ولا يقع على من يتفق منه نادرًا كَالكريم والسيد في نقيضه، فلا ينبغي التشبه بمن يرضى لنفسه بسفساف الأخلاق والأعمال، لا في أقواله، ولا في أعماله، ولا في سائر أحواله. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ كَرِيْمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ، وَيُحِبُّ مَعالِيَ الأُمُورَ، وَيَكْرَهُ سَفْسافَها". رواه الطبراني، والحاكم وصححه، وأبو نعيم، والبيهقي من حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما (¬1). والسَّفْساف: الرديء من كل شيء، والأمر الحقير، ومنه قيل للئيم العطية: مسفسف. وروى أبو نعيم عن ذي النون المصري رحمه الله تعالى: أنه سئل عن السفلة من هو؟ ¬
قال: من لا يعرف الطريق إلى الله، ولم يتعرفه (¬1). وعنه قال: سئل جعفر بن محمد رحمه الله تعالى عن السفلة؟ قال: من لا يبالي ما قال، ولا ما قيل له (¬2). وروى الدينوري عن الحسن بن عيسى قال: سئل ابن المبارك رحمه الله تعالى فقيل له: من الناس؟ قال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. قيل له: فمن السفلة؟ قال: الذي يأكل الدنية. قيل له: فمن الغوغاء؟ قال: خزيمة بن حازم وأصحابه. قيل له: فمن الدني؟ قال: الذي يذكر غلاء السعر عند الضيف (¬3). وروى أبو نعيم عن نصر بن سيار قال: قال سفيان رحمه الله ¬
تعالى: لو لم ينبغ للأشراف أن يزهدوا في الدنيا إلا لأنها تضعهم وترفع السفلة عليهم، كان يحق لهم أن يزهدوا فيها (¬1). وعن سلمة بن عفان قال: إن أردت أن تعرف قدر الدنيا فانظر عند من هي (¬2). وأما الدنيء فهو - كما في "القاموس" -: الخسيس، الخبيث البطن والفرج، الماجن كالدانئ، والدقيق الحقير، والجمع: أدناء ودنآء. وقد دنأ - كمنع، وكرم - دنوءة ودناءة. والدنيئة: النقيصة (¬3). وقد سبق قريبًا في كلام ابن المبارك: أن الدنيء الذي يذكر غلاء السعر عند الضيف. وأما الخسيس: فعلة من باب: خس خسة وخساسة، إذا كان في نفسه خسيساً. وخس نصيبه: جعله خسيسًا دنيئاً حقيرًا. قال الفقهاء: الخسيس من باع دينه بدنياه، وأخس الأخساء من باع آخرته بدنيا غيره (¬4). ¬
ويصف هذا في الحديث بأنه شر الناس، فروى الخِلَعي في "فوائده" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَرُّ البَرِيَّةِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلةً يَومَ القِيامَةِ مَنْ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيا غَيْرِهِ" (¬1). وروى ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَومَ القِيامَةِ عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيا غَيْرِهِ" (¬2). وأخرجه أبو يعلى في "مسنده"، ولفظه: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ نَدامَةً يَومَ القِيامَةِ رَجُلٌ باعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيا غَيْرِهِ" (¬3). وأما النذل: فهو - كما في "القاموس" -: الخسيس من الناس، والمحتقر في جميع أحواله، وجمعه: أنذال، ونذول، ونُذُلاً، ونُذَّال. وقد نذل - ككرم - نذالة، ونذولة؛ ذاله معجمة (¬4). روى أبو نعيم عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال: الدنيا نذلة، وهي إلى كل نذل أميل (¬5). ¬
وروى الدينوري في "المجالسة" عن محمد بن سلام الجمحي قال: قال بعض الحكماء: ثلاثة أشياء تميت القلوب: مجالسة الأنذال، ومجالسة الأغنياء، ومجالسة النساء (¬1). وأما الوبش - بالتحريك - فهو كما في "القاموس": أحد الأوباش الأخلاط والسفلة (¬2)؛ ولعله أبلغ من النذل. وأما الوغد فهو الأحمق الضعيف، الرذل الدنيء، ويقال للضعيف جسمًا وخادم القوم، وللصبي (¬3)؛ وليست الثلاثة مرادة هنا. وأما الرذل، والرذال، والرذيل، والأرذل؛ فالكل بمعنى الدُّون، والخسيس، أو الرديء من كل شيء (¬4). والناس مختلفون بعضهم في استرذال بعض، و [ ... ] (¬5). - فمنهم من يرى الرذالة بالصنعة والحرفة. - ومنهم من يراها بالجهل و [ ... ] (¬6) العلم، والثاني صواب، والأول إن كان مع الاتحاد في العلم والدين، أو الفضل فيه ¬
فهو خطأ؛ لأن الكرم إنما هو بالتقوى والعمل الصالح، ولذلك أخطأ قوم نوح في قولهم: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)} [الشعراء: 111]. {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ (27)} [هود: 27]. وأرادوا بالأرذلين: الحواكين، كما رواه ابن المنذر عن قتادة، وابن أبي حاتم عن مجاهد (¬1). نعم، يكون المتصف بذلك ونحوه دوناً ورذالاً إذا رضي به بدلاً عن العلم والدين، والكمالات والفضائل، وهذا منهي عن التشبه به وعن صحبته كما قيل: ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي (¬2) وفي "رسالة الحسن البصري" رحمه الله تعالى: كل عام ترذلون (¬3)؛ أي: تتخلقون بأخلاق الأرذل، وتفشوا الرذالة فيكم، فتغلب على أخلاقكم. ¬
وأما الطغام - بفتح الطاء المهملة، بعدها معجمة - فهم كما في "الصحاح": أوغاد الناس. وأنشد أبو العباس المبرد [من الوافر]: إِذا كانَ اللَّبِيبُ كَذا جَهُولاً ... فَما فَضْلُ اللَّبِيبِ عَلى الطَّغامِ (¬1) وهذا المعنى كاف في التنفير عن التشبه عن الطغام، وهو جمع إن كان بمعنى الأوغاد، ومفرد إن كان بمعنى الأحمق كما يفهم من "القاموس". قال: والطغومية - بضمهما -: الحمق والبذاءة (¬2). وتطغَّم: إذا تجاهل (¬3). وأما الغوغاء فقال في "القاموس": الجراد بعد أن ثبت جناحه، وإذا انسلخ من الألوان وصار إلى الحمرة، وشيء شبه البعوض، ولا يعض لضعفه، وبه سمي الغوغاء من الناس. قال الفقهاء: والغوغاء من يخالط المفسدين، ويخاصم الناس بلا حاجة (¬4). ¬
وأشار ابن عبد ربه في "العقد" إلى أن الغوغاء سواد الناس؛ أي: معظمهم من أصحاب التجارات، والحرف، والصنائع، والبطَّالين. قال: وذكر عند ابن عباس الغوغاء فقال: ما اجتمعوا قط إلا ضروا، ولا افترقوا إلا نفعوا. قيل له: قد علمنا ضرر اجتماعهم، فما نفع افتراقهم؟ قال: يذهب الحجام إلى دكانه، والحداد إلى كياره، وكل صانع إلى صناعته. قال: ونظر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى قوم يتبعون رجلاً أخذ في ريبة، فقال: لا مرحبًا بهذه الوجوه التي لا ترى إلا في شر. قال: وقال حبيب بن أوس الطائي [من الكامل]: إِنْ شِئْتَ أَنْ يَسوَدَّ ظَنُّكَ كُلُّهُ ... فَأَجِلْهِ فِي هَذا السَّوادِ الأَعْظَمِ وقال دعبل [من البسيط]: ما أَكْثَرَ النَّاسَ لا بَلْ ما أَقَلَّهَمُ ... وَاللهُ يَعْلَمُ أَنَّي لَمْ أَقُلْ فَنَدا إِنَّي لأُطْبِقُ عَيْنِي ثُمَّ أَفْتَحُها ... عَلى كثِيرٍ وَلَكِنْ لا أَرَى أَحَدا (¬1) وسيأتي في التشبه بالبهائم والحيوانات لذلك مزيد بيان. ¬
وأما اللئيم: فالدنيء الأصل، الشحيح النفس؛ قاله في "الصحاح" (¬1). وقال صاحب "القاموس": اللؤم - بالضم -: ضد الكرم. لؤم - ككرم - لؤماً - بالضم - فهو لئيم (¬2). وذكر له الجوهري ثلاثة مصادر: اللؤم، واللأمة؛ بضم الهمزة، ولآمة؛ على وزن سحابة. ويقال: يا ملأمان، خلاف قولك: يا مكرمان (¬3). والملأم، والملآم - كمفتح، ومفتاح - الذي يقوم بعذر اللئام (¬4). واللئيم في الحقيقة هو المتخلق بقبائح الأخلاق، وسفساف الأعمال ولو كان له حسب ونسب. وقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤمن بالكرم والغرة، والمنافق بضد ذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيْمٌ، وَالْمُنافِقُ خَبٌّ لَئِيمٌ". رواه أبو داود، والترمذي، والحاكم وصححه، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬5). ¬
ولا مناقضة بينه وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ". أخرجه القضاعي عن أنس - رضي الله عنه - (¬1)؛ لأن فطنته في أمر آخرته، وغرته في أمر دنياه، وإنما خلق المؤمن الكرم، وقد يكون بعض الأخلاق كرماً من وجه ولؤما من وجه، كما أن صرف المال في وجوه البر كرم، وفي وجوه الفجور لؤم، والحياء المانع من المعصية والمكروه كرم، والمانع من الطاعة، والحق كالعلم لؤم، وهكذا. وقد روى البخاري في "تاريخه" عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ، فَطِنٌ، حَذِرٌ، وَقَّافٌ، مُتَثَبِّتٌ، لا يَعْجَلُ، عالِمٌ، وَرِعٌ، وَالْمُنافِقُ هُمَزَةٌ لُمَزَةٌ، حطَّةٌ، لا يَقِفُ عِنْدَ شُبْهَةٍ وَلا عِنْدَ مُحَرَّمٍ" (¬2). ولا يخرج المؤمن من الكرم ما يقع منه مما يخالف الكرم على وجه الزلة، ثم يندم عليه، ولا ما يقع على وجه الضرورة كالانتقام من عدوه الباغي عليه، والانتصار من الظالم خشية تجرِّي غيره، أو حسماً لمادة الظالم. قال الله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} [الشورى: 41]. وقد قيل: [من الطويل] ¬
وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ ... يُهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ (¬1) وقال البحتري [من الكامل]: مَتَى أَحْوَجْتَ ذا كَرَمٍ تَخَطَّى ... إِلَيْكَ بِبَعْضِ أَفْعالِ اللِّئامِ (¬2) وكما لا ينبغي التشبه باللئيم لا ينبغي مصاحبته، ولا وداده، ولا مجاورته خشية سريان خلقه إليك، فلا ينصفك وإن أنصفته، ولا يكتم لك سرًا، ولا يحمد لك أمرًا، ينم عليك مساوئك، ويتأول محاسنك، إن عاتبته لم يعتبك، بل استطال وأساء المقال، وإن تلطَّفت به تمرد وقسا، وإن احتجت إليه لم يواسك، بل رجعت منه بالخيبة والأسى. روى أبو نعيم عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: وجدنا أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام (¬3). وعن محمد بن علي الباقر رحمه الله تعالى قال: سلاح اللئام قبح الكلام (¬4). ¬
وروى الدينوري عن علي رضي الله تعالى عنه قال: الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا ألطف (¬1). وعن ابن أبي الدنيا قال: أنشدنا محمد بن الحسن لدكين الراجز [من الطويل]: إذا الْمَرْءُ لَمْ يَدْنس مِنَ اللُّؤْمِ عِرْضُهُ ... فَكُلُّ رِداءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ فَإِنْ هُوَ لَمْ يَنْزِعْ مِنَ اللُّؤْمِ نَفْسَهُ ... فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّناءِ سَبِيلُ (¬2) ولبعض القدماء [من الكامل]: إِنَّ الوَفاءَ عَلى الكَرِيمِ فَرِيضَةٌ ... وَاللُّؤْمَ مَقْرُونٌ بِذِي الإِخْلافِ وَتَرى الكَرِيمَ لِمَنْ يُعاشِرُ مُنْصِفًا ... وَتَرى اللَّئِيمَ مُجانِبَ الإِنْصافِ (¬3) وله [من مجزوء الرمل]: ¬
وَلْيَكُنْ سِرُّكَ فِي الأَسْـ ... ـرارِ سِرًّا لا يُرامُ إِنَّما يَنْطِقُ بِالسُّو ... ءِ وَيُفْشِيهِ اللِّئامُ ولبعض المحدثين [من الخفيف]: حِينَ يَحْتاجُ اللَّئِيمُ فَقَدْ ... مَدَّ نَحْوَ الْمُخْزِياتِ يَدا وَإِذا احْتاجَ الكَرِيمُ سَما ... وَاتَّقَى غبَّ الْحَدِيثِ غَدا وأما المرء السوء: فهو من ساءه سوءًا إذا فعل به ما يكره، ولعله مخصوص بمكروه يتأذى منه. ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى (10)} [الروم: 10]، أو السوء، أو النار. ونقيضه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (26)} [يونس: 26]. ومنه قولهم: فلان رَجُلُ سَوْءٍ، ورجل السَّوء؛ بالفتح والإضافة. قال الله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195]. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]. وقال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا (7)} [الإسراء: 7]؛ أي: فعليها. والأمر بالشيء نهي عن ضده، ومدحه ذم لضده، ولقد مدح الإحسان حتى إلى المسيء، وذمت الإساءة ولا سيما إلى من أحسن.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ يَنالَ عَبْدٌ صَرِيحَ الإِيْمانِ حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ، وَيَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيَغْفِرَ لِمَنْ شَتَمَهُ، وَيُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَساءَ إِلَيْهِ". رواه ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى ابن منيع، وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْخَبَرُ الصَّالِحُ يَجِيْءُ بِهِ العَبْدُ الصَّالِحُ، وَالْخَبَرُ السُّوءُ يَجِيْءُ بِهِ الرَّجُلُ السُّوءُ" (¬2). والعبد السوء مذموم بكل حال. قال بعض العلماء: السلطان السوء يحيف البريء، ويصنع الرديء، والبلد السوء تجمع السفل وتورث العلل، والولد السوء يشين السلف ويهدم الشرف، والجار السوء يفشي السر ويهتك الستر، ولهذا استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من جار السوء، وكان يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جارِ السُّوءِ فِي دارِ الْمُقامَةِ؛ فَإِنَّ جارَ البادِيَةِ يَتَحَوَّلُ". صححه الحاكم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاثٌ مِنَ العَواقِرِ: إِمامٌ إِنْ أَحْسَنْتَ لَمْ يَشْكُرْ، وَإِنْ أَسَأْتَ لَمْ ¬
يَغْفِرْ، وَجارٌ إِنْ رَأى خَيْراً دَفَنَهُ، وَإِنْ رَأى شَرًّا أَشاعَهُ، وَامْرَأةً إِنْ حَضَرْتَ آذَتْكَ، وَإِنْ غِبْتَ عَنْها خانَتْكَ" (¬1). وكان بعض السلف يقول: اللهم لا تجعل لي أهل سوء فأكون رجل سوء (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الربيع بن أنس رحمه الله تعالى قال: مكتوب في الحكمة: من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مدخل السوء يتهم، ومن لا يملك لسانه يندم (¬3). وروى أبو عبد الله الحسين المروزي في "زوائد الزهد" لابن المبارك عن عبد الله بن عبيدة، وغيره قالوا: قال لقمان لابنه: يا بني! من لا يملك لسانه يندم، ومن يكثر المِراء يشتم، ومن يدخل مداخل السوء يتهم، ومن يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يصحب الصالح يغنم، ومن طلب عزاً بغير عز يجد الذل جزاء بغير ظلم (¬4). واعلم أنك إذا تلبست بالسوء ثم راجعت دينك، وندمت على الإساءة، وتحليت بحلية الإنصاف، ذهبت عنك وَصْمة السوء فضلاً ¬
من الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (114)} [هود: 114]. {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110]. وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أحمد بن غانم الأنطاكي رحمه الله تعالى يقول: هذه غنيمة باردة، أصلِحْ فيما بقي يغفر لك ما مضى. رواه ابن الجوزي في "صفة الصفوة" (¬1). وروى الإمام أحمد، والشيخان، وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِما عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَساءَ فِي الإسْلامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ" (¬2). وروى ابن ماجه، والبيهقي في "الشعب" عن عائشة الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ إِذا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا، وَإِذا أَساؤُوا اسْتَغْفَرُوا" (¬3). ¬
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ «وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ» تَألِيف العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة 977 هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة 1061 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى تَحقِيقَ وَدِرَاسَة لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ بِإِشْرَافِ نُورِ الدِّين طَالِب المُجَلَّد العَاشِر دَارُ النَّوادِرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ (10)
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 7 - 84 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
تَابِع المَقَامُ الثَّانِي فِي النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِغَيرِ المُبْتَدِعَةِ مِنَ الفَسَقَةِ
فَصْلٌ المتشبه بالفساق تارة يتشبه بهم في نفس الفسق، وهذا لا كلام في أنه منهم. وتارة يتشبه بهم في الزي وظاهر الفعل، وهو ملحق بهم، وهو مرتكب لأمر محرم أو مكروه بلا شك ولا ريب. وقد علمت الحديث الذي نهى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسق في لحونهم فيها عن كونها طاعة، فصارت مكروهة أو محرمة، ولذلك قال العلماء بتحريم سماع المزامير والآلات لأنها شعار الشَّرَبة. قال العلماء: ولو أدار سويق السكر أو الماء القراح كما تدار الخمرة كانت تلك الإدارة حرامًا، وإدارة القهوة المتخذة من البُن على تلك الطريقة حرام وإن كانت القهوة المذكورة مباحة في نفسها، وتسميتها قهوة - والقهوة في الأصل من أسماء الخمر - لا ينقل حكمها من الحل إلى الحرمة، كما أن تسمية الخمر باسم غيرها من المباحات لا ينقل حكمها من الحرمة إلى الإباحة. وكذلك العفيف إذا لبس زي المخنثين، والعفيفة إذا لبست زي
القحاب حرم عليهما ذلك. ومن دخل الأسواق متمايلاً صارخاً على هيئة السكارى فهو متشبه بهم كائن معهم. ومن ابتلع دواء يوهم الناس أنه شيء مسكر أو مخدر فهو متشبه بالحشاشين والمتكيفين. ومن تبجح بإظهار العشق وتكلم بالفاظ أهله، أو فعل أفعالهم، أو حضر في مجلس يجتمع به الفسقة، فيحكون عن أنفسهم أنهم فعلوا كذا وكذا، فأوهمهم أنه عمل فوق عملهم، فقد ارتكب محرمًا وإن كان كاذبًا على نفسه. بل على الإنسان أن يتبرأ من ذلك ويتَّقي مواطن التهم والريب، وإن ابتلي بشيء من ذلك فليستر ما أمكنه الستر. روى الحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعد أن رجم الأسلمي: "اجْتَنِبُوا هَذهِ القاذُوراتِ الَّتِي نَهَى اللهُ عَنْها، فَمَنْ ألَمَّ بِشَيْءٍ مِنْها فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ تَعالَى وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ؛ فَإِنَّ مَنْ يُبْدِ لَنا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتابَ اللهِ" (¬1). في الأثر كما ذكره أبو طالب المكي: من تَزَيَّا بزي قوم فهو منهم (¬2). ¬
وقال رحمه الله تعالى: إن السلف كانوا يكرهون ما أحدث الناس من الثياب الرقاق، وكانوا يقولون: الثياب الرقاق لباس الفساق، ومن رق ثوبه رق دينه. انتهى (¬1). وما ظنك بما أحدث الناس اليوم مما لم يخطر لأحد من السلف على بال من زي أهل الخنوثة والتكسر. وفي بعض الآثار: اجتنبوا فعل الذعار، وزي أهل النار. ¬
فَصْلٌ ما يدخل في باب التشبه بالفساق والسفهاء تشبه أهل الكمال بأهل النقصان والاختلال كتشبه العقلاء بالمجانين، والرجال بالنساء أو الصبيان؛ لأنه لا يخلو عن فسق وإحباط مروءة، فمن خَلَقه الله تعالى بشراً عاقلاً، حرًا، ذكرًا، رجلاً، فليس له أن يسلك مسالك البهائم، والمجانين، والأرقاء، والنساء، والصبيان لأن ذلك يناقض الحكمة الإلهية، ويكون كفراً بنعمة الله تعالى. كذلك كمال المرأة أن لا تخرج عن مسالك النساء إلى مداخل الرجال. وكمال الرقيق أن لا يطلب السيادة وهو مقيم على الرق. وكمال الصبي أن لا يزاحم الرجال الكُمَّل فيما يختص بهم من الرئاسات وابتداء الكلام والاستبداد بالرأي. بل كمال المرء أن يكون بالمنزلة التي أنزله الله تعالى بها من صغر أو كبر، أو فقر أو غنى، حتى يكون الله تعالى هو الذي ينقله عنها إلى أكمل منها.
وإذا نقل الله تعالى العبد من حالة نقص إلى حالة كمال كانتقاله من الجهل إلى العلم فليس له أن ينزل من صفة الكمال إلى صفة النقص؛ فإن ذلك كفران للنعمة وعكس للحكمة، فتعيَّن أن نتكلم حينئذ في هذا المعنى في أبواب. وأخَّرنا الكلام على التشبه بالبهائم لطول الكلام عليه، ولوجوه أخرى من المناسبات سنشير إليها بعون الله وتوفيقه.
(1) باب النهي عن تشبه العاقل بالمجانين والحمقى
(1) بَابُ النَّهي عَنْ تَشَّبُّهِ العَاقِلِ بِالمَجَانينِ وَالحَمْقَى
(1) بَابُ النَّهي عَنْ تَشَّبُّهِ العَاقِلِ بِالمَجَانينِ وَالحَمْقَى قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]. إنما يتبعون آباءهم ولو كانوا مجانين ضُلاَّلاً. وفيه إشارة إلى أنه لا يصلح لأن يقتدى به إلا من كان عاقلاً مهتدياً، وأن من اقتدى بمن يتصف بالجنون والضلال، وتشبه به حَرِيٌّ بالذم والإنكار عليه. وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا (92)} [النحل: 92]. قال مقاتل، والكلبي: نزلت في امرأة خَرْقاء حمقاء من قريش يقال لها: ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد بن مناة بن تميم، وكانت بها وسوسة، كانت تغزل الغزل من الصوف، والشعر، والوبر، وتأمر جواريها بذلك، فكنَّ يغزلن من الغداة إلى نصف النهار، فإذا
انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلنه، فهذا كان دأبَها. حكاه الثعلبي، وغيره (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص، وابنُ مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: أنها نزلت في سعيدة الأسدية، وكانت مجنونة تجمع الشعر والليف؛ أي: لتغزله وتبرمه، ثم تنقضه (¬2). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي: أنها كانت امرأة بمكة تسمى: خرقاء مكة؛ كانت تغزل، فإذا برمت غزلها تنقضه (¬3). وعن قتادة في الآية قال: لو سمعتم بامرأة نقضت غزلها بعد إبرامه لقلتم: ما أحمقَ هذه. قال: وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن نكث عهده (¬4). والأنكاث: جمع نكث - بالكسر -: وهو النقض بعد الفتل، غزلاً كان أو حبلاً. ¬
نهى الله تعالى عن التشبه بهذه الحمقاء المختلة في نقض ما غزلته، وهدم ما بنته؛ فإنَّ فِعْلَها اشتمل على إضاعة المال، وإضاعة الزمان في غير فائدة ولا عائدة. ولقد روى الدينوري في "المجالسة" عن خلس قال: قيل لأعرابي - وأراد الحجاج قتله -: اشهد على نفسك بالجنون. قال: لا أكذب على ربي وقد عافاني، فأقول: قد بلاني (¬1). فتأمل كيف عرض على هذا أن يشهد على نفسه بالجنون؛ أي: بأن يتجامن ويتجانن لينجو من القتل، [فآثر القتل] (¬2) على الاتصاف بعدم العقل! وذكر أقضى القضاة الماوردي في "أدب الدين والدنيا" عن الأصمعي قال: قلت لغلام حَدَثٍ من أولاد العرب كان يحادثني فأمتعني بفصاحته: يسرك أن يكون لك مئة ألف درهم وأنت أحمق؟ قال: لا والله. قلت: ولم؟ قال: أخاف أن يجني عَلَيَّ حُمقي جناية تذهب بمالي، ويبقى عَلَيَّ حمقي. قال الماوردي: فانظر إلى هذا الصبي كيف استخرج لفرط ¬
ذكائه، واستنبط بِجَودة قريحته ما لعله يدق على من هو أكبر منه سناً وأكثر تجرِبة (¬1). ومن أول دليل على قبح التشبه بالمجانين والحمقى ما رواه ابن عدي في "كامله" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِيَّاكُمْ وَرَضاعَ الْحَمْقاءِ" (¬2). والحكمة في ذلك أن الرضاع يغير الطباع، فنهى عن إرضاع الصبي من الحمقاء لئلا يسري إليه من حمقها شيء. ولعل التشبه بالمجانين أبلغ من سريان حالهم إلى المتشبه من الرضاع في طباع الرضيع. ولقد قال حجة الإسلام الغزالي: لا يتجنن إلا المجنون (¬3). قلت: بل المتشبه بالمجنون أسوأ حالاً منه من وجهين: الأول: أن المجنون سُلِبَ نعمة العقل فلا يطالب بشكرها، والعاقل المتشبه كفر نعمة العقل من حيث إنه لم يستعمله فيما خلق له، وهو بذلك متعرض لزوال تلك النعمة؛ فإن كفران النعم يبيدها، كما أن الشكر يفيدها ويزيدها، ولذلك قال بعض الحكماء: ما تجنن أحد قط إلا وانتهى أمره إلى الجنون. ¬
والثاني: أن المجنون رفع عنه قلم التكليف فلا عقاب عليه، والمتشبه به مكلف فيعاقب بما أخل به من التكليفات بسبب التجني، فالمتجنن قد سلب حلاوة العقل في الدنيا وثوابه في الآخرة. قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10 - 11]. والمجنون مثاب على مصيبته كالمريض، كما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه في "الأم". وروى الشيخان عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس - رضي الله عنهما -: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف؛ فادع الله لي. قال: "إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ يُعافِيكِ". فقالت: أصبر (¬1). والمتجنن لا يثاب على مصيبته، بل هو من أشقى الناس. روى الطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَشْقَى النَّاسِ مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَقْرُ الدُّنْيا ¬
وَعَذابُ الآخِرَةِ" (¬1). ومن كان فقره في عقله فهو أسوأ حالاً ممن فقره في ماله لأنه سلب أحب النعم إلى الله تعالى وهو العقل، والفقير من المال سلب الدنيا وهي أبغض خلق الله تعالى إليه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا هُوَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيا، وَما نَظَرَ إِلَيْها مُنْذُ خَلَقَها بُغْضاً لَها". رواه الحاكم في "تاريخ نيسابور" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬2). وبين الدنيا وبين الحمقى مناسبة، ومن ثم تروق لهم ما لا تروق لغيرهم، وكلما تأخر الزمان نقصت العقول، وكلما نقصت العقول توافقت الدنيا مع أربابها. ومن ثم قال بشر بن الحارث رحمه الله تعالى: يأتي على الناس زمان لا تقر فيه عين حكيم، ويأتي على الناس زمان تكون الدولة فيه للحمقى على الأكياس. نقله المبارك ابن الأثير الجزري في كتاب "المختار من مناقب الأخيار" (¬3). ¬
والحكمة في كون الدولة آخراً للحمقى لغلبة الحمقى على الناس، فتتوافق عقول الرعاة والرعية. قال عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد": حدثنا أبو عبد الله السلمي قال: حدثنا بشر بن الحارث بحديث حدثني به أحمد بن حنبل عن وكيع، وغير واحد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس قال: دخل عيينة بن حصن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت عائشة: من هذا؟ قال: "هَذا أَحْمَقٌ مُطاعٌ". فقال بشر: نعم، هذا من المداراة. قال لي بشر: أَقِلَّ من مخالطة الناس، واستخفف عنهم حتى تكون عزيزًا (¬1). والمعنى: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يلاطف عيينة ويداريه، وكان يكرمه ويعطيه، وهو من المؤلفة قلوبهم لكونه أحمق مطاعاً. وهذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - تعليم لمن أدرك دولة الحمقى كيف يداريهم، فأما إخلاصهم المودة لأجل الدنيا والتوصل إلى مستلذاتها فغير مقبول. والعاقل يتخلَّق بأخلاق أمثاله وأقرانه في زمانه ومكانه، فإن خالف ذلك فإما أن يكون الباعث له على المخالفة الانحطاط عن ¬
درجة العقل، أو الانسلاخ منه بالكلية فيكون من جملة الحمقى والمجانين، وإما أن يكون الباعث عليه الفاقة والإضاقة، أو طلب مساواة الناس في الدنيا والثراء، فيرضى بالتشبه بالحمقى والْمَساخر ليثرى ويتسع رزقه، ويؤثر ذلك على العقل، وقد وقع ذلك في الناس كثيرًا حتى قيل: [من مجزوء الكامل المرفّل] والعَيْشِ خَيْرٌ فِي خِلا ... لِ النَّوكِ (¬1) مِمَّنْ عاشَ كَدَّا (¬2) وروى الدينوري عن الأصمعي قال: سأل أعرابي عن رجل فقالوا: أحمق مرزوق، فقال: ذاك والله الكامل (¬3). فلا يستفزنك شيء من ذلك على أن تخرج عن السمت اللائق بك، والزي الذي تزينت به أولاً فتكون أحمق في نفس الأمر، وفي أعين الناس يُضرب المثل بك، ألا ترى أن العالم لا ينبغي له أن يتزيا بزي الأجناد، ولا بزي السُّوقة والغوغاء؟ ولا العامي ينبغي له أن يتخلق بخلق العلماء أو الأجناد؟ وليس العالم ولا لذي الهيئة أن يأكل في الأسواق إلا أن يعتاد عدم التقيد بذلك. وقد سَفَّه قضاة الإسلام وشيوخ العلم أنفسهم إلا من حفظ الله عليهم عقولهم فاعتادوا الآن دخول بيوت القهوة بحيث يتساوى ¬
القاضي والشيخ هما والسَّائس والحَمَّال والخادم في المجلس؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون! قال العلماء: ولو اعتاد الفقيه التعمم ولباس الفرجية والطيلسان فلا ينبغي له أن يخرج بلا عمامة ولا فرجية لإخلال ذلك بمروءته ما لو لم يعتد التقيد بذلك، وينبغي أن يعتبر أحوال السلف والخلف بهذا الميزان. وروى أبو نعيم عن الجعيد قال: سمعت عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى للسائب بن يزيد - رضي الله عنه -: هل رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتزر بالرداء، أو يرتدي بالإزار ثم يخرج؟ قال: نعم. قال: لو صنع اليوم ذلك أحد لقيل: مجنون (¬1). نعم، تتغير أحوال الناس في الزي والملابس باعتبار اختلاف عقولهم، وما أرى الناس كما تأخرت الأزمان تختلف أحوالهم إلا بالنقص عن الكمال لتقهقرهم في العقول، فمتى استحسن الناس في زمن من الأزمنة زياً أو حالاً فلا يكون مقبولاً غير مأمون العاقبة إلا إن وافق الشرع ولم يصادم السنة، ولعل اختلال العقل يحمل الناس على دعوى أن بدعتهم سنة، واستحسانهم شريعة كما وقعت الإشارة في الحديث إلى ذلك، وعلى دعوى أن العلم ¬
ما علموه، وأن كل علم عورضوا به جهل، ومَنْ سُلِب التوفيق وقع في ذلك كله. ومما يدل على ذم الحماقة والجنون: أن العلم لا يصلح من فسادهما شيئًا، ولا يزين العلم شيء مثل العقل ونزاهته عن الرُّعونة، حتى قال أرسطاطاليس: زيادة العلم في الرجل الأحمق كزيادة الماء في أصول الحنظل؛ كلما ازداد علماً ازداد حماقة. ومن ثم استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من علم واسع (¬1)؛ فإنه لا ينفع إلا مع العقل. وقيل [من الكامل]: الْعِلْمُ لِلرَّجُلِ اللَّبِيبِ زِيادَةٌ ... وَنَقِيصَةٌ لِلأَحْمَقِ الطَّيَّاشِ مِثْلَ النَّهارِ يَزِيدُ إِبْصارَ الوَرَى ... نُورًا وَيُعْشِي أَعْيُنَ الْخَفَّاشِ * تَنْبِيهٌ: قال ابن الأعرابي: الحماقة مأخوذة من: حمقت السوق: إذا كسدت، وكأن الأحمق كاسد العقل والرأي، فلا يُشاور، ولا يلتفت إليه في أمر حرب أو غيره (¬2). قال في "الصحاح": الْحُمق والْحَمَق: قلة العقل (¬3). ¬
وفرَّق ابن الجوزي بين الحمق والجنون بأن الحمق هو الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة المقصود، بخلاف الجنون؛ فإنه عبارة عن الخلل في الوسيلة والمقصود جميعاً (¬1). ثم ذهب أكثر الناس إلى أن الحمق غريزة، حتى قال أبو إسحاق السبيعي رحمه الله تعالى: إذا بلغك أن غنياً افتقر فصدق، وإذا بلغك أن فقيراً استغنى فصدق، وإذا بلغك أن حياً مات فصدق، وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلاً فلا تصدق. وقال الأوزاعي رحمه الله تعالى: بلغني أنه قيل لعيسى عليه السلام: يا روح الله! إنك تحي الموتى؟ قال: نعم بإذن الله. قيل: وتبرئ الأكمه والأبرص؟ قال: نعم بإذن الله. قيل: فما دواء الحمق؟ قال: هذا الذي أعياني. رواهما ابن الجوزي (¬2). ¬
وأنشد بعض الحكماء [من الخفيف]: وَعِلاجُ الأَبْدانِ أَيْسَرُ خَطْباً ... حِينَ تَعْتَلُّ مِنْ عِلاجِ الْعُقُولِ (¬1) وقيل: [من البسيط] لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ يُسْتَطَبُّ بِهِ إِلاَّ ... الْحَماقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُداوِيها (¬2) وفي معناه ما أنشده الجوهري لقيس بن الحطيم [من الوافر]: وَداءُ الْجِسْمِ مُلْتَمِسٌ شِفاءً ... وَداءُ النُّوكِ لَيْسَ لَهُ شِفاءُ (¬3) والنوك - بالضم -: الحمق. فإن قلت: إذا كان الحمق غريزة فهو لا يدخل تحت الاختيار، فكيف ينهى عن التحامق والتشبه بالحمقى؟ قلت: إنما يقع النهي عن محاكاة الأحمق في مثل فعله وزيه لا في نفس الحمق، ومن ثم لا يقال للحاكي: أحمق إلا على تأويل، بل يقال: متحامق ومتشبه، ومن الناس من سماه: أرعن؛ ذاهباً إلى أن الرعونة تتولد من معاشرة النساء وغيرهن من ضعفاء العقول، وزعم أن الأرعن في الذم أسهل من الأحمق، والأنوك، ثم المائق أبلغ من الأحمق. قال في "الصحاح": الموق: حمق في غباوة، يقال: أحمق مائق، والجمع موقى؛ مثل: حمقى ونوكى (¬4)، وأقره صاحب "القاموس" (¬5). ¬
والحماقة تختلف اختلافًا كثيرًا كالجنون، وكما قيل: الجنون فنون، والحماقة أيضًا فنون وألوان لا تكاد تنضبط. قال أبو بكر النقاش: قيل لإبراهيم النظام: ما حد الحمق؟ قال: سألتني عما ليس له حد. رواه الخطيب، وغيره (¬1). ¬
فَصْلٌ اعلم أن الجنون تارة يقع به الاختلال في أمور الدنيا، وتارة في أمور الآخرة. فأما الأول: فهو أن الجنون قد يغلب عليه الخوف والحزن، فلا يلتفت إلى نعيم الدنيا، فربما ترك النساء ولم يلتفت إليهن، وربما أعرض عن أكل الخشكنان (¬1)، وأكل خبز الخشكار (¬2)، وربما ترك شم الرياحين، ونام في مجتمع القمامات والسراجين. وقد يغلب عليه الأنس والطرب، فيموت ولده ولا يحزن، وَيخْرَب بيته ولا يهتم، ويذهب ماله ولا يتأثر، ويصفع عنقه ولا يغضب، وتتوالى عليه المصائب ولا يضجر، ولا يوحشه من غاب، ولا يؤنسه من حضر؛ فهذه الأحوال قد يحسن التوصل إليها والتخلق بها من العقلاء، لا من حيث تصدر من المجانين، بل من ¬
حيث النظر في العواقب؛ فإن التلذذ بالدنيا على وجه الغفلة قد يمنع من لذة الآخرة أو بنفعها، والاشتغال بالدنيا ونعيمها ليس من العقل في شيء إلا من حيث الاستعانةُ بها على الآخرة، وذلك بأن يستكثر العاقل من ذكر الموت، والبعث والنشور، والسؤال والحساب، والقصاص في الآخرة، وذكر عظمة الله تعالى وسطوته حتى يخاف، ويرهب ويحزن على ما فات من عمره في غير الطاعة، فتغلب عليه هذه الأحوال حتى تمنعه عن الالتفات إلى نعيم الدنيا، والتمتع بالنساء، والتقلب في الأموال والملابس، والمطاعم والمشارب، وسائر الملاذ، وهذا حال عقلاء المجانين وكثير من أولياء الله تعالى. روى أبو عبيد القاسم بن سلام عن سليمان بن سُحيم قال: أخبرني من رأى ابن عمر - رضي الله عنه - يصلي وهو يترجح ويتمايل ويتأوه، حتى لو رآه غيرنا ممن يجهله لقال: لقد أصيب الرجل، وذلك لذكر النار إذا مر بقوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} [الفرقان: 13] , أو نحو ذلك (¬1). وروى الدينوري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن الفتى الذي كلم أيوب عليه السلام في بلائه قال له: يا أيوب! أما علمت أن لله عباداً أسكتتهم خشية الله من غير عِي ولا بَكَم، وإنهم لهم النبلاء الطلقاء، الفصحاء العالمون بالله وبأيامه، ولكنهم إذا ذكروا ¬
عظمة الله تقطعت قلوبهم، وكَلَّت ألسنتهم، وطاشت عقولهم فَرَقاً من الله وهيبته (¬1). وعن ذي النون رحمه الله تعالى قال: إن لله عباداً نصبوا أشجار الخطايا نصب روانيق القلوب، وسَقَوها بماء التوبة، فأثمرت ندماً وأحزاناً، فجَنُّوا من غير جنون، وتبلَّدوا من غير عي ولا بكم، وإنهم لهم الفصحاء البلغاء، الدرباء العارفون بالله عز وجل، وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبأمر الله تعالى (¬2). وروى أبو نعيم عن الحسن رحمه الله تعالى قال: إن عباداً كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وكمن رأى أهل النار في النار معذبين، قلوبهم محزونة، وسرورهم مأمونة، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصاراً تعقب راحة طويلة، أما الليل فصافَّة أقدامهم، تسيل دموعهم على خدودهم، فيجأرون لبارئهم؛ ربَّنا ربَّنا، وأما النهار فحلماء علماء، بررة أتقياء، كأنهم القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم مرض، أو خولطوا ولقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمرٌ عظيم (¬3). وقال أبو سعيد الخراز رحمه الله تعالى: لقيت مرة شيخاً متظاهراً ¬
بالجنون فناديته: قف يا مجنون، فالتفت إلي، وقال لي: أتدري من المجنون؟ فقلت: لا. فقال: المجنون من يخطي خطوة ولم يذكر الله تعالى (¬1). وروى ابن جهضم عن ذي النون رحمه الله تعالى قال: قلت لفليح المجنون: ما الذي جنَّنك وأذهب عقلك؟ فقال لي: لما طال حبسي في الدنيا صرت مجنوناً لخوف فراقه. وروى الدينوري عن ابن أبي فديك رحمه الله تعالى قال: كان هاهنا بالمدينة في سنة سبع وثمانين رجل يكنى: أبا نصر بن جهينة، ذاهب العقل في غير ما الناس فيه، لا يتكلم في شيء من أمر الدنيا، وكان يجلس مع أهل الصفة في آخر مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان إذا سئل عن الشيء أجاب جواباً معجباً حسناً. قال ابن أبي فديك: فأتيته يوماً وهو مع أهل الصفة منكِّساً رأسه، واضعاً جبهته بين ركبتيه، فجلست إلى جنبه، فحركته، فانتبه، فأعطيته شيئاً كان معي، فأخذه، وقال: قد صادف منا حاجة. فقلت له: يا أبا نصر! ما الشرف؟ فقال: حمل ما ناب العشيرة أدناها وأقصاها، والقبول من محسنها، والتجاوز عن مسيئها. ¬
قلت: فما المروءة؟ قال: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وتوقي الأدناس، واجتناب المعاصي صغيرها وكبيرها. قلت: فما السخاء؟ قال: جهد المقل. قلت: فما البخل؟ قال: أُفٍّ، وحوَّلَ وجهه عني. فقلت: إنه لم تجبني بشيء. قال: بل قد أجبتك. قال ابن أبي فديك: وقدم هارون أمير المؤمنين، فأحب أن ينظر إليه، فلما أتاه هارون حرك أبا نصر بيده، فرفع رأسه وهارون واقف، فقيل له: يا أبا نصر! هذا أمير المؤمنين واقف عليك. فرفع رأسه إليه فقال: أيها الرجل! إنه ليس بين الله وبين أمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - خلق غيرك، وإن الله سائلك، فأَعِدَّ للمسألة جواباً، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لو ضاعت سخلة على شاطئ الفرات لخاف عمر أن يسأله عنها. فبكى هارون وقال: يا أبا نصر! إن رعيتي ودهري غير رعية عمر ودهره. فقال له أبو نصر: هذا والله غير مغنٍ عنك، فانظر لنفسك؛ فإنك
وعمر تسألان عما خَوَّلَكُما الله تعالى فيه. ثم دعا هارون بِصُرَّة فيها مئة دينار فقال: ادفعوها إلى أبي نصر. فقال: وهل أنا إلا رجل من أهل الصفة؟ ادفعوها إلى فلان يفرقها بينهم ويجعلني رجلاً منهم (¬1). وروى أبو نعيم عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى: أنه كان يرفع صوته بالتكبير حتى مع الصبيان، ويقول: اذكروا الله حتى يقول الجاهل: إنك مجنون (¬2). وروى أبو نعيم عن إسحاق بن خلف قال: قال سفيان رحمه الله تعالى لشاب يجالسه: أتحب أن تخشى الله حق خشيته؟ قال: نعم. قال: أنت أحمق؛ لو خفته حق خوفه ما أديت الفرائض (¬3). معناه: أنه كان يتبلبل عقله من شدة الخوف فلا يهتدي إلى تأدية الفرائض. ومن أحسن ما قيل في وصف أولياء الله تعالى [من الكامل]: فَهُمُ الَّذِينَ تَجَنَّبوا الأَشْغالا. . . بَذَلُوا النُّفُوسَ وَأَنْفَقُوا الأَمْوالا تَرَكُوا النِّساءَ كَأَنَّهُنَّ أَرامِلٌ. . . قَبْلَ الْمَماتِ وَأَيْتَمُوا الأَطْفالا ¬
وَتَجَوَّعوا وَتَعَطَّشوا وَتَضَمَّروا ... طَلَبَ السِّباقِ وَخَفَّفوا الأَثْقالا وَتَغَرَّبوا وَتَعَزَّبوا عَنْ أَهْلِهِمْ ... حَذَرَ الفَواتِ وَفَكَّكوا الأَغْلالا فَطَمُوا عَنِ الدُّنْيا نُفوساً طالَما ... كانَتْ تَتِيهُ عَلى النَّعِيمِ دَلالا خافُوا البَياتَ فَشَمَّروا بِعَزِيْمَةٍ ... طَلَبَ النَّجاةِ وَكابَدوا الأَهْوالا حَتَّى إِذا بَلِيَتْ ضَنًى أَجْسامُهُمْ ... وَهَوى شُجوناً فِي الْهَوى وَرَدوا جَنابَ مَلِيكِهِمْ فَحَباهُمُ ... زَيْناً يَفُوقُ الفَرْقَدَيْنِ مِثالا (¬1) وقد يكثر العاقل الفكر في سعة رحمة الله تعالى وكثرة عفوه، ويذكر لطفه بكثير من خلقه ورأفته بهم، فيغلب عليه الرجاء والفرح بفضل الله تعالى، فلا ينزعج بشيء من مصائب الدنيا، ولا يحزن على شيء فاته منها؛ خصوصاً إذا اطلع على ما أعده الله تعالى للصابرين من الأجر العظيم والثواب الكثير، وذلك عن ذوي الدنيا معدود في أحوال المجانين المولهين في الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اذْكُرِ اللهَ حَتَّى يَقُولُوا: مَجْنُونٌ". رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه (¬2). وروى أبو نعيم عن عصام بن يزيد قال: ربما كان يأخذ سفيان رحمه الله تعالى في التفكر فينظر إليه الناظر، فيقول: مجنون (¬3). ¬
وكذلك لو غضب الإنسان لله تعالى لمشاهدة منكر في الدين، فاضطربت أحواله، وتبلبلت أقواله حتى صار في مثل حال المجانين؛ فإنه محمود على هذه الحالة ويثاب عليها. روى ابن أبي شيبة عن أبي سلمة رحمه الله تعالى قال: لم يكن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متحرفين ولا متهاونين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حَمَاليق عينيه كأنه مجنون (¬1). وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَلِيلُ التَّوْفِيقِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ العَقْلِ، وَالعَقْلُ فِي أَمْرِ الدُّنْيا مَضَرَّة، وَالعَقْلُ فِي أَمْرِ الدِّينِ مَسَرَّةٌ" (¬2). ومقتضاه أن العبد إذا حمله التوفيق على إنكار المنكر - ولو أخل إنكاره بشيء من أحواله الدنيوية المستحسنة عقلاً عند أهل الدنيا - فلا بأس عليه، بل هو على خلق محمود وخير موجود. ومن غلب عقله في الدين على عقله في الدنيا لمطالعة أسرار الملكوت ظهرت محاسنه، وتميز بها على أهل الدنيا، وظهر حسن فهمه، وصحة نظره كما روى الدينوري عن إبراهيم بن حبيب قال: [سمعت أبا نعيم يقول]: مر أبو الديك - وكان معتوهاً - بمعلم كتاب ¬
[جبانة كندة] (¬1) وهو ينشد [من الكامل]: إِنَّ الصَّنِيعَةَ لا تَكُونُ صَنِيعَةً ... حَتَّى يُصابَ بِها طَرِيقُ الْمَصْنعِ فقال له أبو الديك: كذبت، لا يكون المعروف معروفاً حتى يصرف في أهله وفي غير أهله، ولو كان لا يصرف إلا في أهله كنت لا ينالني منه شيء (¬2). وعن حفص بن غياث قال: مررت بطاق المحاملي، فإذا أنا بعليان المجنون جالس، فلما جزته سمعته يقول: من أراد سرور الدنيا وحزن الآخرة فليلتمس ما هذا فيه. قال: فو الله لتمنيت أني كنت مت قبل أن ألي القضاء (¬3). وربما غلب الوجد على أهل الله تعالى والوَلَه حتى يغيبوا عن وجودهم، فتبدو منهم أفعال وأحوال لو صدرت عن أحد وهو مشاهد العقل والإحساس بين أيديهم لحكموا عليه أنه خرج عن حد العقل، وألحقوا تلك الأفعال بأحوال المجانين كالرقص، والدوران، وتخريق الأثواب، وهي حالة شريفة علامة صحتها أن تحفظ على صاحبها أوقات الصلوات، وسائر الفرائض، فترد عليهم فيها عقولهم، وهذا حال جماعة من أولياء الله تعالى منهم: أبو بكر الشبلي، وأبو الحسين ¬
النوري، وسمنون المحب، وبهلول، وأمثالهم. وروى أبو الفرج بن الجوزي في "صفة الصفوة" عن فتح بن شحرف رحمه الله تعالى قال: كان سعدون صاحب المحبة لله عز وجل وصلَ صيام ستين سنة حتى خف دماغه، فسماه الناس مجنوناً لتردد قوله في المحبة، قال: فغاب عنا زماناً، فبينا أنا قائم على حلقة ذي النون رأيته عليه جبة صوف وعليها مكتوب: لا تباع ولا تشترى، فسمع كلام ذي النون، ثم أنشأ يقول [من الطويل]: وَلا خَيْرَ فِي شَكْوى إِلَى غَيْرِ مُشْتَكَى ... وَلا بدَّ مِنْ شَكْوى إِذا لَمْ يَكُنْ صَبْرُ (¬1) وروى الخطيب عن الأصمعي قال: مررت بسعدون المجنون فإذا هو جالس عند رأس سكران، فقلت له: ما باله؟ فقال: إنه مجنون. فقلت له: أنت مجنون أو هو؟ فقال: لا، بل هو. قلت: من أين قلت ذاك؟ قال: لأني صليت الظهر والعصر جماعة، وهو لم يصل جماعة ولا فرادى. ¬
فقلت له: فهل قلت في ذلك شيئاً؟ فأنشا يقول [من المتقارب]: تَرَكْتُ النَّبِيذَ لأَهْلِ النَّبِيذِ ... وَأَصْبَحْتُ أَشْرَبُ ماءً قراحا لأَنَّ النَّبِيذَ يُذِلُّ العَزِيزَ ... وَيَكْبُو الوُجُوهَ النِّضارَ الصِّباحا فَإِنْ كانَ ذا جائِزاً لِلشَّبابِ ... فَما العُذْرُ فِيهِ إِذا الشَّيْبُ لاحا (¬1) وروى ابن جهضم عن سَرِي السَّقَطي رحمه الله تعالى قال: خرجت يوماً إلى المقابر، فرأيت بهلولاً رحمه الله تعالى قد دلى رجليه في قبر يعبث بالتراب، فقلت له: أي شيء تصنع هاهنا؟ فقال: أنا عند قوم لا يؤذونني، وإن غبت عنهم لا يغتابوني. فقلت له: لا تكون جائعاً؟ فولى، وأنشأ يقول: [من الطويل] تَجَوَّعْ فإِنَّ الْجُوعَ مِنْ عَلَمِ التَّقي ... وَإِنَّ طَويلَ الْجُوعِ يَوماً سَيَشْبَعُ فقلت له: إن الخبز قد غلا. فقال: والله ما أبالي ولو بلغت حبة بمثقال؛ علينا أن نعبده كما أمر، وعليه أن يرزقنا كما وعد. ثم ولى، وهو يقول [من الرمل]: ¬
أُفِّ لِلدُّنْيا فَلَيْسَتْ لِي بِدارٍ ... إِنَّما الرَّاحَةُ فِي دارِ القَرارِ أَبَتِ السَّاعاتُ إِلاَّ فُرْقَةً ... فِي بِلى جِسْمِي بِلَيْلٍ أَوْ نَهارِ (¬1) وذكر اليافعي في "روض الرياحين" عن بعضهم قال: رأيت الشبلي قائماً يتواجد وقد خرق ثوبه، وهو يقول [من المديد]: شَقَقْتُ ثَوبِي عَلَيْكَ شَقَّا ... وَما لِثَوبِي أَرَدْتُ حَقَّا أَرَدْتُ قَلْبِي فَصَادَفَتْهُ ... يَدايَ بِالْجَيبِ إِذ يُوَقَّى لَوْ كانَ قَلْبِي مَكانَ جَيْبِي ... لَكانَ لِلشَّقِّ مُسْتَحِقَّا وروى الرافعي في "أماليه" - بسنده - أن سمنون كان جالساً على الشط وبيده قضيب يضرب به فخذه وساقه حتى تبدد لحمه، وهو يقول [من السريع]: كانَ لِي قَلْبٌ أَعِيشُ بِهِ ... ضاعَ مِنِّي فِي تَقَلُّبِه رَبِّ فَارْدُدْهُ عَلَيَّ فَقَدْ ... ضاقَ صَدْرِي فِي تَطَلُّبِه وَأَغِثْ ما دامَ لِي رمْقٌ ... يا غِياثَ الْمُسْتَغِيثِ بِه (¬2) وروى ابن الجوزي عن أبي بكر الشبلي رحمه الله تعالى قال: رأيت يوم الجمعة سمنون عند جامع الرصافة عرياناً، وهو يقول: أنا ¬
مجنون الله، أنا مجنون الله. فقلت: لم لا تدخل الجامع، وتتوارى وتصلي؟ فأنشأ يقول [من الطويل]: يَقُولُونَ زُرْنا وَاقْضِ واجِبَ حَقِّنا ... وَقَدْ أَسْقَطَتْ حالِي حُقُوقَهُمُ عَنِّي إِذا هُمْ رَأَوْا حالِي وَلَمْ يَأْنَفُوا لَها ... وَلَمْ يَأْنَفُوا مِنْها أَنِفْتُ لَهُمْ مِنِّي (¬1) وأنشد الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد الزهري الشافعي مفتي دمشق معتذراً عن كشف رؤوس الفقراء في الذكر [من الطويل]: يَلومُوننِي فِي كَشْفِ رَأْسِي وإِنَّني ... لَمُعْتَرِفٌ أَنِّي عَلى ذاكَ أُوجَرُ لِقَصْدِي بِهِ إِظْهارَ ذِلَّتِيَ الَّتِي ... هِيَ الْمَقْصِدُ الأَسْنَى لِمَنْ يَتَبَصَّرُ فأما من أظهر هذه الأحوال تعمداً للتوصل إلى الدنيا، أو ليعتقده الناس ويتبركوا به، أو لنحو ذلك، ففعله هذا من أقبح الذنوب المُهْلِكات، والمعاصي الموبقات. ¬
وقد روى عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبي عمران الجوني قال: وعظ موسى عليه السلام قومه، فشق رجل منهم قميصه، فقيل لموسى عليه السلام: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه ليشرح لي عن قلبه (¬1). وربما حملته محبة الدنيا كثيراً من المتصوفة على صرف الهمة في التأنق بهذه الأحوال، والدخول في طلبها في كل باب وَلَهاً بالدنيا وولعاً بها، وهم يظهرون التولُّه في الله تعالى، ومن وصل في طلب الدنيا إلى هذه الحالة فهو أسوأ حالاً من المجانين حقيقة، وأوغل في الشرك ممن طلب الدنيا بالدُّفِّ والمزمار. وقد روى الإمام أحمد في "الزهد"، وأبو نعيم من طريقه عن فرات ابن سلمان، [أن] أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه كان يقول: ويل لكل جَمَّاع فاغرٍ فاهُ كأنه مجنون، يرى ما عند الناس ولا يرى ما عنده، لو يستطيع لوصل الليل بالنهار، ويله من حساب غليظ وعذاب شديد (¬2)! * تَنْبِيهٌ: روى أبو نعيم عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: لو أن رجلاً عاقلاً تصوَّف لم يأت الظهر ¬
حتى يصير أحمق (¬1). قلت: كثيراً ما كنت أحسب أن الشافعي - رضي الله عنه - أراد بذلك ذم التصوف كما فهمه من كلامه غير واحد، ثم ظهر لي أنه لا يريد الذم لأن العاقل لا يدخل في باب إلا خرج من عُهدة ما فيه، والتصوف إذا أريد به التعبد وتطهير القلب من الأخلاق الذميمة، وتبديل الأخلاق الجميلة بها، والتأدب بآداب الشريعة فلا ينبغي ذمه أصلاً. وإنما أراد الشافعي رضي الله تعالى عنه أن العاقل إذا تصوف رفض الدنيا، ولم يعبأ بها، وآثر زيَّ الفقراء، وغلب عليه الحب والوَلَه، وخوف العاقبة، فتبدو عليه أحوال هي عند أهل الدنيا من صفات المجانين، وسمات الحمقى والمغفلين، وذلك على حد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أكثِرُوا ذِكْرَ اللهِ حَتَّى يَقُولُوا: مَجْنُونٌ" (¬2). فقول الشافعي: حتى يصير أحمق معناه: حتى يرى الناس أنه أحمق. * تَنْبِيهٌ آخَرُ: روى البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْه" (¬3). ¬
وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال: سئل أبو عثمان عن قوله: "أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْه"، [فقال: الأبله] في دنياه الفقيه في دينه (¬1). وقال الأوزاعي في الحديث: هو الأعمى عن الشر، البصير بالخير (¬2). وقال سهل بن عبد الله: هم الذين ولهت قلوبهم وشغلت بالله (¬3). رواهما البيهقي أيضاً. وقال الجوهري: يعني: البله في أمر الدنيا لقلة اهتمامهم بها، وهم أكياس في أمر الآخرة. قال الزبرقان بن بدر: خير أولادنا الأبله العقول؛ يريد أنه لشدة حيائه كالأبله، انتهى (¬4). هذا الحديث قاضٍ بمدح العقل والذكاء في الدين، والبَلَه والتعقل في أمور الدنيا، وهو مؤيد لما ذكرناه. وفي حديث أبي الدرداء المتقدم: "قَلِيلُ التَّوفِيقِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ العَقْلِ"؛ أي: الدهاء، والعقل في أمر الدنيا مضرة، والعقل في أمر الدين مسرة. ¬
وأما الثاني: وهو وقوع الإخلال بالجنون في أمور الآخرة؛ فإن المجنون لا يتصور اللذة فيطلبها، ولا الشدة فيتجنبها، فلو تصور ألم العقاب لكان ربما لا يعمل معصية ولا يرتكب قبيحة، ولو تصور لذة الثواب لكان ربما لا يدع فريضة ولا يفوت فضيلة، ولكنه لا يتصور شيئاً من ذلك، ولهذا رفع عنه التكليف؛ إذ لا يهتدي إلى صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولا يخرج من عهدة طاعة أصلاً، وقد تراه يصلي ويتكلم، أو يحدث في صلاته، أو يقطعها متى خطر له، أو يزيد فيها، وقد ينوي الصبح في وقت العشاء، وعكسه، وربما صفع أباه، أو بطش بسلطانه، وبمن لم يوده، وربما وقع على غير أهله، وكشف عن سوءته في ملأ الناس، ومزَّق أثوابه، وأتلف ماله أو مال غيره، وربما كسر الآنية، وأهلك الأمتعة، إلى غير ذلك من القبائح. فتشبه العاقل به في ذلك أو في شيء منه غير سائغ ولا جائز؛ لأن المجنون يسامح في ذلك إلا لما لم يكن عقل يعقل به قبح هذه الأمور ومقاصدها، ويتعرف به ما يحمد عاقبته من أفعاله، وما تذم عاقبته في الدار الآخرة. وأما العاقل فإنه يعقل ذلك كله، فلا عذر له في فعل شيء من ذلك، فمن تابع هواه في شيء تذم عاقبته، وأعرض عن مقتضى العقل فهو ملحق بالمجانين من حيث إنه لم ينتفع بالعقل، ولكنه غير معذور كما يعذر المجانين لأن له عقلاً. ومن ثم أطلق الحكماء اسم الجنون على كل وصف حمل صاحبه
على ما لا تحمد عاقبته خصوصاً المعاصي كالشباب والعشق، ومن هنا سمي مجنون ليلى مجنوناً. وروى الخرائطي في كتاب "اعتلال القلوب" عن زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّبابُ شُعْبةٌ مِنَ الْجُنونِ، وَالنِّساءُ حبالَةُ الشَّيْطانِ" (¬1). ورواه القضاعي في "مسند الشهاب" من حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه (¬2). وقال الشاعر: [من الخفيف] إِنَّ شَرْحَ الشَّبابِ وَالشَّعَرَ الأَسْـ ... وَدَ ما لَمْ يُعاصَ كانَ جُنوناً وأنشد ابن قتيبة في "عيون الأخبار": [من البسيط] قالَتْ شَهِدْتُكَ مَجْنُوناً فَقُلْتَ لَها ... إِنَّ الشَّبابَ جُنونٌ بُرْؤُهُ الْكِبَرُ (¬3) وهذا البيت لأبي عبد الرحمن محمد بن عبيد الله العتبي البصري الشاعر المشهور، وقبله: ¬
لَمَّا رَأتنِيَ سَلْمى قاصِراً بَصَرِي ... عَنْها وَفِي الطَّرْفِ عَنْ أَمْثالِها ذكره القاضي شمس الدين خلكان في "تاريخه" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنه قال: ليس العاقل الذي يتحيَّل في الأمر الذي يقع فيه حتى يخلُص منه، ولكن العاقل الذي يتوقى الأمور حتى لا يقع فيها (¬2). قلت: ومن ثم قال الشافعي رحمه الله تعالى: لا يدخل في الوصية أحمق أو لص. رواه أبو نعيم في "الحلية" (¬3). ومن هذا القبيل - أعني: عدم النظر في العواقب - الذي هو من أحوال الحمقى والنوكى أن يكون الإنسان كامل الشهوة، واجداً لطَول الزوجة، ولا يتزوج. روى عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه قال لرجل: أتزوجت؟ قال: لا. قال: إما أن تكون أحمق، وإما أن تكون فاجراً (¬4). وروى هو وابن أبي شيبة عن إبراهيم بن ميسرة قال: قال لي ¬
طاوس رحمه الله تعالى: لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر رضي الله تعالى عنه لأبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور (¬1). ومن هذا القبيل أيضاً ما رواه الثعلبي عن شريح الكعبي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا رأيتموني أتصدق بشر ما عندي فاكووني - أي: داووني بالكَي - فإني مجنون (¬2). وذلك لأن المتصدق يدخر الصدقة لنفسه في آخرته، والذي يأكل ويلبس ويتمتع به في الدنيا يبليه ويفنيه، والذي يدعه حتى يموت يتركه لغيره، وتبقى تبعته عليه، ومن يدخر لنفسه الأدنى والأردى، ويُتلف الجيد أو يدعه لغيره أقرب شيء إلى الجنون. ومن ذلك ما ذكره المزي في "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" في ترجمة أبي مُسهر عبد الأعلى بن مُسهر عن يحيى بن معين رحمه الله تعالى قال: إن الذي يحدث بالبلد وبها من هو أولى منه بالحديث أحمق؛ إذا رأيتني أحدث ببلدة فيها أبو مسهر فينبغي للحيتي أن تحلق (¬3). ووجه ذلك أن من حدث، أو أفتى في بلدة فيها أعلم منه، أو أحفظ لا يأمن أن يكون عاقبة أمره أن يخطأ من قبل من هو أعلم منه لإخلاله بشرط في الرواية، أو قيد في المسألة. ¬
1 - ومن أحوال الحمقى، والمجانين: الكبر، والعجب، والخيلاء، والإعجاب بالرأي.
وكذلك حال من يفيد مسألة في حضرة من هو أعلم منه بها، أو يخبر بخبر في حضرة من أخبره به، وحال من يتكلم في أمرٍ غيرُه أولى بالتكلم فيه لتقدمه عليه في سن، أو معرفة، أو شرف. 1 - ومن أحوال الحمقى، والمجانين: الكبر، والعجب، والخيلاء، والإعجاب بالرأي. وذلك يوجب ما ذكرناه آنفاً من التكلم بحضرة من هو أولى منه بالتكلم. والمرء قد يخرج بهذه الصفات عن طباع العقلاء في لباسهم، وحليتهم، ومشيهم، وكلامهم. وفي قوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37] إشارةٌ إلى ذلك؛ لأن من مشى هذه المشية، فكأنه صار له خرق الأرض أو مطاولة الجبال، وهذا مما لا يكون، ومحاولة ما لا يكون جنون. وقال محمد بن علي الباقر رحمه الله تعالى: ما دخل قلبَ امرئ شيءٌ من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخله (¬1) من ذلك قل ذلك أو كثر. رواه أبو نعيم (¬2). وحكي أن قومًا مشوا خلف علي - رضي الله عنه - فقال: [كفُّوا] عني خفق ¬
نعالكم؛ فإنها مشغلة لقلوب نوكى الرجال (¬1). وروى أبو نعيم عن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: أنه قام يوماً من مجلسه وتبعه الناس، فقال: يا قوم! لا تطؤوا عقبي، ولا تمشوا خلفي. ووقف فقال: حدثنا أبو الأشهب عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إن خفق النعال خلف الأحمق قلَّ ما يبقي من دينه (¬2). وقال بعض القدماء: في العجب بالنعمة تهجين العقل، والعجب مأفون، أي: أحمق. وقال آخر: ما يعجب إلا امرؤ ليس له عقل ولا دين. وقال الماوردي في "أدبه": وحكي عن عمر بن حصن: قيل للحجاج: كيف وجدت منزلك بالعراق؟ قال: خير منزل لو كان الله تعالى بلغني أربعة، فتقربت إليه بدمائهم. قيل: ومن هم؟ قال: مقاتل بن مسمع: ولي سجستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلما عزل دخل مسجد البصرة، فبسط الناس له أرديتهم، ¬
فمشى عليها، وقال لرجل يماشيه: لمثل هذا فليعمل العاملون. وعبد الله بن زياد بن ظبيان التيمي: حزَّب أهل البصرة، أمر فخطب خطبة فيها، فنادى الناس من أعراض المسجد: أكثر فينا مثلك، فقال: لقد كلفتم الله شططاً. ومعبد بن زرارة: كان يوماً جالساً في طريق، فمرت به امرأة، فقالت: يا عبد الله! كيف الطريق إلى موضع كذا؟ فقال: يا هَنْتاه! مثلي يكون من عَبيد الله؟ وأبو سماك الأسدي: أضلَّ راحلته فالتمسها الناس، فلم يجدوها، فقال: والله لئن لم يرد علي راحلتي لا صليت له أبداً، فالتمسها الناس حتى وجدوها، فقالوا: قد رد الله عليك راحلتك، فصلى، فقال: إن يميني يمين مُصِرٍّ. قال الماوردي: فانظر إلى هؤلاء كيف أفضى بهم العجب إلى حمق صاروا به نكَالاً في الأولين، ومَثَلاً في الآخرين. قال: ولو تصور المعجب والمتكبر ما فطر عليه من جبلة، وبلي به من مهنة، لخفض جناح نفسه، واستبدل ليناً من عتوه، وسكوناً من نفوره. قال الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى: عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبر (¬1). ¬
2 - ومن أحوال الحمقى
وقد وقع في كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى إطلاق اسم الجنون على العجب فيما أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن سعيد بن أيمن قال: سمعت الحسن يقول: لو أن قول ابن آدم كله حق، وفعله كله صواب لَجُنَّ. قال سعيد بن أيمن في معناه: يعجب بنفسه (¬1). 2 - ومن أحوال الحمقى: أنك إذا صنعت إلى أحد منهم معروفاً حسب أنه حق كان له عليك واجباً فأديته إليه، فلا يشكره لك، وربما طالبك بمثله، فإذا قصرت نسبك إلى الظلم، ومن ثم قيل في المثل: العروس الحمقاء تحسب أن المداعي جوارها. وقال سعيد بن عمارة: مكتوب في التوراة: من صنع معروفاً إلى أحمق فهو خطيئة تكتب عليه. رواه ابن أبي الدنيا في "اصطناع المعروف". وقال بعض الحكماء: مؤنة العاقل على نفسه، ومؤنة الأحمق على الناس. وقال الآخر: متى أعطيت الأحمق حقه طلب أكثر منه (¬2). قلت: والحكمة في ذلك أن الأحمق يرى نفسه أكمل الناس وفوقهم، فيرى على كل أحد حقه وتعظيمه، ولا يرى لأحد على نفسه حقاً. ¬
3 - ومن أحوال الحمقى: عدم معرفتهم بعيوب أنفسهم.
3 - ومن أحوال الحمقى: عدم معرفتهم بعيوب أنفسهم. روى أبو نعيم عن داود بن أبي هند قال: قال إياس بن معاوية: كل رجل لا يعرف عيبه فهو أحمق. قالوا له: يا أبا واثلة! ما عيبك؟ قال: كثرة الكلام (¬1). 4 - ومنها: الاغترار بمدح من يجهل حاله، أو يمدحه بما ليس فيه. روى أبو نعيم عن ذي النون رحمه الله قال: من فرح بمدحة الجاهل ألبسه الله ثوب الحماقة (¬2). 5 - ومن أحوال المجانين، والحمقى: أنهم يطمعون فيما لا يكون، ويحاولون المحال أن يكون، ولذلك يطلق الجنون على كل من طلب المحال، وأراد التوصل إلى ما هو بعيد المنال. روى السلمي في "طبقاته" عن يوسف بن الحسن الرازي رحمه الله تعالى أنه كان يقول: إذا أردت أن تعرف العاقل من الأحمق فحدثه بالمحال، فإن قَبِله فاعلم أنه أحمق (¬3). ¬
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأَحْمَقُ مَنْ أتبَعَ نَفْسَهُ هَواها وَتَمَنَّى عَلى اللهِ" (¬1). وذلك لأن الله تعالى لا يعطي الأماني إلا لمن خالف الهوى، أو على وجه الابتلاء كما قال عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41]. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: من أفتى الناس في كل ما يستفتون فهو مجنون. رواه الدارمي، والبيهقي (¬2). وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: من أفتى الناس في كل ما يسألون فهو مجنون. رواه البيهقي (¬3). وإنما كان هذا مجنوناً لأن إفتاءه في كل ما يسأل عنه دليل دعواه أنه يعلم كل شيء، وهذا ليس من صفات الخلق. قال الله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]. وقال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. ¬
6 - ومن أحوالهم: كثرة الأماني.
وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. 6 - ومن أحوالهم: كثرة الأماني. قال الله تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [النجم: 24 - 25]؛ أي: ليس للإنسان كل ما يتمناه، ومن طمع فيما ليس له فهو أحمق. قال أبو طالب المكي: وكان الحسن رحمه الله تعالى يقول: عباد الله! اتقوا هذه الأماني؛ فإنها أردية النوكى يحلون فيها. قال: وقال بعض العلماء: كلما قل العقل كثرت الأماني (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "المتمنين" عن رجاء بن أبي سلمة قال: الأماني لنقص (¬2) العقل (¬3). وروى الإمام أحمد [عن أبي هريرة] (¬4) رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا تَمَنَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَنْظُرْ ما تتَمَنَّى؛ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي ما يُكْتَبُ لَهُ مِنْ أُمْنيَّتِهِ" (¬5). ¬
7 - ومن أحوال المجانين، والحمقى: الإخبار بالأشياء المعلومة ضرورة كالسماء فوق الأرض،
7 - ومن أحوال المجانين، والحمقى: الإخبار بالأشياء المعلومة ضرورة كالسماء فوق الأرض، والنار محرقة، أو بأضدادها، والتصديق بذلك كالأرض فوق السماء، والسؤال عما هو ظاهر لكل أحد، أو عن ما ليس بمعقول، فإذا وقع مثل ذلك من العاقل ألحق بالمجانين، وضحك منه. كما حكي أن أحمق سأله بعض العلماء: متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس. قال: فإن لم تغرب إلى نصف الليل (¬1). وحكي أن رجلاً قال لولده - وكان الولد أحمق -: اشتر لنا حبلاً فَي طول كذا كذا ذراعاً. فقال: في عرض كم؟ فقال: في عرض مصيبتي فيك (¬2). ومن هذا القبيل ما يتفق في كل عام لكثير من العوام أن يسألوا العلماء في تاسع عشري شعبان: غداً يكون صوم أو فطر؟ وقد اتفق لشيخ الإسلام الوالد أنه سئل عن هذه المسألة فقال [من المجتث]: قِيلَ صْومٌ غَداً ... فَقُلْتُ هَذا جُنُونُ ¬
إِنْ رَأَوْهُ كانَ أَوْ ... ما رَأَوْا لا يَكُونُ ومن هذا القبيل: البلاهة في الدين، وهي مذمومة كما روى ابن أبي الدنيا في "العقل" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كانَ رَجُلٌ فِي صَوْمَعةٍ فَمَطرَتِ السَّماءُ وَأَعْشَبَتِ الأَرْضُ، فَرَأى حِماراً لَهُ يَرْعى، فَقالَ: يا رَبِّ! لَوْ كانَ لَكَ حِمارٌ رَعَيْتُهُ مَعَ حِمارِي، فَبَلَغَ ذَلِكَ نبِيًّا مِنَ أَنْبِياءِ بَنِي إِسْرائِيلَ، فَأرادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللهُ تَعالَى: إِنَّما أَجْزِي عِبادِي علَى قَدْرِ عُقُولهِمْ" (¬1). وأخرجه عن عطاء، ولم يرفعه؛ قال: كان ممن كان قبلكم راهب أشرف، فرأى الأرض مخضرة ذات نبات، فقال: يا رب! ما عندي ما أتصدق به، فلو كان لك حمار فأرعاه مع حماري، فأراد النبي الذي في عصره أن ينهاه، فأوحى الله تعالى إليه أن دعه؛ فإنما أجزي عبادي على قدر ما قسمت لهم من العقل (¬2). وروى أبو نعيم عن زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى قال: إن نبياً من الأنبياء عليهم السلام أمر قومه أن يقرضوا ربهم عز وجل، فقال رجل منهم: يا رب! ليس عندي إلا تبن حماري، فإن كان [لك] حمار ¬
علفته من تبن حماري هذا. قال: فكان يدعو بهذا في صلاته، قال: فنهاه نبيه عن ذلك. فأوحى الله تعالى إليه: لأي شيء نهيته؟ قد كان يضحكني في اليوم كذا وكذا مرة. وفي رواية متصلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال أبو نعيم: "فَإِنِّي إِنَّما أُجازِي عِبادِيَ عَلى قَدْرِ عُقُولهِمْ" (¬1). قلت: لعل وجه معاتبة الله تعالى هذا النبي على نهي هذا الأبله عن ذلك لأن البله أمر خلقي فلا يفيد صاحبه النهي شيئاً، بل ربما أوقعه البله بالنهي في أعجب منه. وقوله: إنه كان يضحكني: الضحك من الله تعالى بمعنى الرضا؛ كأنه يقول: أنا طبعته على البله، ومنعته الفطنة، فرضيت بما يصدر منه؛ فإنه على وفق ما أردت منه (¬2). وقوله في الرواية الأخرى: "إنما أجازي عبادي على قدر عقولهم"؛ فيه إشارة إلى أن العبد المؤمن كلما كان أتم عقلاً كان أوسع علماً ومعرفة، وأكثر عملاً وتقوى، فيكثر ثوابه، فيرجع المعنى إلى أن الثواب بقدر العقول الكاملة، وليس للعبد الذي خلقه الله تعالى كامل ¬
8 - ومن أقبح أنواع البله، والحمق والجنون، وأشدها ضررا على أصحابها: الوسوسة، والانتهاء فيها إلى حد إنكار الأمور اليقينية، والحقائق.
العقل، وافر الفطنة، ثابت اللب أن يتشبه بالنُّوكى والبُلْهِ في الأفعال الخارجة عن استحسان العقل لأنه يكون كافراً لنعمة العقل والفطانة. 8 - ومن أقبح أنواع البله، والحمق والجنون، وأشدها ضرراً على أصحابها: الوسوسة، والانتهاء فيها إلى حد إنكار الأمور اليقينية، والحقائق. قال ابن الجوزي في "الأذكياء": حدثني أزهر بن عبد الوهاب قال: جاء رجل إلى ابن عقيل فقال: إني أنغمس في النهر غمستين أو ثلاثاً، ولا أتيقن أنه قد عمني الماء، ولا أني تطهرت، فكيف أصنع؟ فقال له: لا تصلي. فقيل له: كيف قلت هذا؟ قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ" (¬1)، ومن ينغمس في البحر مرتين أو ثلاثاً، ويظن أنه ما اغتسل، فهو مجنونٌ (¬2). 9 - ومن أحوال المجانين، والحمقى، والمعتوهين: الولع بالشيء، والعبث به، وكثرة الحركة والالتفات لغير فائدة ظاهرة، واستحسان ما يضر أو يؤول إلى الضرر. ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَكْلُ الطِّينِ، وَقَلْمُ الأَظْفارِ بِالأَسْنانِ، ¬
10 - ومن أحوال الحمقى: ما ذكره ابن الجوزي عن بعض الحكماء قال: يعرف الأحمق بست خصال
وَقَرْضُ اللِّحْيَةِ مِنَ الوَسْواسَ". رواه الديلمي عن علي رضي الله تعالى عنه (¬1). وقال علي بن سهل الأصبهاني رحمه الله تعالى: لا يعدمك من الأحمق كثرة الالتفات وسرعة الجواب. رواه السلمي في "طبقاته" (¬2). وقال الحافظ أبو حاتم بن حبان كما حكاه عنه ابن الجوزي في "الحمقى والمغفلين": وعلامة الأحمق سرعة الجواب، وترك التثبت، والإفراط في الضحك، وكثرة الالتفات، والوقيعة في الأخيار، والاختلاط بالأشرار. قال: والأحمق إن أعرضت عنه اغتم، وإن أقبلت عليه اغتر، وإن حلمت عنه جهل عليك، وإن جهلت عليه حلم عليك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، وإن أسأت إليه أحسن إليك، وإذا ظلمته انتصفت منه، ويظلمك إذا أنصفته، فمن ابتلي بصحبة الأحمق فليكثر من حمد الله على ما وهبه مما حرمه ذاك (¬3). وقد اشتمل كلامه على جملة من أخلاق الحمقى يجمعها وضع الشيء في غير محله، واستحسان ما يستقبحه العقلاء. 10 - ومن أحوال الحمقى: ما ذكره ابن الجوزي عن بعض الحكماء قال: يعرف الأحمق بست خصال: ¬
11 - ومنها: أن أحدهم يجمع بين اعتقاد أنه أكمل من غيره، فيزعم الكمال لنفسه
- الغضب في غير شيء، والإعطاء في غير حق. - والكلام في غير منفعة. - والثقة بكل أحد. - وإفشاء السر. - وأن لا يفرق بين صديقه وعدوه. - ويتكلم بما يخطر على قلبه، ويتوهم أنه أعقل الناس (¬1). وذكر ابن عبد ربه في "العقد" عن سفيان رحمه الله تعالى قال: حمقاء العُوَّاد أشد على أهل المريض من مريضهم، يجيئون في غير وقت العيادة، ويطيلون الجلوس (¬2). 11 - ومنها: أن أحدهم يجمع بين اعتقاد أنه أكمل من غيره، فيزعم الكمال لنفسه، وبين انتقاص الناس، فيعاملهم بالسَّفَه وبذاذة اللسان، ويطلق لسانه ولا يخاف العقوبة، ويكثر الصَّخَب. ومثل هذا التهور لا ينبغي أن يجارى فيه ويقابل بمثله، بل يقابل بالتأدب على وجهه، أو بالإعراض عن صاحبه والإغضاء عنه كما قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وروى عبد بن حميد في "مسند" عن خليد بن الحكم عن أبي المجبر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرْبَعُ خِصالٍ مُفْسِدَةٍ لِلْقَلْبِ: مُجاراةُ ¬
12 - ومنها: قلة الأدب، والتهور المانع من حسن المجالسة، ولطف المعاشرة.
الأَحْمَقِ؛ فَإِنْ جاريتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ، وَإِنْ سَكَتَّ عَنْهُ سَلِمْتَ مِنْهُ، وَكَثْرَةُ الذُّنوبِ مُفْسِدَة لِلْقُلوبِ، وَقَدْ قالَ اللهُ تَعالَى: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، وَالْخَلْوَةُ بِالنِّساءِ، وَالاسْتِماعُ مِنْهُنَّ، وَالْعَمَلُ بِرَأْيِهِنَّ، وَمُجالَسَةُ الْمَوْتَى". قيل: يا رسول الله! وما الموتى؟ قال: "كُلُّ غَنِيٍّ أَبْطَرَهُ غِناهُ" (¬1). وقال عبد الله بن حبيق رحمه الله تعالى: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: لا تغضب على الحمقى فيكثر غَمُّك (¬2). وقال الحسن رحمه الله تعالى: هجران الأحمق قربة إلى الله. رواهما أبو حاتم بن حبان (¬3). 12 - ومنها: قلة الأدب، والتهور المانع من حسن المجالسة، ولطف المعاشرة. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجر ات: 4]. نزلت في جفاة الأعراب من بني تميم، نادوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من وراء حجراته، وقالوا: يا محمد! اخرج إلينا؛ فإنَّ مَدْحَنَا زَين، وذمنا شين، ¬
13 - ومنها: أن الأحمق متى سمع حديثا صدقه وإن لم يتبين حقيقته ولم يتصور إمكانه،
ونحن أكرم العرب. والقصة في كتب التفسير (¬1). قال أبو حاتم بن حبان: أنشدني أبو محمد الشامي [من السريع]: لَنا جَلِيسٌ تارِكٌ لِلأَدَبْ ... جَلِيسُهُ مِنْ تَرْكِهِ فِي تَعَبْ يَغْضَبُ جَهْلاً عِنْدَ حالِ الرِّضا ... عَمْداً وَيَرْضَى عِنْدَ حالِ [الغضب] (*) (¬2) 13 - ومنها: أن الأحمق متى سمع حديثاً صدقه وإن لم يتبين حقيقته ولم يتصور إمكانه، وربما خاصم من يعارضه فيه، ويمدح من لا يعرف خيره ولا فضله، ويذم من لم يعرف شره ولا جهله. وروى ابن أبي الدنيا عن ابن جريج: أن بعض الحكماء قال: ليس من العقل أن تذم من لم تخبر إساءته، أو تمدح من لم تخبر إحسانه (¬3). وقال الأصمعي: إذا أردت أن تعرف عقل الرجل في مجلس واحد فحدثه بما لا يكون، فإن رأيته قد أصغى إليه وقبله فاعلم أنه أحمق، وإن أنكره فهو عاقل (¬4). قلت: ومن أقبح أحوال الحمقى في هذا الباب أن يحدث أحد ¬
14 - ومنها: الخروج كل ساعة في طور غير الطور المتقدم من حيث الأخلاق،
صاحبه في المجلس بخبر، أو مدح رجل أو ذمه، أو نحو ذلك، فيعارضه صاحبه فيه ويأتي بضده، فيتعارضان فيه، ويتجادلان فيه، وكل واحد يستدل لصحة خبره أو قوله، وربما أدى ذلك بهما إلى الشقاق، والتشاتم، والتقاذف، وتكاشف العيوب، وتثور بينهما الحمية الجاهلية، وأكثر ما يتفق ذلك للبطَّالين والبَطِرِين. 14 - ومنها: الخروج كل ساعة في طور غير الطور المتقدم من حيث الأخلاق، أو من حيث الحركة، أو من حيث الزي؛ فتارة يلبس لباس الأجناد، وتارة لباس الفتيان، وتارة لباس الفقهاء، وتارة يتكلم بالشيء ويناقضه في المجلس، ويقوم ويقعد في المجلس كثيراً، ويخرج منه ويعود كثيراً، إلى غير ذلك من الاختلافات والتطورات. روى ابن أبي الدنيا عن عامر بن عبد قيس رحمه الله تعالى قال: إذا عَقْلُك [عَقَلَك] عما لا ينبغي فأنت عاقل (¬1). وعن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: لا تنظر إلى عقل الرجل في كلامه، ولكن انظروا إلى عقله في مخارج أموره ومداخلها (¬2). ومن هذا القبيل ما رواه أبو عبد الله الحسين بن محمد بن زنجويه في كتاب "سنن الخواتيم" عن معاوية - رضي الله عنه - أنه قال: اعتبروا الرجل في طول لحيته، وكنيته، ونقش خاتمه. ¬
فبينا هو جالس إذا أقبل رجل طويل اللحية فسلم عليه، فقال له معاوية رضي الله تعالى عنه: ما نقش خاتمك؟ فقال: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20]. فقال: وما كنيتك؟ فقال: أبو الكوكب الدري. قال معاوية: هذا منه (¬1). وأخرج فيه عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اعْتَبِروا عَقْلَ الرَّجُلِ بِثَلاثٍ؛ بِطُولِ اللِّحْيَةِ، وَكُنْيَتِهِ، وَنَقْشِ خاتَمِهِ". قلت: أما الأولى فليس للرجل فيه فعل ولا كسب، وإنما ذلك من الأمارات الصورية التي تدل على عقل الرجل. وقد حكي أنه مكتوب في التوراة: إن اللحية مخرجها من الدماغ، فمن أفرط عليه طولها قل دماغه، ومن قل دماغه قل عقله (¬2). وقال عبد الملك بن مروان: من طالت لحيته تكوسج عقله (¬3). وقال بعض الشعراء [من المتقارب]: إِذا عَرَضَتْ لِلْفَتَى لِحْيَةٌ ... وَطالَتْ وَصارَتْ إِلَى سُرَّتِهْ ¬
فَنُقْصانُ عَقْلِ الفَتَى عِنْدَنا ... بِمِقْدارِ ما طالَ مِنْ لِحْيَتِهْ (¬1) وقال بعض أهل الفراسة: إذا كان الرجل طويلاً طويل اللحية فاحكم عليه بالحماقة، وإذا انضاف إلى ذلك أن يكون رأسه صغيراً فلا تشك في حمقه. زاد بعضهم: إذا كان معلماً، أو حائكاً، أو قطَّاناً فقد تمَّ حمقُه (¬2). وأما الكنية؛ فإن كان المكني له غيره فليس له في ذلك كسب أيضاً، وقد يكون إنما كني بتلك الكنية لما رآه المكني له بها فيه من الحماقة ونحوها، وهذا عمدة من يكني الناس، أو يلقبهم بالألقاب المهملة. وإما أن يكون هو المختار لتكنية نفسه، فالكنية الدالة على حمقه، وكفى بذلك دليلاً عليه. وكذلك لو لقب نفسه بلقب هو قاصر عن الاتصاف به والقيام بأمره كالقاصر في العلم يلقب نفسه بشيخ الإسلام، أو العلاَّمة، أو النحرير، أو يفرح بتلقبه بذلك، والبخيل أو الجبان يفرح بوصفه بالكرم أو الشجاعة، أو لقب نفسه بلقب مكروه، أو مضحك. وأما نقش الخاتم؛ فللإنسان فيه كسب، فينبغي للعاقل أن لا يتشبه فيه. ¬
ولا يختص ذلك بنقش الخاتم، بل قد تظهر الحماقة والرعونة في الزي، والعمامة، وركوب الدابة التي لا تليق به، وغير ذلك من الهيئات والعادات كالخروج بين الناس راكباً على قصبة، أو على دابة منكسة، أو لابساً زي النساء، ومشاركة الصبيان والرعاع في ملاعباتهم أو محاوراتهم، ونحو ذلك؛ فافهم! ومن ذلك محاكاة الناس وتقليدهم في أمورهم الخلقية أو العادية كتعويج الفم، وتحويل العين، وغير ذلك؛ فإن ذلك يشعر برقاعة المرء وخفة عقله. ومن لطائف هذا الباب ما رواه الخطابي في "الغريب" عن الأصمعي قال: حدثني خلف قال: أقبل أعرابي إلى قوم من أهل البصرة على غدير البحيت يشربون شراباً لهم، ومغن لهم يتغنى، فجعل يكسر عينيه، ويمط خديه، ويثنى أصابعه، فلما سكت قال للأعرابي: كيف رأيت؟ فقال [من الطويل]: أَراكَ صَحِيحا قَبْلَ شَدْوُكِ سالِماً ... فَلَمَّا تَغَنَّيْتَ اسْتَفاءَ لَكَ الْخَبَلْ فَإِنْ كانَ تَرْجِيعُ الغِناءِ مُوَرّثاً ... جُنونًا فَأَخْزى اللهُ ذَلِكَ مِنْ عَمَلْ قال الخطابي: قوله: استفاء - يعني: بالسين المهملة، والفاء معناه -: استجلبه عليك، واستدعاه إليك (¬1). ¬
15 - ومن أحوال المجانين، والحمقى: أنهم ربما أتلفوا شيئا من أموالهم لحفظ مال غيرهم كالذي يحمل اللحم وغيره لغيره في ثوبه وهو جديد نفيس نظيف.
15 - ومن أحوال المجانين، والحمقى: أنهم ربما أتلفوا شيئاً من أموالهم لحفظ مال غيرهم كالذي يحمل اللحم وغيره لغيره في ثوبه وهو جديد نفيس نظيف. ومن ثم كان أحمق الناس من باع دينه بدنيا غيره كما روى الإمام أحمد في "الزهد" عن ميمون بن مهران قال: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لجلسائه: أخبروني بأحمق الناس. قالوا: رجل باع آخرته بدنياه. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أفلا أخبركم بأحمق منه؟ قالوا: بلى. قال: رجل باع آخرته بدنيا غيره (¬1). وفي معنى ذلك قول أبي حازم سلمة بن دينار رحمه الله تعالى: إن أحمق الناس رجل اغتاظ في هوى أخيه. اتفقت له هذه الحكمة في قصة وقعت له ينبغي ذكرها هنا: روى أبو نعيم عن خالد بن كثير رحمه الله تعالى قال: دخل سليمان بن عبد الملك المدينة حاجاً فقال: هل بها رجل أدرك عدة من الصحابة؟ قالوا: نعم، أبو حازم. فأرسل إليه، فلما أتاه قال: يا أبا حازم! ما هذا الجفاء؟ قال: وأي جفاء رأيت مني يا أمير المؤمنين؟ ¬
قال: وجوه الناس أتوني ولم تأتني. قال: والله ما عرفتني قبل هذا ولا أنا رأيتك، فأي جفاء رأيت مني؟ فالتفت سليمان إلى الزهري، فقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا. فقال: يا أبا حازم! ما لنا نكره الموت؟ فقال: عَمَرْتم الدنيا وخَرَبْتُم الآخرة، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب. قال: صدق. قال: يا أبا حازم! ليت شعري ما لنا عند الله عز وجل غداً؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله عز وجل. قال: وأين أجده من كتاب الله عز وجل؟ قال: قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار: 13 - 14]. قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين. قال سليمان: ليت شعري! كيف العرض على الله عز وجل غداً؟ قال أبو حازم: أما المحسن كالغائب يقدم على أهله، قال: وأما المسيء كالآبق يقدم على مولاه. فبكى سليمان حتى علا نحيبُه واشتد بكاؤه، فقال: يا أبا حازم! فكيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعون عنكم الصَّلَف، وتمسكون بالمروءة، وتقسمون
بالسوية، وتعدلون القضية. قال: وكيف المأخذ من ذلك؟ قال: تأخذه بحقه، وتضعه بحقه في أهله. قال: يا أبا حازم! من أفضل الخلائق؟ قال: أولو المروءة والنُّهى. قال: فما أعدل العدل؟ قال: كلمة صدق عند من يرجوه أو يخافه. قال: فما أسرعُ الدعاء إجابة؟ قال: دعاء المحسن. قال: فما أفضل الصدقة؟ قال: جهد المقل إلى البائس الفقير لا يتبعها مَن ولا أذى. قال: يا أبا حازم! من أكيس الناس؟ قال: رجل ظفر بطاعة الله فعمل بها، ثم دلَّ الناس عليها. قال: من أحمق الخلق؟ قال: رجل اغتاظ في هوى أخيه، فهو ظالم باع آخرته بدنياه. قال: يا أبا حازم! هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ قال: كلا. قال: ولِمَ؟ قال: أخاف أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني ضعف الحياة
وضعف الممات، ثم لا يكون لي معك نصيراً. قال: يا أبا حازم! ارفع إلينا حاجتك. قال: نعم: تدخلني الجنة وتخرجني من النار. قال: ذاك ليس إلي. قال: فما لي حاجة سواها. قال: يا أبا حازم! ادع الله لي. قال: نعم، اللهم إن كان سليمان من أوليائك فيسره لخير الدنيا والآخرة، وإن كان من أعدائك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى. قال سليمان: قط؟ قال أبو حازم: قد أكثرت وأطنبت إن كنت من أهله، وإن لم تكن أهله فما حاجتك أن ترمي عن قوس بلا وَتَر؟ قال: يا أبا حازم! ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: بل نصيحة تلقيها إلي. قال: إن آباءك غصبوا الناس هذا الأمر فأخذوه عَنْوة بالسيف، عن غير مشورة ولا اجتماع من الناس، وقد قتلوا فيه مقتلة عظيمة وارتحلوا، فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم. قال رجل من [جلساء] سليمان: بئس ما قلت. قال أبو حازم: كذبت، إن الله تعالى أخذ على العلماء الميثاق:
{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. قال: يا أبا حازم! أوصني. قال: نعم سوف أوصيك وأوجز: نزِّهِ اللهَ تعالى، وعَظِّمه أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك. ثم قام، فلما ولى قال: يا أبا حازم! هذه مئة دينار أنفقها، ولك عندي أمثالها كثير. فرمى بها، وقال: والله ما أرضاها لك، فكيف أرضاها لنفسي؛ إني أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هَزْلاً، وردي عليك بَذْلاً. إن موسى بن عمران عليه السلام لما ورد ماء مدين قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]؛ سأل موسى ربه ولم يسأل الناس، ففطنت الجاريتان ولم يفطن الرعاء لما فطنتا له، فأتيا أباهما وهو شعيب عليه السلام، فأخبرتاه خبره، فقال شعيب: ينبغي أن يكون هذا جائعاً، ثم قال لإحداهما: اذهبي ادعيه لي، فلما أتته أعظمته، وغطَّت وجهها، ثم قالت: إن أبي يدعوك، فلما قالت: ليجزيك أجر ما سقيت لنا كره ذلك موسى عليه السلام، وأراد أن لا يتبعها، ولم يجد بداً من أن يتبعها لأنه كان في أرض مَسْبعة وخوف، فخرج معها وكانت امرأة ذات عَجُز، فكانت الرياح تضرب ثوبها، فتصف لموسى عليه السلام عجيزتها، فيغض بصره ويعرض أخرى، فقال: يا أمة الله! كوني خلفي، فدخل إلى شعيب عليهما السلام والعشاء مهيأ، فقال: كُلْ. فقال موسى: لا.
قال شعيب: ألست جائعاً؟ قال: بلى، ولكني من أهل بيت لا نبغي شيئاً من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً، وأخشى أن يكون هذا أجر ما سقيت لهما. قال شعيب: لا يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي؛ قِرى الضيف وإطعام الطعام. قال: فجلس موسى فأكل. فإن كانت هذه المئة دينار عوضاً مما حدثتك، فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلُّ منه، وإن كانت من مال المسلمين فلي فيها شركاء ونظراء؛ إن وازنتهم وإلا فلا حاجة لي فيها. إن بني إسرائيل لم يزالوا على الهدى والتقى حيث كانت أمراؤهم يأتون إلى علمائهم رغبة في علمهم، فلما نكسوا وتعسوا وسقطوا من عين الله عز وجل، وآمنوا بالجِبْت والطاغوت، وكان علماؤهم يأتون إلى أمرائهم يشاركونهم في دنياهم، ويشركوا معهم في فتنتهم. قال ابن شهاب - يعني: الزهري -: يا أبا حازم! إياي - يعني: أبي تعرض؟ - قال: ما إياك اعتمدت، ولكن هو ما تسمع. قال سليمان: يا ابن شهاب! تعرفه؟ قال: نعم، جاري منذ ثلاثين سنة، ما كلمته كلمة قط. قال أبو حازم: إنك نسيت الله فنسيتني، ولو أحببت الله لأحببتني. قال ابن شهاب: يا أبا حازم! تشتمني؟
16 - ومن أحوال الحمقى: ما رواه المعافى بن زكريا في "الجليس والأنيس"
قال: ما شتمتك، ولكن شتمت نفسك، أما علمت أن للجار على الجار حقاً كحق القرابة؟ فلما ذهب أبو حازم قال رجل من حلفاء سليمان: يا أمير المؤمنين! تحب أن يكون الناس كلهم مثل أبي حازم؟ قال: لا (¬1). أخرج هذه القصة الدارمي في "مسنده" عن الضحاك بن موسى بنحوه (¬2)، وقد أوردتها بتمامها لأنها من أنفع القصص للعلماء والعقلاء. 16 - ومن أحوال الحمقى: ما رواه المعافى بن زكريا في "الجليس والأنيس" عن الهيثم بن عدي قال: قال وهب بن منبه: الأحمق إذا تكلم فضحه حمقه، وإذا سكت فضحه عيه، وإذا عمل أفسد، وإذا ترك أضاع، لا علمه يغنيه، ولا علم غيره ينفعه، تود أمه لو أنها أثكلته، وتود امرأته لو أنها عدمته، ويتمنى جاره منه الوحدة، وتأخذ جليسه منه الوحشة، وأنشد لمسكين الدارمي [من الرمل]: اتَّقِ الأَحْمَقَ لا تَصْحَبَهُ ... إِنَّما الأَحْمَقُ كَالثَّوْبِ الْخَلَقْ كُلَّما أَرْقَعْتَ مِنْهُ جانِباً ... حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ وَهْناً فَانْخَرَقْ أَوْ كَصدْعٍ فِي زُجاجٍ فاحِشٍ ... هَلْ تَرى صَدْعَ زُجاجٍ يَتَّفِقْ وإِذا جالَسْتَهُ فِي مَجْلِسٍ ... أَفْسَدَ الْمَجْلِسَ مِنْهُ بِالْخَرَقْ ¬
وَإِذا نَهْنَهْتَهُ كَيْ يَرْعَوِي ... زَادَ جَهْلاً وَتَمادَى فِي الْحُمُق (¬1) وزاد فيه غيره: كَحِمارِالسُّوءِ إِنْ أَشْبَعْتَهُ ... رَمَحَ النَّاسَ وَإِنْ جاعَ نهقْ أَوْ كَعَبْدِ السُّوء إِنْ أتعَبْتَهُ ... سَرَقَ النَّاسَ وَإنْ يَشْبَعْ فَسَقْ (¬2) وروى ابن السمعاني عن أبي الحسين محمد بن محمد بن جعفر ابن الحكم: [من الوافر] زَمانٌ قَدْ تَضَرَّعَ لِلْفُضُولِ ... فَسَوَّدَ كُلَّ ذِي حُمْقٍ جَهُولِ إِذا أَحْبَبْتُمْ فِيهِ ارْتفاعاً ... فَكُونُوا جاهِلِينَ بِلا عُقُولِ (¬3) وقرأت بخط البرهان بن جماعة: وكان أبو عمر القاضي يقول: إعظام من لا دين له ولا دنيا عنده حمق. قلت: وإعظام من عنده دنيا لا ينالك منها شيء، بل لمجرد كونه غنياً حمقٌ، بل أشد الحمق. ¬
فَصْلٌ التشبه بالمجانين تارة يكون مذموماً لما يعود على المتشبه به كمن يحاكي المجانين في حركاتهم وسكناتهم، وأقوالهم وأفعالهم، وأحوالهم تهكُّماً واستهزاءً بهم، وهذا حرام لما فيه من الأذية وانتهاك الحرمة، وإن كان المجنون لا يتأذى بذلك في نفسه فقد يتأذى به قريبه أو صديقه، ولو كان عاقلاً فذكر ذلك له لتأذى به وتألم. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا الأَمْواتَ فَتُؤْذَى الأَحْياء" (¬1). والمجنون لا أقل من أن ينزل منزلة الميت، بل هو أولى بأن لا يسب من الميت، فقد يعافى ويذكر له ذلك، فيتأذى به. وقد سمعت بعض مشايخنا يقول: ما اعتاد أحد محاكاة المجانين إلا جن ولو قبل موته بيوم. وفي الحديث: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (¬2)، وهو لا يحب لنفسه أن يحاكى، أو يسب. ¬
وكذلك من يحاكي المجانين ليضحك الجلساء ويعللهم، وهذا حرام أيضًا لأنه غيبة؛ فإن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، ولو كان المجنون عاقلاً يكره ذلك منك. ولما ذكر العلماء المواضع التي تباح فيها الغيبة لم يذكروا غيبة المجنون منها، فبقيت على أصلها من التحريم، والتمسخر لإضحاك الناس حرام. وروى ابن أبي الدنيا - بسند جيد - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لِيُضْحِكَ بِها جُلَساءَهُ يَهْوِي بِها أَبْعَدَ مِنَ الثُّرَيَّا" (¬1). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} [الكهف: 49] الآية: الصغيرة: التبسم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة: القهقهة بذلك (¬2). قال الغزالي: وهو إشارة إلى أن الضحك على الناس من الجرائم والذنوب (¬3). نعم، قد يحتاج العاقل إلى مشاكلة المجنون ومقابلته بمثل عمله ¬
كان ضرب رأسه عبثاً وجنوناً، فيضرب رأسه تأديباً وزجراً له عن جنونه، أو يسبه المجنون ويشتمه فينتهره ويزجره، فهذا غير مذموم لصحة القصد فيه، ومتى صح القصد في المشاكلة أبيحت. ومن هذا القبيل ما أسنده ابن السبكي في "طبقاته" عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي - رضي الله عنه - يقول: [الطويل] وَأَنْزَلَنِي طُولُ النَّوَى دارَ غُرْبَةٍ ... يُجاوِرُني مَنْ لَيْسَ مِثْلِي يُشاكِلُهْ أُحامِقُهُ حَتَّى يُقالَ: سَجِيَّةٌ ... وَلَوْ كانَ ذا عَقْلٍ لَكُنْتُ أُعاقِلُهْ (¬1) وتارة يكون التشبه بالمجانين مذموماً لما يعود على نفس المتشبه، وهذا يختلف باختلاف الأغراض. وتارة أن يكون عليه حقوق شرعية وهو قادر على أدائها، فيتجنن لئلا يطالب بها، فهذا حرام لأنه مِنْ أكل أموال الناس بالباطل، فأما لو أريد أن يقهره على أخذ ماله منه، أو يسطي عليه في عرضه أو في حريمه، أو حمل على فتنة في دينه، فإن أمكنه التخلص من ذلك بحيلة غير التجانن فهو أولى، وإلا فلا يكره في حقه التحامق والتجانن كما وقع لمِسْعر بن كدام - رحمه الله تعالى - لما دعاه السلطان إلى ولاية القضاء تحامق عليه، فتركه ولم يوله، وقال: هذا لا يصلح للقضاء. ووقع مثل ذلك لسفيان الثوري. ¬
مات قاض من قضاة بني إسرائيل، فخرج بعض علمائهم راكباً على قصبة يتأله ويتجانن لئلا يولوه القضاء كما تقدم ذلك في باب النهي عن التشبه ببني إسرائيل (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن مالك بن دينار أنه قال لمسلم بن قتيبة: ويحك يا مسلم! إياك وأبواب الملوك، ويحك يا مسلم! تحامق لهم، وقد تحلفنا حتى عرفنا. قال له مالك: تجان يا مسلم! إني أخاف أن يلقوك في ورطة لا تقوم لها ولا تخرج منها (¬2). ومن هذا القبيل تستر أولياء الله تعالى بما يشبه أفعال المجانين من غير ترتب لوم عليهم من حيث الشرع إيثاراً للخمول ليصفو لهم وقتهم في طاعة الله تعالى، وتخلص قلوبهم من الأشغال المكدرة لها عن مراقبة الله تعالى، ومشاهدة قدرته وعظمته. قال سفيان رحمه الله تعالى: يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من تحامق. رواه أبو نعيم (¬3). وروى الديلمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمانٌ تُقْتَلُ فِيهِ الْعُلَماءُ كَما تُقْتَلُ ¬
الْكِلابُ؛ فَيا لَيْتَ الْعُلَماءَ فِي ذَلِكَ الزَّمانِ تَحامَقُوا" (¬1). أي: لغرض النجاة، فالتحامق بالقصد الصحيح مأذون فيه شرعاً، مستحسن مقبول. ومن التشبه المذموم بالمجانين لما يعود على نفس المتشبه ضرره أمران عظيمان يلحقان العبد بالمجانين فعلاً وصورة، وبالهالكين مالاً وحكماً: الأول، وهو من الأفعال: السكرة سواء كان بشرب الخمر والمسكر، أم بأكل الحشيش والأفيون، وغيرهما من أنواع الكيف؛ فإن السكران يعرض له ما يعرض للمجنون من كشف العورة، والتضمخ بالنجاسة، والكلام الفاحش، والأفعال المضحكة، والسكران أسوأ حالاً من المجنون؛ لأن السكران مؤاخذ بأفعاله وأقواله من طلاق وعتاق وإقرار، مطالب بما يفوته من الفرائض، معاقب على ما يقع منه من الذنوب كالقذف، والشتم، والقتل، والضرب، وكشف العورة بخلاف المجنون، وذلك لأن السكران عاص بتغييب عقله. قال الحسن: جاء الخمر إلى أحب خلق الله إليه، فأتلفه؛ يعني: العقل (¬2). لما رواه ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ¬
والطبراني عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، وأبو نعيم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أَوَّلَ ما خَلَقَ اللهُ الْعَقْلَ، فَقالَ لَهُ: أَقْبِلْ، فَاَقْبَلَ، ثُمَّ قالَ لَهُ: أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قالَ: وَعِزَّتي وَجَلالِي ما خَلَقْتُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْكَ، بِكَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي، وَبِكَ أُثِيبُ وَبِكَ أُعاقِبُ" (¬1). والثاني، وهو من الأخلاق: الغضب، والإفراط فيه؛ إذ به يخرج المرء عن سياسة العقل والدين كما نص عليه في "الإحياء"، فلا يبقى له معه بصيرة، ولا نظر، ولا فكرة (¬2)، ويتغير لونه، وترتعد فرائصه، وتخرج أفعاله عن الترتب، ويضطرب كلامه وحركته، وينطلق لسانه بالفحش وقبيح الكلام الذي يستحيى منه ذوو العقول، وربما يبطش بالمغضوب عليه ويريد قتله وقد يقتل، فإذا غاب عنه أو حيل بينه وبينه فقد يعود أثر غضبه على نفسه باللطم وتمزيق الثياب، ونتف اللحية، وكسر الآنية، وقد يعدو عدو الواله السكران، وربما يسقط فلا يستطيع النهوض، وقد يغشى عليه، وربما طلق الزوجة ثلاثًا في غضب، وربما دعاه الغضب إلى النميمة وكشف الأسرار، وربما حصل له ضرر بذلك، ¬
وهذه فوائد وتتمات لهذا الباب
ويندم آخراً، ولذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الغضب، وكون النهي عنه حسماً لهذه المواد كما رواه أبو داود، وغيره (¬1). وهذه فوائد وتتمات لهذا الباب: الأُولَى: ينبغي التحرز عن مجالسة المجانين والحمقى، ومسايرتهم لما قررناه من أن الطباع تسرق، وللمجالسة تأثير. روى أبو نعيم عن عبد الله بن طاوس رحمهما الله تعالى: قال لي أبي: يا بني! صاحب العقلاء تنسب إليهم وإن لم تكن منهم، ولا تصاحب الجهال فتنسب إليهم وإن لم تكن منهم، واعلم أن لكل شيء غاية، وغاية المرء حسن عقله (¬2). وقال شعبة: عقولنا قليلة، فإذا جلسنا مع من هو أقل عقلاً منا ذهب ذلك القليل، واني لأرى الرجل يجلس مع من هو أقل عقلاً منه فأمقته. نقله ابن الجوزي، وغيره (¬3). وفي حديث أبي المجبر - رضي الله عنه -: "أَرْبَعُ خِصالٍ مُفْسِدَة لِلْقَلْبِ؛ مُجاراةُ ¬
الأَحْمَقِ، وإنْ جاريتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ" الحديث؛ وسبق (¬1). وقال مسكين الدارمي في أبياته السابقة [من الرمل]: اتَّقِ الأَحْمَقَ لا تَصْحَبَه ... إِنَّما الأَحْمَقُ كَالثَّوْبِ الْخَلَقْ وإِذا جالَسْتَهُ فِي مَجْلِسٍ ... أَفْسَدَ الْمَجْلِسَ مِنْهُ بِالْخَرَقْ الثَّانِيَةُ: كما لا ينبغي أن تجالس الأحمق لا ينبغي أن تتخذ منه صديقًا؛ وأولى. روى ابن الجوزي عن عبد الله بن داود الحربي قال: كل صديق ليس له عقل فهو أشد عليك من عدوك (¬2). قال: وقال علي رضي الله تعالى عنه: لا تؤاخ الأحمق؛ فإنه يشير عليك ويجهد نفسه فيخطئ، وربما يريد أن ينفعك فيضرك، وسكوته خير من نطقه، وبعده خير من قربه، وموته خير من حياته (¬3). ولصالح بن عبد القدوس [من الكامل]: الْمَرْءُ يَجْمَعُ وَالزَّمانُ يُفرِّقُ ... وَيَظَلُّ يَرْتعُ (¬4) وَالْخُطوبُ تُمَزِّقُ ¬
وَلأَنْ يُعادِي عاقِلاً خَيْرٌ لَهُ ... مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدِيقٌ أَحْمَقُ (¬1) الثَّالِثة: لا ينبغي معاداة الأحمق أيضًا؛ فإنه كما لا ينفع صديقاً فهو أضر ما يكون عدواً، وإذا عاديته حمله الخَرَق على ما لا تطيق مقابلته بمثله، وسبق أن مجاراة الأحمق مفسدة للقلب. روى ابن الجوزي عن سلمان بن موسى، وعن الأحنف بن قيس قالا: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: حليم من أحمق، وشريف من دنيء، وبر من فاجر (¬2). ومن هنا لا يحسن من العاقل إلا الإعراض عن الأحمق لأن مجاراته تزري بمن يجاريه، وتفسد قلبه، ومعاتبته لا تفيد كما قال الأعمش فيما رواه ابن الجوزي عنه: معاتبة الأحمق نفخُ تليسه؛ أي: في عرامه، أو غفلته؛ من الليس - بالتحريك - وهو الشجاعة، أو الغفلة (¬3). لبعض العرب [من مجزوء الرمل]: إِنَّ لِلْحُبِّ وَلِلْبُغـ ... ـضِ عَلى الْعَيْنِ عَلامَة وَجَوابُ الأَحْمَقِ الصَّمـ ... ـتُ وَفِي الصَّمْتِ السَّلامَة (¬4) ¬
الفائِدَةُ الرَّابِعَةُ: سبق أن داء الحماقة لا دواء له. وذكر ابن السبكي في "طبقاته" عن ابن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي - رضي الله عنه - يقول: ثلاثة أشياء ليس لطبيب فيها حيلة: الحماقة، والطاعون، والهرم (¬1). وهل يعارض هذا ما سبق عن الشافعي أنه قال: أربعة أشياء تزيد في العقل: ترك الفضول من الكلام، والسواك، ومجالسة الصالحين، والعمل بالعلم؛ فإن زيادة العقل نقصان في ضده من الحماقة، أم لا؟ قلت: لا معارضة؛ فإن العقل إنما يزيد حيث كان، ومن كان فيه قدر من الحمق فلا ينقصه ما زاد من العقل. أو نقول: إن ما يزيد من العقل ينقص بقدره من الرُّعونة؛ فإنها تحدث من مخالطة ضعفاء العقول على ما تقدم عن بعضهم، فتزول بالأسباب التي تزيد في العقل كالأمور المذكورة في كلام الشافعي، لا من الحماقة التي هي غريزة. وروى الدينوري في "المجالسة" عن يحيي بن خالد قال: شيئان يُورثان العقل؛ التين اليابس إذا أكل، ودخان اللبان إذا بخر به (¬2). والذي جرى عليه صاحب "الموجز"، وغيره من الأطباء: أن الرعونة والحمق نقصان في الفكر، أو بطلان ناشئ عن برد ساذج ¬
أو مادي، أو يبس، أو عنهما معاً، وأنه ينفع العلاج منهما والمداواة. ويؤيده ما صح في الأحاديث: "إِنَّ لِكُلِّ داءٍ دَواءً إِلاَّ السَّام" (¬1). وعليه: فمن قال: إنه لا دواء للحكماء، فإنما أراد بذلك التعبير عن عسر زوالها على وجه المبالغة حتى جعل متعذراً، أو غير ممكن. وروى الدينوري عن ابن قتيبة أن الحكماء قالوا: سبعة أشياء تفسد العقل: الإكثار من البصل، والباقلاء، والجماع، والخمار، وكثرة النظر في المرآة، والاستفراغ في الضحك، ودوام النظر في البحر (¬2). ولأبي العتاهية [من الرجز]: إِنَّ الشَّبابَ وَالفَراغ وَالْجِدَة ... مَفْسَدَةٌ لِلْعَقْلِ أَيَّ مَفْسَدَة (¬3) وروى ابن أبي شيبة - بإسناد صحيح - عن خَوَّات بن جُبير - وكان بدرياً - رضي الله تعالى عنه أنه قال: نوم أول النهار خرق، وأوسطه خلق، وآخره حمق (¬4). وروى البيهقي في "الشعب" عن عبد الله بن عمرو بمعناه، إلا أنه ¬
فسر نوم الحمق بالنوم عند حضور الصلاة (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن مكحول رضي الله تعالى عنه: أنه كان يكره النوم بعد العصر، وقال: يُخاف على صاحبه من الوسواس (¬2). وقال الشاعر [من الطويل]: أَلا إِنَّ نوماتِ الضُّحَى تُوْرِثُ الفَتَى ... خَبالاً وَنَوْماتِ العُصَيْرِ جُنونُ (¬3) الفائِدَةُ الْخامِسَةٌ: روى أبو نعيم عن وهب رحمه الله تعالى قال: ما عُبِدَ الله بشيء أفضل من العقل، وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه عشر خصال: - حتى يكون الكبر منه مأموناً. - والرشد فيه مأمولاً. - يرضى من الدنيا بالقوت. - وما كان من فضل فمبذول. - والتواضع فيها أحب إليه من الشرف. - والذل فيها أحب إليه من العز. ¬
- لا يسأم من طلب العلم دهرَه. - ولا يتبرم من طالب الخير. - يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف من نفسه. - والعاشرة، وهي ملاك أمره، بها ينال مجده، وربما يعلوه ذكره، وبها علا في الدرجات في الدراين كليهما. قيل: وما هي؟ قال: أن يرى جميع الناس خيراً منه وأفضل، وآخر شراً منه وأرذل، فإذا رأى الذي هو خير منه وأفضل كره ذلك وتمنى أن يلحق به، وإذا رأى الذي هو شر منه قال: لعل هذا ينجو وأهلك، ولعل لهذا باطناً لم يظهر لي، وذلك خير له، وترى ظاهراً، ولعل ذلك شر لي. فهنالك كمل عقله، وساد أهل زمانه، وكان من السباق إلى رحمة الله وجنته إن شاء الله تعالى (¬1). الفائِدَةُ السَّادِسَةُ: روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أخيه يزيد قال: لقيت وهب بن منبه في الموسم فقال لي: ألك عهد بالحسن بن أبي الحسن؟ يعني: البصري؟ ¬
فقلت: نعم. قال: هل أنكرتم من عقله شيئًا؟ فقلت: لا. فقال وهب: إنا لنتحدث، أو قال: لنجد في الكتب أنه ما أوتي عبد علما، فسلكه في سبيل هدى، فيسلبه الله - عز وجل - عقله (¬1). قلت: قد يستأنس لذلك بقوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 5 - 6]؛ فقد جاء في تفسير: {أَسْفَلَ سَافِلِين} أنه الْخَرَف. ولا شك أن العلماء العاملين هم خيار الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلا يخرفون، ولا تختلط عقولهم وإن طَعَنوا في السن. وذكر الحافظ المزي في "تهذيب الكمال" عن أبي عبد الله الشامي قال: استأذنت على طاوس لأسأله عن مسألة، فخرج عَلَيَّ شيخٌ كبير، وظننت أنه طاوس، فقلت له: أنت طاوس؟ قال: لا، أنا ابنه. فقلت: إن كنت ابنه فقد خَرِف أبوك. قال: تقول ذاك؟ إن العالم لا يخرف، وذكر الحديث (¬2). ¬
الفائِدَةُ السَّابِعَةُ: روى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في تفاسيرهم عن مجاهد قال: قال لي ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كم لبث نوح عليه السلام في قومه؟ قلت: ألف سنة إلا خمسين عاماً. قال: كان من كان قبلكم كانوا أطول أعماراً، ثم لم يزل الناس ينقصون في الأخلاق والآجال، والأحلام، والأجسام إلى يومهم هذا (¬1). قلت: وكلام ابن عمر يفهم أن الناس كلما تأخرت أزمنتهم نقصوا فيما ذكر، وهو كذلك كما هو محسوس مشاهدة فإنا شاهدنا أناساً كانوا أحسن خلقاً، وأطول عمراً، وأتم عقلاً وحلماً، وكلما تأخر الزمان غلب على أهله سوء الأخلاق، وسخافة العقول، وسفاهة الأحلام، وبشاعة الصور، وقلة البهاء، وصغر الجثث، وانمحقت أعمارهم، وذهبت البركة من أوقاتهم؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون! وروى ابن أبي الدنيا في "العقل " عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: يأتي على الناس زمان تنزع فيه عقول الناس حتى لا تَكاد ترى عاقلاً (¬2). ¬
قلت: وفي هذا الزمان تكون الدولة للحمقى كما سبق في الأثر. وروى ابن أبي الدنيا أيضا عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: اعقل؛ فلا إِخال العقل إلا قد رفع (¬1). هذا قول أبي أمامة عن زمانه، فكيف بزماننا؟ وروى السلمي في "طبقاته" عن بشر بن الحارث الحافي رحمه الله تعالى قال: يأتي على الناس زمان لا تقر فيه عين حليم، ويأتي عليهم زمان تكون الدولة فيه للحمقى على الأكياس (¬2). وروى أبو نعيم عن زبيد اليامي - ويقال: الأيامي - رحمه الله تعالى قال: سئل عيسى بن مريم عليهما السلام عن أشراط الساعة. قال: من أشراطها: إذا كانت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أخف الناس أحلاماً، وأقربهم من الله. قالوا: يا نبي الله! وما خفة أحلامهم، وقربهم من الله؟ قال: أما خفة أحلامهم فإن أحدهم يلعن البهيمة، وأما قربهم من الله فإن خوان أحدهم يوضع فما يرفع حتى يغفر له لقوله: بسم الله والحمد لله (¬3). وروى الدينوري في "المجالسة" عن المعتمر بن سليمان، عن ¬
أبيه رحمهما الله تعالى قال: يأتي على الناس زمان لا يفهمون فيه الكلام (¬1). وروى أبو نعيم عن أبي الجلد قال: والذي نفسي بيده ليكونن في آخر الزمان مُخْصِبة ألسنتهم، مُجْدِبة قلوبهم، قصيرة أحلامهم، رقيقة أخلاقهم، يتكافى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، [يتعلمون قول الزور لوناً غير لون] (¬2)، فإذا فعلوا فانتظروا النكال من السماء (¬3). وذلك لا يقال رأياً. الفائِدَةُ الثَّامِنَةُ: مما يتعلق بكون الدولة في آخر الزمان للحمقى ولايةُ الوليد بن عقبة للكوفة، وكان مدمناً فصلى بهم الصبح أربعاً (¬4). وحديثه مشهور، وهو الذي نزلت فيه هذه الآية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] كما اتفق عليه المفسرون (¬5). فذكر ابن عبد البر في "الاستيعاب": أن عثمان رضي الله تعالى عنه ولاه الكوفة، وعزل عنها سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه - وهو من الأمور التي انتقدها أعداء عئمان رضي الله تعالى عنه عليه - ¬
فلما قدم الوليد على سعد قال له سعد رضي الله تعالى عنه: والله ما أدري أكست بعدنا أم حمقنا بعدك؟ فقال: لا تجزعن أبا إسحاق؛ فإنما هو الْمُلك يتغدَّاه قوم ويتعشَّاه آخرون. فقال سعد رضي الله تعالى عنه: أراكم والله ستجعلونها ملكاً. قال ابن سيرين رحمه الله تعالى: لما قدم الوليد بن عقبة أميراً على الكوفة أتاه ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ما جاء بك؟ قال: جئت أميراً. فقال: ابن مسعود - رضي الله عنه -: ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس؟ (¬1). الفائِدَةُ التَّاسِعَةُ: ذكر حجة الإسلام في "الإحياء": أن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما كان يتمثل ويقول: [من البسيط] يا أَهْلَ لَذَّاتِ دُنْيا لا بَقاءَ لَها ... إِنَّ اغْتِراراً بِظِلًّ زائِلٍ حُمْقُ (¬2) ولمَّا ذُكرت الدنيا عند الحسن البصري رحمه الله تعالى أنشد: [من الكامل] أَحْلامُ نَوْم أَوْ كَظِلِّ زائِلٍ ... إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِها لا يُخْدَعُ (¬3) ¬
وقريب منه قول المتنبي: [من الكامل] فَالْمَوْتُ آتٍ وَالنفُوسُ نَفائِسٌ ... وَالْمُسْتَغِرُّ بِما لَدَيْهِ الأَحْمَقُ وقلت في المعنى [من الرجز]: إِنَّ الَّذِي أَصْبَحَ مِنْ دنْيـ ... ـاه مَعْ غُرورِها عَلى ثِقَة مَعْ كَوْنِهِ أَخْرَقَ مِنْ حَما ... مَةٍ أَحْمَقُ مِنْ هَبَنَّقَة فإن العرب يضربون المثل بالحمامة في الخرق والحمق: أخرق من حمامة وأحمق لأنها لا تحكم عُشَّها، فإذا هبت الريح كان ما يكسر منه أكثر مما يسلم (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى: أن المسيح عليه السلام كان يقول لأصحابه: إن استطعتم أن تكونوا بلهاء في مثل الحمام فافعلوا. قال: وكان يقال: ليس شيء أبله من الحمام؛ إنك تأخذ فرخيه من تحته فتذبحهما، ثم يعود إلى مكانه فيفرخ فيه (¬2). وأما هبنقة: فهو ذو الودعات يزيد بن ثروان، ويقال: ابن مروان [أحد بني قيس بن] (¬3) ثعبلة، فإنما ضرب به المثل في الحمق، فقيل: أحمق من هبنقة ومن ذي الودعات؛ لأنه جعل في عنقه قلادة من ودع ¬
وعظام، وخرق مع طول لحيته، فسئل، فقال: لئلا أضل. فسرقها أخوه في ليلة وتقلَّدها، فأصبح هبنقة، ورآها في عنق أخيه، فقال: أخي أنت أنا، فمن أنا؟ وأضل بعيراً، فقال: من وجده فهو له. فقيل له: فلم تنشده؟ قال: فأين حلاوة الوجدان (¬1)؟ الفائِدَةُ العاشِرَةُ: روى الدينوري في "المجالسة" قال: حدثنا أحمد بن خالد الآجري قال: سمعت ابن عائشة يقول: قيل لبعض الحكماء: ما كمال الحمق؟ قال: طلب منازل الأخيار بأعمال الأشرار، وبغض أهل الحق، وصحبة أهل الباطل. قيل: فما علامة الجهل؟ قال: حب الغنى، وطول الأمل، وشدة الحرص. قيل: فما علامة العمى؟ قال: الركون إلى من لا تأمن غشه، والمن مع الصدقة، والعبادة مع البخل (¬2). قال: وقال ابن قتيبة: قرأت في كتب الهند: من الحمق التماس ¬
الرجل الإخوان بغير وفاء، وطلب الآخرة بالرياء والسمعة، ومودة النساء بالغِلْظة، وينفع نفسه بضر غيره، وطلب العلم والفضل بالدَّعَة (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى أنه قال لأصحابه: يا ابن آدم! إلى متى؟ يا أهلاه! غَدُّوني، يا أهلاه! عَشّوني، يوشك والله يغدى بك، يوشك والله يراح بك؛ إما هولاً أكلاً بلعاً بلعاً، وسرطاً سرطا أحمق، إنما تجمع مالك لامرأة تذهب إلى زوجها، أو لرجل يذهب بمالك إلى زوجته؛ فإن استطعت أن لا تكون آخر الثلاثة فافعل (¬2). وقوله: أحمق: منادى حذف منه حرف النداء؛ أي: يا أحمق. والمراد: أن من جمع المال ولم ينفقه في سبيل الله، أو فيما ينتفع به في الدارين خلَّفه لمن يتمتع به، ولا يشكر له يداً فيه، وتبقى عهدته عليه، عليه تبعته، ولغيره متعته. ولنا في المعنى: [من البسيط] حَمَق تُجَمِّعُ مالاً ثُمَّ تَتْرُكُه ... لِزَوْجَةٍ أَمْتَعَتْهُ بَعْدَكَ الرَّجُلا الفائِدَةُ الْحادِيَةَ عَشْرَةَ: روى الإمام عبد الله بن المبارك، والإمام أحمد؛ كلاهما في "الزهد" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ¬
لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يرى الناس كأنهم حمقى في دينهم (¬1). وبيانه: أن الناس الذين تراهم إما طائع وإما عاص، فالعاصي أحمق لأنه عبد ترك طاعة مولاه ولا غنى له عنه، ولا بد له منه، ولا قوام له إلا به. والطائع إما مُراءٍ، وإما مخلص. فالمرائي أحمق لأنه أراد بطاعته غير من هي له، فوضع الشيء في غير محله، وأعطى الحق لغير مستحقه. والمخلص لا يخلو من تقصير وإن أفرغ جهده، والتقصير في حق من رزقه دائم عليه حمق؛ إذ كان ينبغي أن تكون طاعته له دائمة كما أن رزقه عليه دائم. نعم، هذا الحمق أسهل هذه الأنواع كلها، وشره يذهب بالاعتراف والاستغفار كما قالت الملائكة عليهم السلام: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سُبْحانَكَ وَبِحَمْدِكَ! لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَما أثنَيْتَ عَلى نفسِكَ" (¬3). ومن هنا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَةُ لَيُغانُ عَلى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ فِي اليَوْمِ ¬
أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً" (¬1). ومن لزم الطاعة، وداوم معها على الاستغفار سلم من هذه الحماقة لأنه اقتدى بأعقل الخلق - صلى الله عليه وسلم -. وهل ما ذكرناه هنا هو معنى قول مطرف - رضي الله عنه -: ما من الناس أحد إلا وهو أحمق فيما بينه وبين ربه، غير أن بعض الحمق أهون من بعض؟ رواه ابن المبارك، وأحمد أيضاً (¬2). ورواه أبو نعيم، ولفظه: لو حلفت لرجوت أني أَبَرُّ: أنه ليس أحد من الناس إلا وهو أحمق فيما بينه وبين الله - عز وجل - (¬3). وروى النقاش عن سعيد بن المسيب قال: تلا عمر رضي الله تعالى عنه هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)} [الانفطار: 6]؛ قال: الحمق يارب (¬4). ونقل ابن الجوزي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: كلنا ¬
أحمق في ذات الله - عز وجل - (¬1). وقلت مقتبساً لكلام أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: [من الرمل] كُلُّنا أَحْمَقُ فِي ذاتِ الإِلَهِ ... لَوْ عَقِلْنا لَمْ نَحُمْ حَوْلَ الْمَناهِي لَوْ عَقِلْنَا لأَطَعْنا ما نَرى ما ... قَد أَطَعْنَا لا نُرائِي لا نبُاهِي رُبَّما أَحْمَقُ كُلُّ النَّاسِ إِذْ هُمْ ... بَيْنَ مَهْمُوم بِدُنْياهُ وَلاهِي رُبَّ مَنْ جَمَّعَ دنْياهُ وَأَوْعى ... ثُمَّ لَمْ يَبْقَ لَها كَلاَّ وَلا هِي خُذْ مِنَ الدُّنْيَا كَفافًا ثُمَّ أَقْصِرْ ... لا تَكُنْ بِاللهِ مِنْ أَهْلِ الْمَلاهِي الفائِدةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: ذكر ابن الجوزي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: ليس من أحد إلا وفيه حمقة فيها يعيش (¬2). وعن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: خلق الله تعالى آدم عليه السلام أحمق، ولولا ذلك ما هنَّأه العيش (¬3). وهو بمعنى قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب 72]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يعني: غِرًّا بأمر الله ¬
تعالى. رواه المفسرون، وابن الأنباري في كتاب "الأضداد" (¬1). وقال ابن جريح: ظلم نفسه في خطيئته، جهولاً بعاقبة ما تحمل. رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري (¬2). وقال مجاهد: ما كان بين أن تحمل الأمانة إلى أن خرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر. رواه ابن أبي حاتم (¬3). فمعنى الحمق والجهل الموصوف به الإنسان في الآية والأثر: هو اغتراره بما تتعلق به آماله من الخير، فعجل في ذلك الأمر، ولا يمعن لنفسه النظر في عاقبته، وذلك في طباع كل إنسان. ومن هنا قيل: لا بد لكل عاقل من زلة. بل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ، وَلا حَلِيمَ إِلاَّ ذُو عَثْرَةٍ". رواه الحاكم من حديث دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (¬4). ¬
الفائدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: روى ابن أبي الدنيا في "العقل" عن أيوب ابن القرية أنه قال: الرجال ثلاثة؛ عاقل، وأحمق، وفاجر، فالعاقل إن كلم أجاب، وإن سمع وعى، وإن عمل خشع. والأحمق إن تكلم عجل، وإن حدث ذَهَلَ، وإن حمل على القبيح فعل. والفاجر إن ائتمنته خانك، وإن حادثته شانك (¬1). قال الماوردي في "أدب الدين والدنيا": وقد وصف بعض الأدباء العاقل بما فيه من الفضائل، والأحمق بما فيه من الرذائل، فقال: العاقل إذا والى بذل في المودة نصره، وإذا عادى رفع عن الظلم قدره، فيسعد مواليه بعقله، ويعتصم معاديه بعدله، إن أحسن إلى أحد ترك المطالبة بالشكر، وإن أساء إليه مسيءٌ سبب له أسباب العذر، أو منحه الصفح والعفو. والأحمق ضالٌّ مُضِلٌّ، إن أونس تكبر، وإن أوحش تكدر، وإن استنطق تخلف، وإن ترك تكلف، مجالسته مهنة، ومعاتبته محنة، ومجاورته تغر، وموالاته تضر، ومقارنته عمى، ومقاربته شقاء. قال الماوردي: وكانت ملوك الفرس إذا غضبت على عاقل حبسته مع جاهل. قال: والأحمق يسيء إلى غيره ويظن أنه قد أحسن إليه، فيطالبه ¬
بالشكر، ويحسن إليه ويظن أنه قد أساء إليه، فيطالبه بالوتر، فمساوئ الأحمق لا تنقضي، وعيوبه لا تتناهى، ولا يقف النظر منها إلى غاية إلا لوحت بما وراءها مما هو أدنى منها، وأردى مما مر وأدهى، وفي أكثر العبر لمن نظر، وأنفعها لمن اعتبر. قال: وقال الأحنف بن قيس: من كلٍّ يُحفَظ الأحمق إلا من نفسه، انتهى (¬1). وروى ابن الجوزي عن ابن عائشة قال: قال جعفر بن محمد رحمهما الله تعالى: الأدب عند الأحمق كالماء في أصول الحنظل؛ كلما ازداد رِيًّا زاد مرارة (¬2). وقلت: [من مجزوء الكامل] فِعْلُ الْحَماقَةِ فِي الأَدَبْ ... فِعْلُ الْمَرارَةِ فِي الضَّربْ وَالْعَقْلُ يُصْلِحُ مِنْ ذَويـ ... ـهِ فَسادَهَمُ وَيَقِي العَطَبْ الفائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: روى ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبزى قال: قال داود عليه السلام: خطيئة الأحمق في نادي القوم كمثل الذي يتغنى عند رأس الميت (¬3). ¬
والمعنى أن الأحمق إذا وقعت منه الخطيئة تجاهر به حتى يضرب المثل به وبخطيئته، ويتضاحك القوم منه، ولا يبالي بهم، ولا باطلاعهم على عيبه، ولا يستحيي منهم كأنهم أموات عنده، وكأنه ميت عندهم لا يبالون بخطيئته أن يتذاكروها، ويضحكوا منه في حضرته لأنه لا يتأثر منها، بل ربما ضحك معهم. الفائِدَةُ الْخامِسَةَ عَشْرَةَ: روى ابن أبي الدنيا في "اصطناع المعروف" عن سعيد بن عمارة قال: مكتوب في التوراة: من صنع معروفًا إلى أحمق فقد تكتب عليه خطيئة (¬1). ووجه ذلك أن فعل المعروف إلى الأحمق قد يقوى به على معصية، وقد يدعوه إلى التِّيه والكِبر، وربما حسب أن فعل المعروف إليه أداء من الفاعل لحق له وجب عليه بمعروف آخر، ثم يحمله الحمق إلى أن الفاعل قصر في حقه، فقد يطالبه بغيره فيترقى عن كفران النعمة إلى نسبة ذلك المحسن إلى الظلم والإساءة، فيظهر خطأ المحسن إذن، وربما دعاه هذا الكفران والطغيان إلى الامتنان والندم على ما كان. والعاقل يرى هذا المعروف لو فعل إليه إحساناً من الله تعالى، ثم يحمله العقل على شكر هذا المحسن لأنه -وإن كان واسطة في إيصال إحسان الله إليه- فقد أمرنا بشكر الواسط. ¬
وقال المبلِّغ عن الله تعالى - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ" (¬1). ثم لا يرى العاقل أن هذا الإحسان سيق إليه لحق له عند المحسن، ولا لفضيلة استوجب بها ذلك، بل هو مجرد فضل من الله تعالى، فإذا ابتلي لم يلم من سيق البلاء إليه على يديه، بل شهد البلاء من الله تعالى لحكمة فيه كما يشهد الإحسان منه، كما روى ابن جهضم عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان - يعني: الداراني - رحمه الله تعالى يقول: تدري لِمَ أزال العاقل الملامة عن من أساء إليه؟ قلت: لا أدري. قال: لأنه علم أن الله تعالى ابتلاه بذلك. الفائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: من قبح الحماقة أن العلم - مع أنه أشرف الصفات وأكملها - لا يصلح من فسادها شيئاً. ومن هنا ينبغي أن يختار العالم للتعليم من يعجبه عقله، ويدل على تمام عقل الطالب حسن نيته في الطلب، وقد سبق ما في فعل المعروف إلى الأحمق، وتعليم العلم أفضل المعروف. قال أرسطاطاليس: زيادة العلم في الرجل الأحمق كزيادة الماء في أصول الحنظل؛ كلما ازداد علمًا ازداد حماقة (¬2). ¬
وتقدم نظيره عن جعفر الصادق في "الأدب". ووجه ذلك أن الأحمق طائش العقل متكبر، والعلم أعظم ما يتكبر به؛ فإذا تعلم على حماقته ازداد طيشاً، فلا ينتفع بالعلم. ومن [هنا] استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من علم لا ينفع (¬1)؛ فإنه لا ينفع إلا مع العقل. وقيل: [من الكامل] العِلْمُ لِلرَّجُلِ اللَّبِيبِ زِيادَةٌ ... وَنَقِيضُهُ لِلأَحْمَقِ الطَّيَّاشِ مِثْلُ النَّهارِيَزِيدُ إِبْصارَ الوَرَى ... نُورًا وَيُعْشِي أَعْيُنَ الْخُفَّاشِ الفائدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: روى ابن عدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إيَّاكُمْ وَرَضاعَ الْحَمْقَى" (¬2). والحكمة في ذلك أن العادة جارية أن من ارتضع من لبن امرأة غلب عليه أخلاقها. وأفصح عن ذلك ما رواه أبو الشيخ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والقضاعي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرَّضاعُ يغَيرُ الطَّباعَ" (¬3). ¬
الفائِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: روى الدينوري عن ابن عائشة قال: ذكر أعرابيٌّ رجلاً فقال: كأنه أحلم من فرخ طائر، ثم أنشد لبعض الشعراء: [من البسيط] إِنِّي لأُعْرِضُ عَنْ أَشْياءَ أَسْمَعُها ... حَتَّى يَظُنَّ رِجالٌ أَنَّ بِي حَمَقا أَخْشَى جَوابَ سَفِيهٍ لا حَياءَ لَهُ ... فَسَلْ يَظُنَّ أُناسٌ أَنَّهُ صَدَقا (¬1) ونقل ابن عبد ربه في "العقد" عن الأصمعي قال: سمعت أعرابياً يقول: كان سنان بن أبي حارثة أحلم من فرخ طائر. قلت: وما حلم فرخ الطائر؟ قال: إنه يخرج من بيضة في رأسه نبق، فلا يتحرك حتى ينبت ريشه ويقوى على الطيران (¬2). وأنشد ابن عبد ربه لبعضهم: [من الطويل] وَفِي الْحِلْمِ رَدْع لِلسَّفِيهِ عَنِ الرَّدَى ... وَفِي الْخَرْقِ إِغْراءٌ فَلا تَكُ أَخْرَقا ¬
فَتَنْدَمَ إِذْ لا تَنْفَعَنْكَ نَدامَةٌ ... كَما نَدِمَ الْمَغْبُونُ لَمَّا تَفَرَّقا (¬1) الفائِدةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قال ابن عبد ربه: قيل لعدي بن حاتم - رضي الله عنه -: ما السؤدد؟ قال: السيد الأحمق في ماله، الذليل في عرضه، المطرح لحقده (¬2). قال: وقيل لعرابة الأوس: لِمَ سوَّدك قومك؟ قال: بأربع خلال: أنخدع لهم في مالي، وأذل لهم في عرضي، ولا أحقر صغيرهم، ولا أحسد كبيرهم (¬3). فالمرء إذا انخدع في ماله فأنفقه في وجوه الخير ووقاية العرض - وإن بالغ في ذلك حتى يعده كثير من الناس في ذلك أحمق - كان ذلك تماماً لسيادته، واستوجب الحمد به، وانقلب حمقه عقلاً. ولعل تسمية ذلك حمقا على وجه المشاكلة دالًّا فقد قالوا: إنما يسود الرجل بأربعة أشياء: بالعقل، والأدب، والعلم، والمال (¬4). ¬
الفائِدَةُ الْمُتَمِّمَةُ عِشرِينَ فائِدَةً: روي عن وهب رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: إني أرزق الأحمق ليعلم العاقل أن الرزق ليس باحتيال (¬1). وقال: أنشدني أحمد بن عباد التميمي قال: أنشدني أبي: وَالغَيْثُ يُحْرَمُهُ أُناسٌ سُغَّبٌ ... وَيَبِيتُ يَهْمِلُ فِي بِلادِ جِلّقِ وَالرِّزْقُ يُخْطِئُ بابَ عاقِلِ قَوْمِهِ ... وَيَبِيتُ بَوَّاباً لِبابِ الأَحْمَقِ (¬2) ومن محاسن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ما رواه أبو نعيم في "الحلية"، ومن طريقه ابن السبكي في "الطبقات" عن أبي حيان النيسابوري قال: بلغني أن عباساً الأزرق دخل على الشافعي يوماً فقال: يا أبا عبد الله! قد قلت أبياتاً إن أنت أجزت لي بمثلها لأتوبن أني لا أقول شعراً أبداً. فقال له الشافعي: إيهِ، فأنشأ يقول: [من الكامل] ما هِمَّتِي إِلاَّ مُقارَعَةُ العِدا ... خَلَقَ الزَّمانُ وَهِمَّتِي لَمْ تَخْلَقِ وَالنَّاسُ أَعْيُنُهُمْ إِلَى سَلَبِ الْفَتَى ... لا يَسْألونَ عَنِ الْحِمَى وَالأَولق لَوْ كانَ بِالْحِيَلِ الغِنَى لَوَجَدْتَنِي ... بِنُجُومِ أَقْطارِ السَّماءِ تَعَلُّقِي ¬
فقال له الشافعي رضي الله تعالى عنه: هلا قلت كما أقول استرسالاً: [من الكامل] إِنَّ الَّذِي رُزِقَ اليَسارَ فَلَمْ يُصِبْ ... حَمْداً وَلا أَجْراً لَغَيْرُ مُوَفَّقِ فَالْجِدُّ يُدْنِي كُلَّ أَمْرٍ شاسِعٍ ... وَالْجِدُّ يَفْتَحُ كُلَّ بابٍ مُغْلَقِ وإِذا سَمِعْتَ بِأَنَّ مَجْدُوداً حَوى ... عُودًا فَأَثْمَرَ فِي يَدَيْهِ فَحَقِّقِ وإِذَا سَمِعْتَ بِأَنَّ مَحْرُومًا أتى ... ماءً لِيَشْرَبَهُ فَغاضَ فَصَدِّقِ وَأَهَمُّ خَلْقِ اللهِ بِالْهَم امْرُؤٌ ... ذُو نِعْمَةٍ يَبْلَى بِعَيْشٍ ضَيِّقِ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلى القَضاءِ وَكَوْبهِ ... بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيْبُ عَيْشِ الأَحْمَقِ (¬1) وأكثر الناس لم تكشف لهم حقيقة الأمر كما كشفت للشافعي وأمثاله من أن إفاضة الرزق وكثرة العرَض لكثيرٌ من أهل الحماقة والجهالة؛ إنما هي ليعلم العاقل أن الأرزاق مقسومة بأقضية محتومة وأقدار معلومة، لا بحيلة عاقل محتال، ولا بجهد فعال عامل، فمنهم من نسب ذلك إلى جور الزمان، ومنهم من حمل ذلك على التنزل من العقل إلى حال أهل الجهل، حتى قيل كما أنشده ابن عبد ربه عن الجاحظ عمرو بن بحر: [من الطويل] تَحامَقْ مَعَ الْحَمْقَى إِذا ما لَقِيتَهُمْ ... وَلاقِهِمُ بِالْجَهْلِ فِعْلَ أَخِي الْجَهْلِ ¬
وَخَلِّطْ إِذا ما كُنْتَ (¬1) يَوْماً مُخَلِّطاً ... تُخَلِّطُ (¬2) فِي قَوْلٍ صَحِيحٍ وَفِي هَزْلِ فَإِنِّي رَأَيْتُ الْمَرْءَ يَشْقَى بِعَقْلِهِ ... كَما كانَ قَبْلَ اليَوْمِ يَسْعَدُ بِالعَقْلِ (¬3) وروى ابن السمعاني بإسناده عن أبي الحسين محمد بن محمد بن جعفر بن الحكم: [من الوافر] زَمان قَدْ تَفَرَّغَ لِلفُضولِ ... يُسَوِّدُ كُلَّ ذِي جَهْلٍ جَهُولِ إِذا أَحْبَبْتُمْ فِيهِ ارْتفاعاً ... فَكُونُوا جاهِلِينَ بِلا عُقُولِ (¬4) وقلت: [من مجزوء الرمل] إِنَّما الإِمْلاقُ أَوْلَى ... إِنْ يَفُزْ بِالْمالِ أَحْمَقْ إِنَّما الْحِلْمُ بِأَنْ ... يَبْلُغَهُ الإِنْسانُ أليَق لا أَرَى الْحُمْقَ وإنْ كَا ... نَ بِهَذا الوَقْتِ ألبَقْ فَارْضَ بِالْمَيْسُورِ وَالْعَقْلِ ... وَبِالصَّبْرِ تَمَنْطَقْ إِنَّما تُحْمَدُ عُقْبَى الصَّ ... ـبْرِ يَوماً فِيْهِ يُفْرَقْ فَفَرِيقٌ فِي نَعِيمٍ ... وَفَرِيق يَتَحَرَّقْ ¬
إِنَّ عَقْلَ الْمَرْءِ مَحْمُو ... دٌ وإِنْ أَكْدَى وَأَمْلَقْ تتَلاشَى لَذَّةُ الْعَيْـ ... ـشِ إِذا ما قِيلَ أَخْرَقْ لَمْ تَضُرَّ فِي ظُلْمَةِ الوَقْـ ... ـتِ وَنُورُ الْعَقْلِ أَشْرَقْ ***
(2) باب النهي عن تشبه الحر بالرقيق وعكسه
(2) باب النَّهْيِ عَنْ تَشَبُّهِ الحُرِّ بِالرَّقِيقِ وَعَكْسِهِ
القسم الأول: أن يرق الحر نفسه
(2) باب النَّهْيِ عَنْ تَشَبُّهِ الحُرِّ بِالرَّقِيقِ وَعَكْسِهِ أما الحر بالرقيق فهو على قسمين: القسم الأوَّلُ: أن يُرِقَّ الْحُرُّ نفسه؛ بأن يصادق غيره أنه عبدُه , وهو كبيرةٌ من الكبائر. روى الإسماعيلي في "معجمه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثَةٌ لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَومَ القِيامَةِ؛ حُرٌّ باعَ حُرًّا، وَحُرٌّ باعَ نَفْسَهُ، وَرَجُلٌ أَبْطَلَ كِراءَ أَجِير حِينَ جَفَّ رَشْحُهُ" (¬1). وأما مصادقة الخضر عليه السلام للمسكين الذي باعه بأربع مئة درهم وانتفع بها، فليس ذلك من شريعتنا، بل هو من قبيل ما اتفق له مع موسى عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار بغير قول، وهو من العلم الذي قال فيه الخضر لموسى عليه ¬
السلام: "إني على علم عَلَّمنيه الله تعالى لا تعلمه"، كما في "البخاري"، وغيره (¬1). روى الطبراني - ورجاله موثوقون - عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الْخَضِر عَلَيْهِ السَّلامُ؟ ". قالوا: بلى. قال: "بَيْنَما هُوَ ذاتَ يَومٍ يَمْشِي فِي سُوقِ بَنِي إِسْرائِيلَ أَبْصَرَهُ رَجُلٌ مُكاتبٌ فَقالَ: تَصَدَّقْ عَلَيَّ بارَكَ اللهُ فِيكَ. فَقالَ الْخَضِرُ: آمَنْتُ بِاللهِ، ما شاءَ اللهُ مِنْ أَمْرٍ يَكُونُ، ما عِنْدِي شَيْء أعْطِيكَهُ. فَقالَ الْمِسْكِينُ: أَسْألكَ بِوَجْهِ اللهِ لَما تَصَدَّقْتَ عَلَيَّ؛ فَإِنيِّ عَرَفْتُ السَّماحَةَ فِي وَجْهِكَ، وَرَجَوْتُ البَرَكَةَ عِنْدَكَ. فَقالَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ: آمَنْتُ بِاللهِ! ما عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيكَهُ إِلاَّ أَنْ تأْخُذَنِي وَتَبِيعَنِي. فَقالَ الْمِسْكِينُ: وَهَلْ تَسُومُ هَذا؟ قالَ: نعمْ، أقولُ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي بِأَمْر عَظِيم، أَما إِنِّي لأُجِيْبَنَّكَ بِوَجْهِ رَبِّي، بِعْنِي. قالَ: فَقَدَّمَهُ، فَباعَهُ بِأَرْبَعِ مِئَةِ درْهَم، فَمَكَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي زَماناً ¬
لا يَسْتَعْمِلُهُ فِي شَيْءٍ، فَقالَ لَهُ: إِنَّكَ اشْتَرَيْتَنِي الْتِماسَ خَيْرٍ عِنْدِي، ما وَصَّيْتَنِي بِعَمَل! قالَ: أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ؛ إِنَّكَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعِيفٌ. قالَ: لَيْسَ يَشُقُّ عَلَيَّ. قالَ: قُمْ فَانْقُلْ هَذِهِ الْحِجارَةَ - وَكانَ لا يَنْقُلُها دُونَ سِتَّةِ نَفَر فِي يَوْم - فَخَرَجَ الرَّجُلُ لِبَعْضِ حاجَتِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ نَقَلَ الْحِجارَةَ فِي ساعَةٍ. قالَ: أَحْسَنْتَ وَأَجْمَلْتَ، وَأَطَقْتَ ما لَمْ أَرَكَ تُطِيقُهُ. قالَ: ثُمَّ عَرَضَ لِلرَّجُلِ سَفَرٌ، قالَ: إِنِّي أَحْسِبُكَ أَمِيناً فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي خِلافةً حَسَنَة. قالَ: فَأَوْصِنِي بِعَمَلٍ. قالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ. قالَ: لَيْسَ يَشُقُّ عَلَيَّ. قالَ: فَاضْرِبْ مِنَ اللَّبِنِ لِنَبْنِيَ حَتَّى أَقْدُمَ عَلَيْكَ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ لِسَفَره، قالَ: فَرَجَعَ مِنَ السَّفَرِ وَقَدْ شَيَّدَ بِناءه فَقالَ: أَسْألكَ بِوَجْهِ اللهِ ما سَبِيلُكَ؟ وَما أَمْرُكَ؟ قالَ: سَأَلْتَنِي بِوَجْهِ اللهِ، وَوَجْهُ اللهِ أَوْقَعَنِي فِي الْعُبُودِيَّةِ، سَأُخْبِرُكَ مَنْ أَنَا، أَنا الْخَضِرُ الَّذِي سَمِعْتَ بِي، سَأَلَنِي مِسْكِينٌ صَدَقَةً فَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْء أُعْطِيهِ، فَسَأَلَنِي بِوَجْهِ اللهِ، فَأَمْكَنتهُ مِنْ
تنبيه
رَقَبَتِي، فَباعَنِي. وَأُخْبِرُكَ أَنَّهُ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللهِ فَرَدَّ سائِلَهُ وَهُوَ يَقْدِرُ وُقِفَ يَوْمَ الْقِيامَةِ جِلْدُهُ وَلا لَحْمَ لَهُ، عَظْمٌ يَتَقَعْقَعُ. فَقالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِاللهِ، شَقَقْتُ عَلَيْكَ يا نبَيَّ اللهِ وَلَمْ أَعْلَمْ. قالَ: لا بَأْسَ، أَحْسَنْتَ وَاتَّقَيْتَ. فَقالَ الرَجُلُ: بأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يا نبِى اللهِ! احْكُمْ فِي أَهْلِي وَمالِي بِما شِئْتَ، أَوِ اخْتَرْ فَأُخَلِّيَ سَبِيلَكَ. قالَ: أُحِبُّ أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلِيَ فَأَعْبُدَ رَبِّي، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَقالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَذِي أَوْثَقَنِي فِي الْعُبُودِيَّةِ، ثُمَّ نَجَّانِي مِنْها" (¬1). * تَنْبِيهٌ: من ابتلي بالرق قهراً عليه، أو الأسر، فينبغي له أن يعامل سيده معاملة العبيد لسادتهم حتى يحكم الله له بالخلاص كما فعل يوسف والخضر عليهما السلام. ¬
القسم الثاني من تشبه الحر بالرقيق
وقد قدمنا في التشبه بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه يحتج يوم القيامة على الأرقاء بيوسف عليه السلام. ومهما أمكنه الانفلات من الرق أو الأسر بدعوى أو هرب، ولم يخف على نفسه ضرراً، تعيَّن عليه بخلاف المرقوق بحق؛ فإن تفلته من رق سيده إباق، وهو كبيرة. القِسْمُ الثَّانِي مِنْ تَشَبُّهِ الْحُرِّ بِالرَّقِيقِ: أن يُدخل الإنسان نفسه تحت ذل الديون من غير ضرورة، أو تحت مِنَّةِ الرجال. وإلى ذلك أشار الشافعي رضي الله تعالى عنه حين قال له رجل: أوصني. قال: إن الله خلقك حراً؛ فكن كما خلقك (¬1). وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تسمية الدين رِقًّا فيما رواه البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "أَقِلَّ مِنَ الذُّنُوبِ يَهُنْ عَلَيْكَ الْمَوْتُ، وَأَقِلَّ مِنَ الدَّيْنِ تَعِشْ حُرًّا" (¬2). وروى الإمام أحمد، وغيره، وصححه الحاكم، وسنده جيد، عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُخِيفُوا ¬
أَنْفُسَكُمْ بَعْدَ أَمْنِها". قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "الدَّيْنُ" (¬1). وصحح الحاكم أيضاً عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدَّيْنُ رايَةُ اللهِ فِي الأَرْضِ؛ فَإِذا أَرادَ اللهُ أَنْ يُذِلَّ عَبْداً وَضَعَهُ فِي عُنُقِهِ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه عن حذيفة، والإمام أحمد، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي عن ابن عمر، وعن علي رضي الله تعالى عنهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ". وفي رواية: قيل: كيف يذل نفسه؟ قال: "يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلاء لِما لا يُطِيقُ" (¬3). قلت: ولا شك أن في تحمل مِنَنِ الناس ذلاَّ ظاهراً. وقال الماوردي: أنشدني عن الربيع للشافعي رحمه الله تعالى: ¬
[من مجزوء الكامل المرفَّل] لا تَحْمِلَنَّ مِنَ الأَنامِ ... لمن يَمُنُّ عَلَيْكَ مِنَّةْ وَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ حَظَّها ... وَاصْبِرْ فَإِنَّ الصبْرَ جُنَّةْ مِنَنُ الرِّجالِ عَلى الْقُلُو ... بِ أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ الأَسِنَّةْ (¬1) ومن اللطائف في هذا الباب ما ذكره عبد الكريم بن السمعاني فقال: أنشدنا أبو محمد بن طوق الرقي قال: أنشدنا أبو البركات بن الوكيل المقرئ لرافع الحمال: [من مجزوء الرمل] كُدَّ كَدَّ العَبْدِ إِنْ أَحْـ ... بَبْتَ أَنْ تُحْسب حُرَّا وَاقْطَعِ الآمالَ عَنْ فَضـ ... ـل بَنِي آدَمَ طُرَّا لا تَقُلْ ذا مَكْسَبٌ يُزْ ... ـري فَفَضْلُ النَّاسِ أَزْرى أَنْتَ ما اسْتَغْنَيْتَ عَنْ ... مِثْلِكَ أَعْلَى النَّاسِ قَدْرا (¬2) وإذا قدر الله تعالى على العبد أن يدخل تحت رق الدين أو المنة لم يبق إلا الاحتيال في الخروج عن العهدة بالوفاء في الدين، وبالمكافأة في المنة، ومهما كان لأحد عليه من دين أو نعمة فينبغي أن يشكر فضله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللهَ تَعالَى" (¬3)، ¬
تنبيهان
وليكافئ على الهدية ونحوها، فإن لم يستطع ولا أقل من أن يقول لصاحبها: جزاك الله خيراً. روى أبو داود، والنسائي - واللفظ له - وابن حبان، والحاكم - وصححاه - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اسْتَعاذَ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنِ اسْتَجارَ بِاللهِ فَأَجِيرُوهُ، وَمَنْ أتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ" (¬1). وينبغي أن يوفي الدين ويكافئ عن الصنيعة من أجود ما عنده وأحسنه، ويمشي إلى تأدية الدين، ولا يكلف الدائن أن يمشي إليه، وليتلطف به وبالصانع في الخطاب شاكراً له، داعياً له بخير. ومهما عجز عن الوفاء [فليقضه] (¬2) متى أمكنه، وليلجأ إلى الله تعالى في قضاء الدين. وقد ذكرت أحكام الاستدانة وآدابها مستوفاة في "منبر التوحيد" بما ليس عليه مزيد. * وهنا تنبِيهانِ: الأَوَّلُ: مَدَحَ الشرعُ وأهلُه، وأربابُ الحكمةِ [و] العقلِ القناعةَ؛ ¬
لأنها تجزئ العبد عن عبودية الطمع والحاجة إلى الناس وعن سؤالهم. وقيل: العبد حر ما قنع، والحر عبد ما طمع. وروى البزار، والطبراني بسند جيد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَغْنُوا عَنِ النَّاسِ وَلَوْ بِشَوْصِ السِّواكِ" (¬1). وروى الإمام أحمد عن ابن أبي مليكة رحمه الله تعالى قال: ربما سقط الخطام من يد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فيضرب بذراع ناقته، فينيخها فيأخذه. قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا فنناولكه؟ فقال: إن حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً (¬2). وروى عند ذلك عن ثوبان، وأبي بكر، وغيرهما رضي الله تعالى عنهم. ولعل هؤلاء بعض النفر الذين بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك كما روى مسلم، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن أبي عبد الرحمن عوف ابن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة، أو ثمانية، أو سبعة، فقال: "أَلا تُبايِعُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ "، وكنا ¬
الثاني
حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: "أَلا تُبايِعُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ "فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: "أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَواتِ الْخَمْس، وَأَطِيعُوا". وأسَرَّ كلمةً خفية: "وَلا تَسْألوا النَّاسَ شَيْئًا". فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدهم أن يناوله إياه (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا محمدُ! عِشْ ما شئتَ؛ فإنكً ميتٌ، واعمَلْ ما شِئْتَ؛ فإنَّكَ تُجْزَى، وأَحْبِبْ مَنْ شئتَ؛ فإنكَ مُفَارِقٌ، واعلم أن شرفَ المؤمنِ قيامُ الليلِ، وعزَّتَهُ استغناؤه عنِ النَّاسِ" (¬2). التَّنْبِيهُ الثَّانِي مِنْ تَشَبُّهِ الأَحْرارِ بِالأَرِقَّاءِ: خدمة الإنسان أكابر الناس بالأجرة، وأقبح هذا النوع خدمة المُرْد الحِسان عند الأجانب ¬
فائدتان
خصوصاً عند الأجناد؛ فإنهم يعتقدون أن لهم التصرف في الصبي إذا خدم عندهم، وأخذ نوالهم كما يتصرف المالك في مملوكه، فإن تجاوزوا ذلك إلى اللواط ومقدماته فقد هلكوا ولو كان ذلك مع مماليكهم؛ فإن هذا أمر لم يحل في شريعة، وإنما نبهت عليه لكثرة وقوعه من غالبهم. وأولياء المرد إذا رضوا لهم بذلك أثموا، فإن أمروهم بذلك أو حملوهم إلى الجند فأخدموهم إياهم تضاعف إثمهم، وكان ذلك نوعاً من الدياثة والقيادة. ولقد كره العلماء الأولياء تزويج مولياتهم للفساق؛ لأن النكاح رق والتزوج إرقاق، حتى قال بعض السلف: من زوج موليته من فاسق فقد قطع رحمه (¬1). ومن هنا منع الأولياء المجبرون من تزويجهن غير الأكفاء، فإن رضيت المرأة العاقلة بالتزوج بالفاسق والظالم، ورضيت صحبته، فقد غسلت اليد منها، ونَبَتِ السعادة والخيرات عنها. * فائِدَتَانِ: الأُولَى: ينبغي للعاقل إذا اضطر إلى تحمل منة تعرض أو سؤال، أن لا يقصد إلا كريماً حسن الوجه يلقاه بوجه بشوش، ولا يقصد ¬
لئيماً، ولا من نعمته مستحدثة. وفي الحديث: "اطْلُبوا الْخَيْرَ مِنْ حِسانِ الْوُجُوه" (¬1)، وهم أهل البشاشة والبِشْر. وكذلك إذا حملته الضرورة على الخدمة فلا يخدم إلا العلماء، وأهل المجد والسماحة الذين لا يتبعون إحسانهم بالمن والأذى، دون السفهاء واللؤماء، والجند الظلمة، ومستحدثي النعمة، ومستذلي الحرفة؛ فإن الخدمة إذا كانت للعلماء والأشراف، والحاجة إذا كانت إليهم فتلك الخدمة التي تنتج الرفعة في الدنيا، والفوز في الآخرة إذا حسنت النية، وتلك الحاجة التي لا تزري بمحتاجها، وهي التي تنجح، ولا تكسر عرض صاحبها. وأنشد ابن أبي الدنيا لمحمود الوراق: [من الوافر] إِذا أَعْطَى الْقَلِيلَ فَتى شَرِيفٌ ... فَإِنَّ قَلِيلَ ما يُعْطِيكَ زَيْنُ وَإِنْ تَكُنِ الْعَطِيَّةُ مِنْ دَنِيِءٍ ... فَإِنَّ كَثِيرَها عارٌ وَشَيْنُ وَلا يَرْضى الْكَرِيْمُ بِيَوْمِ عارٍ ... وَإِنْ أَوْهَى وَهَدَّ قُواهُ دَيْنُ فَعُذْ بِاللهِ وَالجَ إِلَيْهِ إِمَّا ... بَدَتْ لَكَ حاجَةٌ أَوْ كانَ كَوْنُ (¬2) وروى الدينوري، والسلفي عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى ¬
الثانية
قال: أوحى الله إلى موسى عليه السلام: لأن تدخل يدك إلى المنكبين في فم التنين خيرٌ من ترفعها إلى ذي نعمة قد عالج الفقر (¬1). وأنشد ابن سيده لبعض الأدباء: [من الهزج] لَصَيْدُ اللَّخْمِ (¬2) فِي الْبَحْرِ ... وَصَيْدُ الأُسْدِ فِي الْبَرِّ وَقَضْمُ الثَّلْجِ فِي الْقَرِّ ... وَنَقْلُ الصَّخْرِ فِي الْحَرِّ وإِقْدامٌ عَلى الْمَوْتِ ... وَتَحْوِيلٌ إِلَى الْقَبْرِ أَشْهَى مِنْ طِلابِ العرْفِ ... مِمَّنْ عاشَ فِي الْفَقْرِ (¬3) وأنشد غيره: [من السريع] مُسْتَحْدَثُ النِّعْمَةَ لا تَرْجُهُ ... فَكَفُّهُ مَمْلُوْءَة فَقْرُ جُنَّ لَهُ الدَّهْرُ فَنالَ الْغِنَى ... يا وَيْلَهُ إِنْ عَقَلَ الدَّهْرُ * الفائِدَةُ الثَّانِيَةُ: كما يحسن من المرء أن لا يدخل تحت منة أحد، يحسن منه أن يعم الناس بنائلة ما أمكنه ذلك، ولا يحسن منه الامتنان به، وقد قال - عز وجل -: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ ¬
وَالْأَذَى} [البقرة: 264]. وروى أبو الغنائم النرسي في كتاب "قضاء الحوائج" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَجِبْتُ لِمَنْ يَشْتَرِي الْمَمالِيكَ بِمالِهِ ثُمَّ يُعْتِقُهُمْ، كَيْفَ لا يَشْتَرِي الأَحْرارَ بِمَعْرُوفِهِ؟ هُوَ أَعْظَمُ ثَواباً" (¬1). *** ¬
فَصْلٌ الرق صفة العبد، وقد علمت حكم التشبه به فيه، وله صفات أخرى: 1 - منها: طاعة سيده. فإن أطاعه بسهولة وحسن انقياد كان عبداً طيباً، وإن أطاعه بتخويف وردع وإزعاج كان عبد سوء خبيثاً، فإن كان الغالب عليه العصيان كان أسوأ العبيد. وقد قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ} [الأعراف: 58]. وكذلك ينبغي للعبد المكلف أن يكون سلس الانقياد، لين العريكة في طاعة الله تعالى، وإلا كان كعبد السوء كما روى الإمام عبد الله بن المبارك عن وهب بن منبه، قال: قال حكيم من الحكماء: إني لأستحيي من ربي أن أعبده مخافة النار فأكون كعبد السوء؛ إن رهب عمل، وإن لم يرهب لم يعبد، ولكني أعبده كما هو له أهل.
وفي رواية: ولكن يستخرج مني حب ربي ما لم يستخرج مني غيره (¬1). نعم، إن تمرن هذا العبد الذي أطاع رهبة على الطاعة حتى صارت منه عن طيب نفس، وعادت خلقًا من أخلاقه، فهو مرجو، كما أن العبد قد يأبق، ثم يحسن صحبة مواليه، ويتمرن على الطاعة وحسن الخدمة، والحسنة تمحو السيئة، والماء الطهور يغسل الأدران وينظف المكان، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. فأما إذا كانت صفة العبد المعصية الدائمة والتمرد، أو كان الغالب عليه ذلك فإنه لا يكون مرجواً، وقد يجبل العبد على ذلك - خصوصاً الأَسود - فيكون خبيث الطباع، قبيح الأخلاق كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - رواه الطبراني - قيل: يا رسول الله! ما يمنع حبش بني المغيرة أن يأتوك إلا أنهم يخشون أن تردهم. فقال: "لا خَيْرَ فِي الْحَبَشِ - أي: غالباً - إِنْ جاعُوا سَرَقُوا، وإِنْ شَبِعُوا زَنَوْا، وَإِنَّ فِيهِمْ لَخُلَّتَيْنِ حَسَنتَيْنِ؛ إِطْعامُ الطَّعامِ، وَبَأْسٌ عِنْدُ البَأْسِ" (¬2). ¬
وأخرجه البزار بسند حسن نحوه (¬1). وروى الطبراني عن أم أيمن رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّما الأَسْوَدُ لِبَطْنِهِ وَفَرْجِهِ" (¬2). ونقل السخاوي في "المقاصد الحسنة" أن الشافعي رحمه الله تعالى اعتمد هذا الحديث (¬3). وفي حديث ابن عباس دليل أن في الحبشان، وكذا السودان طباعاً طيبة، وطباعاً خبيثة وإن كانت الخبيثة أغلب، وليست منحصرة فيما ذكر، وإنما نبه - صلى الله عليه وسلم - على أمهات أخلاقهم. فلا ينبغي للحر أن يتشبه بالأرقاء منهم في الأخلاق المذمومة كالأشر، والبطر، وكفران الإحسان، وسرعة التقلب والتلون، وخفة الحلم والدمدمة. وما أحسن قول القائل: [من مجزوء الكامل المرفل] الْعَبْدُ يُرْدَعُ بِالعَصا ... وَالْحُرُّ تَكْفِيهِ الْمَلامَة (¬4) ¬
وقال آخر معاتباً: [من السريع] ما أَنْتَ بِالْحُرِّ فَتلْحَى وَلا ... بِالعَبْدِ يُرْجَى رَدْعُهُ بِالعَصا ولا شك أن الذم إنما يعود على طباع العبد الخبيث، لا على لونه، كما في الحديث الصحيح: "لا فَضْلَ لأَبْيَضَ عَلى أَسْوَدَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى" (¬1). 2 - ومن صفات العبد اللازمة له: أنه لا يتصرف في نفسه، ولا فيما بينه مستقلًّا إلا بإذن سيده أو أمره. قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75]. قيل: هذا مثل للمعبود بحق، والمعبود بالباطل كالصنم الذي لا يتصرف في شيء. وقيل: مثل للمؤمن الكريم، والكافر البخيل. وروى البيهقي في "السنن" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه سئل عن المملوك يتصدق، فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ ¬
{عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]: لا يتصدق بشيء (¬1). قلت: هذه الآية بينت كمال الفرق بين العبد المملوك والحر المنفق رزقاً حسناً، وهو أن العبد ممنوع من الإنفاق إلا بإذن سيده، وكل شيء أنفقه دون إذن سيده فهو آثم فيه، وما تصرف فيه مرجوع فيه، فينبغي للحر أن لا يتشبه به في أخذ مال غيره والتصدق به أو التكرم به، وكذلك لا ينبغي له أن يجعل نفسه مع زوجته، أو مع غلامه أو غيرهما كالعبد الممنوع من التصرف لا يتصرف في ماله إلا بإذن زوجته، أو بإذن من يهواه، كما يتفق كثيرًا لكثير من الناس يصرف في هوى زوجته، أو ولده، أو معشوقه ما قل وكثر، وإذا أراد عمل خير من صلة رحم، أو صدقة امتنع منه طلباً لرضاهم، أو عملًا برأيهم. وفي مثل ذلك قال الحسن رحمه الله تعالى: ما أصبح رجل يطيع زوجته إلا كَبَّه الله في النار (¬2). وأقبح من ذلك أن يصرف في الهوى الشيطاني الألوف، ويمنع الحقوق التي أمر الله تعالى بها، وهو دليل مكر الله تعالى بالعبد، ومن كان على هذا الوصف فهو ممكور به؛ والعياذ بالله تعالى! ¬
3 - ومن صفات العبد اللائقة به: التواضع، واحتقار النفس، وامتهانها. والتشبه به في هذه الصفات محمود لكل أحد إذا صحت النية فيه. وفي الحديث: "مَنْ تَواضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللهُ". رواه البيهقي عن عمر - رضي الله عنه -، وأبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "آكُلُ كَما يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وأَجْلِسُ كَما يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَإِنَّما أَنا عَبْدٌ". رواه أبو يعلى عن عائشة رضي الله تعالى عنها (¬2). وروى أبو نعيم عن أبي الجلد قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك، وكن عند ذكري خاشعًا مطمئناً، وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك، وإذا قمت بين يدي فقم مقام العبد الحقير الذليل، وذم نفسك فهي أولى ¬
بالذم، وناجني حين تناجيني بقلب وَجِل ولسان صادق (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن عياش، عن عبد الله بن دينار، أو غيره: أن المسيح عليه السلام قال: ويلكم علماءَ السوء! لا تنظروا في عيوب الناس أمثال الأرباب، ولكن انظروا في عيوب أنفسكم أمثال العبيد، إنما أنتم أحد رجلين: إما رجل فيه عيب، وإما رجل معافى، فليس ينبغي للذي فيه العيب أن يعيب على غيره، ولا ينبغي لمن عوفي أن يعيِّر أخاه، ولكن يرحمه (¬2). أما التواضع للدنيا والأغراض الفاسدة فإنه مذموم. وقد ورد: من تضعضع لغني لأجل عناه ذهب ثلثا دينه. رواه الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه، وقال: إنه مكتوبٌ في التوراة (¬3). وروى الديلمي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَعَنَ اللهُ فَقِيراً تَواضَعَ لِغَنِيٍّ مِنْ أَجْلِ غِناهُ؛ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَدْ ذَهَبَ ثُلُثا دِينهِ" (¬4). واعلم أن أصل إتعاب النفس وإذلالها للناس طلبًا لنوالهم إنما ¬
هو لتعلقها بما تهوى من الشهوات والمستلذات؛ فإنها لا تتوصل إليها إلا بأغراض الدنيا، وهي تحتاج إلى التحيل بالإكساب؛ حلت أو حرمت، عزت النفس فيها أو ذلت، فلا ينقذ العبد من تلك الورطات إلا قلع تلك الشهوات من القلب، وتركها بالكلية من النفس، وإلا آلت به إلى الهلاك والتعس. ومن هنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ؛ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانتكَسَ، وَإِذا شِيكَ فَلا انتُقَشَ". الحديث رواه البخاري، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). *** ¬
فَصْلٌ وأما تشبه الرقيق بالحر فبأن يتغلب على مالكه، أو يجحد رقه، ويدَّعي أنه حر أو محرر، أو يأبق منه وينفي الحرية، أو يصادق غير سيده على رقه، وكل هذا حرام من الكبائر. وفي الحديث: "مَلْعُون مَنِ انتُمَى إِلَى غَيْرِ مَوالِيهِ" (¬1) بأن يشمخ ويتكبر وهو حرام، ويلبس زي الرغادة، وذلك مكروه أو خلاف الأولى، بل الأولى في حقه أن يكون في المنزلة التي أنزله الله تعالى فيها حتى يكون الله تعالى هو الذي ينقله منها إلى أرفع منها. وقد روي: أن عمر رضي الله تعالى عنهما رأى أمة متقنعة، فقال لها: أتتشبهين بالحرائر يا لَكَاع (¬2)؟ قال ابن أبي عصرون: إن عمر رضي الله تعالى عنه قصد نفي الأذى عن الحرائر؛ لأن الإماء بن يقصدن بالزنا حينئذ؛ قال الله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]، وكانت الحرائر ¬
يعرفن بالتستر، فخشي عمر إذا تسترت الإماء أن يتشبهن بالحرائر فيؤذين بتشبههن (¬1). ولهذا صحح صاحب "المهذب"، والروياني، والرافعي حِلَّ النظر بلا شهوة إلى أمة الغير إلا ما بين سرتها وركبتها. قال الرافعي: لكن يكره. والذي صححه النووي، وهو مقتضى كلام الأكثرين، وهو أرجح دليلاً: أن الأمة في النظر إليها كالحرة (¬2). قال السبكي: ولعل كلام عمر رضي الله تعالى عنه كان في واقعة خاصة، أو في الإماء المبتذلات البعيدات عن الشهوة، وإلا ففي الإماء التركمان ونحوهن من خوف الفتنة أشدُّ من كثير من الحرائر. انتهى (¬3). وأثر عمر المذكور هكذا أورده أهل العربية مستشهدين به وغيرهم (¬4). وقد أخرجه البيهقي عن صفية بنت أبي عبيد قالت: خرجت أمة مختمرة متجلببة، فقال عمر: من هذه المرأة؟ ¬
فقيل: جارية بني فلان. فأرسل إلى حفصة رضي الله تعالى عنها، فقال: ما حملك على أن تخمري هذه المرأة، وتجلببيها، وتشبهيها بالمحصنات حتى هممت أن أقع بها لا أحسبها إلا من المحصنات؟ لا تشبهوا الإماء بالمحصنات (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن أبي قلابة رحمه الله تعالى قال: كان عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه لا يدع في خلافته أمة تتقنع، ويقول: إنما القناع للحرائر لكي لا يؤذين (¬2). قلت: ولا يلزم أن يكون أذاهن بالتعرض للعُهر ونحوه، بل يجوز أن يكون الأذى بالامتهان وعدم التوقير، وهذا كان اجتهاد من عمر رضي الله تعالى عنه. وقال مجاهد في قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]. قال: متجلببين بها، فيعلم أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى من قول ولا ريبة. رواه ابن أبي شيبة، والمفسرون (¬3). وروى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد عن أنس - رضي الله عنه -: رأى عمر ¬
رضي الله تعالى عنه جارية متقنعة، فضربها بدَرَّته، وقال: ألق القناع؛ لا تتشبهين بالحرائر (¬1). وروى ابن جرير عن قتادة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] قال: أخذ الله تعالى عليهن إذا خرجن أن يقذفنها على الحواجب، وهو أدنى أن يعرفن فلا يؤذين، قال: قد كانت المملوكة [إذا مرت تناولوها بالإيذاء] (¬2)، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء (¬3)؛ أي: ذلك كان قبل أن تنزل: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]. واستنبط عمر - رضي الله عنه - من قوله تعالى في الآية: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]: أن الأمة تمنع من زي الحرة لئلا تساوي الإماء الحرائر بأي أذى كان؛ وإن زال قصدهن بالزنا. وروى أبو داود، وغيره عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] خرج نساء الأنصار كان على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها (¬4). ¬
وروى ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: رحم الله تعالى نساء الأنصار! لما نزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} [الأحزاب: 59] الآية؛ شققن مروطهن فاعتجرن بها، فصلين خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأن على رؤوسهن الغربان (¬1)؛ أي: من سواد القناعات. شبهت رؤوسهن بما عليها من سواد القناعات بالغربان. ووقع في كلام أم سلمة هذا المعنى، وأشارت إلى معنى آخر في قولها: كأن على رؤوسهن الغربان، وهو إيثار السكينة في مشيهن كما تقول: كان فلان يمشي في سكينة كأن على رأسه الطير؛ إن كان يخاف أن يطير طائر هذا على رأسه من حركته، فهو يتحرك حركة لطيفة بسكينة. * تَنْبِيهٌ: ما وقع في أثر أم سلمة، وعائشة رضي الله تعالى عنهما من تشبيه رؤوس النساء في سواد القناعات بالغربان دليلٌ على استحباب مبالغة المرأة في التستر؛ فإن نساء الأنصار إنما آثرن القنع السود لأن السواد أبلغ في الستر، ونساء مكة والمدينة وما والاهما إلى الآن يتلفعن بالسواد، ويرتدين به لذلك، وليس في الأثر دليل على جواز ما تعتاده النسوة من إلقاء القناع الأسود فوق أرديتهن البيض الآن عند المصيبة ¬
لأنهن لا يفعلن ذلك الآن للتستر، بل لإظهار الحزن والجزع، وهو بهذا القصد حرام؛ حيث لم يأذن فيه في الحداد الشرع لأنه من أفعال الجاهلية؛ فافهم! ***
فَصْلٌ لا يدخل في كراهية تشبه الرقيق بالحر سعي العبد في فكاك نفسه بالمكاتبة ونحوها؛ فإنه أمر محمود. وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33]. قال سعيد بن جبير: يعني: الذين يطالبون المكاتبة من المملوكين. رواه بن أبي حاتم (¬1). {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]؛ أي: كسباً وأمانة. وأكثر العلماء يرون أن الأمر في الآية للندب (¬2). وروى عبد الرزاق، وغيره عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأقبل علي بالدَّرَّة، وقال: كاتِبْهُ، وتلا: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فكاتَبَه (¬3). ¬
كأن عمر كان يرى الأمر في الآية للوجوب، أو رأى المصلحة في مكاتبته، فأمره بها أمراً منه بمندوب، فوجبت طاعته، فأطاعه أنس رضي الله تعالى عنه. وقد أمر الله تعالى بعون المكاتب بقوله تعالى في الآية: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33]: أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب (¬1). قال: وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أمر الله السيد أن يضع للمكاتب الربع من ثمنه. قال: وهذا تعليم من الله وليس بفريضة، ولكن فيه أجر (¬2). وذهب الشافعي، وغيره، وآخرون إلى أن الأمر في قوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33] للوجوب، فيلزم السيد أن يحط عن العبد جزءًا من المال، أو يدفعه إليه بعد قبضه، ويقوم مقامه غيره، والحط أولى (¬3). ¬
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثَهٌ حَقٌّ عَلى اللهِ عَوْنهمْ: الْمُجاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْمُكاتِبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَداءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفافَ". رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). فعلى المكاتب أن يجتهد في وفاء سيده؛ فإنه بهذه النية يستحق من فضل الله تعالى المعونة، وكذلك يحمد منه ما لو اجتهد في فكاك رقبته من الرق بالتلطف لسيده، والتقرب لخاطره بإحسان خدمته، وبذل الوسع في مودته ونصيحته مع القصد إلى الله تعالى في قلب سيده إلى إرادة عتقه. وينبغي أن يستعين على ذلك بالأربعة المذكورة فيما أخرجه الدينوري في "المجالسة" قال: حدثنا إبراهيم الحربي: ثنا داود بن رشيد قال: كان يقال: أربع يُسَوِّدْنَ العبد: الأدب، والصدق، والعفة، والأمانة (¬2). فإن أريد بالعبد: المخلوقُ للعبادة، فمعنى يسودنه: يجعلنه سيداً إذا اتصف بهن. وإن أريد به: الرقيق، فمعنى يسودنه: يؤول أمره بهن إلى أن يَمُنَّ الله عليه بالعتق ثم بالملك، ولذلك آثرت ذكر هذا الأثر هنا. ¬
* تَنْبِيهٌ: ذكر الخطابي في "غريبه" عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قالوا: علِّموا أرقاءكم سورة يوسف عليه السلام (¬1). والحكمة في ذلك أن هذه السورة تدعوهم إلى الصبر على ذل الرق، وطاعة السادة، وعدم التقصير في طاعة الله تعالى بسبب الرق، وحسن التأدب مع السادة ونصيحتهم، ومع غير السادة. وقد سبق أن الله تعالى يحتج يوم القيامة بيوسف عليه السلام على الأرقاء المقصرين في طاعته - عز وجل -. * تَتِمَّةٌ: كما لا ينبغي للعبد الذي هو مملوك الرقبة لمخلوق مثله أن يشاركه في السيادة، بل يلزم منزلته منه، وهي الخدمة وامتثال الأمر، لذلك لا ينبغي للعبد المخلوق للعبادة أن ينازع سيده الذي هو ربه في شيء مما يختص به من العزة والكبرياء وغيرهما كما تقدم في محله، بل يلزم مقام العبودية طاعة وخدمة، وتفويضاً وتسليماً كما ذكر أبو سعيد الحسن بن علي الواعظ في كتاب "الحدائق لأهل الحقائق": أن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى اشترى عبداً، فقال له: إيش تأكل؟ ¬
قال: ما تطعمني. قال: إيش تلبس؟ قال: ما تكسوني. قال: إيش اسمك؟ قال: الذي تسميني. قال: إيش تعمل؟ قال: ما تستعملني. قال: وإيش لربك؟ قال: ساعة واحدة مثل ما كان لك هذا العبد في هذه الحالة. وقال الدينوري في "المجالسة": أنشدنا أحمد بن غيلان الأزدي (¬1) لغيره: [من مجزوء الرمل] أَطِعِ اللهَ بِجَهْدِكَ ... عامِداً أَوْ دُونَ جَهْدِكْ أَعْطِ مَوْلاكَ الَّذِي تَطْـ ... ـلُبُ مِنْ طاعَةِ عَبْدِكْ (¬2) ومن أراد الوقوف على تحقق معنى السيادة والعبودية على الطريقة السديدة المرضية فعليه بكتابي "منبر التوحيد". * فائِدَةٌ: روى الشيخان عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذا ¬
نَصَحَ لِسَيِّدِهِ، وَأَحْسَنَ عِبادَةَ رَبِّهِ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثَةٌ لَهُمْ أَجْرانِ - وفي رواية: يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ -: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتاب آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَآمَنَ بِهِ، وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ، فَلَهُ أَجْرانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوك أَدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ سَيِّدِهِ، فَلَهُ أَجْرانِ، وَرَجُلٌ كانَتْ لَهُ أَمَةٌ، فَأَدَّبَها فَأَحْسَنَ أَدبَها، ثُمَّ أَعْتَقَها وَتَزَوَّجَها" (¬2). وللشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى تأليف فيمن يؤتون أجرهم مرتين. *** ¬
(3) باب النهي عن تشبه الرجل بالمرأة وعكسه
(3) بَابُ النَّهي عَنْ تَشَبُّهِ الرَّجُلِ بِالمَرْأَةِ وَعَكْسِهِ
(3) بَابُ النَّهي عَنْ تَشَبُّهِ الرَّجُلِ بِالمَرْأَةِ وَعَكْسِهِ قال الله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32]. تتضمن هذه الآية الإشارة إلى النهي لكل من الرجال والنساء أن تتشبه بالطائفة الأخرى فيما اختصت به. واعلم أن أكثر الناس أماني النساءُ، فهن يتمنين كل شيء يخطر لهن ولا يخشين العواقب، فربما تمنت الواحدة منهن الشيء يكون فيه ضررها أو هلاكها، والرجل إذا أكثر من الأمنيات كان أشبه شيء بهنَّ، والأكمل للرجل والمرأة جميعًا أن يحب كل واحد منهما ما أحب الله له، فإذا تمنى فلينظر ماذا يتمنى من خير لائق به. قال الله تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [النجم: 24]؛ أي: لا يكون له كل ما يتمناه، فربما يتمنى شيئًا ولم يعطه، فتكتب عليه أمنيته فيما لا يعنيه، ويزداد أسفاً لعدم حصوله، وقد يعطى الأمنية، وتكون عاقبتها وخيمة، فيندم. قال الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216].
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا تَمَنَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَنْظُرْ ما يَتَمَنَّى؛ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي ما يُكْتَبُ لَهُ مِنْ أُمْنِيَّتِه" (¬1). فمن ذلك قول المرأة لولدها: ليتك بك من السوء كذا، أو: ليتني أراك كذا، أو: أرى فيك كذا، فربما أعطيت في نفسها، أو ولدها، أو مالها شيئًا تكلمت به في حال العدة والغضب، وكان عاقبته وخيمة، وهو من عوائد النساء، وهو من الرجال أقبح. فإن تجاوزا ذلك إلى الدعاء كان أشد خطرًا. قال الله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ؛ لا تُوافِقُوا مِنَ اللهِ ساعَةً فِيها إِجابَةٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ". رواه أبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه (¬2). وقال الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] ¬
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الآية: هن النساء؛ فرَّقَ بين زيهنَّ وزي الرجال، ونَقَصَهنَّ من الميراث والشهادة، وأمرهن بالقعدة، وسمَّاهن الخوالف؛ أي: في قوله: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة: 87]. رواه عبد بن حميد (¬1). وقال قتادة في قوله: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]: قلما تكلمت امرأة تريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها. رواه ابن جرير، وغيره (¬2). وروى البخاري، والأربعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال (¬3). وروى أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم - وصححاه - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل (¬4). ¬
تنبيه
وروى الإمام أحمد - قال المنذري: وهو حسن - عنه قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخنثي الرجال الذين يتشبهون بالنساء، والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال؛ قال: وراكب الفلاة وحده (¬1). وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن امرأة مرت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقلدة قوساً، فقال: "لَعَنَ اللهُ الْمُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّساءِ بِالرِّجالِ، وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجالِ بِالنِّساءِ" (¬2). * تَنْبِيهٌ: اللعن الواقع في هذه الأحاديث ونحوها كلعن السارق، وآكل الربا، وشارب الخمر، ومن عمل عمل قوم لوط، ومن غَيَّر تُخُوم الأرض، ومن عَقَّ والديه، والراشي، والمرتشي، والرائش، والظالم، والنامصة، والمتنمصة، والنائحة، ونحو ذلك: بمعنى البعد عن حضرة الله تعالى ورحمته. ثم قد تظهر آثار اللعنة على من ارتكب ذنباً لعن مرتكبه في الدنيا بقلة، أو ذلة، أو علة، أو سوء منية، وفي الغالب لا تظهر آثار اللعنة ¬
مع الإصرار زيادة في الاستدراج، أو لأمر آخر. وقد أخرج ابن أبي الدنيا في "العقوبات" عن حماد بن سلمة رحمه الله تعالى قال: ليست اللعنة بسواد في الوجه يراه الناس، إنما اللعنة الطرد والإبعاد، ولا تخرج من ذنب إلا وقعت في آخر مثله أو شر منه (¬1). أي: وأنت - والعياذ بالله - مصر على الذنب، غير مستغفر منه ولا تائب عنه، غافل عن التذكرة والتيقظ. فمن هذا القبيل ما نزل الآن بأهل الزمان إلا قليلاً منهم في تشبههم بالنساء، وتشبه نسائهم بهم وهم في أنواع العقوبة، ولا يرون آثار العقوبة، وإنما يشاهدها ذوو الأبصار فيهم، فيرون منهم من الغفلة عن الله تعالى، وعن ذكره وعن طاعته، والاستهلاك في معاصيه وهو يرزقهم، ويكثر لهم من الدنيا ما لا يرونه من أنفسهم؛ فافهم! وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما بالُ هذا؟ "فقالوا: يتشبه بالنساء. فأمر به، فنفي إلى النقيع، فقيل: يا رسول الله! ألا تقتله؟ ¬
فقال: "إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ" (¬1). والنقيع - بالنون، والقاف -: ناحية بالمدينة، وهو غير البقيع - بالموحدة -. والأحاديث في الباب كثيرة. واعلم أن الحكمة في تحريم تشبه الرجل بالمرأة وتشبه المرأة بالرجل أنهما مغيران لخلق الله تعالى، ولأنه متى فعل الواحد منهما القليل من ذلك استجر إلى الكثير، فيكون ذلك سبباً لارتكاب العظائم؛ فإن الرجل إذا لبس الحرير الصِّرف، أو ما في أكثره حرير، وخاطه على مثل زي المرأة، وأرخى الذؤابة على هيئة المرأة، وتضمخ بالغالية، وتأنث في الأقوال والأفعال والحركات، ربما أدى به ذلك إلى فعل الفاحشة. وهذا دأب مخنثي هذه الأعصار، فلقد حكي لنا عنهم ما تمجه الأسماع، وتنفر عنه القلوب والطباع، ولقد ذكر عن بعضهم أن لهم مواشط كمواشط النساء. وكذلك المرأة متى تشبهت بالرجل في اللباس والهيئة والكلام والحركة، ربما أدى بها الحال إلى الخروج بين الرجال في مثل هيئاتهم، وترتب على ذلك أمور قبيحة ما خلا الكون عنها كالسُّحق، فجاء الشرع بحسم هذه المادة، وسد هذا الباب بالكلية. ¬
ومن ذلك ما يفعله أهل الحباط، والسخرية في الولائم ونحوها في إخراج رجل في صورة امرأة، فيبدي أسرار النساء، ويحكي أحوالهن وعوائدهن، ويتكلم بالخنوثة الكلمات القبيحة، والألفاظ المستهجنة من النساء إلا مع بعولتهن، وهذا حرام ملعونٌ فاعله والراضي به، ويخشى على حاضره أن تعمه اللعنة ما لم ينكره ولو بقلبه. وضد ذلك قبيح أيضًا محرم بأن تقيم مسخرات النسوة بعضهن في صورة رجل، فتفعل بصاحبتها فعل الرجل بالمرأة صورةً بحضرة النسوة لتضحكهن، وكلما أعجب الحاضرين والحاضرات ذلك من أهل السخرية أطروا فيه، فيكون ذلك أدعى للعنة، وأجلبَ للسّخط. وكذلك ما يفعله النسوة بالمرأة في ليلة زفافها أو غيرها - صغيرةً كانت، أو كبيرة - من إلباسها العمامة والخوذة، وتقليدها بالسيف والخنجر، وإمساكها الدبوس على طريقة الرجال، فهو حرام، وفاعلاته ملعونات ممقوتات، وعلى الزوج إنكار ذلك، والإغلاظ عليهن حتى يتركنه ويتنزهن منه، ويستغفرن الله تعالى، ولذلك لو ألبسنها لباس الرجل من فرجية أو [ ... ] (¬1) أو كشتوان. ومن هذا القبيل ركوب المرأة للخيل، وطرادها مع رجل وامرأة، ومصارعتها رجلًا أو امرأة، ولا يفعل ذلك إلا العاهرات المومسات. ¬
ومن التشبه المذموم أن يخالط الرجل النساء الأجنبيات، والمرأة الرجال الأجانب، ومن ثم حرمت الخلوة بالأجنبية عليهما خشية الاستجرار إلى المعصية. ولقد قال بعض الحكماء: باعدوا بين أنفاس الرجال وأنفاس النساء (¬1). وروى الدارقطني في "الأفراد" بسند ضعيف، عن علي رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها: "أَيُّ شَيْءٍ خَيْر لِلْمَرْأَةِ؟ "قالت: أن لا ترى رجلًا ولا يراها رجل. فضمها إلى صدره، وقال: "ذُرِّيَّةٌ بَعْضها مِنْ بَعْضٍ" (¬2). قال أبو طالب المكي: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3) يقول: "شِرارُ خِصالِ الرِّجالِ خِيارُ خِصالِ النِّساءِ: الْبُخْلُ، وَالْجُبْنُ، وَالزَّهْوُ" (¬4). لأن المرأة إذا كانت بخيلة حفظت مال زوجها، وإذا كانت زاهية معجبة استنكفت أن تكلم الرجال، وإذا كانت جبانة فَرَقَت من كل شيء فلم تخرج من بيتها. ¬
ومن شأن الرجال الخروج والحركة في الكسب وغيره، فإذا أكثرت المرأة من الخروج من بيتها كانت متشبهةً بالرجال. قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَها الشَّيْطانُ". رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وابن حبان في "صحيحه" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬1). واعلم أن الله - عز وجل - لما أمر النساء بالتستر بحيث منعهن من أعمال الخير التي لا تتأتى إلا بالاجتماع بالرجال كالجهاد، والقضاء، والإمارة، جعلَ لهن من الأعمال ما أثابهن عليه مكان ما فاتهن. روى البيهقي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها: أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت وأمي! إني وافدة النساء إليك، نفسي لك الفداء! إنه ما من امرأة كانت في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا، أو لم تسمع إلا وهي على مثل رأي؛ إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء، فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا معشرَ النساء محصوراتٌ مقصوراتٌ، قواعد بيوتكم، ومفضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معشرَ الرجال فُضِّلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج ¬
بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله تعالى، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً أو معتمرًا، أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا أولادكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه بوجهه كله، فقال: "هَلْ سَمِعْتُمْ مَقالَةَ امْرَأَةٍ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْ مُساءَلَتِها فِي أَمْرِ دِينِها مِنْ هَذِهِ؟ " فقالوا: يا رسول الله! ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا. فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، ثم قال: "انْصَرِفِي أَيَّتُها الْمَرْأَةُ وَأَعْلِمِي مَنْ خَلْفَكِ مِنَ النِّساءِ أَنَّ حُسْنَ تَبَعُّلِ إِحْدَاكُنَّ لِزَوْجِها، وَطَلَبَها مَرْضَاتِهِ، وَاتِّباعَهَا مُوافَقَتَهُ تَعْدِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ". فأدبرت المرأة وهي تهلِّل وتكبر استبشاراً (¬1). وقد علمت من هذا الحديث مع حديث: "إِنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيَّاتِ": أن حسن تبعل المرأة ودخولها في أحوال النسوة الموافقة لشهواتهن إذا أحسنت النية فيه كان عملًا منها صالحاً، وذلك من الرجل أقبح شيء كما لا يحسن من المرأة الترجل. وروى الإمام أحمد بسند ضعيف، عن امرأة كانت قد صلت القبلتين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اخْتَضِبِي؛ تَتْرُكُ إِحْداكُنَّ الْخِضابَ حَتَّى تَكُونَ يَدُها كَيَدِ رَجُلٍ؟ " فما ¬
تركت الخضاب وإنها لابنة ثمانين (¬1). فلو خضب الرجل يديه أو طرفيهما بالحناء، أو نقشهما، أو لبس الحلي الخاص بالنساء، حرم عليه ذلك. وقد علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى المخنث الذي وجده يخضب يديه ورجليه بالحناء، وإنما نفاه لئلا يفسد غيره من الرجال والنساء. وكذلك لا والله لا يحسن من الرجل تقليد النساء في حركاتهن وكلماتهن ونغماتهن، فإن فعل شيئاً من ذلك تقرباً إلى رجل مثله لتجري الفاحشة بينهما كان ذلك أشد قبحاً، وأولى بأن يوجب لعناً وطرداً، وإبعاداً وسخطاً؛ ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ" - سبعاً - (¬2). وقد نطق كتاب الله تعالى بأن اللواط فاحشة مستبشعة. ولو أن امرأة دعت حليلها إلى اللواط - ولو بأدنى قول أو فعل - أو وافقته عليه كانت ملعونة لأنها ضمت إلى هذه الفاحشة قبح التشبه بمخنثي الذكور. وما أقبح قولَ القائل، وأولاه بالذم إذ مدح فيه هذا الوصف القبيح: [من البسيط] ¬
مِنْ كَفِّ ذاتِ حِرٍ فِي زِيِّ ذِي ذَكَرِ ... لَها مُحبَّانِ لُوطِيٌّ وَزَنَّاءُ ومن ألطف ما وقع ما ذكره الزمخشري في "ربيع الأبرار": أن ريطة بنت العباس سألها زوجها المتوكل أن تضم شعرها وتتشبه بالمماليك، فأبت، فخيرها بين ذلك وبين الفراق، فاختارت الفراق، فطلقها (¬1). فتأمل كم بين عفتها وطغيانه، وتوفيقها وخذلانه! - ومن تشبه الرجال بالنساء المذموم: كثرة الإرفاه، والمبالغة في تحسين اللحية وغيرها بالتدهن، والتطيب بطيب النسوة، واستعمال الأدوية والأغذية المسمنات. ومن أمثال العرب: الرجال بأعضادها، والنساء بأعجازها؛ كما حكاه ابن هشام اللخمي في "شرح أبيات الإيضاح" (¬2). - ومن ذلك: أن المرأة إذا أحبت أفرطت، وإذا قَلَتْ فَرَّطت، وإذا عادت حقدت، ولم تبق للصلح موضعاً، ولا تكاد تفي بعهد، ولا تدوم على ود، إن أحسنت إليها الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيراً قط؛ كما في الحديث (¬3). وهذه الأمور - وإن كانت كلها قبيحة من الرجال والنساء - إلا أنها ¬
تحتمل منهن ما لا تحتمل منهم، فلا ينبغي للرجل أن يلحقها في ذلك بالنساء. وقد ألمَّ بذلك المتنبي في قوله: [من الطويل] إِذا غَدَرَتْ حَسْناءُ أَوْفَتْ بِعَهْدِها ... وَمِنْ عَهْدِها أَنْ لا تَدُومَ عَلى عَهْدِ وَإِنْ حَقَدَتْ لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِها رِضا ... وَإِنْ رَضِيَتْ لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِها حِقْدُ وَإِنْ عَشِقَتْ كانَتْ أَشَدَّ صَبابَةً ... وَإِنْ فَركَتْ فَاذْهَبْ فَما فَرْكُها قَصْدُ كَذَلِكَ أَخْلاقُ النِّساءِ وَرُبَّما ... يَضِلُّ بِها الْهادِي وَيَخْفَى بِها الرُّشْدُ (¬1) - ومن ذلك: الجبن، والوهن، والخَوَر عند ملاقاة الرجال ومقارعة الأبطال. ولقد ذم الله تعالى المنافقين بذلك، وشنع عليهم بقوله: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 87]. قال السدي رحمه الله تعالى معناه: رضوا بأن يقعدوا عن الجهاد كما قعدت النساء. رواه ابن أبي حاتم (¬2). ¬
وأخرج نحوه هو وابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬1). وقال الشاعر: [من الخفيف] كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتالُ عَلَيْنا ... وَعَلى الغانِياتِ جَرُّ الذُّيولِ (¬2) واعلم أن وصف الشجاعة في الرجل من أكمل صفاته وأفضلها، وربما دعته إلى كل خير، وأنقذته من كل سوء. وتعجبي شجاعة أبي محجن الثقفي رضي الله تعالى عنه إذ أنقذته آخراً مما كان عليه من معاقرة الخمر، وأمرُه في معاقرتها مشهور. وقد ذكر قصته الحافظ أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب"، وذكر أنه أسلم حين أسلمت ثقيف، وسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه. قال ابن عبد البر: وكان أبو محجن هذا من الشجعان الأبطال في الجاهلية والإسلام، ومن أولي البأس والنجدة، ومن الفرسان البهم، وكان شاعرًا مطبوعا كريماً، إلا أنه كان منهمكاً في الشراب، لا يكاد يقلع عنه، ولا يردعه حد ولا لوم لائم، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يستعين به، وجلده عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في الخمر ¬
مراراً، ونفاه إلى جزيرة في البحر، وبعث معه رجلًا، فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - بالقادسية وهو محارب للفرس، وكان قد هَمَّ بقتل الرجل الذي بعثه معه عمر، فأخبره الرجل بذلك، وخرج فاراً، فلحق بعمر وأخبره خبره، فكتب عمر إلى سعد رضي الله تعالى عنهما بحبس أبي محجن، فحبسه، وكانت بالقادسية أيام مشهورة؛ منها يوم الناطف، ويوم أرمات، ويوم الموات، ويوم الكتائب وغيرها، فلما كان يوم الناطف أو غيره، والتحم القتال، رآهم أبو محجن يقتتلون، وكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين، فأرسل إلى أم ولد سعد - أي: امرأته - يقول لها: إن أبا محجن يقول لك: إن خليت سبيله، وحملته على هذا الفرس، ودفعت إليه سلاحاً، ليكونن أول من يرجع إليك إلا أن يقتل. وأنشأ يقول: [من الطويل] كَفَى حَزَناً أَنْ تردِيَ الْخَيْلُ بِالقَنا ... وأُتْرَكَ مَشْدُوداً عَلَيَّ وثاقِيا إِذا قُمْتُ عَنَّانِيَ الْحَدِيدُ وَغُلِّقَتْ ... مَصاريعُ دُونِي قَدْ تُصِمُّ الْمُنادِيا وَقَدْ كُنْتُ ذا مالٍ كَثِيرٍ وَإِخْوَةٍ ... فَقَدْ تَرَكُونِي واحِداً لا أَخا لِيا وَقَدْ شَفَّ جِسْمِي أَنَّنِي كُلَّ شارِقٍ ... أُعالِجُ كَبْلاً مُصْمَتاً قَدْ بَرانِيا فَلِلَّهِ دَرِّي يَوْمَ أترَكُ مُوْثَقاً ... وَتَذْهَلُ عَنِّيَ أُسْرَتي وَرِجالِيا حُبِسْنا عَنِ الْحَرْبِ الْعوانِ وَقَدْ بَدَتْ ... وَأعْمالُ غَيْرِي يَوْمَ ذاكَ الْعَوالِيا فَلِلَّهِ عَهْدٌ لا أَخِيسُ بِعَهْدِهِ ... لَئِنْ فُرِّجْتُ أَنْ لا أَزُورَ الحوانيا
فخلت سبيله وأعطته الفرس، فقاتل وأبلى بلاءً حسناً، ثم عاد إلى محبسه (¬1). وروى عبد الرزاق عن ابن سيرين: أن أبا محجن لما قال ذلك لامرأة سعد حلت عنه قيوده، وحملته على فرس كان في الدار، وأعطي سلاحاً، ثم خرج يركض حتى لحق بالقوم، فجعل لا يزال يحمل على رجل فيقتله ويدق صلبه، فنظر إليه سعد، فجعل يتعجب، ويقول: من ذلك الفارس؟ قال: فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى هزمهم الله تعالى، ورجع أبو محجن، ورد السلاح، وجعل رجليه في القيود كما كان، فجاء سعد فقالت له امرأته وأم ولده: كيف كان قتالكم؟ فجعل يخبرها: لقينا ولقينا حتى بعث الله رجلًا على فرس أبلق، لولا أني تركت أبا محجن في القيود لظننت أنها بعض شمائل أبي محجن. فقالت: والله إنه لأبو محجن، كان من أمره كذا وكذا، فقصت عليه قصته، فدعا به وحل قيوده، وقال: لا أجلدك على الخمر أبدًا. قال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدًا؛ كنت آنف أن أَدَعها من أجل حَدِّكُم. قال: ولم يشربها بعد ذلك (¬2). ¬
لطيفة
وروى ابن الأعرابي عن المفضل الضبي قال: قال أبو محجن في تركه الخمر: [من الوافر] رَأَيْتُ الْخَمْرَ صالِحَةً وَفِيها ... مَناقِبُ تُهْلِكُ الرَّجُلَ الْحَلِيما فَلا وَاللهِ أَشْرَبُها حَياتِي ... وَلا أَشْفِي بِها أَبَداً سَقِيما (¬1) * وهنا لَطِيفَةٌ: هي أن العبد المسلم متى كان فيه خلق كريم وصدق في الإيمان، فقد يُصْلِح الله تعالى بذلك الخلق كثيرًا من مفاسده، وليس من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. وقال عز من قائل: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]. ومن شأن العبد المؤمن تأول أحوال أخيه المسلم التي يراها مخالفة، ومعرفة حقه في أحواله الموافقة، وحمله أخيه على أحسن الأحوال، واتهام نفسه واحتقارها دون أخيه، وقصة أبي محجن شاهد عجيب على صدق ما قررته. وقد قال ابن عبد البر: ومن رواية أهل الأخبار أن ابنًا لأبي محجن الثقفي دخل على معاوية رضي الله تعالى عنه، فقال له معاوية: ¬
أبوك الذي يقول: [من الطويل] إِذا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عِظامِي بَعْدَ مَؤْتِيَ عُروقُها وَلا تَدْفِنَنِّي بِالْفَلاةِ فَإِنَّنَي ... أَخافُ إِذا ما مِتُّ أَنْ لا أَذُوقَها فقال ابن أبي محجن: لو شئت ذكرت أحسن من هذا من شعره. قال:وماذا؟ قال: قوله: [من البسيط] لا تَسْأَلِ النَّاسَ عَنْ مالِي وَكَثْرتِهِ ... وَسائِلِ النَّاسَ عَنْ حَزْمِي وَعَنْ خُلُقِي القَوْمُ أَعْلَمُ أَنِّي مِنْ سَراتِهِمُ ... إذا تطيشُ يدُ الرِّعْديدة الفَرِقِ قَدْ أَرْكَبُ الْهَوْلَ مَسْدُولاً عَساكِرُهُ ... وَكتُمُ السِّرَّ فِيهِ ضَرْبَةُ الْعُنُقِ أُعْطِي السِّنانَ غَداةَ الرَّوْعِ حِصَّتَهُ ... وَعامِلَ الرُّمْحِ أَرْويهِ مِنَ الْعَلَقِ وَأَطْعَنُ الطَّعْنَةَ النَجْلاءَ قَدْ عَلِمُوا ... وَأَحْفَظُ السِّرَّ فِيهِ ضَرْبَةُ الْعُنُقِ عفُّ الْمَطالِبِ عَمَّا لَسْتُ نائِلَهُ ... وَإِنْ ظُلِمْتُ شَدِيدُ الْحِقْدِ وَالْحَنَقِ وَقَدْ أَجُودُ وَما مالِي بِذِي قَنَع ... وَقَدْ أَكِرُّ وَراءَ الْمُحْجِبِ الْفَرِقِ وَالقَوْمُ أَعْلَمُ أَنَّي مِنْ سَراتِهِمُ ... إِذا سَما بَصَرُ الرِّعْدِيدِ لِلشَّفَقِ فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: لئن أسأنا القول لنُحسننَّ الصِّلة. ثم أجزل جائزته، وقال: إذا ولدت النساء فلتلد مثلك. قال ابن عبد البر: وزعم الهيثم بن عدي أنه أخبره من رأى قبر
أبي محجن بأذربيجان، أو قال: في نواحي جرجان، وقد نَبَتَ عليه ثلاث أصول كرم، وقد طالت وأثمرت، وهي معرشة على قبره، مكتوب على القبر: هذا قبر أبي محجن. قال: فجعلت أتعجب، وأذكر قوله: إِذا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عِظامِي فِي الْمَماتِ عُروقُها (¬1) وإنما استوفيت هنا أخبار أبي محجن رضي الله تعالى عنه بعض الاستيفاء لما في قصته من تهييج نفوس الرجال إلى آثار الرجولية في محازها؛ فإن الشجاعة والكرم من أفضل أحوال الرجال دون النساء. نعم، لو أريدت المرأة على بُضْعها، أو على نفسها من قبل غير حليلها لشجعت، ودفعت عنها، فليس ذلك من الشجاعة التي تختص بالرجال، ولا تكون مذمومة منها. وكذلك لو خرجت المرأة الكبيرة مع المجاهدين لمداواة الجرحى ونحو ذلك لم يضر؛ كما صح ذلك عن نساء الأنصار وغيرهن، وذلك حيث الضرورة، وأما الغالب فأحسن أحوال المرأة أن تكون بعيدة التشبه من الرجال؛ ألا ترى أن الشرع فرَّق بين الرجال والنساء في كثير من العبادات، ولذلك تضم أعضاءها في السجود، وتلصق بطنها بفخذيها، ¬
وكذلك تضم في الركوع، والرجل يجافي يديه عن جنبيه، ويقل بطنه عن ركبتيه، وهو يسبح إذا نابه في صلاته وهي تصفق، كما روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله تعالى عنه: "التَّسْبِيحُ لِلرِّجالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّساءِ" (¬1). والمرأة تستر جميع بدنها في الصلاة إلا الوجه والكفين، والرجل لا يجب عليه إلا ستر السرة والركبة وما بينهما. ولا يطلب من المرأة الجهر في القراءة، ولا يسن لها الأذان بخلاف الرجل. والرجل يؤم الرجل، والمرأة لا تؤم الرجل، وتؤم النساء وتقف وسطهن، والرجل يقف أمام الرجال وغيرهم. وأفضل صلاة المرأة في قعر بيتها، وأفضل صلاة الرجل في المسجد إلا النوافل. وزيارة القبور للرجال سنة، وهي للنساء مكروهة. ولا تلي المرأة الخلافة، ولا السَّلْطنة، ولا الإمارة، ولا القضاء، ولا عقد النكاح عند الأكثرين، ولا تملك الطلاق، ولا الرجعة إلى غير ذلك. فهذه الأحكام ليس لكل من الرجل والمرأة أن يتشبه بالآخر فيما اختص به منها. وفي الحديث: "طاعَةُ النساءِ نَدامَةٌ" (¬2). ¬
تنبيه
وفي الحديث الآخر: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْم تَمْلِكُهُمُ امْرَأةٌ" (¬1). وفي لفظ: "وَلَّوْا أَمْرَهَمُ امْرَأةً" (¬2). وقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]. ومن ثم كان الطلاق، والظِّهار، والإيلاء من قبل الرجل دون المرأة، وكانت الرجعة للرجل دون المرأة، فلو دخل الرجل تحت طاعة المرأة فقد عكس الحكمة، وخالف الشريعة. وقال الحسن: ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تشتهي إلا أكبَّه الله في النار. رواه الإمام أحمد، وغيره (¬3). وأما قول القائل: الرجال عند أغراضهم نساء، فهو من أمثال العامة لا يؤخذ به ولا يلتفت إليه، وإن وقع ممن يعتد به، فمعناه أن الرجل إذا كان له غرض صحيح في شيء أظهر من أخلاقه خلاف ما هو مطلوب منه [ ... ] (¬4) ذلك المطلوب من غير إثم. * تَنْبِيهٌ: كما لا يتشبه بالنساء في الزي لا يتبعن في الرأي، ومن ثم جاء ¬
في الحديث: "طاعَةُ النِّساءِ نَدامَةٌ". أخرجه الديلمي، والعسكري، والقضاعي عن عائشة رضي الله تعالى عنها (¬1). وله شاهد من حديث زيد بن ثابت، وطريقة القضاعي جيدة، ومن ثم كان إدخال ابن الجوزي له في الموضوعات ليس بجيد كما قاله السخاوي، وغيره (¬2). وروى الإمام أحمد عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هَلَكَتِ الرِّجالُ حِينَ أَطاعَتِ النِّساءَ" (¬3). وقد قيل: شاوروهن وخالفوهن (¬4). وروى ابن قال في "مكارم الأخلاق" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَفْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ أَمْراً حَتَّى يَسْتَشِيرَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَشِيرُهُ فَلْيَسْتَشِرِ امْرَأةً ثُمَّ يُخالِفْها؛ فَإِنَّ فِي خِلافِها البَرَكَةَ". وروى العسكري في "الأمثال" عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: خالفوا النساء؛ فإن في خلافهن البركة (¬5). ¬
وعن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: عَوِّدوا (¬1) النساءَ [لا]؛ فإنها ضعيفة إن أطعتها أهلكتك (¬2). [ ... ] (¬3) تقتدي بالنساء، وهن أكثر أهل النار، وهن نواقص عقل ودين. وقد ورد: [أنهن أول من] (¬4) يتبع الدجال. روى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم مرفوعاً: " [لا ينزلُ الدَّجَّالُ المَدِينةَ، ولكنَّهُ ينزِلُ الخَنْدَقَ، وَعَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلاَئَكَةٌ يَحْرُسُونها] (¬5)، فَأَوَّلُ مَنْ يَتْبعُهُ النِّساءُ وَالإِماءُ" (¬6). وعطف الإماء على النساء من عطف الخاص على العام، [فإنه قد] (¬7) اجتمع فيهنَّ نقص الأنوثة، ونقص الرق، ونقصان عقول الأرقاء - ولا سيما الإماء - مشهور مشهود. ¬
ومن هذا القبيل رغبة النساء في المنجِّمين، وأصحاب المنادل، والفالاتية، والكهان، والسحرة، والمشعبذين، والمطالبية. وأقل الرجال عقولاً من يوافقهن في ذلك، وهو من قبيل التعلق بالأماني، وكم ضاعت أموال أهل الجهل في هذا الباب، وهو من قبيل المثل: رزق الكلاب على المجانين. نعم، لو فرض وجود امرأة صالحة عارفة، وهي أعز من الغراب الأعصم كما في الحديث (¬1)، فلا بأس باستشارتها في بعض الأمور خصوصاً ما يرجع فيه إلى رأيهن كأمر بناتهن، ولذلك جاء في الأثر: آمروا النساء في بناتهن (¬2)؛ أي: ذوات الصلاح الكاملات. وفي الحديث: "كَمُلَ مِنَ الرِّجالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ أَرْبعٌ" (¬3). وهذا مستثنى مما تقدم، والدليل عليه استشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة رضي الله تعالى عنها في صلح الحديبية كما هو مأثور في السير، وغيرها لفضلها ووفور عقلها، وهو أمر غريب في النساء حتى قال إمام ¬
الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أمَّ سلمة. واستدرك عليه إشارة بنت شعيب في أمر موسى عليهم السلام (¬1). ومن وهن آراء النساء أنهن لا يستقمن على أمر يبرمْنَه من عمل، أو بيع، أو نحوه، بل مهما لاح لهنَّ هوى في مخالفة ما فعلته بادرن، وطلبن نقضه، وكَلَّفن الوكلاء والوسائط ذلك. وروى ابن أبي شيبة عن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه قال: إنما يرجع في المواهب النساء، وشرار الأقوام (¬2). وما أقرب النساء من خلف الوعد، ونقض العهد، والفجور في الخصومة، فإذا اجتمعن بجماعتهن غير مباركة حتى كأن جماعتهن مستثناة من الحديث: "الْجَماعَةُ رَحْمَةٌ" (¬3). وانفراد المرأة في بيتها أقرب إلى الخير من اجتماعها بالنساء؛ فإنها ترى ما ليس لها مثله، فيؤول بها ذلك إلى كفران العشير، ومناكدة الزوج، وتكليفه ما لا يطيق، ومن ثم قال عمر رضي الله تعالى عنه: اعروا النساء يلزمن الحجال (¬4). ¬
وروى الديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ جَماعَةِ النِّساءِ كَمَثَلِ حَدِيدَةٍ أَدْخَلْتَها النَّارَ، ثُمَّ أَخْرَجْتَها فَضَرَبْتَها، فَطارَتْ فَصارَتْ شَرَراً" (¬1). وروى الدينوري في "المجالسة" عن محمد بن سلام الجمحي قال بعض الحكماء: ثلاثة أشياء تميت القلب: مجالسة الأنذال، ومجالسة الأغنياء، ومجالسة النساء (¬2). وهي شاملة لمجالسة الرجل المرأة، والمرأة النساء. وروى حسين المروزي في "زوائد الزهد" لابن المبارك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: الرجل خلق من الأرض فنهمته من الأرض، والمرأة خلقت من الرجل فنهمتها في الرجل؛ فاحبسوا نساءكم (¬3). وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "البر والصلة" عن الحسن قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه: إنما النساء عورة؛ فاستروا ¬
عورتهن بالبيوت، وداووا ضعفَهنَّ بالسكوت (¬1). وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: أما يغار أحدكم؟ يدع امرأته تخرج إلى السوق تزاحم العُلُوج. وأصاب رضي الله تعالى عنه؛ فإن الأسواق إنما تليق بالرجال، فمزاحمة النساء الرجال فيها دخولٌ منهنَّ في غير ما لهن، وتشبه بالرجال وإن صحت معاملتهن. *** ¬
فصل
فَصْلٌ ليس من تشبه المرأة المذموم بالرجال دخول المرأة في شيء من طلب العلم وتعليمه، وتربية المريدين، وإرشاد السائلين ما لم يكن ثَمَّ خلوة أجنبية، بل مع الصيانة وحفظ قوانين الشرع وأحكامه، فقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها تفيد العلوم، وتورد الإشكالات على علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقد استدركت على جماعة منهم في كثير من الأحاديث والأحكام، فاستدركت على عمر، وابنه، وأبي هريرة، وابن عباس، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن الزبير، وزيد بن أرقم، وأبي الدرداء، وسعيد، والبراء، وفاطمة بنت قيس، وغيرهم. وقد ألف في ذلك طائفة من العلماء آخرهم الحافظ جلال الدين السيوطي؛ ألف كتاب "الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة" رضي الله تعالى عنهم. وقال عروة: ما رأيت أحداً أعلم بالحلال والحرام، والعلم، والشعر، والطب من عائشة رضي الله تعالى عنها (¬1). ¬
وقال مسروق: لقد رأيت الصحابة - رضي الله عنهم - يسألون عائشة رضي الله تعالى عنها عن الفرائض (¬1). رواهما الحاكم. وكذلك بقية أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغيرهن من النساء الصحابيات كأم سليم، وأم الدرداء، وفاطمة بنت قيس، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وأسماء بنت يزيد، وأم حَرام، وغيرهن. وصح عن عائشة رضي الله تعالى عنها: نِعْمَ النساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين (¬2). وعلى ذلك درج السلف والخلف؛ كانوا يأخذون العلم عن النساء كما يأخذون عن الرجال، وكانوا يتبركون بالنساء الصالحات والعارفات كرابعة العدوية، ورابعة الشامية، وشعوانة، وغيرهن؛ كانوا يحملون الأدب، والزهد، والمعارف عن النساء كما يحملونه عن الرجال، كما يؤخذ ذلك من سيرهم المذكورة في كتب الحديث، والتاريخ. وقد روي من اجتهاد بعض النساء، وتدقيقهن في الورع ما عجزت عنه الرجال بحيث قيل في المعنى: [من الوافر] وَلَوْ كانَ النِّساءُ كَما ذَكَرْنا ... لَفُضِّلَتِ النِّساءُ عَلى الرِّجالِ فَما التَّأْنِيثُ لاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ ... وَلا التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلالِ ¬
نعم، ينبغي أن لا تعلم المرأة الكتابة؛ لأن الكتابة ربما أدت إلى أمور فظيعة، وأحوال قبيحة من إيصال أسرارهن إلى الرجال، وأسرار الرجال إليهن. وقد أخرج الحاكم، والبيهقي في "الشعب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُنْزِلُوهُنَّ الغُرَفَ، وَلا تُعَلِّمُوهُنَّ الكِتابَةَ، وَعَلِّمُوهُنَّ الغَزْلَ وَسُورَةَ النُّورِ" (¬1). وقد بلغني أن بعض العلماء كان لا يستحب أن تقرأ سورة يوسف عليه السلام على النساء، ويستحب أن تقرأ عليهن سورة النور (¬2). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن أبي سعد قال: إن لقمان عليه السلام مر بجارية تعلم الكتابة فقال: ليت شعري! من سأل هذا السبب؟ قال: ومر بامرأة معلقة بشعرها في شجرة، فقال: يا ليت الشجر كلها كان ثمرها مثل ثمر هذه الشجرة. واعلم أن في إيثار الرجل الجهل والدَّعَة، والراحة والاشتغال ¬
بالشهوات، وترك الاشتغال بالعلم والتأدب بالآداب الشرعية تشبهاً بالنساء من حيث إن ذلك خلقهن. وفي الحديث: "إِنَّكُنَّ نَواقِصُ عَقْلٍ وَدِينٍ" (¬1). ومن ثم قال الزهري لأبي بكر الهذلي: يا هذلي! أيعجبك الحديث؟ قال: قلت: نعم. قال: أما إنه يعجب ذكور الرجال، ويكرهه مؤنثوهم. رواه الخطيب (¬2). وفي رواية عن الزهري قال: لا يطلب الحديث من الرجال إلا ذكرانها، ولا يكرهه إلا إناثها (¬3). وعندي أن هذا لا يختص بالحديث، بل إلا من حيث إن معظم العلوم يرجع إليه، بل طلب العلم مطلقًا شيبة الرجال، واللهو عنه وعن كل خير لخلق لا يليق إلا بالنساء لو كان لائقاً، ومن ثم قال الله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} [النور: 37] الآية. وإذا كانوا لا تلهيهم التجارة والبيع وهما أليق بالرجال، فلأَنْ ¬
لا تلهيهم الحلي والحلل والألعاب أولى. وقال الخطيب: أنشدني الحسن بن علي بن محمد البلخي بأصبهان قال: أنشدني أبو الفضل [العباس] (¬1) بن محمد الخراساني: [من البسيط] رَحَلْتُ أَطْلُبُ أَهْلَ الْعِلْمِ مُجْتَهِداً ... وَزِينَةُ الْمَرْءِ فِي الدُّنْيا الأَحادِيثُ لا يَطْلُبُ الْعِلْمَ إِلاَّ بازِلٌ ذَكَرٌ ... وَلَيْسَ يُبْغِضُهُ إِلاَّ الْمَخانِيثُ لا تُعْجَبَنَّ بِمالٍ سَوْفَ تَتْرُكُهُ ... فَإِنَّما هَذِهِ الدُّنْيا مَوارِيثُ (¬2) *** ¬
(4) باب النهي عن تشبه الرجال بالصبيان
(4) بَابُ النَّهي عَنْ تَشَبُّهِ الرّجَال بِالصِّبيَانِ
(4) بَابُ النَّهي عَنْ تَشَبُّهِ الرّجَال بِالصِّبيَانِ وهو مذموم، وعكسه محمود. اعلم أن تشبه الرجل الكامل - شاباً، أو كهلاً، أو شيخاً - بالصبي الصغير في اللعب واللهو، وما هو شأن الصغار نزولٌ من أفق العقل إلى حضيض الحماقة والجهل، وهو مما يعلم ضرورة. ولقد تكلف بعضهم عن بعض المباحات التي هي بالصغار أليق خشية من الوقوع فيما وراء ذلك، كما روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي: أنه أتي بخبيص فلم يأكله، وقال: هذا طعام الصبيان (¬1). ومن النهي عن التشبه بالصبي ما أخرجه ابن جرير، والبيهقي عن أسلم رحمه الله تعالى قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: يا أسلم! لا يكن حبك كَلَفاً، ولا بغضك تلفاً. قلت: وكيف؟ قال: إذا أحببت فلا تَكْلَفْ كما يَكْلَف الصبي بالشيء يحبه، وإذا ¬
أبغضت فلا تبغض بغضاً تحب أن يتلف صاحبك ويهلك (¬1). قلت: ومحل ذلك في المحبة من الخلق إلى محبة الله تعالى، وكلما زاد العبد حبا لله تعالى كما زاد بها قربا من الله - عز وجل - ولو صارت كَلَفاً؛ فإنها تزداد حسناً ويزداد بها صاحبها كمالاً، كما روي أن الله تعالى وصف أولياءه ببعض أنبيائه، فقال: الذين كلفوا بحبي كما يكلف الصبي بالشيء، ويأوون إلى ذكري كما يأوي الطير إلى وَكْره، ويغضبون لمحارمي كما يغضب النمر إذا حرب؛ فإنه لا يبالي أَقَلَّ الناسُ أم كثروا (¬2). قال أبو طالب المكي، وأبو حامد الغزالي رحمهما الله تعالى بعد أن ذكرا هذا الأثر: فتدبر هذه الأمثال: إن الصبي إذا كلف بالشيء لم يفارقه، فإن نام فمعه، وإن تحرك فبه، وإن هَبَّ من نومه فعنه، فإن فارقه بكى عليه، وإن وجده ضحك إليه، ومن نازعه فيه أبغضه، ومن أعطاه إياه أحبه، وإن أخذ منه لم يكن له شغل إلا الصياح والبكاء عليه حتى يرد إليه. قالا: وأما النمر فإنه لا يملك نفسه عند الغضب لنفسه حتى يبلغ من شدة غضبه أن يقتل نفسه (¬3). ¬
وذلك أنه يغيب الخلق عنه حتى نفسه فلا يعقل ما فعل، وعلم من هذا أيضًا من أبغض أحدًا لمعصية الله تعالى جاز له أن يصل في البغضاء إلى التلف إذا كانت معصيته توجب ذلك كبغض الكفار حتى يسعى المسلمون في قتالهم، وإزهاق نفوسهم وأرواحهم، ومن هنا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}] الأنفال: 65]. فالتشبه بالصبيان الأطفال مما تنهى عنه بَوادِهُ العقل إلا فيما استثني من الكَلَف بحب الله تعالى، وحب ما يقرِّب إليه من علم وعبادة، فلا معنى للإطالة في النهي عن ذلك، وإنما نتكلم الآن في هذا الباب في تشبه الشيخ والكهل بالشاب. روى أبو يعلى، والطبراني، والدينوري عن واثلة، وابنُ عدي عن ابن مسعود، والبيهقيُّ في "الشعب" عن أنس، وعن ابن عباس قالوا - رضي الله عنهم -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ شَبابِكُمْ مَنْ تَشَبَّهَ بِكُهُولكُمْ، وَشَرُّ كُهُولكُمْ مَنْ تَشَبَّهَ بِشَبابِكُمْ" (¬1). ¬
وقلت في معناه: [من الخفيف] إِنَّ خَيْرَ الشَّبابِ مَنْ يَقْتَدِي بِالْكُهُو ... لِ أَوْ بِالشُيُوخِ فِي الإِحْسانِ ثُمَّ شَرُّ الْكُهُولِ كَهْلٌ تَراهُ ... يَتَحَلَّى بِحِلْيَةِ الشُّبَّانِ وروى الطبراني في "الأوسط" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ ابْنَ سَبْعِينَ فِي أَهْلِهِ، ابْنَ عِشْرِينَ فِي مِشْيتِهِ وَمَنْظَرِهِ" (¬1). وروى الديلمي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ ابْنَ عِشْرِينَ إِذا كانَ شِبْهَ ابْنِ ثَمانِينَ، وَيُبْغِضُ ابْنَ السِّتِّينَ إِذا كانَ شِبْهَ ابْنِ العِشْرين" (¬2). وإذا كان المتشبه من الكهول والشيوخ بأبناء العشرين مذموماً مبغضاً إلى الله تعالى، فما ظنك بالمتشبه منهم بأبناء العشر والسبع؟ ومن المعلوم أنه لا رخصة لبالغ عاقل كامل العقل في معصية الله تعالى - سواء كانت صغيرة أم كبيرة، وسواء كان هو شابًا أو كهلاً أو شيخاً - ولكن جرت العادة بأن يقام للشاب من العذر ما لا يقام للكهل ¬
والشيخ، وجاء الشرع بتقرير هذه العادة، والسبب في ذلك أن بعض الشباب تغلب عليه الحرارة والرطوبة، فتغلب عليه الشهوة ويشتد به الهوى، ومن ثم كان خلاص الشباب من موجبات الهوى أمراً عجيباً حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ لَيَعْجَبُ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَة". رواه الإمام أحمد، والطبراني عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه (¬1). والتعجب من الله تعالى بمعنى الاستحسان والرضا (¬2). وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ تَعالَى يُحِبُّ الشَّابَّ الَّذِي يُفْنِي شَبابَهُ فِي طاعَةِ اللهِ تَعالَى" (¬3). ¬
وفي حديث "الصحيحين" المتقدم: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ: إِمامٌ عادِلٌ، وَشابٌّ نَشَأَ فِي عِبادَةِ اللهِ". الحديث (¬1). ومع هذا فقد جاء التحذير من غوائل الشباب، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّبابُ شُعْبَةٌ مِنَ الْجُنُونِ" (¬2). شبهه بالجنون تقبيحاً لأمره، وتنفيراً عن العمل بمقتضاه. وقال أبو العتاهية: [من الرجز] إِنَّ الشَّبابَ وَالفَراغَ وَالْجِدَةْ ... مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيَّ مَفْسَدَة وروى أبو أحمد العسكري في "المواعظ" عن قبيصة بن جابر الأسدي: أنه تكلم بين يدي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: يا قبيصة! إنك لَسِنُ اللسان، فسيح الصدر؛ فاتق عثرات الشباب، وفلتات الغضب، ونوادر الكلام (¬3). وإذا اتقى العبد عثرات الشباب، وطلب المعونة في ذلك من الله تعالى فقد يكون ذلك سبباً لتوفيقه في كهولته وشيخوخته. قال القشيري رحمه الله تعالى في جزء جمع فيه كلام أبي علي الدقاق رحمه الله تعالى: وسمعته يقول: من ملك شهوته في حال شبيبته صيَّره الله تعالى في حال كهولته كيوسف عليه السلام؛ قال الله ¬
تعالى: {مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] (¬1). وأما سن الكهولة فإنه يكون الإنسان فيه في غاية الاعتدال، ويتم فيه عقله، وترسَخُ فيه طبيعته، ويستوي أشده، ولذلك لم يبعث الله تعالى نبيًا إلا على رأس الأربعين إلا ما كان من عيسى ويحيى عليهما السلام. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بَعَثَ اللهُ نبِيًّا إِلاَّ شابًّا". رواه ابن مردويه، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (¬2)؛ معناه: كامل الشباب، وذلك في سن الأربعين. و[قال عبد الله بن داود]: كان كثير من السلف في أمر دنياهم، حتى إذا بلغوا أربعين سنة طوى فراشه (¬3). وروى أبو أحمد العسكري في "المواعظ" عن هلال بن يساف (¬4) قال: كان الرجل من أهل المدينة إذا بلغ أربعين سنة تفرغ لعبادة ربه (¬5). ¬
وعن هذا كني عبد الله بن داود بطَيِّ الفراش. فمن بلغ سن الاعتدال فلم يعتدل في طاعة الله تعالى، فذلك دليل تفريطه في جنب الله تعالى، وغلبة الهوى على عقله، لكنه في وقت التدارك والحذر والخوف. قال الشيخ زين الدين بن رجب في "لطائفه": وفي الحديث: "إِنَّ اللهَ تَعالَى يَقُولُ لِلْحَفَظَةِ: ارْفَقُوا بِعَبْدِي ما دامَ فِي حَداثَتِهِ، فَإِذا بَلَغَ الأَرْبَعِينَ فَحَقِّقا وَتَحَفَّظا". وكان بعض رواته يبكي عند روايته، ويقول: كبرت السن، ورق العظم، ووقع التحفظ (¬1). وقال مسروق: إذا بلغت الأربعين فخذ حَذَرَك (¬2). وأخرجه أبو أحمد العسكري في "المواعظ" عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. وأنشد لابن دريد: [من المتقارب] إِذا ما الفَتَى جاوَزَ الأَرْبَعِينَ ... وَلَمْ يَعْقُبِ النَّقْصَ مِنْهُ الكَمالا وَلَمْ يَتْبَعِ الْعُصْبَةَ الزَّاهِدِينَ ... وَينْفِي الْحَرامَ وَيبْغِي الْحَلالا فَلا تَرْجُهُ طُولَ أَيَّامِهِ ... فَلَيْسَ يَزِيدك إِلاَّ خَبالا ¬
وأما سن الشيخوخة فيغلب على الإنسان فيه البرودة واليبس، فتخف عنه الشهوة وتضعف، فلا يبقى لصاحبه عذر في اتباع الهوى، وهو السن الذي قال الله تعالى فيه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]. روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَعْذَرَ اللهُ - عز وجل - إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً" (¬1). وروى عبد بن حميد عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا بَلَغَ العَبْدُ سِتِّينَ سَنةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْهِ، وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ" (¬2). وروى أبو نعيم عن وهب رحمه الله تعالى قال: قرأت في بعض الكتب: إن لله منادياً ينادي من السماء الرابعة كل صباح: أبناء الأربعين! زَرْعٌ قد دنا حصاده، أبناء الخمسين! ماذا قدمتم وماذا أخرتم؟ أبناء الستين! لا عذر لكم، ليت الخلق لم يخلقوا، وإذا خلقوا علموا لماذا خلقوا، قد أتتكم الساعة فخذوا حذركم (¬3). ¬
وروى ابن أبي الدنيا، وأبو نعيم عن سويد الكلبي: أن زِرَّ بن حُبيش رحمه الله تعالى كتب إلى عبد الملك بن مروان كتاباً يعظه، وكان في آخره: ولا يطمعك يا أمير المؤمنين في طول الحياة صحة بدنك، وأنت أعلم بنفسك، واذكر ما تكلم به الأولون: [من الرجز] إِذا الرِّجالُ وَلَدَتْ أَوْلادُها ... وَبَلِيَتْ مِنْ كِبَرٍ أَجْسادُها وَجَعَلَتْ أَسْقامُها تَعْتادُها ... تِلْكَ زُرُوعٌ قَدْ دَنا حَصادُها فلما بلغ عبد الملك الكتاب بكى حتى بل طرف ثوبه (¬1). ويعجبني في هذا الباب قول البهاء زهير: [من مجزوء الكامل] أَتُرِيدُ بَعْدَ الشَّيْبِ مِنِّي شِـ ... ـرَةَ الطَّرَبِ الْخَلِيع لا لا وَحَقِّ اللهِ ما ... أَنا بِالسَّمِيعِ وَلا الْمُطِيعِ إِنْ كُنْتَ تَرْجِعُ أَنْتَ بُعَيْـ ... ـدَ الشَّيْبِ فَايْئَسْ مِنْ رُجُوعِ كَيْفَ الرُّجُوعُ وَقَدْ رَأَيْتَ الـ ... ـرِّيحَ تَلْعَبُ بِالزُّرُوعِ عارٌ رُجُوعُكَ بَعْدَ ... ما عايَنْتَ حِيطانَ الرُّبُوعِ وَحَلَلْتَ فِي ظِلِّ الْجَنا ... بِ الرَّحْبِ وَالْعِزِّ الْمَنِيعِ ومن ثم عظم إثم الشيخ الزاني - وإن كان الزنا من كل أحد عظيمًا - إلا أنه من الشيخ أعظم. ¬
روى مسلم، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثة لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ تَعالَى يَوْمَ القِيامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعائِلٌ مُسْتكبِرٌ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْظُرُ اللهُ تَعالَى يَوْمَ القِيامَةِ إِلَى الشَّيْخِ الزَّانِي وَالْعَجُوزِ الزَّانِيَةِ" (¬2). وروى الطبراني بإسناد حسن، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: لا ينظر الله إلى الأشيمط الزاني، ولا العائل الزهو (¬3). والأشيمط: تصغير الأشمط، وهو الذي اختلط شعره الأبيض بالأسود، صُغِّرَ تحقيراً للإزراء عليه والتشنيع. وفي الباب أحاديث كثيرة. وروى أبو نعيم عن الربيع بن صبيح رحمه الله تعالى: أنه كان بالأهواز ومعه صاحب له، فنظرت إليهما امرأة، فتعرضت لهما، فدعتهما إلى نفسها، فبكى الشيخ، فقال له صاحبه: ما يبكيك؟ ¬
فقال: إنها لا تطمع في شيخين إلا ورأت شيوخًا مثلهما (¬1). ولما كان من الشيخوخة بحاله واعظاً لمن طعن فيه خصَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الشباب بالتحذير من الزنا في قوله: "يا شبابَ قُرَيْشٍ! احِفْظَوُا فُرُوجَكُمْ، لا تَزْنُوا؛ أَلاَ مَنْ حَفِظَ اللهُ فَرْجَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ". وفي رواية: "يا فِتْيانَ قُرَيْشٍ! لا تَزْنُوا؛ فَإِنَّهُ مَنْ سَلِمَ لَهُ شَبابُهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ". رواه الحاكم، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). ولذلك خصهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا مَعْشَرَ الشَّباب مَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمُ الباءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجاءٌ" (¬3)؛ أي: قاطع لشهوته. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَتِمُّ نُسُكُ الشَّابِّ حَتَّى يَتَزَوَّجَ". رواه أبو نعيم (¬4). فلا ينبغي للكهل، ولا للشيخ أن يتشبها بالشبان في مقتضيات الهوى شكلاً، وهيئة، وعملاً وقولاً؛ كأن يقمط العمامة، ويلبس ¬
- ومن التشبه القبيح بالشبان
مصبغات الثياب مع تظريف تفصيلها، وتظريف خياطتها، أو يضع في رأسه عِرْقاً من الزهر، أو الورد، أو الريحان، أو يختال في مشيته، أو يشتد فيها ويطأ الأرض وطء أهل الشطارة والقوة، أو يغنِّي برفع الصوت بالموال ونحوه. وهذه الأفعال - وإن كانت منكرة من كل أحد - إلا أنها من الكهول والشيوخ أقبح. وكذلك شرب الخمر والزنا واللواط قبائح فواحش من كل أحد، إلا أنها من ذوي الأحلام والعقول أشد قبحاً، وأعظم فحشاً. - ومن التشبه القبيح بالشبان: خضب الشيب بالسواد، وقد تقدم كله. وروى ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الشَّيْخَ الغِرْبِيبَ" (¬1)؛ أي: الْمُتَشَبِّهَ بِالغُرابِ فِي سَوادِ الشَّعْرِ. واعلم أن الشيخ متى اتبع الهوى، وتشبه في ذلك بأهل الصبا فعصى وطغى، وتمرد وبغى، كان شيطاناً في صورة إنسان؛ فإن الإنسان كلما كبر ازداد خيره، والشيطان كلما كبر ازداد شره. وروى ابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان" عن مجاهد قال: قال ¬
إبليس: جعل لنا أنا نرَى ولا نُرى، وأن نخرج من تحت الثرى، وأن يعود كهلُنا فتى (¬1). وروى الديلمي عن جابر رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لَمْ يَرْعَوِ عِنْدَ الشَّيْبِ، وَلَمْ يَسْتَحْيِ مِنَ العَيْبِ، وَلَمْ يَخْشَ اللهَ فِي الغَيْبِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حاجَةٌ" (¬2). وحيث كان الشيخ بهذه الصفة فلا يصلح للاقتداء به لأنه شيطان في صورة إنسان. ولذلك قال أبو حازم رحمه الله تعالى: لا تقتد بمن لا يخاف الله بظهر الغيب، ولا يعف عن العيب، ولا يصلح عند الشيب. رواه أبو نعيم (¬3). ولا يعارض ما قدمناه ما رواه الدينوري في "المجالسة" عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن قال: لقد رأيت بالمدينة مشيخة في زي الفتيان لهم الغدائر، وعليهم الموردة والمعصفرة، في أيديهم المخاصرة فيها أثر الحناء، ودين أحدهم أبعد من الثريا إذا أريد دينه (¬4). فإن ربيعة رضي الله تعالى عنه لم يُرِد بذلك الثناء عليهم بالتشبه ¬
تنبيه
بالفتيان، وإنما أراد مدح الزمان المتقدم على زمانه بأن جهالهم كانوا أحرص على دينهم من عقلاء زمانه. وهذا لم يختص به ربيعة، بل كل من قايس أهل زمانه بأهل الزمان المتقدم قبله وجد أهل زمانه دون أهل الزمان المتقدم في الحرص على الدين، وفي كل خير. * تَنْبِيهٌ: روى الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي - وعلَّقه البخاري - عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتانِ: الْحِرْصُ، وَالأَمَلُ" (¬1). وفي لفظ - وهو عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى -: "الْحِرْصُ عَلى الْمالِ وَالْحِرْصُ عَلى الْعُمُرِ" (¬2). وروى مسلم، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَلْبُ الشَّيْخِ شابٌّ عَلى حُبِّ اثْنتَيْنِ: حُبِّ الْعَيْشِ، وَالْمالِ" (¬3). وفي لفظ عند الإمام أحمد، والترمذي وصححه: "عَلى حُبِّ اثْنتَيْنِ: طُولِ الْحَياةِ، وَكَثْرَةِ الْمالِ" (¬4). ¬
وأخرجه بهذا اللفظ الحاكم عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). وهذا إخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن هاتين الخصلتين من طباع ابن آدم؛ كلما طعن في السن كما شبَّا فيه، كما قيل: حب الحياة طبيعة الإنسان. وصح عن أبي عثمان النهدي رحمه الله تعالى أنه قال: أتت عليَّ مئة وثلاثون سنة؛ ما مني شيء إلا نقص إلا أملي (¬2). وحكى ابن السمعاني في "الأنساب" عن علي بن حجر الإمام الحافظ رحمه الله تعالى قال: انصرفت من العراق وأنا ابن ثلاث وثلاثين، [فقلت: لو بقيت ثلاثًا وثلاثين أخرى، فأروي بعض ما جمعته من العلم، وقد عشت بعده] ثلاثًا وثلاثين أخرى وأنا أتمنى بعد ما كنت أتمناه وقت انصرافي من العراق (¬3). وتمني الحياة لنشر العلم والعبادة ونحوهما حسنٌ؛ لما في الحديث: "خَيْرُكُمْ مَنْ طالَ عُمُرُهُ وَحَسُنُ عَمَلُهُ" (¬4). كما أن تمنيها لغير ذلك كالتوسع في الدنيا قبيح؛ لما في ¬
الحديث المذكور: "وَشَرُّكُمْ مَنْ طالَ عُمُرُهُ وَساءَ عَمَلُهُ" (¬1). والشيخ كما على سِنُّهُ حَسُنَ منه قصر الأمل والإعراض عن الدنيا، وكان ذلك مطلوباً منه لأنه أقرب من الشاب إلى الموت ومفارقة الدنيا، ومن ثم قال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]؛ يعني: الشيب. وهذا خلاف ما في طبعه، ومخالفة ما في الطبع شديدة على النفس، والثواب على قدر المشقة والصبر على الشدائد. وفي "الصحيح": "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكارِهِ" (¬2). فمن صبر على المكروهات، وزهد في الدنيا الفانية، نجا من المكروهات في الآخرة، وفاز بالجنات. وفي الحديث: " [نَجَا أَوَّلُ] (¬3) هَذِهِ الأُمَّة بِالنَّفْسِ وَالزُّهْدِ، وَيَهْلَكُ آخِرُها بِالْبُخْلِ وَالأَمَلِ". رواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الأمل" عن عبد الله ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما، وابنُ قال في "مكارم الأخلاق" عن معاوية بن حيدة رضي الله تعالى عنه (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَيَهْلَكُ آخِرُها" حكم على الغالب؛ أي: ويهلك ¬
أكثر آخرها؛ إذ لا يزال طائفة من هذه الأمة على الحق إلى أن تقوم الساعة. على أن أهل اليقين والزهد قد كانوا قليلاً في كل وقت، ولكن هم في هذه الأزمنة أقل من القليل. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: لا تزال نفس أحدكم شابة في حب الشيء ولو التفَّت ترقوتاه من الكبر، إلا الذين امتحن الله قلوبهم للآخرة؛ وقليل ما هم (¬1). ومن القليل: الرجل الذي روى قصته الدينوري عن الأصمعي قال: دخل سليمان بن عبد الملك مسجد دمشق، فرأى شيخاً كبيرًا، فقال له: يا شيخ! أيسرك أن تموت؟ قال: لا. قال: وَلِمَ وقد بلغت من السن ما أرى؟ قال: ذهب الشباب وشرُّه، وجاء الكبر وخيره، فإذا قعدت ذكرت الله تعالى بالطاعة ومكارم الأخلاق، وقِصَر الأمل، والزهد والتقوى، وإذا نمت حمدت الله تعالى، فأحب أن تدوم لي هاتان الخصلتان (¬2). ¬
تنبيه
* تَنْبِيهٌ: روى أبو نعيم عن محمد بن سوقة قال: لقيني ميمون بن مهران رحمه الله تعالى فقلت: حياك الله، فقال: هذه تحية الشباب؛ قل بالسلام (¬1). أي: هذه تحية الشباب الذين لا يلتفتون إلى المحافظة على السنة؛ إذ التحية: السلام عليكم، وليس يريد أن هذه التحية مطلوبة من الشباب، ومثل هذا يقع كثيرًا في كلام العقلاء، ينهون الطاعن في السن عن الشيء ويوبخونه على الكبر، لا تقريراً للشباب على ذلك، ولكن إشارة إلى أن وقوع مثله من الشبان يتفق على مقتضى الشبيبة، فلهم عذر في الجملة بخلاف أولي الأسنان والأحلام. * تَتِمَّةٌ: يستثنى مما أشرنا إليه من ذم تشبه الكهل والشيخ بالشاب: ملاعبة الرجل لحليلته لما في ملاعبتها من توفير الشهوة وتنميتها، وهو يقتضي اعتدال خلق الولد الذي طلبه أصل مشروعية النكاح، ويقتضي قضاء وطر المرأة الذي به يحصل إعفافها المطلوب بالنكاح أيضًا. وقد أخرج الدينوري بسند صحيح، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا ¬
التمس ما عنده وجد رجلًا (¬1). قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى - وهو أحد رواته -: وبلغنا عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أنه كان من أفكه الناس في أهله، وأزينهم إذا جلس مع القوم (¬2). وروى البزار عن عطاء رحمه الله تعالى قال: رأيت جابر بن عبد الله، وجابر بن عمير؛ يقول أحدهما لصاحبه رضي الله تعالى عنهما: أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ اللهِ فَهُوَ سَهْوٌ وَلَهْوٌ إِلاَّ أَرْبعاً: مَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الغَرَضَيْنِ، وَتأْدِيْبُهُ فَرَسَهُ، وَتَعْلِيمُهُ السِّباحَةَ، وَمُلاعَبَتُهُ أَهْلَهُ". قال البزار: لا يعلم جابر بن عمير رضي الله تعالى عنه إلا هذا الحديث (¬3). قال السيوطي: وقد أخرجه الطبراني في "معجمه الكبير"، وإسناده صحيح (¬4). وكذلك ملاءمة الصبي الصغير بما يناسبه ويروح خاطره؛ فإنه ¬
حسن من الشاب والشيخ. وروى البزار، والطبراني في "الصغير"، و"الأوسط" بسند جيد، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أفكه الناس مع صبي (¬1). وروى أبو القاسم البغوي من حديثه رضي الله تعالى عنه قال: ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال والصبيان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). والحديث في "صحيح مسلم" دون قوله: والصبيان (¬3). وكذلك ممازحة الإخوان وملاطفتهم في بعض الأحيان؛ فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمزح ولا يقول إلا حقًا (¬4). وروى أبو نعيم عن قرة بن خالد قال: قلت لمحمد بن سيرين: هل كانوا يتمازحون؟ فقال ما كانوا إلا كالناس؛ كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يمزح، وينشد الشعر، ويقول: [من الوافر] يُحِبُّ الْخَمْرَ مِن كِيسِ النَّدامَى ... وَيكْرَهُ أَنْ تُفارِقَهُ الْفُلُوسُ (¬5) ¬
وروى عبد الرزاق عن قتادة قال: سئل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: هل كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال (¬1). *** ¬
فصل
فَصْلٌ وأما تشبه الشاب بالكهول والمشايخ في العلم، والعبادة، والنطق بالحكمة، وجودة الرأي، ونحو ذلك، فإنه محمود بشهادة الأحاديث إلا في طلب الرئاسة. فقد قال الشافعي - رضي الله عنه -: مَنْ طلبَ الرئاسة فرت منه، وإذا تصدر الحديث فاته علم كثير. رُويناهُ في كتاب "توالي التأنيس بمناقب ابن إدريس" للحافظ أبي الفضل بن حجر (¬1). وروى أبو نعيم عن سفيان رحمه الله تعالى قال: إذا ترأس الرجل سريعاً أضر بكثير من العلم، وإذا طلب وطلب بلغ (¬2). وهذا ما لم يشهد للشاب أكابر الناس - وهم العلماء - باستحقاق الرئاسة كما أشار الإمام مالك إلى الشافعي - رضي الله عنهما - بأن يفتي وهو ابن ثلاثَ عشرةَ سنة، وكان يعظمه شيوخ عصره كالإمام أحمد، ¬
وغيره (¬1)، وكما أشار السري السقطي إلى الجنيد رحمهما الله تعالى أنه يتكلم على الناس وهو شاب، وكان يتكلم على الأكابر مثل أبي سعيد الخراز، وخير النساج (¬2). وقد قيل: [من الطويل] وَكَمْ مِنْ صَغِيرٍ صادَفَتْهُ عِنايَةٌ ... مِنَ اللهِ فَاحْتاجَتْ إِلَيْهِ الأَكَابِرُ وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه إلى اليمن وهو في سن الشباب، وشهد له بأعلميته بالحلال والحرام، ورغَّبه في التعليم فيما رواه الإمام أحمد عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له حين بعثه إلى اليمن: "لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا واحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ" (¬3). وفي "الصحيحين" من حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكان أيضًا شاباً (¬4). وبذلك احتج يحيى بن أكثم القاضي حين ولي قضاء البصرة ¬
وسنه عشرون سنة ونحوها، فاستصغره أهل البصرة، فقالوا: كم سن القاضي؟ فعلم أنه قد استصغر، فقال: أنا أكبر من عَتَّاب بن أسيد الذي وجه به النبي - صلى الله عليه وسلم - قاضياً على مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي - صلى الله عليه وسلم - قاضياً على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب قاضياً على أهل البصرة، فجعل جوابه احتجاجاً. ذكره ابن خلكان (¬1). قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ولَّى عَتَّاب بن أسيد مكة بعد فتحها وله إحدى وعشرون سنة، وقيل: ثلاث وعشرون سنة، وكان إسلامه يوم فتح مكة (¬2). وقال الدينوري في "المجالسة": حدثنا إسحاق بن ميمون، ثنا أحمد بن موسى قال: كان فتى يجالس الثوري ولا يتكلم، فأحبَّ سفيان أن يسمع كلامه، فمر به يومًا فقال له: يا فتى! إن من كان قبلنا مروا على الخيل وبقينا على حمر دبرة. فقال له الفتى: يا أبا عبد الله! إن كنا على الطريق فما أسرعَ لحوقَنا بالغير (¬3). ¬
ولعل بلوغ المرء في شبابه الدرجات العلى، وقعود الأكابر عنه أمران: الأول: عناية الله تعالى، وهي أعظم الأمرين كعناية الله تعالى لعيسى ويحيى عليهما السلام. قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]. وروى ابن أبي الدنيا في "الحذر" عن راشد بن سعد رحمه الله تعالى قال: نظر عيسى عليه السلام إلى غلام لم يدرك قد نحل جسمه فقال: ما الذي صيرك إلى ما أرى؟ قال: والله ما بي من السقم، ولكني أخاف أن أكبر فأعصي الله. والثاني: حرص الوالدين، أو الولي على أدب الصغير وتعليمه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نَحَلَ والِدٌ وَلَدَهُ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ". رواه الترمذي، والحاكم وصححه، من حديث عمرو بن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى الترمذي عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يُؤَدِّبَ أَحَدُكُمْ وَلَدَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصاعٍ" (¬2). ¬
وجاء في تفسير قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]؛ أي؛ علِّموهم، وأدِّبوهم (¬1). وروى الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ فِي صِغَرِهِ كَالنَّقْشِ عَلى الْحَجَرِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ فِي كِبَرِهِ كَالَّذِي يَكْتُبُ عَلى الْماءِ" (¬2). وأنشدوا: [من البسيط] حَرِّضْ بَنِيْكَ عَلى الآدابِ فِي الصِّغَرِ ... كَيْما تَقَرَّ بِهِ عَيناكَ فِي الْكِبَرِ وَإِنَّما مَثَلُ الآدابِ يَحْفَظُها ... فِي عُنْفُوانِ الصِّبا كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ فَقَدْ أُوْتِيَ الْحُكْمَ صَبِيًّا" (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَهُوَ فَتِيُّ السِّنِّ خَلَطَهُ اللهُ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ" (¬4). ¬
وروى أبو عبيد القاسم بن سلام عن كعب الأحبار قال: إن في التوراة: إن الفتى إذا تعلم القرآن وهو حديث السن، وحرص عليه، وتابعه، خلطه الله تعالى بلحمه ودمه، وكتبه عنده من السَّفَرة الكرام البررة، فإذا تعلم الرجل القرآن وقد طَعَن في السن فحرص عليه، وهو في ذلك يتابعه ويتفلت منه، كتب له أجره مرتين (¬1). وروى الدارمي، والبيهقي في "المدخل" عن شرحبيل بن سعد قال: دعا الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه وعن أبيه - بنيه وبني أخيه رضي الله تعالى عنهم فقال: يا بني، ويا بني أخي! إنكم صغار قوم أوشك أن تكونوا كبار آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه - أو قال: يحفظه - فليكتبه، وليضعه في بيته (¬2). وروى أبو نعيم عن هشام بن عروة رحمهما الله تعالى أنه قال: يقول لبنيه: يا بني! تعلموا؛ فإنكم إن تكونوا صغراء قوم عسى أن تكونوا كبراءهم، واسوأتاه ماذا أقبح من شيخ جاهل (¬3)؟ وروى الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: أنه وقف على حلقة من قريش فقال: ما لكم قد طرحتم هذه الأغيلمة؟ لا تفعلوا، وأوسعوا لهم في ¬
المجلس، وأسمعوهم الحديث، وأفهموهم؛ فإنهم صغار قوم أوشك أن يكونوا كبار قوم، وقد كنتم صغار قوم فأنتم اليوم كبار قوم (¬1). وعن ابن المبارك رحمه الله تعالى: أنه كان إذا رأى صبيان أصحاب الحديث وفي أيديهم المحابر يقربهم، ويقول: هؤلاء غرسنا الذين أخبرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَزالُ اللهُ يَغْرِسُ فِي هَذا الدِّينِ غَرْساً يَشُدُّ الدِّينَ بِهِم" (¬2). هم اليوم أصاغركم، ويوشك أن يكونوا أكابر من بعدكم (¬3). ولصالح بن عبد القدوس: وَإِنَّ مَنْ أَدَّبْتَهُ فِي الصِّبا ... كَالْعُودِ يُسْقَى الْماءَ فِي غَرْسِه حَتَّى تَراهُ مُوْرِقاً ناضِراً ... بَعْدَ الَّذِي أَبْصَرْتَ مِنْ يُبْسِهِ (¬4) وأنشد الماوردي في "أدب الدين والدنيا" لبعضهم: [من البسيط] إِنَّ الْغُصُونَ إِذا قَوَّمْتَها اعْتَدَلَتْ ... وَلا يَلِينُ إِذا قَوَّمْتَهُ الْحَطَبُ قَدْ يَنْفَعُ الأَدَبُ الأَحْداثَ فِي مَهَلٍ ... وَلَيْسَ يَنْفَعُ بَعْدَ الشَّيْبَةِ الأَدَبُ (¬5) ¬
ولنفطويه: [من الطويل] أَرانِيَ أَنْسى ما تَعَلَّمْتُ فِي الْكِبَرْ ... وَلَسْتُ بِناسٍ ما تَعَلَّمْتُ فِي الصِّغَرْ وَما الْعِلْمُ إِلاَّ بِالتَّعَلُّمِ فِي الصِّبا ... وَما الْحِلْمُ إِلاَّ بِالتَّحَلُّمِ فِي الْكِبَرْ وَلَوْ فَلَقَ الْقَلْبَ الْمُعَلِّمُ فِي الصِّبا ... لألْفِيَ فِيهِ الْعِلْمُ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرْ وَما العِلْمُ بَعْدَ الشَّيْبِ إِلاَّ تَعَسُّفٌ ... إِذا كَلَّ قَلْبُ الْمَرْءِ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرْ وَما الْمَرْءُ إِلاَّ اثْنانِ عَقْلٌ وَمَنْطِقٌ ... فَمَنْ فاتَهُ هَذا وَهَذا فَقَدْ دمر (¬1) فينبغي للأب أن يراقب ولده من أول الأمر، فلا يستعمل في رضاعه وحضانته إلا امرأة صالحة متحرزة من كل الحرام لئلا ينبت لحمه من السُّحت، فيميل طبعه إلى ما يناسب الخبائث. ومهما ظهرت عليه مخايل التمييز فينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ما يظهر عليه من الأخلاق مخايل الحياء، فإذا كان الصبي يستحيى من بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه، ¬
وهو مبشر بكمال العقل منه عند البلوغ، وقد قل أن يكون صبي بهذه الحالة. وروى أبو نعيم عن وهب رحمه الله تعالى قال: إذا كان في الصبي خلقان - الحياء، والرهبة - طمع في رشده (¬1). وقال القاضي أبو الحسن الماوردي في "أدب الدين والدنيا": رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقلت: يا رسول الله! أوصني. فقال: "اسْتَحْيِ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَياءِ". ثم قال لي: "تَغَيَّرَ النَّاسُ". قلت: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ الصَّبِيِّ فَأَرى فِيهِ الْبِشْرَ وَالْحَياءَ، وَأَنا أَنْظُرُ اليَوْمَ فَلا أَرَى ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ". انتهى (¬2). والصبي المستحيي لا ينبغي أن يترك، بل يربَّى حياؤه بتقبيح ما يستقبح عنده. وانظر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحسن رضي الله تعالى عنه وقد أخذ تمرة من تمر الصدقة: "كخ كخ! ارْمِ بِها، أَما شَعَرْتَ أَنَّا لا نأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟ " رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬3). ¬
ومتى استقبح ما قبحته عنده، وأنف منه ورجع عنه، كان ذلك من لطف الله تعالى أمارة على أهليته للخير في كبره. وذكر ابن المبارك في "الزهد": أنه (¬1) سأل معمراً رحمه الله تعالى عن هذه الآية: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، فقال: بلغنا أن الصبيان قالوا ليحيى بن زكريا عليه السلام: اذهب بنا نلعب، قال: ما للعب خُلقت (¬2). أشار معمر إلى أن معنى (الحكم) في الآية: الحكمة؛ فإن قول يحيى عليه السلام: ما للعب خلقت مِنْ أبلغ الحِكَم. فمتى أدرك الصبي قُبحَ القبيح فاجتنَبه، فقد بدت بَوادِهُ الحكمة في سره، وبَرَقَت بوارقها في قلبه. وأول ما يغلب على الصبي شره الطعام، فينبغي أن يؤدب فيه فيؤمر أن لا يأخذ الطعام إلا بيمينه، ويقول: بسم الله، ويأكل مما يليه، ولا يبادر إلى الطعام قبل غيره، ولا يحدق إليه، ولا إلى من يأكل، وأن يتأنى، ولا يلوِّث ثوبه، ويعلم تشمير الثوب عند الطعام، والجلوس معتدلاً من غير اتكاء، ويعود الخبز وحده لئلا يرى الإدام حتماً، ويقبح عنده كثرة الأكل، ويحبب إليه الإيثار بالطعام، وعدم الاهتمام به. ¬
وتأمل فيما رواه الشيخان، وابن ماجه عن عمر بن أبي سلمة رضي الله تعالى عنه وعن أبويه قال: كنت غلاماً في حجر رسول - صلى الله عليه وسلم -، وكانت يدي تطيش في الصحف، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا غلامُ! سَمِّ الله، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ" (¬1). وينبغي أن يعلمه النظافة، ويحسنها له في الثوب والبدن والمجلس، ويحبب إليه الثياب البيض والثياب الخشنة دون الملونات والحرير - وإن كان ذلك مباحًا - ويعرفه أن ذلك يلبسه النساء والمخنثون ليعتاد التمعدد والرجولية. فأما الصبية فلا بأس بإلباسها شيئًا من ذلك، ويُحفظ الصبي عن معاشرة الصبيان الذين عودوا التنعم والترفه ولبس الثياب الفاخرة، وعن مخالطة كل من يخشى من سريان طبعه إليه. وقد روى الدينوري في "المجالسة"، ومن طريقه الحافظ ابن عساكر في "تاريخه" عن سليمان بن داود اليحصبي قال: رأيت محمد ابن الفضل الدمشقي - وكان من نبلاء الصوفية ورؤسائهم - يضرب ابناً له صغيراً، فقمت إليه لأخلصه منه، فقال: إليك عني؛ فإني أحب أن أبلغ من عقوبته اليوم أمراً أرضي الله به. فقلت: وما قصته؟ قال: رأيته يضحك إلى غلام من أقرانه. ¬
قلت: وما أنكرت من ذلك؛ صبي ضحك إلى تِرْبه؟ فقال: أكره أن أجرئه على معاصي الله، فيأتي اليوم صغيرة ويركب غداً كبيرة (¬1). وإنما الحديث على ما ينشأ عليه من الخير والشر؛ فإنه زجر عن الشر في صغره تخطاه في كبره، وإن هو ترك عليه تمادى في غيه، ولم يشك إلا أنه الأمر الذي ندب إليه. وروى أبو نعيم عن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: أبصر أبو الدرداء رجلًا وقد زوق ابنه فقال: زوقوهم بما شئتم؛ فذلك أغوى لهم (¬2). ثم ينبغي أن يشغله بتعليم القرآن والكتابة، ويسمعه أحاديث الأخيار والأبرار، وحكايات الصالحين لينغرس حب الصالحين في قلبه، فيرغب في اتباعهم والاهتداء بهديهم، ويُحفظ عن الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، ومدح الخمر، وذكر الهزل والمجون؛ فإن ذلك يزرع في قلبه بذر الفساد، ويحسن له سبيل أهل الغي. وإذا ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يحمد به، ويستحسن منه، ويُكرم عليه، فإن خالف ذلك مرة فينبغي أن يتغافل عنه، ولا يكاشف به، خصوصاً إذا ستره الصبي واستخفى به، ¬
فإن عاد إليه مرة أخرى عوقِبَ عليه سراً، وهُوِّلَ عليه فيه، ويقال له: إياك أن يطلع عليك أحد وأنت كذلك فتفتضح! ولا يكثر عليه الملامة فيهوِّن عليه سماعَها وركوبَ القبائح. والإفراط في ذلك ربما أوجب في الصبي القحة والجرأة، وربما حملته عرامة نفسه على التجاهر بما كان يستخفي منه، والشيء إذا تجاوز عن حده يعكس إلى ضده. وليحفظ الأب نفسه الكلام معه، ولا يوبخه إلا أحياناً، وينبغي للأم أن تخوفه من الأب، ولهما أن يخوفاه من المؤدب والمعلم، وينبغي للأم أن تزجره عن القبائح، وتحذره أن يطلع أبوه عليها، ويحذره الأب من اطلاع مؤدبه على قبائحه، ويعظم مقام المؤدب عنده، ويمنع من كثرة الكلام، بل ينبغي لأمه أن تعلمه السكوت والأدب في حضور أبيه ليربو معه هذا الأدب مع أبيه ومع غيره، وتعلمه الأدب في الخطاب والجواب، وحسن المعاشرة، وأن لا يتكلم في أمر مع وجود أكبر منه، ويعلمه والده أن لا يتكلم في مجلس الرجال، بل يسكت ولا يبادرهم بالكلام، بل يكون كلامه جواباً. روى ابن أبي الدنيا في "الصمت" عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال: كان إذا تكلم الحَدَث عندنا في الحلقة آيسنا من خيره (¬1). وينبغي أن يمنع من نوم النهار؛ فإنه يُورث الكسل، اللهم إلا أن ¬
يعلم القيلولة. ويمنع من استيفاء الليل في النوم، ومن النوم عند طلوع الفجر، وفي وقت الضحى، وبعد العصر لما ورد مما يدل على كراهية ذلك. وُيعَوَّد خشونة المفرش، والأكل، والقيام في أمر نفسه، والقيام في خدمة من يستحق الخدمة من أب أو شيخ، ولا يترك في رفاهيته، ولا يتابع في رأيه، ولا يستناب في شيء، بل يعلم الاستشارة والتأني، ويمنع من العجلة؛ فإن كمال الرأي تابع لكمال العقل، وإنما يتم العقل بالبلوغ، ومن هذا كانت إمارة الصبي مذمومة. أنشد الإمام أبو بكر الشاشي لبعضم كما رواه ابن السمعاني: [من الكامل] شَيْئانِ يَعْجَزُ ذُو الرِّياضَةِ عَنْهُما ... رَأْيُ النِّساءِ وَإِمْرَةُ الصِّبْيانِ أَمَّا النساءُ فَمَيْلُهُنَّ إِلَى الْهَوى ... وَأَخُو الصِّبا يَجْرِي بِكُلِّ عِنانِ (¬1) وينبغي أن يمنع مما يستخفي به لئلا يتعود الجرأة على القبيح، ويعرف أن الله تعالى يطلع على ما يفعله العبد سراً، ويؤاخذه بفعله القبيح سراً أو جهراً لتنغرس التقوى والخوف من الله تعالى في قلبه. وَيُعَوَّد المشي والحركة في بعض النهار لئلا يغلب عليه الكسل، ويُنهى عن الإسراع في المشي، ويؤمر بأن ينظر إلى ما بين يديه حين ¬
يمشي لئلا يعثر أو يؤذى، ويُخَوَّف من الأمور المَخُوفة حالًا ومآلاً، ويمنع من الافتخار على أقرانه بشيء مما يملكه أبوه، أو بمطعمه، أو ملبسه، أو لوحه، أو دُواته، أو بحَسَبه أو نسبه، أو جاه أبيه أو قريبه. وُيعَوَّد إلى التواضع والتلطف في الكلام، والعفو، والسخاء، والامتناع عن الأخذ من الصبيان أو غيرهم. وُيقَبَّح له حب الدرهم والدينار، ويُعَرَّف أن الرزق مقسوم، ويُعَلَّم التوكل على الله، وانتظار ما عنده، والسؤال منه لا من غيره، ويُمْنَع عن الطلب من الناس إلا من أبيه أو من يتولَّى أمره. وُيمْنَع من التأنث في الكلام، ومن كثرة الكلام، ومن كثرة الأيمان، ومن اليمين مطلقًا ولو كان صادقاً. ويُعَلَّم تعظيم الأكابر والتأدب معهم والقيام لهم، وأن يجلس بين أيديهم متأدباً على ركبه، مسكناً أطرافه، مطرقاً ببصره، ويُمْنَع من لغو الكلام وفحشه، ومن اللعن والسب، ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك، ويُقَبَّح إليه البصق، والامتخاط، والتجشؤ، والتثاؤب في حضور غيره، ويُحَذَّر من الحُصاص والإضراط بفمه، والإشارة بيده إلى غيره بإساءة الأدب، وأن يستدبر غيره، أو يمد رجليه بين يدي غيره، أو يضع رجلًا فوق أخرى ولو كان خاليًا وحده، أو يضرب بيده تحت ذقنه، أو يعتمد على ساعديه برأسه؛ فإن ذلك دليل الكسل، بل يمنعه مطلقًا من العبث والولع بالشيء خصوصاً بحضرة الناس، ويُعَلَّم كيفية الجلوس.
ويُعَلَّم طاعة أبيه وأمه وبرهما، ويُمْنعَ من سوء الأدب معهما، وأن يتأدب مع معلمه ومؤدبه ومن هو أكبر منه، وأن ينظر إليهم بعين الجلالة والمهابة والتعظيم، ويُعَلَّم مواساة إخوانه ومحبتهم وإيثارهم، ويُقَبَّح إليه الاستئثار عنهم بل مطلقاً، ومهما أساء إلى أحد من إخوته أو غيرهم أُدِّبَ أو عوقب، وإذا ضربه أبوه أو معلمه فينبغي أن يصبر على ذلك، ويُنْهَى عن الجزع والصخب، ويُعَرَّف أنه دأب النساء والمماليك، ولا يذم معلمه في حضرته على ضربه، ولا يعاتب عليه بحضوره، بل يمدح ويشكر، وينسب إلى التقصير في التربية.
فصل
فَصْلٌ أول ما ينبغي أن يعلمه الصبي - ومثله الصبية - في أوائل ظهور مَخَايل التمييز عليه: ذكر الله تعالى، وتعظيمه، ويربى جلال الله عنده، وليحمله على ذكر الله تعالى إذا نابه أمر، ويعلمه أن يسأل من الله تعالى حاجته إذا طلب من أمه أو أبيه شيئًا بأن يقول له: قل: يا الله! يا رب! حتى يجيئك ما تطلب، وليزجره عن سؤال الناس، والأخذ منهم، والتلفت إلى شيء مما في أيديهم، وعن طلب مثل ما يرى مع أهل سنه من شيء، ويعرِّفه أن ذلك لا يليق إلا بالأراذل والأسافل بإشارة يفهمها، وإذا علَّمه والده أو أسلمه للمعلم، فأول ما ينبغي أن يلقن: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]؛ لما رواه عبد الرزاق عن عبد الكريم ابن أبي أمية قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغلام من بني هاشم إذا أفصح سبع مرات: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 111] إلى آخر السورة (¬1). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن عبد الكريم، عن عمرو بن شعيب قال: كان الغلام إذا أفصح من بني عبد المطلب علَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية سبع مرات: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 111] (¬1). وروى الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب "البر والصلة" عن إبراهيم التيمي قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا الصبي أول ما يُعْرِب أن يقول: لا إله إلا الله سبع مرات (¬2). ورواه ابن السني عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده متصلاً (¬3). وهذا أولى، وأحسن مما اعتاده المعلمون من أنهم أول ما يعلمون الصبي هجاء أبي جاد (¬4)؛ فإنها أسماء ملوك تقدموا (¬5)، فحَمْدُ الله وتوحيدُه أحق ما تمرَّن عليه الصبي. وكان شيخنا العبد الصالح الورع الزاهد يحيى المغربي الغماري المالكي رحمه الله تعالى أول ما يعلم الصبي هجاء البسملة، وهو أول ما يكتب للصبي في لوحه، ثم يعلمه سورة الفاتحة، ولا يعلمه هجاء أبي جاد. ¬
ولقد أحسن في ذلك غاية الإحسان، وأجاد للتيمن بكتاب الله تعالى، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ أَمْرٍ ذِي بالٍ لا يُبْدَأُ فِيهِ بِـ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ". وفي رواية: "بِالْحَمْدِ لِلّهِ". أخرجه أبو داود، والحافظ ابن هانئ في "الأربعين"، وغيرهما (¬1). وكان شيخنا المذكور يعلم الصبي تجويد القرآن من أول الهجاء شيئاً بعد شيء، ويعلمه المدود والوقوف، وكان رحمه الله تعالى من أولياء الله تعالى. ولا بأس برشوة الصبي على التعلم، وإتحافه إذا أحسن شيئًا مما يعلمه بطرفة أو نحوها مما يسرُّه ويَلَذُّ به، فإذا عقل عرَّفه أن العلم والدين ينبغي أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى. وقد روى الخطيب عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال: قال لي أبي: يا بني! اطلب الحديث، وكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم، فطلبت الحديث على هذا (¬2). وكان والدي شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد أن أمرني بصوم رمضان وأنا في السنة السابعة من عمري - وهي سنة أربع وثمانين وتسع مئة - يقول لي: كلما صمت يومًا أعطيتك درهماً، فصمت رمضان كله إلا يومين أو ثلاثة. ¬
وتوفي شيخ الإسلام بعد رمضان المذكور في أواخر شوال. وإذا بلغ الصبي سن التمييز فلا ينبغي أن يسامح في ترك الطهارة والصلاة، ويؤمر بالصوم في رمضان ولو أياماً بحسب حاله، ويُعلَّم كل ما يحتاج إليه من حدود الشرع وأحكامه، ويرغَّب في ذلك، ويخوف من الله تعالى، ويحذر من السرقة وأكل الحرام، ومن الكذب، والنميمة، والفحش في كل ما يغلب على الصبيان. قال الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]. قالوا: يا رسول الله! كيف نقي أهلنا ناراً؟ قال: "تَأْمُرُونَهُمْ بِما يُحِبُّ اللهُ وَتَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا يَكْرَهُ الله" (¬1). وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية: علموا أنفسكم وأهليكم الخير، وأدبوهم (¬2). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الآية: اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بالذِّكر ينجيكم الله من النار (¬3). رواهما ابن جرير، وابن المنذر، وغيرهما، وصحح الحاكم ¬
حديث علي رضي الله تعالى عنه. وأراد ابن عباس بالذكر قراءة القرآن، وأمرهم بذكر سطوة الله وعقابه، ورحمته وثوابه. وأهل الرجل خاصته من زوجة، وولد، وخادم. وروى ابن أبي شيبة عن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: إذا علَّمتُ ولدي القرآن، وأحججته، وزوَّجته، فقد قضيت حقه، وبقي حقي عليه (¬1). وروى البيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَقُّ الوَلَدِ عَلى الوالِدِ أَنْ يُعَلِّمَهُ، أَنْ يُحْسِنَ أَدَبَهُ، ويحْسِنَ مَوْضِعَهُ، وَيُحْسِنَ اسْمَهُ" (¬2). وروى هو والحكيم الترمذي عن أبي رافع رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "حَقُّ الوَلَدِ عَلى والِدٍ أَنْ يُعَلِّمَهُ الكِتابَةَ، وَالسِّباحَةَ، وَالرِّمايَةَ، وَأنَ لا يَرْزُقَهُ إِلاَّ طَيِّباً" (¬3). ¬
والثلاثة الأولى خاصة بالغلام بدليل حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَلِّمُوا أَبْناكُمُ السِّباحَةَ وَالرِّمايَةَ، وَالْمَرْأَةَ الغَزْلَ". رواه الشافعي (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه، عن عبد الله ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُروا أَوْلاكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْناءُ سَبع سِنِيْنَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْها وَهُمْ أَبْناءُ عَشْرِ سِنِيْنَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضاجِعِ" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى: أن لقمان عليه السلام قال: ضرب الوالد لولده كالسَّماد للزرع (¬3). وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ يَراهُ أَهْلُ البَيْتِ" (¬4). وعن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير قال: قال سليمان بن ¬
داود عليهما السلام لابنه: يا بني! إن أردت أن تغيظ عدوك فلا تبعد عصاك عن ابنك (¬1). وبيان ذلك أنك إذا قربت العصا من ابنك، وعرضتها عليه، وضربته بها، وأدبته حتى تأدب بآدابه وكماله [اغتاظ] عدوك؛ لأن عدو المرء يحب أن يرى فيه وفي ولده السوء، ويكره أن يراه، أو يرى ولده على حال التوفيق، ونعت الكمال. وذكر جار الله الزمخشري في "الفائق": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى طعام دعي له فإذا حسين رضي الله تعالى عنه يلعب مع صبية في السكك، فاستل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمام القوم، فبسط إحدى يديه، فطفق الغلام يفر هاهنا وهاهنا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضاحكه حتى أخذه، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى في فأس رأسه، ثم أقنعه فقبله (¬2). قال الزمخشري: الصبوة والصبية: جمع صبي، والواو هي القياس. واستل: تقدم ليأخذ. وفأس الرأس: طرف القمحدوة المشرف على القفا. وأقنعه: رفعه (¬3). ¬
ولا بأس بالإغضاء عن الصبي في بعض الأحيان وهو في لهوه ولعبه، ولا تقام عليه حدود التأديب ولاء؛ لئلا ينفر طبعه عن التأدب، ويَسْأم من الخير. وقد روى أبو داود في "مراسيله" عن الزهري رحمه الله تعالى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رَوِّحُوا القُلُوبَ ساعَةً وَساعَةً" (¬1). وهذا في حق عموم الناس، فكيف بالصبي وضعف طبعه، وقلة احتياله؟ نعم، لا يُمَكَّن من لعبٍ فيه قمار، ولا من اللعب بالكلاب والقاذورات. وقد روى ابن أبي شيبة عن طاوس: أنه كان يكره القمار، ويقول: إنه من الميسر؛ حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب (¬2). وعن ابن سيرين: أنه مر على غلمان يوم العيد وهم يلعبون بالمِرْبد، وهم يتقامرون بالجوز، فقال: يا غلمان! لا تقامروا؛ فإن القمار من الميسر (¬3). ¬
وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "البر والصلة" عن إبراهيم - يعني النخعي - رحمه الله تعالى قال: كانوا يرخصون للصبيان في اللعب كله إلا في الكلاب (¬1). ومراده اللعب المباح. ومن السلف من كان يرى صيانة الولد عن اللعب مطلقًا. وروى ابن المبارك، وابن أبي شيبة عن بكر بن ماعز: أن الربيع ابن خُثيم رحمه الله تعالى أتته ابنة له فقالت: يا أبتاه! أذهب ألعب أبي؟ فسكت عنها، فلما أكثرت عليه قال له بعض جلسائه: لو أمرتها تذهب. قال: لا يكتب عليَّ اليوم أني أمرتها تلعب (¬2). فانظر كيف تورع عن قوله لصغيرة لا حرج عليها: اذهبي العبي؛ لئلا يوجد ذلك في صحيفته. وأين هذا ممن يحمل الصبي على اللعب واللهو، وإطالة اليد واللسان إليه وإلى غيره؟ ومثل ذلك من الإفراط، ولا يليق. ومن ثم قال محمد بن المكندر رحمه الله تعالى: لا تمازح ¬
الصبيان فتهون عليهم، ويستخفوا بحقك. رواه أبو نعيم (¬1). وهذا لا يعارض ما سبق من استحباب الممازحة مع الفتيان؛ لأن ذلك محمول على القليل من ذلك، وعلى الصغار جداً الذين لا يخشى من ممازحتهم الجرأة والوقاحة بأن كانوا غير مميَّزين. وعليه يحمل ما رواه ابن أبي الدنيا في "المداراة"، وابن عساكر - وقال: إنه غريب جداً - عن معاوية رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا دخل عليه فرأى صبياً على ظهره وهو يحبو على أربع، فقال: يا أمير المؤمنين! إن الناس لو رأوك على هذه الحالة لازدروك. قال: اسكت؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ كانَ لَهُ صَبِيٌّ فَلْيتَصابَ لَهُ" (¬2). وروى أبو يعلى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدلع لسانه للحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما، فيرى الصغير لسانه، فيهش إليه (¬3). وهذا ظاهر أن الحسين رضي الله تعالى عنه كان صغيراً جداً لا يدرك شيئًا أبلغ من البشاشة للسان. ¬
وروى ابن أبي الدنيا عن ابن أبي نجيح رحمه الله تعالى قال: كان الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما يركبان فوق ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقولان: حل حل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ البَعِيْرُ بَعِيْرُكُما" (¬1). وروى أبو يعلى، وأبو حفص بن شاهين في "السنة" عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: رأيت الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما على عاتقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: نعم الفرس تحتكما. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَنِعْمَ الفارِسانِ هُما" (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن أبي جعفر رحمه الله تعالى قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحسن والحسين وهو حاملهما على مجلس من مجالس الأنصار، فقالوا: يا رسول الله! نعم المطيَّة. قال: "وَنعْمَ الرَّاكِبانِ" (¬3). وعنه قال: اصطرع الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هِيْ حُسَيْنُ! " ¬
فقالت فاطمة رضي الله تعالى عنها: كأنه أحب؟ قال: "لا، وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ: هِي حُسَيْنُ! " (¬1). قلت: فيه دليل على أنه لا بأس بنصرة الصغير في مثل ذلك. وفي "الصحيح" من حديث أنس - رضي الله عنه - رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول لابن أبي طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه: "يا أَبا عُمَيْرٍ ما فَعَلَ النُغَيْرُ؟ " (¬2). ومحل ذلك كله فيمن هو دون سن التمييز، فأما بعد التمييز فقد أنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحسن - رضي الله عنه - أخذَه التمرة من الصدقة، وقال له: "كخ كخ! أَلْقِها" (¬3) كما سبق. على أنه يحتمل أنه قال لأبي عمير ما قاله وهو مميز لأنه علم أن ذلك لا يضر. والقول الفصل في ذلك: أن ممازحة الصبي والتنزل لعقله إنما يترخص فيها حيث علم أنها لا تضره ولا تجرئه، بل إنما تروح خاطره وتستعطفه. *** ¬
فصل
فَصْلٌ يجوز ويحسن أن يتولى الإنسان تأديب ولده وتعليمه بنفسه، لكن إذا دفع ولده إلى مؤدب أو معلم غيره كان ذلك أنفع له، وأقرب إلى أن يخاف الصبي منه؛ لأنه لا يخاف من أبيه ما يخاف من المؤدب والمعلم، لأنه يَعْهَد من والده من المودة والشفقة والتنزل إلى عقله بخلاف المؤدب والمعلم. وقد روى أبو نعيم عن المزني قال: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: لولا أن الله تعالى أعان على عرامة الصبيان مخافة المؤدبين ما انكسرت (¬1). وليختر الإنسان لولده معلماً دَيِّناً، عفيفاً، صالحاً، ملازماً للصلاة في أول وقتها، وَقوراً لا يمازح الصبيان، ولا يحادثهم بغير التعليم؛ فإنهم يقتدون بأفعاله أكثر مما يستفيدون من أقواله. روى اللالكائي في "السنة" عن أيوب رحمه الله تعالى قال: إن ¬
من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله تعالى للعالم من أهل السنة (¬1). وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه لمؤدبِ أولاد الرشيد وقد التمس منه أن يوصيه، فأقبل عليه فقال له: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك؛ فإنَّ أعينَهم معقودة بعينك، فالحَسَن عندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تستقبحه، علِّمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه، ولا تتركهم منه فيهجرونه، ثم رَوِّهم من الشعر أعَفَّهُ ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه؛ فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم. رواه أبو نعيم (¬2). ومن اللطائف: ما رواه أيضًا عن شريح القاضي رحمه الله تعالى: أنه كان له ولد يدع الكتاب ويُهارش الكلاب، فدعا بقرطاس ودواة، وكتب إلى مؤدبه: [من الكامل] تَرَكَ الصَّلاةَ لأَكْلُبٍ يَسْعَى بِها ... طَلَبَ الْهراشَ مَعَ الغُواةِ الرُّجَّسِ فَإِذا أَتاكَ فَخُصَّهُ بِمَلامَةٍ ... وَعِظَنْهُ مَوْعِظَةَ الأَدِيبِ الأَكْيَسِ وَإِذا هَمَمْتَ بِضَرْبِهِ فِبِدِرَّةٍ ... وَإِذا ضَرَبْتَ بِها ثَلاثاً فَاحْبِسِ وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ ما أَتيَتَ فَنَفْسُهُ ... مَهْما يُجْرِ عَنَّي أَعَزُّ الأَنْفُسِ (¬3) ¬
فائدة
وروى الخطيب في كتاب "الزهد والرقائق" عن أبي العباس بن مسروق قال: أنشدني بعض الأصحاب: اجْعَلْ تِلادَكَ فِي الْمُهِمِّ ... مِنَ الأُمُورِ إِذا اقْتَرَب حَسَنَ التَّبَصُّرِ ما اسْتَطَعْـ ... ـتَ فَإِنَّهُ نِعْمَ السَّبَب لا تَلْهُ عَنْ أَدَبِ الصَّغِيرِ ... وَإِنْ شَكا ألمَ التَّعَب وَدعِ الكَبِيرَ لِشَأْنِهِ ... كَبُرَ الكَبِيرُ عَنِ الأَدَب لا تَصْحَبِ النطفَ الْمُرِيبَ ... فَقُرْبُهُ إِحْدى الرِّيَب وَاعْلَمْ بِأَنَّ ذُنُوبَه ... تُعْدِي كَما يُعْدِي الْجَرَب (¬1) * فائِدَةٌ: روى ابن أبي الدنيا في كتاب "تعليم الصغار" عن عبد الله بن عيسى قال: لا تزال هذه الأمة بخير ما تعلَّمَ أولادُها القرآن (¬2). وعن ثابت بن العجلان قال: إن الله - عز وجل - ليريد بأهل الأرض العذاب، فإذا سمع أصوات الصبيان يتعلمون الحكمة فيرده عنهم. قال مروان بن محمد - أحد رواته -: الحكمة: القرآن (¬3). *** ¬
فصل
فَصْلٌ ومتى راهق الصبي أو بلغ استقل بنفسه في التأدب بالآداب الشرعية، وطلب العلم على الشيوخ المرضية، ووضع كل شيء في محله، ولا يدع تعاهده الأب أو الولي في هذه الحالة، بل يراقبه، فإن بلغ صالحاً لدينه ودنياه كان رشيداً، فتصح معاملاته من البيع والشراء، والسَّلَم، والإجارة، وغير ذلك، وإذا بلغ فعلى وليه أن يعرِّفه، وعليه أن يتعرف أنه قد صار مكلفاً؛ أي: مخاطباً بالأحكام الشرعية، موعوداً بالثواب على طاعاته، والعتاب [أو العقاب] على مخالفاته، وفي هذه الحالة يكون شاباً يحسن منه التشبه بالكهول والشيوخ الكُمَّل، ويبلغ أشده، ويستوفي شبابه ببلوغ ثمان وعشرين سنة. وقال النووي في "شرح مسلم" في كتاب النكاح: الشاب عند أصحابنا هو من بلغ ولم يجاوز ثلاثين سنة (¬1). وينتهي ببلوغ أربعين سنة، فينبغي أن يشغل نفسه بالطاعات من ¬
الصلاة والصيام، والحج، والعمرة، والتلاوة، وقيام الليل، وقضاء حوائج الناس - ولاسيما الضعفاء والشيوخ - وليكرم الأكابر وذوي الأسنان، ويوقرهم، ويرحم الأصاغير - ولاسيما الأيتام والمساكين والأرامل - ويحسن إليهم، وإلى الجيران والإخوان، وَيعْرِف لهم حقوقهم. روى الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَكْرَمَ شابٌّ شَيْخاً لِسِنِّهِ إِلاَّ قَيَّضَ اللهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ" (¬1). وروى الدينوري عن الحسن رحمه الله تعالى قال: من أحسن عبادة ربه في شبيبته لقاه الله الحكمة عند كبر سنه، وذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14] (¬2). وروى أبو نعيم عن شريح القاضي رحمه الله تعالى قال: حدثني البدريون - منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ شابٍّ يَدَعُ لَذَّةَ الدُّنْيا وَشَهْوَتَها، وَيَسْتَقْبِلُ بِشَبابِهِ طاعَةَ اللهِ تَعالَى إِلاَّ أَعْطاهُ اللهُ - عز وجل - أَجْرَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ صِدِّيقاً". ثم قال: "يَقُولُ اللهُ تَعالَى: يا أَيُّها الشَّابُّ التَّارِكُ شَهْوَتَهُ لِي! أَنْتَ ¬
عِنْدِي كَبَعْضِ مَلائِكَتِي" (¬1). وروى أبو بكر بن السني عن طلحة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ يُباهِي بِالشَّابِّ العابِدِ الْمَلائِكَةَ؛ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي تَرَكَ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي". وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ الله يُحِبُّ الشَّابَّ الَّذِي يُفْنِي شَبابَهُ فِي طاعَةِ اللهِ" (¬2). وروى الإمام عبد الله بن المبارك رضي الله تعالى عنه عن عتبة بن عبد السلمي - وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الشاب المؤمن لو أقسم على الله لأبره (¬3). وعن مريح بن مسروق قال: ما من شاب يدع لذة الدنيا وشهوتها، ويعمل شبابه لله تعالى إلا أعطاه الله - والذي نفس مريح بيده - أجر اثنين وسبعين صديقاً (¬4). وتقدم في رواية أبي نعيم موصولاً مرفوعًا، وقسم مريح لتحقق الحديث عنده. ¬
ثم روى ابن المبارك عن يزيد بن ميسرة قال: إن الله تعالى يقول: أيها الشاب التارك شهوته لي، المبتذل شبابه من أجلي! أنت عندي كبعض ملائكتي (¬1). وقد سبق في رواية أبي نعيم عن شريح نحوه، لكن هذا أتم. وقوله في هذه الرواية: المبتذل - بالذال المعجمة -: الذي يسمح بنفسه فيبذلها في الطاعة، أو الذي يمتهن نفسه في خدمة الله تعالى وطاعته. والبذلة: المهنة؛ من قولهم: ابتذلت الثوب، إذا لبسته في الخدمة ولم تصنه. وروى ابن أبي الدنيا عن حفصة رضي الله تعالى عنها: أن شابًا رأى في منامه أن شيخاً يمشي بين يديه، قال: فجعل يمشي بين يدي ولا ألحقه، قال: فالتفت إلي وقال: إني كنت سريعاً في الشباب. قال ابن أبي الدنيا: قلت لأزهر - يعني: ابن مروان -: ما يعني بذلك؟ قال: يقول: كنت سريعاً في العمل في الشباب. انتهى (¬2). قلت: يحتمل هذا الكلام وجهين: أحدهما: أن من كان سريعاً إلى طاعة الله في شبابه حفظ الله ¬
تعالى عليه قوته، فلا يَهْرَم. ويؤيده قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 5 - 6]. والثاني: أن العبد إذا كان مجتهداً في طاعة الله في شبابه أجرى الله تعالى عليه ثواب جَلَدِه وقوته حين يكون ضعيفًا عاجزاً، كما يجري عليه في مرضه وسفره ثوابُ ما كان يعمله من الصالحات في صحته وحضره. وهاتان فائدتان عظيمتان لطاعة الله تعالى في الشباب. ولهما فائدة أخرى عظيمة أيضًا: أن العبد إذا حفظ حق الله تعالى في شبابه، فقام بطاعته، وشكر نعمته، فلم يكفر بها بالمعصية، حفظ الله له حق شيخوخته، وقام بكفايته فيها، ولم يحوِجه إلى سؤال الناس والاستعانة بهم في شيء. روى الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته"، والحافظ ابن عساكر في "تاريخه" عن أبي بكر الرازي: أن أبا بكر الكتاني رحمه الله تعالى نظر إلى شيخ أبيض الرأس واللحية يسأل، فقال: هذا رجل أضاع حق الله في صغره، فضيَّعه الله في كبره (¬1). *** ¬
فصل
فَصْلٌ وإذا قصر الشاب في طاعة الله تعالى وهو صحيح قوي، فليتعرف أنه مسؤول عن شبابه وقوته وصحته، فينبغي أن يعد لهذا السؤال جواباً. روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَزُولُ قَدما ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيما أَفْناهُ، وَعَنْ شَبابِهِ فِيما أَبْلاهُ، وَعَنْ مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيما أَنْفَقَهُ، وَماذا عَمِلَ فِيما عَلِمَ" (¬1). لكن ذكر أبو عبد الله بن حفيف الشيرازي في كتاب "المسائل" عن بعض أهل العلم: أنه ورد في الروايات أن من حج على قدميه لم يسأل يوم القيامة عن شبابه فيما أبلاه. وليعلم الشاب أنه من أوفر الناس نصيباً من نعمتي الصحة والفراغ المغبون فيهما كثير الناس كما في الحديث (¬2) حيث كانتا ¬
محفوظتين عليه لأنهما في الشباب أمتن منهما، وأقوى فيما بعد الشباب؛ فإن صرفهما في الطاعة كان من أولى من يغبط بهما، وإن صرفهما فيما لا يجديه كان أغبن الناس فيهما. وأنشد البيهقي في "الشعب" في عقد الحديث المشار إليه لأبي عصمة محمد بن أحمد السجستاني: [من السريع] أَنْبَأَنا خَيَرُ بَنِي آدَمٍ ... وَما عَلى أَحْمَدَ إِلاَّ البَلاغْ النَّاسُ مَغْبُونونَ فِي نِعْمَةٍ ... صِحَّةِ أَبْدانِهِمُ وَالفَراغْ (¬1) فعلى الشاب أن يغتنم أيام الشباب والصحة والفراغ، فيصرفها في طاعة الله تعالى دون تُرَّهات الدنيا عملًا يقول - صلى الله عليه وسلم - لرجل وهو يعظه: "اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سُقْمِكَ، وَغِناكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَراغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَياتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ". صححه الحاكم من حديث ابن عباس على شرط الشيخين (¬2). ¬
وروى الطبراني، والحاكم وصححه، وغيرهما، عن قبيصة بن جابر: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال له: يا قبيصة! إني أراك شاباً حديث السن، فصيح اللسان، فسيح الصدر، إنه قد يكون في الرجل سبعة أخلاق صالحة فيغلب خلقه السيئ أخلاقه الصالحة؛ فإياك وعثرات الشباب (¬1). وروى أبو محمد التكريتي في "معرفة النفس"، والديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَضْلُ الشَّابِّ العابِدِ الَّذِي تَعَبَّدَ فِي صِباهُ عَلى الشَّيْخِ الَّذِي تَعَبَّدَ بَعْدَما كَبُرَتْ سِنُّهُ كَفَضْلِ الْمُرْسَلِينَ عَلى سائِرِ النَّاسِ" (¬2). ووجه التمثيل أن الشاب العابد في شبابه حفظ في شبابه من أوله كما عصم المرسلون من أول شبابهم. وروى أبو نعيم عن الفريابي قال: كان سفيان الثوري يصلي، ثم يلتفت إلى الشباب فيقول: إذا لم تصلوا اليوم فمتى (¬3)؟ وعن أبي المَليح قال: قال لنا ميمون بن مهران رحمه الله تعالى ونحن حوله: يا معشر الشباب! قوتَكم احفظوها في شبابكم، ونشاطَكم في طاعة الله تعالى، يا معشر الشيوخ! حتى متى (¬4)؟ ¬
فائدة
وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري عن الجنيد رحمه الله تعالى قال: سمعت السري رحمه الله تعالى يقول: يا معشر الشباب! جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي فتضعفوا وتقصُروا كما قصرت. قال: وكان في ذلك الوقت لا تلحقه الشباب في العبادة (¬1). * فائِدَةٌ: روى المعافى بن زكريا في "الجليس والأنيس" عن المأمون أنه قال: ما أقبح اللجاجة للسلطان، وأقبحُ والله من ذلك الضجر من القضاة قبل التفهم، وأقبحُ منه سخافة الفقهاء بالدين، وأقبحُ منه البخل بالأغنياء، والمزاح بالشيوخ، والكسل بالشباب، والجبن بالمقاتل (¬2). *** ¬
فصل
فَصْلٌ وإذا حصلت من الشاب زلة فلا ينبغي له التمادي في الضلال، و [لا يقل]: بالخير التؤدة، بل يبادر إليها؛ فإنه قد يؤخذ على غرة فجأة، وليعتبر بمن يموت شابًا، فليس كل الأموات شيوخاً، بل أكثرهم غير الشيوخ، ولا شك أن من أهل النار شيوخاً وشباباً. وقد روى الدينوري في "المجالسة" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إذا سكن أهل النار في النار سمعت للنار قعقعة في العظام منهم، فنادت: ما لكم من شباب! ما كان أحسن وجوهكم! وما لكم من شيوخ! ما كان أجملكم! ما أحسن زرعكم لو كان لكم حاسد غيري (¬1). والتوبة - وإن كانت سبب محبة الله تعالى للعبد كما قال الله - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]- فإن توبة الشاب لها مزية على توبة غيره، وهي أحب إلى الله تعالى من توبة غيره، ولذلك وقع النص على توبته. فيما رواه أبو الشيخ في كتاب "الثواب" عن أنس رضي الله تعالى ¬
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الشَّابَّ التَّائِبَ" (¬1). ورواه الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" بلفظ: "ما مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ شابٍّ تائِبٍ" (¬2). وروى أبو المظفر السمعاني في "أماليه" عن سلمان رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ تَعالَى مِنْ شابٍّ تائِبٍ، وَما مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضَ إِلَى اللهِ مِنْ شَيْخٍ مُقِيمٍ عَلى مَعاصِيهِ، وَما فِي الْحَسَناتِ حَسَنةٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ تَعالَى تُعْمَلُ فِي لَيْلَةِ جُمُعَةٍ أَوْ يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَما فِي الذُّنوبِ ذَنْبٌ أَبْغَضَ إِلَى اللهِ تَعالَى مِنْ ذَنْبٍ يُعْمَلُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ". وإذا كان للشاب مال يفصّل منه شيء يفضل عن كفايته وكفاية عياله وعن دينه، فينبغي أن يجود ويسخو به إفضالاً على الإخوان والجيران لأنه ادخار لهم، وصدقة على اليتامى والأرامل والمساكين؛ فإنه ذخيرة له في الآخرة. ويعوِّد نفسه مكارم الأخلاق، ومتى غلبت عليه حدة الشباب ¬
حسن منه التشبه بذوي الأسنان في رياضة الأخلاق، ويستحضر حينئذ الحديث: "خَيْرُ شَبابِكُمْ مَنْ تَشَبَّهَ بِكُهُولكُمْ" (¬1). وروى الحاكم في "تاريخه" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شابٌّ سَخِىٌّ حَسَنُ الْخُلُقِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ شَيْخٍ بَخِيلٍ عابِدٍ سَيِّئِ الْخُلُقِ" (¬2). وينبغي للشاب إذا خوَّله الله تعالى في الأموال أن لا يبطر بها، ولا يغتر بكثرتها فيصرفها في الملاذِّ المحرمة، أو يسرف فيها فيندم عند الحاجة إليها في كبره أو قبل كبره، ويعرض على نفسه أنه مفارق لها، ويبقى ثوابها أو عقابها، فلا يسترسل في هوى نفسه من المآكل والمشارب، والملابس والمراكب، فربما ألهاه ذلك عن ذكر الله تعالى؛ وكفى بذلك خسراناً. وقد قال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: كلُّ ما شغلك عن الله من أهل أو مال [أو ولد] فهو عليك شؤم (¬3). وإذا ولي ولاية، أو صار له جاه أو سلطان فلا يحمله ذلك على الغرور والتسلط على أموال الناس، أو أعراضهم، أو نفوسهم، ويمنع نفسه مما تدعو إليه نفوس الشبان من ذوي الحداثة والشباب، وأهل ¬
الجاهات والوجاهات، ومن لباس الحرير، وافتراش الديباج، والركوب على مياثر الإِبْريسم، واستعمال آنية الذهب والفضة، وشرب الخمور، واتخاذ القَينات والقِيان، وغير ذلك مما تذهب لذته وتبقى تبعته؛ فإن هذه الأمور قد تكون سبباً لمحق الأعمار، وخراب الديار، وتعجيل الدمار، والسَّوْق إلى النار. ولقد قيل: [من البسيط] تَفْنَى اللَّذاذَةُ مِمَّنْ نالَ صَفْوَتَها ... يَوْماً (¬1) وَيَبْقَى عَلَيْهِ الإِثْمُ وَالعارُ (¬2) وفي "تاريخ الخلفاء" للسيوطي، وغيره: عن يحيى الغَسَّاني قال: نظر سليمان بن عبد الملك في المرآة، فأعجبه شبابه وجماله، فقال: كان محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًا، وكان أبو بكر صديقاً، وكان عمر فاروقاً، وكان عثمان حيياً، وكان معاوية حليماً، وكان يزيد صبوراً، وكان عبد الملك سائساً، وكان الوليد جباراً، وأنا الملك الشاب، فما دار عليه الشهر حتى مات (¬3). فانظر كيف غر سليمان شبابه وسلطانه حتى ألحق نفسه في التمثيل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبخلفائه الراشدين، وأسقط اسم علي رضي الله تعالى عنهم منهم، ثم لوح لنفسه بطول المدة من حيث إنه في ريعان شبابه وفَورة سلطانه، وكان مماته أقرب شيء إلى ما تلفظ به. ¬
وأين هذا من يقظة عمر بن عبد العزيز في شبابه، واتصافه في سلطانه بالخوف من الله تعالى والاستقامة في نفسه، والعدالة في رعيته؟ ذكر الحافظ المزي في "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" عن صالح بن حسين (¬1) الصدئي الشامي الطبراني كاتب عمر بن عبد العزيز على الخراج والجند، وكان كتب ليزيد بن معاوية قال: ربما كلمت عمر بن عبد العزيز فيغضب، فأذكر ما في الكتاب: اتق غضب الملك الشاب، فلا أزال أرفق به حتى يذهب غضبه، فيقول لي بعد ذلك: ما يمنعك يا صالح ما ترى مني أن تراجعنا في الأمر إذا رأيته؟ وقال عمر بن عبد العزيز: وجدنا صالح بن حسين كاسْمِهِ (¬2). ولا ينبغي لمن وجد الشاب من أهله وهو أسن منه على غروره وبطره أن يخليه من رأيه ونظره، ويغفل عن نصيحته لقوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]. ورأى طاوس رحمه الله تعالى فتية من قريش وهم يرفُلُون في مشيتهم، فقال: إنكم لتلبسون لبسة ما كان آباؤكم يلبسونها، وتمشون مشية ما يحسن الزفافون (¬3) يمشونها. وقال ابن طاوس: قلت لأبي: إني أريد أن أتزوج فلانة. ¬
قال: اذهب فانظر إليها. قال: فذهبت فلبست من صالح ثيابي، وغسلت رأسي وادَّهنت، فلما رأى مني تلك الهيئة قال: اقعد ولا تذهب. رواهما أبو نعيم (¬1). وإنما منعه من الذهاب بعد ما أمره به لأنه لو ذهب في تلك الهيئة كانت هيئته غارَّة للمرأة وأوليائها لو رأوه في تلك الهيئة؛ إذ يظنون فيه فوق ما هو عليه؛ فانظر هذا الحذر، وتأمل هذا الورع! *** ¬
فصل
فَصْلٌ وينبغي للشاب أن يكون حريصاً على طلب العلم ولو ما يحتاج إليه فقط، وخصوصاً إذا قصَّر وليه في تعليمه في صغره، فإن طلب العلم يحتاج سلامة الطبيعة، وجَودة القريحة، وأكمل ما يكون ذلك في سن الشباب؛ فإن الشاب أخلى بالاً، وأصفى فكراً، وأفرغ قلباً. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما أوتي عالم علماً إلا وهو شاب (¬1). وليحذر كل الحذر طالب العلم في شبابه مما يطمس بصيرته، ويجمد قريحته، ويبدِّد فكره من الإكثار من الترفهات، وإيثار الدعات. وإياه، ثم إياه من استعمال ما يغمر عقله، ويفرق فكره من المسكرات والمصطلات؛ فإنها مصائب ابتلي بها أهل هذه الأعصار في سائر الأمصار، وهي تعجل للشاب الهرَم قبل الهرم، وتلحقه في ¬
صحته بأهل السقم بل بالعدم، وتمنعه من طلب العلم وفهمه، ولا اعتبار لما يزينه الشيطان اللعين لبعضهم من أن استعمال الكيف يشحذ الخواطر، وأن هذا محال وغلط وضلال. وهذه الأمور التي حذَّرنا منها هنا وفيما سبق هي التي شغلت كل الناس إلا أقل قليل في هذه الأزمنة عن طلب العلم، واستمالتهم إلى معاشرة أهل الجهل، ونشأ شبابهم على ما عليه كهولهم وشيوخهم، فكانوا جميعًا من الهالكين إلا غرباء منهم قليلين. وقد روى الإمام أبو الحسن علي بن أحمد بن يوسف القرشي الهكاري في كتاب "اعتقاد الشافعي" عن أبي عبد الله الفقيه المراغي: أنه أنشد للشافعي رضي الله تعالى عنه: [من البسيط] إِذا رَأَيْتَ شَبابَ الحَيِّ قَدْ نشَؤُوا ... لا يَنْقُلُونَ قِلالَ الحبْرِ وَالوَرقا وَلا تَراهُمْ لَدى الأَشْياخِ فِي حِلَقٍ ... يَعونَ مِنْ صالِحِ الأَخْبارِ ما اتَّسَقا فَدَعْهُمُ عَنْكَ وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ هَمَجٌ ... قَدْ بُدِّلوا بِعُلُوِّ الْهِمَّةِ الْحَمَقا (¬1) وليعلم أنه متى أخر العلم والتعلم إلى وقت الكبر، وقد مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - من يتعلم في كبره كمن يكتب على الماء (¬2)، ومحال أن يرتسم له على الماء خط، وكذلك بعد على الكبير أن يتعلم العلم. ¬
وروى الدينوري عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى: أنه قال في قصصه: ما أشد فطام الكبير. وأنشد: [من الكامل] أَتُروْضُ غَرْسَكَ بَعْدَما كَبِرَتْ ... وَمِنَ العَناءِ رِياضَةُ الْهَرِمِ (¬1) وروى الرامهرمزي في كتاب "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" عن أبي إسحاق قال: كان يختلف شيخ معنا إلى مسروق رحمه الله تعالى، وكان يسأله عن الشيء فيخبره، فلا يفهم، فيقول له: أتدري ما مثلك؟ مثل بغل هَرِمٍ حَطِمٍ جَرِبٍ دفع إلى رائض. فقيل له: عليه الهملجة (¬2). ومتى حصل الشاب رأس مال من العلم فلا يكتفي به ويمل من طلبه، ألا ترى أن الله تعالى يقول: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]؟ ولا يبادر إذا ما وجد من نفسه قوة التعليم فيتصدر حتى يمرَّن على العلم، وتشهد له الأكابر. فقد سبق عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أن الحَدَث إذا تصدر فاته علمٌ كثير (¬3). ¬
وقال بعض الحكماء: من طلب الرياسة قبل وقتها حُرِمها إذا جاء وقتُها. ومن أمثالهم: من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. وقال المروزي: كان المزي رحمه الله تعالى يقول: [قال الشافعي رحمه الله تعالى]: آفة المتعلم الملل، وقلة صبره على الدرس. وكان [أبو حامد] يقول: سبيل الحدث أن يدرس، وسبيل الشاب أن يتفهم، وسبيل الكهل أن يناظر، وسبيل الشيخ أن يعلم (¬1). وليستعن على طلب العلم بالتقوى والعمل بما يتعلمه أولًا فأولاً. قال الحسن كما تقدم: من أحسن عبادة الله في شبيبته لقَّاه الله الحكمةَ عند كبر سنه، وذلك قوله تعالى: {وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص: 14] (¬2). وروى ابن جهضم عن السري السَّقطي رحمه الله تعالى قال: يا معشر الشباب! اعملوا؛ فإن العمل في الشبيبة، ما يفوتني ورد فأقدر على إعادته (¬3). وقلت: [من الرجز] ¬
تنبيه
احْرِصْ عَلى عُمْرِكَ أَنْ تُضَيِّعَهْ ... فِي غَيْرِ طاعَةٍ وَعِلْمٍ وَدَعَةْ ما فاتَ مِنْهُ لا يَعُودُ لا وَلا ... دامَتْ لِعَبْدٍ راحَةٌ وَلا دَعَةْ طُوبَى لِمَنْ يَغْتَنِمُ الوَقْتَ إِذا ... نالَ شَباباً وَفَراغاً وَسَعَةْ * تَنْبِيهٌ: من تأمل في نَشْءِ هذا الزمان يرى لهم من العقول والأفكار ما لم يكن يراه لمن قبلهم، فتراهم يتأنقون في مآكلهم ومشاربهم، وملابسهم، وسائر أحوالهم بحيث تراهم أقوى إبداعاً، وأبلغ اختراعاً، وأتم وضعاً، وأليق زياً، غير أن عقولهم مصروفة إلى أحكام دنياهم، وفي أمور عاجلتهم، وهم عن الآخرة غافلون، وعما ينفعهم أو يضرهم ثَمَّ معرضون. وعلى ذلك يحمل ما ورد من نقص الأحلام والعقول عند قيام الساعة، فعقول أكثر الناس أو كلِّهم إلا الشاذ النادر بالنسبة إلى أمور الآخرة عارية ذاهبة، وبالنسبة إلى أمور الدنيا حاضرة باهرة، بل ترى الأطفال يبدو فيهم من بواده الإدراك والتمييز ما يحير العقول، ويبهر الأبصار. وقد روى أبو نعيم عن الشعبي رحمه الله تعالى قال: رُزِق صبيان هذا الزمان من العقل ما نقص من أعمارهم (¬1). ¬
ومعناه أن الزمان كما تأخر نقصت أعمار أهليه، لكن الله تعالى عوضهم عما نقص من أعمارهم ما تراه يزيد في عقولهم حتى ترى الأطفال الصغار ينجم فيهم التمييز والإدراك قبل إِبَّانه من أسلافهم، ثم كما شبوا كانت الفطنة والذكاء أتم فيهم من ذوي أسنانهم من السلف، لكن ترى أكثر ذكاء الشبان في هذه الأزمان مصروفة إلى اللهو واللعب، وسائر أمور الدنيا، وما لا يجدي منها إلا من شذ منهم ممن وفقه الله تعالى، والموفق في هذه الأزمنة وإن كان عزيزاً قليلاً فإن ثوابه كثير جليل؛ إذ صح الحديث بأن للعامل في زمان الصبر أجر خمسين من السلف، وهذا الزمان هو زمان الصبر والقبض على الجمر (¬1)، صبيهم عارم، وشابهم ظالم صارم، وشيخهم جهول، لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، بل الآباء والأولياء يرضون ممن في حجرهم وولايتهم بما هم فيه، لا يرشدونهم إلى صرف عقولهم فيما ينفعهم في آخرتهم. ¬
وهنا انتهى ما تيسر لنا من بيان ما يحسن من الشاب أن يتشبه فيه بالكهول والشيوخ. ***
فصل
فَصْلٌ في نَهْيِ الكُهُولِ والشُّيُوخِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالشُّبَّانِ وَالصِّبْيانِ فإذا بلغ العبد سن الكهولة، فالكهل كما في "القاموس": من وخطه الشيب؛ أي: من فشا فيه، أو استوى سواده وبياضه، أو من جاوز الثلاثين، أو أربعاً وثلاثين، أو (¬1) إحدى وخمسين (¬2). وقيل: إذا بلغ أربعين فهو كهل؛ نقله الفيومي في "المصباح المنير" (¬3). فلا ينبغي له التشبه بالشاب ومقتضياته التي أشرنا إليها. قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]. ¬
نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، كما رواه أبو بكر ابن مردويه، وابن عساكر، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬1). فانظر كيف أثنى الله تعالى عليه بما كان من خلقه - رضي الله عنه -؛ فإنه أسلم في هذا السن، وأسلم أبواه، فقال ما حكاه الله تعالى فيه، وطلب من الله سبحانه أن يوفقه ويلهمه الشكر على ما أنعم عليه وعلى والديه من نعمة الإسلام، وأن يوفقه للعمل بما يرضاه من الأعمال الصالحة، وأن يصلح له في ذريته، فأسلموا. ثم قال الله تعالى - مشيراً إلى من هذه أخلاقهم، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أولهم -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16]. فهذه وظيفة الكهل لأنه في سن كمل فيه عقله، وصفا فيه جوهره، ومن ثم بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثر النبيين على رأس الأربعين، وهو سن الكمال للصديقين والصالحين، فمن بلغ هذا السن وانحرف عن هذا السنن، فقد عاكس الحكمة، وخالف أهل الكمال، ودخل في سلك الضلال. ومن ثم جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَتَى عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ سَنَة فَلَمْ يَغْلِبْ ¬
خَيْرُهُ عَلى شَرِّهِ فَلْيَتَجَهَّزْ إِلَى النَّارِ". رواه أبو الفتح (¬1) الأزدي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). وروى ابن أبي حاتم، وغيره عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قلت لمسروق رحمه الله تعالى: متى يؤخذ الرجل بذنوبه؟ قال: [إذا] بلغتَ الأربعين، فخذ حذرك (¬3). ويروى عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: جاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الله تعالى أمر الحافظَين عليهما السلام، فقال لهما: ارفقا بعبدي في حداثته، حتى إذا بلغ الأربعين فاحفظا وحقِّقا (¬4). فأما إذا استقام على الطريقة الشرعية لتمام الأربعين فقد وافق الحكمة. أو من الحكمة أن يستوي في الْخُلُق من استوى خَلْقه. قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ¬
ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]. قوله: {مِنْ ضَعْفٍ}؛ أي: ابتدأكم ضعفاء. وقال قتادة: من ضعف: من نطفة. وكأن معنى قول قتادة من ذات ضعف؛ إذ أصلها ماء مهين. وقال في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا}: الهرم، {شَيْبَةً}: التعمر. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). ففي الآية إشارة إلى أن ضعف الإنسان الذي ابتدئ خلقه عليه يستصحبه ينتهي إلى قوة، وهي بلوغ الأشد بالإدراك، أو ببلوغ ثمان عشر سنة، أو ثمانية وعشرين سنة، أو ثلاثين على الأقوال في الأَشُدِّ. ثم قوته هذه تنتهي بعد استوائها ببلوغ ثلاثين سنة، أو أربعين إلى إحدى وخمسين على الخلاف أيضًا إلى ضعف، وهو الشيب والهرم. فسن الكهولة سن الكمال، فإذا لم يكمل فيه المرء في طريق آخرته فمتى يكون كماله؟ وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر: 67]. ¬
أَفردَ طفلاً على إرادة الجنس، أو على تأويل كل واحد منكم، واللام متعلقة بمحذوف تقديره: ثم يبقيكم بعد الإخراج لتبلغوا أشدكم؛ أي: يبقي من شاء منكم بدليل قوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ}. قال ابن جريج في قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل أن يكون شيخاً. قال: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى}: الشاب والشيخ. {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} عن ربكم أنه يحييكم كما يميتكم؛ أي: ليجازيكم. قال: وهذه لأهل مكة؛ كانوا يكذبون بالبعث. رواه ابن المنذر (¬1). والمعنى: وليبلغ كل واحد منكم أجلاً له مسمى، فكل واحد منكم لا يتقدم أجله ولا يتجاوزه. وقال الشعبي: يثغر الغلام لسبع، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهي طوله لإحدى وعشرين، وينتهي عقله لثمان وعشرين، ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين. رواه ابن أبي حاتم (¬2). ¬
وهذا الذي ذكره الشعبي حكم الغالب. وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5 - 7]. بيَّن الله تعالى في هذه الآية تقلُّب الإنسان في أطواره وأحواله من نشأته إلى بعثته ليوقن بأنه مبعوث للحساب والجزاء، وبين فيها ما تنتهي إليه الشبيبة والشيخوخة المجملتان في الآيتين السابقتين، وهو الهرم والخرف، وإذا انتهى العبد إلى هذه النهاية فَقَدَ العلم والإحساس فضلاً عن القيام بحق العمل والطاعة، فالحزم ممن بلغ الأشد وتناهى في الكهولة أن يسعى في تدارك ما ينتفع به من ذلك قبل أن يحال بينه وبينه بالهرم والخرف، أو بالموت والوفاة. ولا يتشبه بالصبيان والشبان؛ فإن الصبا والشباب إن كانا نوماً أو جنوناً أو سكراً فينبغي أن تكون الكهولة والشبيبة يقظة وإفاقة وصحواً. وما أحسن قولَ العتبي الشاعر الأديب كما حكى ابن خلكان أن
ابن قتيبة في "المعارف"، وابن المنجم في "التاريخ" (¬1) أورداه له: [من البسيط] لَمَّا رَأتنِي سُلَيْمى قاصِراً بَصَرِي ... عَنْها وَفِي الطَّرْفِ عَنْ أَمْثالِها زَوَرُ قالَتْ عَهِدْتُكَ مَجْنُوناً فَقُلْتُ لَها ... إِنَّ الشَّبابَ جُنونٌ بُرْؤُهُ الْكِبَرُ (¬2) وفي الحديث المتقدم: "الشَّبابُ شُعْبةٌ مِنَ الْجُنونِ" (¬3). من محاسن القاضي أبي العباس أحمد بن محمد الجرجاني قاضي البصرة أحد أصحاب الإمام الشافعي ما أنشده له النووي (¬4) في "طبقاته": [من الطويل] تَصَرَّمَ أَيَّامُ الشَّبِيبَةِ مِنْ عُمُرِي ... وَلَمْ أَشْفِ مِنْ أَطْرابِها لَوْعَةَ الصَّدْرِ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ رَيْعانِها وَطَرَ الصِّبَى ... لِكَثْرَةِ ما لاقَيْتُ مِنْ نُوَبِ الدَّهْرِ وَلَمْ أَدَّخِرْ حَمْداً يُخَلَّدُ ذِكْرُهُ ... عَلى الدَّهْرِ إِنَّ الْحَمْدَ مِنْ أَنْفَسِ الدُّخْرِ وَلا صالِحِ الأَعْمالِ قَدَّمْتُ راجِياً ... بِتَقْدِيْمِها قَبْلُ الْمَثُوبَةَ وَالأَجْرِ وَلَوْ كُنْتُ أَدْرِي كَيْفَ حالِيَ بَعْدَها ... لَهَوَّنْتُ ما أَلْقَى وَمَنْ لِي بِأَنْ أَدْرِي فَإِنْ يَكُ حالِيَ فِي الْمَشِيبِ عَلى الَّتِي ... عَهِدْتُ شَبابِيَ فَالْعَفاءُ عَلى عُمْرِي (¬5) ¬
فأول شيء يطلب من الشيخ إذا أفاق من جنون الشباب وسكره أن يتوب إلى الله تعالى؛ فإن باب التوبة مفتوح لكل تائب ولو لشائب، وتقبل توبة العبد - وإن شاخ - إن لم يُغَرْغِر بروحه. وروى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَبْلُغَ خَطاياكُمُ السَّماءَ، ثُمَّ تُبْتُمْ لَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ" (¬1). وروى الإمام أحمد، ومسلم عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ فِي النَّهارِ لِيتُوبَ مُسِيْءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها" (¬2). وروى الإمام أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، والحاكم وصححه، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الشَّيْطانَ قالَ: وَعِزَّتكَ يا رَبِّ! لا أَزالُ أُغْوِي عِبادَكَ ما دامَتْ أَرْواحُهُمْ فِي أَجْسادِهِمْ، فَقالَ الرَّبُّ - عز وجل -: وَعِزَّتِي وَجَلالِي! لا أَزالُ أَغْفِرُ لَهُمْ ما اسْتَغْفَرُنِي" (¬3). ¬
ولا يُسَوف بالتوبة؛ فإن التسويف بالتوبة قبيح، ومن الشيخ أقبح. فقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأمل" عن بعض السلف أنه قال: إن أكثر صياح أهل النار من التسويف (¬1). وما أحسن قولَ عبد الله بن المعتز: [من الطويل] نسِيرُ إِلَى الآجالِ فِي كُلِّ ساعَةٍ ... وَأَيَّامُنا تُطْوَى وَهُنَّ مَراحِلُ وَلَمْ نَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا فَإِنَّهُ ... إِذا ما تَخَطَّتْهُ الأَمانِيُّ باطِلُ وَما أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبا ... فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ فِي الرَّأْسِ نازِلُ تَرَحَّلْ مِنَ الدُّنْيا بِزادٍ مِنَ التُّقَى ... فَعُمْرُكَ أَيَّامٌ وَهُنَّ قَلائِلُ (¬2) وإذا تاب فليَدُم على التوبة، وليُقبل على الطاعة، ولا يتعبد على حرف ويتطوع على جهل، بل حيث فاتت منه أيام الشباب ولم يطلب العلم ولم يتعلم، فلا ينبغي أن ييأس من رَوح الله، وتشبُّه الشيوخ بالشبان مذموم إلا بالنشاط في الطاعة وطلب العلم؛ فإنه محمود. وروى البخاري في "تاريخه" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لَمْ يَطْلُبِ الْعِلْمَ صَغِيراً، فَطَلَبَهُ كَبِيراً، فَماتَ، ماتَ شَهِيْداً" (¬3). ¬
ولا يستحي من طلب العلم في الكبر حيث قصَّر في طلبه في الصغر. وحكي أن بعض الحكماء رأى شيخاً يحب النظر في العلم ويستحيي من طلبه، فقال: يا هذا! أتستحيي أن تكون في آخر عمرك أفضل مما كنت في أوله (¬1). وذكر أن إبراهيم (¬2) بن المهدي دخل على المأمون وعنده جماعة يتكلمون في التفقه، فقال له: يا عم! ما عندك فيما يقول هؤلاء؟ فقال: يا أمير المؤمنين! شغلونا في الصغر واشتغلنا في الكبر. فقال: لم لا تتعلم اليوم؟ فقال: أو يحسن لمثلي طلب العلم؟ قال: نعم، والله لأن تموت طالباً للعلم خير من أن تعيش قانعاً بالجهل. قال: وإلى متى يحسن لي طلب العلم؟ قال: ما حسنت لكم الحياة (¬3). ¬
ولا يخفى أن طلب العلم إذا كان يفيد فرغبة ذوي الأسنان فيه أولى، والابتداء بالفضيلة فضيلة، كما قال أبو الحسن الماوردي (¬1). وروى الخطيب في "شرف أهل الحديث" عن أبي عمرو بن العلاء رحمه الله تعالى قال: سئل الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما عن الرجل يكون له ثمانون سنة يحسن يكتب الحديث؟ قال: إن كان يحسن أن يعيش (¬2). وقوله: (يحسن) حَذَفَ منه حرف الاستفهام؛ يعني: أيحسن منه أن يكتب وقد بلغ الثمانين؟ فقال: إن كان يحسن أن يعيش كان من حسن عيشه أن يكتب؛ وأي عيشة أحسن من عيشة العلماء بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وروى الدينوري في "المجالسة" عن معاوية بن بجير قال: أوحى الله تعالى إلى داود النبي عليه السلام: يا داود! اتخذ نعلين من حديد، وعصا من حديد، واطلب العلم حتى تنخرق نعلاك وتتكسَّر عصاك (¬3). وفي هذا إشارة إلى أن طلب العلم يحسن في الشبيبة وفي الشيبة، ويحسن من العالم كما يحسن من الجاهل بأن يزداد إلى ¬
عليه؛ فإن العلم لا نهاية له. وفي الحديث المتقدم: إذا جاء الموت لطالب العلم وهو على هذه الحال فهو شهيد (¬1). ومن ثم قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر. رواه الخطيب في "شرف أصحاب الحديث"، وعبد الكريم السمعاني في "ذيل تاريخه" (¬2). وروى أبو نعيم عن فَرقد إمام جامع البصرة قال: دخلوا على سفيان الثوري رحمه الله تعالى في مرضه الذي مات فيه، فحدثه رجل بحديث، فأعجبه، وضرب بيده إلى تحت فراشه، فأخرج ألواحاً له، فكتب ذلك الحديث، فقالوا له: على هذه الحالة منك؟ فقال: إنه حسن؛ إن بقيت فقد سمعت حسناً، وإن مت فقد كتبت حسناً (¬3). وجرى نحو ذلك لأبي جعفر الطبري، فذكر المعافى بن زكريا في "الجليس والأنيس" الدعاء الذي أسنده إلى جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: يا سابق الفوت! ويا سامع الصوت! وكاسي العظام بعد الموت! ¬
ثم قال المعافى: وذكر لي بعض بني الفرات عن رجل منهم، أو من غيرهم: أنه كان بحضرة أبي جعفر الطبري قبيل موته، وتوفي بعد ساعة أو أقل منها، فذكر له هذا الدعاء عن جعفر بن محمد، فاستدعى بمحبرة وصحيفة، فكتبها، فقيل له: أوفي هذه الحال؟ فقال: ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتى يموت (¬1). وروى الخطيب عن ابن المبارك رحمه الله تعالى أنه قيل له: إلى كم تكتب الحديث؟ قال: لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أسمعها بعد (¬2). ولو لم يستفد الشيخ من التعلم إلا التخلص من وصمة الجهل وعاره، فإنه لا يذم شيخ جاهل بأقبح من جهله. ولقد قدمنا قول عروة بن الزبير: ماذا أقبحُ من شيخ جاهل (¬3)؟ وروى الرامهرمزي في كتابه "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" - واللفظ له - والطبراني في "الأوسط" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ ثَلاثةً: الْغَنِيَّ الظَّلُومَ، وَالشَّيْخَ الْجَهُولَ، وَالعالِمَ الزَّهُوَّ الْمُحْتالَ" (¬4). ¬
وروى ابن السني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَلْبٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْء مِنَ الْحِكْمَةِ كَبَيتٍ خَرِبٍ، فتعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا، وَتَفَقَّهُوا، وَلا تَمُوتُوا جُهَّالاً؛ فَإِنَّ اللهَ لا يَعْذُرُ عَلى الْجَهْلِ" (¬1). وروى الرامهرمزي، والخطيب من طريق أبي صالح الطرسوسي عن أبي جعفر محمد بن محمد بن عقبة الشيباني: ثنا معروف بن حاتم البزار المقرئ: سمعت غنام بن علي: سمعت الأعمش يقول: إذا رأيت الشيخ لم يقرأ القرآن، ولم يكتب الحديث، فاصفح له (¬2)؛ فإنه من شيوخ القراة (¬3). قال أبو صالح: قلت لأبي جعفر: ما شيوخ القراة؟ قال: شيوخ مقريون (¬4) يجتمعون في ليالي القمر يتذاكرون أيام الناس، ولا يحسن أحدهم أن يتوضأ للصلاة (¬5). ¬
وروى الرامهرمزي عن محمد بن عبيد قال: جاء رجل وافر اللحية إلى الأعمش يسأله عن مسألة من مسائل الصلاة يحفظها الصبيان، فالتفت إلينا الأعمش فقال: انظروا لحيته؛ يحتمل حفظ أربعة آلاف حديث، ومسألته مسألة الصبيان (¬1). وروى الخطيب عن سفيان رحمه الله تعالى: أنه كان إذا رأى شيخاً لم يكتب الحديث قال: لا جزاك الله عن الإسلام خيراً (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الفرج"، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، وأبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه، والبيهقي عنه، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحاتِ رَحْمَةِ اللهِ تَعالَى؛ فَإِنَّ لِلَّهِ تَعالَى نَفَحاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَاسْأَلُوا اللهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْراتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعاتِكُمْ" (¬3). ¬
تنبيه
فإذا لم يطلب العبد الخير والعلم من أفضل الخير في كل دهره فلا ينبغي أن يفوته في شيبته وعند انتهاء أجله؛ فإن الأعمال بالخواتيم. - ومن أحسن أخلاق الشيوخ، وأهم ما يطلب منهم: رقة القلب، ورحمة الخلق لأنهم أحوج الناس إلى رحمة الله تعالى؛ فإنهم أقرب إلى الموت، و"إِنَّما يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبادِهِ الرُّحَماءَ"، كما في "الصحيحين" عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما (¬1)، فإذا غلبت الشفقة والرحمة على الشيخ مع الإيمان كانت دليل رحمة الله تعالى، وإذا غلبت القسوة على الشيخ كانت دليل سخط الله تعالى. ومن ثم كان يقال: خمس خصال هن أقبح شيء فيمن بن فيه: العدة في السلطان، والكبر في ذي الحسب، والبخل في الغني، والحرص في العالم، والقسوة في الشيخ. وثلاث أحسن شيء فيمن بن فيه: تؤدة في غير ذل، وجود بغير ثواب، ونَصَب لغير الدنيا. رواه أبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب" عن زيد الكوفي، عن رجل من أهل العلم (¬2). * تَنْبِيهٌ: إذا رزق العبد التوفيق في صغره وشبابه فليستعذ بالله أن يمكر به ¬
في آخر عمره؛ فَـ: "إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصابعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُها كَيْفَ يَشاءُ" (¬1) كما في الحديث. واتفق لبعضهم أنه ابتلي بهذه المحنة، فانشد: [من الطويل] أَطَعْتُ الْهَوَى عَكْسَ القَضِيَّهِ لَيْتَنِي ... خُلِقْتُ كَبِيراً وَانْقَلَبْتُ إِلَى الصِّغَرْ ومن هنا تفهم معنى ما رواه الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن [ ... ] (¬2) قال: رأى أبو هريرة - رضي الله عنه - شباباً يتنسكون فقال: ليت الموت ذهب بهؤلاء؛ يعني: قبل أن يفتتنوا بالدنيا. وقد قدمنا ما رواه ابن أبي الدنيا في "الحذر" عن راشد بن سعد رحمه الله تعالى قال: نظر عيسى بن مريم عليهما السلام إلى غلام لم يدرك قد نَحَلَ جسمه، قال: ما الذي صيرك إلى ما أرى؟ قال: والله ما بي من السقم، ولكني أخاف أن أكبر فأعصي الله (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن يحيى بن أبي كثير قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام: ما أقبحَ الفقرَ بعد الغنى، وأقبحَ الخطيئةَ مع المسكنة، وأقبحُ من ذلك كله رجلٌ كان عابداً فترك عبادة ربه (¬4). ¬
وقلت في معناه: [من السريع] ما أَقْبَحَ الفَقْرَ عُقَيْبَ الْغِنَى ... وَأَقْبَحَ الذَّنْبَ مَعَ الْمَسْكَنَةْ أَقْبَحُ مِنْ هَذا وَذا مَنْ نَشا ... فِي طاعَةٍ ثُمَّ عَصَى دَيْدَنَهْ ومن عجيب ما اتفق في هذا الباب: ما رواه أبو نعيم عن مجاهد، وابن عياش: أن الشعبي كانت أخته عند أعشى همدان، وكانت أخت أعشى همدان عند الشعبي. [فقال الأعشى]: يا أبا عمرو! رأيت كأني دخلت بيتاً فيه حنطة وشعير، فقبضت بيميني حنطة، وبيساري شعير، ثم خرجت فنظرت، فإذا في يميني شعير، وإذا في يساري حنطة. فقال: لئن صدقت رؤياك لتستبدل بالقرآن الشعر. فقال الأعشى الشعر بعد ما كبر، وكان قبل ذلك إمام الحي ومقرئهم (¬1)؛ نعوذ بالله من تحول النعمة! وروى أبو نعيم أيضًا عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى: أنه سئل: ما علامة الخذلان؟ قال: أن يستقبح الرجل ما كان يستحسن، ويستحسن ما كان قبيحاً (¬2). ¬
أشار إلى أن العبد إذا كان في شبابه يحذر من محرم أو مكروه، ثم صار في شيخوخته يترخص فيه، فهو مخذول ممكور به؛ والعياذ بالله تعالى! فينبغي للعبد كلما كبر أن يترقب أحواله وأفعاله، وليجتهد أن يكون كلها على السداد، وفي الترقي ليكون من خيار الناس، ويسأل ربه التوفيق لذلك في كل وقت. روح الإمام أحمد في "الزهد" عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: قال داود عليه السلام: يا رب! طال عمري، وكبرت سني، وضعف ركني. فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! طوبى لمن طال عمره وحسن عمله (¬1). وفي "المسند" بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه", والبيهقي في "الشعب" من حديثه، والحاكم وصححه، من حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُنبِّئُكُمْ بِخَيْرِكُمْ؟ " قالوا: نعم. قال: "خِيارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْماراً وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمالاً" (¬2). ¬
وفي رواية عن أبي هريرة عن قوله: "وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمالاً"، "وَأَحْسَنُكُمْ أَخْلاقاً". رواهما الإمام أحمد، والبزار (¬1). وروى الترمذي، والحاكم وصححاه، والطبراني بإسناد صحيح، عن أبي بكرة - رضي الله عنه -: أن رجلًا قال: يا رسول الله! أي الناس خير؟ قال: "مَنْ طالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ". قال: فأي الناس شر؟ قال: "مَنْ طالَ عُمُرُهُ وَساءَ عَمَلُهُ" (¬2). وروى أبو يعلى بإسناد حسن، عن [أنس - رضي الله عنه -] (¬3) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْماراً إِذا سُدِّدُوا" (¬4). ومن علامة التوفيق للعبد، وإرادة الخير به عند كبره، وسداد أمره ومرمة (¬5) حاله: نشاطُه في الطاعة، وأن يخف جسمه ويرق عظمه. وعلامة ذلك نورانية الوجه، وصحة الذهن، وجودة الرأي، وأكثر ما يكون ذلك لمن حفظ الله وأطاعه في شبابه. ¬
والذي رأيته واستقريته طول عمري، ولا أراه إلا كذلك أبدًا أنه ما صان ذو جمال جماله، ولا ذو مال ماله، ولا ذو نعمة نعمته في شبابهم، إلا حفظ الله تعالى عليهم ما أنعم به عليهم في كبرهم وشيخوختهم، ولا فرط ذو جمال في حفظ جماله حتى امتهن جماله بالفسق والفاحشة إلا أجرم في كبره، وأظلم وجهه، وقبحت هيئته، ولا ذو مال في حفظ ماله بمنع زكاته والحقوق الشرعية عليه فيه إلا سلبه آخراً، أو كان سبباً لنزول البلاء عليه بسببه ورؤيته الآفات فيه، وكذلك سائر النعم. ولقد صدق عمر رضي الله تعالى عنه في قوله: من اتقى الله وَقَاه؛ كما رواه ابن أبي الدنيا، وغيره (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن أبي حازم رحمه الله تعالى قال: قالت أم الدرداء لأبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما: يجيء الشيخ فيصلي، ويجيء الشاب فلا يصلي. فقال أبو الدرداء: كُلٌّ في ثواب أُعِدَّ له (¬2). فينبغي لمن حصل منه تقصير وتفريط في أوائل عمره أن لا يفرط في أواخره وبقيته؛ إذ لا قيمة لما بقي من عمره كما قيل: [من البسيط] بَقِيَّةُ العُمْرِ عِنْدِي ما لَها ثَمَنُ ... وَإِنْ مَضى غَيْر مَحْمُودٍ مِنَ الزَّمَنِ يَسْتَدْرِكُ الْمَرْءُ فِيها ما أَفاتَ ويُحْـ ... ـيِي ما أَماتَ وَيَمْحُو السُّوْءَ [بالحسنِ] (*) (¬3) ¬
ولقد أحسن الشيخ شهاب الدين الأذرعي في قوله رحمه الله تعالى: [من مجزوء الكامل المرفل] كَيْفَ النَّجاةُ وَهِمَّتِي ... فِي اللَّهْوِ وَالتَّقْصِيرِ دابِي لا أَرْعَوِي بِزَواجِرٍ ... نَطَقَتْ بِها آيُ الْكِتابِ قَدْ صِرْتُ فِي السِّتِّينَ فِي ... مَيادِينِ التَّصابِي (¬1) شِبْهَ ابْنِ عِشْرِينَ غَدا ... نَشْوانَ مِنْ سُكْرِ الشَّبابِ قَدْ آنَ لِي أَنْ أَسْتَعِدَّ ... لِيَوْمِ عَرْضٍ وَالْمَآبِ وَأَجِدَّ فِي الْعَمَلِ الرَّبيِـ ... ـحِ وَحُسْنِ تَصْحِيحِ الْمَتابِ فَعَسى الكَرِيمُ يَجُودُ لِي ... بِالْعَفْوِ عَنْ سُوءِ اكْتِسابِي يا خَجْلَتا يا حَسْرَتا ... إِنْ ناقَشُونِي فِي الْحِسابِ وَبَدَتْ خَفِيَّاتُ الأُمُو ... رِ وَطالَبُونِي بِالْجَوابِ يا رَبِّ بِالْهادِي البَشِيرِ ... وَصَحْبِهِ خَيْرِ الصَّحابِ ثَبِّتْ عُبَيْدَكَ أَنْ يَزِلَّ ... هُناكَ عَنْ نَهْجِ الصَّوابِ وَاسْتُرْ صَحائِفَ عَيْبِهِ ... عَنْ نَشْرِها يَوْمَ الْحِسابِ ولنختم هذا الفصل بما رواه ابن أبي الدنيا في "الأمل", وابن حبان في "الثقات"، وأبو نعيم عن أبي عبيدة الناجي قال: دخلنا على ¬
تتمة
الحسن - يعني: البصري - في مرضه الذي مات فيه فقال: مرحباً بكم وأهلاً، وحياكم الله بالسلام، وأدخلنا وإياكم دار المقام، هذه علانية حسنة، إن صبرتم وصدقتم وأيقنتم، فلا يكن حظكم من هذا الخبر أن تسمعوه بهذه الأذن، وتُخرجوه من هذه الأذن؛ فإنه من رأى مُحمَّد - صلى الله عليه وسلم - فقد رآه غادياً ورائحاً، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، ولكن رفع له عَلَم فشمَّر إليه، الوَحَاءَ الوَحَاءَ! النَّجَاءَ النَّجَاءَ! على ما تُعَرِّجُون؟ أنتم ورب الكعبة كأنكم والأمر معًا، رحم الله عبداً جعل العيش عيشاً واحدًا، وأكل كسرة، وألبس خلقاً، ولزق بالأرض، واجتهد في العبادة، وبكى على الخطيئة، وهرب من العقوبة، وابتغى الرحمة حتى يأتيه أجله وهو على ذلك (¬1). * تَتِمَّةٌ: قال الحافظ أبو الخير شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي في "المقاصد الحسنة": روينا في "جزء أبي حامد (¬2) الحضرمي" من حديث الأعمش عن إبراهيم قال: كان يعجبهم أن يكون للشاب صبوة (¬3). ¬
قلت: ليس المفتى فيه أن المعصية أو المكروه كان يعجبهم في نفسه من الشاب، ولا أنهم كانوا يرضون منه بذلك، وحاشا لله لا يكون ذلك منهم، ولكن المعنى فيه أمران: الأول: أنهم كانوا يخافون على الشاب إذا كان محفوظًا من كل صبوة، كاملًا من كل وجه أن يعجب بنفسه ويستبد من رأيه، وما أقرب الشاب إلى ذلك فيهلك، فالصبوة تطأ من مَنِّه وتكسر نفسه. ومن هنا ينبغي للشاب إذا كان موفقًا أن لا يزدري غيره لتقصيره عنه، وبذلك يتم توفيقه، ويكمل سواده، بل ينبغي أبدًا أن يرى غيره أكمل منه، ويقيم له العذر في مخالفته، ويتهم نفسه. كما روى الإمام أحمد، وأبو نعيم عن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى: أنه كان إذا رأى شيخاً قال: هذا خير مني، عبد الله قبلي، وإذا رأى شاباً قال: هذا خير مني، ارتكبت من الذنوب أكثر مما ارتكب. وكان بكر يأمر أصحابه بذلك (¬1). والأمر الثاني: أنهم كانوا يخافون على الشاب إن لم يكن له صبوة من العين؛ فإن العين حقٌّ، كما في الحديث الصحيح (¬2). ¬
وبلغني عن الحافظ أبي الفضل ابن حجر العسقلاني: أنه كان يقول عن تلميذه الشيخ نجم الدين بن قاضي عجلون: ما رأيت في شباب هذا العصر مثله قط، وما رأيت فيه خصلة تدفع عنه العين، فمات الشيخ نجم الدين شاباً بعدما ألف مؤلفاته التي تقف دونها فحولُ الرجال. وينبغي لمن كان له ولد ونحوه فيه مَخَايل الخير والكمال أن يعوِّذه بكلمات الله تعالى التامة، أو يقول عليه: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ فقد روى البخاري، وأصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما وعن أبويهما: "أُعِيذُكُما بِكَلِماتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ وَهَامَّةٍ، وَكُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ". ثم يقول: "كانَ أَبُوكُمْ إِبْراهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلامُ يُعَوِّذُ بِهِما إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عَلَيْهِما السَّلامُ" (¬1). وروى أبو يعلى، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَنْعَمَ اللهُ عَلى عَبْدٍ نِعْمَةً فِي أَهْلِهِ أَوْ مالِهِ أَوْ وَلَدِهِ فَيَقُولُ: ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، إِلاَّ دَفَعَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ كُلَّ آفَةٍ حَتَّى تَأْتِيَهُ مَنِيَّتُهُ"، وقرأ: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ¬
مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] (¬1). ثم إذا كان الشاب على خلاف ما ذكرناه كالانهماك في الشهوات والإقبال على المعصية، فلا ينبغي أن يقطع باليأس من صلاحه وفلاحه، ولا أن يدعى عليه بالهلاك كما يفعله كثير من الجهلة مع أولادهم وأهلهم وخدمهم، بل ينبغي الدعاء لهم بالهداية، والرشاد والسداد؛ فقد قال الله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]. فسَّره الحسن وغيره بالدعاء على الزوجة والأولاد في حال الغضب، ثم يندم الداعي. روى أبو داود عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَدْعُوا عَلى أَوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلى أَمْوالِكُمْ؛ لا تُوافِقوا مِنَ اللهِ ساعَةً فِيها إِجابَةٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ" (¬2). وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تتَمَنَّوْا هَلاكَ شَبابِكُمْ وَإِنْ كانَ فِيهِم ¬
غَرامٌ؛ فَإِنَّهمْ على ما كانَ فِيهِم إِمَّا أَنْ يَتُوبوا فَيَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِم، وَإِمَّا أَنْ تُرْدِيَهُمُ الآفاتُ، إِمَّا عَدُوًّا فَيُقاتِلُونهُ، وَإِمَّا حريقاً فَيُطْفِؤُونَهُ، وَإِمَّا مَاءً فَيَسُدُّوْنَهُ" (¬1). *** ¬
(5) باب تشبه الفقير بالغني وعكسه
(5) بَابُ تَشَبُّه الفَقِير بِالغَنِي وَعَكْسِهِ
أن يتشبه بالأغنياء في اللباس ونحوه من غير تكلف سترا للفقر
(5) بَابُ تَشَبُّه الفَقِير بِالغَنِي وَعَكْسِهِ أما تشبه الفقير بالغني فقد يكون مستحسناً، وقد يكون مذموماً: فالأول: أن يتشبه بالأغنياء في اللباس ونحوه من غير تكلف ستراً للفقر، وتعففاً عن السؤال، وهو من آداب الفقراء الصالحين. قال الله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273]. وروى ابن ماجه عن عمران بن الحصين رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْفَقِيرَ الْمُتَعَفِّفَ أَبا الْعِيالِ" (¬1). وروى البزار عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْغَنِيَّ الْحَلِيمَ الْمُتَعَفِّفَ، وَيُبْغِضُ الْبَذِيْءَ الفاحِشَ السَّائِلَ الْمُلِحَّ" (¬2). والمراد بالغني هنا الذي نفسه غنيَّة، كما يدل عليه وصفه ¬
بالتعفف، ومقابلته بالسائل المُلح، فلا معارضة بينه وبين حديث عمران - رضي الله عنه -. وروى الشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ الْغِنَى غِنَى كَثْرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ" (¬1). والعَرَض - بفتحتين -: حطام الدنيا، أو ما كان من مال؛ قلَّ أو أكثر. وروى ابن حبان في "صحيحه" عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذَرٍّ! تَرَى كَثْرَةَ الْمالِ هُوَ الْغِنَى؟ " قلت: نعم يا رسول الله. قال: "أترى قِلَّةَ الْمالِ هِيَ الْفَقْرَ؟ " قلت: نعم يا رسول الله. قال: "إِنَّما الْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ، وَالْفَقْرُ فَقْرُ الْقَلْبِ" (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط" - وسنده حسن - عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا محمد! عش ما شئت؛ فإنك ميت، واعمل ما شئت؛ فإنك مَجْزِيٌّ ¬
أن يتشبه بالأغنياء في اللباس لمجرد الشهوة أو للشهرة
به، وأحِبَّ من شئت؛ فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس" (¬1). والاستغناء عن الناس قد يكون بالحِرفة والاكتساب، وقد يكون بالتقنع بالميسور والإعراض عما وراءه كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَغْنُوا عَنِ النَّاسِ وَلَوْ بِشَوْصِ السِّواكِ". رواه البزار، والطبراني، والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: أفضل الأعمال التجمل عند المحنة (¬3). وقال بعض السلف: ستر الفقر من كنوز البر (¬4). وقال أبو مدين رحمه الله تعالى: الفقر نورٌ، فإذا كشفته كسفته. والثاني: أن يتشبه بالأغنياء في اللباس لمجرد الشهوة أو للشهرة، وفي التوسع في المآكل والمشارب، والمركب، والمسكن، والخدم، وشراء ما ليس معه ثمنه، أو ما يستدين ثمنه، وفي الجود والسخاء بما ليس عنده ولا يتوصل إليه، وربما يكون ذلك بإلجاء ¬
الزوجة، أو الولد والعيال حيث يريدون التشبه بعيال الأغنياء، وذلك وَبَال على الفقير في الدنيا والآخرة حيث يضيق عليه الأمرُ بطلب الغرماء لأثمان مبيعاتهم له، والديون التي تترتب لهم عليه بسبب ذلك، وربما أدى به الحال إلى الهرب، وتعلق حقوق الناس بذمته، أو الحبس والعقوبة، أو إلى الدخول في مداخل السوء لتحصيل ما يسد أمره به؛ كالسرقة، والغصب، والرشوة، والسعاية إلى الحكام، وخدمة الظلمة، وهو في الأصل مسرف مبذِّر، والإسراف والتبذير منه كلاهما محرَّم، فيكون فاسقاً، فيجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة. وقد روى الطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَشْقَى الأَشْقِياءِ مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَقْرُ الدُّنْيا وَعَذابُ الآخِرَةِ" (¬1). وفي "الكبير" - ورواته ثقات - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى عيراً قدمت، فربح فيها أواقاً من ذهب، فتصدق بها على أرامل عبد المطلب، وقال: "لا أَشْتَرِي شَيْئاً ¬
لَيْسَ عِنْدِي ثَمَنُهُ" (¬1). وروى البيهقي، وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمانٌ يَكُونُ هَلاكُ الرَّجُلِ عَلى يَدَيْ زَوْجَتِهِ وَأَبَوَيْهِ وَوَلَدِهِ؛ يُعَيِّرُونَهُ بِالفَقْرِ، وَيُكَلِّفُونَهُ ما لا يُطِيقُ، فَيَدْخُلُ الْمَداخِلَ الَّتِي يَذْهَبُ فِيها دِيْنُهُ فَيَهْلَكُ" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن يحيى بن أبي كثير قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام: ثلاثة لا تكون في بيت إلا نُزعت البركة منه: الخيانة، والزنا، والسرقة (¬3). ومن هنا ينبغي للفقير أن لا يخالط الأغنياء، ولا يجالسهم ولا يعاشرهم، ولا ينظر إلى زيهم، ولا يفعل ذلك عيالُه مع عيالهم؛ فإنه يَزدري نعمةَ الله تعالى عليه، ويرى ما لا يطيقه، وتدعوه نفسه وعياله إلى مثل ما عندهم. ولقد روى الترمذي، والحاكم وصححه، عن عائشة رضي الله ¬
تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "يا عائِشَةُ! إِنْ أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي فَلْيَكْفِكِ مِنَ الدُّنْيا كَزادِ الرَّاكِبِ، وَإِيَّاكِ وَمُجالَسَةَ الأَغْنِياءِ، وَلا تَسْتَخْلِقِي ثَوْباً حَتَى تُرَقِّعِيهِ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: يا معشر المهاجرين! لا تدخلوا على أهل الدنيا؛ فإنها مَسْخطة للرزق (¬2). وصدق رضي الله تعالى عنه؛ فإن مخالطة الفقير لأهل الدنيا تدعوه إلى التشبه بهم في حبها وطلبها؛ إذ تَهُشُّ نفسُه إلى مثل ما لهم من الدنيا، فإن طلبها وحصلت له شَغَلَتْه عن الله تعالى، وعما فيه نجاة نفسه [ ... ] (¬3) وإن لم تحصل له بقي ساخطاً ما قسم الله له، محتقراً ما أنعم الله به عليه، ولذلك جاء النهي عن مجالسة الأغنياء كما في حديث عائشة، وعن النظر إليهم وإلى ما شغلوا به. قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]. ¬
نزلت تعزيةً للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدنيا كما رواه ابن أبي حاتم عن سفيان (¬1)، بل أخرجه بمعناه ابن أبي شيبة، والبزار، وأبو يعلى، والمفسرون عن أبي رافع رضي الله تعالى عنه (¬2). ونقل الشعبي، وغيره عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: من لم يتعز بعزاء الله تعالى تقطَّعت نفسه حسرات، ومن يتبع بصره ما في أيدي الناس تَطُلْ حسرته، ومن ظن أن نعمة الله في مطعمه ومشربه، وملبسه فقد قل عليه، وحضر عذابه (¬3). وروى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه عن أبي ¬
ومن تشبه الفقير المذموم بالغني: أن يتشبه به في الكبر والخيلاء
هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ عَلَيْكُمْ" (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: صحبت الأغنياء فلم يكن أحد أطول غَمًّا مني؛ إنْ رأيتُ رجلًا أحسن ثياباً مني أو أطيب ريحاً مني غمني، فصحبت الفقراء فاسترحت (¬2). وروى أبو عبيد القاسم بن سلام، وابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير - مرسلاً -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بإبل لحَيٍّ يقال لهم: بنو الملوح، أو: بنو المصطلق، قد عنست في أبوالها من السمن، فتقنع بثوبه، ومر ولم ينظر إليها لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الحجر: 87 - 88] (¬3). والمراد بالأزواج: الأصناف والأمثال. - ومن تشبه الفقير المذموم بالغني: أن يتشبه به في الكبر والخيلاء، وذلك - وإن كان قبيحاً من كل أحد - فينه من الفقير أقبح، ومنه إذا كان عائلاً أشد قبحاً، ولذلك وقع النص عليه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثَةٌ ¬
ومن أخلاق الأغنياء المذمومة: أن مترفيهم إذا جلس بعضهم إلى بعض في مجلس أكثر فيه من الثناء على ماله وخدمه
لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ تَعالَى وَلا يُزكِّيهِمْ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعائِلٌ مُسْتكبِرٌ". رواه مسلم، وغيره (¬1). وروى الطبراني في "الكبير"، والبيهقي عن سلمان رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاثة لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: أَشْمَطُ زانٍ، وَعائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضاعَتَهُ؛ لا يَشْتَرِي إِلاَّ بِيَمِينِهِ، وَلا يَبِيعُ إِلاَّ بِيَمِينِهِ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" أيضاً عن عصمة بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ] "ثلاثة لا ينظرُ اللهُ إليهم غدًا: شيخٌ زانٍ، ورجلٌ اتخذَ الأيمانَ بضاعةً فحلَفَ في كلِّ حقٍّ وباطلٍ، وفقيرٌ مختالٌ مَزْهوٌ" (¬3). - ومن أخلاق الأغنياء المذمومة: أن مترفيهم إذا جلس بعضهم إلى بعض في مجلس أكثر فيه من الثناء على ماله وخدمه، وخيوله ومواشيه، وملابسه، وعقاراته. ومنشأ هذا من الجهل والإعراض عن الله تعالى، فلا ينبغي للفقير ¬
أن يتشبه بهم في مدح شيء من ذلك اللائقة به؛ فإن ذلك مستسمج من الغني، وهو من الفقير أسمج وأقبح، وأكثر ما يكون هذا الخلق القبيح ممن غناه عارض وقد كان غريقًا في القِلَّة. وقد روى أبو نعيم عن ماهان الحنفي رحمه الله تعالى قال: ما يستحيي أحدكم أن تكون دابته التي يركب، وثوبه الذي يلبس أكثر ذكرًا لله تعالى منه (¬1). قلت: وأنا أقول: من هذا خلقه وعادته يجري على لسانه ذكر بزته وملابسه، ومراكبه، وسائر أغراض دنياه أكثر من جريان ذكر الله تعالى عليه، فأين الحياء من هذا؟ وهل ترك من القحة والجفاء شيئاً؟ وإذا تبجح بما لا يملكه وأثنى على شيء من ذلك وهو لا يملكه كان أسوأ حالًا وأعظم ذنباً؛ لأنه ضم إلى ذلك كذبا وزُوراً. وفي الحديث الصحيح: "الْمُتَشَبعُ بِما لَمْ يُعْطَ كَلابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ" (¬2). فإن كان ثناؤه على مال قريبه أو رفيقه أو جاره، مفتخراً بذلك، ومتكثراً به لانتسابه إليه أو في نسبه، فهذا ضم إلى معصيته حماقة وجهلاً؛ فإنه يفرح بما ليس له، ويقنع نفسه بالجوز الفارغ الخال، ويسكِّن عطشها بالسراب والآل. *** ¬
فصل
فَصْلٌ وأما تشبه الغني بالفقراء فهو على قسمين أيضًا: محمود ومذموم. فالأول: أن يتشبه بهم في خشونة العيش، والرضا بالدون من المجالس، ولباس ما تيسر تواضعاً وتبذلاً، لا شُحًّا وبخلاً. وأمارة الصدق أن يكون مع ذلك جواداً سخياً، محباً للتصدق والإيثار، والتوسط على العيال، والإفضال على الجيران والإخوان. روى الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، عن معاذ بن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تَرَكَ اللِّباسَ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ تَواضُعاً لِلّهِ تَعالَى دَعاهُ اللهُ يَومَ القِيامَةِ عَلى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الإِيْمانِ شاءَ يَلْبَسُها" (¬1). وروى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَبَذِّلَ الَّذِي لا يُبالِي ما لَبِسَ" (¬2). ¬
وروى الإمام أحمد ورجاله ثقات، والبيهقي عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن قال: "إِيَّاكَ وَالتَنَعُّمَ؛ فَإِن عِبادَ اللهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ" (¬1). قلت: ومن هنا كان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه يَطْعم طعام الإمارة، ويصوم ويفطر على ما تيسر. وسبق أن سليمان عليه السلام كان يطعم طعام الملوك، ويصوم ويفطر على خبز الشعير والملح الجريش (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كونوا جُدُدَ القلوب خُلْقان الثياب، ينابيع العلم، مصابيح الليل، أَحلاس البيوت، كونوا خلقان الثياب يعرفكم أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض (¬3). وروى [عبد الّه ابن الإمام أحمد] (¬4) في "زوائده" عن عبد الله بن ¬
شوذب قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: جودة الثياب خيلاء القلب (¬1). وروى الطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن طلحة رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مِنَ التَّواضُعِ الرِّضا بِالدُّونِ مِنَ الْمَجْلِسِ" (¬2). ومن هذا القبيل مساواة الفقراء في المجلس ونحوه، والتسوية بينهم وبين الأغنياء في الإكرام والاحترام، بل تقديمهم وتفضيلهم إذا كان لهم فضيلة لم تكن في الأغنياء. قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]. وتقدم أن سليمان بن داود عليهما السلام كان يدخل المسجد فيرى أغمص مجلس من بني إسرائيل فيجلس إليهم، ويجلس مع المساكين، ويقول: مسكين بين مساكين؛ مع ما أوتي من الملك. وروى ابن أبي شيبة عن سلمان بن عامر الشيباني قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَرَأَيْتُمْ سُلَيمانَ وَما أَعْطاهُ اللهُ مِنْ مُلْكِهِ؟ وَإِنَّهُ لَمْ ¬
تشبه الغني بالفقير المذموم
يَكُنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّماءِ تَخَشُّعاً لِلّهِ حَتى قَبَضَهُ اللهُ" (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما شَدَّ سُلَيْمانُ طَرْفَهُ إِلَى السَّماءِ تَخَشُّعاً حَيْثُ أَعْطاهُ اللهُ ما أَعْطاهُ" (¬2). والثاني: وهو تشبه الغني بالفقير المذموم. 1 - فمنه: أن يتشبه بالفقير في التبذُّل والتقلُّل في المأكل والملبس، ونحوهما بخلاً وشحاً على نفسه، أو ليظن الناس أنه فقير فيعطى، وذلك كله قبيح، فإن تشبه بالفقير السائل في المسألة كان أقبح. روى الترمذي، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي ¬
الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرى أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلى عَبْدِهِ" (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن الأحوص، عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: رآني النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هَلْ لَكَ مِنْ مالٍ؟ " قلت: نعم. قال: "مِنْ أَيِّ الْمالِ؟ " قلت: قد آتاني الله من الشَّاء والإبل. قال: "فَلْتُرَ نِعْمَتُهُ وَكَرامَتُهُ عَلَيْكَ" (¬2). وروى مسلم، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّراً فَإِنَّما سَأَلَ جَمْراً؛ فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ" (¬3). وروى الإمام أحمد بسند جيد، والطبراني، والبزار عن عمران ابن حصين رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَسْأَلَةُ الْغَنِيِّ شَيْنٌ فِي وَجْهِهِ يَومَ القِيامَةِ". زاد البزار: "وَمَسْأَلَةُ الْغَنِيِّ نارٌ؛ إِنْ أُعْطِيَ قَلِيلاً فَقَلِيلٌ، وَإِنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا فَكَثِيرٌ" (¬4). ¬
2 - ومن التشبه المذموم من الأغنياء بالفقراء
2 - ومن التشبه المذموم من الأغنياء بالفقراء: أن ينفق الموسر على عياله نفقة المعسر أو المتوسط؛ فإن ما يوفره من ذلك لنفسه ظلم فيه غيره من المستحقين، وخالف فيه سنن الشريعة؛ فإن الله تعالى يقول: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]. ومن هذا القبيل إمساك الغني عما يطلب منه شرعاً إما على وجه الإيجاب عليه، أو الندب إليه مما لا يطلب من الفقير كمنع الزكاة، والقعود عن الحج مع الاستطاعة، وعن الجهاد مع تعيُّنه، وسائر ما يجب على الغني، وكالامتناع من الضيافة، والأفضال، وسائر النفقات المطلوبة، والصدقات المندوبة. ولقد ذم الله تعالى أغنياء المنافقين وأقوياءهم [المتشبهين] بالفقراء والضعفاء من المؤمنين وغيرهم، وأشار إلى أنهم في ذلك يتخلقون بأخلاق النساء، فقال تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ}؛ أي: أهل الغنى. {وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} عن النساء المتخلفات بن الحرب والنفقة في الجهاد. {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 86 - 87]؛ أي: ¬
لا يفهمون ما في الجهاد والنفقة في سبيل الله، والشجاعة من السعادة، وما في القعود رغبة من العار في الدنيا، والنار في الآخرة. وإنما طبع على قلوبهم بسبب حبهم الدنيا، ولذلك قال عيسى بن مريم، ونبينا عليهم الصلاة والسلام: "حُبُّ الدُّنْيا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ" (¬1). ثم بين الله تعالى ذوي الأعذار المقبولة فقال: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]؛ أي: بإرادة الخير له ولمن معه، والدعاء لهم لأن ذلك ما في قدرتهم ووسعهم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوية: 91 - 92]. وهم سبعة من الأنصار سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحملهم بالزاد والماء فقط، أو أن يحملهم على البغال لا على الدواب، فأَسِفوا لذلك. أو من الأشعريين سألوه ظهراً يعتقبون عليه، فبيَّن الله تعالى أن ذوي الأعذار - وإن حبسهم العذر عن الجهاد والخروج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم محسنون بقلوبهم وألسنتهم، وبطاعة الله تعالى في حال تخلُّفهم (¬2). ¬
وروى الإمام أحمد، والبخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قفل من تبوك أشرف على المدينة، فقال: "لَقَدْ تَرَكْتُمْ فِي الْمَدِينَةِ رِجالاً ما سِرْتُمْ مِنْ سَيْرٍ، وَلا أنفَقْتُمْ مِنْ نفَقَةٍ، وَما قَطَعْتُمْ مِنْ وادٍ إِلاَّ كانوا مَعَكُمْ فِيهِ". قالوا: يا رسول الله! كيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: "حَبَسَهُمُ العُذْرُ" (¬1). أي: كانوا معكم بالقلوب، فأثيبوا ثواب من كان معكم حقيقة بالأجساد والقلوب. وروى الإمام أحمد، ومسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ تَرَكْتُمْ بِالْمَدِينَةِ رِجالاً ما قَطَعْتُمْ وادِياً، وَلا سَلَكْتُمْ طَرِيقاً إِلاَّ شَرَكُوكُمْ فِي الأَجرِ؛ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ" (¬2). وأين هؤلاء من المُخَفَلَّين من أهل الثروة والقوة والصحة، فإنهم مؤاخذون بتخلفهم؛ إذ لا عذر لهم وإن اعتذروا بما ليس عذرًا، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ ¬
3 - ومن التشبه المذموم من الأغنياء بالفقراء
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 93 - 94]. 3 - ومن التشبه المذموم من الأغنياء بالفقراء: أن يكون للرجل طَول وسعة، ولا يتزوج رغبة عن السنة، أو شحاً، أو بخلاً، لا للانقطاع عن العبادة. روى النسائي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنته، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كانَ ذا طَوْلٍ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لا فَالصَّوْمُ لَهُ وِجاءٌ" (¬1). وبالجملة فكل من وجد سعة، وتأخر عن عمل بر يمكنه التوصل إليه بسعته، وقصَّر عنه شحاً أو بخلاً، أو خوفاً من الفقر، فهو داخل في هذا الباب، غير واثق بوعود الله تعالى، مأخوذ بغرور الشيطان؛ فإن الله تعالى يقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]. وقوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}؛ أي: يخوفكم منه حين تنفقون، فيقول لكم: لا تنفقوا، أو: لا تكثروا الإنفاق؛ فإن الزمان طويل، فتصرفون ما معكم، ولعلكم لا تكسبون غيره فتبقوا فقراء. وأكثر ما يؤثر وعده الفقر فيمن كان معدمًا ثم وجد، ولذلك ترى الأغنياء الذين غناهم حادث أشد إمساكاً وحرصاً على ما بأيديهم، وإذا صرفوا شيئًا كانوا أشد أسفاً وحرصاً على ما بأيديهم، وإذا صرفوا شيئًا ¬
كانوا أشد أسفاً عليه من غيرهم، وأكثر منًّا به وذكراً له. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: ألا أخبركم بأفضل الحسرات؛ يعني: بأشدها؟ رجلٌ جمع درهماً إلى درهم، وقيراطاً إلى قيراط، ثم مات وورثه غيره، فوضعه في حقه، أو أمسكه في حقه (¬1). وبالجملة فالسخاء محمود من الغني والفقير لأن عمدة السخي في حالة الثقة بالله تعالى وبموعوده؛ فإنه سبحانه يخلف نفقة المنفقين. والبخل مذموم من الغني والفقير؛ لأن أصل إمساك البخيل خوف الفقر، وهو من وحي الشيطان ووعده. ولقد أحسن القائل: [من البسيط] لا تَبْخَلَنَّ بِدُنْيا وَهْيَ مُقْبِلَةٌ ... فَلَيْسَ يُنْقِصُها الإِنْفاقُ وَالسَّرَفُ وَإِنْ تَوَلَّتْ فَأَحْرَى أَنْ تَجُودَ بِها ... فَإِنَّ مِنْها إِذا ما أُنْفِقَتْ خَلَفُ (¬2) *** ¬
(6) باب تشبه أهل الحضر بأهل البدو وعكسه
(6) بَابُ تَشَبُّه أهْلِ الحَضَرِ بِأِهْلِ البَدْوِ وَعَكْسِهِ
(6) بَابُ تَشَبُّه أهْلِ الحَضَرِ بِأِهْلِ البَدْوِ وَعَكْسِهِ فالحضر، والحضرة، والحاضرة، والحضارة - وتفتح -: خلاف البادية. والحضارة: الإقامة في الحضر؛ قاله في "القاموس" (¬1). قال فيه: والبدو، والبادية، والباداة، والبداوة: خلاف الحضر. وتبدى: أقام بها. وتبادى: تشبه بأهلها (¬2). وقال في "الصحاح": البداوة: الإقامة [في البادية]. والبادية - بفتح، وبكسر -: وهو خلاف الحاضرة. قال ثعلب: لا أعرف البداوة - بالفتح - إلا عن أبي زيد وحده (¬3). وقال صاحب "المصباح المنير": الحضر - بفتحين -: خلاف ¬
البدو، والنسبة إليها: حضري على لفظه. وحضر: أقام بالحضر. والحضارة - بفتح الحاء، وكسرها -: سكون الحضر (¬1). فأما تشبه أهل الحضر بأهل البدو، فإنه في الأصل مكروه لما فيه من الجفاء. روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَكَنَ البادِيَةَ جَفا وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتى السُّلْطانَ افْتُتِنَ" (¬2). وروى أبو داود، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَدا جَفا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتى أَبْوابَ السُّلْطانِ افْتُتِنَ، وَما ازْدادَ أَحدٌ مِنَ السُّلْطانِ قُرْباً إِلاَّ ازْدادَ مِنَ اللهِ بُعْداً" (¬3). قال في "الصحاح" في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَدا جَفا": أي: من نزل البادية صار فيه جفاء (¬4). ¬
وقال الله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 97]. الأعراب: أهل البدو من العرب. الواحد: أعرابي، وهو الذي يكون صاحب نجعة، وارتياد للكلأ؛ كما قاله أبو زيد وغيره. زاد الأزهري فقال: سواء كان من العرب أو من مواليهم؛ قال: فمن نزل بالبادية، وجاور البادين، وظعن بظعنهم، فهم أعراب، ومن ترك بلاد الريف، واستوطن المدن والقرى العربية، وغيرها ممن ينتمي إلى العرب، فهم عرب، وإن لم يكونوا فصحاء (¬1). قال القاضي البيضاوي في قوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97]: لتوحشهم، وقساوتهم، وعدم مخالطتهم لأهل العلم، وعدم استماعهم للكتاب والسنة (¬2). وهذه الأمور بعينها هي السبب في كراهة التبادي. وتشبه الحضري بالبدوي انحطاط في الرتبة، ونزول إلى حضيض الجهل، وذلك سكنى البادية، ومخالطة البادين خصوصاً قبل التعلم والتفقه في الدين، ولذلك يدخل في التشبه بالأعراب من عازل أهل العلم والأدب، واشتغل عن تعلم القرآن والسنة بالبطالة والملاهي ¬
[ ... ] (¬1) وعشرة أهل الجهل - وإن كان ساكنًا في الحضر -. وهذا غالب أحوال الناس الآن، حتى إنهم إذا سمعوا شيئًا من صغار المسائل العلمية وأقربها إلى كل متدين، عجبوا منه كما يعجب أهل البادية وأشد. نعم، لا يكون من التشبه المذموم بأهل البدو أن يخرج العالم الفقيه إلى البدو ليعلمهم ويفقههم، لا ليجبي أموالهم وصدقاتهم، [ ... ] (¬2) كما يفعله جهلة الصوفية وغيرهم. فقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39]، وقد كان تخلف عنه؛ أي: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عن النفر معه ناس في البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس في البوادي، هلك أهل البوادي، فنزلت: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] (¬3). وفي الآية دليل على استحباب السفر لتعلم العلم ولتعليمه كيفما صح لذلك السفر من البادية إلى الحاضرة للتعلم، أو من الحاضرة إلى ¬
البادية للتعليم. ومن هنا يحسن تشبه أهل البدو بأهل الحضر في سكنى الحاضرة لأجل التعلم والتأدب، لا لأجل التنعم والترفُّه، والتطاول في البنيان كما اتفق في هذه الأزمنة لكثير من أهل البدو؛ إذ صار منهم مترفون تركوا باديتهم، ورغبوا في سكنى المدن، وتطاولوا فيها في البنيان، وذلك من أمارات الساعة التي أخبر عنها - صلى الله عليه وسلم - في حديث سؤال جبريل عليه السلام المروي من حديث عمر، وأبي هريرة - رضي الله عنهما - (¬1). فتشبه أهل البادية بأهل الحاضرة لأجل هذه الأمور مذموم مكروه، وقد ينتهي إلى التحريم. ويختلف حكم تشبههم بهم بالقصد والنية كما يختلف حكم عكس ذلك، وهو تشبه أهل الحاضرة بأهل البادية بالنية؛ فإنه مكروه على الوجه الذي ذكرناه، وقد يكون محموداً [ ... ] (¬2) من يفر بدينه من الفتن بعد تمام حاله، وكمال أمره من التعلم، والتفقه، والتأدب. وروى الإمام مالك، والبخاري، وأبو داود [ ... ] (¬3) عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُوْشِكُ أَنْ ¬
يَكُونَ خَيْرُ مالِ الْمُسْلِمِ غَنمًا تتْبعُ بِها شَعَفَ الْجِبالِ وَمَواقِعَ القَطْرِ؛ يَفِرُّ بِدِينهِ مِنَ الْفِتَنِ" (¬1). وروى أبو نعيم، والبيهقي في "الزهد" (¬2)، وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمانٌ لا يَسْلَمُ لِذِي دِينٍ دِينُهُ إِلَّا مَنْ فَرَّ مِنْ شاهِقٍ إِلَى شاهِقٍ، أَوْ مِنْ جُحْرٍ إِلَى جُحْرٍ كَالثَّعْلَبِ بِأَشْبالِهِ" (¬3). وذلك في آخر الزمان حين لا تنال المعيشة إلا بمعصية الله تعالى، فإذا كان كذلك حلت الغربة، يكون في ذلك الزمان هلاك الرجل على يدي أبويه إن كان له أبوان، فإن لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجته وولده، فإن لم يكن له ذلك فعلى يدي الأقارب والجيران؛ يعيرونه بضيق المعيشة، ويكلفونه ما لا يطيق حتى يورد ¬
[نفسه] (¬1) الموارد التي يهلك فيها (¬2). وأقرب الناس إلى التشبه بأهل البادية أهل القرى الصغيرة الضواحي دون المدن لأنهم أقرب إلى مخالطة أهل البوادي، وهم الأنباط، والأكَّارون، والفلاحون، والفدَّادون، وهم جمع فداد؛ وهو في الأصل: الصَّيِّت الجافي، من الفديد، ومنه سمي الرعيان الجمالون، والبقارون، والحمارون، والفلاحون، وأصحاب الوبر والمدر [ ... ] (¬3) في حروثهم، ومواشيهم، والمكثرون من الإبل، ومالكوا المئتين منها إلى الألف فدادين. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْجَفاءُ، وَغِلَظُ القُلُوبِ فِي الفَدَّادِينَ أَهْلِ الوَبَرِ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنابِ الإِبِلِ وَالبَقَرِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرٍ". رواه البخاري من حديث أبي مسعود البدري رضي الله تعالى عنه (¬4). وأهل الوبر: أهل البادية؛ كما أن أهل المدر أهل الحاضرة. وفي الحديث الآخر: "هَلَكَ الفَدَّادونَ". ذكره ابن الأثير في "النهاية" (¬5). ¬
وهو يتناول الفدادين بالمعاني المذكورة كلها. ومعنى: هلكوا: عَرَّضوا أنفسهم للهلاك، أو: قاربوا أن يهلكوا لأنهم يشتغلون بمواشيهم عن الجمعة والجماعات، والتفرغ للتعلم والتفقه، والعبادة. لِما قررناه من غلبة الجفاء، وغلظ القلوب على أهل البادية لم يبعث الله تعالى رسولاً من أهل البادية كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109] لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمود. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬1). وأما قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100]. وقال مجاهد وغيره: إنهم كانوا أهل بادية يملكونها، وهم كانوا يسكنون المدر، ويخرجون إلى البادية في أوقات دون أوقات، وحين قصدوا إلى يوسف عليه السلام بمصر كان ابتداء قصدهم من البدو (¬2). ولا بأس بالخروج إلى البادية في بعض الأحيان لأجل التفكر والاعتبار، وبالخصوص عند إخراج الأشجار، ونمو الزروع في زمن ¬
الربيع، وعند ذبولها في زمن الخريف. وروى أبو داود، والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبدو التلاع. وفي رواية: لهذه التلاع (¬1). وهي جمع تلعة - بالفتح -: وهي ما انحدر من الأرض، وما أشرف منها ضد. وقيل: التلاع: مسائل الماء من علو إلى سفل. وروى الترمذي عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب الصلاة في الحيطان (¬2). وهي جمع حائط: وهو البستان إذا كان عليه حائط، وهو الجدار. وكفى دليلاً على استحباب الخروج إلى البوادي والبراري، والصحاري للنظر، والتأمل والاعتبار قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. ولقد كانوا يضربون في الأرض، ويسيرون في القفار، ويقطعون ¬
البلاد والأقطار لأغراض أخرى غير الاعتبار والاستبصار، فدعاهم للسير لهذه الفائدة لا للأغراض الفاسدة. واعلم أن النظر والاعتبار لا يختص بالبوادي، بل هو مطلوب في الحواضر؛ فإن في المسير من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى قرية تذكراً لمن عمرها وسكنها، ثم ذهب عنها وتركها كما وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9]. وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [غافر: 82]. واعلم أنه لا يهتدى إلى ما وقع الإرشاد إليه في الآيات الكريمة من الاعتبار والاستبصار إلا بالعلم، وأهل العلم في الناس قليل، وكلما تأخر الزمان كانوا أقل، فالأكثرون لا يهتدون لذلك لغلبة الجهل والهوى عليهم كما قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 43، 44]. وقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} [الروم: 7 - 9] الآية. أرشدهم إلى التفكر في أنفسهم أولًا لأن أقرب شيء إلى الإنسان نفسه، فهي أولى بأن يتفكر في خلقها، ويتبصر فيها أولًا، فينظر آيات الله تعالى في نفسه؛ فإن لله تعالى في خلق الإنسان آيات عظيمات للموقنين كما قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20، 21]. ثم دعاهم إلى المسير في الأرض، والنظر في عواقب من سكنها من قبله. وهذه الحقائق والحكم لا تظهر للعبد إلا بالعلم، وتتجلى لكل عالم بقدر عليه، وكلما ازداد علمًا ازداد بصيرة، وكلما ازداد بصيرة ازداد من الله تعالى قرباً، ولذلك قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. ***
(7) باب النهي عن تشبه العالم بالجاهل
(7) بَابُ النَّهي عَنْ تَشَبُّهِ العَالِمِ باِلجَاهِلِ
(7) بَابُ النَّهي عَنْ تَشَبُّهِ العَالِمِ باِلجَاهِلِ اعلم أن العلم صفة مناقضة للجهل، فلا يجتمعان ويستحيل أن يكون الشيء معلوماً مجهولاً لإنسان واحد، فالمراد نهي العالم عن التشبه بالجاهل في مقتضى الجهل، لا في نفسه إلا أن يتوارد العلم والجهل على شيء واحد من وجهين، أو يترك العالم تعهد عليه حتى ينساه فيعود إلى الجهل بعد العلم، فإذا تشبه العالم بالجاهل على وجهين؛ في مقتضى الجهل وفي نفسه، فكلاهما مذموم. فالكلام في هذا الباب من فصلين. ***
الفصل الأول في تشبه العالم بالجاهل في مقتضى الجهل
الفَصْلُ الأَوَّلُ في تَشَبُّهِ العَالِمِ باِلجَاهِلِ في مُقْتَضَى الجَهْلِ وهو أن يجري أفعاله وأقواله على خلاف ما يعلم من الحكم. مثلًا: العلم بتحريم الغيبة يقتضي تركها، والجهل به يقتضي أن لا يتركها، فإذا اغتاب العالم الغيبة المحرمة فقد أشبه الجاهل في فعل ما علم تحريمه وجهله الجاهل، فالجاهل معذور في الجملة - وإن كان غير معذور في نفس الجهل - بخلاف العالم فإنه غير معذور مطلقًا، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُعافَى الأُمِّتُّونَ ما لا يُعافَى الْعُلَماءُ". رواه أبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). فتشبه العالم بالجاهل قبيح جداً. قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]. ¬
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35]. أي: بالحرص على ما لا يكون، والجزع في مواطن الصبر؛ فإن ذلك من دأب الجهلة. وقال تعالى لنوح عليه السلام: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]. وقال تعالى لموسى، وهارون عليهما السلام وقد دعيا على فرعون وقومه: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس: 89]؛ أي: طريق الجهلة في الاستعجال، وعدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى. وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]. وقال تعالى في حق علماء أهل الكتاب: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]؛ أي: لا نطلب صحبتهم، ولا نرغب في أمرهم. وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]. إنما يتبعون آباءهم ولو كان آباؤهم جاهلين لا يعلمون شيئًا مما
يؤول إليه عاقبتهم مع إمكانهم أن يتوغلوا إلى العلم النافع لهم. قال أبو طالب المكي: وكان سهل؛ يعني: التستَري رحمه الله تعالى يقول: ما عصي الله بمعصية أعظم من الجهل. قيل: يا أبا محمد! هل تعلم شيئًا أشد من الجهل؟ قال: نعم، الجهل بالجهل. قال: وكان سهل يقول: قسوة القلب بالجهل أشد من قسوة القلوب بالمعاصي؛ لأن الجهل ظلمة لا ينفع البصر معه شيئًا، والعلم نور يهتدي به القاصد وإن لم يمش (¬1). وقيل: [من الطويل] وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لأَهْلِهِ ... فَأَجْسادُهُمْ حَتَّى القُبورِ قُبورُ وَإِنَّ امْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ ... وَلَيْسَ لَهُ قَبْلَ النُّشورِ نُشورُ وقد جاء القرآن العظيم بأن الجهل قد يؤدي بصاحبه إلى ما هو أشد من قسوة القلب التي أشار إليها سهل رحمه الله تعالى، وهو الطبع على القلب. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ ¬
جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 58 - 60]. وأيضاً فإن العلم ينهض بصاحبه عن منازل الذل إلى مراقي العز والشرف كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحِكْمَةُ تَزِيدُ الشَّرِيفَ شَرَفاً، وَتَرْفَعُ العَبْدَ الْمَمْلُوكَ حَتَّى تُجْلِسَهُ مَجالِسَ الْمُلوكِ". رواه ابن عدي، وأبو نعيم من حديث أنس (¬1). وروى ابن النجار عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ما استرذل الله عبدًا إلا حظر الله عليه العلم والأدب (¬2). وأخرجه عبدان في "الصحابة"، وأبو موسى المديني في "الذيل" عن بشير بن النهاس العبدي رضي الله تعالى عنه، ولفظه: ما استرذل الله عبدًا إلا حرم العلم (¬3). ¬
ولبعض المتقدمين: [من الطويل] تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُخْلَقُ عالِمًا ... وَلَيْسَ أَخُو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جاهِلُ وَإِنَّ كَبِيرَ القَوْمِ لا عِلْمَ عِنْدَهُ ... صَغِيرٌ إِذا الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْمَحافِلُ وقال وهب بن منبه: يتشعب من العلم الشرفُ وإن كان صاحبه دنيئًا، والعزُّ وإن كان مهينًا، والقربُ وإن كان قصيًا، والغنى وإن كان فقيرًا، والنبلُ وإن كان حقيرًا، والمهابةُ وإن كان وضيعًا، والسلامةُ وإن كان سقيمًا. نقله والدي في "الدر النضيد في أدب المفيد والمستفيد" (¬1). ولقد قلت في معناه: [من الرجز] يَظْفَرُ ذُو الْعِلْمِ بِه كَرامَة ... بِالْعِزِّ وَالشَّرَفِ وَالسَّلامَة وَالنُّبْلِ وَالْهَيْبَةِ وَالْغِنَى مَعًا ... وَالْقُرْبِ وَالرِّفْعَةِ وَالْمَقامَة وإذا تشبه العالم بالجاهل في أحواله وأعماله فقد أعرض عن هذه المقاصد، وتعرض لزوال هذه الفوائد. وفي "تهذيب الكمال" للحافظ المزي في ترجمة صالح بن مهران الشيباني أبي سفيان الأصبهاني، وكان يقال له: الحكيم، وكان إذا تكلم يكتب حديثُه فيقال: إنه كان يتكلم في التوحيد. قال أبو نعيم الحافظ: كان من الورع بمحل، كان يقول: كل ¬
صاحب صناعة لا يقدر أن يعمل في صناعته إلا بآلته، وآلة الإسلام العلم (¬1). قلت: أراد بالإسلام ما يشمل الإيمان؛ فإنه لا يتصور إلا بالعلم. ومن ثم [وضع] (¬2) النبي -صلى الله عليه وسلم-[المؤمن] في مقابلة الجاهل فيما رواه الطبراني في "الكبير"، وابن عبد البر في "العلم"، [والسجزي] في "الإبانة" -وقال: غريب - عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَلِيلُ الفِقْهِ خَيْر مِنْ كَثيرِ العِبادَةِ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ فِقْهاً إِذا عَبَدَ اللهَ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً إِذا أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ، وإِنَّما النَّاسُ رَجُلانِ: مُؤْمِن وَجاهِلٌ؛ فَلا تُؤْذِ الْمُؤْمِنَ، وَلا تُجاوِرِ الْجاهِلَ" (¬3). وإنما نهى عن مجاورة الجاهل لأن للمجاورة تأثيراً، فربما أدت مجاورته بالمؤمن إلى التشبه به في خصال الجهل. وقد تقدم في أوائل الكتاب قول علي رضي الله تعالى عنه: [من الهزج] وَلا تَصْحَبْ أَخا الْجَهْلِ ... وَإِيَاكَ وَإِيَّاهُ فَكَمْ مِنْ جاهِلٍ أَزْرَى ... حَكِيماً حِينَ ما شاهُ ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وابنه في "زوائد" عن أبي عثمان الجعد البصري قال: قال لقمان لابنه عليه السلام: لا ترغب في وُد الجاهل؛ فيرى أنك ترضى عمله، ولا تتهاون بمَقْت الحكيم؛ فيزهد فيك (¬1). وليس فيما ذكرت معارضة لما رواه الدينوري في "المجالسة" عن مصعب الزبيري قال: لقي حكيم حكيماً فقال له: من أدبك؟ قال: نظرت إلى جهل الجاهل فاجتنبته (¬2). فإنه لا يلزم أن ينظر إلى جهل الجاهل إلا من جاوره، أو جالسه، أو صحبه، بل أقرب الناس إلى نظر جهله، وقبح أعماله من يأنف من صحبته، ويستنفر من مجاورته ورفقته. وروى ابن السني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قَلْبٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْحِكْمَةِ لَبَيْتٌ خَرِبٌ؛ فتَعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا، وَتَفَقَّهُوا، وَلا تَمُوتُوا جُهَّالاً؛ فَإِنَّ اللهَ لا يَعْذُرُ عَلى الْجَهْلِ" (¬3). ولا يهتم أن العلم بكل حكم شرعي يقتضي إجراء ذلك الحكم على مقتضى الشرع إباحة، أو ندباً، أو وجوباً، أو كراهةً، أو تحريماً، والجاهل بذلك الحكم يجريه كيف اتفق، فقد يصادف الحق في ¬
إجرائه، وقد يكون على الباطل، فلا يؤجر في الأول ويأثم في الثاني، ويعاتب على الجهل على كل حال، أو يعاقب عليه. ومقتضى الحديث: "الْقُضاةُ ثَلاثَهٌ: اثْنانِ فِي النَّارِ وَواحِدٌ فِي الْجَنَّةِ؛ رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ - وفي رواية: وَقاضٍ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ فَهُوَ فِي النَّارِ - وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ، فَجارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ" [رواه] (¬1) الأربعة، والحاكم وصححه، من حديث بريدة رضي الله تعالى عنه (¬2): أن الجاهل آثم وإن وافق الحق. وسبق عن سهل التستري رحمه الله تعالى: أن الله عز وجل لم يعص بمعصية أعظم من الجهل (¬3)، ومن ثَمَّ ذم الله تعالى من يعبده على حرف؛ أي: جهل. فإذا أجرى العالم ذلك الحكم على خلاف الشرع فقد خالف مقتضى العلم، ووافق مقتضى الجهل، فعقابه أشد من عقاب الجاهل؛ إذ يسوغ للجاهل أن يقول لمن قال له: لم أجريت ذلك على خلاف الشرع؟ أن يقول: لم أكن عالماً به، فإذا قيل له: لم لم تتعلم؟ انقطعت حجته؛ فإن الله لا يعذر على الجهل كما في الحديث، إلا أن ¬
يكون قريبَ عهدٍ بالإسلام، أو قد نشأ ببادية بعيدة عن الإسلام. وأما العالم فلا يسعه أن يقول: لم أكن عالماً، بل إذا قيل له: أمَا كنت عالماً؟ لم يسعه إلا أن يقول: نعم، فيقال له: ضيعت العلم، فهو مسيء من ثلاثة أوجه: الأول: فعله للمعصية. الثاني: إضاعته للعلم. الثالث: كفرانه لنعمة العلم. والجاهل مسيء من الوجهين الأولين فقط أيضاً؛ فإن العالِمَ بأنَّ هذا معصية لا يرضى الله بها، ثم يفعلها أعظمُ جرأة على الله تعالى ممن جهل أنها معصية، فلعله لو عرف أنها معصية امتنع منها، فلذلك عَظُم إثم العالم في معصيته. قال الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]؛ أي: لا يستويان في الشرف، ولا في المؤاخذة. وقال تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 30]. ثم بين سبحانه وتعالى سبب تضعيف العذاب عليهن لو أتين بما يوجبه بقوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32]: 32]؛ أي: في الشرف والفضل. والشريف في نفسه إذا تنزل إلى فعل لا يليق بشرفه من سفساف
الأمور استوجب العتاب أو العقاب. أو: لستن كأحد من النساء في العلم لأنكن أعلم النساء بالأحكام الشرعية لأنكن أقربهن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغيركن من النساء إنما يأخذن العلم عنكن، أو عن غيركن من الوسائط، أو عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن لهن من الحياء ما يمنعهن من استيفاء الأحكام منه خصوصاً ما يختص بالنساء من الأحكام، وليس من النساء أقرب إلى الرجل من أهله؛ فإنهن أعلم النساء بالأحكام خفياتها وجلياتها، وبالحلال والحرام، فلذلك تتضاعف العقوبة عليكن لو عصيتن الله تعالى. وروى الطبراني في "الصغير"، وابن عدي في "الكامل"، والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - الله عليه وسلم -: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذاباً يَوْمَ القِيامَةِ عالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ" (¬1). وروى الطبراني، وأبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الزَّبانِيَةَ أَسْرَعُ إِلَى فَسَقَةِ القُرَّاءِ مِنْهُمْ إِلَى عَبَدَةِ الأَوْثانِ، فَيَقُولُونَ: يُبْدَأُ بِنا قَبْلَ عَبَدَةِ الأَوْثانِ؟ فَيُقالُ لَهُمْ: لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لا يَعْلَمُ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" بإسناد جيد، عن جندب بن عبد الله الأزدي رضي الله تعالى عنه - وكان من الصحابة رضي الله تعالى عنهم - ¬
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَينْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّراجِ؛ يُضِيْءُ لِلنَّاسِ، وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ" (¬1). وأراد بالسراج فتيلته، أو هو على حذف مضاف؛ أي: كمثل فتيلة السراج. وقد روى البزار، والطبراني الحديث بنحوه من حديث أبي برزة رضي الله تعالى عنه، وقال فيه: "مَثَلُ الفَتِيلَةِ؛ تُضِيْءُ لِلنَّاسِ، وَتُحْرِقُ نَفْسَها" (¬2). وروى عن عمار -رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حي من قيس أعلمهم شرائع الإسلام، فإذا قوم كأنهم الإبل الوحشية، طامحة أبصارهم، ليس لهم همٌّ إلا شاة أو بعير، فانصرفت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[فقال]: "ما عملت"، فقصصت عليه قصة القوم، وأخبرته بما فيهم من السهوة، فقال: "يا عَمَّارُ! أَلا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْهُمْ؟ قَوْمٌ عَلِمُوا ما جَهِلَ أُوْلَئِكَ ثُمَّ سَهُو كَسَهْوِهِمْ" (¬3). وروى ابن عساكر نحوه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أتيتك من عند قوم هم وأنعامهم سواء. ¬
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا سَعْدُ! أَفلا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَومٌ عَلِمُوا ما جَهِلَ هَؤُلاءِ، ثُمَّ جَهِلُوا كَجَهْلِهِمْ" (¬1). وروى الطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَقَدِ اسْتَدْرَجَ النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يُوْحَى إِلَيْهِ، وَمَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَرَأَى أَنَّ أَحَداً أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ فَقَدْ عَظَّمَ ما صَغَّرَ اللهُ، وَصغَّرَ ما عَظَّمَ اللهُ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِصاحِبِ القُرْآنِ أَنْ يَجِدَّ مَعَ مَنْ جَدَّ، وَلا يَجْهَلَ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ وَفِي جَوْفِهِ كَلامُ اللهِ" (¬2). والمعنى: لا ينبغي له أن يجد مع من جد؛ أي: فيما عليه الناس من العادات المخالفات للقرآن. وروى الطبراني في "الكبير" بإسناد حسن، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رُبَّ حامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، وَمَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ ضَرَّهُ جَهْلُهُ، اقْرَأِ القُرْآنَ ما نهَاكَ، فَإِذا لَمْ يَنْهَكَ فَلَسْتَ تَقْرَأُهُ" (¬3). وقوله: "ضَرَّهُ جَهْلُهُ"؛ أي: جهله بأن العلم الذي لا ينفع صاحبه ¬
وبالٌ على صاحبه، كما روى الطبراني في "الصغير"، وابن عدي، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذاباً يَوْمَ القِيامَةِ عالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ" (¬1). ولذلك استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من علم لا ينفع، كما رواه مسلم، والترمذي، والنسائي من حديث زيد بن أرقم -رضي الله عنه- (¬2). وروى ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، وابن ماجه بإسناد حسن، والأصبهاني عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ" (¬3). يجوز أن يراد بالعلم الذي لا ينفع العلم بأمور الدنيا، والتفقه في تحصيلها وتوفيرها، وبالجهل الذي يضر الجهل بأمور الآخرة، وهو أغلب أحوال الناس كما قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6 - 7]. وقد روى الحاكم في "تاريخه" من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ كُلَّ عالِمٍ بِالدُّنْيا جاهِلٍ بِالآخِرَةِ" (¬4). ¬
وروى الإمام أحمد، والبزار بإسناد صحيح، من حديثه أيضاً قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مَثَلَ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ كَمَثَلِ كَنْزٍ لا يُنْفَقُ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللهِ" (¬1). وهذا فيه إشارة إلى أن العلم النافع هو العلم الذي يدعو صاحبه إلى العمل به، وإلى تعليمه غيره. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في تخشعه، وفي هديه، وفي صدقه، وفي يده، وفي لسانه، وفي صلاته (¬2). وروى الأصبهاني في "ترغيبه" عن هلال بن العلاء قال: طلب العلم شديد، وحفظه أشد من طلبه، والسلامة منه أشد من العمل به (¬3)، ثم أنشأ يقول: [من البسيط] يَمُوتُ قَوْمٌ وَيُحْيِي الْعِلْمُ ذِكْرَهُمُ ... وَالْجَهْلُ يُلْحِقُ أَمْواتاً بِأَمْواتِ (¬4) ¬
1 - فمنها: ترك طلب العلم، وترك الاستزادة منه، والرغبة عن ذلك.
واعلم أن كل معصية ومخالفة تقع من العالم فهو متشبه فيها بالجاهل، لكنا نشير إلى أمهات الخصال المعدود مرتكبها من الجهال. 1 - فمنها: ترك طلب العلم، وترك الاستزادة منه، والرغبة عن ذلك. روى الدينوري في "المجالسة" عن ابن دأب قال: جاء رجل إلى أبي ذر رضي الله تعالى عنه فقال: إني أريد أن أطلب العلم، وإنما أخاف أن أضيعه ولا أعمل به. قال: إنك أن توسد العلم خير من أن توسد الجهل. ثم ذهب إلى أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، فقال له مثل ذلك. فقال له أبو الدرداء: إن الناس يُبعثون من قبورهم على ما ماتوا عليه، فيبعث العالم عالماً، والجاهل جاهلاً. ثم جاء إلى أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فقال له مثل ذلك. فقال له أبو هريرة: ما أنت بواجد شيئاً أضيع له من تركه (¬1). 2 - ومنها: كتمان العلم عند الحاجة إليه. فإن العالم إذا كتم العلم كان هو والجاهل سواء، فكما لا يستفاد ¬
3 - ومنها: وضع العلم في غير أهله، ومنعه من أهله.
من هذا علم لا يستفاد من هذا، ومن هنا قيل في منثور الحكم: من كتم علماً فكأنه جاهل (¬1). وفي الحديث: "مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ العِلْمَ ثُمَّ لا يُحَدِّثُ بِهِ كَمَثَلِ الَّذِي يَكْنِزُ الكَنْزَ وَلا يُنْفِقُ مِنْهُ". رواه الطبراني في "الأوسط" (¬2). ورواه الإمام أحمد، والبزار بنحوه، وتقدم (¬3). 3 - ومنها: وضع العلم في غير أهله، ومنعه من أهله. روى الدارمي عن أبي فروة: أن عيسى بن مريم عليهما السلام كان يقول: لا تمنع العلم من أهله فتأثم، ولا تنشره عند غير أهله فتجهل، وكن طبيباً رفيقاً يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع (¬4). وروى ابن عساكر عن عمرو بن قيس الملائي قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: إن منعت الحكمة من أهلها جهلت، وإن منحتها غير أهلها جهلت، كن كالطبيب المداوي؛ إن رأى موضعاً للدواء، وإلا أمسك (¬5). ¬
4 - ومنها: ترك العمل بالعلم.
وروى البيهقي في "المدخل"، وغيره عن ابن عيينة قال: إن للحكمة أهلاً؛ إن منعتها أهلها كنت جاهلاً، كن كالطبيب العالم؛ يضع دواءه حيث ينفع (¬1). 4 - ومنها: ترك العمل بالعلم. روى أبو الشيخ عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "العِلْمُ خَيْرٌ مِنَ العَمَلِ، وَمِلاكُ الدِّينِ الوَرَعُ، وَالعالِمُ مَنْ يَعْمَلُ". وروى الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قلت، أو قيل: يا رسول الله! ما ينفي عني مذمة الجهل؟ قال: "العِلْمُ". قال: فما ينفي عني حجة العلم؟ قال: "العَمَلُ" (¬2). وروى الدارمي عنه أنه قال: يا حملة العلم! اعملوا به؛ فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا ¬
5 - ومنها: التكبر بالعلم، والإعجاب به وبغيره مما يخصه،
يجاوز تراقيهم، يخالف عملهم علمهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلَقاً فيباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه؛ أولئك لا تصعد أعمالهم [في مجالسهم] تلك إلى الله (¬1). وعن سفيان بن عيينة قال: أجهل الناس من ترك ما تعلم، وأعلم الناس من عمل بالعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله تعالى (¬2). وروى أبو نعيم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَطِعْ رَبَّكَ لُتَسَمَّى عاقِلاً، وَلا تَعْصِهِ فَتُسَمَّى جاهِلاً" (¬3). وروى ابن جهضم عن بشر بن الحارث الحافي رحمه الله تعالى قال: لأن تكون جاهلاً خير من أن تكون عالماً ولا تعمل. 5 - ومنها: التكبر بالعلم، والإعجاب به وبغيره مما يخصه، والتزين بالعمل أو بالعلم، والمباهاة بهما، واستمالة القلوب بهما لنيل المال والجاه. وروى الحكيم الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اطْلُبُوا العِلْمَ، وَاطْلُبُوا مَعَ الْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْحِلْمَ، ¬
وَلِيْنوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ وَلِمَنْ تَعَلَّمْتُمْ مِنْهُ، وَلا تَكُونوا مِنْ جَبابِرَةِ الْعُلَماءِ فَيَغْلِبَ جَهْلُكُمْ عِلْمَكُمْ" (¬1). وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى قال لبعض أهل العلم: اتق الله، وارض بدون الشرف من المجلس، ولا تؤذين أحداً؛ فإنه لو ملأ علمك ما بين السماء والأرض مع العجب ما زادك الله به إلا سَفَالة ونقصاً (¬2). وروى الدارمي عن مسروق رحمه الله تعالى قال: كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَلِيلُ الْفِقْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ العِبادَةِ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ فِقْهاً إِذا عَبَدَ اللهَ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ إِثْماً إِذا أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ". الحديث (¬4). وروى ابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُباهوا بِه العُلَماءَ، وَلا تُمارُوا بِهِ السُّفَهاءَ، وَلا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارَ النَّارَ". ¬
6 - ومنها: إنكار فضل ذوي الفضل، وتجهيلهم في علمهم، والإعراض عما يجيئون به من الحق مع العلم بأنه حق.
وروى الدارمي عن حبيب بن عبيد رحمه الله تعالى قال: كان يقال: تعلموا العلم وانتفعوا به، ولا تعلموه لتجملوا به؛ فإنه يوشك إن طال بكم عمر أن يتجمل ذو العلم بعلمه كما يتجمل ذو البِزَّة ببزته (¬1). وروى عن يحيى بن خالد قال: الشريف إذا تقرى تواضع، والوضيع إذا تقرى تكبر (¬2). وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى قال: يوشك أن تروا جهال الناس يتباهون بالعلم ويتغايرون عليه، كما تتغاير النساء على الرجال (¬3). 6 - ومنها: إنكار فضل ذوي الفضل، وتجهيلهم في علمهم، والإعراض عما يجيئون به من الحق مع العلم بأنه حق. قال الله تعالى في حق اليهود: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101]. ذمهم بأنهم تجاهلوا ما جاءهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصادوق، وأنكروه عليه، وعاملوه معاملة الجاهلين بأمره. ¬
7 - ومنها: أن لا ينزل الناس منازلهم؛ كأن يكرم السفيه والوضيع من غير ضرورة، ويهين العالم والحكيم والشريف.
وفي الحديث: "إِنَّما يَعْرِفُ الفَضْلَ لِذَوِي الفَضْلِ أَهْلُ الفَضْلِ". أخرجه الخطيب عن أنس، وابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها (¬1). 7 - ومنها: أن لا يُنزل الناس منازلهم؛ كأن يكرم السفيه والوضيع من غير ضرورة، ويهين العالم والحكيم والشريف. روى الطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد أقبل علي رضي الله تعالى عنه، فسلم، ثم وقف ينظر موضعاً يجلس فيه، فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجوه أصحابه أنهم يوسعوا له، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- عن يمينه، فقال: هاهنا يا أبا الحسن، فجلس علي -رضي الله عنه- بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فعرف السرور في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا أبا بَكْرٍ! إِنَّما يَعْرِفُ الفَضْلَ لأَهْلِ الفَضْلِ ذُو الفَضْلِ" (¬2). وروى ابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن أبا بكر فعل ذلك بالعباس رضي الله تعالى عنهما، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -. الحديث، وقد ذكرناه آنفاً، وهذا سببه (¬3). ¬
8 - ومنها: المماراة والمجادلة بالعلم، والمناظرة بغير إظهار الحق.
وفي الإتيان بـ (إنما) الدالة على الحصر بدليل المقام، إشارة إلى أن من لم يعرف الفضل لأهله وينزلهم في منازلهم فليس من أهل الفضل، بل هو من أهل الجهل. والمراد بالفضل هنا العلم، أو ما يشمله. وفي الحديث: "أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنازِلَهُمْ" (¬1). واعلم أن في التواضع في المجلس، ومعرفة الفضل لأهله، وإنزالهم منزلتهم كما فعل أبو بكر -رضي الله عنه- إدخال السرور على صاحب المجلس، وعلى الجلساء، وعلى المتواضع له، والسلامة من إيقاع الوحشة بينهم، وتكدير المجلس، ووقوع أهله فيه لو نافس في المجلس من ضرب المثل به بعد ذلك، وانتشار قصته في الناس الموجودين ومن بعدهم كما يتفق الآن بين المتصدرين، وهو من غلبة جهلهم على علمهم إن سُلِّم لهم علم. 8 - ومنها: المماراة والمجادلة بالعلم، والمناظرة بغير إظهار الحق. روى الدارمي، وأبو نعيم عن مسلم بن يسار رحمه الله تعالى أنه كان يقول: إياكم والمِراء؛ فإنه ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زَلَّته (¬2). ¬
9 - ومنها: الدعوى لغير غرض صحيح، وتزكية النفس، والرضا عنها، واحتقار الناس دونها.
ولجدي شيخ الإسلام رضي الدين رحمه الله تعالى: [من مجزوء الرجز] يا جاهِلاً وَهْوَ لأَهْـ ... ــــــــــــــلِ الْعِلْمِ لا يُسَلِّمُ ارْجِعْ إِلَى الْحَقِّ وَإِنْ ... سُئِلْتَ قُلْ لا أَعْلَمُ 9 - ومنها: الدعوى لغير غرض صحيح، وتزكية النفس، والرضا عنها، واحتقار الناس دونها. روى الطبراني عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما - قال: لا أعلمه إلا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قالَ: أَنا عالِمٌ فَهُوَ جاهِلٌ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "العقل" عن بعض الحكماء أنه قال: من ظن أنه عاقل والناس حمقى كَمُل جهله (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط"، والبزار بإسناد حسن، عن عمر ابن الخطاب، وهما وأبو يعلى عن العباس قالا رضي الله تعالى عنهما: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَظْهَرُ الإِسْلامُ حَتَّى يَخْتَلِفَ التُّجَّارُ فِي البَحْرِ، وَحَتَّى تَخُوضَ الْخَيْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ يَظْهَرُ قَومٌ يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ يَقُولُونَ: مَنْ أَقْرَأُ مِنَّا؟ مَنْ أَعْلَمُ مِنَّا؟ مَنْ أَفْقَهُ مِنَّا؟ ". ¬
10 - ومنها: أن يكون عالما بفن من العلم، فيطري ذلك الفن مع الغلو في ذم غيره وذم أهله.
ثم قال لأصحابه: "هَلْ فِي أُوْلَئِكَ مِنْ خَيْرٍ؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أُوْلَئِكَ مِنْكُم (¬1) مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ" (¬2). وأنشد الأستاذ أبو القاسم القشيري في "عيون الأسئلة": [من مجزوء الرمل] وَمِنَ البَلْوَى الَّتِي لَيْـ ... ــــــــــــــــــسَ لَها فِي النَّاسِ كُنْهُ أَنَّ مَنْ يَعْرِفُ شَيْئاً ... يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْهُ وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله الإسكندري في "حِكَمِهِ": لأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه؛ فأي علم لعبد يرضى عن نفسه، وأي جهل لعبد لا يرضى عن نفسه (¬3)؟ 10 - ومنها: أن يكون عالماً بفن من العلم، فيُطْري ذلك الفن مع الغلو في ذم غيره وذم أهله. كالفقيه يطعن على المحدث، والمحدث على الفقيه، أو المنطقي يطعن على المتفقه مطلقاً، أو على من يتفقه، أو يشتغل بالعلوم وبالمنطق ¬
قبل إتقان المنطق، والنحوي على المشتغل بغير النحو مطلقاً أو قبل إتقان النحو، أو نحو ذلك مهما كان منشؤه الهوى ومحبة ما النفس عليه؛ فإن منشأ ذلك الجهل، وأكثر ما يحمل الإنسان على ذم علم أو فن جهله به. وقد قيل: الناس أعداء ما جهلوا (¬1). وفي كتاب الله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11]. وإذا كان العلم الذي يذمه من العلوم الشرعية؛ كالفقه والتفسير، والذي عني به وأطراه من غيرها؛ كالطب، والشعر، والتاريخ وإن كانت لا تخلو من شرف، كان حاله أسوأ. وقد أخرج ابن الأخضر في "مناقب الشافعي" رحمه الله تعالى قال: العلم جهل عند أهل الجهل، كما أن الجهل جهل عند أهل العلم (¬2)، ثم أنشد الشافعي فيه: [من الوافر] وَمَنْزِلَةُ الفَقِيهِ مِنَ السَّفِيهِ ... كَمَنْزِلَةِ السَّفِيهِ مِنَ الفَقِيهِ فَهَذا زاهِدٌ فِي عِلْمِ هَذا ... وَهَذا فِيهِ أَزْهَدُ مِنْهُ فِيهِ (¬3) وأنشد ابن الصلاح في "طبقاته" عن أقضى القضاة الماوردي: أنه أنشد لابن دريد: [من الطويل] ¬
11 - ومنها: الإجابة عن كل ما يسأل عنه إلا أن يقول: لا أعلم، أو: لا أدري فيما لا يدري.
جَهِلْتَ وَعادَيْتَ العُلُومَ وَأَهْلَها ... كَذاكَ يُعادِي العِلْمَ مَنْ هُوَ جاهِلُه وَمَنْ كانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّراً ... وَيَكْرَهُ لا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقاتِلُه (¬1) أشار بالبيت الأول إلى معنى الآية: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ}، وعقد في البيت الثاني قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا ترك العالم (لا أدري) أُصيبت مقاتله. رواه البيهقي (¬2). 11 - ومنها: الإجابة عن كل ما يسأل عنه إلا أن يقول: لا أعلم، أو: لا أدري فيما لا يدري. لأن في طي ذلك الدعوى بالإحاطة بكل علم، وهذا إنما هو لله تعالى. ولقد قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ومن ثم كان الكامل عند العلماء من لا يستحيي أن يقول: لا أدري، أو: لا أعلم. وروى البيهقي في "المدخل" عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ مِنَ البَيانِ سِحْراً، وإِنَّ مِنَ العِلْمِ جَهْلاً، [وإنَّ من الشعرِ حكماً]، وإِنَّ مِنَ القَوْلِ عِيالاً". فقال صعصعة بن صوحان: صدق نبي الله -صلى الله عليه وسلم-. ¬
12 - ومنها: الاشتغال بما ينكره الشرع من العلوم؛ كالسحر، والفلسفة، والتوغل في المنطق، أو فيما لا فائدة فيه كالكيمياء،
أما قوله: "إِنَّ مِنَ العِلْمِ جَهْلاً" يتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلمه فيجهله ذلك. وأما قوله: "وَإِنَّ مِنَ القَوْلِ عِيالاً" [فعرضك كلامك] (¬1) وحديثك على من ليس من شأنه، ولا يريده (¬2). وروى الدينوري في "المجالسة" عن المدائني قال: قال بعض الحكماء: لا تقل فيما لا تعلم؛ فتتهم فيما تعلم (¬3). وقال ابن عطاء الله في "حِكَمِهِ": من رأيته مجيباً عن كل ما يسأل، ومعبِّراً عن كل ما شهد، وذاكرًا كلَّ ما عدم، فاستدل بذلك على وجود جهله (¬4). وتقدم قول الجد رحمه الله تعالى: [من مجزوء الرجز] يا جاهِلاً وَهْوَ لأَهـ ... ــــــــــــــــــــــلِ الْعِلْمِ لا يُسَلِّمُ ارْجِعْ إِلَى الْحَقِّ وإِنْ ... سُئِلْتَ قُلْ لا أَعْلَمُ 12 - ومنها: الاشتغال بما ينكره الشرع من العلوم؛ كالسحر، والفلسفة، والتوغل في المنطق، أو فيما لا فائدة فيه كالكيمياء، ¬________ (¬1) بياض في " أ" و"ت"، والمثبت من "المدخل". (¬2) رواه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (ص: 364)، وكذا أبو داود (5012). (¬3) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (ص: 301). (¬4) انظر: "الحكم العطائية" لابن عطاء الله (ص: 284).
13 - ومنها: أن يطمع العالم فيما لا يكون، أو يشاء ما لم يشأ الله، أو يريد أن يكون ما لم يقدره الله؛ وهذا غاية الجهل.
والعزائم، وكتب الأدب التي تخالف آداب الشريعة. قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} الآية إلى قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]. وروى أبو نعيم عن أبي إدريس الخولاني رحمه الله تعالى قال: من تعلم طُرف الحديث لِيُسِرَّ به قلوب الناس لم يَرَح رائحة الجنة (¬1). 13 - ومنها: أن يطمع العالم فيما لا يكون، أو يشاء ما لم يشأ الله، أو يريد أن يكون ما لم يقدره الله؛ وهذا غاية الجهل. قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا} أي سرباً {فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ}؛ أي: فافعل ولست مستطيعاً ذلك لأنَّا لم نشأه. قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35]؛ أي: الذين يريدون، أو يحاولون ما لم يشأ الله عَزَّ وَجَلَّ. 14 - ومنها: أنْ لا يخشى العالم الله تعالى، ولا يخاف منه، والاغترار به ولإملائه، ويتجرأ عليه، ويأمَن من مكره. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. قال الربيع بن أنس في هذه الآية: من لم يخش الله فليس بعالم. ¬
نقله الثعلبي، وغيره (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كفى بخشية الله تعالى علماً، وكفى بالاغترار بالله تعالى جهلاً (¬2). وروى الإمام أحمد، والدارمي عن عباس العَمِّي قال: بلغني أن داود عليه السلام كان يقول في دعائه: سبحانك اللهم! أنت ربي تعاليت فوق عرشك، وجعلت خشيتك على من في السماوات والأرض، فأقرب خلقك منك منزلة أشدهم لك خشية، وما علم من لم يخشك؟ أو ما حكمةُ من لم يطع أمرك (¬3)؟ وروى الدارمي عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: أول علم رفع من الناس الخشوع؛ يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعًا (¬4). سمى الخشوع علماً لأنه ينشأ عن الخشية، وعن معرفة الله ¬
15 - ومنها: كثرة الضحك والمزاح.
تعالى، وقد تعوذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قلب لا يخشع (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أنه قرأ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] قال: غرَّه واللهِ جهلُه (¬2). وروي من غير طريق عمر مرفوعاً (¬3). والغرور أن تعمل المعصية وتتمنى المغفرة. وأخرجه ابن جرير، وغيره عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى. 15 - ومنها: كثرة الضحك والمزاح. روى الدارمي عن علي بن الحسين -رضي الله عنهما- قال: من ضحك ضحكة مج من العلم مجة (¬4). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عمران الكوفي قال: قال عيسى عليه السلام للحواريين: لا تأخذوا من الناس على ما تعلمون إلا مثل ما أعطيتموني، ويا مِلْح الأرض! لا تفسدوا؛ فإن كل شيء إذا فسد فلا دواء له إلا الملح، واعلموا أن فيكم خصلتين ¬
من الجهل: الضحك من غير عجب، والصبحة من غير سهر (¬1). والصبحة: النوم بعد الصبح، وقد سبق أنها من الحمق، وهو أخو الجهل، أو هو منه. وروى ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عبد الأعلى التيمي رحمه الله تعالى قال: إن من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه؛ لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء: 109] (¬2). وروى أبو نعيم عن موسى بن أعين قال: قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد! كنا نمزح ونضحك، فأما إذ صرنا يقتدى بنا ما أرى يَسَعُنا التبسم (¬3). وعن خالد بن دينار: أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنه وعن آبائه كان إذا ضحك قال: اللهم لا تمقتني (¬4). نعم، لا بأس بقليل التبسم والمزح لثبوت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم - ¬
16 - ومنها: أن يتجاوز إلى السخف وتضحيك الناس.
ترويحاً للنفس، واستجماماً للقلب. قال مالك بن مِغْوَل: مزح الشعبي رحمه الله تعالى في بيته، فقيل له: يا أبا عمرو! تمزح؟ قال: قرأ داخل، وقرأ خارج، نموت من الغم! (¬1) 16 - ومنها: أن يتجاوز إلى السخف وتضحيك الناس. وهذا مستقبح من الجهلاء، فهو من عالم أقبح. روى أبو نعيم عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى: أنه مر بالغاضري وهو يتكلم ببعض ما يضحك به الناس، فقال: يا شيخ! أما علمت أن لله يوماً يخسر فيه المبطلون؟ فما زالت تعرف في وجه الغاضري حتى لقي الله عَزَّ وَجَلَّ (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الحذر" عن وهب بن الورد رحمه الله تعالى قال: كان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يتمثل كثيراً: [من الطويل] يُرَى مُسْتَكِيناً وَهْوَ لِلَّهْوِ ماقِتٌ ... بِهِ عَنْ حَدِيثِ القَوْمِ ما هُوَ شاغِلُهْ وَأَزْعَجَهُ عِلْمٌ عَنِ الْجَهْلِ كُلِّهِ ... وَما عالِمٌّ شَيْئاً كَمَنْ هُوَ جاهِلُهْ ¬
17 - 22 - ومنها: ست خصال
عَبُوسٌ عَنِ الْجُهَّالِ حِينَ يَراهُمُ ... فَلَيْسَ لَهُ مِنْهُمْ خَدِيْنٌ يُهازِلُهْ تَذَكَّرَ ما يَبْقَى مِنَ العَيْشِ آجِلاً ... فَأَشْغَلَهُ عَنْ عاجِلِ العَيْشِ آجِلُهْ 17 - 22 - ومنها: ست خصال رواها أبو نعيم عن محمد بن منصور الطوسي، وعن محمد بن الفضل البلخي، فقالا رضي الله تعالى عنهما: ست خصال يعرف بها الجاهل: الغضب في غير شيء، والكلام في غير نفع، والعظة في غير موضعها، وإفشاء السر، والثقة بكل أحد، ولا يعرف صديقه من عدوه (¬1). فالعالم أحق الناس باجتناب هذه الخصال المذمومة عقلاً وشرعاً. 23 - ومنها: كثرة الكلام. وفي المثل: لا يخلو مِهْذار (¬2) من عِثار. وقال أبقراط: الجاهل الساكت فيلسوف الجهلة. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن الأحنف بن قيس قال: قال لي عمر رضي الله تعالى عنه: يا أحنف! من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استُخِفَّ به، ومن أكثر من شيء عُرِف به، ومن كثُر كلامه كثر سَقَطُه، ومن كثر سقطه قلَّ حياؤه، ومن قل حياؤه قل ¬
24 - ومنها: ما رواه البيهقي عن عروة بن الزبير رحمه الله تعالى قال: يقال: ما شر شيء؟
رَوْعُه، ومن قل روعه مات قلبه (¬1). وفي الحديث: "الصَّمْتُ حِكْمَةٌ أَيُّ حِكْمَةٍ، وَهِيَ لُبابُ العِلْمِ" (¬2). وروى أبو الشيخ في "الثواب" عن محرز (¬3) بن زهير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّمْتُ زَيْنٌ لِلْعالِمِ وَسِتْرٌ لِلْجاهِلِ" (¬4). وسبق عن إياس بن معاوية أنه عاب نفسه بكثرة الكلام. 24 - ومنها: ما رواه البيهقي عن عروة بن الزبير رحمه الله تعالى قال: يقال: ما شر شيء؟ قال: البطالة في العالم (¬5). والذي يليق بالعالم أن يكون في عدة معاده، أو مرمة معاشه. 25 - ومنها: محبة الدنيا، وتمنيها، وتعظيمها، وإيثارها على الآخرة، والطمع، وأخذ العوض منها على شيء من العلم. قال الله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ ¬
الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 95 - 96]. وعهد الله المأخوذ على العلماء هو أن يبينوا الحق للناس ولا يكتموه، وإن كتموه لغرض أو عَرَض قليل، أو بينوا خلافه لذلك فقد اشتروا بعهد الله ثمنا قليلاً، وكانوا بمنزلة الجاهلين الذين تركوا ما عند الله وهو باق بما عرض لهم من عرض الدنيا وهو فان نافد. وقال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 79 - 80]. جعل الله تعالى مقالة أهل العلم في معارضة مقالة أهل الدنيا إشارة إلى جهلهم، كالجاهل يرى الدنيا عظيمة، ويرى أن من كثرت لديه قد أوتي حظاً عظيماً، فيتمنى مثله، والدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فمن يستعظمها في غاية الجهل، والمتمني لها إنما يتمنى الهموم في الدنيا، والعقوبة في الآخرة، فهو في غاية الجهل أيضاً. وروى أبو نعيم عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: لا يكون العالم عالماً حتى لا يحسد من فوقه، ولا يحقر من دونه، ولا يأخذ على علمه ثمناً (¬1). ¬
26 - ومنها: إيثار الدنيا على الآخرة، والطمع في الدنيا،
26 - ومنها: إيثار الدنيا على الآخرة، والطمع في الدنيا، وسخط ما رزق منها، وعدم الرضا بما قسم له منها، واحتقار منزلته منها، والحسد عليها. قال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17]. ولا شك في جهل من آثر الدُّون على الخير. روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"، وأبو نعيم من طريقه عن شميط بن عجلان رحمه الله تعالى قال: يَعْمَدُ أحدهم فيقرأ القرآن، ويطلب العلم حتى إذا علمه أخذ الدنيا يضمها إلى صدره، وحملها فوق رأسه، فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة، وأعرابي جاهل، وأعجمي، فقالوا: هذا أعلم بالله منا، لو لم ير في الدنيا خيره ما فعل هذا، فرغبوا في الدنيا وجمعوها. قال عبد الله بن شميط: وكان أبي يقول: فمثله كمثل الذي قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] (¬1). وروى الدارمي عن عبيد الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه: مَنْ أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون بما يعلمون. قال: فما ينفي العلم من صدور الرجال؟ ¬
قال: الطمع (¬1). وعن هشام صاحب الدَّستوائي: أنه قرأ في كتاب بلغه أنه من كلام عيسى عليه السلام: كيف يكون من أهل العلم من سخط رزقه واحتقر منزلته، وقد علم أن ذلك من علم الله وقدرته؟ كيف يكون من أهل العلم من اتهم الله فيما قضى له، فليس يرضى شيئاً أصابه؟ كيف يكون من أهل العلم مَنْ دنياه آثرُ عنده من آخرته وهو في الدنيا أفضل رغبة؟ كيف يكون من أهل العلم من مصيره إلى آخرته وهو مقبل على دنياه، وما يضره أشهى إليه - أو قال: أحب إليه مما ينفعه -؟ كيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به، ولا يطلب ليعمل به؟ وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في "الزهد" بزيادة (¬2). وروى ابن أبي شيبة، والدارمي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لا يكون الرجل عالماً حتى لا يحسد من فوقه، ولا يحقر من دونه، ولا يبغي بعلمه ثمناً (¬3). ¬
وتقدم من رواية أبي نعيم نحوه (¬1)، وثمت نحوه عن أبي حازم (¬2). وقال ابن سيرين رحمه الله تعالى: سبعة يهلكون بسبعة: أهل البادية بالجفاء، وأهل القرى - أي: غير المدن الكبيرة - بالجهل، والعرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والسلاطين بالظلم، والعلماء بالحسد. وروى البيهقي بمعناه حديثاً عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سَبْعَةٌ يُعَذِّبُهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ يَومَ القِيامَةِ: الأُمَراءُ بالْجَوْرِ، وَالْعُلَماءُ بِالْحَسَدِ، وَالعَرَبُ بِالعَصَبِيَّةِ، وَأَهْلُ الأَسْواقِ بِالْخِيانَةِ، وَالدهاقِين بِالْكِبْرِ، وَأَهْلُ الرَّساتِيقِ بِالْجَهْلِ" (¬3). وروى أبو نعيم عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: الحسد إنما يكون من لؤم العنصر وتعادي الطباع، واختلاف التركيب، وفساد مزاج البنية، وضعف عقد العقل، والحاسد طويل الحسرات، عادم الراحات (¬4). وقد علمت فيما تقدم أنَّ أولَ مَنْ حَسَدَ إبليسُ اللعين؛ حَسَدَ آدمَ ¬
27 - ومنها: أن يأكل العالم بدينه.
عليه السلام، فإبليس أجهل الجاهلين وأحمق الحَمِقين. 27 - ومنها: أن يأكل العالم بدينه. فإن العلم شرف، والأكل بالدين سَفالة عوضاً عن الشرف، فهو في غاية الجهل. ذكر أبو طالب المكي، وغيره: أن ابن المبارك سئل: من الناس؟ فقال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. فيل: فمن السفلة؟ قال: الذين يأكلون بدينهم (¬1). وقال بعض الحكماء: طلب الدنيا بالدف والمزمار خير من طلبها بالعلم أو بالدين (¬2). وروى أبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لو أن العلم صانوا علمهم ووضعوه عند أهله لسادوا أهل زمانهم، ولكن بذلوه لأهل الدنيا لينالوا من دنياهم، فهانوا على أهلها؛ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا واحِداً كَفاهُ اللهُ هَمَّ آخِرَتِهِ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ ¬
28 - ومنها: إطالة الأمل.
لَمْ يُبالِ اللهُ فِي أَيِّ أِوْدِيَتِها وَقَعَ" (¬1). وصحح الحاكم نحو المرفوع منه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬2). 28 - ومنها: إطالة الأمل. وسببه كما قال في "الإحياء": الجهل وحب الدنيا (¬3). قلت: وهو من الجهل أيضاً. روى الدينوري عن ابن عائشة قال: قيل لبعض الحكماء: ما كمال الحمق؟ قال: طلب منازل الأخيار بأعمال الأشرار، وبغض أهل الحق، وصحبة أهل الباطل. قيل: فما علامة الجهل؟ قال: حب الغنى، وطول الأمل، وشدة الحرص. قيل: فما علامة العمى؟ قال: الركون إلى من لا يؤمن غشه، والمن بالصدقة، والعبادة ¬
29 - ومنها: اهتمام العالم بالبناء، وتعليته وزخرفته.
مع البخل (¬1). 29 - ومنها: اهتمام العالم بالبناء، وتعليته وزخرفته. وهو من طول الأمل، وقد علمت أنه من الجهل، ولا يؤجر فيما صرفه فيه إلا ما لا بد منه، وليس من العلم أن يصرف ما لا ثواب فيه. وروى الطبراني بإسناد صحيح، عن خباب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ نَفَقَةٍ يُنْفِقُها العَبْدُ يُؤْجَرُ فِيها إِلاَّ البُنْيانَ" (¬2). وأخرجه الترمذي بنحوه، وصححه (¬3). وأنشد: [من البسيط] لَوْ كُنْتَ تَعْقِلُ يا مَغْرُورُ ما رَقَأَتْ ... دُموعُ عَيْنِكَ مِنْ خَوْفٍ وَمِنْ حَذَرِ ما بالُ قَوْمٍ سِهامُ الْمَوْتِ تَخْطَفُهُمْ ... يُفاخِرُونَ بِرَفْعِ الطينِ وَالْمَدَرِ (¬4) 30 - ومنها: كثرة الحركة في أمور الدنيا، وفيما لا يعنيه. بل الأولى به السكون مع الاشتغال بالعلم مذاكرة، ومراجعة، ¬
31 - ومنها: الخبرة بأمور الدنيا،
وتفكُّراً، وعملاً بموجبه. روى أبو نعيم عن محمد بن عمران قال: قال رجل للشعبي رحمه الله تعالى: إن فلاناً عالم. قال: ما رأيت عليه بهاء العلم. قيل: وما بهاؤه؟ قال: السكينة؛ إذا علم لا يعنف، وإذا علم لا يأنف (¬1). وعن عبيد بن عمير رحمه الله تعالى قال: إن الله تعالى يبغض القارئ إذا كان لَبَّاساً، رَكَّاباً، وَلاَّجاً، خَرَّاجاً (¬2). 31 - ومنها: الخبرة بأمور الدنيا، وتدقيق النظر في تحصيلها، وفي تحسينها، وتنويعها، والتأنق في مطاعمها، ومشاربها، وملابسها، ومراكبها، ومساكنها مع الغفلة عن أمور الآخرة. وهذا حال أكثر علماء الروم الآن، ومن حذا حذوهم. قال الله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 29 - 30]. قال البيضاوي: {ذَلِكَ}؛ أي: أمر الدنيا، أو كونها شهية ¬
32 - ومنها: التردد إلى السلاطين والأمراء والأغنياء، وخدمتهم، والتملق لهم لأجل حصول شيء من الإرفاق.
{مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}: لا يتجاوزه علمهم (¬1). ومن ثم قلَّما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم من مجلسه حتى يدعو بهذه الدعوات لأصحابه: "اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنا مِنْ خَشْيَتِكَ ما يَحُولُ بَيْنَنا وَبَيْنَ مَعاصِيكَ، وَمِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ ما تُهَوِّنُ عَلَيْنا مُصِيباتِ الدُّنْيا، وَمَتِّعْنا بِأَسْماعِنا وَأَبْصارِنا وَقُوَّتنا ما أَحْيَيْتَنا، وَاجْعَلْهُ الوارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثأْرَنا على مَنْ ظَلَمَنا، وَانْصُرْنا على مَنْ عادانا، وَلا تَجْعَلْ مُصِيَبَتَنا فِي دِيْنِنا، وَلا تَجْعَلِ الدُّنْيا أَكْبَرَ هَمِّنا، وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنا وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنا مَنْ لا يَرْحَمُنا". رواه الترمذي، وحسنه (¬2). 32 - ومنها: التردد إلى السلاطين والأمراء والأغنياء، وخدمتهم، والتملق لهم لأجل حصول شيء من الإرفاق. روى ابن ماجه بإسناد رواته ثقات، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ ناساً مِنْ أُمَّتِي يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيَقْرَؤُونَ القُرْآنَ يَقُولُونَ: نَأْتِي الأُمَراءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْياهُمْ وَنَعْتَزُّ لَهُمْ بِدِينِنا، وَلا يَكُونُ ذَلِكَ؛ كَما لا يُجْتَنَى مِنَ القَتَادِ إِلاَّ الشَّوْكُ، لا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِم إِلاَّ الْخَطايا" (¬3). ¬
أشار -صلى الله عليه وسلم- إلى جهل من أراد أن ينتفع من قرب الملوك متجنباً لضررهم بأن من أراد ذلك حاول ما لا يكون كمن يحاول جني الثمر من القتاد، والقتاد لا يجنى منه إلا الشوك، ومحاول ما لا يكون جاهل، وأشار إلى أنهم فيما هم فيه مجتهدون، لكن الخطأ في اجتهادهم ظاهر. ولقد أصاب محمد بن الفضل البلخي رحمه الله تعالى حيث قال: خطأ العالم إضرار على نفسه وعلى غيره من خطأ الجاهل. رواه أبو عبد الرحمن السلمي (¬1). وذلك أن الجاهل يعرفه الناس بالجهل فلا يتبعونه، ويعلم من نفسه أنه غير عالم فيفعل وهو خائف أن لا يوافق فعله الصواب. ولنا أرجوزة عظيمة في التحذر من الدخول على الملوك، نظمت فيها "ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين" للسيوطي. وروى ابن السمعاني في "أماليه"، وغيره عن علي بن عبد العزيز الجرجاني القاضي أنه أنشد لنفسه: [من الطويل] يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِباضُ وَإِنَّما ... رَأَوا رَجُلاً عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَما إِذا قِيلَ هَذا مَنْهَلٌ قُلْتَ قَدْ أَرى ... وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّما وَما كُلُّ بَرْقٍ لاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي ... وَما كُلُّ أَهْلِ الأَرْضِ أَرْضاهُ مُنْعِما ¬
تنبيه
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِي ... لأَخْدِمَ مَنْ لاقَيْتُ لَكِنْ لأُخْدَما وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صانُوهُ صانهمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعَظَّما وَلَكِنْ أَذَلُّوهُ فَهانَ وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاهُ بِالأَطْماعِ حَتَّى تَجَهَّما أَأَغْرِسُهُ عِزًّا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً ... إِذاً فَاتِّباعُ الْجَهْلِ قَدْ كانَ أَسْلَما (¬1) * تَنْبِيهٌ: اختلف السلف والخلف في القبول من السلاطين: - فمنهم من كان يقبل. - ومنهم من كان لا يقبل، وهو الورع. ومحل الخلاف فيما لا يعلم مالكه فلا يقبله إلا من يأخذه ليرده على مالكه. وروى ابن أبي الدنيا في "العقوبات" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً قال له: يا أبا الدرداء! كنا نأخذ القليل من المال فنجد منه البركة، وإنا نأخذ اليوم الكثير من المال فلا نجد فيه ما ينفعنا ولا نجد فيه بركة؟ فقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: لأنه مال جمع من القلوب؛ يعني: من الظلم. وبيانه: أنه من أخذ منه ماله مظلوماً في أخذه يتعلق قلبه بماله ¬
33 - ومنها: التلبس بالمعصية في صورة الطاعة، وقصد الطاعة بالمعصية أو في المعصية،
وتَتْبعه عينه، بخلاف ما خرج عنه مالكه بطيب نفس وانشراح صدر. 33 - ومنها: التلبس بالمعصية في صورة الطاعة، وقصد الطاعة بالمعصية أو في المعصية، كما يفعله جهلة الصوفية إذا مر بهم صورة جميلة من المرد، فيقول قائلهم: سبحان الخلاق! يوهم الناظر إليه الطاعة وهو يتوسع في النظر، فإن اعتقد في تلك الصورة حُلولاً كان كفراً. وكما يفعل جهلتهم، ومن يأخذ عنهم من التعبد بسجود مجرد عن الشكر والتلاوة، وخصوصاً عند مشاهدة الصورة الحسنة. وكذا لو مر بظالم مطلوب له وهو يستخفي منه، فيسرع عند مفاجأته لئلا يراه، فيسبح مسبح، أو يهلل مهلل تنبيهاً لذلك الظالم عليه، فهذا كله قبيح، وهو من المتحلي بالعلم أقبح. روى الدينوري في "المجالسة" عن الجرمي قال: سمعت الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى يقول: قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى: إذا أراد الله بعبد خيراً زهَّده في الدنيا، وفقهه في الدين، وبصَّره عيوبه. قال: ثم التفت الفضيل إلينا، وقال: ربما قال الرجل: لا إله إلا الله، فأخشى عليه النار. قيل: وكيف ذلك؟ قال: يغتاب بين يديه رجل فيعجبه، فيقول: لا إله إلا الله،
34 - ومنها - وهو من أغلاط كثير ممن يدعي العلم والزهد -: تضييع العيال اشتغالا بالعلم، أو بالعبادة من التطوعات.
وليس هذا موضعها، إنما هذا موضع أن ينصح له في نفسه، ويقول له: اتق الله (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد" عن محمد بن واسع رحمه الله تعالى: كان لقمان يقول لابنه عليهما السلام: يا بني! اتق الله، ولا تر الناس أنك تخشى الناس ليكرموك بذلك وقلبك فاجر (¬2). قلت: وما أقرب هذا الحال والخلق من علماء السوء. والعالم الصالح مَنْ سريرته مثل علانيته جميلة، أو أحسن من علانيته. 34 - ومنها - وهو من أغلاط كثير ممن يدعي العلم والزهد -: تضييع العيال اشتغالاً بالعلم، أو بالعبادة من التطوعات. وفي الحديث: "كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ" (¬3). وروى ابن جهضم عن يحيى بن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: ثمرة البكاء ضحك في الجنان، ومجالس الذكر معادن الثواب، ومجالسة الفقراء علامة الإرادة، وإظهار التوكل بغير صدق عناء، ¬
35 - ومنها: الاشتغال بحديث الدنيا، ووقائع الوقت، وترهات الزمان، وما لا يعنيه.
وطلب الزهد فراراً من العمل بطالة، ولبس الصوف من قبل إماتة شهوة النفس جهالة، وترك المكاسب مع الحاجة إليها كسل، والكسب مع وجود الاستغناء عنه كلفة، والصبر على العزلة علامة وجود الطريق، والتعبد على تضييع العيال جهل (¬1). 35 - ومنها: الاشتغال بحديث الدنيا، ووقائع الوقت، وتُرَّهات الزمان، وما لا يعنيه. لأن ذلك تضييع لأيام العمر بلا فائدة، والعلم لا يقتضي ذلك، بل يقتضيه الجهل، وأكثر المتوسمين بالعلم الآن هذه مجالسهم، وهذه أوقاتهم مصروفة فيما لا يجديهم؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله! قال مالك بن أبي فروة: كنا نجالس عبد الله بن أبي الهذيل، فإن جاء إنسان فألقى حديثاً من حديث الناس قال: يا عبد الله! ليس لهذا جلسنا (¬2). وفي الحديث: "إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ قيلَ وَقالَ" (¬3). ولا ينبغي لمن علم ما كره الله تعالى والنبي -صلى الله عليه وسلم- لنا أن نرتكبه، فنساوي الجاهلين. وأنشد العسكري في "المواعظ والزواجر": [من الخفيف] ¬
36 - ومنها: أن يكره الذم، ويحب الحمد لغير فضيلة.
يَأْمَلُ الْمَرْءُ أَبْعَدَ الآمالِ ... وَهْوَ رَهْنٌ بِأَقْرَبِ الآجالِ أَيَّ شَيْءٍ تَرَكْتَ يا عارِفاً بِاللَّـ ... ــــــــــهِ لِلْمُمْتَرِينَ وَالْجُهَّالِ نَحْنُ نَلْهُو وَنَحْنُ يُحْصَى عَلَيْنا ... حَرَكاتُ الإِدْبارِ وَالإِقْبالِ (¬1) 36 - ومنها: أن يكره الذم، ويحب الحمد لغير فضيلة. واللائق بالعالم أن يستوي عنده حامِدُه وذامُّه. روى الدارمي عن عميرة رحمه الله تعالى قال: إن رجلاً قال لابنه: اذهب اطلب العلم، فخرج، فغاب عنه ما غاب، ثم جاء فحدثه بأحاديث، فقال له أبوه: يا بني! اذهب فاطلب العلم، فغاب عنه أيضاً زماناً، ثم جاء بقراطيس فيها كتب، فقرأها عليه، فقال: هذا سواد في بياض، فاذهب فاطلب العلم، فخرج فغاب عنه ما غاب، ثم جاءه فقال لأبيه: سلني عما بدا لك. فقال له أبوه: أرأيت لو أنك مررت برجل يمدحك، ومررت برجل يغيبك؟ قال: إذاً لَمْ أَلُمِ الذي يذمُّني، ولم أحمد الذي يمدحني. قال: أرأيت لو مررت بصحيفة من ذهب - أو قال: من ورق -؟ قال: إذا لم أهيجها، ولم أقربها. ¬
37 - ومنها: العجلة، والطيش، والتهور لاسيما إذا نم إليه.
قال: اذهب فقد علمت (¬1). 37 - ومنها: العجلة، والطيش، والتهور لاسيما إذا نُمَّ إليه. ومن شأن العالم التأني، والحلم، والاحتمال. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تأَنَّىَ أَصابَ أَوْ كادَ، وَمَنْ عَجِلَ أَخْطَأَ أَوْ كادَ". رواه الطبراني في "الكبير" عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه (¬2). وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الأَناةُ مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطانِ". رواه الترمذي عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما (¬3). فإنَّ عجلة (¬4) العالِمِ تُؤثر مزلةَ الخطأ وما هو من الشيطان، على مطية الصواب وما هو مِنَ الله تعالى. ¬
38 - ومنها معاشرة الجهلاء منهم، ورعاية مودتهم،
وروى أبو نعيم عن طاوس رحمه الله تعالى: ما حمل العلم في أفضل من جراب الحلم (¬1). 38 - ومنها معاشرة الجهلاء منهم، ورعاية مودتهم، وصحبتهم تقرباً لخواطرهم لا لتعليمهم، والأخذ على أيديهم. روى أبو نعيم عن عبد الله بن طاوس رحمهما الله تعالى قال: قال لي أبي: يا بني! صاحب العقلاء تنسب إليهم وإن لم تكن منهم، ولا تصاحب الجهلاء تنسب إليهم وإن لم تكن منهم، واعلم أن لكل شيء غاية، وغاية المرء حسن عقله (¬2). ومن المعلوم أن أحسن الناس عقولاً العلماء. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي عثمان شيخ من أهل البصرة: أن لقمان عليه السلام قال لابنه: يا بني! لا ترغب في ود الجاهل فيرى أنك ترضى عمله، ولا تتهاون بمقت الحكيم فيزهد فيك (¬3). وروى الأصبهاني في "ترغيبه" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال لقمان لابنه: يا بني! جالسِ العلماء؛ فإنك إن لم ¬
39 - ومنها: معاشرة العلماء بالجهل، والسفه، وقلة الأدب، ومعاشرة العوام بالعلم، والأدب، والاحترام.
تعمل بعلمهم أخذت من أخلاقهم، وإن لم تأخذ من أخلاقهم نزلت النقمة وأنت فيهم. وكأنه جعل الأشرار هم الجهال؛ فإنه قابلهم بالعلماء. وفي حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: "العالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ شَرِيكانِ فِي الْخَيْرِ، وَسائِرُ النِّاسِ لا خَيْر [فيه] " (¬1). 39 - ومنها: معاشرة العلماء بالجهل، والسفه، وقلة الأدب، ومعاشرة العوام بالعلم، والأدب، والاحترام. وهو من حيث الطبيعة عكس الحكمة. قال معاوية بن قرة رحمه الله تعالى: مكتوب في الحكمة: لا تجالس بعلمك السفهاء، ولا تجالس بسفهك العلماء. ذكره الحافظ المزي في "تهذيب الكمال" (¬2). ¬
40 - ومنها: معاداة العلماء، وبغض الأولياء ولاسيما الصحابة -رضي الله عنهم -.
40 - ومنها: معاداة العلماء، وبغض الأولياء ولاسيما الصحابة -رضي الله عنهم -. قال علي رضي الله تعالى عنه: [من البسيط] وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ ما كانَ يُحْسِنُه ... وَالْجاهِلُونَ لأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْداءُ (¬1) وروى أبو نعيم عن محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنه وعن آبائه قال: من لم يعرف قدر أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقد جهل السنة (¬2). وأي جهل أبلغ من جهل من أبغض واحداً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعد قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهَ اللهَ فِي أَصْحابِي! لا تتَّخِذُونَهُمْ غَرَضاً بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبى أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذاهُمْ فَقَدْ آذانِي، وَمَنْ آذانِي فَقَدْ آذى اللهَ، وَمَنْ آذى اللهَ يُوْشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ". رواه الترمذي عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه (¬3). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "احْفَظُونِي فِي أَصْحابِيَ وَأَصْهارِي، فَمَنْ حَفِظَنِي فِيهِمْ حَفِظَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْنِي فِيهِمْ تَخَلَّى اللهُ مِنْهُ، وَمَنْ تَخَلَّى اللهُ مِنْهُ أَوْشَكَ أَنْ يَأْخُذَه". رواه أبو القاسم البغوي، والطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"، وابن عساكر ¬
41 - ومنها: أن يتتبع عورات الأقران وعيوبهم، ويطعن عليهم، فيسخر بمن دونه، ويهزأ بمن فوقه.
عن عياض الأنصاري رضي الله تعالى عنه (¬1). 41 - ومنها: أن يتتبع عورات الأقران وعيوبهم، ويطعن عليهم، فيسخر بمن دونه، ويَهْزَأ بمن فوقه. وكل ذلك من الجهل. قال مطر الورَّاق: سألت الحسن عن مسألة، فقال فيها، فقلت: يا أبا سعيد! يخالفك فيها الفقهاء. قال الحسن: ثكلتك أمك يا مطر! هل رأيت فقيهاً قط، وهل تدري ما الفقيه؟ الفقيه: الورع الزاهد، الذي لا يسخر ممن أسفل منه، ولا يهزأ بمن فوقه، ولا يأخذ على علم علمه الله تعالى حطاماً (¬2). وروى أبو نعيم عن أبي حازم رحمه الله تعالى قال: لا تكون عالماً حتى يكون فيك ثلاث خصال: لا تبغي على من فوقك، ولا تحقر من دونك، ولا تأخذ على علمك دنيا (¬3). وعنه قال: إن العلماء كانوا فيمن مضى من الزمان إذا لقي ¬
42 - ومنها: أن يكون اهتمامه حين يسأل خلاص السائل في الدنيا وإن ضر نفسه، وأتلف دينه، وضر السائل في دينه كأن يرتب للسائل حيلة.
العالم من هو فوقه في العلم كان يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يَزْهُ عليه حتى كان هذا الزمان هلك الناس (¬1). وتقدم أثر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الباب (¬2). 42 - ومنها: أن يكون اهتمامه حين يسأل خلاص السائل في الدنيا وإن ضر نفسه، وأتلف دينه، وضر السائل في دينه كأن يرتب للسائل حيلة. تخلصه من حقه، أو توصله إلى باطل. وهذا جهل عظيم. قال ربيعة بن عبد الرحمن رحمه الله تعالى: وقف عليَّ أبو خلدة رحمه الله تعالى قاضياً كان علينا فقال: يا ربيعة! إن الناس قد أطافوا بك؛ همك إذا أتاك السائل أن تخلص قلبك، ولا تخلصه. رواه أبو نعيم (¬3). ورواه البيهقي، ولفظه: قال لي أبو خلدة: يا ربيعة! أراك تفتي الناس، فإذا جاءك الرجل يسألك فلا تكن همتك أن تخرجه مما وقع فيه، ولتكن همتك أن تتخلص مما يسألك عنه (¬4). ¬
43 - ومنها: الجرأة على الفتوى، والمبادرة إليها من [غير] تثبت، والتلبيس فيها، والتكلف فيها.
43 - ومنها: الجرأة على الفتوى، والمبادرة إليها من [غير] تثبت، والتلبيس فيها، والتكلف فيها. وكل ذلك من الجهل، وقلة العقل، وضعف الرأي. روى الدارمي عن عبيد الله بن أبي جعفر مرسلاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَجْرَؤُكُمْ عَلى الفُتْيا أَجْرَؤُكُمْ عَلى النَّارِ" (¬1). وروى الشيخان، وغيرهما عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ العُلَماءِ حَتَّى إِذا لَمْ يُبْقِ عالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" (¬2). وروى الدارمي، والنحاس في "ناسخه" عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: رجل يعلم ناسخ القرآن من منسوخه، وذلك عمر رضي الله تعالى عنه، ورجل قاض لا يجد من القضاء بداً، ورجل أحمق متكلف، فلست بالرجلين الأولين، وأكره أن أكون الثالث (¬3). وروى سعيد بن منصور، والدارمي، والبيهقي في "المدخل" عن ¬
ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: من أفتى بفتيا وهو يعمي فيها كان إثمها عليه (¬1). وقال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق؛ كان يقال: التأني من الله، والعجلة من الشيطان، وما عجل امرؤ فأصاب، واتأد آخر فأصاب، إلا كان الذي اتأد أصوب رأيًا، ولا عجل امرؤ فأخطأ، واتأد آخر فأخطأ إلا كان الذي اتأد أشد خطأ. رواه الدارمي (¬2). وروى البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: نُهينا عن التكلف (¬3). وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"، والبيهقي في "المدخل" عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى قال: لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومئة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أحد منهم يحدث حديثاً إلا وَدَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتوى إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا (¬4). وقال ابن حُصين: إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على ¬
44 - ومنها: أن يعين صديقه أو حميمه،
عمر بن الخطاب لجمع لها أهل (¬1). وقال ابن المنكدر: إن العالم بين الله وبين خلقه؛ فلينظر كيف يدخل بينهم. وفي رواية: فليطلب لنفسه المخرج (¬2). رواهما الدارمي. وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: لولا الفَرَق من الله أن يضيع العلم ما أفتيت، يكون لهم المَهْنأ وعليَّ الوزر (¬3). وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: ما رأيت أحداً جَمَع الله فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه على الفتيا (¬4). نقلها والدي رحمه الله تعالى في "الدر النضيد". 44 - ومنها: أن يعين صديقه أو حميمه، أو غيرهما على باطل ولو بحيلة، ولو بجاهه، أو خطه، أو لسانه، أو يده؛ فإن هذا من الجهل والحماقة. روى البيهقي في "سننه" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الَّذِي يُعِينُ قَوْمَهُ عَلى غَيْرِ الْحَقِّ مَثَلُ بَعِيرٍ تَرَدَّى فَهُوَ يَجُرُّ بِذَنبِهِ" (¬5). ¬
45 - ومنها: ترك الأفضل والمستحب،
ما اكتفى - صلى الله عليه وسلم - بتمثيله بالبعير في الجهل حتى وصفه بالتردي، ثم بجر ذنبه طلباً للنجاة، فحسب أنه بجر ذنبه ينجو. 45 - ومنها: ترك الأفضل والمستحب، وفعل خلف الأولى والمكروه. روى الإمام أحمد عن دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله! أحمل لك حماراً على فرس فتنتج بغلاً؟ فقال: "إِنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" (¬1)؛ أي: الجاهلون. وذلك أن في حمل الحمار على الفرس تنغيص لذة الحيوانين؛ لأن الجنس إلى الجنس أميل، ولأن الرَّمكة إذا نتجت فرساً أولى من أن تنتج بغلاً لأن الفرس أشرف، والإعراض عن الأشرف إيثاراً للأدون نوعُ من الجهل. قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: لا ينبغي للمؤمن أن يرضى لنفسه إلا بخير المنزلتين. 46 - ومنها: التجاوز من المكروهات إلى ارتكاب المعاصي والموبقات، وفعل المكروه مقدمة فعل المحرم. قال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي ¬
47 - ومنها - وهو من جنس ما قبله -: قطيعة الرحم، وأوغل منه في الجهل: عقوق الوالدين.
كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]، أي: الذين يحملهم الجهل على فعل الفاحشة، أو: من الجاهلين بالصبا إلى ما لا يحل لهم. وقال تعالى حكاية عن قوم لوط في خطاب قومه: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55]. وروى أبو نعيم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ابْنَ آدَمَ! أَطِعْ رَبَّكَ تُسَمَّى عاقِلاً، وَلا تَعْصِهِ تُسَمَّى جاهِلاً" (¬1). 47 - ومنها - وهو من جنس ما قبله -: قطيعة الرحم، وأوغل منه في الجهل: عقوق الوالدين. قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف: 89]. ثم انظر كيف عاملهم بمقتضى العلم، ولم يقابلهم بمثل جهلهم بالحلم والشفقة، فقال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92]. ثم تأمل جهلهم حين قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8]، وعلمه حين رفع أبويه على العرش. 48 - ومنها: الهجوم في الفتنة، وعدم النظر في العواقب. روى أبو نعيم عن الحسن رحمه الله تعالى قال: إن الفتنة إذا ¬
49 - ومنها: الثقة بالنفس ودعاويها.
أقبلت عرَّفها العالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الفِتْنَةَ تَجِيْءُ بِهِ فَتَنْسِفُ العُبَّادَ نَسْفاً وَيَنْجُو العالِمُ مِنْها بِعِلْمِهِ" (¬2). 49 - ومنها: الثقة بالنفس ودعاويها. وربما حمله الجهل والطيش على الإقسام على نجاز مواعيدها، وربما حملها دعوى الوفاء على التزام ما تعمد به بالنذر ونحو ذلك، وأكثر ما ينتهي الأمر في ذلك إلى الندم. قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} [الأنعام: 109 - 111]. نعم، ينبغي للعبد إذا وعد نفسه بفعل شيء من الطاعات، أو من المكارم أن يقول: إن شاء الله تعالى. قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24]. وإذا أخل العالم بهذا الأدب كان أسوأ حالاً من الجاهل. ¬
50 - ومنها: أن يحمله حب الدنيا والعيش فيها على ترك المعروف والنهي عن المنكر.
50 - ومنها: أن يحمله حب الدنيا والعيش فيها على ترك المعروف والنهي عن المنكر. وهذا حال العلماء الآن إلا من وفقه الله تعالى، وقليل ما هم. روى الأصبهاني في "ترغيبه" عن معاذ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّكُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ما لَمْ تَظْهَرْ فِيكُمْ سَكْرَتانِ: الْجَهْلُ، وَحُبُّ العَيْشِ، وَأَنَتُمْ تأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَسَتُحَوَّلُونَ عَنْ ذَلِكَ إِذا ظَهَرَ فِيكُمْ حُبُّ الدُّنْيا، فَلا تَأْمُرُونَ بِمَعْرُوفٍ وَلا تَنْهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ، وَلا تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَالقائِمُونَ يَوْمَئِذٍ بِالكِتابِ وَالسُّنَّةِ كَالسَّابِقينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالأَنْصار" (¬1). * تَنْبِيهٌ: مما يجري مجرى الأمثال قول عمرو بن كلثوم التغلبي: [من الوافر] أَلا لا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجاهِلِينا (¬2) وهذا إنما يستحسن إذا كان على وجه المشاكلة والمقابلة ممن يظلم ¬
فينتصر من بعد ظلمه من غير مجاوزة إلى ما يمنع شرعاً كما قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. والقصاص في نفسه ليس بعدوان، وإنما أطلق عليه اسم الاعتداء على وجه المشاكلة كما قالوا في قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} [آل عمران: 54]. وفي قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]. وإطلاق الجهل على الانتصار مجاز، وليس بجهل حقيقة. وفي مثل ذلك ما في "المجالسة" للدينوري قال: ثنا أحمد بن علي المروزي قال: أنشدني المازني لبعضهم: [من الطويل] لَئِنْ كُنْتُ مُحْتاجاً إِلى الْحِلْمِ إِنَّنِي ... إِلَى الْجَهْلِ فِي بَعْضِ الأَحايِينِ أَحْوَجُ فَلِي فَرَسٌ لِلْحِلْمِ بِالْحِلْمِ مُلْجَمٌ ... وَلِي فَرَسٌ لِلْجَهْلِ بِالْجَهْلِ مُسْرَجُ فَمَنْ شاءَ تَقْوِيْمِي فَإِنِّي مُقَوَّمٌ ... وَمَنْ شاءَ تَعْوِيْجِي فَإِنِّي مُعَوَّجُ وَما كُنْتُ أَرْضى الْجَهْلَ خِدْناً وَلا أَخاً ... وَلَكِنَّنِي أَرْضَى بِهِ حِينَ أُحْوَجُ
أَلا رُبَّما ضاقَ الفَضاءُ بِأَهْلِه ... وَأَمْكَنَ مِنْ بَيْنِ الأَسِنَّةِ مَخْرَجُ وَإِنْ قالَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ سَماجَةً ... فَقَدْ صَدَقُوا وَالذُّلُّ بِالْحُرِّ أَسْمَجُ (¬1) وأنشد ابن دريد عن أبي حاتم: [من الطويل] إِذا أَمِنَ الْجُهَّالُ جَهْلَكَ مَرَّةً ... فَعِرْضُكَ لِلْجُهَّالِ غُنْمٌ مِنَ الْغُنْمِ فَعَمِّ عَلَيْهِ الْحِلْمَ وَالْجَهْلَ وَالْقَهُ ... بِمَنْزِلَة بَيْنَ العَداوَةِ وَالسَّلْمِ إِذا أَنْتَ جازَيْتَ الْمُسِيْءَ كَما جَرَى ... فَأَنْتَ سَفِيهٌ مِثْلُهُ غَيْرُ ذِي حِلْمِ فَلا تُفْضِيَنَّ (¬2) عِرْضَ السَّفِيهَ وَدارَهُ ... بِحِلْمٍ وَإِنْ أَعْيَى عَلَيْكَ فَبِالصَّرْمِ فَيَرْجُوكَ تاراتٍ وَيخْشاكَ مَرَّةً ... وَتَأْخُذُ فِيما بَيْنَ ذَلِكَ بِالْحَزْمِ ¬
تتمة
فَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَمْراً مِنَ الْحَزْمِ (¬1) فَاسْتَعِنْ ... عَلَيْكَ بِجُهَّالٍ فَذاكَ مِنَ الْعَزْمِ (¬2) وقد تقدم نظير ذلك في الحمقى والمجانين. * تَتِمَّةٌ: روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون. وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً، حكيماً، سكيتاً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون لا صخاباً، ولا صيَّاحاً، ولا حديداً (¬3). وروى الدينوري أن محمد بن فضالة أنشده: [من الطويل] يُرى مُسْتكيناً وَهْوَ لِلَّهْوِ ماقِتاً ... بِهِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ ما هُوَ شاغِلُهْ يَبِيتُ إِذا نامَ الْخَلِيُّونَ ساهِراً ... كَثِيراً تَشَكِّيهِ كَثِيراً بِلابِلُه تأوَّه ذي بَثٍّ أُصِيبَ حَمِيمُهُ ... بِهِ وَلَعٌ تَحْتَ الشَّراسِيفِ قاتِلُه تَذَكَّرَ ما يَبْقَى مِنَ العَيْشِ آجِلاً ... فَأَزْعَجَهُ مِنْ عاجِلِ العَيْشِ آجِلُه ¬
وَأَزْعَجَهُ عِلْمٌ نَفى الْجَهْلَ كُلَّهُ ... وَما عالِمٌ أَمْراً كَمَنْ هُوَ جاهِلُه (¬1) وروى الطبراني في "الأوسط" عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قالَ أَخِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: يا رَبِّ! أَرِني الَّذِي كُنْتَ أَرَيْتَنِي فِي السَّفِينَةِ، فَأَوْحَى اللهُ تَعالَى إِلَيْهِ: يا مُوسَى! إِنَّكَ سَتَراهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ يَسِيراً حَتَّى رَأَى الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي طَيّبِ رِيحٍ، وَحُسْنِ ثِيابِ البَياضِ فَقالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يا مُوسَى بْنَ عِمْرانَ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ وَرَحْمَةَ اللهِ، فَقالَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: وَهُوَ السَّلامُ، وَمِنْهُ السَّلامُ، وَإِلَيْهِ السَّلامُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العالَمِينَ الَّذِي لا أُحْصِي نِعَمَهُ، وَلا أَقْدِرُ عَلى شُكْرِهِ إِلاَّ بِمَعُونَتِهِ. ثُمَّ قالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تُوْصِيَنِي بِوَصِيَّةٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِها بَعْدَكَ. قالَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ: يا طالِبَ العِلْمِ! إِنَّ القائِلَ أقلُّ مَلالةً مِنَ الْمُسْتَمعِ؛ فَلا تُمِلَّ جُلَساءَكَ إِذا حَدَّثْتَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَلْبَكَ وِعاءٌ؛ فَانْظُرْ ماذا تَحْشُو بِهِ وِعاءَكَ، وَاعْزُفْ عَنِ الدُّنْيا، وَانْبِذْها وَراءَكَ؛ فَإِنَّها لَيْسَتْ لَكَ بِدارٍ، وَلا لَكَ فِيها مَحَلُّ قَرارٍ، وَإِنَّها جُعِلَتْ بلِغةً لِلعِبادِ لِيَتَزَوَّدُوا مِنْها لِلْمَعادِ. وَيا مُوسَى! وطِّنْ نَفْسَكَ عَلى الصَّبْرِ تَلْقَى الْحُكْمَ، وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ بِالتَّقْوى تَنَلِ العِلْمَ، وَرَضِّ نَفْسَكَ عَلَى الصَّبْرِ تَخْلُصْ مِنَ الإِثْمِ. ¬
يا مُوسَى! تَفَرَّغْ لِلْعِلْمِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُهُ؛ فَإنَّ العِلْمَ لِمَنْ تَفَرَّغَ لَهُ، وَلا تَكُونَنَّ مِكْثاراً بِالْمَنْطِقِ مِهْذاراً؛ إِنَّ كَثْرَةَ الْمَنْطِقِ تَشِينُ الْعُلَماءَ، وَتُبْدِي مَساوِئَ السُّخَفاءِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِذي اقْتِصادٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّوفِيقِ وَالسَّدادِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجِدالِ وَاحْلُمْ عَنِ السُّفَهاءِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلُ الْحُكَماءِ وَزينُ العُلَماءِ. إِذا شَتَمَكَ الْجاهِلُ فَاسْكُتْ سِلْماً، وَجانِبْهُ حَزْماً؛ فَإِنَّ ما بَقِيَ مِنْ جَهْلِكَ عَلَيْكَ، وَشَتْمَهُ إِيَّاكَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ. يا ابْنَ عِمْرانَ! لا تَفْتَحْ باباً لا تَدْرِي ما غَلَقُهُ، وَلا تُغْلِقْ باباً لا تَدْرِي ما فَتْحُهُ. يا ابْنَ عِمْرانَ! إِنَّ مَنْ لا تَنْتَهِي مِنَ الدُّنْيا نَهْمَتُهُ، وَلا تَنْقَضِ فِيها رَغْبَتُهُ كَيْفَ يَكُونُ عابِداً؟ مَنْ يَحْقِرُ حالَهُ وَيَتِّهِمُ اللهَ فِيما قَضى لَهُ كَيْفَ يَكُونُ زاهِداً؟ هَلْ يَكُفُّ عَنِ الشَّهَواتِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَواهُ؟ وَيَنْفَعُهُ طَلَبُ العِلْمِ وَالْجَهْلُ قَدْ حَوَّلَهُ لأَنَّ سَفَرَهُ إِلَى آخِرَتهِ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلى دُنْياهُ. يا مُوسَى! تَعَلَّمْ ما تَعَلَّمُ لِتَعْمَلَ بِهِ، وَلا تَعَلَّمْهُ لِتُحَدِّثَ بِهِ فَيَكُونَ عَلَيْكَ بَورُه، [ويكون لغيركَ نُورُهُ]. يا ابْنَ عِمْرانَ! اجْعَلِ الزُّهْدَ وَالتَّقْوى لِباسَكَ، وَالْعِلْمَ وَالذِّكْرَ كَلامَكَ، وَأَكْثِرْ مِنَ الْحَسَناتِ فَإِنَّكَ مُصِيبٌ السَّيِّئاتِ، وَزَعْزِعْ بِالْخَوْفِ
قَلْبَكَ، وَاعْمَلْ خَيْراً فَإِنَّكَ لا بُدَّ عامِلٌ سِواهُ. قَدْ وَعَظْتُ إِنْ حَفِظْتَ. فَتَوَلَّى الْخَضِرُ، وَبَقِيَ مُوسى حَزِيناً مَكْرُوباً؛ عَلَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلام" (¬1). وقول الخضر عليه السلام: وأعرض عن الجهال ... إلى آخره، فهو موافق لقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]. ولا شك أن الإعراض أفضل من مقابلة الجهل بالانتقام. وفي هذا المعنى ما رواه المعافى بن زكريا في "الجليس والأنيس" عن النضر بن شُميل: أن المأمون قال له: أنشِدْني أحسن ما قالته العرب في الحلم، فأنشده: [من الطويل] إِذا كانَ دُونِي مَنْ بُلِيتُ بِجَهْلِهِ ... أَبَيْتُ لِنَفْسِي أَنْ أُقابَلَ بِالْجَهْل وَإِنْ كانَ مِثْلِي فِي مَحَلٍّ مِنَ العُلا ... هَوَيْتُ إِذاً حِلْماً وَصَفْحاً عَنِ الْمِثْلِ ¬
وَإِنْ كُنْتُ أَدْنَى مِنْهُ فِي الفَضْلِ وَالْحِجَى ... رَأَيْتُ لَهُ حَقَّ التَّقَدُّمِ وَالفَضْلِ (¬1) ¬
الفصل الثاني في تشبه العالم بالجاهل في نفس الجهل
الفَصْلُ الثَّانِي فِي تَشَبُّهِ العَالِمِ بِالجَاهِلِ في نَفْسِ الجَهْلِ وهو على وجهين: الوجه الأول: أن يقعد عن طلب الزيادة في العلم، أو ينبغي للمؤمن أن لا يرضى إلا بخير المنزلتين. وقد قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: لا يزال المرء عالماً ما طلب العلم؛ فإنه إذا ظن أنه علم فقد جهل. رواه الدينوري في "المجالسة" (¬1). لكن طلب الزيادة في العلم إنما يحسُن بعد العمل بما علم والخروج من عهدته، ولذلك ورد في الدعاء: "اللَّهُمَّ انْفَعْنا بِما عَلَّمْتَنا، وَزِدْنا عِلْماً" (¬2). ¬
وليس من مقتضى العلم أن يترك العمل به ليزداد من العلم؛ فإن العلم إنما يراد للعمل به. وكان داود الطائي رحمه الله تعالى يقول: العلم آلة العمل، فإذا أفنيت عمرك في جمع الآلة فمتى تعمل (¬1)؟ وفي معناه ما قاله بعض العلماء المتقدمين لطلبة الحديث: [من المتقارب] إِذا كُنْتُمْ تَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ ... نَهاراً وَفِي لَيْلِكُمْ تَرْقُدُونَ وَقَدْ بانَ مِنْكُمْ زَمانُ الشَّبابِ ... فَبِاللهِ قُولُوا مَتَى تَعْمَلُونَ وقال عبد الله بن جعفر المكنى بأبي بكر من أصحاب الإمام أحمد: سمعت أحمد بن حنبل رضي الله تعالى وسئل عن الرجل يكتب الحديث فيكثر، قال: ينبغي أن يكثر العمل به على قدر زيادته في الطلب، ثم قال: سبيل العلم مثل المال؛ إن المال إذا ازداد زادت زكاته. قلت: وكما أن المال ينمو بالزكاة ويتضاعف بالنص، فكذلك العلم، والعلم نعمة كالمال، وشكرها المستزيد لها العمل به. ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَمِلَ بِما عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ ما لَمْ يَعْلَمْ". رواه أبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬2). فكيف يوفق للزيادة من نعمة من لم يوفق لشكرها؟ ¬
وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه قال: خرج رجل في طلب العلم فاستقبله حجر، فإذا فيه منقور: أنت بما تعلم لا تعمل، كيف تطلب علم ما لم تعلم (¬1)؟ فإذا قام العالم بحق ما علمه من العلم بالعمل به والرعاية له دون الاقتصاد على روايته فقط، أو على روايته والمجالسة به، فليطلب الازدياد من العلم، وليس من المعقول أن يطلب الإنسان ما لا يحتاج إليه من العلم، ويدع ما يحتاج إليه منه، أو من العمل به كحال أهل العصر الذين أقبلوا على المنطق، والعربية، والبلاغة، وغرائب العلوم، والمسائل، والتبحر فيها، وأعرضوا عن علوم الشريعة المؤدية إلى تزكية النفس ونجاتها في الدار الآخرة. على أننا لم نذم ولا نذم تلك العلوم، بل نرشد إلى قدر الحاجة منها، وإنما نذم الإيغال فيها، والاشتغال بتكرير مسائلها في الخَلْوة والجَلْوة عن الاشتغال بالأحكام الشرعية خصوصاً ما يتعلق بالعبادات والمعاملات، وأخص منه ما يتعلق بتهذيب النفوس، وإصلاح القلوب، ولا شك أن ذلك من الجهل بما يكون أعود عليهم نفعاً في الدار الآخرة. ومن كلام بعض السلف: إن من أوتي من العلم ما لا يحزنه لحريٌّ أو لا يكون أوتي علماً ينفعه (¬2). ¬
وقد روى [ابن السني] وأبو نعيم كلاهما في "رياضة المتعلمين"، عبد البر عن عبد الله بن المِسور -مرسلاً -: أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: علِّمني من غرائب العلم. قال: "ما صَنَعْتَ فِي رَأْسِ العِلْمِ؟ " قال: وما رأس العلم؟ قال: "هَلْ عَرَفْتَ الرَّبَّ؟ " قال: نعم. قال: "وَما صَنَعْتَ فِي حَقِّهِ؟ " قال: ما شاء الله. قال: "هَلْ عَرَفْتَ الْمَوْتَ؟ " قال: نعم. قال: "ما أَعْدَدْتَ لَهُ؟ " قال: ما شاء الله. قال: "اذْهَبْ فَأحْكِمْ ما هُنالِكَ، ثُمَّ تَعالَ نُعَلِّمْكَ غَرائِبَ الْعِلْمِ" (¬1). وروى ابن عبد البر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل والناس مجتمعون عليه، فقال: "ما هَذا؟ " قالوا: رجل علاَّمة. ¬
فقال: "ماذا؟ قالوا: بالشعر وأنساب العرب. فقال: "عِلْمٌ لا يَنْفَعُ وَجَهْلٌ لا يَضُرُّ". وقال: "وَإِنَّما العِلْمُ آيةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، أَوْ فَرِيضةٌ عادِلةٌ" (¬1). فانظر كيف بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن علم الشعر والنسب ونحوهما يلحق بالمباحات، وأن العلم الذي يهتم به ويعتنى بشأنه إنما هو علم الكتاب والسنة والأحكام الشرعية، فإذا أخذ الإنسان حظه منها فلا عليه إذا ظَفِرَ في غيرها من العلوم التي لم تكن بمثابتها. وإنما سمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - علم الشعر والنسب جهلًا مَع تسميته إياه علماً؛ لأن الإنسان إذا اشتغل بهذا العلم في زمان فاته قدر صالح من العلم النافع في ذلك الزمان، وكل زمان يمضي فلا يعود، فاشتغاله بعلم النسب والشعر أدى إلى جهله بذلك القدر من العلم النافع. وأيضاً فإن أوقات العمر في غاية النفاسة، وهي رأس مال العبد من الدنيا، فإذا صرفها فيما هو نافع، أو فيما هو أكثر نفعًا، فقد جهل مقدار تلك الأوقات حيث بخسها، وبذلها فيما لا يجدي. ومن هنا يتبين لك معنى الحديث الآتي: "إِنَّ مِنَ العِلْمِ جَهْلًا" (¬2). ¬
قال أبو عبيد: هو أن يتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلمه. قال: وقال الأزهري: هو أن يتعلم ما لا يحتاج إليه كالكلام، والنجوم، وكتب الأوائل، ويدع ما يحتاج إليه لدينه كعلم القرآن والشريعة، انتهى (¬1). نعم، مهما أخذ الإنسان بحظه من العلوم النافعة فلا بأس بترويح نفسه بشيء من علم التاريخ، والنسب، والشعر، والأدب، ونحو ذلك. فقد روى أبو داود عن الزهريّ مرسلاً، والقضاعي متصلاً، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَوِّحُوا القُلُوبَ ساعَةً وَساعَة" (¬2). واستنشد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمية بن الصلت وغيره. وكان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه من أعرف الناس بعلم الأنساب. وكان شيخ الإسلام والدي رحمه الله تعالى - ولم يمض له وقت منذ سن التمييز إلا في علم أو خير - كان في آخر أمره ينظر في علوم الشرع تفسيراً، وحديثاً، وفقهاً، وأصولاً في سائر أيام الجمعة إلا يوم الجمعة، فيقسمه على وظيفتين: ¬
تنبيه
إحداهما: قراءة القرآن والعبادة. والثانية: النظر في سائر العلوم عربية، وبلاغة، وتاريخاً، وغير ذلك. وبالجملة: فكل فن من العلم صار للعالم فيه ملكة كان في أهله غنياً، فإذا تفنن في العلوم، فأي مكان جلس فيه كان فيه ملياً، بخلاف ما لو جلس في أهل فن خالياً عنه فإنه يكون كالمفلس في الواجدين، والمعدم في المتمولين. ومن ثم قال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: ضالة الجاهل غير موجودة، ومال العالم معه حيثما توجه. رواه ابن جهضم. * تَنْبِيهٌ: روى أبو داود عن بريدة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مِنَ البَيانِ سِحْراً وَإِنَّ مِنَ العِلْمِ جَهْلاً، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْر حِكَماً" (¬1). وهو محمول على ما تقدم في تسميته - صلى الله عليه وسلم - علم النسب والشعر جهلاً. وأشار بقوله في الحديث: "وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكماً" إلى أن الشعر الذي هو علم لا ينفع، وجهل لا يضر ليس كل الشعر، ولكن منه ما هو حكمة، وإن كان الغالب في المقصود منه اللهو واللغو. ¬
أو يحمل قوله: "وَإِنَّ مِنَ العِلْمِ جَهْلاً" على العلوم التي تؤدي بصاحبها إلى دعوى علم الغيب، أو إلى فساد الاعتقاد كالسحر، والكهانة، والتنجيم، وعلم النجوم، والفلسفة، والهيئة، أو على تعلم الحيل الفقهية في التوصل إلى أكل الربا وغيره مما لا يحل. وقد حكي لنا: أن فقيهاً عشق امرأة، وأراد أن يتزوجها وهي ذات زوج، وقد غاب زوجها وانقطع خبره، فعلَّمها أن تتكلم بكلمة كفر، أو تفعل فعلاً مكفِّراً، وتدوم عليه إلى انقضاء العدة، ففعلت، وتزوجها آخراً؛ وهل فوق هذا الجهل جهل؟ أو يحمل على علم الخلاف، والقضاء ونحوه من العلوم التي بها يتوصل إلى الولايات والمناصب لنيل ذلك، وخطر هذه الفنون عظيم بحيث أن لو كشف الغطاء لود ذووها أن لو جهلوها. وذكر أبو طالب المكي في "القوت": أن إسماعيل بن إسحاق القاضي كان من سادات القضاة وعقلائهم، وكان مؤاخياً لأبي الحسن ابن أبي الورد، وكان هذا من علماء الباطن (¬1)، فلما ولي إسماعيل بن إسحاق هجره ابن أبي الورد، ثم اضطر إلى أن دخل عليه، فضرب ابن أبي الورد على كتف إسماعيل القاضي، وقال: يا إسماعيل! علمٌ أجلسك هذا المجلس لقد كان الجهل خيراً منه، فوضع إسماعيل رداءه على وجهه، وجعل يبكي حتى بَلَّه (¬2). ¬
الوجه الثاني من وجهي تشبه العالم بالجاهل في نفس الجهل
الوجه الثاني من وجهي تشبه العالم بالجاهل في نفس الجهل: أن يترك الإنسان تعاهد معلوماته بالتدريس والمطالعة، ومراجعة لكتب العلم، ومذاكرة أهل العلم حتى ينساها، ويؤول أمره إلى نسيانها والجهل بها. قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)} [الأعلى: 6]. وروى أبو داود، والترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجورُ أُمَّتِي حَتَّى القَذاةُ يُخْرِجُها الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أَرَ ذَنْباً أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ القُرْآنِ، أَوْ آيَةٍ أُوْتِيَها الرُّجُلُ ثُمَّ نسِيَها" (¬1). وبهذا الحديث استدل العلماء على تحريم نسيان القرآن بعد تعلمه، وعَدُّوه من الكبائر، والتكليف بالنسيان مرفوع عن هذه الأمة، فحمل ذلك على تهاون الحافظ لما يعرفه من القرآن في محفوظه، وعدم تعاهده بالدراسة، وتعرضه بذلك للنسيان. وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: آفة العلم النسيان (¬2). ¬
وأخرجه الدارمي، ولفظه: إن لكل شيءٍ آفةً، وآفة العلم النسيان (¬1). ورويا عن الأعمش - معضلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آفَةُ العِلْمِ النِّسْيانُ وَتَرْكُ الْمُذاكَرَةِ" (¬2). وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى: تذاكروا الحديث؛ فإن إحياء الحديث مذاكرته (¬3). وقال علقمة رحمه الله تعالى: تذاكروا الحديث؛ فإن ذكره حياته (¬4). وقال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: تذاكروا؛ فإن الحديث يهيج الحديث (¬5). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تذاكروا هذا الحديث لا يتفلت منكم (¬6). وقال: إذا سمعتم منا حديثاً فتذاكروه بينكم (¬7). ¬
وكان الحارث بن يزيد العكلي، وابن شُبْرُمة، والقعقاع بن يزيد ومغيرة رحمهم الله تعالى إذا صلوا العشاء الآخرة جلسوا في الفقه، فلم يفرق بينهم إلا أذانُ الصبح (¬1). روى هذه الآثار الدارمي، وغيره. وقال الحافظ أبو الحجاج المزي: [من المحدَث] مَنْ حاز الْعِلْمَ وَذاكَرَه ... صَلُحَتْ دُنياهُ وَآخِرَتُهْ فَأَدِمْ لِلْعِلْمِ مُذاكَرَةً ... فَحَياةُ الْعِلْمَ مُذاكَرَتُهْ (¬2) وروى ابن السني في "رياضة المتعلمين" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَلْبٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْحِكْمَةِ كَبَيْتٍ خَرِبٍ، فَتَعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا، وَتَفَقَّهُوا، وَلا تَمُوتوا جُهَّالاً؛ فَإِنَّ اللهَ لا يَعْذُرُ عَلى الْجَهْلِ" (¬3). وفي "تهذيب الكمال": قيل لسفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: من أحق الناس بالعلم؟ قال: العلماء؛ لأن الجهل بهم أقبح (¬4). ¬
فوائد
* فَوائِدُ: الفائدة الأُولَى: روى الطبراني في "الكبير" - ورواته موثقون - عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إني لأحسب الرجل ينسى العلم كما تعلمه للخطيئة يعملها (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن الضحاك رحمه الله تعالى قال: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب يحدثه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، ونسيان القرآن أعظم المصائب (¬2). ونقل والدي رحمه الله تعالى في "الدر النضيد" عن علي بن خشرم قال: شكوت إلى وكيع رحمه الله تعالى قلة الحفظ. قال: استعن على الحفظ بقلة الذنوب (¬3). وأنشدوا في معناه: [من الوافر] شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي ... فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ الْمَعاصي وَقالَ اعْلَمْ بِأَنَ الْعِلْمَ فَضْلٌ ... وَفَضْلُ اللهِ لا يُؤْتَى لِعاصِي ¬
الفائدة الثانية
وفي مقابلة ذلك أن الطاعة تزيد في الحفظ والعلم، وقد قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. وتقدم الحديث: "مَنْ عَمِلَ بِما عَلِمَ وَفَّقَهُ اللهُ لِعِلْمِ ما لَمْ يَعْلَم" (¬1). الفائِدَةُ الثَّانِيَةُ: روى الطبراني في "الأوسط" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْبَغِي لِلْعالِمِ أَنْ يَسْكُتَ عَلى عِلْمِهِ مَعَ عِلْمِهِ، وَلا يَنْبَغِي لِلْجاهِلِ أَنْ يَسْكُتَ عَلى جَهْلِهِ؛ قالَ اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] " (¬2). قوله: "لا يَنْبَغِي لِلْعالِمِ أَنْ يَسْكُتَ عَلى عِلْمِهِ" أي: مع علمه؛ يعني: إذا رأى ما يخالف العلم لا يسكت مع علمه بالحكم الشرعي عن الإنكار على من يخالفه. وقوله: "ولا يَنْبَغِي لِلجاهِلِ أَنْ يَسْكُتَ عَلى جَهْلِه"؛ أي: لا ينبغي له أن يصبر على الجهل، ويرضى به لنفسه، بل يطلب العلم. وليس معناه أن يتكلم مع الجهل، بل اللائق به أن يسكت عما يجهله وإن سئل عنه، وليس له التشبه بالعلماء حينئذ. ولقد قال بعض الحكماء: الصمت زينة للعاقل، وستر للجاهل (¬3). ¬
وقال أبقراط: الجاهل الساكت فيلسوف الجهلة. وروى ابن أبي الدنيا في "الصمت" بإسناد حسن، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كَفَّ لِسانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرتَهُ، وَمَنْ مَلَكَ غَضَبَهُ وَقاهُ اللهُ عَذابَهُ، وَمَنِ اعْتذَرَ إِلى اللهِ قَبِلَ اللهُ عُذْرَهُ" (¬1). ولا شك أن الجهل عيبٌ وعورةٌ. وروى هو والطبراني، والبيهقي في "الشعب" بإسناد حسن، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه كان على الصفا يلبي، ويقول: يا لسان! قل خيراً تغنم، وأنصت تسلم من قبل أن تندم. قيل له: يا أبا عبد الرحمن! هذا شيء تقوله، أو شيء سمعته؟ قال: بل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ أَكْثَرَ خَطايا ابْنِ آدَمَ فِي لِسانِه" (¬2). والعالم إذا تكلم بعلمه في محله غنم ثواب العلم والنصيحة، وإن سكت عن العلم في غير محله سلم من ضرر الكلام، والجاهل إذا ¬
الفائدة الثالثة
سكت عن جهله سلم من ضرر الجهل وخجلته، فإن تكلم بالجهل ظهر عذابه في الدنيا، فيخجل فيندم لخجله، وإذا رأى عقوبة ما تكلم به في الآخرة ندم أيضاً. الفائِدَةُ الثَّالِثَةُ: تقدم التحذير من صحبة الجهلاء وما فيها. وذكر أبو طالب المكي في "القوت": أن بعض الصالحين قال لبعض الأبدال: كيف الطريق إلى التحقيق؟ وقال مرة: قلت له: دُلَّني على عمل أجد فيه قلبي مع الله في كل وقت على الدوام. فقال: لا تنظر إلى الخلق - يعني: عامتهم -؛ فإن النظر إليهم ظلمة. قلت: لا بد لي من ذلك. قال: فلا تسمع كلامهم؛ فإن كلامهم قسوة. قلت: لا بد لي من ذلك. قال: فلا تعاملهم؛ فإن معاملتهم وحشة. قلت: إني بين أظهرهم، لا بد لي من معاملتهم. قال: فلا تسكن إليهم. قلت: هذا لعله. فقال لي: يا هذا! تنظر إلى الغافلين، وتسمع كلام الجاهلين، وتعامل البطالين، وتريد أن تجد قلبك مع الله على الدوام؟ هذا ما لا يكون (¬1). ¬
الفائدة الرابعة
الفائِدَةُ الرَّابِعَةُ: روى الحاكم في "المستدرك" عن أنس رضي الله تعالى عنه، والديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ هَذا العِلْمَ دِينٌ؛ فَانْظُروا عَنْ مَنْ تأْخذُونَ دِيْنَكُم" (¬1). فيتعين لمن طلب العلم أن يكون طلبه ممن كملت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت معرفته، وعرفت عفته، واشتهرت صيانته، وكملت مروءته، وحسن تعليمه، وجاد تفهيمه، ولا يرغب فيمن زاد علمه مع نقص دينه أو ورعه، أو سوء في خلقه؛ فإن الشيخ من يدلُّك على الله بحاله قبل مقاله، ولقد كان هذا عزيزاً في الزمان الأول، فكيف بنا الآن والدهر تقهقر والحال تحول؟ وقد روى ابن جهضم عن حسن القزويني رحمه الله تعالى قال: أربعة أشياء عزيزة في الخلق: عالم مستعمل لعلمه، وحكيم ينطق عن فعله، وواعظ ليس له طمع، ومتعبد ليست له إعلالة (¬2). ¬
الفائدة الخامسة
الفائِدَةُ الْخامِسَةُ: روى الدينوري في "المجالسة" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: إن الناس يبعثون من قبورهم على ما ماتوا عليه، فيبعث العالم عالماً، والجاهل جاهلاً (¬1). وهو بمعناه في "صحيح مسلم" من حديث جابر رضي الله تعالى عنه مرفوعاً، ولفظه: "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ على ما ماتَ عَلَيْهِ" (¬2). ومقتضاه: أن العبد يبعث على آخر حالاته من علم أو جهل، ومن طاعة أو معصية، ومن ذكر أو غفلة، فينبغي للعالم أن لا يترك تذكرة العلم وتذكره لعله يختم له به؛ فإنما الأعمال بالخواتيم. وفي الحديث: "لا تُعْجَبُوا بِعَمَلِ عامِلٍ حَتَّى تَنْظُروا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ". أخرجه الديلمي من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - (¬3)، وأصله في "الصحيح". الفائِدَةُ السَّادِسَةُ: روى ابن أبي الدنيا في "العقل" قال: حدثني محمد بن رجاء مولى بني هاشم قال: قال بعض الخلفاء لجلسائه: من الغريب؟ فقالوا، فأكثروا، فقال: الغريب هو الجاهل؛ أما سمعتم قول الشاعر: [من الطويل] يُعَدُّ عَظِيمَ القَدْرِ مَنْ كانَ عاقِلاً ... وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِهِ بِحَسِيبِ ¬
الفائدة السابعة
وَإِنْ حَلَّ أَرْضاً عاشَ فِيها بِعَقْلِهِ ... وَما عاقِلٌ فِي بَلْدَةٍ بِغَرِيبِ (¬1) وروى الدينوري في "المجالسة" عن أبي العالية رحمه الله تعالى قال: كنت آتي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقريش حوله، فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير، فتغامزت في قريش، ففطن لهم ابن عباس، فقال: هكذا هذا العلم؛ يزيد الشريف شرفاً، ويجْلِس الملوك على الأسرة. ثم أنشد محمد بن الحارث المروزي أحد رواته في أثره: [من الطويل] رَأَيْتُ رَفِيعَ النَّاسِ مَنْ كانَ عالِماً ... وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْمِهِ بِحَسِيبِ إِذا حَلَّ أَرْضاً عاشَ فِيها بِعِلْمِهِ ... وَما عالِمٌ فِي بَلْدَةٍ بِغَرِيبِ (¬2) الفائِدَةُ السَّابِعَةُ: روى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما لي أرى علماءكم يذهبون، وأرى جهالكم لا يتعلمون؟ تعلموا قبل أن يرفع العلم؛ فإن رفع العلم ذهاب العلماء (¬3). وتقدم حديث ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما: "إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَماءِ، حَتَّى إِذا لَمْ يُبْقِ عالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسا جُهَّالاً" الحديث (¬4). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر، فإذا ذهب الأول قبل أن يتعلم الآخر فذلك حين هلكوا (¬1). وروى أبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَزالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ ما أَخَذُوا العِلْمَ عَنْ أَكابِرِهِمْ، فَإِذا أَخَذُوا العِلْمَ عَنْ أَصاغِرِهِمْ هَلَكُوا" (¬2). وروى البيهقي عن الحسن قال: لا يزال الناس بخير ما تباينوا - أي: العلم - فإذا استووا - أي: في الجهل - فذلك عند هلاكهم (¬3). وروى أبو عمرو الداني في "الفتن"، والروياني عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ طَلَبَ الْعِلْمِ عِنْدَ الأَصاغِرِ دُونَ الأَكَابِرِ". وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي أمية (¬4) الجمحي رحمه الله تعالى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ أَنْ يُلْتَمَسَ العِلْمُ عِنْدَ الأَصاغِرِ" (¬5). ¬
الفائدة الثامنة
الفائِدَةُ الثَّامِنَةُ: روى الإمام أحمد، والستة إلا أبا داود عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " [إنَّ مِنْ أشراطِ السَّاعةِ] أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَفْشُوَ الزِّنا، وَتُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَتَذهَبَ الرِّجالُ، وَتَبْقَى النِّساءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأةٍ قَيِّمٌ واحِدٌ" (¬1). وفي رواية: "أَنْ يَذْهَبَ العِلْمُ وَيكْثُرَ الْجَهْلُ" (¬2)، وهي مبيِّنة لمعنى الرواية الأولى. وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ". رواه البخاري، وغيره (¬3). وروى أبو عمرو الداني عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: كان يقال: يأتي على الزمان ينتقص فيه الصبر، والعقل، والحلم، والمعرفة حتى لا يجد الرجل من يبث إليه ما يأخذه من العلم. قيل له: وأي زمان هو؟ قال: أراه زماننا هذا (¬4). ¬
الفائدة التاسعة
وثَمَّ أخبار تدل على أشراط ما تتعلق بالعلم والعلماء استقريتها في غير هذا الكتاب. الفائِدَةُ التَّاسِعَةُ: روى ابن أبي الدنيا في "الصمت" عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: لا يتعلم العلم لثلاث، ولا يترك لثلاث: لا يتعلم ليُمارى به، ولا ليباهى به، ولا ليُراءى به، ولا يترك حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضا بالجهل منه (¬1). وقال مجاهد: لا ينال العلم مستحي، ولا متكبر (¬2). وفي "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها: "نِعْمَ النِّساءُ نِساءُ الأَنْصارِ؛ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَياءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ" (¬3). وقيل: الْعِلْمُ حَرْبُ الفَتَى الْمُتَعالِي ... كَالسَّيْلِ حَرْبٌ لِلْمَكانِ العالِي (¬4) وفي التنزيل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} [الأعراف: 146] الآية. الفائِدَةُ العاشِرَةُ: روى الشيخان من حديث أبي موسى رضي الله ¬
تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ما قَدَّمْتُ وَما أَخَّرْتُ، وَما أَسْرَرْتُ وَما أَعْلَنْتُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِيَ، وَإِسْرافِي فِي أَمْري، وَما أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَئِي وَعَمدِي، وَهَزْلي وَجِدِّي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ" (¬1). وفي نسبة الجهل إلى نفسه - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنه لا يخلو إنسان من جهل ولو كان معصوماً؛ فإنه لا يمكنه الإحاطة بالمعلومات كلها؛ إذ لا يكون ذلك إلا لله - عز وجل -، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - عدَّ على نفسه جهل ما لم يصل علمه إليه ذنباً، فاستغفر منه. والجهل من صفات الإنسان التي طُبع عليه، كما وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. فهو جهول بكل معلوم إلا ما علمه الله تعالى، وكذلك غيره من الخلق؛ ألا ترى إلى قول الملائكة عليهم السلام: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]؟ وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ثم أشار إلى أن العبد لا ينال من العلم شيئاً إلا بتعليمه بقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269]. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. ¬
وقال حكاية عن يوسف عليه السلام: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37]. وقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101]. وقال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]. وقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]. فإذاً ينبغي للعبد أن يسأل من الله تعالى أن يعلمه ويزيده من العلم. وروينا عن ابن خبيق قال: سمعت إبراهيم البكَّاء يقول: قلت لمعروف الكرخي رحمه الله تعالى: أوصني. قال: توكَّل على الله حتى يكون هو معلمك، ومؤنسك، وموضع شكواك؛ فإن الناس لا ينفعونك ولا يضرونك (¬1). وقلت في معناه: [من السريع] ما نَفَعَ النَّاسُ وَلا ضَرُّوا ... وَاللهُ مِنْهُ النَّفْعُ وَالضُّرُّ فَحَسْبِيَ اللهُ تَوَكَّلْتُ فِي ... أَمْرِي عَلَيْهِ فَانتُهَى الأَمْرُ إِنْ لَمْ يُعَلِّمْنِي فَلا عِلْمَ لِي ... وَكَلَّ مِنِّي الذِّهْنُ وَالْفِكْرُ أُنْسِي بِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْنِسي ... ما كانَ لِي أُنْسٌ وَلا قَرُّ ¬
وَهُوَ الَّذِي إِنْ مَسَّنِي نائِبٌ ... أَشْكُو إِلَيْهِ ما جَنَى الدَّهْرُ فَعادَ لَمَّا اسْتَحْكَمَتْ عُسْرَتِي ... عَلَيَّ مِنْهُ اليُسْرُ وَالنَّصْرُ وَاللهِ لَوْلا اللهُ ما كَانَ لِي ... فِي الْحالَتيْنِ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ ولقد أتينا في هذا الباب مع ما ذكرناه في التشبه بالصدِّيقين ما فيه مقنع لمن وفقه الله تعالى إلى الخير، فمن وفقه الله تعالى للعمل به كان ممن تم له شرف العلم ونوره، وانزاح عنه ظلام الجهل وديجوره؛ وفقنا الله تعالى للعمل بما فيه، والسعي في طاعاته ومراضيه.
خاتمة لهذا القسم
خَاتِمَةٌ لِهَذَا القِسْمِ لا يدخل في جميع ما ذكرناه من أول هذا القسم؛ أي: من التشبه المذموم إلى ما هنا، شبه الصالح بالطالح في خلقته، أو صورته، أو حِليته، أو في اسمه، ونحو ذلك، فلا يضر المؤمن إذا كان أعور شبه الشيطان أو الدجال في كونه أعور العور الصوري، وإنما يضره العَوَر القلبي كالعمى القلبي كما قيل فيمن أثبت الشريعة وأنكر الحقيقة، أو عكس أنه أعور بإحدى عينيه، فمتى كان الاعتقاد صحيحاً والعمل صالحاً فلا يضر صاحبهما كونه يشبه كافراً في الصورة، أو في اللون، أو عجمة اللسان، أو فصاحته، أو القصر أو الطول، أو في الشحم أو الهزال، أو في الاسم أو في الكنية. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك فيما أخرجه ابن أبي شيبة، والحاكم - وقال: صحيح الإسناد - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأكثم بن الجون: "يا أَكْثَمُ! عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ فَرَأَيْتُ فِيها عَمْرَو بْنَ لحي بْنِ قمعةَ بْنِ حنيفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، فَما رَأَيْتُ رَجُلاً أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ وَلا مِنْهُ بِكَ".
فقال أكثم: أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا؛ إِنَّكَ مُؤْمِن وَهُوَ كافِرٌ، إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَبَحَرَ البَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَحَمَى الحامِي" (¬1). وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديثه: "فَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ، وَرَأَيْتُ فِيها عَمْرَو بْنَ لحيٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَأَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ مَعْبَدُ بْنُ أَكْثَمٍ الْخُزاعِيُّ". فقال معبد: يا رسول الله! أتخشى عليَّ من شبهه؟ فقال: "لا؛ أَنْتَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كافِرٌ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَمَلَ العَرَبَ عَلى عِبادَةِ الأَصْنامِ" (¬2). واعلم أن من تمام النعمة وكمال المئة حسن الصورة واعتدال الخِلقة؛ فإن الله تعالى امتن علينا بذلك فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين: 4]. ¬
وقال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن: 3]. وروى مسلم، والترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمالَ" (¬1). وروى الإمام أحمد عن أبي ريحانة، والطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة، وفي "الأوسط" عن جابر، وهو والحاكم وصححه، عن ابن عمر، وابن عساكر عنهما، وأبو يعلى عن أبي سعيد. وأخرج البيهقي حديثه وزاد فيه: "وَيُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلى عَبْدِهِ، وَيُبْغِضُ الْبُؤْسَ وَالتَّباؤُسَ" (¬2). وروى ابن لال عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جَعَلَ اللهُ الْخَيْرَ فِي الرَّبْعَةِ" (¬3). ووجهه: أن الربعة معتدل بين القصير والطويل، واعتدال الْخَلْق يتبعه اعتدال الْخُلُق غالباً، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رَبْعة من الرجال. ولو قلنا: إنه هو المراد بالربعة في الحديث لم يبعد، وقد تقدم هذا المعنى في التشبه بالصالحين. وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ آتاهُ اللهُ وَجْهاً حَسَناً، وَاسْماً حَسَناً، وَجَعَلَهُ ¬
اللهُ فِي مَوْضعٍ غَيْرِ شائِنٍ لَهُ، فَهُوَ مِنْ صَفْوَةِ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ". قال ابن عباس: قال الشاعر: [من الخفيف] أَنْتَ شَرْطُ النَّبِيِّ إِذْ قالَ يَوْماً ... اطْلُبُوا الْخَيْرَ مِنْ حِسانِ الْوجُوهِ (¬1) وهذه النعمة تقتضي شكراً، فإذا كَفَرها العبد فقد كان عَدَمُها خير له لو عدمها، فهي إذاً ليست بنعمة عليه، ولا يكون حينئذ من صفوة الله المشار إليهم في حديث ابن عباس؛ فإنه ليس في موضع غير شائن له، وهو موضع المعصية وكفران النعمة. قد وقع بيان ذلك فيما رواه أبو نعيم عن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: من كان ذا سورة حسنة في موضع لا يشينه، ووسَّع عليه رزقه، ثم تواضع لله، كان من خالصة الله. وفي رواية: من حسن الله صورته، وأحسن رزقه، وجعله في منصب صالح، ثم تواضع لله، فهو من خالص الله (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن رجل من جهينة - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خَيْرُ ما أُعْطِيَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ خُلُقٌ حَسَنٌ، وَشَر ما أُعْطِيَ الرَّجُلُ قَلْبُ سُوءٍ فِي صُوْرَةٍ حَسَنَةٍ" (¬3). ¬
وفيه إشارة إلى أن من انطوى قلبه على السوء وصورته حسنة أقبحُ حالةً، وشرٌّ مكاناً ممن قلبه كذلك وصورته قبيحة؛ لأن صاحب الصورة الحسنة كفر نعمة لم يعطها صاحب الصورة القبيحة؛ فافهم! وروى الخرائطي في "مكارم الأخلاق"، وأبو العباس الدغولي في "الآداب" عن جرير - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إِنَّك امْرُؤٌ قَدْ أَحْسَنَ اللهُ خَلْقَكَ فَأْحِسْن خُلُقَكَ" (¬1)؛ أي: تحمل نفسك على حسن الخلق؛ فإن التخلُّق قد يأتي بالخُلق، وإلا فإن حسن الخلق لا يكون إلا من الله تعالى ومعونته كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ حَسَّنْتَ خَلْقِيَ فَحَسِّنْ خُلُقِي". رواه الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها، وابن حبان في "صحيحه" من حديث عبد الله بن مسعود (¬2). ومعنى قوله: "فَحَسِّنْ خُلُقِي"؛ أي: زده حُسْناً. أو: زدني من الأخلاق الحسنة. أو: احفظ عليَّ حُسن خلقي؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - كما قال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما: كان أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً. رواه الخرائطي، والبيهقي بإسناد حسن (¬3). وفي "صحيح مسلم"، و"شمائل الترمذي" عن أبي الطفيل رضي ¬
الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبيض مليحاً، مقصداً (¬1). أي: معتدلاً، لا طويلاً ولا قصيراً، ولا جسيماً ولا هزيلاً. فإن قلت: ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ سَعادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يُشْبِهَ أَباهُ"؟ أخرجه الحاكم في "مناقب الشافعي رضي الله تعالى عنه" عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬2). قلت: هو على وجهين: الأول: معناه أن يشبه في الصورة والخلقة لئلا يُطْعن في نسبه، ولئلا تُرمى أمه. والثاني: أن يشبه أباه فيما به السعادة من الإيمان، والأخلاق الحسنة، والمكارم كما قال الشاعر: [من الرجز] بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيٌّ فِي الكَرَمْ ... وَمَنْ يُشابِهْ أَبَهُ فَما ظَلَمْ (¬3) ¬
(8) باب النهي عن التشبه بالبهائم والسباع والطير والهوام
(8) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالبَهَائمِ وَالسِّبَاع وَالطَّيْر وَالهَوَام
(8) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالبَهَائمِ وَالسِّبَاع وَالطَّيْر وَالهَوَام اعلم أننا جعلنا هذا الباب في خاتمة هذا القسم الثاني من الكتاب لأنه بهذا القسم أليق، وبهذا النوع أحق؛ لأن التشبه بالبهائم والسباع والطير والهوام لا يحسن إلا على ضرب من التأويل كما ستعلم. واعلم أن الإنسان إنما أكرمه الله تعالى، وفضَّله بالعقل والمعرفة والبيان حيث يقول - عز وجل -: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]. قال جعفر رحمه الله تعالى: بالمعرفة (¬1). وقيل: بالنطق. وبهذه الثلاثة يتميز الإنسان على سائر الحيوانات، وإلا كان هو والبهائم على حد سواء. ولذلك قال بعض الحكماء: المرء بأصغريه لسانه وقلبه؛ أي: عقله ومعرفته لأن القلب محلهما. وقال آخر: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة، أو صورة ممثلة. ¬
ولا خفاء أن فضل الإنسان لا يتم إلا إذا كان نطقه معقولاً ناشئاً عن عقل رصين، وقلب سليم. ومن ثم قال عدي بن حاتم الطائي رضي الله تعالى عنه: لسان المرء تَرجمان عقله (¬1). وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: [من المتقارب] تَعاهَدْ لِسانَكَ إِنَّ اللِّسانَ ... سَرِيْعٌ إِلَى الْمَرْء فِي قَتْلِهِ وَهَذا اللِّسانُ بَرِيْدُ الْفُؤادِ ... يَدُلُّ الرِّجالَ عَلى عَقْلِهِ (¬2) وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: إن الله تعالى أنطق اللسان بالبيان، وافتتحه بالكلام، وجعل القلوب أوعية العلم، ولولا تلك لكان الإنسان بمنزلة البهيمة؛ يومئ بالرأس، ويشير باليد (¬3). ثم اعلم أن الإنسان لا يتلبس بالعلم والمعرفة، ولا بالصواب في النطق إلا بالعقل، فالعقل رأس الحكمة، ومنبع المعرفة، وأصل الديانة، وإنما سمي عقلاً لأنه يعقل؛ أي: يمنع صاحبه من الخطأ. قال عامر بن عبد الله بن قيس رحمه الله تعالى: إذا عَقَلَكَ عَقْلُكَ عما لا يليق فأنت عاقل (¬4). ¬
ثم لا يُعقل المرء عن الخطأ ما لم يعرف الصواب من الخطأ، والخطأ من الصواب. والمراد من الصواب ما صوَّبه الشرع، والخطأ ما كان بخلافه. فرجع معنى العقل إلى متابعة الشرع، فالعاقل من عَقَله عَقْلُه بعُقال الشرع، وعن تعدي حدود الشرع ومتابعة هوى نفسه. وكلما كان الإنسان متابعاً للشرع كان أمكن في العقل بدليل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله فنعمل به ما كنا في أصحاب السعير (¬1). وروى الحارث بن أبي أسامة عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لِكُلِّ شَيءٍ دِعامَةٌ، وَدِعامَةُ عَمَلِ العَبْدِ عَقْلُهُ، فَبِقَدرِ عَقْلِهِ تَكُوْنُ عِبادتُهُ، أَما سَمِعتُم قَولَ الفاجِرِ: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]؟ " (¬2). ¬
قلت: وفيه إشارة إلى أن العمل المعتدَّ به ما كان عن عقل عاقل ونُهية كاملة. وقد توجد صورة العمل في عبد ولا يكون في العبد بذاك، وأكثر ما يكون رؤية النفس في العمل والمن به، والكبر والخيلاء، والبغي والطغيان في الأعمال الصورية التي لا روحانية لها. ومثل هذه الأخلاق إنما تنشأ عن قلة العقل والجهل بمقدار النفس. ومن ثم قال معاوية بن قُرة رحمه الله تعالى: إن القوم يحجون ويعتمرون، ويجاهدون، ويصلون، ويصومون، ولا يعقلون، ولا يعطون يوم القيامة إلا على قدر عقولهم (¬1). وقال أبو زكريا رحمه الله تعالى: إن الرجل يتلذذ في الجنة بقدر عقله (¬2). رواهما ابن أبي الدنيا، وابن الجوزي في "الأذكياء". وروى أبو القاسم البغوي عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جَدَّ الملائِكَةُ واجْتهدُوا في طاعَةِ اللهِ بِالعَقلِ، وَجَدَّ المؤْمِنُونَ مِنْ بَني آدَمَ عَلى قَدرِ عُقُولهِم؛ فَأَعْمَلُهُمْ بِطاعَتِهِ أَوْفَرُهُم عَقْلاً" (¬3). ¬
وروى الحكيم الترمذي، وابن أبي الدنيا، والخطيب عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! بأي شيء يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال: "بِالعَقْلِ". قلت: وفي الآخرة؟ قال: "بِالعَقْلِ". قلت: أليس إنما يجزون بأعمالهم؟ فقال: "يا عائِشَةُ! فَهَلْ عَمِلُوا إلَّا بِقَدرِ ما أَعْطاهُمُ اللهُ تَعالى مِنَ العَقْلِ؟ فَبِقَدْرِ ما أُعْطُوا مِنَ العَقْلِ كانَتْ أَعْمالُهُم، وَبِقَدْرِ ما عَمِلُوا يُجْزَوْنَ" (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: ¬
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قِوامُ الرَّجُلِ عَقْلُهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَقْلَ لَهُ" (¬1). وروى أبو نعيم عن عبد الله بن حبان قال: قيل لعطاء - يعني: ابن أبي رباح -: ما أفضل ما أُعطي العباد؟ قال: العقل بالله، وهو المعرفة بالدين (¬2). وقال القاضي أبو الحسن الماوردي في "أدبه": اختلف الناس فيمن صرف عقله إلى الشر هل يسمى عاقلاً؟ فقال بعضهم: أسميه عاقلاً بوجود العقل منه. وقال بعضهم: لا أسميه عاقلًا حتى يكون خيِّراً ديناً لأن الخير والدين من لباب العقل، وأما الشرير فلا أسميه عاقلاً، وإنما أسميه صاحب رويِّة وفكر. قال: وقد قيل: العاقل من عَقَل عن الله أمره ونهيه حتى قال أصحاب الشافعي فيمن أوصى بثلث ماله لأعقل الناس: إنه يكون مصروفاً إلى الزهاد لأنهم انقادوا للعقل، ولم يغتروا بالأمل. قال: وروى لقمان بن عامر عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا عُوَيْمِرُ! اِزْدَدْ عَقْلاً تَزْدَدْ مِنْ رَبِّكَ قُرْبا، وَبِهِ عِزًّا". ¬
قلت: فداك أبي وأمي! من لي بِالعقل؟ قال: "اِجْتَنِبْ مَحارِمَ اللهِ، وَأَدِّ فَرائِضَ اللهِ تَكُنْ عاقِلاً، ثُمَّ تَنَفَّلْ صالحاتِ الأعمالِ تَزْدَدْ في الدُّنْيا عَقْلاً، وَتَزْددْ مِنَ رَبِّكَ قُرْباً وَبِهِ عِزًّا" (¬1)، انتهى (¬2). وفي هذا الحديث الذي ذكرته إشارة إلى أن العبد إنما يستتم العقل بتأدية الفرائض واجتناب المحارم، ومن تساهل في شيء من ذلك فإنما هو لنقصان عقله. وقال الدينوري في "المجالسة": أنشد محمد بن موسى: [من الطويل] أَلا إِنَّ خَيْرَ الْعَقْلِ ما حَضَّ أَهْلَهُ ... عَلى الْبِرِّ وَالتَّقْوى بَدْئاً وَعاقِبَة وَلا خَيْرَ فِي عَقْلٍ يَزِيْغُ عَنِ التُّقَى ... وَيَشْغَلُ بِالدُّنْيا الَّتِي هِيَ ذاهِبَة (¬3) * تنبِيْهٌ: لو استحسن الإنسان بعقله شيئاً يتقرب به إلى الله تعالى وهو مخالف للشريعة لا يكون عاقلاً، ومن لم ينتفع بعقله فكأنما كان بلا عقل، والعقل النافع هو الذي ينقذ صاحبه من النار، وفعله ما استحسنه ¬
بعقله لا ينقذه من النار؛ إذ المنقذ من النار طاعةُ الله تعالى، وإنما يطاع الله تعالى من حيث أَمر، لا من حيث يَستحسن العبد، فالطاعة المنقذة من النار هي الطاعة الموافقة للشرع والأمر بدليل: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي عمرو الزجاجي رحمه الله تعالى قال: كان الناس في الجاهلية يتبعون ما تستحسنه عقولهم وطباعهم، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فردهم إلى الشريعة والاتباع؛ قال: فالعقل الصحيح الذي يستحسن محاسن الشريعة، ويستقبح ما تستقبحه (¬1). ثم إن العبد كلما كان أطوع لله وأتقى كان أصعد في مراتب العقل وأرقى، وكلما كان كمل عقلاً وأتم نهياً كان أبعد عن الطبع البهيمي والمزاج الحيواني، وبذلك يكون الإنسان كريماً مكرماً، فاضلاً مفضلاً، ممدوحاً محموداً. قال أبو القاسم الراغب في كتاب "الذريعة إلى محاسن الشريعة": الإنسان - وإن كان بكونه إنساناً أفضل موجود - فذلك بشرط أن يراعى ما به الإنسان صار إنساناً، وهو العلم والعمل المحكم، فبقدر وجود ذلك المعنى فيه يفضُل، ولهذا قيل: الناس أبناء ما يحسنون؛ أي: يعرفون، ويعملون من العلوم والأعمال الحسنة. يقال: أحسن الإنسان إذا علم، وأحسن إذا عمل حسناً. ¬
قال: فأما الإنسان من حيث ما يتغذى ويغسل فنبات، ومن حيث ما يحس ويتحرك فحيوان، ومن حيث الصورة التخطيطية فكصورة في جدار، وإنما فضيلته بنطقه وقواه ومقتضاه، انتهى. ونقل الماوردي عن بعض العلماء أنه قال: ركَّب الله تعالى الملائكة عليهم السلام من عقل بلا شهوة، وركَّب البهائم من شهوة بلا عقل، وركب ابن آدم من كليهما؛ فمن غلب عقلُه شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم (¬1). قلت: وحيث علمت أن الإنسان من الملك والبهيمة بحيث إنه بقدر ما يغلب عقلُه ونُهاه شهوتَه وهواه يقرب من الملائكة، ثم يترقى حتى يصير في منزلتهم أو يفوقها كما في الحديث المار يقول الله تعالى: "أيُّها الشَّابُّ التَّارِكُ شَهْوَتَهُ لي، أَنْتَ عِنْدِي كَبَعْضِ مَلائِكَتي" (¬2). وكما روى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قالَ اللهُ تَعالى: عَبْدِي المؤْمِنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَعْضِ مَلائِكَتي" (¬3). ¬
وبقدر ما تغلب شهوتُه عقلَه يقرب من البهائم، ثم يتأخر حتى يصير في منزلة البهيمة، أو ينزل في حضيض أسفل من منزلة البهائم كما قال الله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44]. فقد ظهر لك في ترتيب كتابنا هذا سر عجيب، وهو أنا ذكرنا أولاً التشبه بالملائكة عليهم السلام، وجعلناه في بداية القسم الأول من الكتاب، وذكرنا آخراً التشبه بالبهائم، وجعلناه في نهاية القسم الثاني من الكتاب، فكان التشبه بالملائكة والتشبه بالبهائم كطرفين للكتاب أعلى وأدنى، وكان المتشبه بالملائكة في الطرف الأعلى من الإنسانية، والمتشبه بالبهائم في الطرف الأدنى من الحيوانية، وجعلنا التخلق بأخلاق الله تعالى في وسط الكتاب لأنه هو النهاية التي يُنتَهى إليها بسير السائرين، والمحط الذي عليه تحط رحال العارفين، ثم ذكرنا بعد ذلك النهي عن التشبه بالشيطان إشارة إلى من لم يتخلق بأخلاق الله - عز وجل -، ولا بأخلاق عباده الصالحين فهو إما شيطان، وإما قرين شيطان، وإما بهيمة في صورة إنسان. فعدنا بعد الأمر بالتلبس بالحق إلى الزجر عن التلبس بالباطل، فكأن لسان الحال قد قال: إن لم تأمر بما أمرناك به من السلوك في مسالك الأبرار والأخيار، فلا أقل من أن تنزجر عن الذهاب في سبيل الفجار والأخيار، فإن لم يُصبها وابلٌ فَطَل. وإذا انحصر الحق في التخلق بأخلاق الله تعالى، وأخلاق عباده
الصالحين، فماذا بعد الحق إلا الضلال، فتبين بذلك أن من لم يترق في درجات الحق فهو متنزل في دركات الباطل؛ والله سبحانه وتعالى هو الموفق.
فَصْلٌ قال حجة الإسلام في "الإحياء": اعلم أن الإنسان قد اصطحب في تركيبه وخلقه أربع شوائب، فلذلك اجتمعت عليه أربعة أنواع، وهي: الصفات السبعية، والبهيمية، والشيطانية، والربانية. قال: فهو من حيث سلط عليه الغضب يتعاطى أفعال السباع من العداوة والبغضاء، والتهجم على الناس بالضرب والشتم. ومن حيث سلطت عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم من الشَّرَه، والحرص، والشَّبق، وغير ذلك. ومن حيث إنه في نفسه أمر رباني كما قال الله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] فإنه يدعي لنفسه الربوبية، ويحب الاستيلاء والاستعلاء، والتخصص، والاستبداد بالأمور كلها، والتعزز بالرئاسة، والانسلال عن رِبْقة العبودية والتواضع، ويشتهي الاطلاع على العلوم كلها، بل يدعي لنفسه العلم والمعرفة، والإحاطة بحقائق الأمور، ويفرح إذا نسب إلى العلم، ويحزن إذا قذف بالجهل. قال: والإحاطة بجميع الحقائق، والاستيلاء بالقهر على جميع الخلائق من أوصاف الربوبية، والإنسان حريص على ذلك.
قال: ومن حيث يختص من البهائم والسباع بالتمييز مع مشاركته لها في الشهوة والغضب حصلت فيه شيطانية تستعمل التمييز في استنباط وجوه الشر، وتتوصل إلى الأغراض بالمكر، والحيلة، والخداع، ويعرض الشر في معرض الخير، وهذه أخلاق الشياطين. قال: وكل إنسان ففيه شَوب من هذه الأصول الأربعة؛ أعني: الربانية، والشيطانية، والسبعية، والبهيمية. وكل ذلك مجموع في القلب، وكأن المجموع في إهاب الإنسان خنزير، وكلب، وشيطان، وحكيم. فالخنزير هو الشهوة؛ فإنه لم يكن مذموماً لكونه وشكله وصورته، بل لجشعه، وكَلَبه، وحرصه. والكلب: هو الغضب؛ فإن السبع الضاري، والكلب العقور ليس كلباً وصبعاً باعتبار اللون والصورة والشكل، بل روح معنى السبعية الضراوة، والعداوة، والعقر. وفي باطن الإنسان ضراوة السبع وغضبه، وشَبَق الخنزير وحرصه، فالخنزير يدعو بالشر إلى الفحشاء والمنكر، والسبع يدعو إلى الظلم والإيذاء، والشيطان لا يزال يهيج شهوة الخنزير، وغيظ السبع، يغرِّر أحدهما بالآخر، ويحسِّن لهما ما هما مجبولان عليه. قال: والحكيم الذي هو مثال العقل مأمور بأن يدفع كيد الشيطان ومكره بأن يكشف عن تلبيسه ببصيرته النافذة، ونوره المشرق الواضح،
وأن يكسر شهوة هذا الخنزير بتسليط الكلب؛ إذ بالغضب يكسر سَورة الشهوة، ويدفع ضراوة الكلب بتسليط الخنزير عليه، ويجعل الكل مقهوراً تحت سياسته، فإن فعل ذلك وقدر عليه اعتدل الأمر، وظهر العدل في مملكة البدن، وجرى الكل على الصراط المستقيم، وإن عجز عن قهرها قهروه واستخدموه، فلا يزال في استنباط الحيل وتدقيق الفكر ليشبع الخنزير، ويرضي الكلب، فيكون دائماً في عبادة كلب وخنزير. انتهى كلام الغزالي في "الإحياء" (¬1). وقد اشتمل هذا الفصل من كلامه على فوائد: الأُولَى: أن الغالب على البهائم الشهوة، وعلى السباع الغضب، وهما معتدلان في الإنسان ليستعملهما في منافع بدنه وشرائع دينه، ويدفع بهما مضار معاشه ومَعَاده باستعماله كلًّا منهما في محله بقدر الحاجة، بحيث يكون مستولياً بعقله عليهما، فإن غلبا أو أحدهما على عقله، واستوليا أو أحدهما على فطنته، فقد فوَّت على نفسه الخاصة الإنسانية، وترجح فيه جانب البهيمية أو السبعية، أو كليهما، فالعبد بسبب استرساله في الشهوة، واستطلاقه مع الهوى يكون متشبهاً في ذلك بالبهائم والسباع، ومهما غلب عقله على شهوته وغضبه كان مترقياً عن هذه المنزلة السافلة، سامياً إلى مراقي الحكمة العلية الفاضلة كما قال أبو بكر بن دريد: [من الرجز] ¬
وَآفَةُ العَقْلِ الْهَوى فَمَنْ عَلا ... عَلى هَواهُ عَقْلُهُ فَقَدْ نَجا (¬1) الفائِدَةُ الثَّانِيةُ: أن الشيطان عبارة عن غلبة الغضب، وغلبة الشهوة مع التمييز بينهما، والإدارك لما يترتب عليهما من المنافع والمضار، واستعمالهما على خلاف الحكمة مع عدم مراعاة اجتلاب المنافع واجتناب المضار، بل هكذا خَبْطَ عَشْواء على مَتن عَمْياء. فقد علم بذلك أن الإنسان المتميز عن البهيمة والسبع بالنطق والتمييز إذا غلبت عليه الشهوة والغضب كان بهيمة وسبعاً لغلبة شهوته وغضبه، بل أضلّ منهما، لأن الشهوة - وإن غلبت على السباع - فإنها لا تميز بين مضار ذلك ومنافعه، ولا تعرف طريق وضعه في مواضعه، فهي معذورة في ذلك، ومن ثم لم تكن مكلفة، ولا يترتب على فعلها ثواب ولا عقاب، بخلاف الإنسان؛ فإن الشهوة والغضب قد غلبا عليه، وهو مميِّز بين مضارهما ومنافعهما، وله عقل يعرف به طريق وضع كل منهما في موضعه، ومن ثم كان مكلفاً مطالباً، مثاباً على أفعاله، أو معاقباً عليها، فهو أخس من البهائم، وأجهل من السباع كما قال الله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44]. وإنما كان أضل من البهيمة والسبع لأنه تنزل بجهله عن منزلتهما ¬
إلى الشيطانية، فصار شيطاناً، والشيطان عبارة عن خلق مميز غلبت شهوته، واشتد غضبه، فاسترسل معهما حتى هلك، وبسبب التمييز كان الشيطان ومن كان على طريقته معذبين في النار، ولم يصيروا تراباً كسائر البهائم، فهم أسوأ حالاً من البهائم، ولذلك يقول الكافر الشامل للشيطان إذا رآها صارت تراباً، وذهب به إلى النار: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]. وقد تحرر لك من ذلك أن المتشبه بالبهائم والسباع فيما ذكرناه متشبه بالشيطان أيضا، فهو جامع للخصلتين؛ فافهم! * تنبِيهٌ: حين يقول الشيطان في الكفار: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] لا يبعد أن يمَال له: إذًا تبين لك أن عنصر النار الذي خلقت منه ليس بخير من عنصر التراب الذي خلق منه آدم، ومن ثم قال بعضهم: إن المراد بالكافر في الآية الشيطان، والألف واللام فيه للعهد. الفائِدَةُ الثَّالِثةُ: أن ذم الكلب والخنزير ليس راجعاً إلى ظاهر صورتهما، بل إلى ما في الخنزير من الجشع، والكَلَب، والحرص الناشئ عن الشهوة، وما في الكلب من الضراوة، والعداوة، والعقر الناشئ عن الغضب، فإذا كان الذم إنما يرجع إلى هذه الأوصاف فلا فرق في استحقاقهما الذم بين أن تكون في إهاب كلب وخنزير، أو غيرهما من البهائم والسباع، وبين أن تكون في إهاب إنسان، بل هي
في الإنسان أحق بالذم، وإنها في البهائم والسباع جبلات وطباع، وهي ليست مكلفة بأفعالها، بخلاف الإنسان فهي فيه أكثر قبحاً وأحق ذماً. فقد علمت بذلك أن المتشبه بالبهائم والسباع مستوجب لأشد اللوم وأقبح الذم، وذلك كان في التنفير عن التشبه بهما. ومن كلام الراغب في "الذريعة": ومن صرف همته كلها في تربية القوى الشهوانية باتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام لَخَلِيق أن يلحق بأفق البهائم فيصير غَمْراً كثور، واما شَرِهاً كخنزير، أو ضارياً ككلب، أو حقوداً كجمل، أو متكبراً كنمر، أو ذا رَوَغان كثعلب، أو يجمع ذلك كله كشيطان مَريد، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] (¬1). الفائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن الحكيم الذي هو مثال العقل في كلام الغزالي رحمه الله تعالى مأمور بثلاثة أمور بها يكون حكيماً، وإلا كان سفيهاً: - أن يدفع كيد الشيطان. - ويكسر شهوة الخنزير. - ويدفع ضراوة الكلب. ¬
ويسوس بهذا الثلاثة التي اشتملت عليها دائرة مملكته أحسن السياسة، وإلا بأن أطاع شيطانه، أو استرسل مع شهوته، أو امتد في غضبه لم يكن حكيماً، بل إن غلبت عليه الشهوة صار بهيمة، أو الغضب أو الضراوة صار سبعاً، وإن جمع بينهما مع علمه بأن ذلك يضره صار شيطاناً. وقد اتضح لك بذلك أن الذي يستحق أن يطلق عليه اسم الحكيم هو الرجل العاقل؛ أي: الذي قدر بعقله على منع شهوته، وقَطَع غضبه، وقَمَع شيطانه. وتسمية العقل حكيمًا على سبيل المبالغة، والإشارة إلى أن الحكيم لا يقال لغير العاقل المتصرف بعقله في مملكة إنسانيته أحسن التصرف. ولذلك قال ابن زيد رحمه الله تعالى في قوله - عز وجل -: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]: الحكمة: العقل في الدين (¬1). وقال الإمام مالك: الفقه في دين الله (¬2). أخرجهما ابن أبي حاتم. وروى عبد بن حميد عن قتادة رحمه الله تعالى قال: الحكمة: ¬
الفقه في القرآن (¬1). وروى هو وابن جرير عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: الحكمة: القرآن، والعلم، والفقه (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - في الآية قال: الحكمة: قراءة القرآن، والفكر فيه (¬3). وقال مجاهد أيضاً: الحكمة: الإصابة في القول. رواه عبد بن حميد (¬4). وقال ابن القاسم: الحكمة: طاعة الله، والفقه في الدين، والعمل، أي: الصالح (¬5). وقال الحسن رحمه الله تعالى: الحكمة: الورع (¬6). وقال الربيع بن أنس رحمه الله تعالى: الحكمة: الخشية (¬7). رواهما الثعلبي. وقال أبو العالية رحمه الله تعالى: خشية الله رأس كل حكمة، ¬
وقرأ الآية. رواه ابن أبي حاتم (¬1). وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: الخشية حكمة، من خشي الله فقد أصاب أفضل الحكمة. رواه ابن المنذر (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن خالد بن ثابت الربعي رحمه الله تعالى قال: وجدت فاتحة زبور داود عليه السلام: إن رأس الحكمة خشية الرب - عز وجل - (¬3). وروى الحكيم الترمذي، وابن لال عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأْسُ الحِكْمَةِ مَخافَةُ الله" (¬4). وروى ابن المنذر عن عروة بن الزبير رحمه الله تعالى قال: كان يقال: الرفق رأس الحكمة مخافة الله (¬5). والعقل هو الحكيم الذي تحصل به الحكمة؛ لأن مِنْ لازِمِ العقل التفقه في الدين، والترقي في معارف الكتاب والسنة، وذلك يورث الخشية من الله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، والخشية تورث العمل بمقتضى هذه العلوم، وهو طاعة الله تعالى، والورع عن المحرمات، ثم عن المكروهات، ثم عن كل ما سوى الله ¬
تعالى، وما يراد به وجهه الكريم، والرفق في سائر الأمور، والتخلص عن الخرق في سائر الأحوال. ومَنْ تحقَّق بهذا المقام آثر الصمت، ولذلك كان الصمت حكمة، أو نطق بالصواب، ورزق الإصابة في القول والعمل، وكان قوله مقبولاً، وعمله حُلواً عند الناس لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. وقوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]؛ تفرقون به بين الحق والباطل، وبين النافع والضار. ومن هنا قال بندار بن الحسين رحمه الله تعالى حين سأله أبو الحسن الهمذاني عن قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269]: الحكمة: سرعة الجواب مع إصابة الصواب (¬1). وقد تبين بهذا الذي قررناه: أن من لم يكن حكيماً فهو إما شيطان، وإما بهيمة، وإما سبع كان كان في الصورة إنساناً. وقد قلنا في المعنى: [من السريع] لا تَحْسِبِ الإِنْسانَ مَنْ لَمْ يَنَلْ ... مِنْ خِلْقَةِ الإِنْسانِ إِلاَّ الصُّورْ ¬
ما هُوَ إِلاَّ سَبُعٌ كاسِرٌ ... أَوْ بُهْمَةٌ فِي مِثْلِ شَكْلِ البَشَرْ أَوْ هُوَ شَيْطانٌ مَرِيدٌ لَهُ ... فِي صُورَةِ الإِنْسانِ بُؤْس وَشَرٌ وإِنَّما الإِنْسانِ ذُو حِكْمَةٍ ... يُعْطِي بِها النَّفْعَ وَينْفِي الضَّرَرْ وتبين أيضاً: أن الإنسان إذا ترقى بعقله في طاعة الله تعالى، واكتسب المعارف السنية تارة بالتعلم، وتارة بالطاعة والتعبد والتقوى، صار حكيماً يوافق بكلامه الصواب مع سرعة الجواب، وما ذاك إلا لتكامل عقله وتضاعف معرفته، فاستعمال العقل فيما وضع له ينتج التزايد في العقل لأن العقل نعمة، واستعماله فيما وضع له شكر لتلك النعمة، والشكر يقتضي الزيادة في النعمة، وإلى ذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله لأبي الدرداء - رضي الله عنه -: "ثُمَّ تَنَفَّلْ صالحاتِ الأَعْمالِ تَزْدَدْ عَقْلاً" (¬1). ومن هنا قالوا: إن العقل قسمان: غريزي ومكتسب من العقل الغريزي لكثرة الاستعمال والتجارب كما قيل: [من الطويل] ¬
ألَمْ تَرَ أَنَّ العَقْلَ زَيْنٌ لأَهْلِه ... وَلَكِنْ تَمامُ العَقْلِ طُولُ التَّجارِبِ (¬1) وإنما يستنتج العقل النافع باستعمال العقل في اكتساب الآداب الشرعية، وتحصيل الأخلاق المرضية، وتطهير النفس عن الأوصاف الدنية باستعماله بالدهاء والحيلة، والمكر والخديعة. وما أحسن ما أنشده الأصمعي رحمه الله تعالى: [من البسيط] إِنْ يَكُنِ العَقْلُ مَوْلُوداً فَلَسْتُ أَرى ... ذا العَقْلِ مُسْتَغْنِياً عَنْ حادِثِ الأَدَبِ إِنِّي رَأَيْتُهُما كَالْماءِ مُخْتَلِطاً ... بِالتُّرْبِ تَظْهَرُ مِنْهُ زَهْرَةُ العُشُبِ وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَتْهُ فِي مَوالدِهِ ... غَرِيزَةُ العَقْلِ حاكَى الْبُهْمَ فِي النَّسَبِ (¬2) وقال آخر، وفي "الإحياء": أنه لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: [من الهزج] ¬
رَأَيْتُ العَقْلَ نَوْعَيْنِ ... فَمَسْمُوعٌ وَمَطْبُوعُ وَلا يَنْفَعُ مَطْبُوعٌ ... إِذا لَمْ يَكُ مَسْمُوعُ كَما لا تَنْفَعُ العَيْنُ ... وَضَوْءُ الشَّمْسِ مَمْنُوعُ (¬1) قال الماوردي: واعلم أن العقل المكتسب لا ينفك عن العقل الغريزي لأنه نتيجة منه، وقد ينفك العقل الغريزي عن المكتسب فيكون صاحبه مسلوبَ الفضائل، موفور الرذائل كالأَنْوك الذي لا تجد له فضيلة، والأحمق الذي قل ما تخلو منه رذيلة. قال: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الأَحْمَقُ أَبْغَضُ خَلْقِ اللهِ إِلَيْهِ؛ إِذْ حَرَمَهُ أَعَزَّ الأَشْياءِ عَلَيْه"، انتهى (¬2). وقال الراغب: العقل الغريزي بمنزلة البصر للجسد، والمستفاد بمنزلة النور، كما أن البدن متى لم يكن له بصر فهو أعمى، كذلك النفس متى لم يكن لها بصيرة؛ أي: عقل غريزي فهي عمية، وكما أن البصر متى لم يكن له نور لا ينتفع به، كذلك العقل متى لم يكن له نور من العلم مستفاد لم تجد بصيرته. ولذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. ¬
ثم قال: ولما كان فقدان البصيرة أشنع من فقدان البصر لأنه بارتفاع البصيرة انتفاع النفس بالبصر قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. فذمهم بفقدان البصيرة تنبيهاً على أن فقدانها اختياري؛ إذ هو بتركهم استفادة العلم، وأكثر من أن البصر ضروري، انتهى. وحاصل ما قررناه في هذا الفصل: أن اتصاف الإنسان بالأوصاف الحيوانية، وتخلقه بالطباع البهيمية مما يخالف الحكمة الإلهية، ويخل منه بالإنسانية، فلذلك جاء الشرع الشريف بالنهي عن التشبه بالبهائم والسباع في كثير من الخصال والطباع، وجاء القرآن العظيم بتمثيل الكفار والفساق بالأنعام، فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. فمثل واعظ الكفار وداعيهم بالراعي إذا نعق بالغنم، وهي لا تسمع إلا دعاءً ونداءً لا تفهم معناه، بل هم أسوء حالاً من الغنم لأنها قد تنزجر بنعق الراعي، وتنضم من نفشاتها، بخلاف الكفار ونحوهم؛ فإنَّ وعظ الواعظ لا يؤثر فيهم، ولا يزجرهم عن كفرهم وطغيانهم، وإذا ذكروا لا يذكرون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48]. فأشار سبحانه وتعالى إلى أنهم أسوء حالاً من الغنم بقوله في وصفهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 171]؛ أي: صم عن سماع الحق، بكم عن النطق به، عَمِي عن رؤية مسالكه وطرائقه، فهم لا يعقلون
الحق حقاً فيتبعونه، ولا الباطل باطلاً فيتقونه. قال الله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51] شبههم في إعراضهم عن الحق ونفورهم عن استماع الذكر بالحمر النافرة. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 20 - 22]. قال القاضي في تفسير عدهم من البهائم: ثم جعلهم شرها لإبطالهم ما ميزوا به وفضلوا لأجله، انتهى (¬1). وقد اشتملت الآية على نهي المؤمنين عن التشبه بالكافرين في سماعهم بالمسموع بشرِّ الدواب من حيث إن الدواب تسمع ولا تنتفع، وكذلك حكم هؤلاء ومن جرى على منوالهم، فالآية متضمنة لنهي المؤمنين عن التشبه بالكفار في شبههم بالبهائم فيما ذكر. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. قال مجاهد: لهم قلوب لا يفقهون بها شيئاً من أمر ¬
الآخرة، ولهم أعين لا يبصرون بها الهدى، ولهم آذان لا يسمعون بها الحق، جعلهم كالأنعام، ثم جعلهم شراً من الأنعام، فقال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179]، ثم أخبر أنهم الغافلون. رواه ابن جرير (¬1). وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 43، 44]. قال مقاتل رحمه الله تعالى: البهائم تعرف ربها، وتهتدي إلى مراعيها، وتنقاد لأربابها التي تعلِفها، وهؤلاء لا ينقادون، ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم (¬2)؛ أي: فكانوا أضل منها من هذه الحيثية. وقيل: كانوا أضل منها لأنها لا تعتقد صحة التوحيد والنبوة، ولا تعتقد بطلانها، وهؤلاء يعتقدون بطلانهما، فهم أسوء حالاً منها. وروي أن سفيان الثوري رحمه الله تعالى كان يقول: إلهي! البهائم يزجرها الراعي فتنزجر عن هواها، وأراني لا يزجرني كتابك عما أهواه، فواسوأتاه (¬3). ¬
* لَطِيفَةٌ: قيل في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]: إنهم كانوا يعبدون الحجر، فإذا رأوا أحسن منه تركوه وعبدوا الآخر، وكذلك البهائم إذا رعت في كلا، فرأت غيره أبهج منه تركته، غير أن البهائم تنتفع بما ترعى أولاً وثانياً بخلاف هؤلاء؛ فإنهم لم تنفعهم آلهتهم التي عبدوها أولاً، ولا التي عبدوها ثانياً، فهم أضل من البهائم (¬1). وروى أبو سليمان الخطابي بإسناده في "غريب الحديث": أن رجلاً قال لعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: إنك في هذه البلاغة والرأي الفاضل كنت تأتي حجراً فتعبده؟ فقال: والله لقد كنت أجالس أقواماً تزن حلومهم الجبال الرواسي، ولكن ما قولك في عقول كادَها خالقها؟ (¬2) وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "العقل" عن القاسم بن أبي بزة رحمه الله تعالى قال: إن رجلاً من بني قشير أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنا كنا نعبد في الجاهلية أوثاناً، وكنا نظن أنها تضر وتنفع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ اللهُ لَهُ عَقْلاً" (¬3). ¬
1 - فمنها: الجهل من حيث هو.
وقد آن أن نذكر جملة من الخصال التي يكون الإنسان بها متشبهاً بالبهائم، أو السباع، أو الحشرات، أو الهوام زجراً عنها، وتنفيراً منها. 1 - فمنها: الجهل من حيث هو. وليس للإنسان تميز عن البهائم إلا بالعلم والعقل كما علمت، فإذا آثر الجهل على العلم كان أسوء حالاً من البهائم. وروى ابن عساكر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: أنه قال: يا رسول الله! أتيتك من عند قوم هم وأنعامهم سواء. قال - صلى الله عليه وسلم -: "يا سَعْدُ! أفلا أُخْبِرُكَ بِأعْجَبَ مِنْ ذلكَ؟ قَؤم عَلِمُوا ما جَهِلَ هَؤُلاءِ، ثُمَّ جَهِلُوا كَجَهْلِهِمْ" (¬1). وروى أبو نعيم عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: أنه ليالي قدم من اليمن مسألة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَيْفَ تَرَكْتَ النَّاسَ بَعْدَكَ؟ " فَقالَ: تركتهم لا هَمَّ لهم إلا هم البهائم. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -. "كَيْفَ أَنْتَ إِذا كُنْتَ في قَوْمٍ عَلِمُوا ما جَهِلَ هَؤُلاءِ، وَهَمُّهُمْ مِثْلُ هَمِّ هَؤُلاءِ؟ " (¬2). لكن ضعَّف أبو نعيم هذا الحديث؛ فإن معاذاً إنما قدم من اليمن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -. ¬
قلت: ولعل هذا السؤال لمعاذ إنما وقع من أبي بكر رضي الله تعالى عنه أو غيره، فالتبس على بعض الرواة. ومن أمثال الناس في الجهل: كأنه ديك حجل. وهو مأخوذ من قول حذيفة رضي الله تعالى عنه: إنما يهلكون إذا لم يعرف لذي الشيب شيبه، وإذا صريح تمشون الركبات كأنكم يعاقيب حجل؛ لا تعرفون معروفا، ولا تنكرون منكراً (¬1). والركبات: جمع رغبة: المرة من الركوب. ومعنى تمشون الركبات: تمشون راكبين رؤوسكم في الباطل من غير تثبت؛ كما قاله في "النهاية" (¬2). واليعاقيب: جمع يعقوب، وهو ذكر الحجل. والأثر أورده الزمخشري في "الفائق". ومما حيَّر العقولَ سعةُ الدنيا لأكثر الجهال، وضيقُها على أكثر العلماء، أو على أفاضلهم، أو على كثير منهم، ولا حيرة عند من كوشف بالحكمة في ذلك. والحكمة فيه أن أهل العلم والكمالات لو خُصُّوا بسعة الرزق في الدنيا وطيب العيش فيها، لحسب الناس أن الرازق لهم العلم والكمال. ¬
وأيضاً: فإن الدنيا لو كانت لها عند الله قيمة لخص بها أولياءه من أهل العلم والفضل. وفي الحديث: "لَوْ كانَتِ الدُّنْيا تُساوِي عِنْدَ اللهِ جَناحَ بَعُوْضَةٍ ما سَقى كافِراً مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ" (¬1). وأيضاً: لو أن الله تعالى جعل الرزق وسعته وطيب عيشه على الفضل والكمال والعلم، لم يكن للبهائم فيها نصيب كما قالت الحكماء: لو جرت الأقسام على قدر العقول لم تعش البهائم (¬2). فنظمه أبو تمام، فقال: [من الطويل] يَنالُ الفَتَى مِنْ عَيْشِهِ وَهْوَ جاهِلٌ ... ويُكدي الفَتَى مِنْ دَهْرِهِ وَهْوَ عالِمُ وَلَوْ كانَتِ الأَرْزاقُ تَجْريِ عَلى الْحِجى ... هَلَكْنَ إِذاً مِنْ جَهْلِهِنَّ البَهائِمُ فاقتضت الحكمة الإلهية والكرم الربوبي شمول رزقه لخلقه، وتوسعة الرزق تارة إحساناً إلى المحسن وبَرًّا به، وإملاءً للمسيء ومكراً به، وتضييقه تارة تمحيصاً للمؤمن وحماية له من بطر المعيشة، وطغيان النفس، وعقوبةً للفاجر، وتأديباً للمخلط ليرجع إلى الإخلاص، ويعود ¬
2 - ومنها: أن يكون الإنسان من حملة العلم الشريف،
إلى الاعتدال، وإيذانا بأنه يفعل ما يريد، وهو الولي الحميد، والغني المجيد. 2 - ومنها: أن يكون الإنسان من حملة العلم الشريف، ولا ينتفع بعلمه أو يجتهد في تحصيل الكتب العلمية، ويغالي في أثمانها، ويرفع في سومها، ويزاحم العلماء في اقتنائها، وهو جاهل بما فيها. قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]. قال القرطبي: في هذا تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه، ويعلم ما فيه لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء، انتهى (¬1). قال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: إن الحمار لا يدري سفر على ظهره، أو زبل (¬2). وقال الشاعر: [من البسيط] إِنَّ الرُّواةَ عَلى جَهْلِ بِما حَمَلُوا ... مِثْلُ الْحَمِيرِ عَلَيْها يُحْمَلُ الوَدعُ ¬
لا الوَدع يَنْفَعُهُ حَمْلُ الْحِمارِ لَهُ ... وَلا الْحِمارُ بِحَمْلِ الوَدع يَنْتَفِعُ (¬1) وقال آخر: [من الطويل] زَوامِلُ للأَسْفارِ لا عِلْمَ عِنْدَهُمُ ... يَفِيدُونَهُ إِلاَّ كَعِلْمِ الأَباعِرِ لَعَمْرُكَ ما يَدْرِي البَعِيرُ إِذا غَدا ... بِأَوْساقِهِ أَوْ راحَ ما فِي الغَرائِر وروى عبد الكريم بن السمعاني في "ذيل تاريخ بغداد" عن مطر الوراق رحمه الله تعالى قال: إذا سألت العالم عن مسألة فحك رأسه، فاعلم أن الحمار قد بلغ القنطرة (¬2). ومعناه: أن السؤال يميز بين العالمين والجهال، كما أن الخيل والبغال والحمير تتساوى في المسير ما دامت السهول، فإذا بلغت القناطر والمصاعد ظهرت نهضة الفرس والبغل، وعَيُّ الحمار. وقلت في المعنى: [من الرجز] إِذا سَأَلْتَ مُتَعَمِّماً فَحَكّْ ... بِرَأْسِهِ أَوْ خَلْفَ أُذْنِهِ دَلَك ¬
كانَ كَأنَّهُ حِمارٌ بَلَغَ الـ ... ــــمَصْعَدَ فَانْحَطَّ وَقَدْ كانَ سَلَكْ يا خَجْلَةَ الْجاهِلِ حِينَ يُبْتَلَى ... بِسائِلٍ يَكْسِفُ مِنْهُ ما مَلَكْ وروى أبو نعيم عن أحمد بن حميد المروزي قال: قيل لعبد الله ابن المبارك رحمه الله تعالى: إنَّ إسماعيل بن عُلية قد ولي الصدقات، فكتب إليه: يا جاعِلَ العِلْمِ لَهُ بازِياً ... الأبيات الآتية. وروى ابن السمعاني في "أماليه" عن عبد الله بن محمد الضبي قال: كنا عند عبد الله بن المبارك، وأخبر أن ابن علية ولي على الصدقات، فكتب إليه: [من السريع] يا جاعِلَ العِلْمِ لَهُ بازِياً ... يَصْطادُ أَمْوالَ الْمَساكِينِ احْتَلْتَ لِلدُّنْيا وَلَذَّاتِها ... بِحِيلَةٍ تَذْهَبُ بِالدِّينِ فَصِرْتَ مَجْنُوناً بِها بَعْدَما ... كُنْتَ دَواءً لِلْمَجانِينِ أَيْنَ رِواياتُكَ فِي سَرْدِها ... عَنِ ابْنِ عَوْنٍ وَابْنِ سِيرينِ
أَيْنَ رِواياتُكَ فِيما مَضى ... لِتَرْكِ أَمْوالِ السَّلاطِينِ إِنْ قُلْتَ أُكْرِهْتُ فَماذا كَذا ... زَلَّ حِمارُ العِلْمِ فِي الطِّينِ قال: فلما رآها ابن علية بكى، واستعفى؛ يعني: من الولاية (¬1). وتقدمت هذه القصة من طريق آخر على وجه آخر في التشبه بأهل الكتاب. وحُدِّثت عن شيخ الإسلام الوالد رحمه الله تعالى: أنه كان يحكي أن بعض الطلبة بمصر كان يقال له: حمار الروضة؛ لأنه كان يحفظ كتاب الروضة عن ظهر قلب، ولا يكاد يفهم مسائلها، فإذا احتاجت الطلبة محلًّا منها وهو حاضر قيل له: اقرأ من موضع كذا، ومن باب كذا، فيقرأ حتى يقال له: قف، فيقطع القراءة. وفي تسميته حمار الروضة تورية لطيفة بروضة المقياس؛ لأنها تخصب في وقت الخصب، فتكون أوفق لدواب الأرض مرعىً، وأخصبً لها خلًّا. ومن لطائف ابن الدهان النحوي: [من المجتث] ¬
لطيفة أخرى من مشرب آخر
لا تَحْسَبَنْ أَنَّ بِالْكُتْ ... بِ مِثْلَها سَتَصِيرُ فَلِلدَّجاجَةِ رِيشٌ ... لَكِنَّها لا تَطِيرُ (¬1) وما أحسن قول ابن الوردي: [من المديد] مَنْ عَلِمَ العِلْمَ وَهْوَ لاهٍ ... عَمَّا أَتاهُ بِهِ النَّذِيرُ فَذاكَ مِثْلُ الدَّجاجِ عِنْدِي ... لَهُ جَناحٌ وَلا يَطِيرُ وقال الوالد رحمه الله تعالى في شرحه على "الألفية" في باب الحال: [من الرجز] لَطِيفَةٌ مِنْ عالِمٍ قَدْ سَألَهْ ... شَخْصٌ هَلِ الْحالُ مِنَ الْمُضافِ لَهْ يَجُوزُ وَهْوَ حامِلٌ أَسْفاراً ... قالَ نعمْ وَاسْتَشْهَدَ اسْتِظْهارا بِقَوْلهِ كَمَثَلِ الْحِمارِ ... يَحْمِلُ أَسْفاراً عَلى البِدارِ فَأَطْرَقَ السَّائِلُ مِنْهُ وَحَصَلْ ... لَهُ بِذا القَوْلِ حَياءٌ وَخَجَلْ قلت: * لَطِيفَةٌ أُخْرى مِنْ مَشْرَبٍ آخَرَ: روى الشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُلْقَى في ¬
تنبيه
النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ؛ أي: أمعاؤه، فَيَدُوْرُ كَمَا يَدُوْرُ الحِمارُ في الرَّحَا، فَيَطُوْفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُوْلُوْنَ: مَا لَكَ؟ فَيَقُوْلُ: كُنْتُ آمُرُ بِالخَيْرِ وَلا آتِيْهِ، وَأَنهى عَنِ الشَّرِ وَآتِيْهِ" (¬1). قلت: فالعالم الذي لم ينتفع بعلمه يعيش في الدنيا مثل الحمار، ويدور في النار يوم القيامة كما يدور الحمار في المدار. وفي المعنى قلت: [من الكامل] حَرِّرْ عُلُومَكَ ما اسْتَطَعْتَ وَلا تَكُنْ ... مِثْلَ الْحِمارِ يُحَمَّل الأَسْفارا وَاعْمَلْ بِعِلْمِكَ إِنَّ عَبْداً لَمْ يَكُنْ ... بِالْعِلْمِ يَعْمَلُ سَوْفَ يَصْلَى النَّارا فَيَدُورُ فِيها كَالْحِمارِ عَلى الرَّحا ... لا يَبْرَحَنَّ عَلى الْمَدَى دَوَّارا فَيَطُوفُ فِي الدُّنْيا حِماراً سارِحاً ... وَيَدُورُ فِي نارِ الْجَحِيمِ حِمَارا * تنبِيهٌ: وقع تشيبه العالم إذا لم ينتفع بعلمه بالشاة التي ترعى ما لا تنتفع به فيما روى ابن أبي شيبة عن أبي وائل رحمه الله تعالى قال: ما شبهت ¬
3 - من الخصال المشار إليها: أن يكون الإنسان عالما ولا يعمل بعلمه،
قراء زماننا هذا إلا بدراهم مزوقة، أو غنم رعت الحمض، فنفخت بطونها، فذبح منها شاة، فاذا هي لا تنقي (¬1). 3 - من الخصال المشار إليها: أن يكون الإنسان عالماً ولا يعمل بعلمه، أو يحمله طلب الدنيا والرغبة فيها على مخالفة ما يعلم. قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف: 175، 176]. قال مقاتل: رضي بالدنيا (¬2). {اتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176]. قال الجوهري في "الصحاح": لَهَث الكلب، يلهث لَهْثاً، ولُهثاً - بالضم -: إذا أخرج لسانه من التعب والعطش (¬3). قلت: مثَّل الله تعالى العالم إذا عمل بخلاف ما يعلم لطلب الدنيا، وهو متكالب على طلبها، واتبع عليها بكليته بالكلب اللاهث بها إن طردته أولم تطرده لشدة عطشه وكَدَّه، فإن الإنسان إذا اتبع هواه ¬
في طلب الدنيا، واسترسل في شهواته منها، فإنه لا يكاد ينتهي منها إلى آخر، ولا يشبع مما حصل له من مستحسناتها، ولا يروى مما شرب من خمر شهواتها، ولا يفيق من سكره منها كما في الحديث: "لَوْ كانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيانِ مِنْ ذَهَبٍ لابْتَغَى لَهُمَا ثالِثاً" (¬1). فلا يستريح من تعب طلبها، ولا يسكن من نصب رغبها، فحينئذ لا ينفع فيه زجر، ولا ينجع فيه وعظ، فهو كالكلب اللاهث حملت عليه أو تركته لأن قلبه مات من الشهوات، وبردت حرارة الموعظة فيه. قال ابن جريج رحمه الله تعالى: الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث، كذلك الذي يترك الهدى لا فؤاد له، دانما فؤاده منقطع كان ضالًّا قبلُ وبعدُ. رواه أبو الشيخ في "تفسيره"، وغيره (¬2). وقال الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول": إنما شبه الله تعالى العالم المنسلخ من الآيات بالكلب من بين سائر السباع لأن الكلب ميت الفؤاد، وإنما لهث لموت فؤاده، وسائر السباع ليست كذلك. قيل: وسبب موت فؤاد الكلب: أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض لاذت به سائر السباع، وسكنت إليه، ونَبَحه الكلب، فضربه آدم بعصا في يده، فانقطع قلبه. ¬
ومن ثم لا يطيق الكلب العصا متى رفعت له (¬1). وقلت في المعنى: [من مجزوه الكامل المذيَّل] إِنَّ الَّذِي حَمَلَ العُلُو ... مَ وَلَمْ يَكُنْ ممَّنْ أَجادْ بَلْ آثَرَ الدُّنْيا بِحيـ ... ــــثُ لأَجْلِها بِالدّينِ جادْ لِلأَرْضِ أَخْلَد فَالْتَوَى ... عَنْ مَنْهَجِ التَّقْوى وَحادْ فَهْوَ الَّذِي نَطَقَ الكِتا ... بُ بِذَمِّهِ بَيْنَ العِبادْ كَالْكَلْبِ يَلْهَثُ دائِماً ... وَالْقَلْبُ مُنْقَطِعُ الفُؤادْ وهذه الآية نزلت في بلعام بن باعورا على أشهر الأقوال. ذكر القرطبي أنه كان بحيث إذا نظر يرى العرش، وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه، ثم صار بحيث إنه كان أول من صنف كتاباً أن ليس للعالم صانعاً. انتهى (¬2). وقال أكثر المفسرين: كان مستجاب الدعوة، فأعطاه ملكُ الجبارين مالاً عظيما، وجوائز كثيرة حتى يدعو على موسى عليه السلام في عسكره، فدعا، فرجع الدعاء عليه وعلى قومه (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: بعث موسى نبي الله عليه السلام بلعام بن باعورا إلى ملك ¬
تنبيه
مدين يدعوهم إلى الله تعالى، وكان مجاب الدعوة، وكان موسى عليه السلام يقدمه في الشدائد إذا نزلت من السماء يدعو ويؤمِّن موسى، فأقطعه؛ يعني: ملك مدين، وأعطاه، فترك دين موسى، وتبع دينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175] (¬1). قال القرطبي: وهذا المثل في قول كثير من أهل العلم عام في كل من أوتي القرآن فلم يعمل به. وقيل: هو في كل منافق. قال: والأول أرجح (¬2). وقال الإمام الوالد في "تفسيره": [من الرجز] وَذَلِكَ الْمِثالُ شامِلٌ لِمَنْ ... أُوْتيَ عِلْماً وَبِهِ لَمْ يَعْمَلَنْ * تنبِيهٌ: لا يختص العالم المتكالب على الدنيا بالتشبيه بالكلب، بل كل متكالب على الدنيا فهو كالكلب، وعليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس رضي الله تعالى عنه: "لا تَطْرَحنَّ الدُّرَّ في أَفْوَاهِ الكِلابِ". قال محمد بن بكار - أحد رواته -: أظنه يعني العلم. أخرجه أبو حفص بن شاهين (¬3). ¬
قلت: وكأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستودع العلم أهل الدنيا المتكالبين عليها؛ فإن ذلك إضاعة للعلم، ومن هنا كان بعض العلماء إذا جاءه طالب لا يعلمه حتى يستكشف عن نيته؛ هل يريد بالعلم وجه الله تعالى، أو طلب المناصب والولايات، فإن شم منه رائحة الإخلاص علمه، وإلا تركه. ولطف أبو الحسين الجزار الأديب المشهور في إطلاق الكلاب على أهل الدنيا بقوله: [من الخفيف] لا تَعِبْنِي بِصَنْعَةِ القصَّابِ ... فَهْيَ أَزْكى مِنْ عَنْبَرِ الآدابِ كانَ فَضْلِي عَلى الكِلابِ فَمُذْ صِرْ ... تُ أَدِيباً رَجَوْتُ فَضْلَ الكِلابِ ومن المشهور الجاري على الألسنة: الدنيا جيفة، وطلابها كلابٌ (¬1). ولا يعرف هذا في أصول الحديث أصلاً، وإنما روى البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُنَادِي مُنَادٍ: دَعُوا الدُّنْيَا لأَهْلِهَا، مَنِ اتَّخَذَ مِنَ الدُّنيَا أكْثَرَ مِمَّا يَكْفِيْهِ أَخَذَ جِيْفَةً وَهُوَ لا يَشْعُرُ" (¬2). ¬
وروى أبو نعيم، والديلمي عن حذيفة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيَجِيْئَنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ أَقْوَامٌ وَأَعْمَالُهُمْ كَجِبَالِ تِهَامَةَ، فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلى النَّار". قالوا: يا رسول الله! مصلين؟ قال: "نعَمْ، كَانُوا يُصَلُّوْنَ، وَيَصُوْمُوْنَ، وَيَأْخُذُوْنَ وهناً مِنَ اللَّيْلِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ وَثَبُوا عَلَيْهِ" (¬1). وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" بنحوه من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه. وصفهم بالوثوب، وهو من صفات السباع والكلاب. وقال أبو الحسن بن جهضم الهمذاني في "بهجة الأسرار": حدثنا أبو الفتح أحمد بن الحسن، ثنا على بن جعفر عن أبي موسى، عن أبي يزيد؛ يعني: البسطامي رحمه الله تعالى قال: خلق الله تعالى إبليس كلباً من كلابه، وخلق الدنيا جيفة لإبليس، ثم قعد إبليس على آخر طريق الدنيا وأول طريق الآخرة، وأعمال الخلق كلها مارة به، ¬
وقيل: انظر؛ كما وجدت في عمل عبد من عبادي شيئاً من جيفتك فقد سلطتك عليه. وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته"، وأبو نعيم عن أحمد بن أبي الحواري قال: الدنيا مزبلة، ومجمع للكلاب، وأقل من الكلاب من يعكف عليها، وإن الكلب يأخذ منها حاجته وينصرف، والمحب لها لا يزايلها بحال (¬1). ورأيت بخط بعض العلماء القدماء أبياتاً منسوبة للإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ألَمَّ فيها بهذا المعنى، فقال: [من الطويل] أَأَنْعُمُ عَيْشًا بَعْدَما حَلَّ عارِضِي ... طَلائِعُ شَيْبِ لَيْسَ يُغْنِي خِضابُها وَلَذَّةُ عَيْشِ الْمَرْءِ قَبْلَ مَشِيبِهِ ... فَقَدْ فَنِيَتْ نَفْسٌ تَوَلَّى شَبابُها إِذا اسْوَدَّ لَوْنُ الْمَرْء وَابْيَضَّ شَعْرُهُ ... تَنَغَّصَ مِنْ أَيَّامِهِ مُسْتَطابُها خَبَتْ نارُ نَفْسِيَ بِاشْتِعالِ مَفارِقِي ... وَأَظْلَمَ لَيْلِي إِذْ أَضَاءَ شِهابُها ¬
فَيا نَوْمَةً قَدْ عَشَّشَتْ فَوقَ هامَتِي ... عَلى الرَّغْمِ مِنِّي حِينَ طارَ غُرابُها رَأَيْتِ خَرابَ العُمْرِ مِنِّي فَزُرْتِنِي ... وَمَأْواكِ مِنْ كُلِّ الدِّيارِ خَرابُها فَلا تَمْشِيَنْ فِي مُنْكَرِ الأَرْضِ فاخِراً ... فَعَمَّا قَلِيلٍ يَحْتَوِيكَ تُرابُها وَأَحْسِنْ إِلَى الأَحْرارِ تَمْلِكْ رِقابَهُمْ ... فَخَيْرُ تِجاراتِ الكِرامِ اكْتِسابُها فَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيا فَإِنِّي طَعِمْتُها ... وَسِيقَ إِلَيَّ عَذْبُها وَعَذابُها فَلَمْ أَرَها إِلاَّ غُرُوراً وَباطِلاً ... كَما لاحَ فِي ظَهْرِ الفَلاةِ سَرابُها وَما هِيَ إِلاَّ جِيفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ ... عَلَيْها كِلابٌ دَأْبُهُنَّ اجْتِذابُها فَإِنْ تَجْتَنِبْها كُنْتَ سِلْماً لأَهْلِها ... وَإِنْ تَجْتَذِبْها نازَعَتْكَ كِلابُها فَطُوبَى لِنَفْسٍ وَطِئَتْ قَعْرَ دارِها ... مُغَلَّقَةَ الأَبْوابِ مُرْخًى حِجابُها
فَيارَبِّ هَبْ لِي تَوْبَةً قَبْلَ مِيْتَتِي ... أفوزُ بِها مِنْ قَبْلِ يُغْلَقُ بابُها وإذا أفادت البصائر أن الشره في الدنيا في مقام كلب شره في جيفة، وأهل العلم هم أهل البصائر، وإذا شره العالم خصوصاً البالغ في العلم فيها، فقد حير من دونه إذا رغب عنها، ويرى من فوقه رغب فيها، وأضل من ليس من أهل العلم إذا أراد الاقتداء لأنه إذا رأى من معه طرف من العلم يزهد فيها ويرغب عنها، ورأى الأعلم والأبصر يرغب فيها اقتضى رأيه أن يقتدي بالأعلم، ومن ثم تعلم أنه ليس في الدنيا أفتن لعقول الناس من العلماء المفتونين. وقد روى الدينوري في المجالسة عن أبي عبد الله القلانسي قال: سمعت إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى يتمثل بأبيات من الشعر: [من المتقارب] رَأَيْتُ الذُّنوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ ... وَشبِعُها الذُّلَّ إِدْمانُها وَتَرْكُ الذُّنوبِ حَياةُ القُلُوبِ ... وَالْخَيْرُ لِلنَّفْسِ عِصْيانُها وَهَلْ أَهْلَكَ الدِّينَ إِلاَّ الْمُلُوكُ ... وَأَحْبارُ سَوْءٍ وَرُهْبانُها
4 - ومن الخصال المشار إليها: تشبه المتكثر بالعلوم التي لا تنفع،
فَباعُوا النُّفوسَ فَلَمْ يَرْبَحُوا ... وَلَمْ تَغْلَ بِالبَيع أَثْمانُها (¬1) والمشهور أن هذه الأبيات لعبد الله بن المبارك، وكان بينه وبين إبراهيم بن أدهم تمام الصداقة - رضي الله عنها - (¬2). وروى الدينوري عن ابن حبيق عن موسى بن طريف قال: كنت عند يوسف بن أسباط، فإذا كلب يبحث في مزبلة، فقال: والله ما بعث الله هذا الكلب يبحث في المزبلة في وجهي إلا أني حدثت نفسي بشيء من أمر الدنيا (¬3). 4 - ومن الخصال المشار إليها: تشبه المتكثر بالعلوم التي لا تنفع، فتحسبه عالماً، فإذا طلبت عنده البغية من العلم لم تجد عنده شيئاً بالدابة المنتفخة المتورمة، حتى إذا تناولتها بها لم تغن عنك شيئاً. روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن شقيق بن سلمة رحمه الله تعالى قال: مثل قراء هذا الزمان كغنم ضوائن، ذات صوف عِجاف أكلت من الحمض، وشربت من الماء حتى انتفخت خواصرها، ¬
5 - ومنها: تشبه علماء السوء،
فمرت برجل فأعجبته، فقام إليها، فعبط شاة منها، فإذا هي لا تنقي، ثم عبط أخرى فإذا هي كذلك، فقال: أف لك سائر اليوم (¬1). قال في "القاموس": عبط الذبيحة يعبطها: نحرها من غير علة وهي سمينة (¬2). والمعنى أنه نحرها على أنه عبط بها، حسبها سماناً فإذا هي عجاف؛ أي: ذهب سمنها وليس فيها إلا الصوف. لا تنقى - بفتح أوله -؛ أي: لا نقي لها، أي: لا مخ لعظمها. 5 - ومنها: تشبه علماء السوء، وقراء السوء، وعباد السوء بالذئاب والخنازير في كل الدنيا من غير مبالاة بحلال أو حرام. روى ابن عبد البر في "فضل العلم" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْحَى اللهُ تَعَالى إِلى بَعْضِ الأَنْبِيَاء عَلَيْهِمُ السَّلامُ: قُلْ لِلَذِيْنَ يَتَفَقَّهُوْنَ لِغَيرِ الدِّيْنِ، وَيَتَعلَّمُونَ لِغَيرِ العَمَلِ، وَيَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، يَلْبَسُونَ للنَّاسِ مُسُوكَ الكِبَاشِ وَقُلُوْبُهُمْ كَقُلُوْبِ الذِّئَابِ، ألْسِنتهُمْ أَحْلَى مِنَ العَسَلِ، وَقُلُوْبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبرِ: لي يُخَادِعُونَ، وَبِيْ يَسْتَهْزِؤُونَ، لأُتِيْحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً تدَع الحَكِيْمَ حَيْرَانَ" (¬3). ¬
وروى الدارمي عن معاذ - رضي الله عنه - قال: سيبلى القرآن في قلوب أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، يقرؤونه ولا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضان على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا: سيبلغ بنا، وإن أساؤوا قالوا: سيغفر لنا؛ لا نشرك بالله شيئاً (¬1). وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى قال: قال موسى عليه السلام: تلبسون ثياب الرهبان، وقلوبكم قلوب الخنازير والذئاب الضواري، فإن أحببتم أن تبلغوا ملكوت السماوات فأميتوا قلوبكم لله تعالى (¬2). إنما شبه قلوبهم بقلوب الخنازير من حيث غلبة الشهوة عليها حتى تتجاوز الحلال إلى الحرام، كما تتجاوز شهوة الخنازير بها إلى كل العذرات، وبقلوب الذئاب من حيث العدوان والجبروت والطغيان. وقرأت بخط الشيخ برهان الدين بن جماعة لبعضهم: [من الخفيف] عُلَماءَ البِلادِ أَنْتُمْ ذِئابٌ ... سَتَرَتْكُمْ عَنِ العُيُونِ الثِّيابُ غَيْرَ أَنَّ الذِّئابَ تَصْطادُ وَحْشاً ... وَمَباءَتُها القِفارُ اليبابُ ¬
6 - ومنها: تشبه قضاة السوء، وحكام السوء بالذئاب في كل أموال الناس بالباطل،
وَتَصِيدُ العُدُولُ مالَ اليَتامَى ... بِانْقِضاضِ كَما يَصِيدُ العُقابُ عَمَرُوا مَوْضعَ التَّصَنُّعِ مِنْهُمْ ... وَمَكانُ اليَقِينِ مِنْهُمْ خَرابُ 6 - ومنها: تشبه قضاة السوء، وحكام السوء بالذئاب في كل أموال الناس بالباطل، وبالعقعق في اختلاس أموالهم بالحيل. وقالوا في المثل: ألص من عقعق (¬1). وأنشد ابن قتيبة في "عيون الأخبار" لبعضهم يهجو قاضياً: [من الطويل] [ ... ] (¬2) يحيى سعيداً وَخالِداً ... وَلَيْسَ عَلى ذَنْبِ القُضاةِ أَمِينُ أَلا إِنَّما حَمَّلْتُمُ الدِّينَ عَقْعَقاً ... لَهُ نَحْوَ عَلويَّ البِلادِ حَنِينُ وقرأت بخط الشيخ برهان الدين بن جماعة: دخل على الحجاج رجل من بني فهد من قضاعة، فقال الحجاج: إيه، ألست القائل: [من الطويل] ¬
ألَمْ تَرَ أَنَّ الْحَقَّ مُذْ ماتَ مُصْعَبٌ ... دَفَنَّاهُ وَاسْتَرْعَى الأَمانَةَ ذِئْب أَنَحْنُ أُناسٌ أَوْثَقَتْنا ذُنُوبُنا ... أَمَّا لِثَقِيفٍ حَوبَةٌ وَذنوبُ يا سياف! اضرب عنقه. فقال رجل كان إلى جنبه سراً: ما في هذا ما يوجب القتل. فسمعها الحجاج، فقال: ابدأ بهذا فاقتله. فقال رجل إلى جنبه سراً: رجل أنكر منكراً يقتل؟ فقال الحجاج: ابدأ به قبلهما. فسبح رجل كان حاضراً أو هلَّل، فقال: ابدأ به قبلهم، فقتلوا جميعاً. ومن أمثالهم: من استرعى الذئب ظلم، وذلك لأنه أسلمها للتلف (¬1). وأنشدوا: [من الوافر] وَراعِي الشَّاءِ يَحْمِي الذِّئْبَ عَنْها ... فَكَيْفَ إِذا الرَّعَّاءُ لَها ذِئابُ وأحوال الحكام الآن حتى بعضهم على بعض أحوال الذئاب، يظلمون الناس، ثم يظلم أقواهم من دونه، كما أن الذئب إذا جاع ¬
عوى فتجتمع له الذئاب، ويثِبُ بعضها إلى بعض، فإذا وطئ واحد منها تواثبت سائر الذئاب عليه فأكلته، حتى إذا ظفرت بإنسان فاجتمعت عليه وهي حريصة على أكله، فإذا جرح الإنسان واحداً منها فَدَماه، تركت الذئاب الإنسان، ووثبت على المدمي منها، فمزَّقته. قال الفرزدق يعاتب صديقاً أعان عليه: [من الطويل] وَكُنْتَ كَذِئْبِ السَّوْءِ لَمَّا رَأَى دَماً ... بِصاحِبِهِ يَوْما أَحالَ عَلى الدَّمِ (¬1) ومن هذا ما قيل في المثل: أعق من ذئبة؛ لأنها تكون مع ذئبها فيدمى، فإذا رأته قد دمي وثبت عليه فأكلته (¬2). قال رؤبة بن العجاج: [من الرجز] وَلا تَكُونِي يا ابْنَةَ الأَثِيمِ ... وَرْقاءَ دَمِيَ ذِئْبُها الْمُدْمَى (¬3) أراد بالورقاء: الذئبة. وقال آخر: [من الطويل] ¬
7 - ومنها: تشبه علماء السوء في تكالبهم، وتهافتهم، وتغايرهم على المناصب، والولايات ونحوها بالتيوس.
فَتًى لَيْسَ لابْنِ العَمِّ كَالذِّئْبِ إِنْ رَأَى ... بِصاحِبِهِ يَوْماً كما فَهْوَ آكِلُهْ (¬1) وكذلك حال الظلمة وأعوانهم يعتادون الظلم حتى لو وقع واحد منهم حملوا عليه، وتواثبوا إليه، لا يرحمه منهم راحم، وكل منهم له راجم. كما تقول العوام في أمثالهم: إذا وقعت البقرة كثرت سكاكينها. 7 - ومنها: تشبه علماء السوء في تكالبهم، وتهافتهم، وتغايرهم على المناصب، والولايات ونحوها بالتيوس. روى الحاكم، والخطيب في "تاريخيهما" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأتي عَلَى أُمَّتي زَمَانٌ يَحْسُدُ الْفُقَهَاءُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَغَارُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كتَغَايُرِ التُّيُوسِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ" (¬2). ¬
8 - ومنها: تشبه علماء السوء وقراء السوء في أكل بعضهم لمال بعض، وغيره بالدبدان.
8 - ومنها: تشبه علماء السوء وقراء السوء في أكل بعضهم لمال بعض، وغيره بالدبدان. وفي معناه: أَخْذُ بعضِهم منصبَ الآخر من تدريس، أو ولاية، أو غيرهما. وكذلك كل بعضهم للحم الآخر بالغيب. ومن العجائب أنهم يقرؤون في دروسهم ومحاضراتهم أن غيبة العلماء والقراء كبيرة، ثم يقع بعضهم في بعض في غير ذات الله تعالى بخلاف الغيبة في ذات الله تعالى، وهي بيان حال الراوي ونحوهما فيه نصيحة. ولعل مَنْ وصفناهم هم المشار إليهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيَكُوْنُ في آخِرِ أُمَّتي دِيْدَانُ الْقُرَّاءِ؛ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَلْيتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُمْ". رواه أبو نعيم من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه (¬1). ويجوز أن تكون الإشارة بديدان القراء إلى حثالتهم، وأراذلهم الذين استبذلوا أنفسهم لأهل الدنيا لأجل الدنيا، ودخلوا في طلبها منهم كل مدخل، وكثيراً ما كنت أشبه أهل هذا العصر إلا قليلاً منهم لا يكاد يوجد بدود القبر؛ فإنها تأكل لحم الميت حتى إذا لم تبق منه شيئاً، ثم يأكل أقوياؤها ضعفاءها حتى إذا لم يبق إلا النزر القليل كالواحدة فتموت جوعاً. ¬
9 - ومنها: التشبه بالبهائم في عدم الانتفاع بالموعظة وإن سمعها.
9 - ومنها: التشبه بالبهائم في عدم الانتفاع بالموعظة وإن سمعها. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} [الفرقان: 44] قال: مثل الذين كفروا كمثل البعير والحمار والشاة؛ إن قلت لبعضهم: كل، لم يعلم ما تقول غير أنه يسمع صوتك، كذلك الكافر إن أمرته بخير، أو نهيته عن شر، أو وعظته، لم يعقل ما تقول، غير أنه يسمع صوتك. رواه ابن أبي حاتم (¬1). والذم في الآية لم يقع على الكفر - وإن كان قبيحاً - بل على ما اتصف به الكفار من عدم الاستماع إلى الخير، وعدم فهمه وتعقله، فإذا اتصف المؤمن بذلك كان مؤاخذاً في ذلك من وجهين؛ من حيث إنه كان كالأنعام بل أضل منها، ومن حيث إنه تشبه بالكفار في ذلك. 10 - ومنها: تشبه الملوك، والأمراء، والمتجوهين في قهر الناس، والشماخة عليهم، والزهو، والتكبر، والتسلط بالجبروت بالأسد، أو النسر، وفي كل أموال الناس، والانتهاب بالبهائم، والذئاب، والكلاب. ومن هنا مُسِخَ بختنصر، وهو أحد الملكين الكافرين اللذين ملكا الأرض؛ أولهما نمرود، وهذا ثانيهما، مُسِخَ أسداً، ثم نسراً، ثم ثوراً ¬
11 - ومنها: تشبه الملوك، ونحوهم في طلب الدنيا،
كما روى أبو نعيم عن بكار بن عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه يقول: مسخ بختنصر أسداً فكان ملك السباع، ومسخ نسراً فكان ملك الطير، ثم مسخ ثوراً فكان ملك الدواب، وهو في ذلك يعقل عقل الإنسان، وكان ملكه قائماً يدبر، ثم رد إليه روحه، فدعا إلى توحيد الله، وقال: كل إله باطل إلا إله السماء. قال بكار: قيل لوهب: أمؤمناً مات؟ قال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: قرأ من قبل أن يموت. وقال بعضهم: قتل الأنبياء، وحرق الكتب، وخرب بيت المقدس، فلم تقبل منه التوبة (¬1). وعن وهب أيضاً قال: أصاب أيوب عليه السلام سبع سنين، وترك يوسف عليه السلام سبع سنين، وعذب بختنصر وحول في السباع سبع سنين (¬2). 11 - ومنها: تشبه الملوك، ونحوهم في طلب الدنيا، والانهماك فيها، والاغترار بها، والتمتع، والتكثر، والتكبر عن قبول الحق بالقردة. روى أبو يعلى، والطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَيَكُوْنُ أَئِمَةٌ مِنْ بَعْدِي يَتَوَلَّوْنَ فَلاَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ، يتَقَاحَمُوْنَ ¬
في النَّارِ تَقَاحُمَ الْقِردَةِ" (¬1). ومنهم من خص ذلك ببني أمية. والحق أن ذلك عام فيهم وفي غيرهم من الملوك الذين هم على نحو ما وصفت. وروى ابن جرير عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني الحكم بن أبي العاص يَنْزُون على منبره نَزْو القردة، فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكاً حتى مات. وأنزل الله تعالى ذلك: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] (¬2). وروى الطبراني عن الحسن رحمه الله تعالى: أنه سمع رجلاً يدعو على الحجاج، فقال له: لا تفعل؛ إنكم لمن أنفسكم أُتيتم، إنا ¬
لطيفة
نخاف إن عزل الحجاج، أو مات أن يستولي عليكم القردة والخنازير، فقد روي أن أعمالكم عُمَّالكم، وكما تكونون يُولَّى عليكم (¬1). * لَطِيفَةٌ: روى أبو نعيم عن طاوس رضي الله تعالى عنه قال: كان يقال: اسجد للقرد في زمانه (¬2). وأنشد الدميري في "حياة الحيوان": [من الرجز] اسْجُد لقرد السُّوءِ فِي زَمانِهِ ... وَدارِهِ ما دُمْتَ فِي سُلْطانِهِ (¬3) وأنشد العارف بالله سيدي علوان الحموي في "شرح تائية ابن حبيب" لبعضهم: [من المتقارب] خَبِرْتُ الرِّجالَ وَجَرَّبْتُهُمْ ... فَكُلٌّ يَمِيلُ إِلَى شَهْوَتهْ فَلِلَّهِ دَرُّ فَتَى عاقِلٍ ... يُدارِي الزَّمانَ عَلى فِطْنَتِهْ وَيلْبَسُ لِلدَّهر أثوابَهُ ... وَيرْقُصُ لِلْقِرْد فِي دَوْلَتِهْ (¬4) وأنشد السيوطي لبعضهم: [من الوافر] ¬
سَجَدْنا لِلْقُرودِ رَجاءَ دُنْيا ... حَوَتْها دُوْننَا أَيْدِي القُرودِ فَما ظَفِرَتْ أَنامِلُنا بِشَيْءٍ ... رَجَوْناهُ سِوى ذُلِّ السُّجودِ ومما يدخل في قسم التشبه بالقردة: الاستخفاف بأولياء الله تعالى، والإنكار لكرامتهم. وفي "ربيع الأبرار" للزمخشري: قال رجل للحسين بن منصور الحلاج: إن كنت صادقاً فيما تدعيه فامسخني قرداً، فقال: لو هممت بذلك لكان نصف العمل مفروغاً منه (¬1). قلت: يشير بذلك إلى مسخ القلب؛ فإن المسخ يكون في الصورة، ويكون في القلب. وعلى ذلك تأول بعض العلماء ما ورد في الأحاديث من المسخ الذي يكون في هذه الأمة آخر الزمان أنه يكون في القلب، والحق أنه يكون في الأجساد والقلوب، وقد يكون في القلوب دون الأجساد، وقد وقع الأول قليلاً، والثاني كثيراً. وقد قدمنا عن بعض كتب التاريخ: أن رجلًا عبث بآخر وهو في الصلاة فمسخ خنزيراً. وروى اللالكائي في "السنة" عن الوضاح بن حسان، عن بعض أهل الكوفة: أن رجلاً كان يسب أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما؛ قال: وكان قد صحبنا في سفر، فنهيناه، فلم ينته، فقلنا له: اجتنبنا، ففعل. ¬
فلما أردنا الرجوع تذممنا، فقلنا: لو صحبنا حتى يرجع، فلقينا غلامه، فقلنا: قل لفلان يرجع إلينا. فقال: إنه قد حدث به حدث سوء، قد تحوَّلت يداه يدي خنزير. قال: فأتيناه فقلنا له: تحول إلينا. فقال: إنه قد حدث بي أمر عظيم، فأخرج ذراعيه فإذا هما ذراعا خنزير. قال: فتحول إلينا حتى انتهينا إلى قرية كثيرة الخنازير، فلما رآها صاح صياح الخنازير، فوثب من دابته فإذا هو خنزير، فاختلط مع الخنازير فلم يعرف، فجئنا بمتاعه وغلامه إلى الكوفة (¬1). وروى الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتاب "النهي عن سب الصحابة" رضي الله تعالى عنهم عن صفوان قال: اكتريت إبلاً إلى الشام، فدخلت مسجداً فصليت خلف إمام، فلما انفتل من صلاته أقبل على الناس بوجهه، وذكر أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما بسوء. قال: فخرجت من ذلك المسجد، ورجعت من قابل، ودخلت ذلك المسجد، فصليت خلف إمام آخر، فلما انفتل من صلاته أقبل على الناس بوجهه، وقال: اللهم ارحم أبا بكر وعمر. فقلت لرجل كان بجنبي: ما فعل الذي كان يلعنهما؟ فقال لي: تشاء أن أريكه؟ ¬
فقلت: بلى. فأدخلني داراً، فأراني كلباً مربوطاً في سارية، فقال للكلب: هذا رجل صلى خلفك عام أول وأنت تشتم أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فأومأ الكلب برأسه؛ أي: نعم. فقال الرجل: قد مسخه الله كما ترى. وقال أيضاً في الكتاب المذكور: سمعت الشيخ أبا بكر بن مسعود الهكاري قال: كنت أخدم مع ميمون القصري بحلب، فجرى ذكر الرافضة بعض الأيام عنده، فقيل: إذا مات منهم إنسان تغير خلقه خنزيراً، فأنكر ذلك ميمون القصري، ثم قال: عندهم فلان البزدار، إن مات أبصرناه، فاتفق أن ذلك الرجل مات، فقال ميمون: ادفنوه في موضع وحده، ثم خرج ميمون ونحن معه إلى المقبرة، وبات برا البلد، وأمر بنبشه، فإذا هو خنزير، فأبصرناه، فأمر ميمون بحطب، ثم أمر به فأحرقه. وروى أبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب"، وغيره عن العَوَّام ابن حوشب رحمه الله تعالى قال: نزلت مرة حياً وإلى جانب ذلك الحي مقبرة، فلما كان بعد العصر انشق منها قبر، فخرج منه رجل رأسه رأس حمار، وجسده جسد إنسان، فنهق ثلاث نهقات، ثم انطبق عليه القبر، فإذا عجوز تغزل شعراً وصوفاً، فقالت امرأة ترى تلك العجوز: قلت: ما لها؟ قالت: تلك أم هذا.
قلت: وما كانت قصته؟ قالت: كان يشرب الخمر، فإذا راح تقول له أمه: يا بني! اتق الله، إلى متى تشرب هذا الخمر؟ فيقول لها: إنما أنت تنهقين كما ينهق الحمار. فمات بعد العصر، فهو ينشق عنه القبر بعد العصر كل يوم فينهق ثلاث نهقات، ثم ينطبق عليه القبر (¬1). قال أبو القاسم: حدث به أبو العباس الأصم إملاء بنيسابور بمشهد من الحفاظ، فلم ينكروه (¬2). وروى ابن عساكر عن [لأعمش] (¬3) قال: تغوط رجل على قبر الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، فجعل ينبح كما تنبح الكلاب، ثم إنه مات، فسمع من قبره يعوي ويصيح (¬4). وروى الحافظ محمد بن السَّكَن في كتاب "العجائب" عن نوفل ابن مساحق قال: رأيت شاباً بمسجد نجران، فجعلت أنظر إليه وأتعجب من طوله، وتمامه، وجماله، فقال: ما لك تنظر إلي؟ فقلت: أعجب من جمالك وكمالك. ¬
فقال: إن الله ليعجب مني. قال: فما زال ينقص وينقص حتى صار بطول الشبر، فأخذه بعض قرابته في كمه وذهب. أورده ابن كثير في "تفسيره" في قصة قارون (¬1). وروى الترمذي عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ، وَمَسْخٌ، وَقَذْف". قال رجل من المسلمين: متى ذلك؟ قال: "إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ، والمعَازِفُ، وَشُرْبُ الخَمْرِ" (¬2). وروى ابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي مالك الأشعري رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتي الخَمْرَ يُسَمُّوْنهَا بِغَيرِ اِسمِهَا، يُضْرَبُ عَلَى رُؤُوْسِهِمْ بِالمعَازِفِ وَالقَينَاتِ، يَخْسِفُ اللهُ بهم الأَرْضَ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ الْقرَدَةَ وَالخَنَازِيْرَ" (¬3). وروى الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "لَيَبِيْتَنَّ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتي عَلَى ¬
أَكْلٍ وَلهوٍ وَلَعِبٍ، ثُمَّ لَيُصْبِحُنَّ قِرَدَةً وَخَنَازِيْرَ" (¬1). ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه بنحوه، وزاد فيه: "بِاسْتِحْلالهِمُ المحَارِمَ، وَاتِّخَاذِهِمُ القَينَاتِ، وَشُرْبهِمُ الخَمْرَ، وَبأَكْلِهِمُ الرِّبَا، وَلُبْسِهِمُ الحَرِيْرَ" (¬2). وروى الترمذي، وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "في هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ، وَمَسْخٌ، وَقَذْفٌ فيْ أَهْلِ القَدَرِ" (¬3). وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَأْتي المرْأَةُ فَتَجِدُ زَوْجَهَا قَدْ مُسِخَ قِرْدًا لأَنَّهُ لاَ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ" (¬4). وروى الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
لطيفة
قال: "يَكُوْنُ فيْ آخِرِ هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ، وَمَسْخٌ، وَقَذْفٌ". قيل: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نَعَمْ، إِذَا ظَهَرَ الخَبَثُ" (¬1). والأحاديث في هذا الباب كثيرة. * لَطِيفَةٌ: ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراوي القاهري في كتاب "العهود": أن الشيخ محيي الدين بن العربي ركب البحر، فهاجت الريح، فقال: اسكن بالخير؛ فإن عليك بحراً من العلم، فسَكَن البحر لقوله. ثم إنه طلعت له هائشة، فقالت: يا محيي الدين! أسألك عن مسألة، فإن أجبت عنها كنت عالماً، وإن لم تجب عنها فأنت جاهل. فقال لها: ما هي؟ فقالت: إذا مسخ الله زوج المرأة ماذا تعتد؟ هل تعتد عدة الأحياء أو عدة الأموات؟ فما درى الشيخ ما يقول، فقالت الهائشة: تعملني شيخة لك وأنا أقول لك عنها؟ فقال: نعم. ¬
فائده زائدة
فقالت: إن مسخ حيواناً اعتدت عدة الأحياء، وإن مسخ جماداً اعتدت عدة الأموات. فمن ذلك اليوم ما شُمَّ منه رائحة دعوى العلم حتى مات. * فائِدَهٌ زائِدَةٌ: ذكرنا بعض ما وقع في هذه الأمة من المسخ، وأما الخسف والقذف فروى اللالكائي في "السنة" عن حماد بن زيد رحمه الله تعالى قال: جعل رجل لرجل جعلاً على أن يعبر نهراً، فعبر حتى إذا قرب من الشط قال: عبرت والله، فقال له رجل: قل ما شاء الله، قال: شاء الله أو لم يشأ، قال: فأخذته الأرض (¬1). وروى الدينوري عن الأوزاعي رحمه الله تعالى قال: كان عندنا صياد، وكان يخرج يوم الجمعة لا يمنعه مكان الجمعة من الخروج، فخسف به وببغلته، فخرج الناس وقد ذهبت بغلته في الأرض، ولم يبق إلا أذناها وذنبها (¬2). وحكى بعض العلماء: أن قوماً اجتمعوا على شرب وطرب، فحضرت الصلاة، فصلى بهم أحدهم، فقرأ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ} [الملك: 28]، فخسف قبل تمام الآية. وروى ابن الجوزي في "ذم الهوى" عن بعضهم قال: مررت ¬
12 - ومن الخصال التي تدخل في التشبه بالبهائم والهوام: إنكار القدر.
بديار قوم لوط، فأخذت حجراً مما رجموا به، فطرحته في مخلاة، ودخلت مصر، فنزلت في بعض الدور في الطبقة الوسطى، وكان في سفل الدار حدث، فأخرجت الحجر من خرجي، ووضعته في روزنة في البيت، فدعا الحدث الذي كان أسفل صبياً، واجتمع معه، فسقط الحجر من الروزنة على الحدث، فقتله (¬1). 12 - ومن الخصال التي تدخل في التشبه بالبهائم والهوام: إنكار القدر. روى الشيخ المحدث شمس الدين محمد بن طولون الصالحي في "تعليقته" التي روى فيها عن البهائم، والطيور، والهوام عن داود بن أبي هند رحمه الله تعالى قال: كانت العنقاء عند سليمان بن داود عليهما السلام، وكان سليمان بن داود عليهما السلام قد عُلِّم كلام الطير، وسُخِّرت له الشياطين، وأعطي ما لم يعط أحد، فذكر عنده القضاء والقدر، وكانت العنقاء حاضرة فقالت: وأي شيء القضاء والقدر؟ وقيل لسليمان عليه السلام: تولد في المشرق جارية، ويولد في المغرب غلام في يوم واحد في ساعة واحدة، وإنهما يجتمعان على الفجور، فقالت العنقاء: إن هذا لا يكون، وكيف يكون وهذا بالمشرق وهذا بالمغرب؟ فقال لها سليمان: إن هذا بالقضاء والقدر. ¬
قالت: لا أقبل ذلك، أنا آخذ الجارية فأصيرها في موضع لا يصل إليها مخلوق، وأحفظها حتى يكون ذلك الوقت الذي ذكرت أنهما يجتمعان فيه. فقال سليمان عليه السلام: اذهبي وخذي الجارية، وتحرزي بما قدرت، فإذا كان ذلك الوقت آمرك أن تجيئي أنت بالجارية، ونجيء نحن بالغلام. فانطلقت العنقاء، فاحتملت الجارية حتى صيرتها في جزيرة من جزائر البحر، وكان في تلك الجزيرة جبل عظيم في رأسه قلة لا يصل إليها مخلوق، وفي ذلك الرأس كهف، فصيرت الجارية في ذلك الكهف، ثم جعلت تختلف إليها حتى كبرت وشبت، وصارت امرأة. ثم إن الغلام لم يزل يشب وينشأ حتى صار رجلاً، فركب في البحر سفينة ومعه فرس، فلما انتهى إلى تلك الجزيرة، كسر به المركب، فخرج هو وفرسه إلى تلك الجزيرة، وغرقت السفينة فلم ينج منها أحد غيره، فبينما هو يدور في تلك الجزيرة إذ رفع رأسه فبصر بالجارية وبصرت به، فدنا منها، وكلمها وكلمته، فأخذ بقلبها وأخذت بقلبه، فمكثا يطيلان الحيلة كيف يصل كل واحد منهما إلى صاحبه، فقالت الجارية: إن التي ربتني طير عظيم الشأن، وليس لك حيلة تصل بها إلي الآن إلا أن تذبح فرسك، ثم ترمي بما في جوفه في البحر، وتدخل أنت فيه، فإنها إن أبصرتك قتلتك، فإني سأسألها أن تحمل الفرس إلي، فإذا فعلت صرت عندي.
ففعل، فلما جاءت العنقاء قالت لها الجارية: يا أمه! لقد رأيت في البحر شيئاً عجباً لم أر مثله قط. قالت: وما هو؟ فقالت: ذاك الذي ترين على شط البحر. قالت: هذا فرس ميت ألقاه البحر. قالت: فجيئيني به حتى أنظر إليه. فانطلقت العنقاء، فاحتملت الفرس والفتى في جوفها حتى وضعتها بين يدي الجارية، ثم انطلقت إلى سليمان عليه السلام لتخبره أن الوقت قد مضى، ولم يكن من القضاء شيء، وأن القضاء والقدر باطل. فخرج الفتى في غيبتها، وواقع الجارية. فلما صارت العنقاء عند سليمان عليه السلام قالت له: قد مضى الوقت الذي قلت إنهما يجتمعان فيه. فقال لها: قد اجتمعا، وكان منهما ما أخبرتك أنه يكون. فقالت: أنا جئت من عند الجارية الساعة، وما وصل إليها خلق، فأين الرجل؟ قال لها سليمان عليه السلام: جيئينا بالجارية فإنا نجيئك بالرجل. فانطلقت العنقاء إلى الجارية، فلما أحست بها أمرت الفتى فدخل في جوف الفرس، فقالت لها العنقاء: إن سليمان أرسلني إليك لأحملك.
فقالت: كيف تحمليني وأنا امرأة قد كبرت وثقلت؟ وخافت على الرجل أن تتركه وحده فيموت، وكانت قد علقته ودخل قلبها حبه، فأحبت أن لا تذهب إلا به، فقالت للعنقاء: يا أمه! إن كنت لا بد فاعلة فإني أدخل جوف هذا الفرس، ثم تحمليني، فإن وقعت لم يضرَّني شيء. فقالت: صدقت. فدخلت في جوف الفرس، فحملتهما معا في الفرس حتى وضعتهما بين يدي سليمان عليه السلام، فقالت: هذه الجارية فأين الرجل؟ فقال: قولي للجارية تخرج، فخرجت. فقال سليمان للرجل: اخرج، فقد جاءت بك تحملك على رغم أنفها على ظهرها. فخرج، فاستحيت العنقاء، فخرجت على وجهها، فلم ير لها أثر حتى الساعة (¬1). فهي يضرب بها المثل؛ يقال: أخفى من العنقاء. قال ابن طولون: ورأيت في بعض الآثار: أن الطير صاحت عليها: يا عنقاء! يا قدرية! فذهبت، فلا يدرى أين ذهبت. قيل: وكانت تشبه البوم، فلذلك ترى الطير إذا رأت البوم صاحت عليه. ¬
وقيل: بل هي البوم، وكانت كبيرة فصغرت بعد ذلك. وذكر القزويني أن العنقاء أعظم الطير جثة وأكبره، تخطف الفيل، وكان في قديم الزمان بين الناس فيتأذون منه، إلى أن سلبت يوماً عروساً بحليها، فدعا عليها حنظلة النبي عليه السلام، فذهب الله تعالى به إلى بعض جزائر البحر المحيط تحت خط الاستواء، وهي جزيرة لا يصل إليها الناس (¬1). وذكر الزمخشري في "ربيع الأبرار" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: خلق الله تعالى في زمن موسى عليه السلام طيراً اسمه العنقاء، لها أربعة أجنحة من كل جانب، ووجهها كوجه الإنسان، وأعطاها من كل شيء، وخلق لها ذكراً مثلها، وأوحى إليه: إني خلقت طائرين عجيبين، وجعلت رزقهما في الحوش الذي حول بيت المقدس، فتناسلا وكثر نسلهما، فلما توفي موسى عليه السلام انتقلت، فوقعت بنجد والحجاز، فلم تزل تأكل الوحوش، وتخطف الصبيان إلى أن نبئ خالد بن سنان العبسي عليه السلام قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشكوه إليه، فدعا عليها، فانقطع نسلها وانقرضت (¬2). وذهب جماعة إلى أنه لا عنقاء، وأنه من الألفاظ الدالة على غير معنى حتى قيل: [من البسيط] ¬
13 - ومن الخصال التي تلحق صاحبها بالبهائم
الْجُودُ وَالغُولُ وَالعَنْقاءُ ثالِثُها ... أَسْماءُ أَشْياءَ لَمْ تُوْجَدْ وَلَمْ تَكُنِ (¬1) 13 - ومن الخصال التي تلحق صاحبها بالبهائم: الجهل بالله تعالى، وتعظيم قدره وفعله، وإن كان ذلك داخلاً في مطلق الجهل الذي هو صفة البهائم. وقد علمت أنه معظم أركان هذا الباب؛ أعني: التشبه بالبهائم ونحوها. روى أبو داود عن جندب رضي الله تعالى عنه قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته، ثم عَقَلها ودخل المسجد، فصلى خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثار راحلته فأطلقها، ثم ركب، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا تشرك في رحمتنا أحداً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَقُولُونَ: هُوَ أَضَلُّ أَمْ بَعِيْرُهُ؛ ألَمْ تَسْمَعُوْا إِلى مَا قَالَ؟ " (¬2). والمعنى: أهو أجهل بالله وسعة رحمته، أم بعيره؟ 14 - ومنها: تشبه العبد في معرفة أمور الدنيا، وجهل أمور الدين، وأحوال الآخرة بالبهيمة التي لا تعرف إلا أمر مرعاها وسقياها، ولا تتقيد بمعقول، ولا ترجع إلى منقول. ¬
15 - ومنها: الغفلة عن طاعة الله تعالى اشتغالا بالدنيا، ونحوها تشبها بالعير، والحمار، ونحوهما من البهائم.
وهذا حال أكثر الناس إلا من وفقه الله تعالى كما قال الله - عز وجل -: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7]. وروى الديلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ عَلِمَتِ البَهَائِمُ مِنَ المَوْتِ مَا عَلِمَ بَنُو آدَمَ مَا أَكَلُوْا مِنْهَا لحْمًا سمِيْنًا" (¬1). فإذا غفل العبد عن الموت وما بعده كان هو والبهيمة سواء. قال الماوردي في "أدب الدين والدنيا": وأنشدني بعض أهل العلم: [من الكامل] أَبُنَيَّ إِنَّ مِنَ الرِّجالَ بَهِيمَةً ... فِي صُوْرَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ الْمُبْصِرِ فَطِنٌ بِكُلِّ مُصِيبَةٍ فِي مالِهِ ... فَإِذا أُصِيبَ بِدِيِنهِ لَمْ يَشْعُرِ (¬2) 15 - ومنها: الغفلة عن طاعة الله تعالى اشتغالاً بالدنيا، ونحوها تشبهاً بالعير، والحمار، ونحوهما من البهائم. قال الله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر: 49، 50]. ¬
16 - ومنها: التشبه بالبعير، ونحوه أيضا في الشراد عن الله تعالى، والإباء عن الانقياد له.
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: ما أقلَّ أكياسَ الناس! لا يبصر الرجل أمره حتى يبصر إلى الناس وإلى ما أمروا به، وإلى ما أكبوا عليه من الدنيا، فيقول: ما هؤلاء إلا أمثال الأباعر التي لا هَمَّ لها إلا ما تجعله في أجوافها، حتى إذا أبصر غفلتهم نظر إلى نفسه؛ قال: والله إني لأراني من شرهم بعيراً واحداً (¬1). 16 - ومنها: التشبه بالبعير، ونحوه أيضاً في الشَّراد عن الله تعالى، والإباء عن الانقياد له. روى ابن أبي شيبة عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: لا يدخل النار من هذه الأمة إلا من شرد عن الله تعالى شراد البعير (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط"، والحاكم وصححه، عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى". زاد الإمام أحمد، والحاكم وصححه: "وَشَرَدَ شُرُوْدَ البَعِيْرِ عَلَى أَهْلِهِ". قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: "مَنْ أَطَاعَني دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاني فَقَدْ أَبَى" (¬3). ¬
17 - ومنها: التشبه بالبعير، وغيره في الطواف بلا ذكر ولا استلام.
قلت: ومن آل على الله تعالى فلم يمتثل أوامره كان كالشيطان أيضاً كما تقدم لقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [البقرة: 34]. 17 - ومنها: التشبه بالبعير، وغيره في الطواف بلا ذكر ولا استلام. روى أبو الوليد الأزرقي في "تاريخ مكة" عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: كنا مع عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما في الطواف، فنظر إلى رجل يطوف كالبدوي، ولا يستلم الركن، ولا يكبر، ولا يذكر الله تعالى، فقال له ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أي شيء تصنع هاهنا؟ قال: أطوف. قال ابن عمر: مثل الجمل تخبط، ولا تستلم، ولا تكبر. ثم قال له: ما اسمك؟ قال: حنين. قال: وكان ابن عمر إذا رأى الرجل لا يستلم الركن قال: حنيني هو (¬1). 18 - ومنها: التعبد على جهل. روى أبو نعيم عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال [قال رسول الله]: "المتعبِّدُ بغيرِ فِقْهٍ كالحِمَارِ في الطَّاحُونِ" (¬2). ¬
19 - ومنها: التشبه في العجلة،
قلت: وجه المشابهة أن الحمار يتعب وهو يدور في الطاحون، ولا يدري ما يفعل، ولا ما يستفاد من طحنه، ولا يستفيد مما يطحنه شيئاً، ولا يدري هل يطحن بُرًّا أم خزفاً، وكذلك المتعبد على جهل فيما لا يدري حقيقة عاقبته. 19 - ومنها: التشبه في العجلة، والطيش، وعدم التروي في العبارة خصوصاً في المناظرة بالعصفور، ونحوه في سرعة نقلبه وزقزقته. ذكر ابن السبكي في "طبقاته": أنه لما وقع لابن تيمية في "المسألة الحموية" ما وقع، وعقد له المجلس بدار السعادة بين يدي الأمير تنكز، وجمعت العلماء، أشاروا بأن الشيخ صفي الدين الهندي يحضر، فحضر، وكان الهندي طويل النفس في التقرير، إذا شرع في وجه يقرره لا يدع شبهة، ولا اعتراضاً إلا أشار إليه في التقرير، بحيث لا يتم التقرير إلا وقد بَعُد على المعترض مقاربته، فلما شرع يقرر أخذ ابن تيمية يَعْجَل عليه على عادته، وَيخْرُج من شيء إلى شيء، فقال له الهندي: ما أراك يا ابن تيمية إلا كالعصفور، حيث أردت أن أقبضه من مكان فرَّ إلى مكان آخر (¬1). ¬
وكان الأمير تنكز يعظم الهندي ويعتقده، وكان الهندي شيخ الحاضرين كلهم، فكلهم صَدَر عن رأيه، وحبس ابن تيمية بسبب تلك المسألة، وهي التي تضمنت قوله بالجهة (¬1)، ونودي عليه في البلد وعلى أصحابه، وعُزلوا من وظائفهم (¬2). ¬
20 - ومنها: الإعراض عن طلب العلم، والحكمة، والموعظة الحسنة.
20 - ومنها: الإعراض عن طلب العلم، والحكمة، والموعظة الحسنة. روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام للحواريين: يا معشر الحواريين! لا تلقوا اللؤلؤ للخنازير؛ فإنها لا تصنع به شيئاً، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها؛ فإن الحكمة أحسن من اللؤلؤ، ومن لا يريدها أشر من الخنزير (¬1). وروى ابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيْضَة عَلَى كْلِّ مُسْلِمٍ، وَوَاضعُ الْعِلْمِ فيْ غَيرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الدُّرِّ في أَعْنَاقِ الخَنَازِيْرِ" (¬2). قال في "الإحياء": جاء رجل إلى ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: رأيت كأني أقلد الدر أعناق الخنازير. قال: أنت تعلم الحكمة غير أهلها (¬3). وروى أبو نعيم عن حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت الأعمش يقول: انظروا أن لا تنثروا هذه الدنانير على الكباش؛ يعني: الحديث. قال حميد: وسمعت أبي يقول: [سمعت] الأعمش يقول: ¬
لا تنثروا اللؤلؤ تحت أظلاف الخنازير (¬1). وعن أبي سفيان بن حسين قال: أخذ الأعمش ناحية هذا السواد، فأتاه قوم منهم، فسألوه أن يحدثهم، فأبى، فقال بعض جلسائه: يا أبا محمد! لو حدثت هؤلاء المساكين. فقال الأعمش: من يعلق [الدر] على الخنازير (¬2). وروى الشيخ تاج الدين السبكي في "طبقاته" عن أبي عمرو العثماني قال: لما دخل الشافعي إلى مصر كلَّمه أصحاب مالك، فقال: [من الطويل] أَأَنْثُرُ دُرًّا بَيْنَ راعِيَةِ الغَنَمْ ... وَأَنْثُرُ مَنْظُوماً لِراعِيَةِ النَّعَمْ لَئِنْ كُنْتُ قَدْ ضُيِّعْتُ فِي شَرِّ بَلْدَةٍ ... فَلَسْتُ مُضِيْعاً بَيْنَهُمْ غُرَرَ الكَلِمْ فَإِنْ فَرَّجَ اللهُ الكَرِيْمُ بِلُطْفِه ... وَأَدْرَكْتُ أَهْلاً لِلْعُلُومِ وَلِلْحِكَمْ بَثَثْتُ مُفِيداً وَاسْتَفَدْتُ وِدادَهُمْ ... وَاِلاَّ فَمَخْزُونٌ لَدَيَّ وَمُكْتَتَمْ ¬
وَمَنْ مَنَحَ الْجُهَّالَ عِلْماً أَضاعَهُ ... وَمَنْ مَنَعَ الْمُسْتَوِجِبِينَ فَقَدْ ظَلَمْ (¬1) وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما آوى إلى ذكر الله، والعالم والمتعلم في الأجر سواء، وسائر الناس همج لا خير فيهم (¬2). قال صاحب "المنفرجة" (¬3): [من الخبب المحدث] وَخِيارُ النَّاسِ هُداتُهُمُ ... وِسواهُمْ مِنْ هَمَجِ الْهَمَجِ (¬4) الهمج: ذباب صغير كالفراش. وروى أبو نعيم عن كُميل بن زياد قال: أتيت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فأخذني إلى ناحية الجَبَّان، فلما صحرنا جلس، ثم تنفس، ثم قال: يا كميل بن زياد! القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، احفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة، فعالمٌ رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رَعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم ¬
يلجؤوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل والمال تنقصه النفقة، ومحبة العالم دِين يُدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خُزَّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، هاه إن هاهنا - وأشار بيده إلى صدره - علماً لو أصبت له حملة، بل أصبته لفتى غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله تعالى على كتابه، وينعمه على عباده، أو منقاد لأهل الحق، لا بصيرة له في أحيائه، يقتدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا ذا ولا ذاك، أو منهوم باللذات، سَلِس القياد للشهوات، أو مُغرى بجمع الأموال والادخار، وليس من دعاة الدين، أقرب شَبَهاً بهم الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى، لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة لكي لا تبطل حجج الله وتبيانه، أولئك هم الأقلون عدداً، والأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله - عز وجل - عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأَنِسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان معلقة بالمنظر الأعلى، أولئك خلفاء الله في بلاده، ودعاته إلى دينه، هاه هاه شوقاً إلى رؤيتهم، وأستغفر الله لي ولك، إن شئت فقم (¬1). ¬
21 - ومن الخصال المذكورة
21 - ومن الخصال المذكورة: تشبه العالم إذا فغر [فاه] (¬1) لتناول أموال الناس، وما سنح له منها بالخنزير إذا وقع في أرض، فعاث فيه يميناً وشمالاً، وأتلف ما انتهى منه. قال الماوردي في "أدب الدين والدنيا": وقال بعض الأدباء: [من السريع] ارْثِ لِرَوْضَةٍ تَوَسَّطَها خِنْزِيرْ ... وَابْكِ لِعِلْمٍ حَواهُ شِرِّيرْ (¬2) وقلت في معناه: ارض لرَوضٍ ظَلَّ فِيه خِنْزِيرُ ... وَابْكِ لِعِلْمٍ قَد حَواهُ شِرِّيرْ وَاحْذَر مِنَ الشَّرِّ وَأَنْتَ عالِمٌ ... وَانْظُرْ فَما أَقْبَحَ هَذا التَّنْظِيرْ 22 - ومنها: التشبه بالبهائم في كثرة القيام بالليل مع اللهو، والتبسط في الشهوات، والخوض في الباطل بالنهار. روى ابن حبان في "صحيحه"، والأصبهاني في "ترغيبه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ كُلَّ جَعْظَرِيٍّ، جَوَّاظٍ، صَخَّابٍ فيْ الأَسْوَاقِ، جِيْفةٍ بِالليْلِ، حِمَارٍ بِالنَّهَارِ، [عالمٍ بأمرِ الدُّنيا]، جَاهِل بِأَمْرِ الآخِرَةِ" (¬3). ¬
قال أهل اللغة: الجعظري: الشديد الغليظ، والجواظ: الأكول، والصخاب: الصياح. وروى الإمامان عبد الله بن المبارك، وأحمد؛ كلاهما في "الزهد" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: لا ألفين أحدكم جيفة ليل قطرب نهار (¬1). قال عبد الله ابن الإمام أحمد: القطرب: الذي يجلس ساعة هنا وساعة هنا (¬2). وفي "حياة الحيوان" للدميري، و"ديوان الحيوان" للسيوطي: القطرب: طائر نحو البلبل يجول الليل كله لا ينام. وهو أيضاً الفأرة، والذئب الأمعط، والكلب الصغير، ودويبة لا تستريح نهارها سعياً (¬3). قلت: والمراد هنا المعنى الأخير. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن كعب رحمه الله تعالى أنه كان يقول: قلة المنطق حكم عظيم، وقلة وزر، وخفة من الذنوب، فأحصوا باب الحكم؛ فإن بابه الصبر، وإن الله يبغض الضحاك من غير عجب، والمشاء إلى غير أرب، ويحب الوالي الذي يكون كالواعي لا يغفل عن رعيته، واستحيوا من الله تعالى في سرائركم كما تستحيون ¬
الناس في علانيتكم، واعلموا أن الكلمة الحكمة ضالة المؤمن؛ فعليكم بالعلم من قبل أن يرفع، ورفعه أن تذهب رواته (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الحذر" عن محمد بن سلام قال: سمعت الربيع بن عبد الرحمن يقول: رضيت لنفسك وأنت الحول القلب أن تعيش عيشة البهائم؛ نهارك هائم، وليلك نائم، والأمر أمامك جد (¬2). وروى هو وابن الجوزي في "صفوة الصفوة" من طريقه عن القاسم بن غزوان قال: كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يتمثل بهذه الأبيات: [من الطويل] أَيَقْظانُ أَنْتَ اليَوْمَ أَمْ أَنْتَ نائِمٌ ... وَكَيْفَ يُطِيقُ النَّوْمَ حَيرانُ هائِمُ وَلَوْ كُنْتَ يَقْظانَ الغَداةِ لَحَرَّقَتْ ... مَدامِعَ عَيْنَيْكَ الدُّموعُ السَّواجِمُ بَلْ أَصْبَحْتَ فِي النَّوْمِ الطَّوِيلِ وَقَدْ دَنَتْ ... إِلَيْكَ أُمورٌ مُفَظَّعاتٌ عَظائِمُ نَهارُكَ يا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدى لَكَ لازِمُ ¬
23 - ومنها: التشبه بالقطرب في معانيه المذكورة أولا، وبالكلاب،
يَغُرُّكَ ما يَفْنَى وَتُشْغَلُ بِالْمُنَى ... كَما غُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حالِمُ وَتُشْغَلُ فِيما سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهَ ... كَذَلِكَ فِي الدُّنْيا تَعِيشُ البَهائِمُ (¬1) وروى أبو نعيم عن جعفر بن عون قال: سمعت مسعراً رحمه الله تعالى يقول: [من الطويل] نَهارُكَ يا مَغْرُورُ لَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدى لَكَ لازِمُ وَتَتْعَبُ فِيما سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ ... كَذَلِكَ فِي الدُّنْيا تَعِيشُ البَهائِمُ (¬2) 23 - ومنها: التشبه بالقطرب في معانيه المذكورة أولاً، وبالكلاب، والخنازير، وبنات آوى، والذئاب ونحوها في سهر الليل في اللصوصية، والاختلاس، وأذى الناس، أو في اللهو واللعب بضرب الآلات، والغناء، والحكايات المضحكة، ونحو ذلك مما لا ينفع في الدنيا، وبكره غِبَّه في الآخرة. ¬
24 - ومنها: تشبه البليد في البلادة والفهاهة بالحمار ونحوه من البهائم.
وروى ابن أبي الدنيا في ذم "الملاهي"، والبيهقي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَبِيْتُ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى طُعْمٍ وَشُرْبٍ، وَلهَوٍ وَلَعِبٍ، فَيُصْبِحُوْنَ قَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازيرَ" (¬1). وتقدم هذا الحديث بلفظ آخر. 24 - ومنها: تشبه البليد في البلادة والفَهَاهَة بالحمار ونحوه من البهائم. وإنما ينبغي للمؤمن أن يكون كما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - كيِّساً فطناً (¬2). ومن ثم استحسن العقلاء صحبة ذوي النشاط والفطنة، وحذَّروا من صحبة ذوي البلادة، والجبن، والكسل خوفاً من سريان الطبع، وجريان العادة حتى قال أبو بكر الخوارزمي: [من الكامل] لا تَصْحَبِ الْكَسْلانَ فِي حاجاتِهِ ... كَمْ صالِحٍ بِفَسادِ آخَرَ يَفْسُدُ عَدْوَى الْبَلِيدِ إِلَى الْجَلِيدِ سَرِيعَةٌ ... الْجَمْرُ يُوْضَعُ فِي الرَّمادِ فَيَخْمُدُ (¬3) ¬
25 - ومنها: التتابع في الشر، والتواطؤ على القبيح،
25 - ومنها: التتابع في الشر، والتواطؤ على القبيح، والتوارد عليه تشبهاً بالحمرة فإنها تتزاحم إذا اجتمعت في ممر ضيق ونحوه، وإذا بال واحد منها بالت حيث بال. ومن ثم قالوا في المثل: بال حمار فاستبال أحمره؛ أي: حملها على البول؛ يضرب في التعاون على الإثم، والتوارد على القبائح (¬1). وكثيراً ما كان التقليد سبباً لهلاك الناس كما قال الله تعالى: {قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. 26 - ومنها: تكسب الدنيا بالدين من غير مراعاة لأحكام الشريعة تشبهاً بالخنازير ونحوها؛ فإنها لا وازع لها من عقل، ولا دين من تناول ما اشتهت من مآكلها ومشاربها. روى أبو طالب المكي في "القوت" عن عبيد بن أبي واقد عن عثمان بن أبي سليمان قال: كان رجل يخدم موسى عليه السلام، فجعل يقول: حدثنا موسى كليم الله حتى أثرى، وكثر ماله، وفقده موسى عليه السلام دهراً، فجعل موسى عليه السلام يسأل عنه، فلا يحس منه أثرًا، حتى جاء رجل ذات يوم وفي يده خنزير في عنقه حبل أسود، فقال له موسى عليه السلام: أتعرف فلاناً؟ قال: نعم، هو هذا الخنزير. فقال موسى عليه السلام: يا رب! أسألك أن ترده إلى حاله الأول حتى أسأله مما أصابه هذا. ¬
27 - ومنها: التشبه بالبهائم في قصر العمر على مصالح الدنيا، وشهوات النفس دون الاشتغال بشيء من أمر المعاد.
فأوحى الله إليه: لو سألتني بالذي دعا آدم فمن دونه ما أجبتك فيه، ولكني أخبرك: إنما صنعت فيه هذا لأنه كان يطلب الدنيا بالدين (¬1). 27 - ومنها: التشبه بالبهائم في قِصَر العمر على مصالح الدنيا، وشهوات النفس دون الاشتغال بشيء من أمر المعاد. روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال رضي الله تعالى عنه: ويل للواثين الذين يلوثون مثل البقر، ارفع يا غلام، ضع يا غلام في ذلك، لا يذكرون الله تعالى (¬2). شبه الذين ليس لهم هم إلا الولع بالأمر والنهي في أمور دنياهم مع الغفلة عن الآخرة بالبقر إذا ولعت بشيء في أفواهها لا تعقل شيئاً من الطاعات ولا تفعله. 28 - ومنها: التشبه بالكلب في الذل عند الجوع. بلغني عن والدي رحمه الله تعالى أنه كان يقول: اللئيم إذا جاع ذل، والكريم إذا جاع ساء خلقه وغضب، والكريم في ذلك متشبه بالأسد، واللئيم متشبه في ذلك بالكلب. ¬
29 - ومنها: شم الطعام قبل أكله، والأولى ترك ذلك.
وروى الديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا سددت كَلْبَ الجُوْعِ بِرَغِيْفٍ وَكُوْزٍ مِنْ مَاءِ القَرَاحِ، فَعَلَى الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا الدَّمَارُ" (¬1). 29 - ومنها: شم الطعام قبل أكله، والأولى ترك ذلك. روى الطبراني عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ تَشَمُّوا الطَّعَامَ كَمَا تَشَمُّهُ السِّبَاعُ" (¬2). 30 - ومنها: التشبه في كثرة الأكل، أو في أكل الحرام، أو الأكل مع الغفلة عن الآداب الشرعية بالبهيمة. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12]. قال القشيري رحمه الله تعالى: الأنعام تأكل بلا تمييز من أي موضع وجدت، وكذلك الكافر لا تمييز له من الحلال وجد أم من الحرام، والأنعام ليس لها وقت لأكلها، بل في كل وقت تقتات وتأكل لا تعرف الشبع، وكذلك الكافر أكول. ¬
وفي الخبر: إنه "يأكل في سبعة أمعاء" (¬1)، والمؤمن يجتزئ باليسير كما في الخبر (¬2). ويقال: الأنعام تأكل على غفلة؛ فمن أكل ناسياً لربه فأكله كأكل الأنعام (¬3). وقيل لسهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: الرجل يأكل في اليوم أكلة؟ قال: أكل الصديقين. قيل: وأكلتين؟ قال: أكل المؤمنين. قيل: ثلاثة؟ قال: قل لأهلك يبنوا لك مَعْلفاً" (¬4). وقال الجنيد رحمه الله تعالى: يجعل أحدكم بينه وبين قلبه مخلاة من الطعام، ويريد أن يجد حلاوة المناجاة (¬5). وأنشدوا: ¬
شَكَوْتُ إِلَى طَبِيْبِي ضَعْفَ جِسْمِي ... فَقالَ الضَّعْفُ مِنْ قِبَلِ الغِذاءِ أَتَأْكُلُ كُلَّ يَوْمٍ أَكْلَ عَيرٍ ... وَتَرْجُو أَنْ تَعِيشَ بِغَيْرِ داءِ وروى الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى في "الزهد" عن أبي حسان قال: استأذن سعد بن معاذ - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي أصهاراً له من أهل البادية، فأذن له ما شاء الله، ثم رجع ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد، فدخل وهو يقلب يده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ رَأَى سَعْدٌ عَجَبًا". قال: يا رسول الله! أتيتك من عند قوم إنما همهم فيما فيه نهم أنعامهم من لذات بطونهم وفروجهم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ رَأَى سَعْدٌ عَجَبًا، أَفَلاَ أُخْبِرُكَ بمَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِك؟ مَنْ عَرَفَ مِثْلَ الَّذِي أَنْكَرَ، ثُمَّ فَعَلَ هَوَ كَفِعْلِهِمْ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: ما أقل أكياس الناس؛ لا يبصر الرجل أمره حتى ينظر إلى الناس وإلى ما أكبوا عليه من الدنيا فيقول: ما هؤلاء إلا أمثال الأباعر التي لا همَّ لها إلا ما تجعل في أجوافها، حتى إذا أبصر غفلتهم نظر ¬
إلى نفسه قال: والله إني لأراني من شرهم بعيراً واحداً (¬1). وروى الإمام أحمد، والشيخان، والنسائي، وابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزينَتِهَا، إِنَّهُ لاَ يَأْتي الخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ ممَّا يُنْبِتُ الرَّبِيع يَقْتُلُ حَبَطاً أَو يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الخَضِر؛ فَإِنهَا أَكَلَت حَتَّىْ إِذَا اِمْتَلأَت خَاصِرَتُهَا اِسْتَقْبَلَت الشَّمْسَ فَثلطث وَبَالَتْ ثمَّ رتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنعم صَاحِبُ المالِ لمنْ أَعْطَاهُ المسْكِينَ وَاليَتِيْمَ وَابْنَ السَّبِيْلِ، فَمَنْ أَخذَهُ بحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فيْ حَقِّهِ فَنِعْمَ المعُوْنَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ" (¬2). أشار بذلك إلى آكلة الخضر التي أشار إليها في أول الحديث؛ فإنها تأكل حتى تميل خاصرتها، ثم تثلط وتبول، ولا تعرف للشبع حداً تنتهي إليه وتقف عليه. ففيه إشارة إلى أن آكل الحرام متشبه بالبهيمة التي تأكل ولا تشبع، وذلك لأن النفس تستحلي الحرام من حيث إنها ممنوعة منه، والنفس مائلة إلى الممنوع، وكلما حصلت منه على شيء تشوَّفت إلى شيء، وهذا حال البهيمة والسبع، وأيضاً من يأكل الحرام وهو خبيث متشبه بالكلاب، والسباع، والرخم، والحداء، ونحوها في كل الميتة وإن أنتنت. ¬
وقد حكى لي رجل كان ترجماناً عند قاضي القسمة، وهو قاضي اليتامى، وكان يأخذ على قسمته من أموال اليتامى شيئاً معلوماً، قال: فنمت ليلة فرأيت كأنه وضع بين يدي طعام، فمددت يدي وتناولت منه، فإذا يد صبي صغير فألقيتها، ثم تناولت غيرها فإذا رجل صبي صغير، وهكذا كما أخذت شيئاً وجدته عضو آدمي صغير، فقلت لأهلي: ما هذا؟ فقالوا: هذا اللحم الذي جئتنا به طبخناه لك. قال: فلما استيقظت تركت الترجمة. ثم رأيته بعد ذلك عاد إليها، ولم يصبر عنها. وقلت: [من المتقارب] أَلا رُبَّ آكِلِ مالِ يَتِيمٍ ... وَأَمْثالِهِ تابَ عَنْهُ زَمانا وَعادَ إِلَى مِثْلِ ما تابَ مِنْهُ ... وَقَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ مِنْهُ وَمانا فَلا تَعْجَبُوا مِنْهُ إِنَّ النُّفو ... سَ تَطْلُبُ ما مُنْعَتْ كَيْفَ كانا كَمَا أُوْلِعَتْ بِالوَقِيذ الأنوقُ ... وَالْكَلْبُ لَوْ طُرِدا ما اسْتكانا تَلَذُّ الْخَبائِثَ نَفْسُ الْخَبِيثِ ... فَاعْتَبِرِ الْجُعَلَ الْمُسْتَهانا وما أشبه كل مال اليتيم ونحوه بالغُول، والسعلاة، والهر، والكلب، والسبع التي تأكل من لحوم الناس. واعلم أن آكل مال اليتيم، والعالم الذي يشري بعلمه ثمناً قليلاً، والغني الذي يسأل الناس، يشبهون النعامة أيضاً؛ فإنها تأكل الجمر.
نعم هي تأكل الجمر حالاً، وهم يأكلون ما يؤول إلى الجمر مالاً، ولكن وجه المشابهة بينها وبينهم: أن النعامة تدرك من حرارة الجمر ما يمنعها من استعماله لولا ما في طبعها من ملاءمة حرارة الجمر، وكذلك العالم الباذل علمه في مقابلة الحطام، وآكل مال اليتيم، والسائل الغني، يدركون ضرر ما يأكلون، وإلا لم يكونوا مسلمين، ثم يأكلون لما صار في جبلتهم من استحلاء تناول ما ذكر. والأدلة على ما سبق قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة: 174]. وحديث حبشي بن جنادة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ يَسْأَلُ غَيْرَ فَقِيْرِ فَكَأنَّمَا يَأْكُلُ الجَمْرَ". رواه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" بإسناد حسن، وابن حبان في "صحيحه"، وغيرهم (¬1). وفي لفظ: "فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الجَمْرَ" (¬2). ورواه البيهقي بلفظ: "مَثَلُ الَّذي يَسْأَلُ فيْ غَيرِ حَاجَةٍ كَمَثَلِ الَّذِي ¬
يَلْتَقِطُ الجَمْر" (¬1). وفي رواية عند الطبراني: "مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ فيْ غَيرِ مُصِيْبَةٍ جَاحَتَهُ فَإِنَّمَا يلقمُ الرَّضفة" (¬2). وفي رواية عنده أيضاً: "مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ لِيثْري بِهِ مَالهُ كَانَ خُموشًا في وَجْهِهِ وَرضيفاً فِي جَهَنَّمَ يَأْكُلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلَّ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ" (¬3). الرَّضَف - بالضاد المعجمة -: الحجارة المحماة، واحدتها: رضفة. وفي معناه ما أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ مِنْ أَمْوَالهِمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جمْرَ جَهَنَّمَ، فَلْيَسْتَقِلَّ مِنْهُ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ" (¬4). وقلت في معنى ما ذكرته هنا: [من الخفيف] مَنْ يَكُنْ آكِلَ الْحُطامِ بِعِلْمٍ ... أَو لِمالِ الْيَتِيمِ ظُلْماً وَقَهْراً ¬
تتمة
أَو يَكُنْ سائِلاً بِغَيْرِ احْتِياجٍ ... فَهْوَ مِثْلَ النَّعامِ يَأْكُلُ جَمْراً صارَ أَكْلُ الْحَرامِ مِنْهُ طِباعاً ... فَكَذا لَمْ يُحِسَّ لِلنَّار حَرًّا لَوْ غَدا مُوْقِناً بِذَلِكَ يَوْماً ... صارَ مِنْ سُوءِ ما تَجَرَّأ صَدْراً * تَتِمَّةٌ: ذكر أبو طالب المكي في "القوت": أن من وصية أبي عبد الرحمن الثوري (¬1) التابعي المشهور لابنه: يا بني! عود نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش السباع، ولا تخصم خصم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال، إن الله خلقك إنساناً وفضلك، فلا تجعل نفسك بهيمة أو سبعاً، واحذر سرعة الكِظة، ونهم البطنة (¬2). والكظة - بالكسر -: شيء يعتري الإنسان من امتلاء البطن، يقال: كظه الطعام: ملأه حتى لا يطيق التنفس. والبطنة - بالكسر أيضاً -: الأشر، والبطن، وامتلاء البطن أيضاً. ومن أمثال الناس: البطنة تُذهب الفطنة. 31 - ومن الخصال المذكورة: تقصد السمن بالمآكل والمشارب، والأدوية، والراحة، والقعود عن الطاعات خصوصاً إذا تعدى فاعل ¬
ذلك إلى محرم كشرب الخمر؛ فإنه يكون بذلك متشبهاً بالخنزير وغيره من البهائم لأنها تأكل من القمامات، وبعضها يأكل العذرات. روى ابن أبي شيبة عن حنظلة بن عمر كاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: إن قومك زيَّنوا مساجدهم، وأخربوا قلوبهم، وتسمنوا كما تسمن الخنازير ليوم ذبحها، وإني نظرت إليهم فلعنتهم، ولا أستجب دعاءهم، ولا أعطيهم مسائلهم (¬1). ورواه الإمام أحمد في "الزهد" عن هارون بن رباب [عن ابن عم حنظلة]، ولفظه: قل لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل! زخرفتم مساجدكم، وخرَّبتم قلوبكم، وسمَّنتم أنفسكم كما تسمن البهائم ليوم ذبحها، فنظرت إليكم نظرة ولعنتكم، فإن دعوتموني لم أستجب لكم، وإن سألتموني لم أعطكم (¬2). ورواه أبو نعيم، ولفظه: أوحى الله إلى نبي من أنبيائه عليه السلام أن أخبر قومك أنهم قد عمروا لبنائهم، وخربوا قلوبهم، وتسمنوا كما تسمن الخنازير ليوم ذبحها، فنظرت إليهم فَقَلَيتُهم، فدعوني فلم أستجب لهم، وسألوني فلم أعطهم (¬3). وروى الدينوري في "المجالسة" عن ضبة بن محصن قال: كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: أما ¬
تنبيهات
بعد! فإن للناس نفرة عن سلطانهم، فأعوذ بالله أن تدركني وإياك، فأقم الحدود ولو ساعة من نهار، وإذا عرض لك أمر أن أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الله؛ فإن الدنيا تنفد، والآخرة تبقى، وأخف الفساق، [واجعلهم] يداً يداً، ورجلاً رجلاً، عُدْ مريض المسلمين، واحضُر جنائزهم، وافتح بابك، وباشر أمورهم بنفسك، وإنما أنت رجل منهم، غير أن الله تعالى جعلك أثقلهم حملاً، وقد بلغني أنه نشأ لك ولأهل بيتك هِنَة في لباسك، ومطعمك، ومركبك، وليس للمسلمين مثلها؛ فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بواد خصب فلم يكن لها هم إلا السمن؛ فإنما حتفها في السمن، واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من شَقِيت به رعيته. وأنشدوا: [من الوافر] وَكَمْ لِلَّهِ مِنْ عَبْدٍ سَمِينِ ... كَثِيرِ اللَّحْمِ مَهْزُولِ الْمَعالِي كَمِثْلِ الطَّبْلِ يُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ ... وَباطِنُهُ مِنَ الْخَيْراتِ خالِي * تَنْبِيهاتٌ: الأَوَّلُ: الشحم إنما يربو من النعمة وفراغ البال، وخلوه من الهم والغم، والحزن والخوف، وليس من شأن العالم إلا خشونة العيش؛ إما في شأن معاده، وإما في شأن معاشه، والغم بسبب ما وقع منه من التفريط والحزن على ما فات من عمره مضيعاً في غير طاعة، والخوف من الله تعالى، ومن عذابه وعقابه، والاهتمام بما بين يديه، فإن كان
على خلف ذلك لم يكن منتفعاً بعلمه. وقد استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من علم لا ينفع (¬1). ومن ثم كان العالم السمين ممقوتاً. روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: إني لأكره أن يكون القارئ سميناً. وفي رواية: سميناً نِسِيًّا للقرآن (¬2). وفي رواية ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: جاء رجل من اليهود يقال له: مالك بن الصيف، فخاصم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْشدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ! هَلْ تَجِدُ فيْ التَّوْرَاةِ: إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الحبرَ السَّمِينَ؟ " - وكان حبراً سميناً - فغضب، وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] (¬3). قلت: وإنما كان الحبر السمين بغيضاً عند الله تعالى لأن سمنه دليل قلة خوفه من الله تعالى، وقلة همه بأمر آخرته، وقلة الخوف تناقض حال ¬
العالِم؛ إذ قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وروى أبو نعيم عن محمد بن سوقة رحمه الله تعالى قال: إن المؤمن الذي يخاف الله تعالى لا يسمن، ولا يزداد لونه إلا تغيراً (¬1). وعن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: قرأت في الحكمة: إن الله - عز وجل - يبغض كلَّ حَبْر سمين (¬2). وروى الإمامان مالك، وأحمد، وأبو يعلى، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن جعدة بن خالد الجشمي رضي الله تعالى عنه [قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -]، رأى رجلاً سميناً، فطعن في بطنه، وقال: لو كان بعض هذا في غير هذا لكان خيراً لك، ولو كان بعض ما في بطنك في غير السمن والتنعم كان يكون في سبيل الله؛ كإطعام الجائعين كان خيراً لك (¬3). قلت: وما ذكر من أن الخائف من الله تعالى لا يسمن؛ هذا جري على الغالب، وقد يكون المؤمن عارفاً متسع المعرفة بحيث رسخ قدمه في الطاعة، وصار في حال الأنس والطمأنينة بالله تعالى؛ إذ لم يفرط فيحزن ويغتم، وصارت الطاعة في حقه خلقاً وطبعاً، فلا يتكلف ¬
لها ولا يهتم. وأما أمر معاشه فثقته بالله تعالى أسقطت عنه هم المعاش، وخوَّفه من الله تعالى معدل لرجائه لفضله وإحسانه، فلا يظهر الهُزال في بدنه، بل يبدن ويسمن، وعلى ذلك يحمل ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بَدَن في آخر عمره مع أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن إلا في كفاف من العيش والقوت، يأكل ما وجد، ويلبس ما وجد، فما حصل له من البدونة إنما هو بسبب امتلاء قلبه من الفرح بربه، والسرور بقربه. ومن لطائف الاعتذار عن السمن ما ذكره ابن خميس في "مناقب الأبرار"، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" عن أبي بكر الشبلي رحمه الله تعالى أنه قيل له: نراك جسيماً بديناً والمحبة تضني؟ فأشار يقول: [من المنسرح] أَحَبَّ قَلْبِي وَما درى بَدَنِي ... وَلَوْ دَرى ما أَقامَ فِي السِّمَنِ (¬1) وذكر الشيخ تاج الدين بن عطاء الله الإسكندري في "لطائف المنن" عن شيخه الشيخ أبي العباس المرسي رحمه الله تعالى: أنه كان ببلاد المغرب ولي من أولياء الله تعالى يتكلم على الناس، وكان بادناً، فجلس يوماً يتكلم على الناس، فقال رجل مكشوف الرأس كبيرها: هذا يزهد في الدنيا وهو كالدب؟ فكوشف الشيخ، فقال من فوق ¬
الثاني
منبره: يا أبا ويس ما سمنني إلا حبه، ثم أنشد: [من المنسرح] وَقائِلٍ لَسْتَ بِالْمُحِبِّ وَلَوْ ... كُنْتَ مُحِبًّا لَذُبْتَ مِنْ زَمَنِ أَجَبْتُهُ وَالفُؤادُ فِي حَرَقٍ ... لَمْ تَذُقِ الْحُبَّ كَيْفَ تَعْرِفُنِي أَحَبَّ قَلْبِي وَما دَرَى بَدَنِي ... وَلَوْ دَرى ما أَقامَ فِي السِّمَنِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي: السمن والشحم للمرأة محمود إذا كان معتدلاً، ولا بأس بقصده لتحبب المرأة إلى بعلها أو سيدها من غير مبالغة في ذلك، ولا خروج عن حد الاعتدال. روى أبو نعيم في "الطب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: تزوجني النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجهد أبواي على أن يسمناني، فلم أسمن، فأمرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أطعم القثاء بالرطب، فسمنت عليه كأحسن السمن (¬1). وروى البيهقي عنها قالت: أرادت أمي أن تسمنني، فلم أقبل عليها بشيء مما تريد، حتى أطعمتني القثاء بالرطب، فسمنت عليه كأحسن السمن (¬2). ويالغ ابن الحاج في "المدخل" في إنكار استعمال الأدوية المسمنة حتى تصير المرأة بحيث لا تستطيع الاستنقاء، وربما احتاجت إلى من يقوم عليها بذلك من جارية وغيرها (¬3). ¬
الثالث
ومثل ذلك لا شبهة في إنكاره، وهو للرجال أقبح، وخصوصاً إذا كان باستعمال الأدوية التي لا يبيحها الشرع كالسمومات، ومحرم ما لا يؤكل من الحيوانات وشحومها، وكالذي يشرب المسكر ليحسِّن لون بدنه ووجهه؛ كل ذلك مما لا شبهة في تحريمه. وفرق بين ذلك وبين إطعام عائشة رضي الله تعالى عنها الرطب والقثاء ظاهر. التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ: التسمن، وكثرة ظهور السمن في الناس من أمارات الساعة، وأحوال الزمان المتأخر. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ أُمَّتي القَرْنُ الَّذِيْ بُعِثْتُ فِيْهِ، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنهم، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُم، ثُمَّ يَخْلُفُ قَوْمٌ يُحِبُّونَ السمانَةَ، يَشْهَدُوْنَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوْا" (¬1). وروى الترمذي، والحاكم عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيرُ النَّاسِ قَرْني، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُم، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُم، ثُمَّ يَأْتي مِنْ بَعْدِهِم قَوْمٌ يَتَسَمَّنُونَ وَيُحِبُّوْنَ السِّمَنَ، يُعْطُونَ الشَّهَادَةَ قَبْلَ أَنْ يُسْألوهَا" (¬2). ¬
32 - ومن الخصال المشار إليها: البطالة، والفراغ عما ينتفع به العبد في معاده، أو في معاشه.
ورواه أبو عمرو الداني في "الفتن"، ولفظه: "خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ القُرُوْنُ الِّتيْ بُعِثْتُ فِيْهِم، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُم، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُم - قال مطر: والله أعلم أذَكَر الثالث أم لا، - ثُمَّ يَنْشَأُ قَوْم يَشْهَدُوْنَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُوْنَ، وَينْذُرُونَ وَلاَ يُوفُونَ، ويُحَدِّثُونَ وَلاَ يُوقنُونَ، وَيَفْشُو فِيْهِمُ السِّمَنُ" (¬1). قلت: وسبب فشو السمن فيهم تواطؤهم على اتباع الشهوات وإيثار المستلذات، وغفلتهم عما يراد بهم ومنهم، وأمنهم من مكر الله تعالى، وعدم مبالاتهم بما نقص من دينهم، أو أخذ من أعراضهم إذا توفرت لهم أنواع دنياهم، وتوصلوا إلى أغراضهم، وهو حال أكثر أبناء هذا الزمان؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون! وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّهُ لَيَأتي الرَّجُلُ العَظِيْمُ [السَّمينُ] يَوْمَ القِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوْضَةٍ" (¬2). 32 - ومن الخصال المشار إليها: البطالة، والفراغ عما ينتفع به العبد في معاده، أو في معاشه. روى أبو نعيم عن الشافعي رحمه الله تعالى قال: ما أفلح سمين قط إلا أن يكون محمد بن الحسن. قيل له: ولم؟ ¬
قال: لأن العاقل لا يخلو من إحدى خلتين: إما يغتم لآخرته ومعاده، أو لدنياه ومعاشه، والشحم مع الغم لا ينعقد، فإذا خلا من المعنيين صار في حد البهائم فينعقد الشحم (¬1). وأخرجه البيهقي في "مناقب الشافعي" بلفظ: "يهتم" عِوَضَ "يغتم"، و"الهم" عِوَضَ: "الغم" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إني لأبغض الرجل أن أراه فارغاً ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة (¬3). وفي "فائق الزمخشري": عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لأكره أن أرى أحدهم سَبَهْللاً لا في عمل دنيا ولا في عمل أخرى (¬4). وقال الجوهري: قال الأصمعي: جاء الرجل يمشي سبهللاً: إذا جاء وذهب في غير شيء، ثم ذكر كلام عمر. وفي الحديث الطويل عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ في صُحُفِ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: وَعَلَى العَاقِلِ مَا لم يَكُنْ مَغْلُوْبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ سَاعَات: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيْهَا رَبَّهُ عز وجل، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ ¬
فائدة
فِيْهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيْهَا في صُنع اللهِ تَعَالى، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيْهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ المطْعَمِ وَالمشْرَبِ، وَعَلَى العَاقِلِ أَنْ لاَ يَكُوْنَ ظَاعِنًا إِلاَّ لِثَلاَثٍ: تَزَوُّدٍ لمعَادٍ، أَوْ مَرَمَّةٍ لمعَاشٍ، أَوْ لُقْمَةٍ فيْ غَيرِ مُحَرَّمٍ". رواه ابن حبان، والحاكم وصححاه، وغيرهما (¬1). * فائِدَةٌ: روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن أبي قلابة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر شيئاً، فقال: "ذَاكَ أَوَانُ نَسْخِ القُرْآنِ". فقال رجل كالأعرابي: يا رسول الله! ما ينسخ القرآن؟ أو: كيف ينسخ القرآن؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَيحَكَ! يُذْهَبُ بِأَصْحَابِهِ، وَتَبْقَى رِجَالٌ كَأَنَّهُم النَّعَامُ". وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى يديه على الأخرى، فمدها يشير بها، فقال الناس: يا رسول الله! أفلا نتعلمه ونعلمه أبناءنا ونساءنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ قَرَأَتِ اليَهُوْدُ وَالنَّصَارَى، قَدْ قَرَأَتِ اليَهُوْدُ وَالنَّصَارَى" (¬2). ¬
وفي هذا الحديث أن الناس عند قيام الساعة يكونون كالبهائم، وإنما خص النعامة منها لأنها أحمق البهائم حتى يضرب بها المثل في الحمق؛ فإنها تخرج لطلب الطعام، فمتى وجدت بيض نعامة أخرى حضنته، وتنسى بيضها فلا ترجع إليه. كما قيل: [من المتقارب] فَإِنِّي وَتَرْكِي لِذِي الأَكْرَمِينَ ... وَقدحِي وَكَفِّي زِناداً شحاحا كَتارِكَةِ بَيْضِها بِالعَراءِ ... وَمُلْبِسَةِ بَيْضِ أُخْرى جَناحا (¬1) وكذلك أحوال أكثر الناس في هذه الأعصار؛ يتركون ما يعنيهم ولو كان يعنيهم، ويشتغلون بما لا يعنيهم ولو كان لا يعنيهم. ومما قلت: [من السريع] أَقْبِلْ عَلى شَأْنِكِ إِنْ كُنْتَ تَرْ ... جُو رِفْعَةَ الشَّأْنِ بِدارِ القَرارِ وَلا تُضعْ عُمْرَكَ فِي غَيْرِ ما ... يَعْنِيكَ تَنْدَمْ لاتَ حِينَ الفِرارِ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ جَهْلِهِ ... يَنْزُو عَلى الدُّنْيا كَنَزْوِ الغُرارِ والغُرار - بالضم -: ولد النعجة، والماعزة، والبقرة الوحشية. والنزو: الوثوب. ¬
33 - ومن الخصال المذكورة: التشبه بالبهائم في الغفلة عن الموت.
33 - ومن الخصال المذكورة: التشبه بالبهائم في الغفلة عن الموت. روى أبو نعيم في "الطب" عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ تَعْلَمُ البَهَائِمُ مِنَ الموْتِ مَا تَعْلَمُوْنَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا سَمِيْناً" (¬1). وروى هو والبيهقي في "الشعب" عن أم حبيب الجهنية رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَوْ تَعْلَمُ البَهَائِمُ مِنَ الموْتِ مَا يَعْلَمُ بَنُوْ آدَمَ مَا أَكَلُوْا مِنْهَا لَحْمًا سَمِيْناً" (¬2). وروى الديلمي عن أبي سعيد نحوه (¬3). وروى أبو نعيم عن الحسن رحمه الله تعالى أنه قال: ابنَ آدم! السكين تحد، والكبش يعتلف، والتنور يسجر (¬4). وعن مسعر رحمه الله تعالى: أنه كان يتمثل بهذه الأبيات في كل جنازة: [من الطويل] وَنُحَدَّثُ رَوْعاتٍ لَدى كُلِّ فَزْعَةٍ ... وَنُسْرِعُ نِسْياناً وَلَمْ يَأْتِنا الأَمْنُ ¬
فَإِنَّا وَلا كُفْرانَ لِلَّهِ رَبِّنا ... لَكَالْبُدْنِ لا تَدْرِي مَتَى يَوْمُها البدْنُ (¬1) وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "القبور" عن مسعر رحمه الله تعالى قال: لم يقل لبيد رضي الله تعالى عنه في الإسلام إلا هذين البيتين: [من الطويل] نُجَدِّدُ أَحْزاناً لَدى كُلِّ هالِكٍ ... وَنُسْرِعُ نِسْياناً وَلَمْ يَأْتِنا الأَمْنُ فَإِنَّا وَلا كُفْرانَ لِلَّهِ رَبِّنا ... لَكَالْبُدْنِ لا تَدْرِي مَتَى يَوْمُها البدْنُ وقال الدينوري: أنشدنا ابن قتيبة لعروة بن أذينة: [من الوافر] نُراعُ إِذا الْجَنائِزُ قابَلَتْنا ... وَيُحْزِنُنا بُكاءُ الباكِياتِ كَرَوْعَةِ ثلَّةٍ لِمُغارِ لَيْثٍ ... فَلَمَّا غابَ عادَتْ راتِعاتِ (¬2) ونقل الإمام أبو محمد عبد الحق الإشبيلي في كتاب "العاقبة" عن أبي عمر بن العلاء قال: جلست إلى جرير وهو يملي على كاتبه ¬
شعراً، فاطلعت جنازة، فأمسك وقال: شيبتني هذه الجنائز، وأنشأ يقول: [من الوافر] تُرَوِّعُنا الْجَنائِزُ مُقْبلاتٍ ... وَنَلْهُو حِينَ تَذْهَبُ مُدْبِراتِ كَرَوْعَةِ ثلَّةٍ لِمُغارِ ذِئْبٍ ... فَلَمَّا غابَ عادَتْ راتِعاتِ (¬1) وأنشد عبد الحق أيضا قول الآخر: [من السريع] يا راكِبَ الرَّوْعِ لِلَذَّاتِهِ ... كَأَنَّهُ فِي أتْنِ عَيْرْ وَآكِلاً كُلَّ الَّذِي يَشْتَهِي ... كَأَنَّهُ فِي كَلاءِ ثَوْرْ وَناهِضاً إنْ يَدْعُ داعِيَ الْـ ... ـهوى كَأَنَّهُ مِنْ خِفَّةٍ طَيْرْ وَكُلَّما يَسْمَعُ أَوْ ما يَرى ... كَأَنَّما يُعْنَى بِه الْغَيْرْ إِنَّ كُؤُوسَ الْمَوْتِ بَيْنَ الوَرى ... دَائِرَةٌ قَدْ حَثَّها السَّيْرْ وَقَدْ تَيَقَّنْتَ وَإِنْ أَبْطَأَتْ ... أَنْ سَوْفَ يَأْتِيكَ بِها الدَّوْرْ وَمَنْ يَكُنْ فِي سَيْرِها حائِراً ... تَاللهِ ما فِي سَيْرِها حَوْر (¬2) وأنشد إسحاق الختلي في "الديباج" لمعبد النجدي: [من الكامل] الدَّهْرُ أَفْنانِي وَما أَفْنَيْتُهُ ... وَالدَّهْرُ غَيَّرَنِي وَما يَتَغَيَّرُ ¬
إِنَّ امْرَأً أَمْسى أَبُوهُ وَأُمُّهُ ... تَحْتَ التُّرابِ لِهَوْلِهِ يَتَفَكَّرُ مِثْلَ الْبَهائِمِ لا تَرى آجالَها ... حَتَّى تُقادَ إِلَى الْمَنِيَّةِ تُجْزَرُ (¬1) فإن قلت: فما تصنع بما رواه ابن أبي حاتم عن ابن سابط قال: ما أبهمت البهائم فلم تبهم عن أربع: تعلم أن الله ربها، ويأتي الذكر الأنثى، وتهتدي لمعاشها، وتخاف من الموت (¬2). قلت: لا يلزم من خوفها من الموت أن تعلم ما نعلم منه، وإنما هو معنى يحصل للدابة إذا أحست بما هو من أسباب الموت، فتراع عند مشاهدته فتذعر كما يحصل للشاة عند مشاهدة الذئب دون غيره، وللفأرة عند مشاهدة الهر، وللفرس وغيرها عند مشاهدة الأسد، ولأكثر الحيوانات عند مشاهدة الآدمي، فأما أن تعلم حقيقة الموت وما بعد الموت من عذاب أو نعيم فهذا مما خص الله تعالى به العقلاء، فمن لم يؤمن بعذاب القبر وفتنته، والبعث والحساب، أو آمن بذلك ثم اغتر بالدنيا، فهو ملحق بالبهائم، أو أسوء حالاً منها. وما أحسن ما قيل: [من مجزوء الرمل] أَيَّها الْمُغْتَرُّ بِالدُّ ... نْيا إِلَى كَمْ ذا الغُرُورُ كَيْفَ يَغْتَرُّ بِدُنْيا ... مَنْ إِلَى الْمَوْتِ يَصِيْرُ ¬
تنبيهان
ثُمَّ بَعْدَ الْمَوْتِ بَعْثٌ ... وَحِسابٌ وَنُشُورُ وروى ابن أبي الدنيا في "القبور" عن فضيل بن عياض رحمه الله تعالى أنه قال: ويحك! ألست تموت وتخرج من أهلك، ومآلك إلى القبر وضيقه وحدك؟ ثم قال: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 10]. ثم قال: إن كنت لا تعقل هذا، فما في الأرض دابة أحمق منك. * تَنْبيهانِ: الأَوَّلُ: روى الإمامان مالك، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم وصححوه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيرُ يَوْمِ طَلَعَتْ فِيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فِيْهِ خُلِقَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَفِيْهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وَفِيْهِ أُهْبِطَ، وَفِيْهِ تِيْبَ عَلَيْهِ، وَفِيْهِ قُبِضَ، وَفِيْهِ تَقُوْمُ السَّاعَةُ، مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ وَهِيَ تُصْبِحُ يَوْمَ الجُمُعَةِ مُصِيْخَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شفقاً مِنَ السَّاعَةِ إِلاَّ ابْنَ آدَمَ، وَفِيْهِ سَاعَةٌ لاَ يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ وَهُوَ فيْ الصَّلاَةِ يَسْأَلُ اللهَ شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ" (¬1). فالمذكور في هذا الحديث من إصاخة الدواب وإشفاقها محمول ¬
على ما تقدم من أن الله تعالى يخلق في الدواب معنى يوجد فيها في تلك الساعة من كل جمعة، فيحصل لها الفَرَق والشفق لخصوصية قيام الساعة يوم الجمعة في أول ساعة منه حتى تطلع الشمس، فتذهب عنها تلك الحالة إلا ما كان من ابن آدم والجن أيضاً. ففي حديث آخر: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ وَهِيَ تَفْزَعُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِلاَّ هَذَيْنِ الثَّقَلَينِ: الإِنْسُ وَالجِنُّ". رواه ابن حبان، وابن خزيمة في "صحيحيهما" (¬1). وإنما تحصل تلك الحالة للثقلين على وجه الإلقاء لأنهما مكلفان، فلو جعل ذلك في طباعهما لم يكن فيه ثواب، فجعل اهتمام المكلف بيوم الجمعة وبقيام الساعة موكولاً إلى علمه واختياره ليكون له ثوابه إذا اهتم بيوم الجمعة، وارتاع لقيام الساعة، وتأهَّب لها باختياره. وأما غيره من الدواب، بل والجمادات كما في حديث آخر رواه الإمام أحمد، والبزار من حديث سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سَيِّدُ الأَيَّامِ يَوْمُ الجُمُعَةِ"، فذكر الحديث، وقال فيه: "وَفِيْهِ تَقُوْمُ السَّاعَةُ، مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلاَ سمَاءٍ، وَلاَ أَرْضٍ، وَلاَ رِيَاحٍ، وَلاَ جِبَالٍ، وَلاَ بَحْرٍ إِلاَّ وَهُنَّ يُشْفِقْنَ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ" (¬2). ¬
الثاني
فهذا المعنى يحصل لهذه المذكورات؛ يعني: إن الله تعالى يخلق لهن إدراكاً لذلك، فيشفقن أن تقوم الساعة كما قيل: إن الله تعالى خلق في السموات والأرض والجبال إدراكاً لمعنى الأمانة، وثقل حملها حتى أشفقن منها حين عرضه إياها عليهن. ويجوز أن تكون الحكمة في خلق المعنى المذكور للدواب والجمادات في يوم الجمعة إقامة الحجة على من يغفل عن الساعة من الثقلين كأن يقال لهم: خلقت لكم عقولاً لم أخلقها للدواب والجمادات، فكانت تشفق وترتاع لقيام الساعة، ولم تغفل عن قيام الساعة وما يترتب عليه من الأهوال، والحساب والجزاء ما غفلتم، وأنتم كنتم في غفلة عنها ولكم العقول التي تميزتم بها عن هؤلاء؛ كما أراد الله تعالى إقامة الحجة على الإنسان حين عرضت عليه الأمانة فحملها، ولم يأب كما أبت السماوات والأرض والجبال حَمْلَها حين عرضت عليهن. التَّنْبِيهُ الثانِي: روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَهْلَ القُبُوْرِ يُعَذَّبُونَ فيْ قُبُوْرِهِم عَذَابًا تَسْمَعُهُ البَهَائِمُ" (¬1). وروى الإمام أحمد، وابن حبان عن أم مبشر رضي الله تعالى ¬
عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اِسْتَعِيْذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ القَبرِ". قلت: يا رسول الله! وإنهم ليعذبون في قبورهم؟ قال: "نعمْ، عَذَابًا تَسْمَعُهُ البَهَائِمُ" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، وهو يسير على راحلته فنفرت، قلت: يا رسول الله! ما بال راحلتكم نفرت؟ قال: "إِنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُل يُعَذَّبُ فيْ قَبرِهِ" (¬2). قلت: الحكمة في سماع البهائم لعذاب المعذبين في قبورهم أن تكون شاهدة بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به من الأمور المغيبات. ويؤيده حديث يعلى بن مرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يَعْلَمُ أَني رَسُوْلُ اللهِ إِلاَّ كَفَرَةُ الإِنْسِ وَالجِنِّ". رواه الطبراني في "الكبير" (¬3). وأما الناس فلم يسمعهم الله تعالى عذاب القبر إلا بعض الخواص منهم زيادة في الابتلاء، وليحصلوا على فضيلة الإيمان بالغيب، ولأنهم ¬
34 - ومن الخصال المذكورة: تشبه الإنسان في جمع الأموال، وتركها للورثة بدود القز.
لو اطلعوا على عذاب القبر لم يدفنوا موتاهم، كما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المار في التشبه بقابيل: "لَوْلاَ أَنْ لاَ تَدَافَنُوْا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُم عَذَابَ القَبرِ" (¬1). 34 - ومن الخصال المذكورة: تشبه الإنسان في جمع الأموال، وتركها للورثة بدود القَزِّ. قال أبو طالب المكي في "القوت": وقد مثَّل بعضُ الحكماء ابن آدم بدود القز لا يزال ينسج على نفسه بجهله حتى لا يكون له مخلص، فيقتل نفسه، ويصير القز لغيره، وربما قتلوه إذا فرغ من نسجه؛ لأن القز يلتف عليه فيروم الخروج منه فيشمس، وربما غمز بالأيدي فيموت لئلا يقطع القز، وليخرج القز صحيحاً. قال: فهذه صورة المكتسب الجاهل الذي أهلك عمره وماله، فتتنعم ورثته بما شقي به؛ فإن أطاعوا به كان أجره لهم وحسابه عليه، وإن عصوا به كان شريكهم في المعصية لأنه أكسبهم إياه، فلا يدري أي الحسرتين عليه أعظم: أذهابه وتركه لغيره؟ أو نظره إلى ماله في ميراث غيره (¬2)؟ أخبرنا أبي شيخ الإسلام عن قاضي القضاة زكريا، وغيره عن ابن حجر الحافظ قال: قرأت على أبي إسحاق التنوخي، عن يحيى بن سعد عن جعفر بن علي: أنا السلفي قال: أنشدنا أبو سعيد الشيرازي ¬
قال: أنشدنا أبو علي بن شبل لنفسه: [من البسيط] يُعْنَى (¬1) البَخِيلُ بِجَمْعِ الْمالِ مُدَّتَهُ ... وَلِلْحَوادِثِ وَالوُرَّاثِ ما يَدَعُ كَدُودَةِ القَزِّ ما تَبْنِيهُ يُهْلِكُها ... وَغَيْرُها بِالَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ (¬2) ولأبي الفتح البستي: [من الطويل] ألمْ تَرَ أَنَّ الْمَرْءَ طُولَ حَياتِهِ ... مُعَنًّى بِأَمْرٍ لا يَزالُ يُعالِجُهْ كَدُودٌ كَدُودِ القَزِّ يَنْسُجُ دائِماً ... وَيَهْلَكُ غَمَّاً وَسْطَ ما هُوَ ناسِجُهْ (¬3) وروى البخاري، والنسائي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ " قالوا: يا رسول الله! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. قال: "فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثهِ مَا أَخَّرَ" (¬4). ¬
35 - ومنها: التشبه بالدود في ركوب البحر، والأسفار الشاقة البعيدة في طلب الدنيا.
وروى الإمام أحمد، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَقُوْلُ العَبْدُ: مَالي، مَالي، وإِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ [ثَلاثٌ] مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَأَبْقَى، مَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ" (¬1). وأنشد الخطابي في "غريبه" لعبد الرحمن بن عتبة بن مسعود: [من المتقارب] سَأَفْرِشُ نَفْسِيِ الَّتِي خَوَّلَتْ ... وَأُوْثِرُ نَفْسِي عَلى الوارِثِ أُبادِرُ إِنْفاقَ مُسْتَجْمِلٍ ... بِمالِي أَوْ عَبَثَ العابِثِ (¬2) وأنشد الإمام أبو الفتوح الطائي في "أربعينه" بإسناده إلى الأمير أبي الفضل عبد الله بن أحمد الميكالي: [من مخلَّع البسيط] مالُكَ لِلْحادِثاتِ نَهْبٌ ... أَوْ لِلَّذِي حازَهُ وِراثَةْ أَوْ لَكَ أَنْ تَتَّخِذَهُ ذُخْراً ... فَلا تَكُنْ أَعْجَزَ الثَّلاثَة (¬3) 35 - ومنها: التشبه بالدود في ركوب البحر، والأسفار الشاقة البعيدة في طلب الدنيا. لأن الدودة قد تذهب في طلب رزقها إلى حيث تضيع فتهلك، ¬
36 - ومنها: تشبه الكافر والفاجر في انشراح الصدر بالكفر أو بالمعصية،
ورُبَّ دودةٍ في صخرة يأتيها رزقها من غير سعي، فالكادُّ في طلب رزقه الراكب للأهوال في كسبه كالنوع الأول من الدود، وهو دون النوع الثاني منه. وذكر الدميري في "حياة الحيوان": أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال لعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: صِفْ لي البحر وراكبه. فقال: خَلْق قوي يركبه خلق ضعيف؛ كدودٍ على عود إن ضاعوا هلكوا، وإن بقوا فرقوا. فقال عمر - رضي الله عنه -: لا أحمل فيه أحداً أبداً (¬1). 36 - ومنها: تشبه الكافر والفاجر في انشراح الصدر بالكفر أو بالمعصية، وانقباضه عن الخير، وعن سماع القرآن والمواعظ بالْجُعَلِ إذا دفن في الورد مات، فإذا دفن [في] الزبل عاش، وكذلك دودة الخل إذا وقعت في العسل ماتت. وأنشد السيوطي رحمه الله تعالى في "ديوان الحيوان" لأبي منصور بن عبد الحميد بن محمد المدائني: [من السريع] إِذا نَهَيْتَ الوَغْدَ عَنْ طَبْعِهِ ... أَتاكَ مِنْهُ الزَّيْغُ وَالْخُلْفُ لا يَصْبِرُ الْمَرْءُ على حالَةٍ ... كانَ لَهُ فِي ضِدِّها إِلْفُ كَدُودَةِ القَزِّ إِذا أُلْقِيَتْ ... فِي عَسَلٍ بادَرَها الْحَتْفُ ¬
37 - ومنها: أن يتأخر الإنسان عن الانقياد إلى الحق،
37 - ومنها: أن يتأخر الإنسان عن الانقياد إلى الحق، وعن تأديته إلى أهله حتى يعاقب، أو يخوف ويهدد ليكون في ذلك متشبهاً بالحمار يتأخر عن المسير ويحرن، فلا يمشي حتى يُهان ويضرب. وقد وقع التنبيه على ذلك في شعر ابن عبدل الذي أنشده النضر ابن شميل للمأمون حين قال له: يا نضر! أنشدني أقنع بيت للعرب كما رواه الزبير بن بكار، والمعافى بن زكريا في "الجليس والأنيس"، وهو قوله: [من المنسرح] إِنِّى امْرُؤٌ لَمْ أَزَلْ وَذاكَ مِنَ اللـ ... ـهِ أَدِيباً أُعَلِّمُ الأَدَبا أُقِيمُ بِالدَّارِ ما اطْمَأَنَّتْ بِيَ الدَّ ... ارُ وَإِنْ كُنْتُ نازِحاً طَرَباً لا أَجْتَوِي خُلَّةَ الصَّدِيقِ وَلا ... أُتْبعُ نَفْسِيَ شَيْئاً إِذا ذَهَبا أَطْلُبُ ما يَطْلُبُ الْكَرِيْمُ مِنَ الرِّ ... زْقِ بِنَفْسِي وَأُجْمِلُ الطَّلَبا وَأَطْلُبُ الثَّرَّةَ الضَّفِيَّ وَلا ... أُجْهِدُ أخلاقَ غَيْرِها حَلَبا إِنِّي رَأَيْتُ الفَتَى الكَرِيْمَ إِذا ... رَغَّبْتَهُ فِي صَنِيْعَهِ رَغِبا وَالْعَبْدَ لا يَطْلُبُ العلاءَ وَلا ... يُعْطِيكَ شَيْئاً إِلاَّ إِذا رَهِبا مِثْلَ الْحِمارِ الْمُوْقِعِ السُّوءَ لا ... يُحْسِنُ شَيْئاً إِلاَّ إِذا ضُرِبا وَلَمْ أَجِدْ عُرْوَةَ الْخَلائِقِ إِلاَّ ... الدِّيْنَ لَمَّا اخْتَبَرْتُ وَالْحَسَبا قَدْ يُرْزَقُ الْخافِضُ الْمُقِيمُ وَما ... شَدَّ بِعِيسٍ رَحَلاً وَلا قَتَبا
38 - ومنها: تشبه الناس في قتل بعضهم بعضا عصبية وهوى بالحيات، والذئاب، ونحوها.
ويُحْرَمُ الرِّزْقَ ذُو الْمَطِيَّةِ والـ ... ـرحل وَمَنْ لا يَزالُ مُغْتَرِبا (¬1) والصفي: روي بالصاد المهملة، وهو: الشيء الذي يختار ويصطفى. وروي بالمعجمة، وهو: الناقة الغزيرة اللبن. 38 - ومنها: تشبه الناس في قتل بعضهم بعضاً عصبيةً وهوىً بالحيات، والذئاب، ونحوها. روى عبد الرزاق، ومن طريقه أبو محمد البغوي في "شرح السنة" عن كرز بن علقمة الخزاعي رضي الله تعالى عنه قال: قال أعرابي: يا رسول الله! هل للإسلام منتهى؟ قال: "نَعَمْ، أَيُّمَا أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ العَرَبِ أَوْ العَجَمِ أَرَادَ اللهُ بهِمْ خَيرًا أَدْخَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ الإِسْلاَمَ". قال: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: "ثُمَّ تَقَعُ الفِتَنُ كَأَنَّهَا الظُّلَلُ". قال: فقال الأعرابي: كلا يا رسول الله! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَالَّذِي نَفِسِيْ بِيَدِهِ، ثُمَّ لَتَعُوْدُنَّ فِيْهَا أَسَاوِدَ صباً، يَضْرِبُ بَعْضُكُم رِقَابَ بَعْضٍ" (¬2). ¬
الأساود: جمع أسود؛ قال أبو عبيد: وهو العظيم من الحيات. وقوله: صباً: لأنها إذا أرادت أن تنهش ارتفعت، ثم تصب. وقال شمر: الأسود أخبث الحيات، وربما عارض الرفقة وتبع الصوت (¬1). قلت: وعلى هذا قاطع الطريق متشبه بالأساود، وينبغي أن يعد من الخصال التي يكون صاحبها متشبهاً بالهوام والسباع قطعُ الطريق؛ لأن الأسد والذئب ونحوهما قد يقطع الطريق على المارة. وروى الحافظ عبد الغني عن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ أَكْثَرُهُم وجُوهُهُم وجُوْهُ الآدَمِيِّيْنَ، وَقُلُوْبُهُمْ قُلُوْبُ الذِّئَابِ الضَّوَارِي، سَفَّاكُوْنَ لِلدِّمَاءِ، لا يرعونَ عَنْ قَبِيْحٍ فَعَلُوْهُ، فَإِنْ تَابَعْتَهُم وَارَبُوْكَ، وَإِنْ حَدَّثْتَهُم كَذَّبُوْكَ، وَإِنْ اِئْتَمَنْتَهُم خَانُوْكَ، وَإِن تَوَارَيْتَ عَنْهُم اغْتَابُوْكَ، صَبِيُّهُم عَارِمٌ، وَشَابُّهُم شَاطِرٌ، وَشَيْخُهُم فَاجِرٌ، لاَ يَأْمُرُهُم بِمَعْرُوْفٍ وَلا يَنْهَاهُمْ عَنْ مُنْكَرٍ، الاِخْتِلاَطُ بِهِمْ ذُلٌّ، وَطَلَبُ مَا فيْ أَيْدِيْهِم فَقْرٌ، الحَكِيْمُ فِيْهِمْ غَاوٍ، وَالغَاوِي فِيْهِمْ حَكِيْمٌ، وَالسُّنَّةُ فِيْهِمْ بِدْعَةٌ، وَالبِدْعَةُ فِيْهِمْ سُنَّةٌ، وَالآمِرُ بَيْنَهُمْ بَالمعْرُوْفِ مُتَّهَمٌ، وَالفَاسِقُ فِيْهِمْ ¬
39 - ومنها: التشبه في الغدر والسطوة بجوارح السباع والطير.
مُشَرَّفٌ، وَالمؤْمِنُ بَيْنَهُمْ مُسْتَضْعَفٌ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَوْمًا إِنْ تَكَلَّمُوْا قتَلُوْهُمْ، وَإِنْ سَكَتُوْا اِسْتَبَاحُوْهُم، يَسْتَأْثِرُوْنَ عَلَيْهِمْ بِنَعِيْمِهِم، وَيَطَؤونَ حَرِيمَهُم، وَيَجُوْرُونَ فيْ حُكْمِهِم" (¬1). قلت: من يشك أنه زماننا هذا، وقد ابتلي أكثر الناس بأهل الدولة من الأروام، وغيرهم، وأتباعهم؛ نسأل الله تعالى السلامة. 39 - ومنها: التشبه في الغدر والسطوة بجوارح السباع والطير. أنشد الثعالبي لبعضهم: [من المنسرح] تَجَمَّعَتْ فِيهِ وَحْدَهُ شِيَمٌ ... فَهْوَ مِنَ الطَّيْرِ فِي أَفانِينِ زَهْو غُرابٍ وَكَذْبُ فاخِتَةٍ ... وَشُؤْمُ بُومٍ وَغَدْرُ شاهِينِ 40 - ومنها: التشبه في السفاهة والفحش والبذاء - ولا سيما على الأكابر والعلماء - بالكلب إذا نبح على الأسد ونحوه مما هو أشرف منه. وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عمرو (¬2) رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ضَافَ ضَيْفٌ رَجُلاً مِنْ بَنيْ إِسْرَائِيْلَ وَفيْ دَارِهِ كَلْبَةٌ، فَقَالَتْ الكَلْبَةُ: وَاللهِ لاَ أَنْبَحُ ضَيْفَ أَهْلِي، فَعَوَى جِرَاؤُهَا فيْ بَطْنِهَا، قِيْلَ: مَا هَذَا؟ فَأَوْحَى اللهُ عز وجل إِلى رَجُلٍ ¬
مِنْهُمْ: هَذَا مَثَلُ أُمَّةٍ مِنْ بَعْدِكُمْ؛ يَقْهَرُ سُفَهَاؤُهَا حُلَمَاءَهَا" (¬1). ولقد أحسن جدي شيخ المحققين رضي الدين - رضي الله عنه - في قوله: [من الرجز] كَلْبٌ عَلى سَبْعٍ يهر نائِحاً ... مِنْ ضَعْفِ قَلْبِهِ تَرى أَوْ مِنْ حَسَدْ فَإِنْ بِهِ سَطا بِبَطْشِهِ فَذا ... جَزاءُ كَلْبٍ اجْترا عَلى الأَسَدْ وأنشد الدينوري في "المجالسة" لمحمد بن عبد الله الحضرمي: [من مجزوء الخفيف] عاشِرِ النَّاسَ بِالْجَمِيـ ... ـلِ وَسَدِّدْ وَقارِبِ وَاحْتَرِسْ مِنْ أَذَى الْكِرا ... مِ وَجُدْ بِالْمَواهِبِ لا يَسُودُ الْجَمِيعَ مَنْ ... لَمْ يُقِمْ بِالنَّوائِبِ لا تَبعْ عِرْضَكَ الْمَصُو ... نَ بِعِرْضِ الْمُكالِبِ إِنَّ رَدَّ اللَّئِيمِ شَتْـ ... ـمَكَ إِحْدى الْمَصائِبِ أَنا لِلشَّرِّ كارِهٌ ... وَلَهُ غَيْرُ هائِبِ لَسْتُ لِلشَّرِّ ما تَبا ... عَدَ عَنِّي بِصاحِبِ (¬2) ¬
41 - ومنها: التشبه بالكلب والخنزير في التكبر.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت" عن إبراهيم بن ميسرة رحمه الله تعالى قال: يقال: الفاحش المتفحش يوم القيامة في صورة كلب، أو في جوف كلب (¬1). وفي "ارتشاف الضرب" لأبي حيان: وقد ركَّب أبو العباس بن سريج ما دخلت عليه لو تركيباً غريباً، فقال: [من الطويل] وَلَوْ كُلَّما كَلْبٌ عَوى مِلْتُ نَحْوَهُ ... أُجاوِبُهُ إِنَّ الكِلابَ كَثِيرُ وَلَكِنْ مُبالاتِي بِمَنْ صاحَ أَوْ عَوى ... قَلِيلٌ فَإِنِّي بِالْكِلابِ بَصِيرُ (¬2) 41 - ومنها: التشبه بالكلب والخنزير في التكبر. وصورة هذا التشبه لا تظهر لنفس المتكبر في نفسه لأنه لو لم ير نفسه عظيماً لم يتكبر، وإنما تظهر تلك الصورة عند الناس كما أنه كذلك عند الله تعالى. روى ابن أبي شيبة عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته. وقال: انتعش أنعشك الله؛ فهو في نفسه صغير، وفي أنفس الناس كبير. ¬
42 - ومنها: التشبه بالكلب في النظر إلى ظاهر الهيئة، واعتبار الأغنياء دون الفقراء،
وإن العبد إذا تعظم وعدا طوره وضعه الله إلى الأرض، وقال: اخسأ أخساك الله؛ فهو في نفسه كبير، وفي أنفس الناس صغير، حتى لهو أحقر عندهم من خنزير (¬1). وروى نحوه أبو نعيم، وقال فيه: حتى يكون أهون من كلب (¬2). وتظهر صورة التكبر على الكلب في أمرين: الأول: أنه ينبح الفقراء ومن رثت أثوابه، ولا ينبح الأغنياء. والثاني: أنه ينام في ممر الناس ولا يعبأ بهم، فربما عوقب في كبره بأنه يوطأ في الغالب، فيظهر ذله وحقارته في نفس كبره. وروى البزار بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُحْشَرُ المتَكَبِّرُوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ فيْ صُوْرَةِ الذَّرِّ، يَطَؤُهُمُ النَّاسُ لِهَوَانهِم عَلَى اللهِ تَعَالى" (¬3). 42 - ومنها: التشبه بالكلب في النظر إلى ظاهر الهيئة، واعتبار الأغنياء دون الفقراء، وازدراء الفقراء دون الأغنياء، والتسلط عليهم بالظلم والعدوان كالكلب العَقُور. قال صاحب "حياة الحيوان": ومن طبع الكلب أنه يكرم أهل ¬
43 - ومنها: التشبه في أكل لحم المؤمن بالغيبة بالذي يأكل الميتة من السباع.
الوجاهة ولا ينبحهم، وينبح أهل الرثاثة والدنس (¬1). قال السيوطي: وإلى هذا أشار القائل: [من الكامل] قال السيوطي: وإلى هذا أشار القائل: [من الكامل] يَمْشِي الفَقِيرُ وَكُلُّ شَيْءٍ ضِدُّهُ ... وَالْخَلْقُ تُغْلِقُ دُونَهُ أَبْوابَها وَتَراهُ مَمْقُوتاً وَلَيْسَ بِمُذْنِبٍ ... وَيَرَى العَداوَةَ لا يَرى أَسْبابَها حَتَّى الْكِلابُ إِذا رَأَتْ ذا بزَّةٍ ... هَشَّتْ إِلَيْهِ وَلَوْ لَحَتْ أَذْنابَها وَإِذا رَأَتْ يَوْماً فَقِيراً مُعْدَماً ... نَبَحَتْ عَلَيْهِ وَكَشَّرَتْ أَنْيابَها (¬2) 43 - ومنها: التشبه في أكل لحم المؤمن بالغيبة بالذي يأكل الميتة من السباع. قال الله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]. وللإمام الشافعي: [من الوافر] ¬
وَلَيْسَ الذِّئْبُ يَأْكُلُ لَحْمَ ذِئْبٍ ... وَيَأْكُلُ بَعْضُنا بَعْضاً عَيانا (¬1) وروى ابن أبي الدنيا في "الصمت" عن علي بن الحسين - رضي الله عنهما -: أنه سمع رجلاً يغتاب رجلاً فقال: إياك والغيبة؛ فإنها إدام كلاب الناس (¬2). وروى ابن عبد البر عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: الغيبة مرعى اللئام (¬3). وروى الثعلبي بسند ضعيف، عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ المُمَزِّقَ لأَعْرَاضِ النَّاسِ يُحْشَرُ فيْ صُوْرَةِ كَلْبٍ ضَارٍ" (¬4). وروى أبو نعيم عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: إنما الفاسق بمنزلة السبع، فإذا كلمت فيه فخليت سبيله فقد خليت سبعاً على المسلمين (¬5). وقال الشيخ الإمام جدي - رضي الله عنه -: [من الرجز] ¬
44 - ومنها: اتفاق المتصادقين والمترافقين في غرض،
يا آكِلاً لَحْمَ أَخِيهِ مَيِّتاً ... بالَغْتَ يا مَكْلُوبُ فِي التَّوَحُّشِ عُوْقِبْتَ بِالْمَسْخِ مِنَ اللهِ وَلَمْ ... تَرْجِعْ وَلا مِنَ الْعِقابِ تَخْتَشِي قَدْ زالَ أُنْسُ الإِنْسِ عَنْكَ عِنْدما ... نَشَأْتَ فِي هَذا التَّجَرِّي الْمُفْحِشِ وَما بِهِ انْتَشَأْتَ مِنْهُ لَمْ تَفِقْ ... يا لَيْتَ مَسْلُوبَ الْحِجَى لَمْ يَنْتَشِي 44 - ومنها: اتفاق المتصادقين والمترافقين في غرض، فإذا عرضت لهما الدنيا أعرض أحدهما، أو كل منهما عن الآخر؛ كل منهما يريد الاستقلال بها، فيتجاذبانها، ويتهاتران عليها تشبهاً بالكلاب؛ فإنها تكون على اجتماع وهراش، فإذا لاح لها ميتة أو غيرها تهالكت عليها، وأحب كل واحد منهما لو يستقل بها، ويحمي عنها حتى كأنه لم يعرف رفيقه. وهذا حال أكثر الناس حين تلوح لهم الدنيا، وتفاضلهم فيها هو السبب في أنهم يكونون مجتمعين، فإذا تفرقوا وقع كل واحد في عرض الآخر يمزقه. فالعاقل المعرض عنهم بقلبه مقبلاً على ربه إلا على وجه المداراة
لهم، والاحتراز من شرهم. وقد أحسن مِهْيار الديلمي في قوله: [من الكامل] كَمْ أَسْتَعِزُّ وَأَسْتَجِيرُ بِآكِلٍ ... لَحْمِي فَأعرَقَ وَهُوَ غَيْرُ سَمِينِ وَيَقُودُنِي قَوَدَ الْجَنِيبِ مدامحٌ ... بِرِيائِهِ عَنْ دائِهِ الْمَدْفُونِ وَلَقَدْ تَحَدَّثَ لَوْ فَطِنْتُ بِقَلْبِهِ المـ ... ـغْلُولِ لِي فِي لَحْظِهِ الْمَسْنُونِ اشْدُدْ عَلى النُّكَباءِ كَفَّكَ كُلَّما ... قُلْتَ اعْتَلَقْتُ بِصاحِبٍ مَأْمُونِ وَتَمَشَّ فِي أَخَوَيْكِ يَومَ أَمانَةٍ ... ما بَيْنَ ذِئْبِ غَضا وَلَيْثِ عَرِينِ فَالنَّاسُ عِنْدَكُ راتِعٌ فِيما ادَّعَى ... غَصْباً وَدافِعُ حَقِّكَ الْمَضْمُونِ ذُمَّ الْحفاظَ فَذُو الصَّرامَةِ عِنْدَهُمْ ... مُعْطِي الْخلابِ وَمانِعُ الْماعُونِ وَسَرى النَّفاقُ كَأَنَّهُ سَلْسَالُهُ ... فِي الْماءِ أَوْ صَلْصالُهُ فِي الطِّينِ
45 - ومنها: التشبه بالبوم في الحسد، وتمني زوال النعمة عن من خصه الله تعالى بها بموت، أو فقد عزيز، أو خراب ديار.
أَفَأَنْتَ فِي سُوءِ الظُّنُونِ تَلُومُنِي ... عَنِّي فَما عَدَتِ اليَقِينَ ظُنُونِي كِلْنِي إِلَى الرِّزْقِ العَزِيزِ قَلِيلِه ... وَالذُّلُّ تَحْتَ كَثِيرِهِ الْمَمْنُونِ فَإِذا الَّذِي فَوْقِي لِفَضْلَةِ مالِهِ ... لِغِنايَ عَنْهُ كَأَنَّهُ مِنْ دُونِي 45 - ومنها: التشبه بالبوم في الحسد، وتمني زوال النعمة عن من خصه الله تعالى بها بموت، أو فقد عزيز، أو خراب ديار. فإن الناس يقولون في المثل: فلان كالبوم لا يصيح إلا بالخراب. وقد وقع هذا المعنى في قول سويد بن أبي كاهل كما رواه الدينوري في "المجالسة": [من الرمل] رُبَّ مَنْ أَنْضَجَتْ غَيْظاً صَدْرُهُ ... قَدْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطَعْ وَيَرانِي كَالشَّجا فِي صَدْرِهِ ... عَسِرٌ مَخْرَجُهُ ما يُنْتَزَعْ جُرَذٌ يَخطر ما لَمْ يَرَنِي ... فَإِذا أَسْمَعْتُ صَوْتِيَ انْقَمَعْ
46 - ومنها: التشبه في الزنا بالتيس، والكلب، والقرد، والهر، وغيرها.
لَمْ يَضِرْني غَيْرَ أَنْ يَحْسُدَنِي ... فَهْوَ يَزْقُو مِثْلَما يَزْقُو الضُّوَعْ وَيُحَيِّيْنِي إِذا لاقَيْتُهُ ... فَإِذا يَخْلُو لَهُ لَحْمِي رَتَعْ قَدْ كَفانِي اللهُ ما فِي نَفْسِهِ ... وَإِذا ما يكفَ شَيْئاً لَمْ يَضَعْ (¬1) مثل الحاسد بالجرذ الذي يبدو، فإذا أحس بالإنسان انزوى وانقمع في وكره، وبالضوع - على وزن جرد، وعنب كما في "القاموس" - من طيور الليل، وهو ذكر البوم، ويقال: الكروان (¬2). وقال الجوهري: هو من جنس الهام (¬3). 46 - ومنها: التشبه في الزنا بالتيس، والكلب، والقرد، والهر، وغيرها. فإن السبع والبهيمة يُسَافد ما يرى من أنثى، وكذلك الزاني تحمله الشهوة الحيوانية على الوقوع على كل أنثى أمكنت من غير تقيد بالعقد ولا بالملك. ¬
ومن أمثالهم: أزنى من قرد. وقال الزمخشري في "المستقصى": هو قرد بن معاوية الهذلي، وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أسلم على أن تحل لي الزنا. فقال له ولوفده: "أَتحِبُّوْنَ لِبَنَاتِكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ ذَلِكَ؟ " قالوا: لا. قال: "فَأَحِبُّوْا لِلنَّاسِ مَا تحِبُّوْنَ لأَنْفُسِكُمْ". فرجع بهم، ولم يسلموا (¬1). وذكر فيه من الأمثال: أزنى من قط؛ وقال: هو السنور، ومن هجرس؛ وقال: هو القرد، وقيل: الدب. وأزنى من هر؛ وقال: هي امرأة يهودية من حضرموت، كان اسم أبيها يامناً، وكان الفساق ينتابونها للفسق في الجاهلية، وهي إحدى الشوامت بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخذها المهاجر بن أمية عاملُه، فقطع يدها (¬2). وقال السيوطي في "ديوان الحيوان": ومن أمثالهم: أسفد من هجرس، وأغلم من هجرس؛ أي: القرد، وأزنى من هجرس؛ أي: الدب، أو القرد (¬3). ¬
47 - ومنها: التشبه بالبهائم في إتيان البهيمة.
وروى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل قصير أشعث، ذي عضلات، عليه إزار، قد زنى، فرده مرتين، ثم أمر به فرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلَّمَا نَفَرْنَا غَازِيْنَ في سَبِيْلِ اللهِ تَخَلَّفَ أَحَدُكُمْ يَنِبُّ نَبِيْبَ التَّيْسِ يمنحُ إِحْدَاهن الكُثْبَة، إِنَّ اللهَ لاَ يُمَكِّنُني مَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلاَّ جَعَلْتُهُ نَكَالاً" (¬1). قال أهل اللغة: نب التيس نبيباً: إذا صاح وهاج (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن أبي ميسرة رحمه الله تعالى قال: تبقى رجرجة من الناس لا يعرفون حقاً ولا ينكرون منكراً، يتراكبون تراكب الدواب والأنعام (¬3). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد، وأبو نعيم عن مالك بن دينار رحمه الله تبارك وتعالى قال: مكتوب في التوراة: مثل امرأة حسناء لا تحصن فرجها كمثل خنزيرة على رأسها تاج، وفي عنقها طوق من ذهب، يقول القائل: ما أحسنَ هذا الحلي، وأقبحَ هذه الدابة (¬4). 47 - ومنها: التشبه بالبهائم في إتيان البهيمة. وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه المتقدم في التشبه ¬
48 - ومنها: التشبه بالقرد في الاستمناء بشيء من بدنه.
بقوم لوط: "مَلْعُونٌ مَنْ أَتى شَيْئاً مِنَ البَهائِمِ" (¬1). وروى الطبراني، والبيهقي عنه أيضاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَرْبَعَةٌ يُصْبِحُوْنَ فيْ غَضَبِ اللهِ ويمْسُوْنَ فيْ سَخَطِ اللهِ". قلت: من هم يا رسول الله؟ قال: "المتَشَبِّهِيْنَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمتَشَبِّهَاتِ مِنَ النَّسَاءِ بالرِّجَالِ، وَالَّذِي يَأْتيْ البَهِيْمَةَ، وَالَّذِيْ يَأْتي الرِّجَالَ" (¬2). وقوله: "المتشبهين" كذا وجدته، وهو منصوب على إضمار (أعني)، أو: (أذم). ومن لطائف بعض أذكياء النساء: أنها اطلعت على زوجها وهو يأتي أتاناً، فلم تشعره أنها اطلعت عليه، حتى جاء وقت طعامه، فوضعت له السفرة، ووضعت عليها صحفة فيها شعير، فقال: ما هذا؟ قالت: طعام بعثت به إليك حليلتك التي وقعت عليها. فنبهته أن الذي يأتي البهيمة ينبغي أن يأكل من علفها. 48 - ومنها: التشبه بالقرد في الاستمناء بشيء من بدنه. ذكر صاحب "حياة الحيوان": أن القرد إذا اشتد به الشَّبَقُ ¬
49 - ومنها: التشبه بالخنزير، والحمار، والسنور في اللواط فاعلية ومفعولية.
استمنى بفيه (¬1). وروى الحسن بن عرفة في "جزئه"، والبيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَبْعَةٌ لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلا يُزَكِّيْهِم، وَلا يَجْمَعُهُمْ مَعَ العَالَمِيْنَ، يُدْخِلُهُمْ النَّارَ أَوَّلَ الدَّاخِلِيْنَ إِلاَّ أَنْ يَتُوْبُوا، إِلاَّ أَنْ يَتُوْبُوا، إِلاَّ أَنْ يَتُوْبُوا، فَمَنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ: النَّاكِحُ يَدَهُ، وَالفَاعِلُ وَالمفْعُوْلُ، وَمُدْمِنُ الخَمْرِ، وَالضَّارِبُ أَبَوَيْهِ حَتيَّ يَسْتَغِيْثَا، وَالمُؤْذِي جِيْرَانَهُ حَتىَّ يَلْعَنُوْهُ، وَالنَّاكِحُ حَلِيْلَةَ جَارِهِ" (¬2). ولولا أن سنده ضعيف لدل على أن الاستمناء باليد من الكبائر. وقد نص العلماء على أنه حرام. 49 - ومنها: التشبه بالخنزير، والحمار، والسِّنَّور في اللواط فاعلية ومفعولية. روى ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" عن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: ليس شيء من الدواب يعمل عمل قوم لوط إلا الخنزير، والحمار، والسنور (¬3). ¬
فائدة
قلت: وذكر ابن قتيبة في "عيون الأخبار" عن المثنى بن زهير: أنه رأى ذكراً من الحمام يقمط ذكراً (¬1). قلت: وأخبرني رجل ثقة أنه رأى ثوراً نزا على ثور، وأصاب. وأخبرني جماعة أن التيوس إذا جمع بعضها مع بعض ولا أنثى بينها، استذلت واحداً منها فنزت عليه، فإن بقي بينها لا تزال تنزو عليه حتى يهلك. * فائِدَةٌ: روى الزبير بن بكار في "الموفقيات"، والديلمي، والخطابي في "غريب الحديث" - وقال: لا أصل له - عن علي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المسوخ فقال: "هُمْ ثَلاثَةَ عَشَرَة: الفِيْلُ، وَالدُّبُّ، وَالخِنْزِيْرُ، وَالقِرْدُ، وَالخِريتُ، وَالضَبُّ، وَالوَطْوَاطُ، وَالعَقْرَبُ، وَالدُّعموصُ، وَالعَنْكَبُوْتُ، وَالأَرْنَبُ، وَسُهَيْلٌ، وَالزهرةُ". فقيل: يا رسول الله! وما سبب مسخهن؟ فقال: "أَمَّا الفِيْلُ: فَكَانَ رَجُلاً حَبَّارًا لُوْطِيًّا لا يَدَعُ رَطْبًا وَلا يَابِسًا. وَأَمَّا الذِّئْبُ: فَكَانَ مُخَنَّثًا يَدْعُوْ الرِّجَالَ إِلى نَفْسِهِ. وَأَمَّا الخِنْزِيْرُ: فَكَانَ مِنَ النَّصَارَىْ الّذِيْ سَأَلُوْا المائِدَةَ فَلَمَّا نَزَلَتْ كَفَرُوْا. وَأَمَّا القِرْدُ: فَيَهُوْدِيٌّ اِعْتَدَى فيْ السَّبْتِ. ¬
وَأَمَّا الخَرِيْتُ: فَكَانَ دَيُّوْثًا يَدْعُوْ الرِّجَالَ إِلى حَلِيْلَتِهِ. وَأَمَّا الضَّبُّ: فَكَانَ أَعْرَابِيًّا يَسْرِقُ الحَاجَّ بمحجنهِ. وَأَمَّا الوَطْوَاطُ: فَكَانَ رَجُلاً يَسْرُقُ الثِّمَارَ مِنُ رُؤُوْسِ النَّخْلِ. وَأَمَّا العَقْرَبُ: فَكَانَ لا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ لِسَانِهِ. وَأَمَّا الدُّعْمُوْصُ: فَكَانَ نَمَّامًا يُفَرِّقُ بَينَ الأَحِبَّةِ. وَأَمَّا العَنْكَبُوْتُ: فَاِمْرَأَةٌ سَحَرَتْ زَوْجَهَا. وَأَمَّا الأَرْنَبُ: فَاِمْرَأَةٌ كَانَتْ لا تَتَطَهَّرُ مِنْ حَيْضٍ. وَأَمَّا سُهَيْلٌ: فَكَانَ عَشَّارًا بِاليَمَنِ. وَأَمَّا الزهرَةُ: فَكَانَتْ بِنْتًا لِبَعْضِ مُلُوْكِ بَنيْ إِسْرَائِيْلَ اِفْتَتَنَ بِهَا هَارُوْتُ وَمَارُوْتُ" (¬1). قلت: المشهور أن قصة هاروت وماروت كانت في زمن إدريس السلام، وذلك قبل بني إسرائيل بزمن كثير. وعلى ذكر المسوخ؛ فروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فُقِدَتْ أُمةٌ مِنْ بَنيْ إِسْرَائِيْلَ لا أَدْرِي مَا فَعَلَت، ¬
وَلا أَرَاهَا إِلاَّ الفَأْرَةَ، أَلا تَرَوْنهَا إِذَا وضعَ لهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْ، وَإِذَا وضعَ لهَا أَلْبَانُ غَيرِهَا شَرِبَتْ" (¬1). وروى ابن حبان، والطبراني في "الكبير"، وأبو الشيخ في "العظمة" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحَيَّاتُ مَسْخُ الجِنِّ كَمَا مُسِخَتْ القِرَدهٌ وَالخَنَازِيْرُ مِن بَني إِسْرَائِيْلَ" (¬2). وروى أبو نعيم عن وهب بن منبه قال: مسخ بختنصر أسداً فكان ملك السباع، ثم مسخ نسراً فكان ملك الطير، ثم مسخ ثور فكان ملك الدواب، وهو في ذلك يعقل عقل الإنسان، وكان ملكه قائماً يدبر، ثم رد إليه روحه فدعا إلى توحيد الله، وقال: كل إله باطل إلا إله السماء. قيل لوهب: أمؤمناً مات؟ قال: وجدت أهل الكتاب اختلفوا (¬3). وذكر ابن قتيبة في "عيون الأخبار": أن الأعراب تزعم أن الله تعالى مسخ ماكسين ضبعاً وذئباً، وبهذه القرابة يتسافدان ويتناجلان، وأنشد: [من الخفيف] إِنَّ رَبِّي لِما يَشاءُ قَدِيرُ ... ما لِشَيْءٍ أَرادَهُ مِنْ مَفَرِّ ¬
مَسَخَ الْماكسينِ ضَبُعاً وَذِئْباً ... فَلِهَذا تَناجَلا أُمَّ عَمْرِو (¬1) وذكر محمد بن يوسف الشيرازي المعروف بالحكيم في أرجوزة له من المسوخ أيضاً: الأسد، والكلب، والقنفذ، والزُّنبور، والقمري، والفاخت، والخنفساء، وابن عُرس، وابن آوى، والعقعق. فأما الأسد: فكان واعظاً يخالف قوله فعله. وأما الكلب: فكان مفسداً لذات البين. وأما القنفذ: فكانت دلاَّلة خبيثة. وأما الزنبور: فكان يؤذي جاره. وأما القمري: فكان يحتكر القوت. وأما الفاختة: فكانت تستدين ولا توفي. وأما الخنفساء: فكانت امرأة متهتكة. وأما ابن عرس: فكان نباشاً ينبش القبور. وأما ابن آوى: فكان قصابا ينفح الشاة قبل أن تموت. وأما العقعق: فكان يدخل الحمام بغير مئزر. ولا يعارض ذلك كله ما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن القردة والخنازير هي مما مسخ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله لَمْ يُهْلِكْ قوماً فيجعل لهم نَسْلاً، وأنَّ القِردةَ كانَتْ ¬
قَبْلَ ذلكَ" (¬1). قال الدميري، والسيوطي: اختلف العلماء في المسوخ هل تعقب، أم لا؟ على قولين، والجمهور على الثاني (¬2). قلت: قد يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يعلم بأنهما ممسوخان من بني إسرائيل، وأن الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه كان مما حفظه ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يعلم بذلك. ويؤيده: أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه ممن أسلم بعد الهجرة بزمن كثير، بخلاف ابن مسعود فإنه من السابقين الأولين، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما من صغار الصحابة. وإن قلنا بقول الجمهور، فيحمل ما روي أن الفيل كان لوطياً فمسخ، وأن الدب كان مخنثاً فمسخ، على أن معناه: أن بعض من فعل ذلك مسخ واحداً من جنس الفيل، أو واحداً من جنس الدب، وكذلك الباقي. وعلى كل تقدير، ففي ما ذكرناه زجر عن هذه الأفعال التي مسخت أربابها شيئاً مما ذكر؛ فافهم! ¬
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ «وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ» تَألِيف العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة 977 هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة 1061 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى تَحقِيقَ وَدِرَاسَة لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ بِإِشْرَافِ نُورِ الدِّين طَالِب المُجَلَّد الحَادي عَشَرَ دَارُ النَّوادِرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ (11)
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 7 - 84 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
تَابِع (8) بَابُ النَّهْي عَنِ التَّشَبُّهِ بِالبَهَائِمِ وَالسِّبَاعِ وَالطَّيْرِ وَالهَوَام
50 - ومن الخصال الملحقة مرتكبها بالدواب: السرقة.
تَابِع (8) بَابُ النَّهي عَنِ التَّشَبُّهِ بِالَهَائِمِ وَالسِّبَاعِ وَالطَّيْرِ وَالهَوَام 50 - ومن الخصال الملحقة مرتكبها بالدواب: السرقة. فإن صاحبها شبيه بالذئب في اختلاس الشياه، والجرد، والزَّبَاب - كسحاب - وهو فأر بري يسرق كل شيء، أو فأر عظيم أصم، وأحمر الشعر، أو بلا شعر، والعقعق، وهو طائر في قدر الحمامة على شكل الغراب ذو لونين أبيض وأسود، طويل الذنب، لا يأوي تحت سقف، ولا يستظل به. قال في "حياة الحيوان": وفي طبعه الزنا والخيانة، ويوصف بالسرقة والخبث، ويضرب به المثل في كل ذلك. قال الشاعر: [من المتقارب] إِذا بارَكَ اللهُ فِي طائِرٍ ... فَلا بارَكَ اللهُ فِي العقعقِ طَويلُ الذُّنابا قَصِيرُ الْجَناحِ ... مَتَى ما يَجِدْ غَفْلَةً يَسْرِقِ يُقْلِّبُ عَيْنَيْهِ فِي رَأْسِهِ ... كَأَنَّهْما قَطْرَتا زَيْبَقِ (¬1) ¬
وروى الدينوري عن محمد بن سلام قال: ذم رجل رجلاً، فقال: اجتمع فيه ثلاثة أشياء: طبيعة العقعق؛ يعني: السرقة، وروغان الثعلب؛ يعني: الخب، ولمعان البرق؛ يعني: الكذب (¬1). وكذلك الفأرة توصف باللصوصية؛ قالوا في المثل: ألص من فأرة (¬2). وذكر السيوطي في "ديوان الحيوان" عن ابن خالويه: أن الفأرة يقال لها: سارقة الفتيلة من السراج. قلت: ومن ثم سميت: الفويسقة لخروجها عن حد الاعتدال إلى الأذية. وروى البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خَمِّرُوْا الآنِيَةَ، وَأَوْكِئُوْا الأَسْقِيَةَ، وَأَجِيْفُوْا الأَبْوَابَ، وَكُفُّوْا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ المَسَاءِ؛ فَإِنَّ لِلْجِنِّ اِنْتِشَارًا وَخطْفَةً، وَأَطْفِئُوْا المَصَابِيْحَ عِنْدَ الرُّقَادِ؛ فَإِنَّ الفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا اجْتَرَّتْ الفَتِيْلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ البَيْتِ" (¬3). قلت: وتقدم في التشبه بالشيطان أنه هو الذي يدلها على ذلك. وينبغي أن يعد من الخصال المذكورة: إحراق الآدمي مال غيره أو بيت غيره كما قد يفعله بعض أشقياء الأطراف، بل مطلق الأذية من هذا القبيل. ¬
51 - ومنها: اختطاف أمتعة الناس كالعمائم، تشبها بالعقاب والحدأة ونحوها.
51 - ومنها: اختطاف أمتعة الناس كالعمائم، تشبهاً بالعُقاب والحدأة ونحوها. ومن أمثالهم كما ذكره الزمخشري في "المستقصى": أخطف من العُقاب (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب قال: قال عيسى عليه السلام لأحبار بني إسرائيل: لا تكونوا للناس كالذئب السارق، أو كالثعلب الخدوع، وكالحداء الخاطف (¬2). وذكر السيوطي في "ديوان الحيوان": أنه في طبع الحدأة أنها لا تخطف إلا من يمين من تخطف منه، حتى يقال: إنها عسراء؛ لأنها لا تأخذ من شمال أحد شيئاً (¬3). وقال صاحب "الصحاح": والخاطف الذئب (¬4). 52 - ومنها: الخديعة والمكر والروغان عن الحق تشبهاً بالثعلب. كقول عيسى عليه السلام في كلامه المذكور آنفاً: لا تكونوا للناس كالذئب السارق، وكالثعلب الخدوع (¬5). وقالوا: في المثل: أحيل من ثعلب، وأخدع وأروغ. ¬
53 - ومنها: التعاون على القبيح، وعلى الإثم والعدوان تشبها بالحمير.
قال الشاعر: [من السريع] كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ خالَلْتُهُ ... لا يَتْرُكِ اللهُ لَهُمْ واضِحةْ كُلُّهُمْ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبٍ ... ما أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالبارِحَةْ (¬1) وقال يعقوب بن أحمد النيسابوري: [من السريع] وَزَنْتُ إِخْوانِي لا مَرَّةً ... بِكِفَّتَيْ خُبْرِي وَتَجْرِبِي فَكُلُّهُمْ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبٍ ... وَكُلُّهُمْ أَغْدَرُ مِنْ ذِئْبِ (¬2) وروى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والإمام أحمد في "الزهد" عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال على المنبر: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] قال: لم يروغوا روغان الثعلب (¬3). 53 - ومنها: التعاون على القبيح، وعلى الإثم والعدوان تشبهاً بالحمير. فإنها إذا كانت مجتمعة فبال واحد منها، بالت كلها. وتقول العرب في أمثالها: بال حمار فاستبال أحمرة. ¬
54 - ومنها: المسارعة إلى الشر والمعصية تشبها بالبغال.
قال الزمخشري: يضرب للوضيع يأتي أمراً فيتبعه أقرانه (¬1). وقال في "حياة الحيوان": يضرب في تعاون القوم على ما يكره (¬2). وذكر السيوطي من الأمثال: بال حمار فبال عشرة، وترادفت الحمر بأبوالها (¬3). ثم قال: يقال عند اقتداء الجهال بعضهم ببعض. 54 - ومنها: المسارعة إلى الشر والمعصية تشبهاً بالبغال. فقد روى ابن عساكر عن علي رضي الله تعالى عنه قال: إن البغال كانت تتناسل، وكانت أسرع الدواب في نقل الحطب لنار إبراهيم عليه السلام، فدعا عليها، فقطع نسلها (¬4). 55 - ومنها: سرعة التقلب في المودة، والانتقال من خلق سيئ إلى أسوأ منه تشبهاً بالبغال أيضاً. كما أنشد صاحب "التذكرة الحمدونية" لابن حازم الباهلي: [من مجزوء الكامل المرفل] ما لِي رَأَيْتُكُ لا تَدُو ... مُ عَلى الْمَوَدَّةِ لِلرِّجالِ خُلُقٌ جَدِيدٌ كُلَّ يَوْ ... مٍ مِثْلَ أَخْلاقِ البِغالِ (¬5) ¬
56 - ومنها: معاداة أولياء الله تعالى تشبها بالحية في عداوة آدم، والوزغة في معاداة إبراهيم عليه السلام.
56 - ومنها: معاداة أولياء الله تعالى تشبهاً بالحية في عداوة آدم، والوزغة في معاداة إبراهيم عليه السلام. وقد تقدم في التشبه بالشيطان حديث: "ما سالَمْناهُنَّ مُنْذَ حارَبْناهُنَّ" (¬1)؛ يعني: الحيات. وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَتَلَ حَيَّةً فَكَأَنَّمَا قَتَلَ رَجُلاُ مُشْرِكًا، وَمَنْ تَرَكَ حَيَّة مَخَافَةَ عَاقِبَتِهَا فَلَيْسَ مِنَّا" (¬2). فأنزلها - صلى الله عليه وسلم - منزلة العدو في الدين، فجعل ثواب قتلها كثواب قتله. وروى الإمام أحمد أيضاً عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه كان في بيتها رمح موضوع، فقيل لها: ما تصنعين بهذا؟ فقالت: نقتل به الوزغ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت عنه النار غير الوزغ؛ فإنها كانت تنفخ عليه، فأمر بقتلها (¬3). وقال بعضهم: لما نفخ الوزغ نار إبراهيم عليه السلام [قيل له]: ¬
ماذا عسى أن تؤثر نفختك في هذه النار العظيمة - وكانوا قد جمعوا لها الأحطاب شهرًا مع كثرة ما كانوا يجمعون حتى كانت المرأة تغزل وتشتري بغزلها حطباً، وأجَّجوا النار سبعاً - فقال الوزغ: إنما أفعل ذلك إظهارًا للعداوة. وقد قلت في المعنى: [من الكامل] قُولُوا لِمَنْ أَهْلَ الوِلايَةِ قَدْ سَلَخْ ... بِلِسانِهِ لَمَّا عَنِ الدِّينِ انْسَلَخْ قَدْ قِيلَ لِلْوَزَغِ اللَّئِيمِ وَقَدْ نَفَخْ ... نارَ الْخَلِيلِ وَظَنُّهُ أَنْ قَدْ طَبَخْ ماذا تَرَى نَفْخَ الْحَقِيرِ مُؤَثِّرًا ... قالَ: اسْكُتُوا فَاللُّؤْمُ طَبعٌ قَدْ رَسَخْ ظَنَّ الْخَبِيثَ بِجَهْلِهِ لَمَّا طَغَى ... في فِعْلِهِ أَنَّ الْخَلِيلَ يَقُولُ: أَخْ ما ضَرَّ أَهْلَ اللهِ كَيْدٌ إِنَّما ... مِقْدارُهُمْ عَنْ كَيْدِ كائِدِهِمْ بَذَخْ مَن كادهمْ ما كادَ إِلاَّ نَفْسَهُ ... يا ويحَ شَخْصٍ قَلْبُهُ مِنْهُ انْمَسَخْ وكذلك عداوة البغال لإبراهيم كما يؤخذ من أثر علي - رضي الله عنه - المتقدم دالٌّ على لؤمها. وللوزغ قبيحة أخرى: روى البيهقي وصححه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كانت الأوزاغ يوم أحرق بيت المقدس تنفخ النار بأفواهها، والوطواط تطفئها بأجنحتها (¬1). ¬
57 - ومنها: التشبه في الانطواء على الخبث بالخنفساء.
قال ابن حجر: وحكمُهُ الرفعُ، وما كانت عائشة تأخذ عن أهل الكتاب (¬1). وروى البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: لا تقتلوا الضفادع؛ فإن نقيقهنَّ تسبيح، ولا تقتلوا الخفاش؛ فإنه لما خرب بيت المقدس قال: يا رب! سلطني على البحر حتى أغرقهم (¬2). هذا -وإن كان إسناده صحيحا- فإنه لا يبلغ درجة ما قبله؛ لأن ابن عمرو كان يأخذ عن الإسرائليات كما قال ابن حجر (¬3). 57 - ومنها: التشبه في الانطواء على الخبث بالخنفساء. من أمثال العرب: إذا تحركت فست. وقالوا: إذا مشت تنتنت؛ أي: جاءت بالنتن الكثير (¬4). قال الدميري: يضرب لمن انطوى على خبث؛ يقال: لا تفتشوا عما عنده؛ فإنه يؤذيكم بنتن معايبه (¬5). قلت: حدثنا بعض مشايخنا عن مفتي الروم المولى أبي السعود: أنه كان مرة يبحث مع جماعة من الأعيان، وكان فيهم واحد ليس في الفضل ¬
58 - ومنها: التشبه في اللجاج بالخنفساء أيضا؛ فإنها لجوج كما طردت عادت.
بذاك، وكان شديد الجرأة على المفتي والمعارضة له بالجهل، وكان يعسر على المفتي أن يرجعه إلى الحق لتلدُّده ووجاهته، فعارضه يومًا، فأجابه فلم يقنع، وبدا منه ما يدل على الجهل مرة بعد أخرى، فاحتد المفتي منه وقال: سبحان الله! الجاهل كالخنفساء كما تحرك فسا. 58 - ومنها: التشبه في اللجاج بالخنفساء أيضًا؛ فإنها لجوج كما طردت عادت. وقالوا: ألج من فاسية، وألج من الفاسياء، وهي الخنفساء، وألج من ذباب (¬1). وقال خلف النحوي: [من المتقارب] لَنا صاحِبٌ مُوْلَعٌ بِالْخِلافِ ... كَثِيرُ الْخطاءِ قَلِيلُ الصَّوابِ أَشَدُّ لِجاجاً مِنَ الْخُنْفُساءِ ... وَأَزْهى إِذا ما مَشى مِنْ غُرابِ (¬2) وأنشده الزمخشري: أَشَدُّ لِجاجاً مِنَ الفاسِياءِ (¬3) قلت: ولعل تمثيل المفتي أبي السعود لذلك الجاهل من هذا ¬
59 - ومنها: التشبه في اللؤم، وهو ضد الكرم؛
القبيل، وهو أقرب. وقال في "الصحاح": وفي المثل: أفحش من فاسية؛ يعني: الخنفساء (¬1). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن وهب قال: قال الخضر لموسى عليه السلام حين لقيه: يا موسى! انزع عن اللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك من غير عجيب، والزم بيتك، وابك على خطيئتك (¬2). 59 - ومنها: التشبه في اللؤم، وهو ضد الكرم؛ قال في "المصباح المنير": ولؤم -بضم الهمزة- لؤماً، فهو لئيم، يقال ذلك للشحيح، والدنيء النفس، والمهين، ونحوهم (¬3). وقال الجوهري: اللئيم: المدني الأصل، الشحيح النفس (¬4) - بالكلب والذئب وغيرهما. قالوا في أمثالهم: ألأم من كلب على عرق (¬5). وقالوا: ألأم من الذئب؛ لأنه لا يتجافى عن التعرض لما يعرض له وقتًا من أوقاته، وربما عرض للإنسان ذئبان فيقبلان عليه إقبالاً ¬
تنبيه
واحدًا، فإذا أدمى أحدهما ترك الإنسان، وأقبل على رفيقه وأكله. ومن أمثالهم كما ذكره القمي وغيره: ألأم من سقب ريان؛ لأنه إذا كان ريان فأدني إلى أمه، لم يدرها لأن الناقة لا يكاد قدر إلا إذا مري ضرعها الفصيل بلسانه (¬1). * تَنْبِيهٌ: صحبة اللئيم تفضي إلى الندامة، وهي أشبه شيء بصحبة الذئب للذئب؛ لأنها قد تؤول إلى التلف كما علمت. وقد قلت: [من المجتث] لا تُقاطِعْ كَرِيْماً ... أَوْ تُصاحِبْ لَئِيما تَعُدْ فِي ذا وَفِي ذاكَ ... مُسْتَلِيمًا مَلِيما يقال: ألام: إذا أتى ما يلام عليه، واستلام إلى الناس: إذا استندم. 60 - ومنها: التشبه في الزهو والإعجاب بالنفس والتكبر بالطاوس، والثعلب، والقرنبى، وهي دويبة طويلة الرجلين مثل الخنفساء، أو أعظم منها فساء. وفي المثل: القرنبى في عين أمها حسنة (¬2). ¬
ومن أمثالهم كما قال الزمخشري: أزهى من ثعلب، أزهى من ثور، أزهى من ديك، أزهى من ذباب، أزهى من طاوس، أزهى من غراب (¬1). قال حسان: [من الكامل] إِنَّ الفرافِصَةَ بْنَ الأَحْوَصِ عِنْدَهُ ... شجنٌ لأُمِّكِ مِنْ بَناتِ عُقابِ أَجمَعْتُ أنكَ أنتَ أَلأَمُ مَنْ مَشى ... في فُحْشِ مُومِسَةٍ وَزَهْوِ غُرابِ وقال الآخر كما تقدم: [من المتقارب] أَشَدُّ لِجاجا مِنَ الْخُنْفُساءِ ... وَأَزْهى إِذا ما مَشى مِنْ غُرابِ وقالوا: أخيل من ثعالة، وهو الثعلب؛ من الخيلاء، وأخيل من ثعلب في استه عهنة (¬2). قال الزمخشري: يقال: إذا علقت صوفة مصبوغة بذنب الثعلب أفرط عجباً بها، وشغل عن كل شأنه باستحسانها (¬3). واعلم أن المفتخر بالدنيا، والمتكبر بما فيها ملعوب بعقله؛ لأنها لهو ولعب كما وصفها الله تعالى في كتابه العزيز. ويقال: الدنيا داحة، والداح كما في "الصحاح": نقش يلوح به ¬
للصبيان يعللون به (¬1). فهو شبيه بالثعلب في استه عهنة من هذا القبيل، ثم يعود مآكلها ومشاربها عذرة وبول، وجميع ما فيها يبلى ويضمحل، وهي أشبه شيء بالجيفة كما سبق؛ فالمفتخر بها من هذا القبيل متشبه بالْجُعَل، ونحوه. وروى الإِمام أحمد عن الضحاك بن سفيان - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يَا ضَحَّاكُ! مَا طَعَامُكَ؟ ". قال: يا رسول الله! اللحم واللبن. قال: "ثُمَّ يَصِيْرُ إلى [ماذا؟ ]. قال: إلى ما قَدْ عَلِمْتَ. قال: "فَإِنَّ الله تَعَالى ضَرَبَ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ اِبْنِ آدَمَ مَثَلاً لِلدّنْيَا" (¬2). فإذا فعل الإنسان ما ذكرناه كان متشبهًا بالخنفساء من حيث الفسو الذي هي فيه، كما أن من يأخذ الدنيا فقد أخذ جيفة وعذرة، ولا يتأذى منها، بل يلتذ بها كما يلتذ الكلب بالجيفة، والجُعَل بالعذرة، وهو -بضم الجيم، وفتح المهملة - وجمعه جِعلان -بكسر ¬
الجيم -: دويبة لها ستة أرجل، وسنام مرتفع جداً، تمشي القهقرى، ويهتدي مع ذلك إلى وكره، وهو أكبر من الخنفساء، شديد السواد، وفي بطنه لون حمرة، للذكر منه قرنان، يوجد كثيراً في مراح البقر والجواميس، ومواضع الروث، إن دفن في الورد مات، وإذا دفن بعد ذلك في الزبل عاش كالخنفساء، ومن شأنه جمع العذرة وادخارها. قال في "حياة الحيوان": ومن عادته أن يحرس النيام، فمن قام منهم لقضاء حاجته تبعه، وذلك من شهوته للغائط (¬1). وقد ورد تمثيل المفتخرين بما كانت الجاهلية تفتخر به من الآباء والأموال، ونحو ذلك بالخنافس والجعل. وروى ابن عدي في "الكامل" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيَدَعُ النَّاسُ فَخْرَهُمْ بِالجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَيَكُوْنُنَّ أَبْغَضَ إِلى اللهِ مِنَ الخَنَافِسِ" (¬2)؛ أي: يكون الله لهم أشد بغضا لكم منكم للخنافس. وروى أبو داود، وغيره، وحسنه الترمذي، وهو آخر حديث في "جامعه"، واللفظ له، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضًا، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَام يَفْتَخِرُوْنَ بِآبَائِهِمْ إِذَا مَاتُوْا، إِنَّمَا هُمْ لَحْمُ ¬
فائدة
جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُوْنُنَّ أَهْوَنَ عَلَى الله مِنَ الجُعَلِ الَّذِيْ يُدَهْدِهُ الخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ الله أَذهَبَ عَنْكُمْ عِبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ بَنُوْ آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ". وفي رواية: "أَوْ لَيَكُوْنُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الْجِعْلانِ الَّذِيْ يَدْفَعُ بِأَنْفِهِ النتَنَ" (¬1). وعبية الجاهلية -بكسر العين، وفتحها، وتشديد الموحدة-: نخوتها، وكبرها. * فائِدَةٌ: روى الطبراني في "الأوسط"، و"الصغير"، والبيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِما كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أَمَرَ اللهُ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلا إِنِّيْ جَعَلْتُ نَسَبًا وَجَعَلْتُمْ نَسَبًا، فَجَعَلْتُ أَكْرَمَكُمْ أتقَاكُمْ، وَأَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَقُوْلُوْا: فُلانٌ بنُ فُلانٍ خُيْرٌ مِنْ فُلانٌ بِنِ فُلانٍ، فَاليَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبي، وَأَضَعُ نَسَبَكُم؛ أَيْنَ المُتَّقُوْنَ؟ " (¬2). 61 - ومنها: تشبيه النَّمَّام في النميمة المفرقة بين الإخوان بالظَّرِبان -بفتح الظاء المعجمة، وكسر الراء كقَطِران -: وهو دابة ¬
صغيرة كالهر لا يطاق فسوها. تقول العرب في أمثالها عند تفرق الجماعة: فسا بينهم الظربان (¬1). وقال الجاحظ: الظربان أنتن خلق الله فسوًا، وقد جعله سلاحاً له، فلا يقربه أحد إلا أرسل عليه ما لا يطيق شمه (¬2). وفي المثل: أفسى من ظربان (¬3). والعرب تسميه مفرِّق الإبل، وتقول: إنه إذا دخل في الإبل وفسى ثلاث فسوات، تفرقت وجفلت، ولا يردها الراعي إلا بجهد شديد (¬4). وقال غيره: وخاصية هذه الدويبة أنها إذا حصلت بين جماعة تفرقوا، وكذلك النمام إذا دخل بين الجماعة فرق بينهم بنميمته. وفي الحديث: "لا يدخلُ الجَنَّةَ قتاتٌ" (¬5)؛ أي: نمام. ومن الحكمة في ذلك: أن النمام مفرق بين المتحابين، والجنة دار اجتماع المتقين، وضم المؤمنين إلى المؤمنين، وكما أن الجماعة إذا أقبل الظربان نحوهم طردوه واتقوا منه، كذلك ينبغي إخراج النمام من بين الجماعة، فإن لم يفعلوا يوشك أن يفرق بينهم ويفسد قلوب بعضهم على ¬
62 - ومنها: التشبه بالظربان أيضا في الفحش تشبها للفحش بالفسو.
بعض، كما نبه على ذلك الطرطوشي في "سراج الملوك" (¬1). 62 - ومنها: التشبه بالظربان أيضًا في الفحش تشبهاً للفحش بالفسو. ذكر الزمخشري في "المستقصى من الأمثال": الحدث حدثان: حدث من فيك، وحدث من فرجك. ثم قال: يروى عن ابن عباس، وعائشة رضي الله تعالى عنهما: يضرب في مقالات السوء (¬2). ومن الأمثال كما ذكره القمي، وغيره: هما يتشاتمان جلد الظربان؛ يقال للرجلين يقع بينهما الشر فيتفاحشان. وأورده الزمخشري بلفظ: هما يتماشيان جلد الظربان، من امتشيت منه شيئًا؛ أي: أخذت؛ يضرب للمتفاحشين (¬3). وأورد أيضًا: أفسى من الظربان. وقال: إنها تفسو في الثوب، فتبقى فيه الريح إلى أن يبلى. قال: وتقول العرب لمتفاحشين: يتجاذبان جلد الظربان، ويتماسان ظربان (¬4). ¬
63 - ومنها: التشبه في الطمع في أكل أموال الناس ولا يشبع منها بالجدي.
وقلت: [من مجزوء الرمل] قُلْ لِخِليْنِ أَقاما ... في قَبِيحٍ يَجْرِيانِ أَنتما أَشْبَهُ في الفُحـ ... ـشِ بِجِلْدِ الظَّرِبانِ أَنا لِلْمُعْرِضِ عَنْ جَهـ ... ـلٍ بِخَيْرٍ في ضَمانِ فَمَتَى فاحَشَكَ الفا ... حِشُ فَاذْهَبْ في أَمانِ حَدَثُ الأَفْواه وَالاسْـ ... ـتاهِ بِئْسَ الْحَدَثانِ فَاعْفُ أَوْ لا إِنَّ مِنْ خَلْـ ... ـفِكَ فِعْلَ الْحَدَثانِ إِنَّ عَفْوَ العَبْدِ وَالإِعـ ... ـراضَ نِعْمَ الْخُلَّتانِ 63 - ومنها: التشبه في الطمع في أكل أموال الناس ولا يشبع منها بالجدي. روى الطبراني، والبزار بإسناد حسن، عن عبد الله بن عمرو (¬1) رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَانَ جَدْي فيْ غَنَمٍ كَثِيْرَةٍ تُرْضِعُهُ أُمُّهُ فَتُرْوِيْهِ، فَانْفَلَتَ يَوْمًا، فَرَضعَ الغَنَمَ كُلَّهَا، ثُمَّ لَمْ يَشْبَعْ" (¬2). قيل: إن هذا مثل أمة يأتون من بعدكم، فيعطى الرجل ما يكفي ¬
64 - ومنها: تشبه أكثر الناس في الوقوع على الدنيا، والإكباب عليها بالفراش، والذباب، والجنادب.
القبيلة أو الأمة فلا يشبع (¬1). 64 - ومنها: تشبه أكثر الناس في الوقوع على الدنيا، والإكباب عليها بالفراش، والذباب، والجنادب. روى الإِمام أحمد، والطبراني عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الله لَمْ يُحَرِّمْ حُرْمَةً إِلاَّ وَقَدْ عَلِمَ أَنهُ سَيَطَّلِعْهَا مِنْكُمْ مُطَّلِع، أَلا وإنَّي مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ أَنْ تتهَافتوْا في النَّارِ تَهَافُتَ الفَرَاشِ وَالذُّبَابِ" (¬2). وروى الإِمام أحمد، ومسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثَلِي وَمَثَلُكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَ الفَرَاشُ وَالجَنَادِبُ يَقَعْنَ فِيْهَا، وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَنتمْ تَفْلتُوْنَ مِنْ يَدي" (¬3). وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: تقتتلون على الدينار والدرهم، تتهافتون على النار تهافتَ الذباب في المرق (¬4). ¬
65 - ومنها: التشبه في التطفل والوقاحة والجرأة بالذباب.
65 - ومنها: التشبه في التطفل والوقاحة والجرأة بالذباب. فإنه يقع على وجه الملك فمن دونه، وعلى مقلة الأسد ويذاد فيعود، ومن هنا قالوا: في المثل: أجرأ من ذباب، وأوقح من ذباب (¬1). وقيل في طفيلي: [من الرجز] أَوْغَلَ في التَّطْفِيلِ مِنْ ذُبابٍ ... عَلى طَعامٍ وَعَلى شَرابِ لَوْ أَبْصَرَ الرغفانِ في السَّحابِ ... لَطارَ فِي الْجَوِّ بِلا حِجابِ (¬2) وقالوا: أجرأ من ذئب، وأوقح من ذئب (¬3). وحقيقة الوقاحة قلة الحياء. يقال: وقح -بالضم- فهو وقح، ووقاح: بيِّن القحة، والقِحَّة -بالكسر، والفتح-، والوقاحة -بالفتح-. 66 - ومنها: التشبه في الطيش والخفة بالفراش ونحوه. والأطيش طائر سمي بذلك لطيشه. ومن الأمثال كما ذكر الزمخشري، وغيره: أطيش من برغوث، ومن ذباب، ومن فراشة، لا تزال واقعة طائرة لا تستقر في مكان (¬4). وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عبد ¬
67 - ومنها: التحامق، والرضا بالحمق تشبها بالرخم والضبع، وغيرهما مما وصف من البهائم بالحماقة.
الواحد؛ يعني: ابن زيد رحمه الله تعالى قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: بحق أقول لكم: يا معشر الحواريين! إن أطيش الناس لصاحب الدنيا، إن الدنيا ليست في مكان واحد، ولكن في أماكن كثيرة، حيثما طاشت طاش صاحبها معها. 67 - ومنها: التحامق، والرضا بالحمق تشبهاً بالرخم والضبع، وغيرهما مما وصف من البهائم بالحماقة. فإن العرب تقول في أمثالها: أحمق من الضبع، ومن أم عامر؛ وهي كنية الضبع، وأحمق من الرخم. قال الزمخشري: سار المثل بحمقها لعيها واتباعها العذرات. ويزعمون أنه قيل لها: انطقي بعد طول سكوتها، فقالت: قوه قوه، وهي العذرة بالفارسية (¬1). وقال القمي: ليس من الطير شيء إلا وهو يزجر غير الرخم، فقيل لها: انطقي يا رخم؛ فإنك من طير الله -يهزأ بها- فصار مثلًا يضرب بمن لا يلتفت إليه، ولا يسمع منه (¬2). وقال الكميت: [من مجزوء الكامل المرفَّل] أَنْشَأتَ تَنْطِقُ في الْخُطُوبِ ... كَوافِدِ الرخمِ الْمُداوِرْ ¬
68 - ومنها: التشبه في المرح والبطر بالهر والجدي، ونحوهما من السباع والبهائم.
أَوَ قِيلَ يا رَخْمُ انْطُقِي ... في الطَّيْرِ إِنَّكِ شَرُّ طائِرْ فَأَتَتْ بِما هِيَ أَهْلُهُ ... وَالعَيُّ مِنْ شَكْلِ الْمُجاوِرْ (¬1) وقالوا في المثل: أموق من الرخمة (¬2). قال في "الصحاح": والموق: الحمق في غباوة (¬3). 68 - ومنها: التشبه في المرح والبطر بالهر والجدي، ونحوهما من السباع والبهائم. ومن أمثالهم: [من الرجز] إذا ارتَعَصَتْ كارتعاصِ الهِرَّةْ ... أوشكَ أنْ تسقُطَ في أفرَّهْ ويروى: إذا اعترصت (¬4). والمراد: النشاط. وأصل الارتعاص: الاضطراب، والتحرك، والاعتراص من العرص بالتحريك، وهو النشاط. والأفرة -بضم الهمزة، وفتحها، والفاء مضمومة فيهما-: الشدة. ¬
69 - ومنها: التشبه بالفراش وغيره [في] معاوية الشيء الذي تأذى منه، وفي الإلقاء باليد إلى التهلكة.
قال الجوهري: رجل أشران أفران؛ أي: بطر، وهو اتباع له (¬1). وقال الزمخشري: يضرب لمن أوبقه مرحه (¬2). 69 - ومنها: التشبه بالفراش وغيره [في] معاوية الشيء الذي تأذى منه، وفي الإلقاء باليد إلى التهلكة. وفي الحديث: "لا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ" (¬3). فالمعنى إذا عاود ما أوذي منه كان كالفراش، فإنه يلقي بنفسه في شعلة السراج، ويتأذى من حرارته المرة بعد الأخرى، ولا يزال كذلك حتى يحرق نفسه، والسبب في ذلك: ضعف بصره؛ فإنه يطلب ضوء النهار، فإذا رأى السراج بالليل ظن أنه في بيت مظلم، وأن السراج كوة في البيت، فيرمي بنفسه إليه ليخرج، والغبي ضعفه في بصيرته، والفراش ضعفه في بصره، فصار الغبي أسوأ حالًا من الفراش، والمؤمن تجلي بصيرته بقوة إيمانه. ومن هنا جاء في الحديث: "المُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ" (¬4). وقال حجة الإِسلام رحمه الله تعالى: من الحيوان ما إذا شاهد شيئًا حفظه وارتسمت صورته في ذهنه، فإذا رآه مرة أخرى عرفه؛ كالدابة ترى الشعير والعصا. ¬
70 - ومنها: تشبه المرء في اختلاطه بكل قوم،
ومنه ما إذا شاهد شيئًا لم يحفظه، ولم ترتسم عنده صورته كالفراش؛ فإنه يجد المصباح فيرمي نفسه فيه، ويجد حرارته، ثم يعود ويرمي نفسه إليه، ولو ارتسمت عنده صورته لما عاد إليه، انتهى. ولقد أحسن من قال: [من الكامل] فَضْلُ الْحِمارِ عَلى الْجَهُولِ بِخَصْلَةٍ ... مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ الَّذِي يَدْرِي بِها إِنَّ الْحِمارَ إِذا تَوَهَّمَ لَمْ يَسِرْ ... وَتُعاوِدُ الْجُهَّالُ ما تدر بِها ويقال في المثل: من عشر بحجر وعاد إليه، فلا تسأل عما يجري عليه. 70 - ومنها: تشبه المرء في اختلاطه بكل قوم، وتخلقه بأخلاقهم وأوضاعهم لينال من كل ما ناله كل قوم من حطام الدنيا بالحرباء؛ فإنها تتلون بلون الشجرة التي تكون عليها حتى لا يراها ما تصطاده من ذباب ونحوه، [ ... ] من الشجرة فيهرب ويفر عنها، فإذا قربت الذبابة ونحوها منها اختطفتها بلسانها في الحال. ومن هنا قالوا في المثل: فلان يتلون تلون الحرباء؛ يضرب لمن لا يثبت على حال (¬1). وقريب من ذلك ما ذكره الدميري في "حياة الحيوان": إن البغل يوصف برداءة الأخلاق والتلون لأجل التركيب. قال: وينشد في ذلك: [من مجزوء الكامل المرفَّل] ¬
71 - ومنها: التشبه في الشره والبخل بالحوت والتمساح والكلب.
خُلُقٌ جَدِيدٌ كُلَّ يَوْمٍ ... مِثْلَ أَخْلاقِ البِغالِ (¬1) وروى الطبراني في "الكبير" عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِيَّاكَ وَالتَّلَوُّنَ فيْ دِيْنِ اللهِ" (¬2). 71 - ومنها: التشبه في الشره والبخل بالحوت والتمساح والكلب. قالوا: أبخل من كلب؛ فإنه لا مطمع فيما يناله، وإن تعرض له هرش؛ ذكره الزمخشري (¬3). وقال القمي: من أمثالهم: أَحْرَصُ من كلب على جيفة (¬4). وذكره الزمخشري، وزاد: أَحْرَص من كلب على عقي صبي. وقال: يزعمون أن الهرم من الكلاب إذا أكل العقي، وهو أول ما يخرج من المولود عاد شاباً، ولهذا يشتد حرصه عليه (¬5). وذكر أيضًا من أمثالهم: أشره من الأسد لأنه يبتلع البضعة العظيمة من غير مضغ، وكذلك الحوت لأنهما واثقان بسهولة المدخل ¬
72 - ومنها: تشبه الحريص في الاجتهاد على طلب الرزق بالنمل والحبارى، وغيرهم؛
وسعة المجرى (¬1). قال الشاعر: [من الرجز] كَالْحُوتِ لا يَرْوِيهِ شَيْء يَلْهَمُهُ ... يُصْبحُ ظَمآنَ وَفِي البَحْرِ فَمُهْ (¬2) قال في "حياة الحيوان": الفَهْمُ: الابتلاع؛ يضرب لمن عاش بخيلًا شرهًا، انتهى (¬3). أنشد السيوطي في "ديوان الحيوان" ليعقوب بن أحمد النيسابوري: [من الطويل] يُرِي النَّاسَ زُهْدًا كَالْمَسِيحِ بْنِ مَرْيَمِ ... وَفِي ثَوْبِهِ التِّمْساحُ أَوْ هُوَ أَغْدَرُ أَغَرَّكُمْ مِنْهُ تَقَلُّصُ ثَوْبِهِ ... وَذَلِكَ حبٌّ دونهُ الفَخ فَاحْذَرُوا (¬4) 72 - ومنها: تشبه الحريص في الاجتهاد على طلب الرزق بالنمل والحُبَارى، وغيرهم؛ فإن النمل عظيم الحيلة في طلب الرزق، ويبعد في طلبه كثيرًا، ويحمل أضعافه. ولذلك قيل: أكسب من نملة، وكسب من ذرة، وكنية النمل: أبو مشغول. وقالوا: أضبط من نملة، وأضبط من ذرة (¬5). ¬
قال الزمخشري: تجر ما هو أضعافها، وربما سقطا من مكان مرتفع فلا ترسله. وقالوا: أكسب من فأرة، ومن فهد. قال الزمخشري: يقال: إن هذه الثلاث أدأب الحيوان في الكسب. وقال: يقال: إن الفهود الهرمى العاجزة عن الصيد تجتمع إلى الفهد المفتي يتصيد لها كل يوم ما يكفيها (¬1). وأما الحبارى -بضم المهملة، وتخفيف الموحدة- وهو طائر كبير العنق، طويل الذنب، رمادي اللون، في منقاره بعض طول. وقال في "حياة الحيوان": هي أكثر الطير حيلة في تحصيل الرزق، ومع ذلك تموت جوعًا لهذا السبب (¬2). وقال أيضًا: هي من أشد الطير طيرانًا، وأبعدها شوطاً، وذلك أنها تصاد بالبصرة، فتوجد في حواصلها الحبة الخضراء التي شجرها البطم، ومنابتها تخوم بلاد الشام، ولذلك قالوا في المثل: أطلب من الحبارى (¬3). ¬
73 - ومنها: التشبه في الإكباب على طلب الرزق بالوحش أيضا،
73 - ومنها: التشبه في الإكباب على طلب الرزق بالوحش أيضًا، وهو كل شيء من دواب البر لا يستأنس كالظبي، والمَهَاة، والضبع، وغيرها. قال في "حياة الحيوان": روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَقُوْلُ اللهُ عز وجل: اِبْنَ آدَمَ! وَعِزَّتي وَجَلالي لَئِنْ رَضِيْتَ بمَا قَسَمْتُ لَكَ أَرَحْتُكَ وَأَنْتَ مَحْمُوْدٌ، وإنْ لَمْ تَرْضَ بِمَا قَسَمْتُ لَكَ سَلَّطْتُ عَلَيِكَ الدُّنْيَا تَرْكُضُ فِيْهَا ركْضَ الوَحْشِ، ثُمَّ لا يَكُوْنُ لَكَ إِلاَّ مَا قَسَمْتُ لَكَ وَأَنْتَ مَذْمُوْمٌ" (¬1). 74 - ومنها: التشبه في الادخار بالنمل ونحوه. ذكر الزمخشري في "الكشاف": وعن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال: ليس شيء في الحيوان يخبأ قوته إلا الإنسان، والنملة، والفأرة، والعقعق. ويقال: للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها (¬2). وما أحسن قول أبي الوليد الوقتي من أدباء المغرب: [من مخلع البسيط] الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهْوَ أَهْلُ ... لَيْسَ لِخَلْقٍ عَلَي فَضْلُ وَلا رَكوبٌ إِلَى أَمِيرٍ ... قَدَّمَهُ الدَّهْرُ وَهْوَ فَسْلُ وَلا وَقُوفٌ بِبابِ وَغْدٍ ... قِيلَ انتظِرْهُ عَلَيْهِ شُغْلُ ¬
75 - ومنها: محبة دوام الصحة، وكراهية المرض إذا نزل.
أَبِيْتُ مِثْلَ الْحُسام فَرْداً ... جَلاهُ لِلْحادِثاتِ صَقْلُ وَاللَّيْثُ لَمْ يَدَّخِرْ طَعاما ... وَالدَّاخِرُونَ الطَّعامَ نَمْلُ قَنَّعْتُ نَفْسِي بِما أَتاها ... فَكُلُّ صَعْبٍ عَلَيَّ سَهْلُ 75 - ومنها: محبة دوام الصحة، وكراهية المرض إذا نزل. روى ابن أبي شيبة، وأبو نعيم، والبيهقي، وابن عبد البر في "الصحابة" عن أبي فاطمة الليثي قال: كنا جالسين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِحَّ فَلا يَسْقَمُ؟ ". فابتدرناها، وقلنا: نحن يا رسول الله. فقال: "أتحِبُّوْنَ أَنْ تَكُوْنُوْا كَالحَمِيْرِ الصَّالَّةِ؟ أَلا تُحِبُّوْنَ أَنْ تَكُوْنُوْا أَصْحَابَ البَلاءِ وَأَصْحَابَ كَفَّارَاتٍ؟ ". وفي رواية: "كَالحُمُرِ الصَّالَّةِ لا تَمْرَضُوْنَ وَلا تَسْقَمُوْنَ؟ وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِه! إِنَّ الله لَيَبْتَلِي المُؤْمِنَ وَمَا يَبْتَلِيْهِ إِلاَّ لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ، وإنَّ العَبْدَ لتكُوْنُ لَهُ الدَّرَجَةُ فيْ الجَنَّةِ لا يَبْلُغُهَا شَيْء مِنْ عَمَلِهِ حَتَّى يَبْتَلِيَهُ بِالبَلاءِ لِيَبْلُغَ بِهِ تِلْكَ الدَّرَجَةَ" (¬1). وأخرجه الطبراني في "الكبير" بنحوه وسنده جيد (¬2). ¬
وقوله: كالحمر الصالة؛ مِنْ صَلَّ: إذا صوت. قال العسكري: هو بالصاد المهملة، وخَطَّأ من قال: الضالة - بالمعجمة -. وأراد الحمر الوحشية. يقال للحمار الوحشي الحاد الصوت: صال، وصلصال؛ كأنه يريد الصحيحة الأجساد، الشديدة الأصوات لقوتها ونشاطها (¬1). وقال البيهقي: سألت عنه بعض أهل العلم، فزعم أنه أراد حمر الوحش. وفي رواية: "كَالْحُمُرِ الصَّيَّالَةِ" (¬2). قال في "الصحاح": وصال العير: إذا حمل على العانة، والعانة: القطيع من حمر الوحش (¬3). وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن مسروق قال: قدمتِ الدهَّاقين الكوفة على عهد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، فجعلوا يعجبون من صحتهم وحسن ألوانهم، فقال ابن مسعود: ما تعجبون؟ تلقون المؤمن أصح شيء قلبا وأمرض شيء جسداً، وتلقون الفاجر والمنافق أصح شيء جسمًا وأمرضه قلبا، والله لو صحت أجسادكم ومرضت قلوبكم لكنتم أهون على الله من الجِعلان (¬4). ¬
76 - ومنها: الصيال، والبطش؛ والصيالة تشبها بالحمر وغيرها: الاستطالة، والوثوب.
76 - ومنها: الصيال، والبطش؛ والصيالة تشبهاً بالحمر وغيرها: الاستطالة، والوثوب. وفي الحديث المذكور في الرواية المشار إليها: "أتحِبُّوْنَ أَنْ تَكُوْنُوْا كَالحَمِيْرِ الصَّيَّالةِ" (¬1). وفي المثل: أَصْوَلُ من جمل (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" عن عائشة بنت قدامة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهُمَّ إِني أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الأَبْهَمَيْنِ: السَّيْلِ، وَالجَمَلِ الصَّؤُوْلِ" (¬3). وقال ابن السكيت: الأبهمان عند أهل البادية: السيل والجمل الصؤول الهائج يتعوذ منهما. قال: وعند أهل الأمصار: السيل، والحريق (¬4). قال أبو عبيد: وإنما سمي أبهم لأنه ليس مما يستطاع دفعه، ولا ينطق فيكلم أو يستعتب، ولهذا قيل للفلاة التي لا يهتدى فيها الطريق: بهماء، وللبر: أبهم (¬5). ¬
فالإنسان إذا استشاط غضبه حتى حمله على البطش والصيال كان أشبه شيء بالبعير الهائج الصؤول، إلا أن البعير غير مكلف، والإنسان مكلف موصوف في ذلك بالجبروت والعدوان، كما قال هود عليه السلام لقومه: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130]. وقالوا في المثل: أبطش من دوسر (¬1)، وهو كما في "الصحاح": الجمل الضخم (¬2). وحقيقة البطش: السطوة، والأخذ بالعنف. وقيل: دوسر في المثل: اسم كتيبة للنعمان بن المنذر، وهو غير منصرف، ولم يذكر الزمخشري غيره (¬3). وكانت كتائب النعمان خمساً: - الرهائن: وهم كانوا خمس مئة رجل رهائن لقبائل العرب يقيمون على بابه حولاً، ثم يذهبون ويجيء بدلهم. - والضبائع: وهم خواصه لا يبرحون بابه. - والوضائع: وهم ألف رجل كان يضعهم كسرى بالحيرة نجدةً لملك العرب. - والأشابيب: وهم بنو عمه، وإخوته، وإخوانهم؛ سموا بذلك لبياض وجوههم. ¬
77 - ومنها: القيام من المرض غير معتبر ولا تائب عما كان عليه من الزلل تشبها بالبعير، والحمار إذا عقل،
- ودوسر: أحسنها، وأنكاها، وكانوا من قبائل شتى، وأكثرهم من ربيعة، واشتقاقها من الدسر؛ وهو الطعن (¬1). 77 - ومنها: القيام من المرض غير معتبر ولا تائب عما كان عليه من الزلل تشبهاً بالبعير، والحمار إذا عقل، أو رُبط ثم أُرسل. تقدم في التشبه بالمنافقين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن المنافق إذا مرض ثم عوفي كان كالبعير عقله أهله، ثم أرسلوه، فلم يدر لم عقلوه، ولم يدر لم أرسلوه (¬2). 78 - ومنها: التشدق بالكلام والتخلل به كما تفعل البقر. قال في "الصحاح": والمتشدق: الذي يلوي شدقيه للتفصح (¬3). روى أبو داود، والترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ البَلِيغ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تتَخَلَّلُ البَقَرَةُ". قال الترمذي: حديث حسن (¬4). وهو الذي يتشدق بالكلام، ويفخم به لسانه، ويَلُفه كما تلف البقرة الكَلأ بلسانها. وقلت ملمحا بالحديث: [من الرجز] ¬
79 - ومنها: التشبه بالثيران ونحوها في الفظاعة، وجهر الصوت، والتكلم بما لا يليق بالمكان والزمان.
قَدْ جاءَ أَنَّ الله جَل وَعَلا ... لَيُبْغِضُ الْمَرْءَ البَلِيغَ في الْمَلا لَفَّ الكَلامَ بِلِسانِهِ كَما ... لَفَّتْ بَواقِرُ البَساتِينِ الكَلا وروى الإِمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتى يَخْرُجَ قَوْمٌ يَأكُلُوْنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ كَمَا تأكُلُ البَقَرُ بِأَلْسِنَتِهَا" (¬1). 79 - ومنها: التشبه بالثيران ونحوها في الفظاعة، وجهر الصوت، والتكلم بما لا يليق بالمكان والزمان. والناس يشبهون كل فظ غليظ بليد أكول بالبقر والثور. وتقدم فيما أنشدناه عن عبد الحق الإشبيلي: [من السريع] يا راكبَ الرَّوْعِ لِلَذَّاتِهِ ... كَأنَّهُ في أتنِ عَيْرْ يَأكُلُ كلَّ الّذِي يَشْتَهِي ... كَأنَّهُ في كَلاءِ ثَوْرْ وكنت يومًا في جماعة منهم العلامة المُلَّا أسد بن معين الدين العجمي أحد تلاميذ والدي عند بعض الصوفية، فبينما الملا أسد يقرأ الفاتحة إذا فقير من فقراء ذلك الصوفي صرّح مثوراً، فانذعر الملا أسد وأزعج، ثم التفت إلينا وقال: والله لم أعرف قول الناس في فقراء الصوفية: ثَوَّروا من أي شيء اشتقاقه إلا في هذا الوقت، علمت أنه مشتق من لفظ الثور؛ فإني رأيت هذا الآن خار خواراً منكرًا كأنه ثور. وذكر أن بعض الوعاظ كان يعظ طائفة من الناس وهو يلك ¬
80 - ومنها: التغاير على المناصب ونحوها من ترهات الدنيا تشبها بالتيوس، ونحوها من الحيوانات.
الكلام، فنظر منهم إعراضًا عنه ولغطًا، فأراد أن يستنصتهم، فقال: ألا اسمعوا يا بقر! فقال بعضهم: قل يا ثور! 80 - ومنها: التغاير على المناصب ونحوها من ترهات الدنيا تشبهاً بالتيوس، ونحوها من الحيوانات. روى الأصبهاني في "الترغيب" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَأْتي عَلَى أُمَّتي زَمَانٌ يَحْسُدُ الفُقَهَاءُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَغَارُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كتَغَايُرِ التُّيُوْسِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ" (¬1). 81 - ومنها: الاسترسال مع الغُلْمة تشبهاً بالجمل، والتيس، والكلب، والذئب، وغيرها. قال في "الصحاح": والغُلمة: شهوة الضِّراب، وقد غلم البعير -بالكسر- غلمة، واغتلم: إذا هاج من ذلك (¬2). وفيه إيماء إلى أن الغلمة في الأصل خاصة بالبهائم، ثم أطلقت في الأناس توسعاً أو مجازًا. وروى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد زنى، فأمر به فرجم، ثم قال: "كُلَّمَا نَفَرْنَا غَازِيْنَ ¬
82 - ومنها: أن تصرح المرأة لزوجها بطلب الجماع لا على سبيل الملاعبة والمداعبة،
تَخَلَّفَ أَحَدُكُمْ يَنبت نبِيْبَ التَّيْسِ" (¬1). يقال: نب التيس، ينب، نبيبًا: إذا صاح وهاج. وقالوا في المثل: استعسب استعساب الكلب. قال الزمخشري: أي: طلب العسب، وهو السفاد؛ وذلك أنه إذا هاج طلب الكلبات على البعد لينزو عليهن. يضرب للكثير النكاح الحريص عليه (¬2). وقالوا: أسفد من ديك، أسفد من عصفور (¬3). والسفاد: نزو الذكر على الأنثى. قال في "الصحاح": يقال ذلك في التيس، والبعير، والثور، والسباع، والطير (¬4). 82 - ومنها: أن تصرح المرأة لزوجها بطلب الجماع لا على سبيل الملاعبة والمداعبة، بل على سبيل الشَّبَق، أو يظهر عليها التشوف إلى الوقاع لغيبة الحليل، أو تحملها الشهوة -والعياذ بالله- على الزنا؛ فإنها تكون في ذلك شبيهة بالسنورة، والكلبة، والأتان الحائل، والبقرة الصارف؛ فإنها إذا اشتاقت إلى الذكر نفرت، ¬
وأعيت الرعاة كما ذكره في "حياة الحيوان" (¬1). وفي "الصحاح": كلبة صارف: إذا اشتهت الفحل، وقد صرفت -يعني: من باب ضرب- تصرف، صروفاً، وصِرافًا" (¬2). وكذلك الأنثى من الذئاب شديدة الشبق بحيث تدعو إلى وطئها. وإنما ينبغي للمرأة أن تلزم الحياء الذي ميزها الله تعالى به عن سائر الحيوانات، وجعل حظها منه أجزل وأوفر من حظ الرجال. روى الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحَيَاءُ عَشْرَةُ أَجْزَاءَ؛ فَتِسْعَةٌ في النِّسَاءِ، وَوَاحِدٌ في الرِّجَالِ" (¬3). وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سِتَّةُ أَشْيَاءَ حَسَنةٌ، وَلَكِنْ فيْ سِتةٍ مِنَ النَّاسِ أَحْسَنُ: العَدْلُ حَسَنٌ، وَلَكِنْ في الأُمَرَاءِ أَحْسَنُ، وَالسَّخَاءُ حَسَنٌ، وَلَكِنْ في الأَغْنِيَاءِ أَحْسَنُ، وَالوَرَعُ حَسَنٌ، وَلَكِنْ في العُلَمَاءِ أَحْسَنُ، وَالصَّبْرُ حَسَنٌ، وَلَكِنْ في الفُقَرَاءِ أَحْسَنُ، وَالتَّوْبَةُ حَسَنٌ، وَلَكِنْ في الشَّبَابِ أَحْسَنُ، وَالحَيَاءُ حَسَن، وَلَكِنْ في النِّسَاءِ أَحْسَنُ" (¬4). ¬
فإن قلت: مقتضى ما رواه البيهقي في "الشعب" أيضًا عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "فُضِّلَتِ المَرْأةُ عَلَى الرَّجُلِ بِتِسْعَةٍ وتِسْعِيْنَ جُزْءًا مِنَ اللذةِ، وَلَكِنَ الله ألقَىْ عَلَيْهِنَّ الحَيَاءَ" (¬1) من حيث إن اللذة إنما تكون على قدر الشهوة أن تكون شهوتها أكثر من حيائها؛ لأن التسعين جزءًا من الشهوة التي فضلت بها تعادل التسعة الأجزاء التي جعلت فيها من الحياء، فتبقى تسعة أجزاء من الشهوة زائدة فيها عما لها من الحياء، فهل يكون ذلك عذرًا لها في غلبة الشهوة؟ قلت: لا يكون ذلك عذرًا لها لأن الحياء غريزة يساعدها العقل، ويقويها الإيمان بخلاف الشهوة؛ فإن العقل يضادها ويعارضها, ولا يساعدها، وهي في نفسها ليست بغريزة، بل حالة عارضة تنشأ عن كثرة الطعام والشراب، والنعيم، والرفاهية، فجزء من الحياء يعارض أضعافه من الشهوة، وهو في نفسه حلية مقبولة ممدوحة عند كل عاقل من نفسه ومن غيره، محمودة العاقبة، جميلة الصورة، طيبة الثمرة، وليست الشهوة كذلك. وقد روى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحَيَاءُ زِيْنةٌ، وَالتُّقَىْ كَرَمٌ، وَخَيْرُ ¬
83 - ومنها: الإكثار من النكاح، وصرف الهمة فيه،
المَرْكبِ الصَّبْرُ، وَانْتِظَارُ الفَرَجِ مِنَ اللهِ تَعَالى عِبَادَةٌ" (¬1). وروى الشيخان عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحَيَاءُ لا يَأتي إِلاَّ يِخَيْرٍ" (¬2). 83 - ومنها: الإكثار من النكاح، وصرف الهمة فيه، والافتخار به وبكثرته على حد قضاء وطر النفس، والقيام بحظها على مقتضى الشهوة. وإنما اللائق بحال الإنسان أن يكون النكاح منه بنية التحصّن والتحصين، وطلب الولد للطاعة ومكاثرة الأمة، وغير ذلك مما ذكرناه في التشبه بالأنبياء عليهم السلام، لا طلب الولد للاستكثار من زهرة الدنيا والمباهاة. أما الوقاع لداعية الشهوة الحيوانيَّة، والغُلْمة البهيمية، فذاك لا فضل فيه؛ إذ يشارك فيه الحمار، والحصان، والثور، والبكر، والخنزير، والذئب، والكلب، والسنور، وغير ذلك من الحيوانات. وفي ملازمة الإنسان لفروج النساء شبه ظاهر بخصوص الكلاب؛ فإن الكلب إذا سافد الكلبة لزمها ولزمته حتى لو بالغتَ في زجرهما وضربهما مهما بالغتَ لم ينجع ذلك فيهما، وكذلك يحصل بين الذئب وأنثاه حتى لو أدركهما أحد على تلك الهيئة صادهما كيف ¬
84 - ومنها: التشبه في ترك الاستتار عند قضاء الحاجة وعند الجماع، وترك التحري فيه بالحمار والكلب والسنور وغيرها.
شاء، لكن ذلك لا يكاد يشاهد من الذئبين لتوحشهما وبعدهما عن الناس، ويوجد ذلك بين الكلبين كثيرًا. ومن هنا قيل في المثل: استعسب استعساب الكلب، كما تقدم. 84 - ومنها: التشبه في ترك الاستتار عند قضاء الحاجة وعند الجماع، وترك التحري فيه بالحمار والكلب والسنور وغيرها. وكذلك جماع إحدى الحليلتين في حضور الأخرى، والنكاح في حضور كائن من البشر، وكذلك تقبيل الزوجة والأمة، وعضّها، ونحو ذلك في حضرة أحد؛ كل ذلك يكون الإنسان فيه متشبهاً بما ذكرنا من الحيوانات. وإن فعل ذلك مع غير حليلته من أجنبية، أو غلام أمرد كان أسوء حالاً، وأعظم وبالاً، وأوجب نكالاً. روى النسائي عن عبد الله بن سرجس رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أتى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيُلْقِ عَلَىْ عَجُزِهِ وَعَجُزِهَا شَيْئاً، وَلا يَتَجَرَّدانِ تَجَرّدَ العَيْرَيْنِ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "السنن"، وإسناده حسن، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وابن ماجه عن عتبة بن عبد، والطبراني في "الكبير" أيضًا عن أبي أمامة ¬
رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أتى أَحَدُكُمْ أَهَلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ، وَلا يَتَجَرَّدانِ تَجَرُّدَ العَيْرَيْنِ" (¬1). والعير -بفتح المهملة-: الحمار الوحشي، وقد يطلق على الأهلي. وروى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أتى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتُرْ عَلَيْهِ وَعَلَىْ أَهْلِهِ، وَلا يَتَعَرَّيَانِ تَعَرِّيَ الحَمِيْرِ" (¬2). وروى البزار، والطبراني عن ابن عمرو (¬3) رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَسَافَدُوْا في الطَّرِيْقِ تَسَافُدَ الحَمِيْرِ" (¬4). ¬
85 - ومنها: التشبه بالبهائم في إتيان الحليلة من غير تقدم مؤانسة وملاعبة، وضم وتقبيل، ونحو ذلك.
وروى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن لِهَذا الدِّيْنِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، أَلا وَإِنَّ إِقْبَالَ هَذَا الدِّيْنِ أَنْ تَفْقَهَ القَبِيْلَةُ بِأسْرِهَا حَتَّى لا يَبْقَى فِيْهَا إلا الفَاسِقُ أَوْ الفَاسِقَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا قُهِرَا وَاضْطُهِذَا. وَإِنَّ مِنْ إِدْبَارِ هَذَا الدِّيْنِ أَنْ تَجْفُوَ القَبِيْلَةُ بِأسْرِهَا فَلا يَبْقَىْ فِيْهَا إِلاَّ الفَقِيْهُ وَالفَقِيْهَانِ، فَهُمَا ذَليْلانِ إِنْ تَكَلَّمَا قُهرَا وَاضْطُهِذَا، وَيَلْعَنُ آخِرُ هَذهِ الأُمَّةِ أَوَّلهَا، أَلا وَعَلَيْهِمْ حَلَّتْ اللَعْنَةُ حَتَّى يَشْرَبُوْا الخَمْرَ عَلانِيَةً، وَحَتىَّ تَمُرَّ المَرْأ بِالقَوْمِ فَيَقُوْمَ إِلَيْهَا بَعْضُهُمْ فَيَرْفَعُ بِذَيْلِهَا كَمَا يُرْفَعُ بِذَنَبِ النَّعْجَةِ فَقَائِلٌ يَقُوْلُ: أَلا وَاريتَهَا وَرَاءَ الحَائِطِ، فَهُوَ يَوْمَئِذٍ فِيْهِمْ مِثْلُ أَبيْ بَكْرٍ وَعُمَرَ فِيْكُمْ، فَمَنْ أَمَرَ يَوْمَئِذٍ بِالمَعْرُوْفِ وَنهَىْ عَنِ المُنْكَرِ فَلَهُ أَجْرُ خَمْسِيْنَ مِمن رَآنيْ وَآمَنَ بي، وَأَطَاعَني وَبَايَعَني" (¬1). والاضطهاذ -بالضاد المعجمة، والطاء المهملة، ويالذال المعجمة آخره-: الظلم والقهر؛ يقال: ضهذته فهو مضهوذ، ومضطهذ؛ أي: مقهور مضطر. 85 - ومنها: التشبه بالبهائم في إتيان الحليلة من غير تقدم مؤانسة وملاعبة، وضم وتقبيل، ونحو ذلك. روى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقَعْ أَحَدُكُمْ عَلى أَهْلِهِ كَمَا تَقَعُ البَهِيْمَةُ، لِيَكُنْ بَيْنَهُمَا رَسُوْلٌ". ¬
قالوا: يا رسول الله! وما الرسول؟ قال: "القُبْلَةُ، وَالكَلامُ". قال العراقي: وهو حديث منكر (¬1). قلت: معناه مقبول، ولمؤانسة الزوجة وملاعبتها وفضلها أصلٌ من السنة أصيل. ففي "الصحيحين" عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هَلاَّ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ". وقال مسلم في رواية: "تُضَاحِكُكَ وَتُضَاحِكُهَا، وَتُلاعِبُكَ وَتُلاعِبُهَا". وفي رواية: "أَيْنَ أَنْتَ عَنْ العَذَارَىْ وَلِعَابِهَا" (¬2). قال القاضي عياض: الرواية: "وَلِعابِها" -بالكسر لا غير- وهو من اللعب. قال: وقد ثبت لبعض رواة البخاري بضم اللام؛ أي: ريقها (¬3). وروى ابن أبي خيثمة من حديث كعب بن عجرة رضي الله تعالى ¬
عنه: - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل، وذكر نحو حديث جابر، وفيه: "فَهَلاَّ بِكْرَاَ تَعَضُّهَا وَتَعَضُّكَ" (¬1). وروى أبو داود، والنسائي، وابن ماجه بإسناد صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سابق عائشة رضي الله تعالى عنها فسبقته، ثم سبقها، فقال: "هَذِهِ بِتِلْكَ" (¬2). وروى الإِمام أحمد، وأبو داود، والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل بعض أزواجه، ثم يصلي ولا يتوضأ (¬3). وروى التوقيعي في "جزئه" كما ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" من حديثها: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمص اللسان (¬4). وقال الإِمام الوالد رحمه الله تعالى في كتابه "فصل الخطاب": [من الرجز] ¬
86 - ومنها: إعجال الرجل أهله عند قضاء وطره؛ فإنه يكون بذلك متشبها بالبهيمة؛ فإن الحصان،
وَذَكَرَتْ عائِشَةٌ أَنَّ النَّبِيْ ... كانَ إِذا قَبَّلَ حالَ اللَّعِبِ بَعْضَ نِسائِهِ يَمُصُّ مِنْها ... لِسانَها أَخْرَجَ هَذا عَنْها ابْنُ عَدِيٍّ وَكَذا أُخْرِجَ عَنْ ... أَبِي هُرَيْرَةٍ بِإِسْنادٍ حَسَنْ رَفَعَهُ أَنَّ الإِلَهَ يَعْجَبُ ... مِنْ رَجُلٍ لأَهْلِهِ يُلاعِبُ فَيَكْتُبُ اللهُ لَهُ أَجْرَيْنِ ... وَيَجْعَلُ اللهُ بِهِ رِزْقَيْنِ لَهُ وَلِلزَّوْجَةِ ثُمَّ قِيلَ لا ... حَيوانَ غَيْرَ بَشَرٍ قَدْ قَبَّلا إِلاَّ الْحَمامَ إِنَّهُ يُقَبِّلُ ... وَمَعَهُ رَشْفًا وَمَصًّا يَفْعَلُ وما ذكره الشيخ من أنه ليس في الحيوانات ما يقبل عند السفاد نقله ابن قتيبة في "عيون الإخبار" عن المثنى بن زهير (¬1). 86 - ومنها: إعجال الرجل أهله عند قضاء وطره؛ فإنه يكون بذلك متشبهاً بالبهيمة؛ فإن الحصان، والحمار، والثور، ونحوها تضرب إناثها حتى إذا أنزلت نزعت، ولم تلتفت إلى حاجة الإناث. وقد نص على ذلك ابن الحاج في "المدخل" فقال: وينبغي أنه يراعي حق زوجته في الجماع، وأن يأتيها ليصون دينها، ويكون قضاء حاجته تبعًا لغرضها، فيحصل إذ ذاك عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "وَاللهُ فيْ عَوْنِ العَبْدِ مَا دامَ العَبْدُ فيْ عَوْنِ أَخِيْهِ" (¬2). انتهى؛ يعني: الحديث. ¬
قال: وكثير من الناس لا يعرف السنة في ذلك، فيأتي زوجته فيقضي حاجته منها، وهي لم تقض منه وطرًا كما تفعل البهائم، فيكون ذلك سببا لأحد شيئين: إما فساد دينها، وإما تبقى مشوشة ومتشوقة إلى غيره، انتهى (¬1). قلت: وقد نص صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - على هذا الأدب بعينه، وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو يعلى من حديث أنس - رضي الله عنه -: "إِذَا جَامَعَ أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيصْدُقْهَا، فَإنْ سَبَقَهَا فَلا يُعْجِلْهَا" (¬2). وفي - رواية: "إِذَا جَامَعَ أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيصْدُقْهَا، ثُمَّ إِذَا قَضَىْ حَاجَتَهُ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ حَاجَتَهَا فَلا يُعْجِلْهَا حَتى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا" (¬3). وروى ابن عدي عن طلق - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا جَامَعَ أَحَدُكُمْ امْرَأتَهُ فَلا يتَنَحَّى حَتى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا كَمَا يُحِبُّ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ" (¬4). ¬
87 - ومنها: أن لا يتقيد من له زوجتان فأكثر بالقسم،
87 - ومنها: أن لا يتقيد من له زوجتان فأكثر بالقسم، فيبيت عند من يشاء منهن، فيكون متشبهاً بالفحل إذا خلي بينه وبين الشول يضرب ما يشاء منها، وكالتيس والثور. ومن هنا استحب التسوية بين الزوجتين في النكاح -وإن لم يجب-. وبالجملة فإن الإنسان البالغ فرق ما بينه وبين سائر الحيوانات ربطه، وارتباطه بقيد الشرع ورِبْقة التكليف، فلا يختص تشبهه المذموم بالبهائم بنوع من الأنواع كترك التقيد بالقسم بين الزوجات، بل كل ما خرج فيه عن باب من أبواب الشرع في معاشه فهو به بالبهائم أشبه. وما أحسن ما قيل: [من الكامل] أَبُنَيَّ إِنَّ مِنَ الرِّجالِ بَهِيمَةً ... في صُورَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ الْمُبْصِرِ وأقول: [من المحدث] مَنْ لَيْسَ بِشَرْعِ اللهِ لَهُ ... قَيْدٌ يَحْمِيهِ عَنِ الأَشَرِ لا يَكْذِبُ مَنْ قَدْ قالَ لَهُ ... ما ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ البَشَرِ مَنْ خالَفَ فِيْ خُلُقٍ بَشَرًا ... يُلْحَقُ بِالشَّاءِ وَبِالبَقَرِ 88 - ومنها: التشبه في التقذر وترك النظافة والطهارة بالعِفْر -بكسر المهملة، وسكون الفاء- وهو ذكر الخنازير، وبإناثها، وبالجرد، والجعل، والكلاب، والحمر، والإوز، والدجاج، وغيرهم.
وفي المثل كما ذكره الزمخشري: أطفس من عفر: من الطفس، وهو الخبث والقذرة يضرب لمن لا يتعاهد الغسل، ولا يتنظف (¬1). وقال في "الصحاح": الطفس -بالتحريك-: الوسخ، والدَّرن (¬2). روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الله طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيْفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيْمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الجُوْدَ؛ فَنَظِّفُوْا أفنِيتَكُمْ وَلا تتشَبَّهُوْا بِالْيَهُوْدِ" (¬3). وروى البيهقي في "الشعب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الله يُبْغِضُ الوَسِخَ وَالشَّعِثَ" (¬4). وروى ابن أبي شيبة، والطبراني في "الكبير" عن سليمان بن صرد رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اسْتَاكُوْا، وَتَنَظَّفُوْا، وَأَوْترُوْا؛ فَإِنَّ الله وِتْرٌ يُحِبُّ الوِترَ" (¬5). ¬
89 - ومنها: التشبه بالبهائم والطير في ترك تقليم الأظفار وإزالة الشعور التي إزالتها من السنة، وترك السواك.
وروى ابن عساكر عن علي رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم قال: "اغْسِلُوْا ثِيَابَكُمْ، وَخُذُوْا مِنْ شُعُوْرِكُمْ، وَاسْتَاكُوْا، وَتَزَيَّنُوْا، وَتَنَظَّفُوْا؛ فَإِنَّ بَنيْ إِسْرَائِيْلَ لَمْ يَكُوْنُوْا يَفْعَلُوْنَ ذَلِكَ فَزَنَتْ نِسَاؤُهُمْ" (¬1). 89 - ومنها: التشبه بالبهائم والطير في ترك تقليم الأظفار وإزالة الشعور التي إزالتها من السنة، وترك السواك. روى الإِمام أحمد، والطبراني عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: "تَسْألني عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَتَدَعُ أَظْفَارَكَ كَأَظْفَارِ الطَّيْرِ يَجْتَمعُ فِيْهَا الخَبَاثَةُ وَالخبثُ وَالتَّفَثُ؟ " (¬2). وروى الدارقطني في "الأفراد" عن العباس رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسْتَاكُوْا، اسْتَاكُوْا، اسْتَاكُوْا؛ تأتُوْني قُلْحًا؟ " (¬3). ¬
90 - ومنها: التشبه بالبهائم في ترك الاغتسال من الجنابة خصوصا إذا حضرت الصلاة.
وأخرجه الحكيم الترمذي عن تمام بن عباس يرفعه: "اسْتَاكُوْا؛ مَا لَكُمْ تَدْخُلُوْنَ عَلَيَّ قُلْحَا؟ " (¬1). والقلح -بضم القاف، وإسكان اللام-: جمع أقْلُح، والقلح: صفرة في الأسنان. 90 - ومنها: التشبه بالبهائم في ترك الاغتسال من الجنابة خصوصاً إذا حضرت الصلاة. كذلك إذا لم تغتسل المرأة من الحيض، فإنها تشبه ما يحيض من الدواب كالأرنب. بل مهما حضر وقت تؤدى فيه طاعة وتأخر عنها العبد، ولم يؤدها فهو أشبه شيء بالبهيمة؛ كترك الصلاة، والاشتغال عنها في وقتها، وترك التسمية عند الأكل والشرب، والنكاح، ودخول المسجد، والبيت، والخلاء، وترك الحمد عند الفراغ من الأكل والشرب، وعند لبس الثوب الجديد، وعند العطاس، وترك تشميت إذا حمد، وترك السلام ورده، وكذلك ترك سائر الآداب كل أدب في ¬
محله، وترك الاستغفار والتوبة من الذنب؛ فإن البهائم لا تعقل شيئًا من ذلك، ولا تفعله، ولا هي مكلفة به، فإذا تشبه بها في ذلك كسب النزول إلى حضيض البهيمة، وحرم ثواب ما ترك من هذه الآداب، وجاء بإثم ما ترك من الفرائض. وكذلك الجزع عند المصيبة، وترك الاسترجاع يكون العبد متشبهًا فيه بالبهيمة، وإن انضم إلى ذلك نواح أو ولولة أو صراخ كان في ذلك شبيها بالكلاب العاوية. ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ هَذهِ النَّوَائِحَ يُجْعَلْنَ يَوْمَ القَيِامَةِ صَفَّيْنِ في جَهَنَّمَ: صَفٌّ عَنْ يَمِيْنهِمْ، وَصَفٌّ عَنْ يَسَارِهِمْ، فَيَنْبَحْنَ عَلَىْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا تَنْبُحُ الكِلابُ". رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). وكذلك إذا كان العبد في نعمة -خصوصاً إذا فجأته- فلم يشكر الله تعالى، أو أحسن إليه محسن من الناس بإنعام أو إكرام، فلم يشكره، كان في ذلك كالبهيمة التي يعلفها صاحبها، ويحسن الكَلأ رعيها، فلا يكون له منها شكر ولا مكافأة. فإن قابل الإحسان بالإساءة كان كالبغل بالخصوص يهيئ له سائِسُه العلف، وهو يهئ له الرفس، بل هو شيطان مريد. ¬
91 - ومنها: تشبه المرأة في الصخب على زوجها، والتنكيد بالوع والوعوع، وهو ابن آوى.
91 - ومنها: تشبه المرأة في الصخب على زوجها، والتنكيد بالوع والوعوع، وهو ابن آوى. قال في "القاموس": والثعلب من الوعوعة، وهي أصوات الكلب ونحوها (¬1). روى الخطيب عن علي - رضي الله عنه - قال: النساء أربع: القرثع، والوعوع، والغل الذي لا ينزع، وجامعة تجمع؛ فأما القرثع فالسمجة، وأما الوعوع فالسخابة، وأما الغل الذي لا ينزع فالمرأة السوء لرجل منها أولاد لا يدري كيف يتخلص، وأما الجامعة التي تجمع فهي التي تجمع الشمل وتلم الشعث (¬2). والقرثع -بضم القاف، والمثلثة، بينهما راء ساكنة-: فسرت في الحديث بالسمجة؛ أي: القبيحة. وقال في "القاموس": المرأة الجريئة القليلة الحياء، والبلهاء (¬3). قال صاحب "الصحاح": وسئل أعرابي عنها، فقال: هي التي تكحل إحدى عينيها وتترك الأخرى، وتلبس قميصها مقلوبًا (¬4). 92 - ومنها: تشبه المرأة أيضًا في الضَّراوة والسَّلاطة على ¬
زوجها، أو ضرتها، أو جارتها بالذئبة ونحوها. قال القمي: من أمثالهم: أسلط من سِلقة، وهي الذئبة (¬1). قال الزمخشري: من السلاطة، وهي شدة الصخب، وسوء اللسان (¬2). وقلت: [من الرجز] وَامْرَأة أَسْلَطُ مِنْ سِلْقَةْ ... أَصْبَحَ مِنْها البَعْلُ في رِبْقَةْ أَوْلادُهُ مِنْها فَما إِنْ لَهُ ... مِنْها خَلاصٌ لا وَلا فُرْقَةْ لا إِنْ شَكى يُشْكَى وَلا إِنْ بَكا ... يُرْثَى لَهُ مِنْ هَذِهِ الْحُرْقَةْ تَقْرُصُ كَالأَفْعَى وَلَكِنَّها ... تَرْقُصُ رَقْصَ الذِّئْبِ وَالإنْقَةْ هذا البلاء المستعاذ برب العرش منه هي من حقه. والإنقة مؤنث الإنق -بكسر الهمزة فيهما-، وهو الذئب. قال في "الصحاح": وربما قالوا للقرد: إلقة، ولا يقال للذكر -أي: من القرود- إلقة، ولكن قرد رُبَّاح؛ أي: كَرُمَّان، وهذا المعنى الثاني هو الذي أردته في البيت (¬3). وقد وقع تشبيه المرأة السوء بالذئبة الغبشاء، وهي التي تغبش في الغبش في شعر الأعشى المازني الذي أنشده للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عبد ¬
الكريم بن السمعاني في "ذيل تاريخ بغداد" عن الجنيد بن أمين بن ذروة بن نضلة بن طريف بن بهضل، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه نضلة ابن طريف: أن رجلًا منهم يقال له: الأعشى، واسمه: عبد الله بن الأعور، كان عنده امرأة منهم يقال لها: معاذة، فخرج يَمير أهله من هجر، فهربت امرأته من بعده، فأنشزت عليه، فعاذت برجل منهم يقال له: مطرف بن بهضل، فأتاه فقال له: يا ابن عم! عندك امرأتي معاذة فادفعها إلي. قال: ليست عندي، ولو كانت عندي لم أدفعها إليك. وكان مطرف أعز منه، فخرج حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعاذ به، فأنشأ يقول: [من الرجز] يا سَيِّدَ النَّاسِ وَديانَ العَرَبْ ... إِلَيْكَ أَشْكُو ذرْبَةً مِنَ الذَّرَبْ كَالذئْبَةِ الغَبْشاءِ في ظِلِّ السَّرَبْ ... خَرَجْتُ أَبْغِيها الطَّعامَ في رَجَبْ فَخَلَّفَتْنِي بِنَزاعٍ وَهَرَبْ ... أَخْلَفَتِ الوَعْدَ وَلَطتْ بِالذَّنَبْ وَهُنَّ شَرُّ غالِبٍ لِمَنْ غَلَبْ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَهُن شَرُّ غَاِلبٍ لِمَنْ غَلَبْ". فشكا إليه امرأته، وأنها عند رجل منهم يقال له: مطرف بن بُهضُل، فكتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابًا: "انْظُرِ امْرَأةَ هَذا مُعاذَةَ فَادْفَعْها إِلَيهِ". قال: فقرئ عليه كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا معاذة! هذا كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيك، وأنا دافعك إليه.
قالت: فخذ لي عليه العهد والميثاق، وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يعاقبني فيما صنعت. فأخذ لها ذلك عليه، ودفعها مطرف إليه. أخرجه أبو الفتح بن سيد الناس في كتابه "منح المدح" بنحوه (¬1). وفي "الصحاح": امرأة ذربة صخابة، وذِرْبة أيضًا مثل قربة، وأنشد البيت (¬2). وقال في "القاموس": الذِربة -بالكسر-: السليطة (¬3). وأنشد الشيخ تاج الدين السبكي في "طبقاته" لأعرابي قيل له: من لم يتزوج امرأتين لم يذق حلاوة العيش، فتزوج امرأتين، فندم، ثم أنشأ يقول: [من الوافر] تَزَوَّجْتُ اثْنتَيْنِ لِفَرْطِ جَهْلِي ... بِما يَشْقَى بِهِ زَوْجُ اثْنتَيْنِ فَقُلْتُ أَصِيرُ بَيْنَهُما خَرُوفًا ... أُنَعَّمُ بَيْنَ أَكْرَمِ نَعْجَتَيْنِ فَصِرْتُ كَنَعْجَةٍ تُضْحِي وَتُمْسِي ... تُداوَلُ بَيْنَ أَخْبَثِ ذِئْبَتَيْنِ رِضَى هَذِي يُهيِّجُ سُخْطَ هَذِي ... فَما أَعْرَى مِنْ إِحْدى السَّخْطَتَيْنِ وَألْقى في المَعِيشَةِ كُلَّ بُؤْسٍ ... كَذاكَ الضَّرُّ بَيْنَ الضَرَّتَيْنِ ¬
تنبيه
لِهَذِي لَيْلَةٌ وَلِتِلْكَ أُخْرَى ... عِتابٌ دائِمٌ في اللَّيْلَتَيْنِ (¬1) * تنبِيهٌ: المرأة -وإن كانت المغيرة مكتوبة عليها، وأقيم للغيراء العذر بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا تَدْرِيْ الغَيْرَاءُ أَعْلَىْ الوَادِي مِنْ أَسْفَلِه" كما ذكره التجاني في "تحفة الفردوس" (¬2)؛ حتى قال مالك، وغيره من علماء المدينة بإسقاط الحد عن المرأة إذا قذفت زوجها على وجه الغيرة- فإن الأكمل في حقها الصبر والتسلي؛ فإن تزوُّج الرجل بأكثر من واحدة شيء رخص فيه للرجال لتكون راضية بحكم الله تعالى، حاصلة على الثواب الذي أعده الله تعالى لها على ذلك. روى الطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ تَعَالى كَتَبَ الغَيْرَةَ عَلَىْ النِّسَاءِ وَالجِهَادَ عَلَى الرِّجَالِ؛ فَمَن صَبَرَ مِنْهُنَّ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا كَانَ لهَا مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيْدِ" (¬3). ولمَّا كانت الغيرة من المرأة مكدرة بينها وبين الرجل، منغصة لعيشتهما، شاغلة لقلوبهما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: يا رسول الله! ألا تتزوج من الأنصار؟ ¬
93 - ومنها: التشبه بالعضرفوط في قلة الأدب مع القبلة، وترك الآداب؛ وهي دويبة لا خير فيها.
قال: "إِنَّ فِيْهِمْ لَغَيْرَةً شَدِيْدَة". رواه النسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). ولما كانت الغيرة قل أن يسلم منها امرأة بشهادة حديث ابن مسعود المتقدم قال الفقهاء: يستحب للرجل ألا يزيد على امرأة واحدة إلا إذا لم يتحصن إلا بأكثر من واحدة. 93 - ومنها: التشبه بالعضرفوط في قلة الأدب مع القِبلة، وترك الآداب؛ وهي دويبة لا خير فيها. وقيل: هي ذكر العظاه، تذكر الأعراب أنها لا تبول قط إلا شغرت ببولها تلقاء القبلة (¬2). ومن عادة الكلب أنه إذا بلغ السفاد بال كذلك شاغراً برجله لأي جهة كانت، لا يبالي معظمة كانت تلك الجهة أو غير معظمة. ويشبه الكلب في ذلك من يبول إلى جدران المساجد ولو من ظاهرها، أو يستجمر بها، وذلك حرام. 94 - ومنها: التبختر في المشي تشبهاً بالديك، والغراب، والطاوس لأنها تتبختر في مشيها. ولذلك قالوا في المثل: أخيل من ديك، ومن غراب، وأزهى من طاوس؛ كما تقدم. ¬
95 - ومنها: مصاحبة أهل الشر، ومجامعتهم على الظلم،
وقال الراجز: [من الرجز] سُبْحانَ مَنْ مِنْ خَلْقِهِ الطَّاووسُ ... طَيْرٌ عَلى أَشْكالِهِ رَئيسُ في الوَشْيِ مِنْهُ ركبتْ فلوسُ ... كَأَنَّهُ في مَشْيِهِ عَرُوسُ (¬1) 95 - ومنها: مصاحبة أهل الشر، ومجامعتهم على الظلم، ومجالستهم في غير طاعة الله تعالى تشبهاً بالغراب، والذئب في وقوعها على الجيف مع أنهما غير متجانسين. وقد قالت العرب في أمثالها: كالغراب والذئب؛ يضرب للرجلين بينهما موافقة لا يختلفان (¬2)، وإذا اتفقا على المكروه كان المثل فيهما أظهر؛ لأن الذئب إذا أغار على الغنم تبعه الغراب ليأكل ما فضل منه. وأتباع الظلمة أشبه الناس بالغربان إذا لحقوا بهم لينالوا مما ينالونه من غصب الناس وظلمهم. 96 - ومنها: أن يحاول الإنسان مرتبة لا تليق به التحاقاً بأرباب المراتب، فربما رين به دون بلوغ مطلوبه، وربما أراد العود إلى مرتبته فلا يطيقها، وهو في ذلك متشبه بالعلق والغراب. وفي أمثال العامة: إن العلقة إذا أرادت مطاولة الحية تقطعت ولم تبلغ طولها. ¬
97 - ومنها: التشبه في سرعة الغضب بالخنفساء، وفي شدته بالنمر.
وتزعم العرب أن الغراب نظر إلى الحمامة تمشي، فأراد محاكاتها في مشيه، فنسي مشيه، ولم يبلغ مشيها حتى قال الشاعر: [من الكامل] إِنَّ الغُرابَ وَكانَ يَمْشِي مَشْيَهُ ... فِيما مَضَى مِنْ سالِفِ الأَحْوالِ حَسَدَ القَطاةَ وَكانَ يَمْشِي مَشْيَها ... فَأَصابَهُ ضَرْبٌ مِنَ التَّعْقالِ فَأَضَلَّ مِشْيَتَهُ وَأَخطَأَ مَشْيَها ... فَلِذَاكَ سَمَّوْهُ أَبا الْمرْقالِ (¬1) 97 - ومنها: التشبه في سرعة الغضب بالخنفساء، وفي شدته بالنمر. ومن أمثالهم: هو أسرع غضباً من فاسية وهي الخنفساء؛ وذلك لأنها إذا تحركت فست وفاح نتنها (¬2). وقالوا: إن النمر أخبث من الأسد؛ فإنه لا يملك نفسه عند الغضب حتى يبلغ من شدة غضبه أنه يقتل نفسه (¬3). ويقال: إنه أشد السباع حَرَداً إذا حرب. وقال الأصمعي: يقال: تنمر فلان له؛ أي: تنكر، وتغير، وأوعده؛ لأن النمر لا تلقاه أبدًا إلا متنكراً غضبان (¬4). واللائق بالإنسان المفضَّل بالعقل عن سائر الحيوان أن يملك ¬
بعقله نفسه عند الغضب، وإلا كان سبعًا كاسراً، أو شيطاناً مريداً كما تقدم في التشبه بالشيطان. روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل: يا رسول الله! مرني بعمل، وأقلل. قال: "لا تَغْضَبْ". ثم أعاد عليه، فقال: "لا تَغْضَبْ" (¬1). وروى أبو يعلى بسند حسن، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل لي قولًا، وأقلل لعلي أعقله. فقال: "لا تَغْضَبْ". فأعدت عليه مرتين؛ كل ذلك يرجع إلي: "لا تَغْضَبْ" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا، والطبراني في "معجمه الكبير"، و"الأوسط" بإسناد حسن، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله! دُلَّني على عمل يدخلني الجنة. قال: "لا تَغْضَبْ" (¬3). ¬
وروى الإِمام أحمد عن عبد الله بن عمرو (¬1) رضي الله تعالى عنهما: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه الطبراني في "مكارم الأخلاق"، وابن عبد البر في "التمهيد" بإسناد حسن، عنه قال؛ سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يبعدني من غضب الله؟ قال: "لا تَغْضَبْ" (¬2). وروى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا تَعُدُّوْنَ الصُّرَعَةَ فِيْكُمْ؟ ". قلنا: الذي لا يصرعه الرجال. قال: "لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ" (¬3). وروى البيهقي في "الشعب" بإسناد جيد، عن عبد الرحمن بن عجلان مرسلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَشَدُّكُمْ مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ" (¬4). وهو عند ابن أبي الدنيا بسند ضعيف، من حديث علي - رضي الله عنه -، ¬
وزاد فيه: "وَأَحْلَمُكُمْ مَنْ عَفَا بَعْدَ القُدْرَةِ" (¬1). وروى البيهقي بسند ضعيف، من حديث علي رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيرُ أُمَّتي أَحِدَّاؤهَا؛ الذِيْنَ إِذَا غَضِبُوْا رَجعُوْا" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في "الصمت"، والبيهقي في "الشعب" بإسناد حسن، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ كَفَّ لِسَانهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرتَهُ، وَمَنْ مَلَكَ غَضَبَهُ وَقَاهُ اللهُ عَذَابَهُ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إِلى اللهِ قَبِلَ اللهُ عُذْرَهُ" (¬3). وروى البزار، وابن عدي في "الكامل" بإسناد ضعيف، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِلنَّارِ بَابٌ لا يَدْخُلُهُ إلا مَنْ شَفَىْ غَيْظَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ" (¬4). ¬
98 - ومنها: التشبه بالحمار ونحوه في عدم التأثر من الكلام الفاحش،
وروى ابن السني في "عمل اليوم والليلة" من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غضبت عائشة أخذ بأنفها، وقال: "يَا عُوَيْشُ! قُوْلي: اللهُمَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ! اغْفِرْ لي ذَنْبي، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبي، وَأَجِرْني مِنْ مُضِلاَّتِ الفِتَنِ" (¬1). 98 - ومنها: التشبه بالحمار ونحوه في عدم التأثر من الكلام الفاحش، وفي الإقامة على الذل، والرضا به في غير حق. روى أبو نعيم عن الربيع قال: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: من استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استرضي فلم يرض فهو شيطان. وفي رواية: ومن غضب، فاسترضي، فلم يرض فهو شيطان. وفي راوية: ومن استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استرضي فلم يرض فهو شيطان (¬2). وفي رواية: ومن غضب، فاسترضي ولم يرض فهو جبار (¬3). قال الباخرزي: [من المنسرح] ما لِي أَرى النَّاسَ يَأخُذُونَ ويعـ ... ـطونَ وَيسْتَمْتِعُونَ بِالنَّشَبِ ¬
99 - ومنها: أن يعجب الإنسان بعقله ومعرفته،
وَأَنْتَ مِثْلَ الْحِمارِ أَبْكَمُ لا ... تَشْكُو جِراحًا بِأَلْسُنِ العَرَبِ (¬1) وقال آخر: [من البسيط] وَلا يُقِيمُ عَلى ضَيْمٍ يُسامُ بِهِ ... إِلاَّ الأَذَلاَّنِ عَيْرُ الْحَيِّ وَالوَتَدُ هَذا عَلى الْخشفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ ... وَذا يُشَجُّ فَلا يَرْثي لَهُ أَحَدُ (¬2) وروى الإِمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، والإمام أحمد، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الشعب" عن علي، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ". قالوا: كيف يذل [نفسه]. قال: "يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلاءِ مَا لا يُطِيْقُ" (¬3). 99 - ومنها: أن يعجب الإنسان بعقله ومعرفته، وهو من البلادة على جانب لا يتنبه، وإن نبه فيكون في جهله المركب أشبه شيء بالحمار. وقال الزمخشري: يقال: أبلد من ثور، ومن سُلَحْفاة. وذكر من أمثالهم: إنما طعام فلان القفعاء والتأويل، قال: وهما نَبْتان يأكلهما الحمار، يضرب لمن استبلد فهمه (¬4). ¬
100 - ومنها: التشبه بالحمار في رد الكرامة.
وفي أمثال العامة: ماذا يعرف الحمير بأكل الزنجبيل. وقيل في توما الحكيم، وكان يأتي من يطبهم على حمار: [من مخلع البسيط] قالَ حِمارُ الْحَكِيمِ توما ... لَوْ أَنْصَفُوني لَكُنْتُ أَرْكَبْ لأَنَّنَي جاهِلٌ بَسِيطٌ ... وَصاحِبِي جاهِلٌ مُرَكَّبْ (¬1) 100 - ومنها: التشبه بالحمار في رد الكرامة. روى سعيد بن من منصور في "سننه" عن محمَّد بن علي؛ وهو محمَّد بن الحنفية قال: أُلقي لعلي رضي الله تعالى عنه وِسادة فقعد عليها، وقال: لا يأبى الكرامةَ إلا حمارٌ (¬2). وأخرجه الديلمي عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما - مرفوعًا (¬3). وهذا الأثر دائر على الألسنة بلفظ: إلا لئيم، والمعنى متقارب. وذكر حجة الإِسلام في "الإحياء": أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - اجتمع هو وثابت البناني على طعام، فقدم أنس بن مالك الطست إليه، فامتنع، فقال: إذا أكرمك أخوك فاقبل كرامته، ولا تركها؛ فإنما يُكْرِم الله تعالى (¬4). ¬
101 - ومنها: التشبه بالحمار وغيره من البهائم في عدم الانزجار عن الشيء إلا بالإهانة، والضرب بالسوط ونحوه.
101 - ومنها: التشبه بالحمار وغيره من البهائم في عدم الانزجار عن الشيء إلا بالإهانة، والضرب بالسَّوط ونحوه. روى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن سفيان بن عيينة قال: قال أمير المؤمنين علي - رضي الله تعالى عنه - للناس: عاقبتكم بالدِّرَّة التي يعاقب بها أولي النهي، وعاقبتكم بالسوط الذي يعدل به الإبل. وذكر ابن سعد في "طبقاته": أن أول من اتخذ الدِّرَّة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قال: ولقد قيل بعده: لَدِرَّةُ عمر أَهيبُ من سوطكم (¬1). قلت: وإنما كان لأمرين: الأول: قوة عمر - رضي الله عنه - وصلابته في الدين، وخوفه من الله تعالى، فكانت له هيبة تكفيه معها الدِّرَّة. والثاني: أن الناس كانوا قريبي عهد من الإِسلام، وكان للإسلام حدة ووقار، وللناس إذ ذاك حياء موفر، فكانت دِرَّة عمر تكفيهم في رد من انحرف منهم عن جادة الاستقامة. ثم لما تبدت في الناس مَخَايل الخلاف وأوائل الانحراف احتاجوا إلى زيادة في التخويف والعقوبة. وقد روى عبد الله ابن الإِمام أحمد عن ابن جدعان قال: كان عمر ¬
رضي الله تعالى عنه قد اتخذ دِرَّة، فلما جاء عثمان رضي الله تعالى عنه اتخذ دِرَّة أشد منها (¬1) -وذلك لما بيناه- ثم لما تفاقم الأمر في زمن علي رضي الله تعالى عنه اتخذ دِرَّة كدِرَّة عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما، واتخذ مع ذلك سوطًا كما تقدم عن ابن عيينة. قلت: وما زال الشر يزداد ويتقاحم الناس فيه حتى اتخذ لهم الملوك والأمراء أنواع العقوبات، وألوان العذاب والتمثيلات، وتجاوزوا أحكام الشريعة في ذلك، وتعدوا حدودها؛ فإن الشرع ينهى عن المُثْلة، ولم يرجع الناس عن مثل ما صدر ممن مثل به منهم عليه. ولقد ذاكرت بعض الأمراء في السياسات التي أحدثوها وتفننوا في تلوينها، فاعتذر عن ذلك بأنهم قصدوا بذلك الزيادة في الردع. فقلت: لو اتبعوا الشرع في الحدود والتأديب لكان أبلغ من هذه المُثُل التي أحدثوها وسمَّوها سياسة. فقال لي: لم أفهم كون الشرع أبلغ من السياسة. فقلت له: يظهر لك هذا بمثالين: الأول: إنكم تأخذون الزاني فتغرِّمونه المال أو تقتلونه، ولو جلد البكر وغُرِّب عن وطنه عامًا، ورجم المحصن بمشهد من الناس حتى يموت، لكان أبلغ في الزجر عن الزنا. فتأمل، ثم قال لي: صدقت. ¬
102 - ومنها: التشبه بالحمار ونحوه بالنعاس عند مذاكرة العلم، واستماع الموعظة، وتلاوة القرآن.
قلت: والمثال الثاني: أنكم تأخذون السارق فتغرمونه أو تقتلونه، ولا تأمرونه برد السرقة إلى صاحبها, ولو فعلتم بالشرع فقطعت يده اليمنى، وإن عاد قطعت رجله اليسرى، بقي في الناس عَجَباً كل من يراه ينزجر عن مثل فعله، فإن هذا أبلغ من القتل؛ فإن المقتول يوارى عن الأعين سريعا فينساه الناس، وهذا يبقى بين الناس. فقال لي: صدقت. وكان هذا الأمير أمير الحاج الشامي، وكانت هذه المذاكرة في الطريق ذهاباً، فلما رجعنا من الحج ثبت على رجل سرقة نصاب، فلما عرض على الأمير تذكَر ما ذاكرته، فقال: اذهبوا فاقطعوا يده. فألقى السارق نفسه على قدمي الأمير يقبل خفيه، ويقول له: أنت في حل من دمي، فاقتلني، لا تقطع يدي فأبقى مشهورًا بين الناس. فقال له: هذا حكم الشرع. ثم رأيت هذا الأمير بعد مدة، فقال لي: لقد ظهر لي حقيقة ما ذكرتم من أن الشرع أبلغ من السياسة، وذكر لي قصة السارق. 102 - ومنها: التشبه بالحمار ونحوه بالنعاس عند مذاكرة العلم، واستماع الموعظة، وتلاوة القرآن. روى الدينوري في "المجالسة" عن خالد بن صفوان رحمه الله تعالى: أن رجلًا قال له: إني إذا رأيتكم تتذاكرون الأخبار، وتتدارسون الآثار, وتتناشدون الأشعار؛ وقع عليَّ النعاس.
103 - ومنها: التشبه بالحمار ونحوه أيضا في التكلم والخطيب على المنبر.
قال: لأنك حمار في مثال إنسان (¬1). 103 - ومنها: التشبه بالحمار ونحوه أيضًا في التكلم والخطيبُ على المنبر. فإن ذلك لا يمنع الحمار من النهيق، ولا الثور من الخُوار، ولا البعير من الرُّغاء، ولا الكلب من النباح، فمن لم يمتنع حينئذ من الكلام أشبه الناس بهذه الدواب. روى الإِمام أحمد بإسناد حسن، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الَّذِي يتكلَّمُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَالَّذِي يَقُوْلُ لَهُ: أَنْصِتْ، لا جُمُعَةَ لَه" (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن علقمة: أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال لرجل كلَّمَ صاحبه يوم الجمعة والإمامُ يخطب: أما أنت فحمار، وأما صاحبك فلا جمعة له (¬3). 104 - ومنها: التشبه بالحمار في مسابقة الإِمام في أفعال الصلاة من حيث إنه لم يتقيد في أفعاله، كما أن الحمار لم يتقيد في أفعاله. ¬
105 - ومنها: التشبه بالكلب، وسائر السمع، والقرد،
روى الأئمة الستة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ أَنِ يَجْعَلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ اللهُ صُوْرتهُ صُوْرَةَ الحِمَارِ" (¬1). 105 - ومنها: التشبه بالكلب، وسائر السمع، والقرد، والكلب، والحمار، والبعير، والديك في أفعالٍ نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. روى الإِمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاث: نَقْرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب (¬2). وروى أبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله تعالى عنه -وليس له في الكتب الستة سوى هذا الحديث (¬3) - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المصلي عن نقرة الغراب (¬4). وأخرجه الحاكم، ولفظه: نهى عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، ¬
وأن يُوطِّن المكان كما يوطنه البعير (¬1). قال البغوي في "شرح السنة": نقرة الغراب: هي أن لا يتمكن من السجود ولا يطمئن فيه، بل يمس بانفه وجبهته الأرض، [ثم يرفعه كنقرة الطائر، وافتراش السبع: أن يمد ذراعيه على الأرض] ولا يرفعهما، انتهى (¬2). وروى الإِمام أحمد، والأئمة الستة عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اعْتَدِلُوْا في سُجُوْدِكُمْ، وَلا يَبْسُطْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الكَلْبِ" (¬3). وفي الباب عن عائشة، وجابر، وغيرهما (¬4). وأما إيطان البعير، فقال أبو سليمان الخطابي: فيه وجهان: أحدهما: أن يَأْلَف الرجل مكاناً معلوما من المسجد لا يصلي إلا فيه، كالبعير لا يأوي من عَطَنه إلا إلى مَبْرَك رمث قد أوطنه. والوجه الآخر: أن يبرك على ركبتيه إذا أراد السجود بروك البعير على المكان الذي أوطئه، ولا يهوي فيثني ركبتيه حتى يضعهما ¬
بالأرض على سكون ومَهَل، انتهى (¬1). قلت: وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى الأخير فيما رواه أبو داود، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ البَعِيْرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ" (¬2). وقوله: وإقعاء كإقعاء الكلب؛ وَرَدَ النهيُ عنه في أحاديث أُخر. روى الترمذي عن علي رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يَا عَلِيُّ! أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِيْ؛ لا تُقْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ" (¬3). ورواه ابن ماجه، ولفظه: "لا تُقْعِ إِقْعَاءَ الكَلْبِ" (¬4). وروى ابن أبي شيبة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: نهاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - أن أقعي كإقعاء القرد (¬5). وروى الإِمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه، والبيهقي ¬
في "السنن" عن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإقعاء في الصلاة (¬1). وذهب جماعة من أهل العلم إلى استحباب الإقعاء. فرواه ابن أبي شيبة عن جابر، وأبي سعيد الخدري، وعن طاوس، ومجاهد (¬2). ورواه هو وعبد الرزاق عن العبادلة؛ ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير (¬3). ورويا عن عكرمة: أنه سمع ابن عباس يقول: الإقعاء في الصلاة هو السنة (¬4). والحق أن الإقعاء على نوعين: أحدهما، ويقال له: الافتراش: وضع الأَليتين بباطن القدمين، وهو الذي كان يفعله هؤلاء، وهو الذي أراده ابن عباس بقوله: هي السنة. بدليل ما رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة بسند صحيح، عن ¬
طاوس، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: من السنة أن تضع أليتيك على عقبيك في الصلاة (¬1). وفي رواية لعبد الرزاق بإسناد صحيح، عن طاوس قال: قلنا لابن عباس: ما الإقعاء على القدمين؟ فقال: هي السنة. فقلنا: إنا لنراه جفاء بالرجل. قال ابن عباس: بل هي سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - (¬2). والثاني: الجلوس على الوَركين مع نصب الفخذين، وهو المراد بالنهي، كما يفهم من تقييد الإقعاء بإقعاء الكلب، وإقعاء القرد. واشترط أبو عبيدة أن يضع يديه مع ما تقدم بالأرض؛ إذ بذلك يتم التشبه بإقعاء الكلب، والقرد (¬3). والأصح: لا يشترط ذلك، وهذه الهيئة هي المكروهة؛ كرهها علي، وأبو هريرة، والنخعي، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم (¬4). ¬
ورُفع إلى شيخ الإِسلام الوالد - رحمه الله تعالى - في ذلك سؤال صورته: [من الكامل] ما قَوْلُكُمْ يا سَيّدَ الفُقَهاءِ ... في العَصْرِ بَلْ يا أَوْحَدَ العُلَماءِ في مُشْكِلٍ أَمْرِ النَّبِيِّ وَنَهْيِهِ ... جاءا مَعاً فِي جِلْسَةِ الإِقْعاءِ ما الْجَمْعُ بَيْنَهُما وَهَلْ صَحَّا مَعاً ... أَوْ لا فَبَيّنْ ذاكَ يا مَولاءِ لا زِلْتَ كَهْفاً لِلأَنامِ وَمَلْجَأً ... ما عُوقِبَ الإِصْباحُ بِالإِمْساءِ وَبَقِيتَ في عِزٍّ وَسَعْدٍ دائِمٍ ... وَسَعادَةٍ لا تَنْقَضِي وَهَناءِ فأجاب عنه بقوله رحمه الله تعالى: [من الكامل] مِنْ بَعْدِ حَمْدِ الله ذِي الآلاءِ ... حَمْداً كَثِيرًا جَلَّ عَنْ إِحْصاءِ قَدْ صَحَّ عَنْ هادِي الأَنامِ مُحَمَّدٍ ... أَمْرٌ وَنَهْيٌ مِنْهُ عَنْ إِقْعاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُما بِأَنَّ الأَمْرَ فِي ... شَيْءٍ وَأَنَّ النَّهْيَ في أَشْياءِ فَالأَمْرُ وَضْعُ الأَلْيَتَيْنِ بِباطِنِ الـ ... أَقْدامِ وَافْرُشْها كَالاسْتِلْقاءِ وَالنَّهْيُ لِلوَرْكَيْنِ تَجْلِسُ ناصِباً ... فَخِذَيْكَ مِثْلَ الذِّئْبِ وَالعَوَّاءِ وأَبُو عُبَيْدَةَ زادَ وَضْعَ يَدَيْهِ مَعْ ... هَذا بِأَرْضٍ أَوْ بِنَحْوِ وِطاءِ أَوْ غَيْرِ هَذا وَالْكَراهَةَ قَدْ حَكَوْا ... في الْكُلِّ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الفُضَلاءِ هَذا جَوابُ مُحَمَّدِ الغَزِّيِّ مَنْ ... يَرْجُو مِنَ الرَّحْمَنِ خَيْرَ عَطاءِ ثُمَّ الصلاةُ عَلى النَّبِيِّ وَآلِهِ ... وَالصَّحْبِ وَالأَتْباعِ وَالْعُلَماءِ
لطيفة
* لَطِيفَةٌ: ذكر ابن قتيبة في "عيون الأخبار": أن مَّما يُتحاجى به: ما شيءٌ إذا قام أقصر منه إذا قعد؛ يريدون الكلب لأن قعوده إقعاء (¬1). وقلت في المعنى: [من الهزج] أَلا قُلْ لِلَّذِي أَضْحَى ... لِنُورِ الْعِلْمِ مُقْتَبِسا فَما شَيْءٌ يُرى إِنْ قا ... مَ أَقْصَرَ مِنْهُ إِنْ جَلَسا أو يقال، وهو أفقه: [من الهزج] أَلا قُلْ لِلَّذِي أَضْحى ... بِرُكْنِ العِلْمِ مُعْتَمِدا فَما شَيْءٌ يُرى إِنْ قا ... مَ أَقْصَرَ مِنْهُ إِنْ قَعَدا وقوله في الحديث السابق: "والتفات كالتفات الثعلب"؛ فيه إشارة إلى أن الالتفات المنهي عنه في الصلاة هو ما كان لغير حاجة، بل لمجرد العبث والتلهي كما يلتفت الثعلب، فلو كان الالتفات لحاجة لم يكره؛ لما رواه أبو داود عن سهل بن الحنظلية رضي الله تعالى عنه قال: ثُوِّبَ في الصلاة؛ يعني: صلاة الصبح، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب. قال أبو داود: كان أرسل فارسًا إلى الشِّعب من الليل يحرس (¬2). ¬
وروى الدارقطني عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلا يدبحُ كَمَا يدبحُ الحِمَارُ، وَلَكِنْ لِيُقِمْ صُلْبَهُ" (¬1). وروى نحوه عن علي، وأبي موسى رضي الله تعالى عنهما (¬2). والتدبيح -بالدال المهملة، والمعجمة أيضًا- هو: أن يقبب ظهره، ويطأطئ رأسه. وحكى صاحب "الصحاح" في فصل الدال المهملة: دبخ -بالخاء المعجمة، والمهملة- عن أبي عمرو، وابن الأعرابي (¬3). والمراد: أن يطاطئ رأسه في الركوع حتى يكون أخفض من ظهره، والسنة أن يسوي بين ظهره ورأسه. ففي "مسلم" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع لم يُشْخِصْ رأسه، ولم يُصَوِّبه، ولكن بين ذلك (¬4). وفي "البخاري" عن أبي حميد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
فائدة
كان إذا ركع أمكن يديه على ركبتيه، ثم هَصَرَ (¬1) ظهره (¬2)؛ أي: ثناه إلى بطنه. وفي حديث سعد رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تَخْبُطُوْا خَبْطَ الجَمَلِ، وَلا تَمُطُّوْا يَاءَ آمِيْنَ". ذكره البغوي في "شرح السنة"، ثم قال: وأصل الخبط: ضرب البعير الشيء بخفه، انتهى (¬3). والسنة أن ينهض في الصلاة على صدور قدميه، ولا يقدم إحدى الرجلين على الأخرى عند النهوض كما يقوم البعير ويخبط بيده. وروى عبد الرزاق عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه كان يقول: إذا سلم الإِمام فانصرف حيث كانت حاجتك يمينا أو شمالاً، ولا تستدر استدارة الحمار (¬4). والسنة أن ينصرف المصلي حيث يكون له حاجة يمينًا أو شمالاً، فإذا استوى الجانبان انصرف حيث شاء، واليمين أولى. * فائِدَةٌ: في الحديث عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه: أنه دخل المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكع، فركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف، فلما قضى ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: "أيُّكُمُ الَّذِي رَكَعَ دُوْنَ الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى إِلى الصَّفِّ؟ ". فقال أبو بكرة: أنا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "زَادَكَ اللهُ حِرْصَا، وَلا تَعُدْ" (¬1). اختلف في قوله: "وَلا تَعُدْ" فقيل: إلى الإحرام خارج الصف. وأنكره ابن حبان، وقال: لا تعد إلى الإبطاء في المجيء إلى الصلاة (¬2). وقال غيره: لا تعد إلى إتيان الصلاة مسرعا، واحتج له بما رواه ابن السكن (¬3) في "صحيحه" عنه، ولفظه: أقيمت الصلاة فانطلقت أسعى حتى دخلت الصف، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال: "مَنِ السَّاعِيْ آنِفًا؟ ". قال أبو بكرة رضي الله تعالى عنه: فقلت: أنا. فقال: "زَادَكَ اللهُ حِرْصَا، وَلا تَعُدْ" (¬4). وقال ابن القطان الفاسي -تبعًا للمهلَّب بن أبي صُفرة-: لا تعد إلى دخولك إلى الصف وأنت راكع؛ فإنها مِشْية البهائم. ¬
قال ابن حجر: ويؤيده ما رواه حماد بن سلمة في "مصنفه" عن الأعلم، عن الحسن، عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه: أنه دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وقد ركع، فركع، ثم دخل الصف وهو راكع، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّكُمْ دَخَلَ الصَّفَّ وَهُوَ رَاكِعٌ؟ ". فقال له أبو بكرة: أنا. فقال: "زَادَكَ اللهُ حِرْصًا، وَلا تَعُدْ" (¬1). قلت: وإنما قال له: "زَادَكَ اللهُ حِرْصًا" قبل أن ينهاه عن العَوْدِ إشارةً إلى الاعتذار عنه بأنه إنما حمله على ذلك حرصه على الخير. ولا بد من تقييد الحرص الذي دعا له به بالحرص على الخير كما رواه الطبراني في "الكبير" بلفظ: "زَادَكَ اللهُ عَلَى الخَيْرِ حِرْصًا، وَلا تَعُدْ". والمعنى: أن العبد -وإن كان حريصاً على الخير- ينبغي أن يتقيد في طلبه بالمشروع من أَنَاة وغيرها, ولا تحمله شدة الحرص على العجلة التي تخل بأدب من آداب الشريعة كما حمل أبا بكرة حرصه على تحصيل الجماعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمبادرة إليها على أنْ عَجِل، فأحرم، أو ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف راكعا، فأشبه ذوات الأربع في مشيها، وهي هيئة مباينة للأدب، فإن مشى الإنسان راكعاً ¬
106 - ومن الخصال التي لا تليق بالعبد لأنها مما تلحقه بالبهائم: التشبه بالدابة الشموس.
نظرًا إلى حالته المكرَّم بها من انتصاب القامة، وحسن هيئته ماشيًا مع انتصاب قامته مثله لا يليق بحال المصلي؛ فإنه بحضرة الله تعالى ماثل بين يديه في خدمته، فاللائق أن يكون على أكمل الهيئات. وقد علم من ذلك أن الإنسان إذا مشى منحنياً من غير علة أو ضرورة كان ذلك خلاف الأولى به؛ لأنه يشبه بذلك ذوات الأربع في مشيها. ولو قيل بكراهة لم يبعُدْ. ولا يشك في كراهة ذلك في الصلاة؛ فافهم! 106 - ومن الخصال التي لا تليق بالعبد لأنها مما تلحقه بالبهائم: التشبه بالدابة الشَّموس. وهي التي تمنع ظهرها في الامتناع عن الخير. ومنه قيل للرجل الصعب الخلق: شموس، كما في "الصحاح" (¬1). ومن أفراد ذلك: أن لا يطاوع من يشير إليه في تسوية الصف ونحوها. روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح -وأصله في "صحيح البخاري"- عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اعْتَدِلُوْا في صُفُوْفِكُمْ، وَتَرَاصُّوْا؛ فَإِني أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِيْ". قال أنس: لقد رأيت أحدنا يَلْزِق منكِبه بمنكب صاحبه، وقدمه ¬
بقدمه، ولو ذهبت تفعل ذلك لترى أحدهم كأنه بغل شموس (¬1). وإنما شبه بالبغل لأن شماس البغل أشد من شماس غيره. فينبغي لمن كان في صلاته وأمر بتسوية الصف، أو أشير إليه بذلك، أو جذبه منفرد خلفه ليكونا صفًّا ثانيًا, ولا يبقى الجاذب منفردًا وحده خلف الصف، أن يسارع إلى المطاوعة، ولا يمتنع. فقد روى عبد الرزاق عن زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى -مرسلاً- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيَارُكُمْ أليَنكُمْ مَنَاكِبَ فيْ الصَّلاَةِ" (¬2). وهو في "سنن أبي داود" متصلًا مرفوعًا (¬3). وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، والبزار بسند حسن، عن ابن عمر (¬4) - رضي الله عنهما - (¬5). ¬
107 - ومنها: العبث بالشيء,
وفي الحديث: "المُؤْمُنُوْنَ هَيِّنُوْنَ لَيِّنُوْنَ". أخرجه البيهقي في "الشعب" من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬1). 107 - ومنها: العبث بالشيء, والولوع به خصوصاً في الصلاة، ومجالس الذكر، ودروس العلم تشببهاً بالقرد، والهر، ونحوها من الحيوانات العابثة. وفي المثل -كما ذكره الزمخشري-: أعبث من قرد، وأولع من قرد (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى رجلًا يعبث في صلاته: "لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا خَشَعَتْ جَوَارِحُهُ". رواه الحكيم الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬3). وروى ابن عساكر عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ سُكُوْنُ الأَطْرَافِ" (¬4). ¬
108 - ومنها: التشبه بالفرس الصافن في الصلاة، أو الفرس المقيد.
108 - ومنها: التشبه بالفرس الصافن في الصلاة، أو الفرس المقيد. فقد ذكر رزين العبدوي في "صحيحه" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الصفن والصفد في الصلاة، وعزاه إلى الترمذي. قال العراقي: ولم أجده عنده ولا عند غيره، وإنما ذكره أصحاب الغريب كابن الأثير في "النهاية" (¬1). والذي في "النهاية": نهي عن صلاة الصافد -بالدال المهملة-؛ وهو أن يقرن (¬2) بين قدميه معاً كأنه في قيد (¬3). ونهى عن صلاة الصافن -بالنون-؛ قال: وهو الذي يجمع بين قدميه. وقيل: هو أن يثني قدمه إلى ورائه، كما يفعل الفرس إذا ثنى حافره (¬4). قال في "الصحاح": والصافن من الخيل: القائم على ثلاث قوائم، وقد أقام الرابعة على طرف الحافر، انتهى (¬5). ويتحقق الصفن من المصلي وغيره بأن يقف على إحدى رجليه ¬
109 - ومنها: أن يفترش ذراعيه في السجود افتراشا كافتراش الكلب.
ممكِّناً لها من الأرض، ويقف على أصابع الأخرى، أو يرفعها مثنية إلى ورائه، وهو خلاف الأدب في الصلاة؛ إن الأدب أن يقف على قدميه معًا مفرجًا بينهما قدر أربع أصابع. وأما الحديث الذي أورده الجوهري: كنا إذا صلينا خلفه فرفع رأسه من الركوع قمنا خلفه صفوناً تبعناه، فالصفن فيه ليس على المعنى المتقدم المنهي عنه، بل هو بمعنى صف القدمين كما فسره به الجوهري، فلا تعارض بينه وبين حديث النهي، وحقيقة صف القدمين: مساواتهما في الوقوف عليهما معاً (¬1). وروى سعيد بن منصور في "سننه": أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه رأى رجلًا صافداً، أو صافناً قدميه، فقال: أخطأ هذا السنة (¬2). 109 - ومنها: أن يفترش ذراعيه في السجود افتراشاً كافتراش الكلب. روى الشيخان عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يفترش الرجل ذراعيه كما يفرش الكلب (¬3). ¬
110 - ومنها: أن يشم الطعام قبل أكله تقذرا لأنه يشبه بذلك السباع والبهائم.
وهو كما في "النهاية": أن يبسط ذراعيه في السجود، ولا يرفعهما عن الأرض (¬1). 110 - ومنها: أن يشم الطعام قبل أكله تقذرًا لأنه يشبه بذلك السباع والبهائم. روى الطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَشَمُّوْا الطَّعَامَ كَمَا تَشَمُّهُ السِّبَاعُ" (¬2). 111 - ومنها: النشبه بالبهائم في تناول الطعام بالفم من الإناء ونحوه. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]: إن كل حيوان يتناول طعامه بفيه إلا ابن آدم؛ فإنه يرفعه إلى فيه بيده (¬3). قلت: فإذا تناول الطعام بفيه دون يده كسائر الحيوانات فكأنه أبى تلك الكرامة، وكَفَر تلك النعمة. ¬
112 - ومنها: التشبه بالكلب ونحوه في الولوغ.
112 - ومنها: التشبه بالكلب ونحوه في الولوغ. قال أهل اللغة: وَلَغ يَلِغ ولُوغًا: إذا شرب بطرف لسانه، وأكثر ما يكون في السباع. وفي المثل: أولغ من كلب. ذكره الزمخشري (¬1). وروى ابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَلَغْ أَحَدُكُمْ كَمَا يَلَغُ الكَلْبُ، وَلا يَشْرَبْ بِاليَدِ الوَاحِدَةِ كمَا يَشْرَبُ القَوْمُ الَّذِيْنَ سَخِطَ اللهُ عَلَيهِمْ، وَلا يَشْرَبْ بِاللَّيْلِ في إِنَاءٍ حَتَّى يُحَرِّكَهُ إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ إِنَاءً مُخَمَّرًا، وَمَنْ شَرِبَ بِيَده وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَىْ إِنَاءٍ يُرِيْدُ التَّوَاضُعَ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ حَسَنَاتٍ، وهو إناء عيسى بن مريم عليهما السلام إذا طرح القدح، فقال: إن هذا من الدنيا" (¬2). 113 - ومنها: التشبه بالبهائم في كَرْع الماء ونحوه. قال أهل اللغة: كرع الماء يَكْرَعه كَرْعا: إذا تناوله بفيه من غير أن يشرب بكفيه، ولا بإناء كما تشرب البهائم لأنها تُدخل أكارعها في الماء. روى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: مررنا ¬
114 - ومنها: التشبه بالبعير ونحوه في الشرب في نفس واحد.
على بِركة، فجعلنا نكرع منها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَكْرَعُوْا، وَلَكِن اغْسِلُوْا أَيْدِيَكُمْ ثُمَّ اشْرَبُوْا فِيْهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ إِنَاء أَطْيَبَ مِنَ اليَدِ" (¬1). وحكي عن بعض العلماء: أنه مر برجل يكرع الماء ولا يشرب بيديه، فقال له: اشرب بحافريك، اشرب بحافريك. 114 - ومنها: التشبه بالبعير ونحوه في الشرب في نَفَس واحد. وقد تقدم أنه من شرب الشيطان أيضًا. روى الترمذي، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَشْرَبُوْا نَفَسًا وَاحِدًا كَشُرْبِ البَعِيْرِ، وَلَكِنْ اشْرَبُوْا مَثْنىَ وَثُلاثَ، وَسَمُّوْا إِذَا شَرِبْتُمْ، وَاحْمَدُوْا إِذَا فَرَغْتُمْ" (¬2). قال الحافظ زين الدين العراقي في وجه تشبيه من شرب مرة بشرب البعير مع أن البعير يشرب بنفس ونفسين وثلاثة وأكثر باعتبار شدة عطشه، وكونه له مدة لم يشرب. قال: والجواب أن البعير إذا عرض على الماء يشرب حاجته، وإن تنفس فإنما يتنفس في الحوض الذي يشرب منه بخلاف المكلف؛ فإنه منهي عن التنفس في الإناء. ¬
115 - ومنها: التشبه بالبعير أيضا ونحوه في التنفس، كما يؤخذ من كلام العراقي المذكور آنفا.
115 - ومنها: التشبه بالبعير أيضًا ونحوه في التنفس، كما يؤخذ من كلام العراقي المذكور آنفاً. وينبغي أن يعدَّ هذا من المعاني التي لأجلها كره التنفس في الإناء؛ كذا خطر لي، ثم رأيت البغوي صرح بذلك في "شرح السنة"، فذكر في سبب النهي عن التنفس في الإناء وجوهاً: - منها: أنه من فعل الدواب إذا كرعت في الأواني جرعت، ثم تنفست، ثم عادت فشربت. - ومنها: أنه ربما حصل للإناء تغير من التنفس فيه (¬1). وروى الشيخان، وغيرهما عن قتادة بن النعمان رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلا يتَنَفَّسْ فيْ الإِنَاءِ" (¬2). واحترز بقوله: "في الإِناءِ" عما لو تنفس خارج الإناء؛ فإنه هو السنة كما في قوله: "وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثُلاثَ" (¬3). وأما حديث مسلم عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الإناء ثلاثًا، ويقول: "هُوَ أَمْرَأ وَأَرْوَىْ" (¬4)؛ فمعناه: يتنفس على الإناء، كما في قوله تعالى: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]؛ أي: عليها, وليس ¬
116 - ومنها: أكل المرء وشربه قائما كالبهائم.
المراد أنه يتنفس في نفس الإناء قبل أن يرفع رأسه عنه لأنه قد صح النهي عنه. وصحح الترمذي حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القَذَاة أراها في الإناء؟ قال: "أَهْرِقْهَا". قال: فإني لا أروى من نفس واحد. قال: "فَأَبِنِ القَدَحَ إِذًا عَنْ فِيْكَ" (¬1). 116 - ومنها: أكل المرء وشربه قائما كالبهائم. وهو خلاف الأولى، والأفضل أن يأكل ويشرب قاعدًا غير متكئ. روى الضياء في "المختارة" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب قائما والأكل قائمًا (¬2). 117 - ومنها: التشبه بالكلب في فتح الفم عند التثاؤب. روى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال ¬
118 - ومنها: التشبه بالكلاب النابحة في الصخب،
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيْهِ وَلا يَعْوِيْ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ مِنْهُ" (¬1). قال العراقي في "شرح الترمذي": شَبَّه - صلى الله عليه وسلم - حال الذي يتثاءب ولا يكظم ذلك بعِواء الكلب تنفيرًا عن ذلك واستقباحًا له؛ فإن الكلب يرفع رأسه ويفتح فاه، وكذلك التثاؤب. والسنة لمن تثاءب أن يكظم فاه، فإن لم يرتد عنه التثاؤب وضع يده على فيه منفتحاً، أو بعد إطباقه مبالغة في الكظم. 118 - ومنها: التشبه بالكلاب النابحة في الصخب، والصياح لغير ضرورة ولا فائدة، وفي الاستطالة باللسان على الناس خصوصاً على الأخيار، وبها وبالضفادع والغربان في الجَلَبة، والاجتماع على اللغط من غير فائدة ولا حاجة. بل قد يفرق بين ذلك وبين نقيق الضفادع، وأصوات الطير بأن نقيقها وأصوات الطير تسبيح، فيكون الإنسان بذلك أسوء حالًا من الحيوانات المذكورة. وفي وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة: ليس بفظٍّ ولا غليظٍ، ولا صَخَّاب في الأسواق (¬2). وروى ابن أبي الدنيا بسند ضعيف، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال ¬
119 - ومنها: التشبه بالحمر الناهقة بالنطق فيما لا يعنيه، أو فيما لا يفهم.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَاحِشَ المُتَفَحِّشَ الصَّيَّاحَ فيْ الأَسْوَاقِ" (¬1). قلت: وما أشبهه بالكلاب السوقية والسلوقيَّة. 119 - ومنها: التشبه بالحمر الناهقة بالنطق فيما لا يعنيه، أو فيما لا يفهم. قال الله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]. وروى ابن أبي الدنيا في "الصمت" بسند رواته ثقات، عن عمرو ابن دينار رحمه الله تعالى -مرسلاً- قال: تكلم رجل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكثر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كَمْ دوْنَ لِسَانِكَ مِنْ بَابٍ؟ ". قال: شفتاي وأسناني. فقال: "أَمَا فيْ ذَلِكَ مَا يَرُدُّ كَلامَكَ؟ " (¬2). وفي رواية أنه قال ذلك في رجل أثنى عليه فاستحفز في الكلام، ثم قال: "مَا أتى رَجُلٌ بِشر مِنْ فَضْلِ لِسَانٍ" (¬3). ¬
120 - ومنها: الضحك من غير عجيب، والطرب لما لا يفهم معناه تشبها بالقرد والدب.
120 - ومنها: الضحك من غير عجيب، والطرب لما لا يفهم معناه تشبهاً بالقرد والدب. قال في "الصحاح": يقال: القرد يضحك إذا صوت (¬1). والذي ذكره الدميري، والسيوطي أنه يضحك، ويقهقه، ويطرب، ويقعي (¬2). قال السيوطي في "ديوان الحيوان": ناظر الإِمام أبو زيد الدبوسي من أئمة الحنفية بعض الفقهاء، فكان كلما ألزمه أبو زيد إلزامًا تبسم أو ضحك، فأنشده أبو زيد: [من السريع] ما لِي إِذا ألزَمْتُهُ حُجَّةً ... قابَلَنِي بِالضَّحِكِ وَالقَهْقَهَةْ إِنْ كانَ ضِحْكُ الْمَرْءِ مِنْ فِقْهِهِ ... فَالدُّبُّ في الصَّحْراءِ ما أَفْقَهَهْ (¬3) 121 - ومنها: التشبه بالثعلب والقرد في محاكاة الناس. ذكر الزمخشري، والدميري، والسيوطي: أن من أمثال العرب: أولع من قرد لأنه إذا رأى الإنسان يولع بفعل شيء أخذ يفعل مثله (¬4). ¬
122 - ومنها: محاكاة الناس في الأقوال تشبها بالببغاء وأبي زريق.
وقالوا: أحكى من قرد؛ لأنه يحكي الناس في أفعاله سوى النطق (¬1). قال أبو الطيب المتنبي: [من الطويل] يَرُومُونَ شَأوِيَ في الكَلامِ وَإِنَّما ... يُحاكِي الفَتَى فِيما سِوى النُّطُقِ القِرْدُ (¬2) وفي "حياة الحيوان"، وغيره عن الشعبي أنه قيل له: يقال في المثل: إن شريحاً أدهى من الثعلب وأحيل؛ فما هذا؟ فقال: خرج شريح أيام الطاعون إلى النجف، وكان إذا قام يصلي يجيء ثعلب فيقف تجاهه، فيحاكيه ويحيل بين يديه، فلما طال ذلك عليه نزع قميصه، وجعله فوق قصبة، وأخرج كميه، وجعل قَلَنْسُوته وعمامته عليه، فأقبل الثعلب فوقف على عادته، فأتاه شريح من خلفه وأخذه بَغْتة، فلذلك يقال: أدهى من الثعلب وأحيل (¬3). 122 - ومنها: محاكاة الناس في الأقوال تشبهاً بالببغاء وأبي زريق. قال السيوطي: ويقال له: الزرياب، والقوقاء: طائر ألوف يقبل ¬
123 - ومنها: التشبه بالثعلب والخنزير في الروغان، وعدم الاستقامة؛ فإن لهما روغانا يضرب به المثل.
التعليم، سريع الإدراك، يزيد على الدرة إذا انتُحبَ وإذا تكلم جاء بالحروف مبينة حتى لا يشك سامعه أنه إنسان، انتهى (¬1). واعلم أن محاكاة الإنسان للطير وغيره من الحيوانات من قبيل العبث الذي لا يليق بالعقلاء الاشتغال به. وأما محاكاة الناس في الأقوال والأفعال وتقليدهم في أمورهم على سبيل الاستهزاء ليعجب السامعين وإضحاكهم؛ فإنه من الغيبة المحرمة لإيذائه. وروى أبو داود، والترمذي وصححه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: حكيت إنساناً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يَسُرُّنيْ أَنِّيْ حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَلي كَذَا وَكَذَا" (¬2). يقال: حكيت، وحكيت فعله، وحاكيت: إذا فعلت مثل فعله. وأكثر ما تستعمل المحاكاة في القبح كما في "النهاية" (¬3). 123 - ومنها: التشبه بالثعلب والخنزير في الرَّوغان، وعدم الاستقامة؛ فإن لهما روغاناً يُضرب به المثل. قال السيوطي: والخنزير أروغ من الثعلب (¬4). ¬
روى الإِمام أحمد في "الزهد"، وعبد بن حميد، والدينوري عن عمر رضي الله تعالى عنه: أنه قال على المنبر: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] قال: لم يروغوا روغان الثعلب (¬1). وأنشد ابن قتيبة: [من الكامل] خَيْرُ الصَّدِيقِ هُوَ الصَّدُوقُ مَقالَةً ... وَكَذاكَ شَرُّهُمُ الْمَنُونُ الأكذَبُ وإذا غَدَوْتَ لَهُ تُرِيدُ نِجازَهُ ... بِالوَعْدِ راغ كَما يَرُوغُ الثَّعْلَبُ (¬2) وأنشد الدميري في "حياة الحيوان" من قصيدة يقال: إنها لعلي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ولا يصح: [من الكامل] لا خَيْرَ فِي وِدِّ امْرِئٍ مُتَمَلِّقٍ ... حُلْوِ اللِّسانِ وَقَلْبُهُ يَتَلَهَّبُ يَلْقاكَ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَكَ وامِقٌ ... اِذا تَوَلَّى عَنْكَ فَهْوَ العَقْرَبُ يُعْطِيكَ مِنْ طَرَفِ اللسانِ حَلاوَةً ... وَيرُوغُ عَنْكَ كَما يَرُوغُ الثَّعْلَبُ (¬3) وقال آخر: [من السريع] كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ خالَلْتُهُ ... لا تَرَكَ اللهُ لَهُمْ واضِحَةْ كُلُّهُمُ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبٍ ... ما أَشْبَهَ الليلَةَ بِالبارِحَةْ (¬4) ¬
124 - ومنها -وهو قريب مما قبله-: تشبه المتردد بين الحق والباطل بالشاة العاشرة بين الغنمين.
124 - ومنها -وهو قريب مما قبله-: تشبه المتردد بين الحق والباطل بالشاة العاشرة بين الغنمين. قال الله تعالى فيهم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143]. وروى البخاري في "تاريخه"، ومسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ المُنَافِقِ مَثَلُ الشَّاةِ العَائِرَةِ بَيْنَ الغَنَمَيْنِ، تَصِيْرُ إِلىْ هَذِهِ مَرَّةً وإلىْ هَذهِ مَرَّةً لأَنَّهَا لا تَدْرِيْ أيَّهَا تَتْبعُ، وَكَذَلِكَ حَالُ المُنَافِقِ في الآخِرَةِ" (¬1). روى الإِمام أحمد، والبيهقي عن ابن عمر أيضاً - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مَثَلَ المُنَافِقِ يَوْمُ القِيَامَةِ كَالشَّاةِ بَيْنَ الغَنَمَيْنِ؛ إِنْ أتتْ هَؤُلاَءِ نَطَحَتْهَا، وإنْ أتتْ هَؤُلاَءِ نَطَحَتْهَا" (¬2). يعني: إن أهل الإيمان يذمونهم بتخلفهم عن الإيمان, وأهل النار يلعنونهم؛ لأن أهل النار يتلاعنون {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38]. 125 - ومنها: التشبه بالثعلب في الكذب. وقالوا: أكذب من فاختة (¬3). ¬
126 - ومنها: التشبه في الفرار من الموت كفرار الثعلب.
روى ابن أبي شيبة عن عامر -يعني: الشعبي- قال: أتى رجل أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: إني رأيت في المنام كأني أجري ثعلبًا. قال: أنت رجل كذوب (¬1). ورواه صاحب "الغيلانيات" عن الشعبي، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فقال: رأيت كأني أجري مع الثعلب أحسن جري. فقال: أجريت ما لا يجري؟ أنت رجل في لسانك كذب؛ فاتَّقِ الله عز وجل (¬2). والعرب تصف الفاختة بالكذب لأن صوتها عندهم: هذا أوان الرُّطَب، وتقول ذلك والنخل لم يطلع. قال الشاعر: [من مجزوء الرجز] أَكْذَبُ مِنْ فاخِتَةٍ ... تَقُولُ وَسْطَ الكُرَبِ وَالطَّلْعُ لَمْ يَبْدُ لَها ... هَذا أَوانُ الرُّطَبِ (¬3) 126 - ومنها: التشبه في الفرار من الموت كفرار الثعلب. روى العسكري في "الأمثال"، والبيهقي في "الشعب" عن سمرة ¬
127 - ومنها: التشبه في منازعة الرئاسة والمناصب بالكباش المتناطحة.
رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثَلُ الَّذِيْ يَفِرُّ مِنَ المَوْتِ كَالثَّعْلَبِ تَطْلُبُهُ الأَرْضُ بِدَيْنٍ، فَجَعَلَ يَسْعَىْ حَتَّى إِذَا عَيَّ وَابْتَهَرَ دَخَلَ جُحْرَهُ، فَقَالَتْ لَهُ الأَرْضُ عِنْدَ سبلتِهِ: أَبَا ثَعْلَبَةَ! دينيْ دينيْ، فَخَرَجَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى انْقَطَعَتْ عُنُقُهُ فَمَاتَ" (¬1). 127 - ومنها: التشبه في منازعة الرئاسة والمناصب بالكِباش المتناطحة. كما وقع ذلك في كلام الزاهد المشهور شعيب بن حرب المدائني أحد الأفراد حيث قال: من طلب الرئاسة ناطحته الكباش، ومن رضي أن يكون ذَنبًا أبى الله إلا أن يجعله رأساً. رواه الخطيب، وغيره (¬2). والعرب تسمي السيد كبشاً. وقلت عاقداً للمثل. دعِ الْمَناصِبَ لِمَنْ ... نازَعَ فيها تَسْتَرِحْ فَإِنَّ [ .. ] لَهُمْ ... دعِ الكِبشَ تَنْتَطِحْ 128 - ومنها: طلب الرئاسة قبل حينها؛ فإنه لا يسلمها له من هو أحق بها منه، فيصير مغلوباً مدحوراً، فيكون متشبهاً بذلك بالكبش أو ¬
التيس الأجم الذي لا قرن له. وكذلك من يخاصم أشد منه، أو يصارع أشد منه. ومن أمثال العرب: عند النطاح يغلب الكبش الأجم (¬1). ويروى: التيس الأجم كما ذكره الزمخشري، وقال: يضرب للاستعداد للنوائب قبل حلولها (¬2). قلت: ويضرب لمن خاصم من هو أشد منه وأقوى منه. ومن أمثال العوام: لا يقاتل موضع يقتل إلا الكلب. ولمنصور الفقيه: [من مجزوء الكامل المرفل] الْكَلْبُ أَغْلا قِيمَةً ... وَهْوَ النهايَةُ في الْخَساسَة مِمَّنْ يُنازِعُ في الرِّئا ... سَةِ قَبْلَ إِبَّانِ الرِّئاسَة (¬3) وقال بعض الحكماء: من طلب الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. وقال لي بعض العارفين: لا تطلب الرتبة حتى تطلبك الرتبة. وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: إذا تصدَّر الحَدَث فاته علمٌ كثير (¬4). ¬
129 - ومنها: التشبه بالتيس في الاكتفاء بطول اللحية على اكتساب العلوم ومحاسن الآداب.
وقلت: [من الرجز] لا تَطْلُبِ الرُّتْبَةَ قَبْلَ حِينها ... خَشْيَةَ أَنْ تَنالَها فَتُتْعِبَكْ فَقَدْ سَمِعْتُ عارِفًا يَقُولُ لِي ... لا تَطْلُبِ الرُّتْبَةَ حَتَّى تَطْلُبَكْ وقلت: [من الرجز] مَنْ طَلَبَ الرُّتْبَةَ قَبْلَ حِينها ... فَرُبَّما يُصِيبُهُ ما أتعَبَهْ وإنَّما يَهْنَأُ بِالرُّتْبَةِ مَنْ ... لا يَطْلُبُ الرُّتْبَةَ حَتى تَطْلُبَهْ 129 - ومنها: التشبه بالتيس في الاكتفاء بطول اللحية على اكتساب العلوم ومحاسن الآداب. ذكر الحافظ المزي في كتابه "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" في ترجمة عبد العزيز بن مسيب القرشي -وكان طويل اللحية- أن علي ابن حجر السعدي نظر إليه وقال: [من مجزوء المنسرح] لَيْسَ بِطُولِ اللِّحا ... يَسْتَوْجِبُونَ القَضا إِنْ كانَ هَذا كَذا ... فَالتَّيْسُ عَدْلٌ رِضا قال: ومكتوب في التوراة: لا يغرنك طول اللحى؛ فإن التيس له لحية (¬1). ومن كلام بعض الحكماء: من طالت لحيته تكوسَج عقلُه (¬2). ¬
130 - ومنها: التشبه في الحماقة والخرق بالضبع والكروان وغيرهما.
وروى الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن الرياشي قال: روي عن كعب الأحبار أنه قال: مكتوب في بعض الكتب: إن اللحية مخرجها من الدماغ، فمن كثر شعر لحيته قل دماغه، ومن قل دماغه قل عقله، ومن قل عقله كان أحمق، ومن كان أحمق فلا مستمتع فيه (¬1). وقلت: [من البسيط] إِنَّ الَّذِي يَكْتَفِي عَنْ حِلْيةِ الأَدَبِ ... وَالْعِلْمِ بِاللِّحْيَةِ الطُّولَى وَبِالنَّشَبِ كَالتَّيْسِ ذا لِحْيَةٍ طُولَى وَذا شَعَرٍ ... لا يبتَغِي ما سِوى الْمَرْعَى مِنَ الأَدَبِ إِنَّ الْجَمالَ التُّقَى وَالدِّين لا [ .. ] ... وَلا أَناقَةُ ثَوْبٍ أَوْ عُلا نَسَبِ لَوْ كانَ ذا كانَ أَوْلَى بِالْجَمالِ وَبِالـ ... حُسْنِ الأَباقِرُ ذاتُ الرَّوْقِ وَالغببِ إِنَّ الكمالَ بِلُبِّ الْمَرْءِ تَبْصِرَةٌ ... وَبِالبرى تكمل [ ... ] وَاللببِ 130 - ومنها: التشبه في الحماقة والخرق بالضبع والكروان وغيرهما. وقد علمت أن العقل والنطق هما الفارق بين الإنسان وسائر أنواع الحيوان. قالوا في المثل: أحمق من الضبع، ومن أم عامر؛ وهي كنيتها. وفي المثل أيضًا: خامري أم عامر؛ يضرب للأحمق. ¬
وذلك لأن الصائد يدخل عليها وجارها -بفتح الواو، وكسرها-: جحرها، فيقول: خامري أم عامر، أم عامر ليست في وجارها، أم عامر أبشري بكمر الرجال، أبشري بشاء هَزْلى وجراد عظلى، وهو في خلال ذلك يشد عراقيبها فلا تتحرك (¬1). وخامري: أي: الجئي إلى أقصى وجارك. قال الكميت: [من مجزوء الكامل المرفل] أَمَّا أَخُوكَ أَبُو الوَليـ ... ـد فَلابسٌ ثَوْبَي مُخامِرْ فعلَ المقرةِ لِلْمَقالَةِ ... خامِري يا أُمَّ عامِرْ (¬2) وقالوا: أحمق من جهيزة؛ قال الزمخشري: وهي الذئبة لأنها تترك أولادها وترضع أولاد الضبع؛ فعلَ النعامة بالبيض. ويقال: إذا صيدت الضبع تكفل الذئب بأولادها (¬3). وقوله: فعلَ النعامة بالبيض؛ أشار إلى ما نقله الدميري والسيوطي: أن النعامة تخرج لطلب الطعم، فمتى وجدت بيض نعامة أخرى تحضنه وتنسى بيضها؛ قالا: ولهذا توصف بالحمق، ويضرب بها المثل في ذلك. قال ابن هرمة: [من المتقارب] ¬
فإنيِّ وتَرْكي نَدَى الأكرَمِينَ ... وَقدحِي بِكَفِّي زِنداً شحاحا كَتارِكَةِ بَيْضِها بِالعراءِ ... وَمُلْبِسَةِ بَيْضِ أُخْرى جَناحا (¬1) قال السيوطي في "ديوان الحيوان": ومن أمثالهم: أطرق كرا يجلب لك؛ يضرب للأحمق الذي يمنى أمنية بباطل، فيصدق بذلك. وقالوا: أخرق من حمامة. قال الزمخشري: تعتش بثلاثة أعواد في مهب الريح، فبيضها أضيع شيء. قال عبيد بن الأبرص: [من مجزوء الكامل المرفل] عَيَّوْا بِأَمْرِهِمْ كَما ... عَيَّتْ بِبَيْضَتِها الْحَمامَة جَعَلَتْ لَها عُودينِ مِنْ ... نشم وَآخَرَ مِنْ ثمامَة (¬2) ومن لطائف المجاز قولهم في المثل: أحمق من رجلة، ويقال لها: الحية الحمقاء؛ سميت بذلك، ووصفت بالحمق لأنها تنبت في مسيل الماء، فيقلعها السيل. قال الزمخشري: والرجلة: المسيل، فسميت باسمه. وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تسميها السيدة حُبًّا لها، انتهى (¬3). ¬
131 - ومنها: التشبه في الجبن، والوهن بالضبع،
وفي "القاموس": الرجلة: مسيل الماء من الحَزَة إلى السهلة (¬1). 131 - ومنها: التشبه في الجبن، والوهن بالضبع، والقرد، والصافر، والقرد، والكروان، وغيرها من البهائم والطير. قالوا في المثل: أجبن من رباح، وهو من أسماء القرد؛ لأنه لا ينام إلا منتصباً لكي ينتبه إذا سقط من يده عند استثقاله في النوم (¬2). وقالوا: أجبن من صافر؛ لأن الصفير في نعاب الطير دون سباعها. وقيل: هو طائر يتعلق برجليه، وينكس رأسه، ويصفر طول الليل لئلا ينام فيؤخذ (¬3). وقالوا: أجبن من الكروان -بفتحتين-. قال الزمخشري: اشتقاقه من الكَرَى، وهو النعاس؛ سمي بضد ما يفعله لأنه لا ينام طولَ الليل جُبناً. قيل: كانوا يصيدونه بهذه الرقية: [من مجزوء الرجز] أَطْرِقْ كَرا، أَطْرِقْ كَرا، ... إِنَّ النَّعامَ في القُرى أَطْرِقْ كَرا، فَلا تُرى ... ما إِنْ أَرَى هُناكَرا إذا سمعها تلبد بالأرض فيلقى عليه ثوب فيصاد (¬4). ¬
وفي المثل: أجبن من ليل؛ قال الزمخشري: وهو فرخ الكروان، ومن نهار؛ قال: وهو فرخ الحُبارى (¬1). قال السيوطي في "ديوان الحيوان": وقالوا: أسلح من حُبارى حالة الخوف، ومن الدجاج حالة الأمن (¬2). والحبارى تصاد ولا تصيد، وسِلاحها سُلاحها. قال الشاعر: [من الوافر] وَهُمْ تَرَكُوهُ أَسْلَحَ مِنْ حُبارى ... رَأَى صَقْرًا وَأشْرَدَ مِنْ نَعامِ (¬3) وقلت: [من المديد] قَدْ غَلَبَ الْجُبْنُ فِيكَ حَتَّى ... إِنَّكَ أَوْهَى مِنَ الزُّجاجِ فَأَنْتَ في الْخَوْفِ كَالْحُبارَى ... وَأَنْتَ في الأَمْنِ كَالدَّجاجِ وقد يحمل الجبن الجبان عند الخوف على الحبق والضراط والسلح. ومنه حُصاص الشيطان -قبحه الله تعالى- عند الأذان لذعره منه. وفي المثل: أجبن من المنزوف ضرطاً؛ أورده في "الصحاح" (¬4). ¬
132 - ومنها: التشبه في الحقد بالجمل.
قيل: وهو دابة بين الكلب والذئب: إذا صيح به أخذه الضراطُ من الجبن. وقيل: جبان تزوجته أعرابية، وكان ينام الصبحة، فكانت إذا نبهته قال لها: لو لغادية نبهتني، فامتحنه النسوة ذا صباح بأن قلن له: هذه نواصي الخيل، فجعل يقول: الخيل الخيل، ويضرط حتى مات. وقيل: سافر رجلان فلاحت لهما شجرة، فقال أحدهما: أرى قومًا قد رصدونا. وقال الآخر: إنما هي عُشَرَة - على وزن همزة - فظنه يقول: عَشَرة، فجعل يقول: وما عناء اثنين في عشرة؟ ويضرط حتى مات (¬1). ومن أمثالهم: روغي جَعار، وانظري أين المفر. قال الزمخشري: يضرب في فرار الجبان وخضوعه (¬2). 132 - ومنها: التشبه في الحقد بالجمل. قالوا في المثل: أحقد من جمل. قال الزمخشري: يصفون الجمل بالحقد وغلظ الكبد. قال بلعاء بن قيس الكناني: [من البسيط] يُبْكَى عَلَيْنا وَلا نبكِي عَلى أَحَدٍ ... إنَّا لأَغْلَظُ أَكْباداً مِنَ الإِبِلِ ¬
قالوا: ويزعمون أنه ينطوي على الحقد سنين حتى يتشفى منه (¬1). وحقيقة الحقد الانطواء على العداوة والبغضاء. قيل: وأوله الحسد. روى ابن أبي الدنيا في كتاب "ذم الحسد"، والطبراني في "الأوسط" بإسناد جيد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سَيُصِيْبُ أُمَّتيْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَهُمْ". قالوا: وما داء الأمم؟ قال: "الأشرُ، وَالبَطَرُ، وَالتَّكاثُرُ، وَالتَّنَافُسُ فيْ الدُّنْيَا، وَالتَّبَاعُدُ، وَالتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُوْنَ البَغْيُ، ثُمَّ يَكُوْنُ الهَرْجُ" (¬2). وروى الترمذي عن الزبير رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، وَالبُغْضَةُ هِيَ الحَالِقَةُ، لا أَقُوْلُ حَالِقَةُ الشَّعْرِ، وَلَكِنْ حَالِقَةُ الدَّيْنِ. وَالَّذِيْ نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوْنَ الجَنّةَ حَتَّى تُؤْمُنُوْا، وَلَنْ تُؤْمُنُوْا حَتَّى تَحَابُّوْا، أَلا أُنبَّئُكُمْ بِمَا يُثْبِتُ لَكُمْ ذَلِكَ؟ أَفْشُوْا السَّلامَ بَيْنَكُمْ" (¬3). ¬
واللائق بالإنسان الكامل سلامة صدره على أخيه، وأن يحب له مثل ما يحب لنفسه، وأن يعفو عن زلته؛ فإن ذلك يريح جسده ويكسب راحته. قال الشافعي رحمه الله تعالى: [من البسيط] لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلى أَحَدٍ ... أَرَحْتُ نفسِي مِنْ حَمْلِ الْمَشَقَّاتِ (¬1) روى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ". قال: فطلع رجل من الأنصار تَنْطُف لحيته من وضوئه، قد علَّق نعله في يده الشمال، فسلم، فلما كان الغد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل، وقاله في اليوم الثالث، فطلع ذلك الرجل، فلما قام تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. فقال: نعم. فبات عنده ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى، ولم يقم حتى قام لصلاة الفجر. قال: غير أني ما أسمعه يقول إلا خيرًا. ¬
تنبيه
فلما مرت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله! لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا وكذا، فأردت أن أعرف عملك، فلم أرك تعمل عملاً كثيرًا، فما الذي بلغ بك ذلك؟ قال: ما هو إلا ما رأيت. فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشًا ولا حسدًا على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: هي التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق (¬1). * تَنْبِيهٌ: قال بعض العلماء: خمسة من الناس اعتادوا أكل خمسة من الحيوانات فاكتسبوا منها طباعها: - الفرنج اعتادوا أكل لحم الخنزير، فغلبت عليهم الأُبنة. - والتتار اعتادوا أكل لحم الخيل، فغلبت عليهم السياسة والجماح. - والترك اعتادوا أكل لحم الغنم، فغلب عليهم الحرن. - والأعراب اعتادوا أكل لحم الإبل، فغلب عليهم الحقد. ¬
133 - ومنها: التشبه في الحسد بالتيس.
- والسودان اعتادوا أكل لحم الفئران، فاكتسبوا الرقاعة والخلاعة. قلت: وعلى هذا فمن أتى بشيء من ذلك فهو متشبه بما ذكر. 133 - ومنها: التشبه في الحسد بالتيس. والحسد أن تتمنى زوال النعمة المحسود وانتقالها إليك. روى الأصبهاني في "الترغيب" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَأْتيْ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَحْسُدُ الفُقَهَاءُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَغَارُ بَعْضُهُمْ عَلَىْ بَعْضٍ كَتَغَايُرِ التُّيُوْسِ" (¬1). وروى الخطابي في "العزلة" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: أجيز شهادة القراء في كل شيء إلا بعضهم على بعض. قال: وجدتهم أشد تحاسداً من التيوس، توثق الشاة فيرسل عليها التيس، فيهب هذا ويهب هذا (¬2). 134 - ومنها: التشبه بالتيوس في اجتماع رجال على امرأة يتناوبون الزنا بها كما يشير إليه كلام مالك بن دينار. وهم في ذلك أشبه شيء بالفحول من الدواب تتناوب الإناث كالكلاب، والهررة، والخيل، والحمير، والخنازير. والزنا فاحشة بنص القرآن العظيم، وبذلك يتضاعف فحشه ¬
135 - ومنها: التشبه في تحليل المطلقة ثلاثا بالتيس المستعار، وهو من الكبائر.
ويتكاثف قبحه. روى ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متى الساعة؟ فقال: "عِنْدَ حَيْفِ الأَئِمَّةِ، وَتَكْذِيْبٍ بِالقَدَرِ، وَإِيمَانٍ بِالنُّجُوْمِ، وَقَوْمٍ يَتَّخِذُوْنَ الأَمَانة مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةَ مَغْرَمًا، وَالفَاحِشَةَ زِيَارَةً". قال: فسألته عن الفاحشة زيارة. قال: "الرَّجُلانِ مِنْ أَهْلِ الفِسْقِ يَصْنعُ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ طَعَامًا وَشَرَابًا، وَيَأْتِيْهِ بِالمَرْأةِ، وَيَقُوْلُ: اصْنَعْ ليْ كمَا صَنَعْتُ لَكَ، قَالَ: فَيَتَزَاوَرَانِ عَلَىْ ذَلِكَ، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ هَلَكَتْ أُمَّتيْ يَا بْنَ الخَطَّابِ" (¬1). 135 - ومنها: التشبه في تحليل المطلقة ثلاثًا بالتيس المستعار، وهو من الكبائر. روى ابن ماجه بإسناد حسن، والحاكم وصححه، عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ المُسْتَعَارِ؟ ". [قالوا: بلى يا رسول اللَّه. قال: "هو الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ الله الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ له" (¬2). ¬
قال الدميري: قيل: إنما لعنه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع حصول التحليل؛ لأن التماس ذلك هتك للمروءة والملتمس ذلك هو المحلل له، وإعارة التيس للوطء لغرض الغير أيضًا رذيلة. ولذلك شبهه بالتيس المستعار وإنما يكون كالتيس المستعار] (¬1) إِذَا سَبَقَ التِمَاسٌ مِنَ المُطَلِّقِ. قال: والعرب تعير بإعارة التيس (¬2). قلت: لعلهم إنما يعيرون باستعارة التيس للغنم لا بإعارته؛ لأن استعارته تدل على الشح والخسة من حيث إن صاحب الغنم الكثير لا صاحب الواحدة والثلاث لم يدع لها فحلاً للضراب مع أن قيمته قليلة، ولا كلفة له حتى إذا جاء وقت الضراب التمس تيساً يستعيره لغنمه، فأما إعارة الفحل فإنها من الجود والكرم، وهي مستحبة، فلا ينافي التعيير بها. هذا، وعندي أن وجه تشبيه المحلل بالتيس المستعار أن نكاح المحلل لا يقصد به حصول المودة والرحمة بينه وبين المنكوحة كما في الأنكحة المقصودة للدوام، بل يقصد لتعود فائدة التحليل على المطلق بالاستمتاع، وكذلك التيس المستعار لا يقصده المستعير للتربية والقُنية، بل للاستنتاج يومًا من الدهر ثم يرده إلى أهله. ¬
وعلى هذا فالمحلل تيس مستعار سواء التمسه المطلق لذلك أم لا، وإنما خصه الدميري بالملتمس؛ لظهور المعنى فيه أكثر من غيره. وعلى ما ذكره الدميري فالذي يتزوج المطلقة لتحل لمطلقها لم تنفك عنه صفة التيسية، وإنما ينفك عنه كونه مستعارًا فقط. قال الجوهري: وقد قيل مستعار بمعنى متداول (¬1). وعليه فإنما كان المحلل تيسًا مستعاراً لأنه متى رضي بالتحليل مرة تداوله المطلقون ثلاثًا، فإنه يعرف بذلك فيقصد له، ويصير كالتيس الذي اعتاد الناس طلبه واستعارته فيتداولونه. وهذا الحديث أصل قول الناس: فلان كالتيس المستعار. واعلم أن التشبيه بالتيس من التمثيل بأمثال السوء، حتى يمثل به أهل اللؤم والجهل والوقاحة. ومن لطائف حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قوله: [من البسيط] أَمَّا الْحماسُ فَإِنِّي غَيْرُ شاتِمِهِمْ ... لا هُمْ كِرامٌ وَلا عِرْضي لَهُمْ خَطَرُ قَوْمٌ لِئامٌ فَلَنْ تَلْقَى لَهُمْ شَبَهًا ... إِلاَّ التُّيوسَ عَلى أَكْتافِها الشَّعَرُ ¬
136 - ومنها: التشبه في سوء الخلق بالكلب الضاري الهار.
إِنْ سابَقُوا سَبَقُوا أو نافَروا نَفَرُوا ... أَوْ كاثَرُوا أَحداً مِنْ غَيْرِهِمْ كَثرُوا شِبْهَ الدَّعاعِيكِ لا دِينٌ ولا حَسَبٌ ... لَوْ قامَرُوا الرِّيحَ عَنْ أَحْسابِهِمْ قَمرُوا تَلْقَى الْحماسيَّ لا يَمْنَعْكَ حُرْمَتَهُ ... شِبْهَ النبيطِ إِذا اسْتَعْبَدْتَهُم صَبَرُوا قَدْ رَفَعَ اللهُ قَوْلي فَوْقَ قَوْلهِمُ ... كَما النُّجُومُ تَعَلَّى فَوْقَها القَمَرُ قَوْمٌ لِئامٌ أَقَلَّ اللهُ جُنْدَهُمُ ... كَما تَساقَطَ حَوْلَ النَّعْجَةِ البعرُ كَأَنَّ رِيْحَهُمْ فِي النَّاسِ إِذْ بَرَزُوا ... رِيحُ الْكِلابِ إِذا ما بَلَّها الْمَطَرُ الدعاعيك: السفلة. 136 - ومنها: التشبه في سوء الخلق بالكلب الضاري الهار. والهر صوت الكلب دون نباحه لقلة صبره على البرد؛ قاله في "القاموس" (¬1). ¬
وقد يطلق الهر على التعرض على الناس باللوم والعتب، وغيرهما لضيق الخلق. قال بعض بني طيء: [من الرمل] خالِقِ النَّاسَ بِخُلْقِ واسِعٍ ... لا تَكُنْ كَلْبًا عَلى النَّاسِ يَهِرْ وَالْقَهُمْ مِنْكَ بِبِشْرٍ ثُمَّ كُنْ ... لِلَّذِي تَسْمَعُ مِنْهُمْ مُغْتَفِرْ وقال شيخ الإسلام جدي رحمه الله تعالى: كَلْبٌ عَلى لَيْثٍ يهرُّ دائِمًا ... مِنْ ضَعْفِ قَلْبِهِ تُرى أَوْ مِنْ حَسَدْ فَلا تَلُمْهُ إِنْ سَطا بِهِ فَذا ... جَزاءُ كَلْبٍ اجْتَرى عَلى الأَسَدِ وروى ابن السمعاني في "أماليه" عن محمد بن علي، عن أبيه، عن آبائه، عن علي رضي الله تعالى عنه: أنه قال لنَوف الشامي مولاه وهو معه على سطح: يا نوف! أنائم أم نبهان؟ قال: نبهان أرمقك يا أمير المؤمنين. قال: تدري من شيعتي؟ قال: لا والله. قال: شيعتي إن شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن خطبوا لم يزوجوا، وإن مرضوا لم يعادوا. شيعتي من لم يهر هرير الكلب، ولم يطمع طمع الغراب، ولم يسأل الناس وإن مات جوعًا، وإن رأى مؤمنًا أكرمه، وإن رأى فاسقًا هجره.
137 - ومنها: التشبه بالبكر في الكت عند الغضب.
شيعتي الذين هم في قبورهم يتزاورون، وفي أموالهم يتواسون، وفي الله يتباذلون، خفيفة أنفسهم، عفيفة قلوبهم. يا نوف! أما الليل فصافون أقدامهم، مفترشون جباههم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون في فكاك رقابهم، وأما النهار فحلماء نجباء، كرام أتقياء (¬1). 137 - ومنها: التشبه بالبكر في الكت عند الغضب. يقال: كت البعير يكت - بالكسر - إذا صاح صياحًا بيناً. والكتيت صوت البكر، وهو فوق الكشيش. ويقال: كت الرجل من الغضب كتيتاً، وهو كما في "القاموس": صوت في صدر الرجل كصوت البكر من شدة الغيظ. قال في "القاموس": والكتكات الكثير الكلام، انتهى (¬2). ومن هذا القبيل قول الناس: ما لفلان يكت ويهر: إذا همهم وهينم من شيء لم يعجبه، أو من شيء فاته من الدنيا، أو طلبه فلم يتيسر له. 138 - ومنها: التشبه في سؤال الناس الشيء وتحسين طعامهم بالكلب والهر. وفي المثل: أسأل من فَلْحَس - وهو على وزن جعفر -: الكلب، ¬
139 - ومنها: التشبه بالكلب والبعير والحمار،
والحريص، ومن يتحين طعام الناس (¬1). ومنه قولهم: تفلحس إذا تطفل، كما حكاه في "القاموس" (¬2). وقال الزمخشري: في المثل: أسأل من فلحس، وهو الذي يتحين طعام الناس كالطفيلي؛ يقال: جاءنا يتفلحس. قال: والفلحس الحريص، وبه سمي الكلب. قال: وقيل: كان رجلاً عزيزاً من شيبان يسأل الغزاة سهمًا لنفسه ولامرأته ولناقته، فيعطى وهو في بيته لعزه (¬3). وقال صاحب "الصحاح": زعموا أنه كان يسأل سهمًا في الجيش وهو في بيته، فيعطى لعزه وسؤدده، فإذا أعطيه سأل لامرأته، فإذا أعطيه سأل لبعيره (¬4). 139 - ومنها: التشبه بالكلب والبعير والحمار، ونحوها في العض والقضم، وبالكلب والأفعى في النهش. والنهش - بالمعجمة -: اللسع. والعض: الأخذ بالأضراس، وبالمهملة: الأخذ بأطراف الأسنان. روى الأئمة الستة إلا أبا داود عن عمران بن حصين رضي الله ¬
140 - ومنها: التشبه في التظالم والتغاضب، وبطش القوي بالضعيف،
تعالى عنهما: أن رجلاً عض رجلاً على ذراعه، فنزع يده فوقعت ثنيتاه، فرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأبطلهما، وقال: "يَقْضِمُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَقْضِمُ الفَحْلُ؟ لا دِيَةَ لَكَ" (¬1). وروى ابن ماجه عن يعلى، وسلمة ابني أُمية رضي الله تعالى عنهما قالا: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة تبوك ومعنا صاحب لنا، فاقتتل هو ورجل آخر ونحن بالطريق؛ قال: فعض الرجل يد صاحبه، فجدب يده من فيه، فطرح ثنيته، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتمس عقل ثَنيته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلىْ أَخِيْهِ يَعَضُّهُ كَعِضَاضِ الفَحْلِ ثُمَّ يَأْتيْ يَلْتَمِسُ العَقْلَ؟ لا عَقْلَ لهَا"، فأبطلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 140 - ومنها: التشبه في التظالم والتغاضب، وبطش القوي بالضعيف، والضعيف بأضعف منه، بالبراذين، والبغال، والحمير لأنها تتكادم، وبالكلاب لأنها تتناهش، وغيرها. روى الحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه مر بمروان وهو يبني داره بالمدينة قال: فجلست إليه والعمال يعملون، فقلت: ابنوا شديدًا، وأمَّلوا بعيداً، وموتوا قريبًا. ¬
141 - ومنها: التشبه بالكلب في ترويع المؤمنين كما تفعل الشرطة وأعوان الظلمة.
يا معشر قريش! - ثلاث مرات - اذكروا كيف كنتم أمس وكيف أصبحتم اليوم، تختدمون أرقاءكم فارس والروم. كلوا خبز السميد واللحم السمين، لا يأكل بعضكم بعضًا، ولا تكادموا تكادم البراذين. وكونوا اليوم صغاراً تكونوا غداً كباراً، والله لا يرفع رجل منكم درجة إلا وضعه الله يوم القيامة (¬1). التكادم - دالُهُ مهملة - من الكدم: وهو العض بأدنى الفم كما يكدم الحمار (¬2). 141 - ومنها: التشبه بالكلب في ترويع المؤمنين كما تفعل الشُّرَطةُ وأعوان الظلمة. روى الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: إنما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقتل الكلاب الأهلية لأنها تروع المؤمنين. قال ابن عمر: فالشُّرَطي والجاسوس بمنزلة الكلب الأهلي. وروى أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا" (¬3). وأخرجه الطبراني في "الأوسط" - ورواته ثقات - عن النعمان بن ¬
142 - ومنها: التشبه في التعدي واستلاب مال الغير منه واختطافه بالحدأة.
بشير رضي الله تعالى عنهما، والبزار عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬1). 142 - ومنها: التشبه في التعدي واستلاب مال الغير منه واختطافه بالحدأة. وهي من الفواسق؛ فإنها لا تصيد، وإنما تخطف اللحم وغيره. فأشبه الناس بها من يخطف العمائم وغيرها من الناس، وربما أشبه في ذلك بعض السنانير والكلاب. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب قال: قال عيسى عليه السلام لأحبار بني إسرائيل: لا تكونوا للناس كالذئب السارق، وكالثعلب الخدوع، وكالحداء الخاطف (¬2). 143 - ومنها: التشبه بالحية في غصب بيوت الناس وأرضيهم وأمتعتهم. وفي المثل: أظلم من أفعى (¬3). قال في "حياة الحيوان": وذلك لأنها لا تحفر جحرًا، وإنما تأتي ¬
إلى الجحر وقد احتفره غيرها، فتدخل فيه. وقال الشاعر: [من الرجز] وَأَنْتَ كَالأَفْعَى الَّتِي لا تَحْتَفِر ... ثُمَّ تَجِيْءُ سادِراً فَتَجْتَحِرْ (¬1) وأنشده الزمخشري: ثُمَّ تَجِيْءُ سادِراً فَتَنْحَجِر (¬2). قال الدميري: وكل بيت قصدت إليه هرب أهله منها وتتركه لها. قلت: وهذا حال الينكجرية والبلوكباشية الذين في زماننا هذا إلا قليلاً منهم؛ يغتصبون بيوت الناس، ويستولون عليها وعلى سائر ما يشاؤون من عقار وإقطاع إلا ما وقى الله تعالى منهم؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل! ولعلهم يلينون، وما أشبههم في ذلك بلين الحية، ويحلون ألسنتهم لمن يطمعون فيه حتى يزوجهم أو يشاركهم، فإذا تمكنوا منهم طردوهم وأهانوهم، وربما أغرموهم أو قتلوهم، فما أشبه حالهم بما ذكره الزمخشري في "المستقصى" في قولهم في المثل: أظلم من حية (¬3). وروي: أظلم من حية الوادي. قال: يزعمون أن رجلاً أخذ حية وقد خمدت من البرد حتى لا ¬
حراك بها، فلم يزل يدفئها تحت ثيابه حتى تحركت، فنهشته، فقال لها: ويحك! هذا جزائي منك؟ قالت: لا، ولكنه طبعي (¬1). وقالوا: من أظلم من ذئب. قال الزمخشري: ربَّى بدوي ذئباً، فلما كبر وشب فرس سخلة له، فقال: [من الوافر] فَرَسْتَ شُوَيْهَتِي وَفَجَعْتَ طِفْلاً ... وَنِسْوانًا وَأَنْتَ لَهُمْ رَبِيبُ نشَأْتَ مَعَ السِّخالِ وَأَنْتَ طِفْلٌ ... فَمَنْ أَدْراكَ أَنَّ أَباكَ ذِئْبُ إِذا كانَ الطَّباعُ طِباعَ سُوءٍ ... فَلَيْسَ بِمُصْلِحٍ طَبْعاً أَرِيبُ قال: وقال آخر: [من الطويل] وَأَنْتَ كَذِئْبِ السَّوْءِ إذْ قالَ مَرَّةً ... لِعمروسةٍ وَالذِّئْبُ غَرثانُ مُرْسَلِ أَأَنْتَ الَّذِي مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ سَبَيْتَنِي ... فَقالَ مَتَى ذا قالَ ذا عامَ أَوَّلِ فَقالَ وُلِدْتُ العامَ قَدْ رُمْتَ ظُلْمَنا ... فَدُونَكَ كُلْنِي لا هَنا لَكَ مَأْكَلي قال: وقال آخر: [من الطويل] وَأَنْتَ كَجَرْوِ الذِّئْبِ لَيْسَ بِآلِفٍ ... أَبَى الذِّئْبُ إِلاَّ أَنْ يَخُونَ وَيَظْلِما (¬2) وروى البيهقي في "الشعب" عن الأصمعي: قال: دخلت البادية ¬
فإذا أنا بعجوز يبن يديها شاة مقتولة وجرو ذئب، فقالت: أتدري ما هذا؟ قلت: لا. قالت: جرو ذئب، أخذناه وأدخلناه بيتنا، فلما كبر قتل شاتنا، وقلت في ذلك شعرًا. قلت ماهو؟ فأنشدت: [من الطويل] قَتَلْتَ شُوَيْهَتِي وَفَجَعْتَ قَوْماً ... وَأَنْتَ لِشاتِنا وَلَدٌ رَبِيبُ غُذِيتَ بِدِرِّها وَرُبِيتَ فِينا ... فَمَنْ أَنباكَ أَنَّ أَباكَ ذِئْبُ إِذاكانَ الطَّباعُ طِباعَ سَوْءٍ ... فَلَيْسَ بِنافعٍ أَدَبٌ أَدِيبُ (¬1) وأنشد السيوطي في "ديوان الحيوان" لبعضهم: [من الكامل] وَإِذا الذِّئابُ اسْتَنْعَجَتْ لَكَ مَرَّةً ... فَحَذارِ مِنْها أَنْ تَعُودَ ذِئابا وَالذّئْبُ أَخْبَثُ ما يَكُونُ إِذا اكْتَسَى ... مِنْ جِلْدِ أَوْلادِ النِّعاجِ ثِيابا ولطف الصفي الحلي في قوله مضمناً: [من مجزوء الكامل المرفل] وَإِذا العُداةُ أَرتْكَ فَرْ ... طَ مَوَدَّةٍ فَإِلَيْكَ عَنْها وَإِذا الذِّئابُ اسْتَنْعَجَتْ ... لَكَ مَرَّةً فَحَذارِ مِنْها وقالوا في المثل: الذئب يأدو للغزال؛ أي: يختله ليوقعه ويأكله؛ ¬
144 - ومنها: التشبه في أذية الناس بالعقرب، والحية، والسبع، والزنابير، والدبر.
يضرب للماكر الخدَّاع (¬1). يقال: أدوت له، وأديت له بمعنىً، والدال مهملة فيهما. أنشد في "الصحاح" عن أبي زيد: أَدَوْتُ لَهُ لآخُذَهُ ... وَهَيْهاتَ الفَتَى حَذِرا (¬2) في الحديث: "المَكْرُ وَالخَدِيْعَةُ فيْ النَّارِ" (¬3). 144 - ومنها: التشبه في أذية الناس بالعقرب، والحية، والسبع، والزنابير، والدبر. وفي الحديث: "مَنْ عَضَّ عَلَىْ شِبْدِعِهِ - بكسر الشين المعجمة، والدال المهملة؛ أي: عقربه - سَلِمَ مِنَ الآثَامِ" (¬4). أي: من عض على لسانه؛ يعني: سكت، ولم يخض مع الخائضين، ولم يلسع به الناس؛ لأن العاض على لسانه لا يتكلم، فشبه اللسان بالعقرب الضارب؛ ذكره في "حياة الحيوان" (¬5). روى الأصبهاني في "الترغيب" عن الفضيل بن عياض قال: قيل ¬
لحذيفة رضي الله تعالى عنه: ما لك لا تتكلم؟ قال: إن لساني سَبُعٌ أتخوف إن تركته يأكلني (¬1)؛ أي: أخاف أن يأكلني إذا تركته منطلقًا في الكلام ولم أحبسه. وروى البيهقي في "الشعب" عن معن بن عيسى رحمه الله تعالى قال: قيل لراهب: ما لك لا تتكلم؟ قال: لساني سَبُعٌ إن أرسلته أكلني (¬2). وروى أبو نعيم عن منصور بن حوشب قال: قيل لقيس بن السكن: ألا تتكلم؟ قال: لساني سَبُعٌ أخاف أن أدعه فيعقرني (¬3). وروى الأصبهاني عن أبي عمران الجوني رحمه الله تعالى قال: إنما لسان أحدكم كلب؛ فإذا سلطته على نفسك أكلك (¬4). وقيل لراهب: يا راهب! قال: لست براهب، إنما أنا حابس كلب عقور (¬5)؛ يعني: لسانه، أو نفسه. ¬
145 - ومنها: التشبه في إطلاق اللسان في كل زمان ومكان بالعقرب؛ فإنها تضرب ما وجدت حتى الحجر والمدر.
قال الشاعر: [من الكامل] احْفَظْ لِسانَكَ أَيُّها الإِنْسانُ ... لا يَلْدَغَنَّكَ لَدْغَةَ الثُّعْبانِ وأنشد القاضي الماوردي لبعض أهل العلم: [من البسيط] لا تَرْكَنَنَّ إِلَى ذِي مَنْظَرٍ حَسَنٍ ... فَرُبَّ رائِقَةٍ قَدْ ساءَ مَخْبَرُها ما كُلُّ صَفْراءَ دِينارٌ تُصَرِّفُهُ ... صُفْرُ العَقارِبِ أَنْكاها وَأَنْكَرُها (¬1) وأنشد ابن أبي الدنيا، والأصبهاني بإسناديهما لسفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: [من مجزوء الرمل] خَلِّ جَنْبَيْكَ لِرامِ ... وَامْضِ عَنْهُ بِسَلامِ مُتْ بِداءِ الصَّمْتِ خَيْرٌ ... لَكَ مِنْ داءِ الكلامِ إِنَّما السَّالِمُ مَنْ أَلْـ ... ـجَمَ فاهُ بِلِجامِ وَالْمَنايا آكِلاتٌ ... شارِباتٌ لِلأَنامِ شبه اللسان بالدابة السريعة التي تحتاج إلى اللجام والفدام. 145 - ومنها: التشبه في إطلاق اللسان في كل زمان ومكان بالعقرب؛ فإنها تضرب ما وجدت حتى الحجر والمدر. ومن أحسن ما قيل في ذلك: [من المتقارب] رَأَيْتُ عَلى صَخْرَة عَقْربا ... وَقَدْ جَعَلَتْ ضَرْبَها دَيْدَنا ¬
فَقُلْتُ لَها إِنَّها صَخْرَةٌ ... وَطَبْعُكِ مِنْ طَبْعِها أَلْيَنا فَقالَتْ صَدَقْتَ وَلَكِنَّنِي ... ارِيْدُ أُعَرَّفُها مَنْ أَنا (¬1) وهذا الشاعر أراد وصف العقرب بالأذى في كل وقت وبالجهل؛ فإن جهلها أدى إلى مداومة ضرب الصخرة وهي لا تتأثر من ضربها، وهذا أشبه شيء بحال الطَّغَّان على الأئمة، وهو مقصر عن بلوغ شأوهم في الفضل والعلم، أو على الأكابر والأشراف والأكارم، وهو من الأراذل الذي لا يعتنى بمدحه، ولا يلتفت إلى ذمه. ونظير ذلك الكلاب تنبح السحاب. وفي المثل: لا يضر السحاب نبيح الكلاب (¬2). ومن كلام بعض الأدباء في زجل له: إِنْ عَوى عَلى القَمَرِ الكَلْبُ يخس مِنْ بَعِيد وقال الفرزدق: [من الطويل] وَقَدْ يَنْبَحُ الكَلْبُ السَّحابَ وَدُونهَا ... مَهامِهُ تُعشي نَظْرَةَ الْمُتَأَمَّلِ (¬3) وقال الكميت: [من البسيط] فَإِنَّكمْ وَنزارًا فِي عَداوَتنا ... كَالْكَلْبِ هرَّ مدى وَطفاء مِدْرارُ ¬
146 - ومنها: التشبه بالكلب العقور في العقر والجراحة.
وفي رواية في المثل: هل يضر السحاب نباح الكلاب؟ ذكره الزمخشري. وأنشد مع الكلام للفرزدق: [من الطويل] وَما لِي لا أَغْزُو وَلِلدَّهْرِ كَرَّةٌ ... وَقَدْ نَبَحَتْ نحوَ السَّحابِ كِلابُها (¬1) 146 - ومنها: التشبه بالكلب العقور في العقر والجراحة. وقد سبق قول الراهب: أنا لست براهب، إنما أنا حابس كلب عقور؛ يعني: نفسه. والكلب العقور من الفواسق التي تُقتل في الحِلِّ والحرم. وقد سميت فواسق وأمر بقتلها وهي لا تعقل، فكيف بمن يتشبه بها من المكلفين؟ وفي كتاب الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. وروى الشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ فيْ الدِّمَاءِ" (¬2). وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ يَزَالَ الرَّجُلُ فيْ فُسْحَةٍ مِنْ دِيْنِهِ مَا لَمْ يُصِبْ ¬
147 - ومنها: التشبه بالعقرب في التظلم مع الظلم.
دَمًا حَرَامًا" (¬1). وقال ابن عمر: من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حد (¬2). والورطات: الهلكات، والأمور التي يعسُر التخلص منها. 147 - ومنها: التشبه بالعقرب في التظلم مع الظلم. فإن العرب تقول في المثل: العقرب تضرب وتصيء؛ يضربونه للظالم في صورة المتظلم. ذكره في "حياة الحيوان" (¬3). قال في "الصحاح": ومثل: تلدغ العقرب: تضرب وتصيء. أورد المثل الزمخشري: تلدغ المرأة (¬4) وتصيء؛ قال: والمعنى: أنها تظلم بعلها، وتزعم أنه يظلمها؛ يضرب لمن يؤذي ويشتكي (¬5). قلت: روى الخطابي في "الغريب" بإسناده، عن أبي طلق: أن امرأة حدثته أن امرأة وطئت صبيًا مولداً فشدخته، فشهد عليها نسوة عند علي رضي الله تعالى عنه أنها قتلته، فأجاز شهادتهنَّ، فلما رأت ¬
148 - ومنها: التشبه بالإفساد في الأرض بالأرضة،
المرأة قالت: إني جزعت، فقال لها: أنت مثل العقرب تلدغ وتصيء (¬1). 148 - ومنها: التشبه بالإفساد في الأرض بالأرَضة، والجراد، والجرد، والفأرة، والدب، والضبع، وغيرها. والمفسد مع كونه متشبهًا بهذه المفسدات ملحق بالمنافقين. قال الله تعالى في ما حكاه عنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11 - 12]. وكذلك تلك المفسدات لا شعور لها بأن ما هي فيه فساد، بل هو عندها صلاح. وفي المثل: أعيث من جِعَار - وهي كقطام: الضبع - (¬2). قال في "الصحاح": العيث: الإفساد، يقال: عاث الذئب في الغنم، انتهى (¬3). [قال الزمخشري]: ويقال: إن الضبع أفسد حيوان (¬4). وأنشد قول الشاعر: [من الطويل] ¬
فَقُلْتُ: أَلا عِيثِي جِعَارُ وَأَبْشِرِى ... بِلَحْمِ امْرِئِ لَمْ يَشْهَدِ اليَوْمَ ناصِرَه (¬1) وقال الزمخشري أيضًا: هي فوق الذئب في العيث إذا وقعت في الغنم، ولإفراطها في الفساد استعاروا اسمها للأزمة فقالوا: أكلتنا الضبُع - كرَجُل -: السنة المجدبة (¬2). وفي المثل أيضًا: أفسد من خُلد، وهو - بضم الخاء المعجمة، وكسرها - كما ذكره صاحب "الكفاية" عن الخليل، ونبه عليه السيوطي في "ديوان الحيوان": دويبة عمياء تشبه الفأر، أو هو نوع منه (¬3). وفي المثل أيضًا: أفسد من الأَرَضة (¬4)، وهي دويبة بيضاء كالنمل تأكل الخشب. وأفسد من الجرد، ومن الفأر، ومن السوس، ومن الجراد، وليس في الحيوان أفسد لما يتقوت به الإنسان من الجراد (¬5). وقالوا في المثل؛ كالجراد لا يبقي ولا يذر (¬6). ¬
وقال [الزمخشري]: أجرد من الجراد، يقال: جرد الأرض الجراد: أكل ما عليها؛ من هذا اشتقاق اسمه (¬1). وروى الحاكم في "تاريخ نيسابور"، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن جرادة وقعت بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا مكتوب على جناحها بالعبرانية: نحن جند الله الأكبر، ولنا تسعة وتسعون بيضة، ولو تمت لنا لأكلنا الدنيا بما فيها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُمَّ أَهْلِكِ الجَرَادَ، اقْتُلْ كِبَارَهَا، وَأَمِتْ صِغَارَهَا، وَأَفْسِدْ بَيْضَهَا، وَشُدَّ أَفْوَاهَهَا عَنْ مَزَارِعِ المُسْلِمِيْنَ وَمَعَاشِهِمْ؛ إِنَّكَ سَمِيع الدُّعَاءِ". قال: فجاء جبريل عليه السلام فقال: قد استجيب لك في بعضه (¬2). وفي هذا الحديث دليل على أنه يجوز الدعاء على المفسدين والظلمة، وقد عدَّ هلاك الظالم والمُفسد نعمة. قال الله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 45]. ¬
149 - ومنها: الغدر، وهو ترك الوفاء تشبها بالذئب والضبع، ونحوهما.
وفيه دليل على أنه يُحمد ويُشكر عند هلاك الظالم والمفسد، والله يعلم المفسد والمصلح. 149 - ومنها: الغدر، وهو ترك الوفاء تشبهًا بالذئب والضبع، ونحوهما. وفي المثل: أغدر من الذئب، وأغدر من أم أدراص، وهي اليربوع. قال طفيل: [من الطويل] وما أمُّ أدراصِ بِأَرْضٍ مُضِلَّةٍ ... بِأَغْدرَ مِنْ قَيْسِ إِذا اللَّيْلُ أَظْلَما (¬1) روى مسلم عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلَّ غَادِرٍ لِوَاء عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬2). وروى الإمام أحمد، ومسلم عن ابن مسعود، وهما والبخاري عن أنس، ومسلم عن ابن عمر؛ قالوا رضي الله تعالى عنهم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُل غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬3). ¬
150 - ومنها: التشبه في الضلال، وهو نقيض الهدى والرشد بالبعير الضال، وبالضب، واليربوع.
150 - ومنها: التشبه في الضلال، وهو نقيض الهدى والرشد بالبعير الضَّال، وبالضب، واليربوع. في المثل: أضل من ضب. ذكر الدميري والسيوطي: أن الضَّب يُضرب به المثل في الحيرة وعدم الهداية، ولذلك لا يحفر جحره إلاَّ عند أكمة أو صخرة لئلا يضلَّ عنه إذا خرج لطلب الطعم (¬1). وقالوا في المثل: ضل ضريس نَفَقَهُ؛ أي: جحره (¬2). قال الجوهري: تقول: إنك تهدي الضَّال، لا تهدي المتضال (¬3). وهو مثل معناه: وإن من ضلاله من غير قصد منه؛ فإنك إذا أهديته اهتدى واتبع الهدى، بخلاف من يسلك مسالك الضلال عن قصد ويتبع غير سبيل الهداية مستحسنًا لها؛ فإنه لا يهتدي وإن هديته. قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} [البقرة: 16]. وروى الإمام أحمد، والترمذي وصححه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ ¬
151 - ومنها: التشبه بضعاف الحيوانات المؤذية في الأذى مع الضعف.
هُدًى كَانُوْا عَلَيْهِ إِلَّا أُوْتُوْا الجَدَلَ" (¬1). 151 - ومنها: التشبه بضعاف الحيوانات المؤذية في الأذى مع الضعف. ومن ثمَّ قيل في المثل: فلان ضعيف جبار. وإذا كان للضعيف أذى فلا ينبغي أن يهمل الحذر منه لضعفه. ولقد أحسن البهاء زهير في قوله: [من الطويل] تَوَقَّ الأَذى مِنْ كُلَّ نَذْلٍ وَساقِطٍ ... فَكَمْ قَدْ تَأَذَى باِلأَراذِلِ سَيَّدُ ألمْ تَرَ أَن اللَّيْثَ تُؤْذِيهِ بَقَّةٌ ... وَيَأْخُذُ مِنْ حَدِّ الْمُهَنَّدِ مِبْرَدُ وقال آخر: [من البسيط] لا تَحْقِرَنَّ صَغِيراً فِي مُخاصَمَةٍ ... إِنَّ الذُّبابَةَ أَدْمَتْ مُقْلَةَ الأَسَدِ (¬2) 152 - ومنها: التشبه في الصولة عند الجوع بالأسد والسباع، وعند الشبع بالبغال والحمير. روى الدينوري في "مجالسته" عن الأصمعي قال: قال بزرجمهر الحكيم: احذروا صولة اللئيم إذا شبع، والكريم إذا جاع (¬3). ¬
153 - ومنها: تشبه السفيه في إتلافه ماله على من لا نفع له من الناس،
واعلم أن الكريم - وإن كان في طبعه الغضب عند الجوع - فإنه إذا استرسل مع غضبه حتى يبطش، فقد خدش كرمه، وأُلحق بعالَم الضباع، والأكمل في حقه أن يصبر كما قال بعض العارفين: إذا وجدنا أَكْلنا أكل الرجال، وإذا فقدنا صبرنا صبر الأبطال (¬1). فالكريم يغضب عند الجوع، لكنه يملك نفسه عند الغضب. ولا يُلام على أصل الغضب والضجر كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ثلاثة لا يلامون على الضجر: الصائم، والمسافر، والمريض. أخرجه ابن أبي الدنيا في "التوبة" (¬2). 153 - ومنها: تشبه السفيه في إتلافه ماله على مَنْ لا نَفْعَ له من الناس، وما لا فائدة فيه من الأمور الدنيوية والأغراض النفسانية مع منعه الحقوق اللازمة كترك العيال بلا نفقة، والتقتير عليهم ليصرف ما يمنعهم منه على غيرهم بالذئبة والنعامة؛ فإنها تنسى بيضها وتَحْضُن بيض غيرها، والذئبة ربما تركَتْ أولادها وأَرْضعت أولاد الضَّبع. ولهذا قالت العرب في أمثالهم: أحمق من جهيزة (¬3)، وهي أنثى الذئب كما تقدم. وهذا حال أكثر الناس الآن؛ ربما شحَّ أحدهم على ولده وزوجته وأقربائه، وصرف أمواله على أهل هواه، بل ربَّما أنفق في ¬
154 - ومنها: التشبه بالضباع ونحوها في نبش القبور.
تُرَّهاته في اليوم الواحد ما يكفي عياله لو أنفقه عليهم أيامًا كثيرة. 154 - ومنها: التشبه بالضباع ونحوها في نبش القبور. إلاَّ أن الضبع ينبش القبر رغبةً في لحم ابن آدم، والنباش من بني آدم نَبْشُهُ رغبةً في الكفن، وهذا من أقبح الحرام؛ فإنه سرقة، وقسوة قلب، وانتهاك حُرمة، وجُرأة على الله تعالى، وانكلاب على الدنيا. وفي الحديث: "أَبْعَدُ القُلُوْبِ عَنِ اللهِ القَلْبُ القَاسِيْ" (¬1). وفي المثل: أنبش من جَيْأل - على وزن فيعل - وهي اسم الضبع (¬2)، معرَّفة بلا ألف ولام. 155 - ومنها: التشبه بالخيل الجامحة في اتباع الهوى، والبغال الرامحة في الحركات التي لا تختار ولا تجتبى. وكذلك تشبه المرأة في الخروج من بيت زوجها بغير إذنه بالفرس الجموح. قال الجوهري: جمحت المرأة من زوجها، وهو خروجها من بيتها إلى أهلها قبل أن يُطلقها. قال: والجموح من الرجال الذي يركب هواه فلا يمكن رده. قال الشاعر: [من الطويل] ¬
156 - ومنها: التشبه في العجز والقصور عن طلب المنازل العلية والمراتب السنية بدواب الجحر كالضب، وغيره.
خَلَعْتُ عَذاري جامِحاً ما يَرُدُّنِي ... عَنِ البِيضِ أَمْثالِ الدُّمى زَجْرُ زاجِرِ قال: وأصله من جموح الفرس، وهو اعتزازه صاحبه، وغلبته عليه (¬1). وقال البوصيري: [من البسيط] مَنْ لِي بِرَدِّ جِمَاحٍ مِنْ غَوايَتِها ... كَما يُرَدُّ جِماحُ الْخَيْلِ بِاللُّجُمِ 156 - ومنها: التشبه في العجز والقصور عن طلب المنازل العلية والمراتب السنيَّة بدواب الجُحَر كالضب، وغيره. والجُحَر - بضم الجيم، وفتح المهملة - جمع جُحر - بالضم -: وهو ما تحتفره السباع والهوام لأنفسها. قال الطرطوشي في "سراج الملوك": وقد كان جُهيل رئيس القندهاريين يرى من تصديق القدر وتكذيب الطلب دون أهل زمانه من الملوك ما حجزه عن الطلب والتدبير، فأخرجه إخوته من سلطانه، وقهروه على مملكته، فقال له بعض الحكماء: إنَّ ترك الطلب يُضعف الهمَّة ويُذل النفس، وصاحبه صائر إلى أخلاق ذوي الأجحرة من الحيوان كالضب. وسائر الحشرات تنشأ في أجحرتها وفيها يكون موتها. قال الطرطوشي: ثم جمعوا بين الطلب والقدر، وقالوا: إنهما كالعدلين على ظهر الدابة؛ إنْ يُحمل في واحدٍ منهما أرجح مما يُحمل ¬
157 - ومنها: تشبه الإنسان في مشاركة أخيه في الرفاهية، ومفارقته في الحزن والشدائد بالجمل والجدي يرتع، وغيره في الشدة.
في الآخر سقطا جملة ... إلى آخر كلامِهِ (¬1). وقلت: [من الرجز] أَلا اعْمَلُوا كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما ... خَلَقَهُ اللهُ لَهُ مِنَ العَمَلْ وَما كَسَبْتَهُ وَإِنَّ قُدْرَةَ اللـ ... ـهِ تَعالَى مُسْقِطٌ عَنْكَ العَذَلْ وَرُبَّما نالَ الفَتَى مَأْمُولَهُ ... وَرُبَّما نُوَّلَ مِنْ غَيْر أَمَلْ إِنَّ النَّشاطَ لَمْ يُذَمَّ وَهْوَ لا ... يُعارِضُ القَضاءَ بَلْ ذُمَّ الكَسَلْ وَلَكَ أَجْرُ الاكْتِسابِ نِلْتَ ما ... حاوَلْتَهُ مُوَفَّرًا أَوْ لَمْ تَنَلْ 157 - ومنها: تشبه الإنسان في مشاركة أخيه في الرَّفاهية، ومفارقته في الحزن والشدائد بالجَمَل والجدي يرتع، وغيره في الشدة. والأخ الحق والصديق الصدق هو الذي لا يُفارق أخاه في الشدة كما لا يفارقه في الرخاء. وقد قيل: [من الرجز] أَخُوكَ مَنْ واسَاكَ عِنْدَ الشَّدَّةْ ... فَذاكَ عِنْدَ النَّائِباتِ عُدَّةْ وفي المثل: يربض حجرة ويرتعي وسطًا. وربما قالوا: يأكل خضرة ويربض حجرة. والحجرة: الناحية. ¬
158 - ومنها: تشبه الإنسان بالجمل والجدي في إيثار الدعة والراحة على الاهتمام بما يعنيه.
قال الزمخشري: وأصله الجمل أو الجدي يرتع في الروضة، فإذا شبع ربض ناحية. يضرب لمشاركة الرجل أخاه في الرفاهية، وخذلانه إياه في الشدائد (¬1). 158 - ومنها: تشبه الإنسان بالجمل والجدي في إيثار الدعة والراحة على الاهتمام بما يعنيه. كما يشير إليه المثل المتقدم: يربض حجره ويرتعي وسطًا. ومن الأمثال كما ذكره الدميري، والسيوطي: فلان كالخروف يتقلب على الصوف؛ يضرب للرجل المكفي المؤنة (¬2). ومن أمثال العوام: فلان كالجدي يصيح الناس الغرق، وهو يقرض الحبال. 159 - ومنها: تربص الدوائر بالمؤمن، وتمني السوء له، وإشاعة ما يُحزنه تشبهًا بالبوم. وذلك من خصال المنافقين كما تقدم في التشبه بهم. ومن أمثال العوام: فلان كالبوم لا يصيح إلا بالخراب. وروى ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
160 - ومنها: التشبه في صرف العمر الطويل في غير اكتساب العلوم والمعارف بالنسر،
قال: "الرَّجُلُ الصَّالحُ يَأْتي بِالخَبَرِ الصَّالحُ، وَالرَّجُلُ السُّوْءُ يَأْتي بِالخَبَرِ السُّوْءِ" (¬1). 160 - ومنها: التشبه في صرف العمر الطويل في غير اكتساب العلوم والمعارف بالنسر، والحية، والقراد، والحِسل - بكسر الحاء المهملة - وهو ولد الضب. يُقال: إِنه يعيش ثلاث مئة سنة، والنسر يعيش ثمانين سنة، ويُقال: خمس مئة سنة، ويقال: ألف سنة. وروي أنه يقول في صياحه: عش ما شئت؛ فإنك ميت. وقالوا في المثل: أعمر من نسر (¬2). وقالوا: أعمر من لبد، وهو آخر أنسُر لقمان العادي، تزعم العرب أنَّ لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم ليَسْتقي لها، فلمَّا هلكوا خُيَّر لقمان بين بقاء سبع بقرات سمر مراظب عُفر في جبل وَعر لا يمسها القطر، وبقاء سبعة أنسر كما هلك نسر خَلَفَ بعده نسر، فاختار النسور، وكان آخر نسوره يُسمى لبداً؛ قاله في "الصحاح" (¬3). وقال الزمخشري في "المستقصى": سمَّاه لبداً معتقداً فيه أنه لبد فلا يموت ولا يذهب. ¬
قال: ويزعمون أنه حين كبر قال له: اذهب لبد، فأنت نسر الأبد (¬1). وقالوا: أعمر من القراد؛ قيل: إنه يعيش سبع مئة سنة، يضرب لمن استطيل عمره ضجراً منه (¬2). وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححاه، والطبراني بإسناد صحيح، وغيرهم عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الناس خير؟ قال: "مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ". قال: فأيُّ الناس شر؟ قال: "مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ" (¬3). وفي الحديث: "عِشْ مَا شِئْتَ؛ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ" (¬4). وقال العجاج: [من الرجز] إِنَّكَ لَوْ عُمَّرْتَ عُمْرَ الْحِسْلِ ... أَوْ عُمْرَ نُوحٍ زَمَنَ الفطحْلِ وَالصَّخرُ مُبْتَلٌّ كَطِينِ الوَحْلِ ... كُنْتَ رَهِينَ هَرَمٍ وَقَتْلِ (¬5) ¬
161 - ومنها: التشبه في الإساءة إلى من أحسن إليه بالبغل، والضبع، والكلب، والذئب، والحية.
161 - ومنها: التشبه في الإساءة إلى مَنْ أحسن إليه بالبغل، والضبع، والكلب، والذئب، والحية. ومن أمثال العوام: كالبغل تُهيء له العَلَف وهو يُهيء لك الرَّفْسة. وتقول العرب فيمن عمل المعروف مع غير أهله: مُجيرُ أُمِّ عامر، وهي كنية الضبع (¬1). روى البيهقي في "الشعب" عن أبي عبيدة: أنه سأل يونس بن حبيب عن المثل المشهور: كمجير أم عامر؛ قال: كان من حديثه أنَّ قومًا خرجوا إلى العيد في يومٍ حار، فرأوا ضبعا فطردوها، فاقتحمت حيَّ أعرابي، فأجارها منهم، وسقاها ماءً ولبناً، فبينما هو نائم إذ وثبَتْ فبقرَتْ بطنه وشربَتْ دمه، وأكلَتْ حشوته، فجاء ابن عم له فرآها فاتبعها حتى قتلها، وأنشأ يقول: [من الطويل] ومَنْ يَصْنعِ المعروفَ مَعْ غَيْرِ أَهْلِهِ ... يُلاقِي الَّذِي لاَقَى مُجِيرُ امَّ عامِرِ أَدَامَ لَها حِينَ اسْتَجارَتْ بقُربِه ... قِراها مِنْ أَلْبانِ اللِّقاحِ الغَرائِر ¬
فَقُلْ لِذَوِي الْمَعْرُوفِ: هَذا جَزاءُ مَنْ ... غَدَا يَصْنعُ الْمَعْرُوفَ مَعْ غَيْرِ شاكِرِ (¬1) وذكره الزمخشري بنحوه، وأنشد البيت الثاني مضمومًا إليه هكذا: [من الطويل] أَدَامَ لها حينَ استجارَتْ بِقُرْبِه ... لَها مَحْضَ أَلْبانِ اللِّقاحِ الدَّرائرِ وَأَسْمَنَها حَتَّى إِذا ما تَكامَلَت ... فَرَتْهُ بِأَنْيابٍ لَها وَأَظَافرِ فَقُلْ لِذَوِي الْمَعْرُوفِ هَذا جَزاءُ مَنْ ... بَدَا يَصْنعُ الْمَعْرُوفَ مَعْ غَيْرِ شاكرِ (¬2) وقالوا: سَمَّنْ كلبك يأكلْك. قال الزمخشري: يُضرب للئيم يجازي بالإحسان إساءة، والنهي عن بره. وقال: كان لرجلٍ من طسم كلبٌ يُربيه رجاء الصيد به، فضرب، فجاع يومًا، فوثب عليه حتى افترسه، وفيه يقول طرفة: [من المنسرح] ¬
كَكَلْبِ طسْمٍ وَقَدْ تُرَبيَّهِ ... يَعُلُّهُ بِالْحَلِيبِ فِي الغَلَسِ ظَلَّ عَلَيْهِ يَومًا يُفَرْفِرُهُ ... إِنْ لا يَلِغْ فِي الدَّماءِ يَنْتَهِسِ قال: وأنشد أبو زيد: [من البسيط] مَنْ ذا يُسَمِّنُ كَلبًا سَوْفَ يَأكلُهُ ... يَعْدُو عَلَيهِ كَعَدْوِ الباسلِ الضَّاري قال: وقال حاجب بن دينار المازني: [من الطويل] وَكَمْ مِنْ عَدُوًّ قَدْ أَعَنْتُمْ عَلَيكُمُ ... بِمالٍ وَسُلْطانٍ إِذا أَسْلم الْحبلُ كَذِي الكَلْبِ لَمَّا أَسْمنَ الكَلْبَ رابَهُ ... بِإحْدى الدَّواهي حِينَ فارَقَهُ الْهزلُ (¬1) وقالوا في المثل: لا تقتن من كلب سوءٍ جرواً. قال الزمخشري: يضرب في النهي عن اصطناع من لا عرق له (¬2). وروى ابن السمعاني في "أماليه" عن عبد الملك بن قُريب؛ هو الأصمعي رحمه الله تعالى قال: دخلت البادية، فإذا أنا بأعرابية ترعى، وهي تقول: [من الوافر] قَتَلْتَ شُويْهَتِي، وَفَجَعْتَ قَوْمِي ... مَحاوِيْجًا وَأَنْتَ لَهُمْ رَبِيبُ غُدِيتَ بِدِرَّها وَنَشَأْتَ فِينا ... فَمَنْ أدْراك أن أباكَ ذِئْبُ إِذا كانَ الطَّباعُ طِباعَ سَوْءٍ ... فَلَيْسَ بِنافي أَدَبٌ أَدِيبُ فقلت: يا خالة! ما هذا الكلام؟ ¬
فقالت: لا والله إني التقطت فرخ ذئب، فألفيته على شويهتي، فلم تزل ترضعه حتى اشتد وقوي، فخرجتُ يومًا لبعض حوائجي ثم رجعت، فإذا هو يَلَغ في دمها، فقلت ما قلت. وروى البيهقي في "الشعب" قريبًا من هذه القصة، وتقدمت. وروى أبو نعيم عن يحيى بن عبد الحميد قال: كنت في مجلس سفيان بن عُيينة رحمه الله تعالى، فاجتمع عليه ألف إنسان أو يزيدون أو ينقصون، فالتفت في آخر مجلسه إلى رجل كان عن يمينه، فقال: قم حدث القوم حديث الحية. فقال الرجل: أسندوني. فأسندناه، وشال جفون عينيه، فقال: ألا فاسمعوا وعُوا: حدثني أبي عن جدي: أن رجلًا كَان يُعرف بابن حمير، وكان له ورع، يصوم النهار ويقوم الليل، فخرج ذات يومٍ يتصيد إذ عرضت له حية، فقالت: يا محمد بن حمير! أجرني أجارك الله. قال لها: ممن؟ قالت: من عدوِّ قد ظلمني. قال لها: وأين عدوك؟ قالت له: من ورائي. قال لها: ومن أمة مَنْ أنت؟ قالت: من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
قال: ففتحت ردائي، وقلت: ادخلي فيه. قالت: يراني عدوي. قال: فشلت طمري، وقلت: ادخلي بين طمري وبطني. قالت: يراني عدوي. قلت: فما الذي أصنع بك؟ قالت: إنْ أردْتَ اصطناع المعروف فافتح لي فاك حتى أنساب فيه. قلت: أخشى أن تقتليني. قالت: لا والله لا أقتلك، الله شاهدٌ عليَّ بذلك، وملائكتُه، وأنبياؤه، وحملة عرشه، وسكان سماواته إنْ أنا قتلْتُك. قال محمد: ففتحت فيَّ، فانسابَتْ فيه ثم مَضَيْتُ، فعارضني رجلٌ معه صمصامة، فقال لي: يا محمد! قلت: وما تشاء؟ قال: لقيت عدوي؟ قلت: ومَنْ عدوك؟ قال: حية. قلت: اللهم لا، واستغفرت ربي من قولي (لا) مئةَ مرة، ثم مضيت قليلاً، فأَخْرَجَتْ رأسها من فيَّ، وقالت: انظر مضى هذا العدو؟
فالتفت، فلم أرَ أحدًا، قلت: لم أرَ أحدًا، إنْ أردْتِ أن تخرجي لها خرجي. فقالت: الآن يا محمد! فاختر واحدةً من اثنتين: إما أن أُفَتَّتْ كبدك، أو أثقب فؤادك وأَدَعُكَ بلا روح. فقلت: سبحان الله! أين العهد الذي عهدت، واليمين الذي حلفت؛ ما أسرع ما نسيت! قالت: يا محمد! لِمَ نسيت العداوة التي كانت بيني وبين أبيك آدم عليه السلام حيث أخرجته من الجنة؟ على أي شيءٍ أردت اصطناع المعروف مع غير أهله؟ قلت لها: لا بدَّ أن تقتليني؟ قالت: لا بدَّ من ذلك. قلت لها: فأمهليني حتى أصير تحت هذا الجبل فأُمَهِّد لنفسي موضعاً. قالت: شأنَك. فمضيت أريدُ الجبل وقد أيست من الحياة، فرفعت رأسي إلى السماء، وقلت: يا لطيف! يا لطيف! يا لطيف! الطف بي بلطفك الخفي، يا لطيف! بالقدرة التي استويت بها على العرش، فلم يعلم العرش أين مستقرك منه، إلاَّ كفيتني هذه الحية، ثم مشيت، فعارضني رجل طيب الرائحة نقي الدرن، فقال لي: سلامٌ عليكم. قلت: وعليك السلام يا أخي.
قال لي: ما لي أراك قد تغير لونك؟ قلت: من عدو قد ظلمني. قال: وأين عدوك؟ قال: في جوفي. قال لي: افتح فاك. قال: ففتحت فمي، فوضع فيه مثل ورقة زيتونة خضراء، ثم قال لي: امضغ وابلع. قال: فمضغت وبلعت، فلم ألبث إلا يسيرًا حتى مغصني بطني، ودارَتْ في بطني، فرميْتُ بها من أسفلَ قطعةً قطعةً، فتعلَّقْت بالرجل، وقلت: يا أخي! مَنْ أنت الذي مَنَّ الله عليَّ بك؟ فضحك، ثم قال: ألا تعرفني؟ قلت: اللهم لا. قال: يا محمد بن حمير! إنه لما كان بينك وبين الحية ما كان دَعَوْتَ الله بذلك الدعاء، فضجت ملائكة السَّبعِ سماوات إلى الله تعالى، فقال: وعزتي وجلالي! بعيني كل ما صنعت الحية بعبدي. وأمرني سبحانه وتعالى - وأنا يقال لي: المعروف، مستقري في السماء الرابعة - أنِ انطلق إلى الحية، وخذ ورقة خضراء، والحق بها عبدي محمد بن حمير. يا محمد! عليك باصطناع المعروف؛ فإنه يقي مصارع السوء،
وإنه - وإن ضيَّعه المصطنع إليه - لم يضع عند الله تعالى (¬1). قلت: وفي هذا المعنى ما أسنده ابن السمعاني في "أماليه" عن أبي العباس أحمد بن يحيى: [من الوافر] يَدُ الْمَعْرُوفِ غُنْمٌ حَيثُ كانَتْ ... تَجَمَّلَها شَكُورٌ أَوْ كَفورُ فَفِي شُكْرِ الشَّكُورِ لَها جَزاءٌ ... وَعِنْدَ اللهِ ما كَفَرَ الكَفُورُ (¬2) وروى ابن أبي الدنيا في "اصطناع المعروف" عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فِعْلُ المَعْرُوْفِ يَقِيْ مَصَارِعَ السُّوْءِ، وَعَلَيْكُمْ بِصَدَقَةِ السَّرِّ؛ فَإِنَّهَا تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبَّ عز وجل" (¬3). وروى أبو الشيخ في "الثواب" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المَعْرُوْفُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَهُوَ يَقِيْ مَصَارِعَ السُّوْءِ" (¬4). والحية في قصة محمد بن حمير يحتمل أنها كانت شيطاناً في صورة حية، والله تعالى يُهلك مَنْ يشاء من الشياطين. ¬
والذي سأل النظرة إبليس. ويحتمل أنها كانت حية على أصل خَلْقها، وإنما أنطقها الله تعالى لتكون عبرة لابن حمير، ولِيُتِمَّ ابتلاؤه بها. وقد اختلف الناس في اصطناع المعروف، هل يتعين أن يكون مع أهله أم لا؟ فمنهم مَنْ قال بالأول، وقال: وَمَنْ صَنَعَ الْمَعْرُوفَ مَعْ غَيْرِ أَهْلِهِ ... أَضاعَهُ كَمُجِيرِ أُمِّ عامِرِ وروى أبو نعيم عن علي بن أبي حملة قال: قال لي زياد بن صخر اللخمي: إذا صنعت يدًا فاصنعها إلى ذي دين وحسب (¬1). وروى البيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَصْلُحُ المَعْرُوْفُ إِلاَّ عِنْدَ ذِيْ حَسَبٍ وَدِيْنٍ، كَمَا لا تَصْلُحُ الرِّيَاضَةُ إِلاَّ فيْ نَجِيْبٍ" (¬2). وروى أبو نعيم عن الربيع قال: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: إذا أخطأتك الصنيعة إلى مَنْ يتقي الله، فاصنعها إلى مَنْ يتَّقي العار. قال: وسمعت الشافعي كتابه يقول: ما رفعت أحدًا فوق منزلته ¬
إلا وضع مني بمقدار ما رفعت منه (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، وصححوه، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إلاَّ تَقِيٌّ" (¬2). وقيل: ضاعَ مَعْرُوفُ واضعِ العُرفِ في غَيرِ أَهْلِهِ. - ومنهم من قال بالثاني: إن ضاع المعروف عند مَنْ صنعته إليه فهو لا يضيع عند الله تعالى، كما تقدم في قصة ابن حمير عن المَلَك المسمى بالمعروف. وروى الإمام الشافعي، والبيهقي في "المعرفة" عن محمد بن علي مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "افْعَلِ المَعْرُوْفَ إِلىْ مَنْ هُوَ أَهْلُهُ وَإِلىْ مَنْ لَيْسَ هُوَ أَهْلُهُ؛ فَإِنْ أَصَبْتُمْ أَهْلَهُ فَقَدْ أَصَبْتُمْ أَهْلَهُ، وَإِنْ لَمْ تُصِيبوْا أَهْلَهُ فَأَنْتُمْ أَهْلُهُ" (¬3). وقال محمود الوراق رحمه الله تعالى: [من البسيط] ¬
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لا يَعْدَمْ جَوائِزَهُ ... لا يَذْهَبُ العُرْفُ بَيْنَ اللهِ والناسِ وهذا أليق بالجودة فإنَّ فِعْل المعروف سواءَ كان ببذل مالٍ، أو شفاعة، أو مساعدة في حمل متاع، أو حمل هم، أو دفع عدو، أو نحو ذلك كله من أحوال الدنيا، وهي لا قيمة لها حتى يتوقف باذلها على أن يجد أهلاً للمعروف أو لا يجد. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن الله تعالى يعطي الدنيا لمن يحب ومَنْ لا يحب (¬1). وصدق؛ ألا ترى أن الله تعالى يرزق في الدنيا الكافر، والمنافق، والفاسق، والشياطين، والأفاعي، والهوام؟ والعبد ينبغي أن يتخلق بأخلاق الله تعالى. وأمَّا إذا كان المعروف من متعلقات الآخرة كالعلم، فهل يعلِّمه لكل أحدٍ، أم ينظر في نية الطالب إنْ كان طلبه للعلم لله علَّمه أو للدنيا لم يعلمه؟ - فمنهم مَنْ قال: لا بدَّ من حسن نية الطالب، وإلا كان واضح الدُّرَّ في أعناق الخنازير. - ومنهم مَنْ قال: يعلمه مطلقًا - وإنْ كانت نيته الدنيا - فعسى أن يكون علمه داعيًا إلى حُسن نيته. وقد قال جماعة من السَّلف: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن ¬
يكون إلاَّ لله. وعلى كل قول: لا بدَّ أن يكون المعروف مع من لم يمنع الشرع من اصطناعه معه، فلا تجوز الشفاعة في حدود الله عند الحاكم، ولا الحماية من إقامة الحد كأن يشفع في سارق أنْ لا تُقْطَع يده، أو يمنع من قطعه وكذلك بقية الحدود. وكذلك ليس من اصطناع المعروف أن تشفع في هذا الزمان في تولية القضاء والحكم والإمارة؛ إذ تعلم يقيناً أنَّ القضاة يمنعون الحكم، ويأخذون عليه الجُعَل، والأمراء يظلمون. وليس من المعروف تحليل المطلقة، ولا السعي في تحصيل ما يسميه القضاة الآن محصولاً، ولا جهد المفتي في تحصيل وجه للمستفتي يحتال فيه على إضاعة حق الغير، أو التوصل إلى مال الغير بالباطل، فليس منه [ ... ] حية، أو عقرب، أو نحوهما وقد قدرت عليه؛ لأنَّ الشرع قد أمر أن تقتل الحيات والعقارب، وبقية الفواسق والمؤذيات. وأما قصة ابن حمير فلعله لم يكن فقيهًا. وكذلك لا يحتج بقصة مالك بن خزيم، ونحوها مما حُكي عن أهل الجاهلية. وإنما نذكر هذه القصص ونحوها للاعتبار فقط، وإنما القدوة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده. وقصة ابن خزيم رواها ابن أبي الدنيا في "اصطناع المعروف" عن
أعشى همدان الشاعر قال: سمعت رجلاً منا يحدث قال: خرج مالك ابن خزيم الهمداني الشاعر في الجاهلية ومعه نفر من قومه يريدون عكاظ، فاصطادوا ظبيا في طريقهم وقد أصابهم عطش، فانتهوا إلى مكان يُقال له: أجيرة، فجعلوا يفصدون دم الظبي ويشربونه من العطش حتى إذا نفد ذبحوه، ثم تفرقوا في طلب الحطب، ونام مالك في الخباء، وأتى أصحابه فإذا بشجاع، فانساب حتى دخل خباء مالك، فأقبلوا فقالوا: يا مالك! عندك الشجاع فاقتله، فاستيقظ مالك، فقال: أقسمت عليكم لمَّا كففتم عنه، فكفوا، فانساب الأسود فذهب، وأنشأ مالك يقول: [من الوافر] وَأَوْصَانِي الْخُزيمُ بِعِزِّ جارِي ... فَأَمْنَعَهُ، وَلَيْسَ بِهِ اِمْتناعُ وَأَدْفَعُ ضَيْمَهُ وَأَذُودُ عَنْهُ ... وَأمْنَعُهُ إذا مُنِعَ الْمَتاعُ فَذَلِكُمُ فَإِنِّي لَسْتُ أَسْخُو ... بِشَيْءِ ما اسْتَجارَ بِيَ الشُّجاعُ وَلا تتحمَّلوا دَمَ مُسْتجيرٍ ... تَضَمَّنَهُ أجيْرة فَالقداعُ فَإِنَّ لِما تَرَوْنَ خَفِيَّ أَمْرٍ ... لَهُ مِنْ دُونِ أَمْرِكُم قِناعُ ثم ارتحلوا وقد أجهدهم العطش، فإذا هاتف يهتف بهم، ويقول: [من البسيط] يا أَيُّها القَومُ لا ماءٌ أَمامَكُمْ ... حَتَّى تَسُومُوا الْمَطايا يَوْمَها تَعَبا ثُمَّ اعْدِلُوا شامَةً فَالْماءُ عَنْ كَثَبٍ ... عَيْنٌ رواءٌ وَماءٌ يُذْهِبُ اللَّغبا حَتَّى إِذا ما أَصَبْتُمْ مِنْهُ رَيَّكُمُ ... فَاسْقُوا الْمَطايا وَمِنْهُ فَامْلَؤُوا القِرَبا
162 - ومن الخصال الملحقة ذويها بالبهائم - وهو خاتمتها -
قال: فعدلوا شامة، فإذا هم بعين خرارة، فشربوا وسقوا إبلهم، وحملوا منه ريهم، وأتوا عكاظ، ثم انصرفوا إلى موضع العين فلم يروا شيئًا، فإذا هاتفٌ يقول: [من البسيط] يا مالُ عَنِّي جَزاكَ اللهُ صالِحَةً ... هَذا وَداعٌ لَكُمْ مِنِّي وَتَسْليمُ لا تَزْهَدُوا فِي اصْطِناعِ العُرْفِ مِنْ أَحَدٍ ... إِنَّ الَّذِي حُرِمَ الْمَعْرُوفَ مَحْرومُ أَنَّا الشُّجاعُ الَّذِي أَنْجَيْتَ مِنْ رَهَقٍ ... شَكَرْتُ ذَلِكَ إِنَّ الشُّكْرَ مَقْسُومُ مَنْ يَفْعلِ الْخَيرَ لا يَعْدَمْ جَوائِزه ... ما عاشَ، وَالْكُفْرُ بَعْدَ الغَبِّ مَذْمُومُ (¬1) 162 - ومن الخصال الملحقة ذويها بالبهائم - وهو خاتمتها -: أن لا يحمل الإنسان الغيرة الإنسانية على التشبه بأهل الكمال، ولا ينهض به الحِجى عن حضيض أحوال أهل الزيع والإضلال. وقد قالوا: مَنْ لا يغار حمار، والمراد: غيرة العقل، لا غيرة الشهوة؛ فافهم! وقد قلت: [من المجتث] ¬
لَوْلا يَهِيْجُكَ عَقْلٌ ... إِلَى اكْتِسَابِ الْمَعالِي إِنَّ الَّذِي لَمْ يَكُنْ سَا ... لِكًا إِلَى طَرِيقِ الكَمالِ قَدِ انْتَهَى النَّقْصُ فِيهِ ... وَباءَ بِالابْتِذالِ مَنْ لا يَغارُ حِمارٌ ... وَلَوْ يُسامُ بِغالِ على أنهم قالوا في المثل السائر في تهييج أهل البصائر إلى تحصيل أفضل المطالب، وطلب أرفع المراتب: العاشية تهيج الأبية (¬1)؛ أي: إذا رأت التي تأبى العشاء من الإبل التي تتعشى، تبعتها فتعشت معها. يُقال: عشت الإبل - من باب رضي - يعشي عشاءً: إذا نفشت، فهي عاشية. كما يُقال: أَبَيت الإبل، فرضيَتْ، فهي أَبِية إذا لم ترد العشاء. قال في "القاموس": أبيت الطعام، كرضيت، أبىً: انتهيت عنه من غير شبع (¬2). والمثل المذكور قال الزمخشري: يضرب في نشاط الرجل للأمر إذا رأى غيره يفعله - وإن لم ينشط له قبل ذلك -. انتهى (¬3). ¬
فإذا كان الإنسان لا يهيجه النظر إلى أصحاب الأحوال المحمودة والأخلاق الممدوحة لأن يتحلى بها، ولا تحمله على الاتصاف بها، كان أسوأ حالاً من الإبل الأبية، كما أنه إذا هاجه ما يراه من غيره مما يشتهى طبعًا ويذم عقلاً وشرعًا كان كالحمار الذي رأى حمارًا آخر يَبُول فبال، أو بالكلب إذا رأى كلبًا آخر يعدو إلى جِيْفة، فعدا إليها ومال. وقد تقدم أنهم قالوا في الأمثال: بال حمَار فاستبال أحمرة؛ يضرب للوضيع يأتي أمرًا قبيحاً، فيتبعه أقرانه فيه. وهذه الجملة كافية لأهل العقول الصافية، والعافية من الله، فنحن نسأله العافية؛ فإنها هي الكافية الشافية. وهذه فوائد، وتتمات فوائد لهذا الباب الذي ذكرناه في النهي عن التشبه بالبهائم والسباع والهوام. روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: أنه دخل المدينة فقال: يا أهل المدينة! ما لي لا أرى عليكم حلاوة الإيمان؟ والذي نفسي بيده لو أن دُبَّ الغابة طَعِمَ الإيمان لرئي عليه حلاوة الإيمان (¬1). وروى أبو داود عن جندب رضي الله تعالى عنه قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته، ثم عقلها، ثم دخل المسجد وصلَّى خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
فلمَّا سلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى راحلته فأطلقها، ثم ركب، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا تشرك في رحمتنا أحدًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتقُوْلُوْنَ: هُوَ أَضَلُّ أَمْ بَعِيْرُهُ، ألمْ تَسْمَعُوْا إلى مَا قَالَ؟ ". قالوا: بلى (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن كعب الأحبار رحمه الله تعالى قال: إنَّ لكل قومٍ كلباً؛ فاتق الله لا يضرُّ بك شره (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن الحسنِ - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثُ خِصَالٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ الكَلْبُ خَيْرًا مِنْهُ: وَرعٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ عز وجل، أَوْ حِلْمٌ يَرُدُّ بِهِ جَهْلَ جَاهِلٍ، أَوْ حُسْنُ خُلُقٍ يَعِيْشُ بِهِ فيْ النَّاسِ" (¬3). وروى محمد بن خلف المرزباني في كتاب "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه - قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً مقتولاً، فقال: "مَا شَأْنُهُ؟ ". فقالوا: إنه وثب على بني زهرة، فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية، فقتله. ¬
فقال - صلى الله عليه وسلم -: "قتَلَ نَفْسَهُ وَأَضَاعَ دِيْنَهِ، وَكَانَ الكَلْبُ خَيْرًا مِنْهُ" (¬1). قلت: وجه ذلك أن الكلب نصح لصاحبه مالك الماشية، وحفظ له وده، وحرس ماشيته، وهذا السارق خان أخاه المسلم، ولم يحفظ فيه ذمة الإسلام، فكان الكلب خيرًا منه من هذا الوجه. قال المرزباني: وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كلبٌ أمين خيرٌ من صاحب خؤون (¬2). وكان للحارث بن صعصعة نُدَماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة، فخرج في بعض منتزهاته ومعه ندماؤه، فتخلف واحدٌ منهم، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا، ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما ميتين، فعرف الأمر، فأنشأ يقول: [من الطويل] فيا عَجَبًا للخلَّ يَهْتِكُ حُرْمَتِي ... وَيا عجبًا للكَلْبِ كَيْفَ يَصُونُ وما زالَ يَرْعَى ذِمَّتي ويَحُوطُنِي ... وَيحْفَظُ عِرْسِي والخليلُ يَخُونُ (¬3) وذكر ابن قتيبة في كتاب "مختلف الحديث" عن أبي عبيدة: أنه كان يذكر أنَّ رجلين سافرا فوقع عليهما اللصوص، فقاتل أحدهما حتى غلب، فأخذ، فدفن وترك رأسه بارزًا، وجاءت الغربان وسباع الطير ¬
فحامت حوله تريد أن تنتهشه، ورأى ذلك كلب كان معه، فلم يزل ينبش التراب حتى استخرجه، ومن قبل ذلك قد فرَّ صاحبه وأسلمه. قال: ففي ذلك يقول الشاعر: [من الطويل] يعردُ عَنْهُ جارُهُ ورفيقُهُ ... وَينْبُشُ عَنْهُ كَلْبُهُ وَهْوَ ضَارِبه (¬1) وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن جعفر بن سليمان قال: رأيت مع مالك بن دينار كلباً فقلت: ما تصنع بهذا؟ قال: هذا خيرٌ من جليس السوء (¬2). وروى أبو داود عن عبدِ الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الَّذِيْ يَسْتَرِدُّ مَا وَهَبَ كَمَثَلِ الكَلْبِ يَقِيْءُ فَيَأْكُلُ قَيْئَهُ، فَإِذَا اسْتَرَدَّ الوَاهِبُ فَلْيُوَقَّفْ فَلْيُعَرَّفْ بِمَا اسْتَرَدَّ، ثُمَّ لِيُدْفَعْ إِلَيْهِ مَا وَهَبَ" (¬3). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الَّذِي يَعُوْدُ فيْ هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُوْدُ فيْ قَيْئهِ". وفي رواية: "كَمَثَلِ الكَلْبِ يَقِيْءُ، ثُمَّ يَعُوْدُ فيْ قَيْئهِ" (¬4). ¬
وروى مسلم، والنسائي، وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الَّذِيْ يَتَصَدَّقُ ثُمَّ يَرْجِعُ فيْ صَدَقَتِهِ كَمَثَلِ الكَلْبِ يَقِيْءُ، ثُمَّ يَعُوْدُ فيْ قَيْئِهِ فَيَأْكُلَهُ" (¬1). وروى ابن عساكر عن محمد بن عمرو بن حسن قال: كنا مع الحسين رضي الله تعالى عنه بنهر كربلاء، فنظر إلى شمر بن ذي الجوشن فقال: صدق الله ورسوله؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَأَنَّيْ أَنْظُرُ إِلىْ كَلْبٍ أَبْقَعَ يَلَغُ فيْ دِمَاءِ أَهْلِ بَيْتيْ"، وكان شمر أبرص (¬2). وذكر ابن عبد البر في كتاب "بهجة المجالس": أنه قيل لجعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: كم تتأخر الرؤيا؟ فقال: خمسين سنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى كلباً أبقع يلغ في دمه، فأوَّلَه بأن رجلاً يقتل الحسين ابن بنته، فتأخرت الرؤيا بعدُ خمسين سنة. وقريبٌ من هذا ما رواه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن الحارث الخزاعي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول في خطبته: إني رأيت البارحة ديكاً ينقرني، ورأيته يُجليه الناس عني، فلم يلبث إلا ثلاثاً حتى قتله عبد المغيرة أبو لؤلؤة (¬3). وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: خطب ¬
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الناس فقال: إني رأيت في منامي ديكاً أحمر نقرني في معقد إزاري ثلاث نقرات، فاستعبر لها أسماء بنت عُميس، وقالت: إنْ صَدَقَتْ رؤياك قتلك رجلٌ من العجم (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن عمار الكراع قال: رأيت بيتي مملوءاً حيَّات في النوم، فأتيت ابن سيرين فقصصتها عليه، فقال: ليتق الله هذا الرجل، ولا يولجن عدوًا للمسلمين. قال: وكان الخوارج وأهل الأهواء يختصمون في بيته. وتقدم نظير ذلك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في التشبه بالثعلب في الكذب. وروى الخطابي في "العزلة"، والبيهقي في "الشعب": أنَّ الفقيه منصور التميمي الشافع كان ينشد لنفسه: [من مجزوء الكامل المرفل] الْكَلْبُ أَغْلى قِيْمةً ... وَهُوَ النِّهايةُ فِي الْخَساسَة مِمّنْ يُنازعُ فِي الرَّئا ... سَةِ قَبْلَ أَوْقاتِ الرِّئاسَة (¬2) ونقل المطوعي في "عيون المجالس" عن الجاحظ أنه قال: منْ طلب الرئاسة صبر على الدراسة، ومَنْ لم يُواظب على الدراسة فهو كالثور في الدياسة. وقلت في المعنى: [من الرجز] ¬
مَنْ ليسَ يَصْبِرُ على الدِّراسَة ... فَلَيْسَ تَكْمُلُ لَهُ الرِّئاسَة وَالعالِمُ التَّارِكُ للدِّراسَة ... كَأَنَّهُ الثَّوْرُ بِلا دِياسَة وروى أبو نعيم من طريق الطبراني عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا أيها الناس! تواضعوا فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ اللهُ، وَقَالَ: انتُعِشْ رَفَعَكَ اللهُ؛ فَهُوَ فيْ نَفْسِهِ صَغِيْرٌ وَفيْ أَعْيُنِ النَّاسِ عَظِيْمٌ، وَمَنْ تَكَبَّرَ خَفَضَهُ اللهُ، وَقَالَ: اخْسَأْ خَفَضَكَ اللهُ؛ فَهُوَ فيْ نَفْسِهِ كَبِيْرٌ وَفيْ أَعْيُنِ النَّاسِ صَغِيْرٌ حَتَّى يَكُوْنَ أَهْوَنَ مِنْ كَلْبٍ" (¬1). ولمحمد بن أبي الصقر الواسطي: [من الخفيف] أَبَداً ما يُقاسُ بِالْكَلْبِ إِلاَّ الـ ... ـبُخَلاءُ الأَراذِلُ السُّفَهاءُ وَمَتَى قُلْتُ أَنْتَ كَلْبٌ فَلِلْكَلـ ... ـبَ وَفاءٌ، وَلَيْسَ فِيكَ وَفاءُ (¬2) وذكر الشيخ محي الدين بن العربي في "مُسامراته": أنَّ رجلاً وقف على واعظٍ من وعاظ العجم، فقال له: أيها الشيخ! أنت خيرٌ من الكلب أم الكلب خير منك؟ فأطرق ساعةً، ثم قال: إنْ دخلت الجنة فأنا خيرٌ من الكلب، ¬
وإن دخلت النار فالكلب خيرٌ مني. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن أبي عمران الجوني رحمه الله تعالى قال: حُدَّثت أنَّ البهائم إذا رأت بني آدم يوم القيامة قد تصدعوا بين يدي الله تعالى صنفين؛ صنف في الجنة، وصنف في النار، نادتهم: الحمد لله يا بني آدم الذي لم يجعلنا اليوم مثلكم؛ فلا جنة نرجو، ولا عقاباً نخاف (¬1). وروى الثعلبي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إذا كان يوم القيامة مدَّت الأرض مدَّ الأديم، وحُشرت الدواب والبهائم والوحوش، ثم يُجعل القصاص بين الدواب حتى تقتص للشاة الجَمَّاء من القَرْناء تنطحها، فإذا فرغ من القصاص قال لها: كوني ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنتُ ترابًا (¬2). وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - نحوه (¬3). وذكر الثعلبي عن مقاتل رحمه الله تعالى أنه قال: إنَّ الله عز وجل يجمع الوحوش، والهوائمَّ، والطير، وكل شيء غير الثقلين، فيقول: مَنْ ربكم؟ ¬
فيقولون: الرحمن الرحيم. فيقول لهم الرب تبارك وتعالى بعد ما يقضي بينهم حتى يقتص من القرناء للجماء: أنا خلقتكم، وسخرتكم لبني آدم، وكنتم مطيعين أيام حياتكم، فارجعوا إلى الذي كنتم منه، كونوا تراباً، فيكونون تراباً. فإذا التفت الكافر إلى شيء صار تراباً يتمنى فيقول: يا ليتني كنت في الدنيا صورة خنزير، رزقه كرزقه، وكنتُ اليوم ترابًا. قلت: ومن شعر الإمام الكبير عبد الله بن المبارك رضي الله تعالى عنه كما رواه عنه أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار"، وغيره: [من البسيط] وَكَيْفَ قَرَّتْ لأَهْلِ العِلْمِ أَعْيُنُهُمْ ... أَوِ اسْتَلَذُّوا لَذِيذَ النَّوْمِ أَوْ هَجَعُوا وَالْمَوْتُ يُنذِرُهُمْ دَهْراً عَلانِيَةً ... لَوْ كانَ لِلْقَوْمِ أَسْماعٌ لَقَدْ سَمِعُوا وَالنَّارُ ضاحِيةً لا بُدَّ مَوْرِدُهُمْ ... وَلَيْسَ يَدْرُون مَنْ يَنْجُو وَمَنْ يَقَعُ قَدْ أَمْسَتِ الطَّيْرُ وَالأَنْعامُ آمِنةً ... وَالنونُ فِي البَحْرِ لا يَخْتالُها فَزَعُ وَالآدَمِيُّ بِهَذا الكَسْبِ مُرْتَهَنٌ ... لَهُ رَقِيبٌ عَلى الأَمْرارِ يَطَّلِعُ
حَتَّى يُوافِيْهِ يَومَ الْجَمْع مُنفَرِداً ... وَخَصْمُهُ الْجِلْدُ والأَبْصارُ وَالسَّمَعُ إِذِ النَّبِيُّونَ وَالأَشهادُ قائِمةٌ ... وَالْجِنُّ وَالإنْسُ وَالأَمْلاكُ قَدْ خَشَعُوا وَطارَتِ الصُّحْفُ فِي الأَيْدِي مُنَشَّرةً ... فِيها السَّرائرُ وَالأخبارُ تُطَّلَعُ يَوَدُّ قَومٌ ذَوو عِزِّ لَوْ أنَّهُم ... هُمُ الْخَنازِيرُ كَيْ يَنْجُو أو الضَّبعُ طالَ البُكاءُ فَلَمْ يُرحَمْ تَضَرُّعُهُم ... هَيْهاتَ لا رِقَّةٌ تُغْنِي وَلا جَزَعُ لِيَنْفَعِ العِلمُ قَبْلَ الْمَوْتِ عالِمَهُ ... قَدْ سَيلَ قومٌ بِها الرُّجْعى فَما رَجَعُوا (¬1) وروى ابن أبي الدنيا في "ذم المسكر" عن سويد بن سعيد قال: حدثني بعض أصحابنا قال: السكر على ثلاثة: - منهم: مَنْ إذا سَكِرَ تقيأ وسلح، فهذا الخنزير. - ومنهم: مَنْ إذا سَكِرَ كدم وجرح، فمثله مثل الكلب. ¬
- والثالث: إذا سَكِر تغنى ورقصَ، فمثله مثل القرد (¬1). وعن الحكم بن هشام: أنه قال لابنِ ابنٍ له وكأنه يتعاطى الشراب: أي بني! إيَّاك والنبيذة فإنه قيءٌ في شدقك، وسلح في عقبك، وحد في ظهرك، وتكون ضحكة للصبيان، وأميرًا للذبان (¬2). وروى الدينوري في "المجالسة" عن مبشر بن بشير: أنَّ رجلاً هرب من الحجاج، فمرَّ بساباط فيه كلبٌ بين جبين يقطر عليه ماؤها، فقال: يا ليتني كنت مثل هذا الكلب. فما لبث أن مرَّ بالكلب في عنقه حبل، فسأل عنه. فقالوا: جاء كتاب الحجاج يَأمر بقتل الكلاب (¬3). قال الجوهري في المثل: أجِعْ كلبك يتبعْكَ (¬4). وكذلك أورده الزمخشري، ويروى: جَوَّع كلبك يتبعْك (¬5). - وكذلك أورده الدميري، والسيوطي، وقالا: يضرب في معاشرة اللئام (¬6). ¬
والمعنى كما قال الزمخشري: اضطر اللئيم إليك بالحاجة ليقر عندك؛ فإنه إذا استغنى عنك تركك. قال الزمخشري: ويُحكى أنَّ المنصور قال ذات يومٍ لقواده: لقد صدق الأعرابي حيث قال: جوع كلبك يتبعك. فقال له أحدهم: يا أمير المؤمنين! أخشى إنْ فعلتُ ذلك أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويتركك. [فأمسك المنصور، ولم يُحِرْ جواباً]، انتهى (¬1). وقال بعضهم: إنما جرى للمنصور مع أبي بكر بن عياش رحمه الله تعالى، وهو الذي أجاب المنصور بذلك، وكان جريئًا عليه. قلت: وكيفما اعتبرت حال الكلب اعتبرته لئيمًا؛ إنْ جوعته تبعك، وإنْ أطعمه غيرك تركك وأَقْبل على غيرك، ثم هو لا يقبل حقيقة إلاَّ على طمعه؛ ألا تراه إذا استوفى ما طمع فيه عاد إلى صاحبه؟ ومن هنا قيل في المثل: كلب غيرك ما تبعك، وولد غيرك ما نفعك؛ أي: وإن تبعك كلب غيرك مرَّة، أو نفعك ولد غيرك مرَّة لا يدوم ذلك لك؛ فكأن الكلب لم يتبع، والولد لم ينفع. وقد مثلوا اللئيم بالكلب بأمثال أخرى، فقالوا: أحبَّ الكلب خانقه؛ كما أورده الزمخشري (¬2). ¬
وأورده غيره: أحبُّ أهلِ الكلب إليه خانقه؛ يُضرب للئيم؛ فإنك إذا أكرمته تعدى طوره، فإذا مسَّه غيرك بالسوء انقاد له ومال إليه (¬1). قال الزمخشري: يضرب في صحبة اللئيم المسيء إليه. قال ابن عادية السلمي: [من الكامل] رَكِبُوكَ مُرْتَحَلاً فَظَهْرُكَ مِنْهُمُ ... دُبْرُ الْحَراقِفِ وَالفقارُ مُوْقَّعُ كَالْكَلْبِ يَتْبَعُ خانِقِيْهِ وَينْتَحِي ... نَحْوَ الَّذِي بِهِمُ يُعَزُّ ويمْنَعُ (¬2) وقالوا: سَمِنَ كلب ببؤس أهله. ويروى: نَعِمَ كلبٌ ببؤس أهله. وذلك أنهم إذا أصاب أموالهم السنون، وقعوا في البأساء والضَّراء، وهزلَتْ مواشيهم، فتكثر فيهم الجيف، وفي ذلك نعيم الكلاب. وأنشد الزمخشري لامرأة من الأعراب: [من الطويل] أَتُهْدِي لِيَ الْقِرطاسَ وَالْخُبْزُ حَاجَتِي ... وَأَنْتَ عَلى بابِ الأَمِيرِ بَطِينُ ¬
إِذا غِبْتَ لَمْ تَذْكرْ صَدِيقاً وَإِنْ تُقِمْ ... فَأَنْتَ على ما فِي يَدَيْكَ ضَنِيْنُ فَأَنْتَ كَكَلْبِ السَّوْءِ فِي جُوعِ أَهْلِهِ ... فيُهْزَلُ أَهْلُ البَيْتِ وَهْوَ سَمِينُ (¬1) وقولها: فيُهزل - بضم الياء -: من أُهزل القوم: إذا أصاب مواشيهم سنة، فهَزُلَتْ. ويُناسب المثل من يفرح بعيشه ونعيمه - وإن كان الناس في شدة وبؤس - وخصوصًا إذا كانت معيشته مترتبة على مصائبهم كالمحتكر في زمن الغلاء، وبائع الأكفان والحنوط في زمن الطاعون والوباء، وهو مخالف في حاله لما أرشده إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ المُسْلِمِيْنَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ". أخرجه الطبراني، وأبو نعيم، والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه، والحاكم في "المستدرك" نحوه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬2). ¬
وقلت في المعنى: [من مخلَّع البسيط] مَنْ لَيْسَ لِلْمُسْلِمينَ يَهْتَمُّ ... نابَهُم دَهْرُهُم بذُلِّهْ فَلَيْسَ مِنْهُمُ كَما رَواهُ ... مُوَثَّقٌ فِي صَحِيحِ نَقْلِهْ يَنْعُمُ وَالْبُؤْسُ فِي ذَوِيهِ ... نَعِيمَ كَلْبٍ بِبُؤْسِ أَهْلِهْ وروى الدينوري في "المجالسة" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: تكلَّم ملك من الملوك [بكلمة بغي] وهو على سريره، فمسخه الله تعالى، فما يدرى أيَّ شيءٍ مُسِخَ، أذباب أم غير ذلك، إلا أنه ذهب فلم يُرَ (¬1). وحاصل ما ذكره ابن عباس: أنَّ هذا الملك مُسِخَ شيئًا تافهًا حقيرًا، وذلك من باب معاملته بضد ما أراد أن يتظاهر به من القوة والكبرياء. ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه: [أن النبي - صلى الله عليه وسلم -] قال: "يُحْشَرُ المتكبرونَ يومَ القيامةِ أمثالَ الذَّرِّ في صُورة الرِّجالِ، يَغْشَاهُمُ النَّاسُ من كلِّ مكانٍ، يُساقُون إلى سجنٍ في جهنم يُقال له: بُولَس، تعلُوهُم نارُ الأنيارِ، يُسقَون من عُصارة أهلِ النار؛ طينة الخَبَالِ" (¬2). ¬
وبولس؛ بضم الموحدة، وفتح اللام. ونار الأنيار: نار النيران؛ جَمَعَ ناراً على أنيار، وإن كان واوياً؛ للفرق بين جمع النار وجمع النور؛ كما قالوا في عيد: أعياد، وحقها الواو، إلا أنه فرَّق بينه وبين جمع عود. وفي الباب حديث أبي هريرة المتقدم. وروى ابن السمعاني في "أماليه" عن أبي العالية قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه: إذا أتى العالم السلطان فهو فاسق، وإذا زار الأغنياء فهو ذئب. والمراد أنْ يأتيهم ويزورهم لغير غرض صحيح، أو لغير ضرورة، بل لمجرد التعزز بهم، والقرب منهم، والطمع فيما عندهم. وروى أبو نعيم عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجَلاوِزَةُ وَالشُّرَطُ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ كِلابُ النَّارِ" (¬1). وقرأت بخط الشيخ برهان الدين بن جماعة: أنَّ عمر - رضي الله عنه - خرج يمشي وبين يديه رجل عظيم يقول: أنا ابن بطحاء مكة، فوقف عليه عمر رضي الله تعالى عنه، وقال له: إن يكن لك دين فلك كرم، وإنْ يكن لك عقل فلك مروءة، وإن يكن لك مالٌ فلك شرف، وإلاَّ أنت والحمار سواء. ¬
ورأيت أنَّ الخرائطي رواه في أول باب من "مكارم الأخلاق"، والعسكري في "أمثاله" عن محمد بن سلام قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يمشي ورجل يخطر بين يديه ويقول: أنا ابن بطحاء مكة؛ كداها وكدائها، فقال عمر: إنْ يكن لك ... إلى آخره (¬1). وقريب من هذا قول علي بن عبد الواحد البغدادي - عُرف بصريع الدلاء - وأجاد: [من الرجز] مَنْ فاتَهُ الْعِلمُ وأَخطَأَهُ الغِنَا ... فَذاكَ وَالكَلْبُ عَلى حَدًّ سَوا (¬2) وأنشد الدينوري في "المجالسة" عن محمد بن سلام الجمحي: [من الطويل] إِذا أنْتَ لَم تَسَلِ اصْطِبارًا وَحِسْبَةً ... صَبَرْتَ عَلى الأَيَّامِ مِثْلَ البَهائِمِ (¬3) ¬
وأنشد أيضًا لعبد الله بن مصعب الزبيري: [من البسيط] ما لِي مَرِضْتُ وَلَمْ يَعُدْنِي عائِدٌ ... مِنْكُمُ وَيَمْرَضُ كَلْبُكُمْ فَأَعُودُ (¬1) كنى بالكلب هنا عن أدنى القوم، وخَدَمَتِهم. وقال الحاكم في "تاريخه": أنشد البخاري: [من الرمل] خَالِقِ النَّاسَ بِخُلْقٍ واسِعٍ ... لا تَكُنْ كَلْباً على النَّاسِ يَهرُّ قال: وأنشد أبو عبد الله؛ يعني: البخاري: [من الكامل] مِثْلَ البَهائِمِ لا تَرى آجالَها ... حَتَّى تُسَاقَ إِلَى الْمَجازرِ تُنْحرُ (¬2) وروى أبو نعيم عن الشعبي رحمه الله تعالى أنه كان يقول: [من الطويل] إِذا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ ما الْهَوى ... فَأَنْتَ وَعيْرٌ فِي الفَلاَةِ سَواءُ (¬3) ¬
ومن لطائف ابن الجوزي أنه وعظ يومًا، فقال في أثناء كلامه: [من البسيط] أَصْبَحْتُ أَلْطَفَ مِنْ مَرِّ النَّسِيمِ على ... مَتْنِ الرِّياضِ يَكادُ الوَهْمُ يُؤْلمُنِي مِنْ كُلِّ مَعْنًى لَطِيفٍ أَجْتنِي قدحاً ... وَكُلُّ ناطِقَةٍ فِي الكَوْنِ تُطْرِبُنِي فنهض إليه حسودٌ فقال له: فإذا نطق الحمار، قال: أقول له: اسكت يا حمار. قرأته من خط البرهان بن جماعة. وقال حجة الإسلام في "الإحياء": كانت نساء العرب يعلمن بناتهن اختبار الأزواج؛ كانت المرأة تقول لابنتها: اختبري زوجك قبل الإقدام والجرأة، انزعي زُجَّ رمحه، فإنْ سكت لذلك فقطَّعي اللحم على تُرسه، فإنْ سكت فكسّري العظام بسيفه، فإنْ صبر فاجعلي الإكاف على ظهره، ثم امتطيه؛ فإنما هو حمارك (¬1). وقال مسكين الدارمي كما أنشده ابن قتيبة: [من الرمل] ¬
وَإِذا الفاحِشُ لاقَى فاحِشًا ... فَهُناكُمْ وافقَ الشَّنُ الطَّبَقْ إِنَّما الفاحشُ مَنْ يَعْتادُهُ ... كَغُرابِ البَيْنِ ما شاءَ نعقْ أو حِمارِ السَّوْءِ إنْ أَشْبعتهُ ... رَمَحَ النَّاسَ وَإِنْ جاعَ نهقْ أَوْ غلامِ السَّوْءِ إنْ جَوَّعْتهُ ... سَرَقَ الناسَ، وإنْ يَشْبَعْ فَسَقْ أَوْ كَعَنْزى رَفَعَتْ عَنْ ذَيْلِها ... ثُمَّ أَرْخَتْهُ ضِراراً فَانْمَزَقْ أَيُّهَا السَّائلُ عَمَّا قَدْ مَضى ... هَلْ جَدِيدٌ مِثْلُ مَلْبُوسٍ خَلَقْ (¬1) وأنشد الدينوري في "المجالسة" لسويد بن أبي كاهل: [من الرمل] كَيْفَ يَرْجُونَ سِقاطِي بَعْدَما ... جَلَّلَ الرأسَ بياضٌ وَصَلَعْ رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً قَلْبَهُ ... قَدْ تَمَنَّى لِي غَيْظاً لَمْ يُطَعْ وَيَرانِي كَالشَّجا فِي صَدْرِهِ ... عَسِراً مَخْرَجُهُ ما يُنْتَزَعْ جُرَدٌ يَخْطُرُ ما لَمْ يَرَنِي ... وَإِذا أَسْمَعْتُهُ صَوْتِي انْقَمَعْ لَمْ يَضِرْني غَيْرَ أَنْ يَحْسُدَنِي ... فَهْوَ يَزْقُو مِثْلَ ما يَزْقُو الضُّوَعْ ويحَيَّينِي إِذا لاقَتْيُهُ ... وَإِذا يَخْلُو لَهُ لَحْمي رَتَعْ قَدْ كَفانِي اللهُ ما فِي نَفْسِهِ ... وَإِذا ما يَكْفِ شَيْئًا لَمْ يَضع (¬2) الضوع - بضاد معجمة مضمومة، وواو مفتوحة، وعين مهملة - ¬
قال النووي: الأشهر أنه من جنس البهائم. وقال المفضل: هو ذكر البوم، وجمعه أضواع، وضيعان، والضواع صوته (1). وقد اشتمل كلام سويد على تمثيل الحاسد بالضوع، وبالجرد، وبالسبع. ومن لطائف معاوية رضي الله تعالى عنه تشبيه المتلدد في الخصومة، المُتَلَون في الجدال بالحرباء التي تتلون كما ذكر الخطابي في "الغريب" عن ثعلب، عن ابن الأعرابي: أنَّ رجلين تقدما إلى معاوية رضي الله تعالى عنه، فادعى أحدهما على صاحبه مالاً، وكان المدَّعى قبلَه حوَّلاً قُلَّباً مخلطاً مزيلاً، فأنشأ معاوية يقول: أَنَّى أُتِيحُ لَهُ حرْباءَ تَنضبهُ ... لا تُرْسِلِ السَّاقَ إِلاَّ مُمْسَكاً سَاقاً ثم دعا بمالٍ فأعطى المدعي، وفرَّق بينهما (¬2). والقُلَّب - بضم القاف، وفتح اللام المشددة -: الذي يقلب الأمور ظهراً لبطن. والْحُوَّل - بضم المهملة، وفتح الواو المشددة -: ذو التصرف والاحتيال. والمِخْلَط - بكسر الميم، وإسكان المعجمة، وفتح اللام -: ¬
الذي يَخْلِط شيئًا بشيء فَيَلْبِسهُ عن السامعين. والمِزْيَل -بكسر الميم، وإسكان الزاي، وفتح المثناة تحت-: الجَدِل في الخصومات، الذي يزول من حجة إلى حجة. وأنشد ثعلب: [من الخفيف] ألمَعِيُّ الظُّنونِ مُتَّقِدُ الذِّهْـ ... ـنِ أَعانتهُ فِطْنةٌ وَذَكاءُ مِخْلَطٌ مِزْيَلٌ مِعَنٌّ مِفَنٌّ ... كُلِّ داءٍ لَدَيْهِ مِنْهُ دَواءُ (¬1) والمعن - بكسر الميم، وفتح المهملة، مشدد النون -: الخطيب، أو: الذي يدخل فيما لا يعنيه، ويعرض في كل شيء. والمفن - بالفاء على وزنه -: الذي يأتي بالعجائب، ويقال: امرأة مِفنة. وروى الخطيب في "تاريخه" عن أحمد بن أبي طاهر طيفور أنه أنشد لنفسه: [من البسيط] يا مَنْ تَلْبَّسُ أَثْواباً يَتِيهُ بِها ... تَيْهَ الْمُلوكِ عَلى بَعْضِ الْمَساكِينِ ما غَيَّبَ الجلُّ أَخْلاقَ الْحِمارِ وَلا ... تَحْمِي البَراقِعُ أَخْلاقَ البَراذَينِ (¬2) وأنشد السيوطي في "ديوان الحيوان" ليعقوب بن أحمد ¬
النيسابوري: [من الطويل] يُرِي النَّاسَ زُهْداً كَالْمَسِيحِ بْنِ مَرْيَمٍ ... وَفِي ثَوْبِهِ التِّمْساحُ أَوْ هُوَ أَغْدَرُ أَغَرَّكُمْ مِنْهُ تَقَلُّصُ ثَوْبِهِ ... وَذَلِكَ حبٌّ دُونَهُ الفَخُّ فَاحْذَرُوا وروى الدينوري في "المجالسة" عن ابن قتيبة قال: قرأتُ في كتب الهند: ذو المروءة يُكرم وإنْ كان معدمًا؛ كالأسد يُهاب وإنْ كان رابضاً، ومَنْ لا مروءة له يهان وإنْ كان موسرًا؛ كالكلب وإنْ طوق وحُلي (¬1). وروى الزجاجي في "أماليه" عن الأصمعي قال: سمعت أعرابياً يُنشد: [من الوافر] كلابُ النَّاسِ إِنْ فَكَّرْتَ فِيهِمْ ... أَضَرُّ عَلَيْكَ مِنْ كَلْبِ الْكِلابِ لأنَّ الْكَلْبَ لا يُؤْذِي صَدِيْقاً ... وَإِنَّ صَدِيقَ هَذا فِي عَذابِ وَيَأْتِي حِيْنَ يَأْتِي فِي ثِيابٍ ... وَقَدْ حُزِمَتْ عَلى حدِّ النِّصابِ فَأَخْزَى اللهُ أَثْواباً عَلَيْهِ ... وَأَخْزَى اللهُ ما تَحْتَ الثِّيابِ (¬2) ومن لطائف الحكايات قصة يحيى بن لوغان ملك تلمسان؛ قال الشيخ محي الدين بن العربي في "المسامرات" - وهو من خؤولتنا -: ¬
حدثني أخوالي ووالدتي قالوا: كان بتلمسان الملك يحيى، فنزل يوماً في موكبه من مدينة أقادره يُريد المدينة الوسطى، بينهما بقيع فيهِ قبور، فبينما هو يسير وإذا برجلٍ مُتعبد يمشي لحاجته، فأمسك عنانه وسلم عليه، فردَّ الرجل العابد السَّلام، وكلَّمه بأشياء، وكان مما كلَّمه الملك أن قال له: أيها العابد! ما تقول في الصلاة في هذه الثياب التي عليَّ؟ فاستغرب العابد يضحك. فقال له: مم تضحك؟ قال: من سُخف عقلك؛ ما رأيْتُ لك في هذه المسألة شبيهاً إلاَّ الكلب. قال: وكيف؟ قال: الكلب يتمَعَّك في الجِيْفة، ويتلطَّخُ بدمها، فإذا أراد أن يبول رفع رجله حتى لا يُصيبه البول، وأنت بطنك حرامٌ كله، وتسأل عن ثيابك. فاسْتعبر الملك، ونزل من حِيْنه عن دابته، وتجرَّد من ثيابه، فرمى عليه بعض العامة من أهل الدين ثوبًا، ثم قال لأهل دولته: انظروا لأنفسكم، فَلَسْتُ لكم بصاحب. فاقتفى أثر العابد، فصعد معه إلى العبادة في موضعٍ عالٍ بقبة تلمسان، وأقام معه ثلاثة أيام، ثم أمره العابد بالاحتطاب، فجعل الملك يحتطب، ويبيع بسوق تلمسان، ويأكل ويتصدق بالفضل، فكان الناس إذا أتوا إلى العابد يسألونه الدعاء؛ يقول: اسألوا يحيى
الدعاء؛ فإنه خرج عن قدرة. قال الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى: ويُقال ذلك العابد كان أبا عبد الله التونسي، وقفت أنا على قبره وقبر الشيخ أبي مدين بظاهر تلمسان. وروى الإمام عبد الله بن المبارك عن خالد بن معدان رحمه الله تعالى: لا يَفْقَهُ الرجل كل الفقه حتى يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر، ثم يرجع إلى نفسه فتكون هي أحقر حاقر (¬1). ويروى هذا عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه (¬2). ومعناه أن ليس إليه ولا إلى أحد من الخَلْق، ولا لهم من الأمر شيء، وأنَّ الأمر كله بيد الله تعالى. ويحتمل أن يكون له معنى آخر. روى أبو نعيم عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: ما أقلَّ أكياسَ الناس، لا يُبصر الرجل أمره حتى ينظر إلى الناس، وإلى ما أمروا به، وإلى ما قد أكبوا عليه من الدنيا، فيقول: ما هؤلاء إلا أمثال الأباعر التي لا همَّ لها إلا ما تجعل في أجوافها، حتى إذا أَبْصر غفلتهم نظر إلى نفسه فقال: إني لأراني من شرهم بعيرًا واحدًا (¬3). ¬
وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أنه سُئِلَ عن أَلْين كلمة سمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَلا كُلُّكُمْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ شَرَدَ عَنِ اللهِ شِرَادَ البَعِيْرِ عَلَىْ أَهْلِهِ" (¬1). وروى أبو نعيم عن مسلم بن عبد الله قال: دخل مالك بن دينار رحمه الله تعالى دار الخَراج يومًا، فإذا هو برجل من هؤلاء الكبار قد وضع الكَبْل في رجله - والكَبل: بفتح الكاف وقد تكسر: القيد، أو أعظم القيود -؛ قال: فبينا هو ينظر إذ أُتِيَ بطعام، فوضعَ بين يديه، وجعل مالك ينظر ويتعجب من أكله ومما هو فيه، فقال له: تعالَ كُل يا أبا يحيى. فقال: أخاف إنْ أكلتُ مثل هذا أنْ يُوضع في رجلي مثل هذا. قال: فتقدم إليه ابن عم الرجل، فقال له: يا أبا يحيى! إنَّ هذا ابن عمٍ لي، وهو ينفق علىَّ وعلى عيالي، فادعُ الله أنْ يُنجيه. فقال مالك: أتدري ما مثل ابن عمك؟ مثل شاة أكلت عجين قوم، فانتفخ بطنها، فماتت، وصاحب العجين يدعو الله على مَنْ أكل عجينه، وصاحب الشاة يدعو الله على مَنْ قتل شاته، فلأيَّهم ترى إليه أسرع الإجابة (¬2). ¬
ومن أمثالِهم: يا شاة! أين تذهبين؟ قالت: أُجَزُّ مع المجزوزين. أجز - بالبناء لنائب الفاعل -: من جزَّ الشاة - بالجيم والزاي - فهي جزوزة كالحلوبة: إذا أخذ صوفها. قال الزمخشري: يُضرب للأحمق يتكلم مع القوم، ويفعل فعلهم، وما يدري ما هم فيه (¬1). وفي معناه قول الناس في بعض أمثالهم: قيل للأحمق: أين تغدو؟ قال: معهم. قيل له: أين تروح؟ قال: معهم. وهذا حال المقلد من غير استظهار معنى ما يُقلد؛ كما قال أولئك: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} [الزخرف: 22]. وقولهم في المثل حكايةً عن الشاة: أُجزُّ مع المجزوزين، وحقه مع المجزوزات؛ فإنما عُدِلَ عنه لأن الشاة لمَّا نزلتْ منزلة العقلاء فخُوطِبَتْ، ناسَبَ أنْ يكون جوابها جواب العقلاء. ومن المعلوم أنَّ الأمثال تقع موقعها الأول، فتدور في الألسنة كما هي، ولا تغير؛ هذا قانونها. ¬
وقالوا في المثل: عنزٌ بها كل داء؛ يُضرب للكثير العيوب من الناس والدواب (¬1). وقد قيل: للعنز تسعة وتسعون داء (¬2). ومن أمثالهم في المخلط: كل نجار إبل نجارها؛ أي: فيه كل لونٍ من الأخلاق، وليس له رأي يثبت فيه؛ نقله في "الصحاح" عن أبي عبيد (¬3). والنجار - بالفتح، والكسر - والنجر - بالفتح -: الأصل واللون. وأصل المثل من قول بعض اللصوص وقد سُئل عن أصل إبل كان يعرضها للبيع: [من الرجز] تَسْأَلُنِي الباعَةُ ما نِجارُها ... إِذْ زَعْزَعُوها نَسَمَتْ أَبْصارُها كُلُّ نِجارِ إِبلٍ نجارُها ... وَكُلُّ دارٍ لأُناسٍ دارُها وكُلُّ نارِ العالَمِينَ نارُها قال الزمخشري: يُضرب لمَنْ كان له كل لون من الأخلاق، انتهى (¬4). ¬
وفي معناه المثل الآخر: فلان مع كل قوم مغيرة، من أغار الفرس: إذا أسرع في الغارة وغيرها، أو: من أغار على القوم غارة وإغارة، فيكون المعنى: مغيرة أصحابها. ومن الأول قولهم: أغار إغارة الثعلب: إذا شدَّ العدو، وأسرع، أو ذهب في الأرض (¬1). وفي المثل: عنزٌ عزوز لها در جم؛ يُضرب للبخيل الواجد. والعزوز: الضيقة الأحاليل، وهي كثيرة اللبن، فلا يخرج لبنها إلا قليلاً قليلاً (¬2). وفي المثل أيضًا: عنزٌ نزت في حبل فاستتيست؛ أي: صارت تيساً بعد أن كانت عنزاً. وربما قالوا: عنز استتيست؛ يُضرب للرجل يعز بعد الذل (¬3). وفي المثل: استنوق الجمل؛ أي: صار ناقة بعد ما كان جملاً. وأصله من كلام طرفة (¬4). أنشد المسيب بن علس وهو بين يدي بعض الملوك، وهو عمرو ¬
ابن هند كما في "القاموس": وَقَدْ أتنَاسَى الْهَمَّ عِنْدَ اِحْتِضَارِهِ ... بِنَاجٍ عَلَيْهِ الصَّيْعَرِيَّةُ مكدَمِ كُمَيْت كِنازُ اللَّحْمِ أَوْ حُمَيْرِية ... مُواشِكَة، تَتْفِي الْحَصا بِمُثَلَّمِ وطرفة بن العبد حاضر وهو غلام، فقال: استنوق الجمل؛ أشار إلى انتقاله من ذكر الجمل إلى ذكر الناقة (¬1). وقيل: لأن الصيعرية سِمَةٌ لا يوسم بها إلا النوق خاصة. وكان قوله: استنوق الجمل لقوله في وصف الجمل: عليه الصيعرية، فغضب المسيب، وقال عن طرفة: ليقتلنه لسانه، وكان كما تفرس فيه (¬2). قال الجوهري: يُضرب للرجل يكون في حديث أو صفة شيء، ثم يخلطه بغيره، وينتقل إليه (¬3). وذكر الزمخشري أنه يُضرب لذلك، ولمن يظن به غناء وجَلَد، ثم يكون على غير ذلك. قال الكميت: [من الطويل] ¬
هَزَزْتُكُمْ لَو كانَ فيكُم مَهزةٌ ... وَذَكَرْتُ ذا التَّأْنِيثَ فَاسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ (¬1) ومما اتفق لي في هذا المثل: أني لمَّا ابتليت بحسد الشيخ شمس الدين بن المنقار في أوان الطلب، وكان له تعرض للناس، فداريته بقصيدة جاء فيها قولي: [من مجزوء الرجز] يا شمسَ دِينِ اللهِ، يا ... مَنْ قَدْ عَلا شَمْسَ الْفَلا فلمَّا عرضتها عليه قبلها وشكر عليها، ثم بعد شهر أو أكثر جرت بيننا وبينه قصة آلتْ إلى أن ناظرته فيما ظهرت فيه الحجة عليه، فشرع يعترض على ما مدحته به، ويذم، ويدعي فيه سوء التركيب، فقلت: [من الطويل] أتيْتُكَ يَوْمًا مَادِحًا لَكَ مُطْرِبًا ... وَلَمْ أَخْشَ قَوْلَ النَّاسِ عَنِّي لِمَ فَعَلْ فَنافَقْتَنِي بِالشُّكْرِ حِينَ قَبِلْتَ ما ... أتيْتُ بِهِ نَظْماً عَلى الدُّرَرِ اشْتَمَلْ وَبَعْدَ زَمانٍ قُلْتَ عَنْهُ بِأنَّهُ ... مَعِيبُ الْمَعانِي ثُمَّ فِي وَزْنهِ خَلَلْ فَقُلْتُ لِنَفْسِي إِنَّنِي أَسْتَحِقُّ ما ... تَقُولُ وَإِنْ بالغْتَ فِي القَوْلِ وَالعَذلْ وَما ذاكَ إِلاَّ أَنْ وَصَفْتُكَ كاذِباً ... بِشَمْسٍ، وَلَمْ أَعْلمِ بِأَنَّكَ ذُو عِلَلْ وَما الشَّمْسُ إِلاَّ مَنْ يُضِيْءُ بِنُورِهِ ... وَلَمْ يَكُ ذا لُؤم كَمِثْلِكَ أَوْ خَطَلْ فَإِنَّي وَضَعْتُ الشَّيْءَ غَيْرَ مَحَلِّهِ ... وَذَكَّرْتُ ذا التَّأْنِيثَ فَاسْتَنْوَقَ الْجَمَل ¬
وكان ذلك في سنة أربع وتسعين وتسع مئة، وأنا دون العشرين من عمري، وكان المذكور قد تجاوز السبعين. ومن لطائف العرب أنهم يقولون للملك: أصيد، أو يسمونه أصيد. قال في "الصحاح": وأصله في البعير يكون له داءٌ في رأسه فيرفعه. قال: ويقال: إنما قيل للملك أصيد؛ لأنه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً. وقال: الصيد - بالتحريك -: مصدر الأصيد، وهو الذي يرفع تكبراً، ومنه قيل للملك: أصيد (¬1). قلت: وفيه وجه ثالث، وهو الأصيد من أسماء الأسد، وكذلك المصطاد، والصياد كما حكاه في "القاموس" (¬2). والعرب تعبر عن السلطان بالأسد؛ فإنه - كما قال الدميري، والسيوطي - أشرف الحيوان المتوحش لأنه ينزل منها منزلة الملك (¬3). ومن الأمثال المشهورة: الكلاب على البقر، والكراب على البقر - بالرفع، والنصب فيهما - على الابتداء، وإضمار الفعل؛ أي: دع ¬
الكلاب على البقر؛ أي: خل امرأً وصناعته (¬1). قال أبو عبيد في "أمثاله": من قلة المبالاة قولهم: الكلاب على البقر؛ يُضرب مثلاً في قلة عناية الرجل واهتمامه بشأن صاحبه. قال: وأصله أن يخلى بين الكلاب وبقر الوحش. وقال الخليل، وابن دريد، وغيرهما: ومنهم من يقول: الكراب على البقر، وهو كالكرب، وهو - بالفتح فيهما -: حرث الأرض، وإثارتها على البقر (¬2). البقر في هذا اللفظ هي: الأهلية، وفي اللفظ الأول: الوحشية. وحاصل معنى الأول: أن أهل الشَّر إذا سَطَتْ على أهل الشر فلا تُبَال بِهم، وهو من جملة الإعراض عن الجاهلين. وفي معناه ما حكاه الشيخ علوان الحموي في شرح "تائية ابن حبيب" الصفدي عن شيخه سيد علي بن ميمون: أنه كان يقول: الحكام كالحيات، والفسقة من العوام كالفئرة؛ فدعوا الحيات تأكل الفئران. ومعناه: أنَّ الله تعالى سلَّط هؤلاء على هؤلاء عقوبة لهم. وحاصل معنى اللفظ الثاني: أنَّ العمل إذا كان له أهل يقومون به ¬
فلا تتكلفه أنت، بل دع صناعتهم لهم، واكتف بهم عن اهتمامك بها. وقرأت بخط البرهان بن جماعة لأبي فراس بن حمدان لمَّا أُسِر: [من مجزوء الكامل المرفل] ما لِلْعَبِيدِ مِنَ الَّذِي ... يَقْضِي بِهِ اللهُ امْتِناعُ ذُدْتُ الأُسودَ عَنِ الفَرا ... ئِسِ ثُمَّ تَأْكُلُنِي الضِّباعُ ومن لطائف العلاء بن الجارود؛ أنشده ابن قتيبة في "عيون الأخبار" عنه: [من مجزوء الرمل] أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ زُهْدًا ... وَعَلى الْمَنْقُوشِ دارُوا وَلَهُ صلَّوا وَصَامُوا ... وَلَهُ حَجّوا وَزارُوا لَوْ رَأَوْهُ فِي الثُّرَيَّا ... وَلَهُمْ رِيشٌ لَطارُوا ومن لطائف ابن الدهان النحوي؛ أنشد السيوطي في "طبقات اللغويين والنحاة": لا تَحْسَبَنْ أَنْ بِالْكُتْـ ... ـبِ مِثْلَنا سَتَصِيرُ فَلِلدَّجاجَةِ رِيشٌ ... لَكِنَها لا تَطِيرُ (¬1) وقال آخر، وهو من الأمثال: [من الوافر] ¬
وَمَنْ يَكُنِ الْغُرابُ لَهُ دليلاً ... يَمُرُّ بِهِ عَلى جِيَفِ الْكِلابِ (¬1) وقال آخر، وهو مثل يُضرب للبخيل؛ أنشد: [من الرجز] كَالْحُوتِ لا يَرْوِيهِ شَيْءٌ يَلْهَمُهْ ... يُصْبحُ ظَمآنَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُهْ (¬2) وأنشد الزمخشري في "المستقصى" عن الفراء: [من البسيط] مِثْلَ النَّعامَةِ كانَتْ وَهْيَ سَائمةٌ ... إِذْ ناءَ حَتَّى رَمَاها الْحينُ وَالْجُبنُ جاءَتْ لِتَشْرِي قَرْناً أَوْ تُعَوِّضُهُ ... وَالدَّهْرُ فِيهِ رباحُ البَيْعِ وَالغَبْنُ فَقِيلَ أُذناكَ ظُلما ثمتَ اصْطَلَمَتْ ... إِلَى الصُّماخِ، فَلا قَرْنٌ وَلا أُذُنُ (¬3) قال: وقال آخر: [من الكامل] أَوْ كَالنَّعامَةِ إِذْ غَدَتْ مِنْ بَيْتِها ... لِيُصاغ قَرْناها بِغَيْرِ أُذَينِ فَاجْتَثَّتِ الأُذنانِ مِنْها فَانْتَهَتْ ... صَلْماءَ لَيسَتْ مِنْ فَواتِ قُرونِ (¬4) وأنشد السيوطي في "ديوان الحيوان" للشيخ جمال الدين بن نباتة: [من الطويل] ¬
أَصَمُّ حَدِيثُ القَرْنِ ما يا روقَ مَسْمعي ... بِتَأْخِيرِهِ يا جالِسينَ النَّدَى عَنَّي فَلا تَجْعَلُونِي فِي العفاةِ نَعامَةً ... غَدَتْ تَبْتَغِي قَرنًا فَعَادَتْ بلا قَرْنِ قلت: وهذا من الكلام الذي وضعته العرب على ألسنة البهائم، والمقصود منه ضرب المثل، وإعطاء الحكمة، والتنبيه على الاعتبار. كما روى أبو نعيم عن الشعبي رحمه الله تعالى قال: مرض الأسد فعادَهُ السباع ما خلا الثعلب، فنمَّ عليه الذئب، فقال: إذا حضر فأَعْلمني، فلمَّا حضر أَعْلمه، فعتبه في ذلك، فقال: كنت في طلب الدواء لك. قال: فأي شيء أصبت؟ قال: خرزة في ساق الذئب ينبغي أن تخرج. فضرب الأسد بمخالبه في ساق الذئب، وانسلَّ الثعلب، فمرَّ به الذئب بعد ذلك ودمه يسيل، فقال له: يا صاحب الخف الأحمر! إذا قعدت عند الملوك فانظر ما يخرج من رأسك. قال أبو نعيم: لم يقصد الشعبي من هذا سوى ضرب المثل، وتعليم العقلاء، وتنبيه الناس، وتأكيد الوصية في حفظ اللسان، انتهى (¬1). وفي رواية: أنَّ الثعلب قال للأسد حين عتبه: ذهبتُ أَلْتَمِسُ ¬
لمرضك دواء حتى وجدته. قال: فما هو؟ قال: خصيتا الذئب، فسلهما الأسد، وذهب الثعلب، فقعد على مدرجة الذئب، فلمَّا مرَّ به ودمه يسيل على فخذيه قال له: يا صاحب السراويل الحمر! إذا جلست عند الملوك فانظر ماذا تتكلم به (¬1). وروى أبو نعيم عن ابن المبارك رحمه الله تعالى قال: سمعت سفيان الثوري رحمه الله تعالى يقول: لم أرَ للسلطان إلا مثلاً ضرب للثعلب قال: قال الثعلب: عرفتُ للكلب نيفًا وسبعين دستاناً، ليس منها دستان خيرًا مِنْ أَلاَّ أرى الكلب [ولا يراني]. وأخرجه المنذري في "تاريخه" بنحوه (¬2). قالوا: قيل للثعلب: ما لك تعدو أكثر من الكلب؟ قال: لأني أعدو لنفسي، والكلب يعدو لغيره (¬3). وقال عمارة اليمني: [من الطويل] رَأَيْتَ رِجَالاً أَصْبَحَتْ فِي مآدِبِ ... وَحالِي لَدَيْكُمْ أَصْبَحَتْ فِي نَوادبِ تَأَخَّرْتُ لَمَّا قَدَّمَتْهُمْ عُلاكُمُ ... عَلَيَّ وَتأبَى الأُسْدُ سَبْقَ الثَّعالبِ (¬4) ¬
وروى ابن أبي شيبة، وغيره عن علي رضي الله تعالى عنه قال: إنما مثلي ومثل عثمان رضي الله تعالى عنه كمثل أثوار ثلاثة كُنَّ في أجمة؛ أبيض، وأسود، وأحمر، ومعها فيها أسد، وكان لا يقدر منهنَّ على شيء لاجتماعهنَّ عليه، فقال - يعني: الأسد - للثور الأسود، والثور الأحمر: لا يدل علينا في أجمتنا إلا الأبيض؛ فإنَّ لونه مشهور، ولوني على لونكما، فلو تركتماني آكله خلت لكما الأجمة وصفت. فقالا: دونك، فأكله، فلمَّا مضت أيام قال للأحمر: لوني على لونك، فدعني آكل الأسود، ففعل، فلما مضت أيام قال للأحمر: إني آكلك لا محالة. فقال: دعني أُنادي ثلاث أصوات. فقال: افعل. فقال: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض؛ قالها ثلاثًا. قال علي رضي الله تعالى عنه: وأنا إنما هنت يوم قتل عثمان؛ رفع بها صوته. وقالوا: إنَّ ثعلبًا وأرنبًا تحاكما إلى الضب، فقالا: يا أبا الحِسل! جئناك لتحكم بيننا. فقال: في بيته يؤتى الحكم. فقال الأرنب: إني اجتنيت تمرة. فقال: حلواً اجتنيت.
فقال: إنَّ هذا أخذها مني. فقال: لنفسه بغى الخير. فقال: وإني لطمته. قال: البادئ أظلم. فقال: ثم لطمني. فقال: كريم انتصر. فقال: احكم بيننا. فقال: حدث حديثين امرأة، فإن لم تفهم فأربعة، وقيل: فاربع (¬1)؛ أي: كف، فذهبت كلماته أمثالاً. وفي طريقته في الحكم: أنَّ عدي بن أرطأة أتى إياس بن معاوية قاضي البصرة وهو في مجلس حكمه، وعدي أمير، وكان أعرابي الطبع، فقال: يا هناه! أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط. قال: فاسمع مني. قال: للاستماع جلست. قال: إني تزوجت امرأة. قال: بالرَّفاء والبنين. قال: شَرَطْتُ لأهلها أني لا أُخرجها من بيتهم. ¬
قال: الشرط أملك؛ أوفِ لهم. قال: وأنا أريد الخروج. قال: في حفظ الله. قال: فاقض بيننا. قال: قد فعلت (¬1). ومما وضعوه على ألسنة البهائم ما قيل: إن الثعلب نظر إلى عنقود فلم يَنَلْهُ، فقال: هو حامض (¬2). وقال بعض القدماء: [من مجزوء الرمل] أَيُّهَا العائِبُ سَلْمى ... أَنْتَ عَنْها كَثُعالَة رامَ عُنْقوداً فَلَمَّا ... أَبْصَرَ العُنْقودَ طَالَه قالَ: هَذا حامِضٌ لَمَّـ ... ـا رَأى أنْ لا يَنالَه (¬3) وقيل: إنه قيل للنعامة: احملي. قالت: أنا طير. فقيل لها: طيري. قالت: أنا بعير. قال الشاعر: [من الوافر] ¬
كَمَثَلِ نَعامَةٍ تَدَّعِي بَعِيراً ... تَعاظَمَها إِذا ما قِيلَ: طِيْرِي فَإِنْ قِيلَ: احْمِلِي قالَتْ: فَإِنِّي ... مِنَ الطَّيْرِ الْمُرَتَّبِ فِي الوكُورِ (¬1) وقيل للحمار: لم لا تجتر؟ قال: أكره مضغ الباطل (¬2). وهو مثل قول الأعرابي الذي دفع إليه عِلْك، فلمَّا مضغه رمى به، وقال: تعب الحنجرة، وخيبة المعدة (¬3). وقيل للثعلب: أما تحمل كتابًا إلى الكلب وتأخذ منه مئة دينار؟ فقال: أما الكراء فواف، ولكن الخطر عظيم (¬4). وقيل: خرج أسد وذئب وثعلب على أنهم مشتركون فيما يتصيدون، فأصابوا حمارًا وظبيًا وأرنبًا، فقال الأسد للذئب: اقسم بيننا واعدل. فقال: أمَّا الحمار فلك، وأما الظبي فلي، وأما الأرنب للثعلب. فغضب الأسد، فضربه ضربةً، فأندر رأسه، فوضعه بين يديه، ثم قال للثعلب: اقسم بيننا واعدل. ¬
فلمَّا رأى الثعلب ما صنع بالذئب خَشِيَ أنْ يُصيبه مثله، فقال: أما الحمار فلك تتغذى به، وأما الأرنب فهو لك خلالٌ تتخلل به فيما بينك وبين الليل، وأما الظبي فلك تتعشى به. فقال الأسد للثعلب: ويلك يا ثعلب! ما ينبغي إلا أن تكون قاضياً؛ من علمك هذا القضاء؟ فقال: الرأس الذي بين يديك، ثم وثب ناحية عن الأسد (¬1). فهذا وأمثاله إنما وضعته العقلاء على طريقة ضرب الأمثال للتنبيه على ما ينفع أو يضر من الخلال؛ {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43]. ألا ترى أنهم يقولون في المثل السَّائر: ليس بِعُشُّكِ فادرُجي؛ يريدون ليس لك في هذا الأمر حق فامضي، كما في "القاموس" (¬2). وقال الزمخشري: يُضرب لمَنْ يدعي أمرًا ليس من شأنه؛ أي: ليس بمباتك فاخرج منه (¬3). وقريب من قولهم في المثل الآخر: خلا لكِ الجو فبِيضي واصْفِرِي (¬4). ¬
وأول من قاله طرفه بن العبد وهو ابن سبع سنين، وذلك أنه خرج مع صويحب له إلى مكان كانا يعهدان فيه القنابر، فنصبا فخيهما، فإذا قنبرة تحوم بالفخ، تقع تارةً وتَفْزع أخرى حتى ذهب النهار، ثم لمَّا توجَّها إلى أهلهما راجعين والقنبرة تحوم قال: [من الرجز] يا لَكِ مِنْ قنبرةٍ بِمعمرٍ خَلا ... لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي وَنَقِّرِي ما شِئْتِ أنْ تُنَقِّري ... قَدْ رُفِعَ الفَخُّ، فَماذا تَحْذَرِي؟ وَرَجَعَ الصَّيَّادُ عَنْكِ فَأْبْشِرِي ... لا بُدَّ مِنْ أَخْذِك يَومًا فَاحْذَرِي (¬1) ومن أمثالهم: حيل بين العَير والنزوان (¬2). العَير - بالفتح -: حمار الوحش، والنزوان: الوثوب. وأبلغ من هذا المثل قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ (54)} [سبأ: 54]؛ يُضرب المثل في منع الرجل مُراده. قال الزمخشري: وأول مَنْ قاله صخر بن عمرو أخو الخنساء، وذلك أنه طعنه ربيعة الأسدي، فأدخل حلقة من حلقات الدرع في جوفه، فَضَمِر زمانًا - أي: زمن - حتى ملته امرأته، فمرَّ بها رجلٌ وكانت ذات خلق وإدراك، فقال لها: كيف مريضكم؟ فقالت: لا حي فيُرجى، ولا ميت فيُنْعى. ¬
ثم قال لها: هل يُباع الكفل؟ فقالت: نعم عمَّا قليل؛ وذلك بمسمع من صخر. فقال: أما والله لئن قَدِرْتُ لأقدمنك قبلي. فقال لها: ناوليني السيف لأنظر هل تُقله يدي، فناولته فإذا هو لا يُقلَّه، فقال: [من الطويل] أَرى أُمَّ صَخْرٍ لا تَمَلُّ عِيَادَتي ... وَمَلَّتْ سُلَيْمى مَضْجَعِي وَمَكانِي فَأَيُّ امْرِئٍ سَاوى بِأمٍّ حَلِيلَةً ... فَلا عاشَ إِلاَّ فِي شَقى وَهَوانِ أَهُمَّ بِأَمْرِ الْحَزْمِ لَوْ أَسْتَطِيعُهُ ... وَقَدْ حِيْلَ بَيْنَ العَيْرِ وَالنَّزَوانِ وَما كُنْتُ أَخْشى أَنْ كون جنازة ... عليكَ وَمَنْ يغترَّ بِالْحَدَثانِ وَلَلْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ حَياةٍ كَأَنَّها ... معرس يعسوبٍ بِرَأْسِ سِنانِ (¬1) ومن أمثالهم: على أهلها دلت براقش، وعلى أهلها جنت براقش (¬2). قال صاحب "القاموس": وبراقش كلبة سمعت حوافر دواب فنبحت، فاستدلوا بنباحها على القبيلة فاستباحوهم. أو: اسم امرأة لقمان بن عاد، استحلفها زوجها، وكان لهم موضع إذا فزعوا دخنُوا فيه فيجتمع الجند، وإن جوارها عبثن ليلة، ودخن فاجتمع الجند، فقيل لها: إنْ رددتهم ولم تستعملهم في شيء ¬
لم يأتكِ أحد مرةً أخرى، فأمرتهم فبنوا بناءً، فلما جاء سأل عن البناء فأخبرته، فقال: على أهلها تَجْنِي براقش؛ يُضرب لمَنْ يعمل عملاً يرجع ضرره عليه. قال: أو كان قومهم لا يأكلون الإبل، فأصاب لقمان من براقش غلاماً، فنزل لقمان في بني أبيها، فراح ابن براقش إلى أبيه بعرق من جزور، فأكل لقمان، فقال: ما هذا؟ فما تعرقت طيبًا مثله. فقال: جزورٌ نحرها أخوالي. فقال: جمل واجتمل؛ أي: أطعمنا لحم الجمل، واطعم أنت منه. وكانت براقش أكثر قومها بعيرًا، فأقبل لقمان على إبلها فأسرع فيها، وفعلوا ذلك بنو أبيه لمَّا أكلوا لحم الجزور، فقيل: على أهلها تجني براقش، انتهى (¬1). قال الزمخشري: وقيل: براقش الحية تدلُّ على نفسها بجرسها (¬2). قال حمزة بن بيض: [من الخفيف] لَمْ تَكُنْ عَنْ جِنايَةٍ لَحِقَتْنِي ... لا يَسارِي وَلا يَمِيني جَنَتْنِي بَلْ جَنَاها أَخٌ عَليَّ كَرِيْمٌ ... وَعلى أَهْلِها براقِشُ تَجْنِي (¬3) ¬
وربما قيل للمُتَلون: أبو براقش. قال الجوهري: بَرْقَشْتَ: إذا نقشته بألوان شتى. وأصله من أبي براقش، وهو طائر يتلون ألوانًا (¬1). وقال صاحب"لقاموس"، برقش علىَّ في الكلام: خلطه. قال: وتبرقش لها: تزين بألوان مختلفة. وقال: أبو براقش طائر صغير يُرى كالقنفذ، أعلى ريشه أغر، وأوسطه أحمر، وأسفله أسود، فإذا يصيح انتفش فتغير لونه ألوانًا شتي (¬2). ومن ألطف التمثيل قول البوصيري رحمه الله تعالى في وصف النفس: [من البسيط] وَراعِها وَهِيَ فِي الأَعْمالِ سائِمَةٌ ... وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ الْمَرْعَى فَلا تَسِمِ مثلها بالبهيمة لا يمنعها عقل عن الشر الذي ربما أدى إلى هلاكها، فصاحبها ينبغي أن يمنعها مما يضرها كما يمنع صاحبُ الدابةِ الدابةَ. وكذلك قوله: [من البسيط] مَنْ لِي بِرَدِّ جماحٍ مِنْ غَوايَتِها ... كَما يُرَدُّ جِماحُ الْخَيْلِ بِاللُّجُمِ وروى [أبو نعيم] عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: ¬
الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس حَرُون؛ إنْ فَتَرَ قائدها ضَلتْ عن الطريق ولم تستقم لسائقها، وإن فَتَرَ سائقها حَرَنَتْ ولم تتبع قائدها، فإذا اجتمعا استقامت طوعاً أو كَرْهًا، ولا يستطيع الدَّين إلا بالطوع والكره، إن كان كما كره الإنسان شيئًا من دينه تركه أوشك أن لا يبقى معه من دينه شيء (¬1). وروى أبو نعيم أيضًا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أُحِبُّ مَوْتًا كَمَوْتِ الحِمَارِ". قيل: يا رسول الله! وما موت الحمار؟ قال: "مَوْتُ الفَجْأَةِ" (¬2). والحكمة في ذلك: أنَّ موت الفجأة يُؤخذ فيه العبد عن غير وصية ولا تذكرة، وكذلك موت الحمار، وغيره من البهائم، ونحوها. وروى أبو نعيم عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه قال [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عَجَّلَ له عقوبةَ ذنبِهِ في الدُّنيا، وإذا أراد اللهُ بعبدِهِ شرًّا أَمْسكَ عليه عقوبةَ ذنبِهِ حتَّى يوافيَهُ يومَ القيامةِ كأنَّه عَيرٌ" (¬3). ¬
وللحديث قصة ذكرها الإمام أحمد في روايته (¬1)، وقد ذكرناها من طريقه في التشبه بالجاهلية. وفي معنى الحديث وجهان: الأول: حتى يُوافي العبد ربه في حال كون العبد مثل العَير - بفتح العين - وهو الحمار الوحشي، شُبه بحال الحمار الذي وقع في قنص الصائد في الذل، وعدم القدرة على استخلاص نفسه. والثاني: حتى يُوافي العبد ذنبه كأن ذنبه عَير. قال أبو نعيم: وعير جبل بالمدينة شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - عظم ذنوبه وكثرتها به (¬2). وذكر القرطبي في "تفسيره": أن نوحًا عليه السلام لمَّا أُهبط من الطوفان أراد أن يبعث مَنْ يأتيه بالخبر، فبعث الغراب، فأصاب جيفة فوقع عليها، فاحتبس، فلعنه، فلذلك يقتل في الحرم، ودعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت، وبعث الحمامة فلم تجد قراراً، فوقعت على شجرة بأرضٍ يَبسٍ، فحملَتْ ورقة ورجعَتْ إلى نوحٍ عليه السلام، فعَلِمَ أنها لم تستمكن من الأرض، ثم بعثها بعد ذلك، فطارَتْ حتى وقعَتْ بوادي الحرم، فإذا الماء قد نَضَب من موضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلاها، وجاءت إلى نوحٍ عليه السلام فقالت: بُشرايَ منكَ أنْ تهبَ ليَ الطوق في ¬
عنقي، والخضاب في رجلي، وأن أسكن الحرم، فمسح بيده عليها، وطوَّقها، ووهب لها الحمرة في رجليها، ودعا لها ولذريتها بالبركة (¬1). أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس بنحوه (¬2). قلت: الاعتبار في هذه القصة أن يكون العبد طائعاً لإمامه، ممتثلاً لأمره وكلامه، فيكون ظافراً بالأمن واليُمْن، يَرْفُل في ثياب الطاعة، ويألف أهل السنة والجماعة كما اتفق من أمن الحمامة، وأنَّ من خرج عن الطاعة جهل وابْتُلِيَ بالخوف كما صار للغراب، وكذلك يُعتبر حال من أحسن في طاعة الإنسان، ومَنْ لم يرعَ حرمته وطاعته؛ فافهم! وذكر القرطبي أيضاً عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: استصعب على نوح عليه السلام الماعزة أن تدخل السفينة، فدفعها من ذنبها، ثم انكسر فصار معقوفاً، وبدا حياها، ومضت النعجة حين دُفعت، فمسح على ذنبها فستر حياها (¬3). وهذا أخرجه ابن عساكر، وغيره (¬4). وروى البخاري في "الأدب المفرد" عن ابن عباس رضي الله تعالى ¬
عنهما قال: عجبت للكلاب والشاء؛ إنَّ الشاء يُذبح منها في السنة كذا وكذا، ويهدى منها كذا وكذا، والكلاب تضع الكلبة الواحد منها كذا وكذا، والشاء أكثر منها (¬1)؛ أي: والواحدة منها تلد واحدة في الغالب. قلت: وقد قال بعض أهل الإشارة: إنما بُورك في الغنم، ومُحِقَت الكلاب لأنَّ الغنم تنام أول الليل وتقوم عند السَّحر، فتذكر الله تعالى وتجتر، والكلاب تسهر الليل كله تنبح لأنها ترى الشياطين، فتنبح عند ذلك كما تقدم في التشبه بالشيطان، وأكثر ما تنتشر الشياطين أول الليل، فإذا كانت وقت السَّحر أو الفجر وقت الطاعة والعبادة نامت الكلاب. وكذلك حال مَنْ يسهر الليل في اللهو واللعب وكثرة الكلام، فإذا جاء وقت السَّحر غلب عليه النوم، وربما نام عن صلاة الصبح، فيبُول الشيطان في أذنه، ويكون بعيداً عن رحمة الله تعالى، ولمثل هذا يُقال: يا نائم! فاتتك الغنائم، ماذا فاتك يا نائم؟ وقد قالوا في المثل: أنوم من كلب، وأنعس من كلب؛ أي: في النهار (¬2). وقالوا: مطل كنعاس الكلب، أي: متصل دائم وفيه قرمطة، ومن شأن الكلب أن يفتح من عينيه بقدر ما يكفيه من الحراسة (¬3). ¬
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أول ما حمل نوح في الفلك من الدواب الذَّرَّة، وآخر ما حمله الحمار، فلما دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه، فلم تستقل رجلاه، فجعل نوح عليه السلام يقول: ويحك! ادخل، فينهض ولا يستطيع، حتى قال نوح عليه السلام: ويحك! ادخل وإنْ كان الشيطان معك، كلمةٌ زَلتْ عن لسانه، فلمَّا قالها نوح عليه السلام خلى الشيطان سبيله، فدخل ودخل الشيطان معه، فقال له نوح: ما أَدْخلك عليَّ يا عدوَّ الله؟ قال: ما لك بدٌّ أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك (¬1). وقد تقدم أنَّ الحمار والكلب إذا نعق ونبح فيكونان قد رأيا شيطاناً (¬2). والاعتبار في أمر الحمار أنَّ العبد لا ينبغي أن يكون متثاقلاً عن الخير، متقاعداً عن السبق في أمور الآخرة التي بها ينجو العبد خشية أن يتأخر فيحصل له من العوائق ما حصل للحمار حين تأخر عن سفينة نوح عليه السلام من عاقة الشيطان حتى صار قرينه إلى الأبد، وصار الحمار مَثَلاً في السوء. ¬
ألا ترى إلى قول الله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]؟ وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]؟ وقد قيل: للتأخير آفات، والعجلة من الشيطان إلا في أمور الآخرة؛ فإنها من الله تعالى، فأمَّا في غير أمور الآخرة فلعلها على وفق مرضاة الشيطان، كما أن الأناة عن الخير موافقةً لمرضاته، فأما الأناة عن غير الفضائل الأخروية فهي من الله تعالى، فليحذر الإنسان أن يكون في طاعة الشيطان وصحبته، خصوصاً عند خروجه من الدنيا ودخوله في الآخرة كما كان الحمار في صحبة الشيطان إذ لم يتأخر خارج عن السفينة غيره وغير الشيطان. وسفينة نوح عليه السلام يمكن دخول الشيطان إليها لأنها - وإن كانت سفينة النجاة - فإنها من أمور الدنيا، والدنيا محل الشيطان بخلاف الجنة. وإنك مهما صحبك الشيطان في آخر أنفاسك والعياذ بالله، وأَطَعْته حينئذٍ تعلق بك، فيمنعك من دخول الجنة؛ إذ لا يمكن دخوله إليها، ولا يفلتك كما لم يفلت الحمار حين دخل السفينة رجاءَ أن يدخل الجنة معك كما دخل السفينة مع الحمار، ولذلك كان أشد ما يكون الشيطان حريصا على إضلال ابن آدم عند الموت كما تقدم، فإذا المطيع الشيطان في آخر أنفاسه أسوأ حالاً من الحمار.
ولنا هنا لطيفة، وهي أنَّ نوحاً عليه السلام لو كان معه آية الكرسي، أو الآيتان من خواتيم سورة البقرة لم يدخل الشيطان سفينته أصلاً، وإنما كانت هذه الخصوصية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولأمته. روى سعيد بن منصور، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سُوْرَةُ البَقَرَةِ فِيْهَا آيَةٌ هِيَ سَيِّدَةُ آيِ القُرْآنِ، لا تُقْرَأُ فيْ بَيْتٍ فَيَقْرَبَهُ شَيْطَانٌ". وفي لفظ: "لا تُقْرَأُ فيْ بَيْتٍ وَفِيْهِ شَيْطَانٌ إِلاَّ خَرَجَ مِنْهُ؛ آيَةُ الكُرْسِيِّ" (¬1). وله شواهد في "الصحيح" (¬2). وروى الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه" عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهَا سُوْرَةَ البَقَرَةِ، لا تُقْرَآنِ فيْ دَارٍ ثَلاثَ ليَالٍ فَيَقْرَبَهَا شَيْطَانٌ" (¬3). ¬
ورواه الحاكم وصححه، ولفظه: "وَلا تُقْرَآنِ فيْ بَيْتٍ فَيَقْرَبَهُ شَيْطَانٌ ثَلاثَ لَيَالٍ" (¬1). عوداً على بَدْءٍ: من الأمثال: أثقل من فيل (¬2). وهو من باب تمثيل المعنوي بالحسي. قال الشاعر: أنْتَ يا هذا ثَقِيلٌ ... وَثَقِيلٌ وَثَقِيلُ أنْتَ فِي الْمَنْظرِ إِنْسا ... نٌ، وَفِي الْمِيزانِ فِيْلُ (¬3) وفي المثل: أثقل من الزواقي. قال هشام بن عروة: يريدون أنها إذا صاحت تفرق السُّمَّار والأحبة (¬4). قال في "الصحاح": وقولهم: أثقل من الزواقي، وهي الديوك لأنهم كانوا يسمرون، فإذا صاحت الديوك تفرقوا (¬5). وذكر الزمخشري: أنَّ الفراء سُئل عن المَثَل فلم يعرفه، فقال ¬
جليسٌ له: كانت العرب تسمر، فإذا زقت الديكة ثقل عليها زقاؤها، فاستحسنه الفراء (¬1). وقال ابن عبد ربه في "العقد": قال أبو زيد: قلت للخليل بن أحمد: لَم قالوا في تصغير واصل: أوَ يْصل، ولم يقولوا: وويصل؟ قالوا: كرهوا أنْ يشبه كلامهم نبيح الكلاب (¬2). وقال فيه: أتى أحمد بن الحسين بعض المتظلمين يوماً، فأخرج رجله من الركاب، فركضه، فقال فيه الشاعر: قُلْ لِلْخَلِيفَةِ وَابْنِ عَمِّ مُحَمَّدٍ ... اشْكُلْ وَزِيرَكَ إِنَّهُ رَكَّالُ (¬3) وذكر ابن خلكان في ترجمة أحمد بن أبي نصر الخصيب وزير المستنصر: أنه كان ينسب إلى الطيش والتهور، وله في ذلك أخبار، وكان قد ركب يوماً فوقف له متظلم، وشكا حاله، فأخرج رجله من ركابه، ودجَّ المتظلم في فؤاده فقلبه، فتحدث الناس بذلك، فقال بعض شعراء ذلك الزمان: [من الكامل] قُلْ لِلْخَلِيفَةِ وَابْنِ عَمِّ مُحَمَّدِ ... اشْكُلْ وَزِيرَكَ إِنَّهُ رَكَّالُ اشْكُلْهُ عَنْ ضَرْبِ الرِّجالِ فَإِنْ تُرِدْ ... مالاً، فَعِنْدَ وَزِيرِكَ الأَموالُ (¬4) ¬
وذكر الدميري، والسيوطي، وغيرهما: أنه ليس في الحيوان ما يحمل ضِعْفَ بدنِه مراراً غير النملة حتى تحمل النواة ونحوها (¬1). وهذا مثال من يأخذ من الدنيا فوق كفايته، فحاله كحال النملة التي سرحت مع النمل، فحملت ضعفها مرات، وحمل النمل دونها، ثم تسابقن إلى مسكنهن، فإنك ترى المُخِفَّات منها يدخلن المسكن أولاً فأولاً، فتبقى المُثْقَلات يعالجن ما حملنه ليُدْخِلْنه البيت، فربما أدركهن العطب، ففاز المخفات منهن. ومن هنا قالوا: فاز المخفون. وروى البزار بإسناد حسن، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيْكُمْ عَقَبَةً كَؤُوْداً، لا يَنْجُوْ مِنْهَا إِلاَّ كُلُّ مُخِفٍّ" (¬2). قال الجوهري: عقبة كؤود: شاقة المصعد (¬3). وروى الطبراني بإسنادٍ صحيح، عن أم الدرداء قالت: قلتُ له - أي: لأبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما -: ما لك لا تطلب كما يطلب فلان وفلان؟ فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ وَرَاكمْ عَقَبَةً ¬
كَؤُوْداً، لا يُجَاوِزُهَا المُثْقَلُوْنَ؛ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَتَخَفَّفَ لِتِلْكَ العَقَبَةِ" (¬1). ويروى نحوه من حديث أنس رضي الله تعالى عنه (¬2). قال الدميري، والسيوطي: ويحمل النمل غذاء سنتين، ولا يكون عمره أكثر من سنة، وبعد السنة يُخلق له أجنحة فيطير فتأكله العصافير، وإذا كان كذلك أخصب العصافير. ومن عجائبه اتخاذه القرية تحت الأرض، وفيها منازل، ودهاليز، وغرف، وطبقات معلقات، تملؤها حبوباً وذخائر للشتاء. وكذلك حال أولاد آدم يجمعون ما لا يأكلون، إلا من وَفَّقَهُ الله تعالى منهم للزهد، والتقلل من الدنيا، وهم عُقلاء الناس (¬3). وروى أبو نعيم عن سعيد بن أبي هلال: أنَّ أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه كان يقول: يا أهل دمشق! ألا تستحيون، تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تَبْغُون، قد كان القرون من قبلكم يجمعون فيوعون، ويأملون فيطيلون، ويبنون فيوثقون، فأصبح ¬
جمعهم بوراً، وأملهم غروراً، وبيوتهم قبوراً، هذه عاد قد ملأت ما بين عدن إلى عمان أموالاً وأولاداً، فمن يشتري مني تركة آل عادٍ بدرهمين (¬1)؟ خصَّ أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه أهل دمشق بخطابه لأنه كان يسكنها. والاعتبار بالنمل من حيث إنه إذا نَبَتَ له جناحان طار، فكان في طيرانه هلاكه أن ابن آدم قد يكون في غناه ورِياشه هلاكه، وكثير من الناس إذا كانوا فقراء كانوا صالحين، فإذا راشوا واستغنوا أَشَروا وبَطروا، فهلكوا، وربما حملتهم أموالهم إلى محالِّ هلاكم. قال أبو العتاهية: [من الكامل] يا صاحبَ الدُّنْيا الْمُحِبَّ لَها ... أَنْتَ الَّذِي لا يَنْقَضِي تَعَبُهْ أَصْلَحْتَ داراً نَعِيمُها أشبٌ ... جمُّ الفُرُوعِ كَثِيرَةٌ شُعَبُهْ إِنَّ اِسْتهانتَها بِمَنْ صَرَعَتْ ... بِقَدْرِ ما تَسْمُو بهِ رُتَبُهْ وَإِذا اسْتَوَتْ لِلنَّمْل أَجْنِحَةٌ ... حَتَّى يَطِيرَ فَقَدْ دَنا عَطَبُهْ (¬2) وقال غيره من القدماء: [من الخفيف] وَإِذا أَنْبَتَ الْمُهَيْمِنُ لِلنَّمْـ ... ـلِ جَناحاً أَطَارَهُ لِلتَّعَدِّي ¬
وَلِكُلِّ امْرِئٍ مِنَ النَّاسِ حَدٌّ ... وَهَلاكُ الفَتَى جَوازُ الْحَدِّ (¬1) وقريبٌ من هذا المعنى ما رواه ابن جرير، وأبو الشيخ عن الربيع ابن أنس قال: إنَّ البعوضة تجني ما جاعت، فإذا شَبِعَتْ ماتت. وكذلك ابن آدم إذا امتلأ من الدنيا أخذه الله عند ذلك، ثم تلا {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] (¬2). وسبب ذلك: أنَّ البعوض فيه من الشَّره أن يمص الدم حتى يموت، أو يعجز عن الطيران والنهوض. ومن أمثال الناس: إذا استغنى الصعلوك مات. وقال القاضي عبد الوهاب المالكي، وقد أثرى بعد قلة ذات يده فأَدْركته منيته: لمَّا عشنا متنا (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَسْتُ أَخَافُ عَلَىْ أُمَّتيْ غَوْغَاءَ تَقْتُلُهُمْ، وَلا عَدُوًّا يَجْتَاحُهُمْ، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَىْ أُمَّتي أَئِمَّةً مُضِلِّيْنَ؛ إِنْ أَطَاعُوْهُمْ فَتَنُوْهُمْ، وَإِنْ عَصَوْهُمْ قَتَلُوْهُمْ" (¬4). أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الأئمة المضلين أشدُّ فتنة من العامة الضَّالين وهم ¬
الغوغاء؛ لأنَّ العاقل يعرف ضلالهم، بخلاف الأئمة المضلين. وروى أبو نعيم عن الشعبي رحمه الله تعالى أنه قال: نعم الشيء الغوغاء؛ يسدون السيل، ويطفئون الحريق، ويشغبون على ولاة السوء (¬1). والشغب: بالتسكين، وقد يُحرك. وقيل: تهييج الشر وهو شغب الجند؛ يقال: شغب عليهم وبهم، وشغبهم؛ كله بمعنىً (¬2). قلت: ومعنى قول الشعبي: نعم الشيء الغوغاء: عوام الناس. روى الخطابي في "العزلة" عن الأصمعي أنه قال: الغوغاء الجراد إذا ماج بعضه في بعض. قال: وبه سمي الغوغاء من الناس (¬3). إنما مدحهم الشعبي لما يحصل بهم من الرفق بهم فيما ذكر، فيؤيد الله بهم الدين مع أنهم في أنفسهم غير ممدوحين لغلبة الجهل عليهم، والغفلة عن الله تعالى، وعن أمور دينهم. فقوله: نعم الشيء الغوغاء؛ أي: لغيرهم، لا لأنفسهم، ولا في أنفسهم، وهذا من باب تأييد الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خَلاق لهم. ¬
قيل لبعض الحكماء: إن العامة يثنون عليك، فأظهر الوحشة من ذلك، وقال: لعلهم رأوا مني شيئاً أعجبهم، ولا خير في شيءٍ يسرُّهم ويعجبهم (¬1). وقد قلت في هذا المعنى، وفي ضده الذي قال فيه المتنبي: [من الكامل] وَإِذا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ ناقِصٍ ... فَهِيَ الشَّهادَةُ لِي بِأَنِّي كامِلُ (¬2) فأشرت إلى المعنيين بقولي: [من البسيط] لا يُعْجِبَنَّكَ أَنْ يُثْنَى عَلَيْكَ بِما ... قَدْ أَعْجَبَ السُّفَهاءَ الشَّاهةَ الْهَمَجا هِجاؤُهُمْ كَثَناءِ الأَكرَمِينَ كَما ... ثَناؤُهُمْ بِالَّذِي يَرْضَوْنَهُ كَهِجَا وروى الدينوري في "المجالسة" عن محمد بن المنذر بن الزبير ابن العوام - وكان من سروات الناس -: ما قل سفهاء قوم إلا ذلوا (¬3). وعن الأصمعي قال: قال المهلب: لأن يطيعني سفهاء قومي أحبُّ إليَّ من أن يطيعني حلماؤهم (¬4). والسفهاء هم العوام بأعيانهم، والغوغاء بأنفسهم. ¬
وإنما قال ذلك لأن لهم حمية، فإذا كان لهم جار صالح وأوذي كفوه مؤنة الانتقام والانتصار، فعزَّ جارهم بذلك، وكذلك إذا أطاعوا فعلوا ما أمروا به من غير روية ولا نظر في العواقب، فيصل بهم المطاع إلى غرَضه. وحاصله أنَّ نفعهم لغيرهم، ووبالهم على أنفسهم. نعم، في طاعتهم للكبير ما قد يوجب عليه رعايتهم والإغضاء عن قبائحهم، فربما استنصر بهم من هذا الوجه، ومن ثم لم يرضَ ذلك الحكيم بثنائهم عليه، وأطلق كثير من الحكماء ذمهم. وروى الخطابي في "العزلة" عن عطاء: أنه كان يستخف بالغوغاء، ويبلي الناس بهم (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن ابن شوذب رحمه الله تعالى قال: كان الحسن - يعني: البصري رحمه الله تعالى - إذا نظر إلى أهل السوق قال: هؤلاء قتلة الأنبياء (¬2). وقال بعض الحكماء: العامة إذا اجتمعوا ضروا، وإذا تفرقوا نفعوا. قال الخطابي: يريد: إذا تفرقوا رجع كل واحد منهم إلى صناعته، فيخرز الإسكاف، ويخصف الحذاء، وينسج الحائك، ¬
ويخيط الخياط، وينتفع الناس بهم، انتهى (¬1). وقد قيل: لا عبرة بجماعة العوام؛ فإنهم يجمعهم طبلٌ ويفرقهم عصا؛ أي: لا يجتمعون على غرض صحيح، وأدنى شيء يوهمهم يفرقهم. وروى الخطابي عن أبي عاصم النبيل: أنَّ رجلاً أتاه فقال: إنَّ امرأتي قالت لي: يا غوغاء! فقلت لها: إنْ كنتُ غوغاء فأنت طالق ثلاثاً. فقال له أبو عاصم: هل أنت ممن يحضر المناطحة بالكباش، والمناقرة بالديوك؟ فقال: لا. فقال له: هل أنت الرجل يحضر يوم يعرض السلطان أهل السجون، فيقولون: فلان أَجْلد من فلان؟ فقال: لا. فقال: هل أنت الرجل الذي إذا خرج الأمير يوم الجمعة جلست له على ظهر الطريق حتى يمر، ثم تقيم مكانك حتى يُصلي وينصرف؟ فقال: لا. فقال له أبو عاصم: فلست بغوغاء، إنما الغوغاء من فعل هذا (¬2). ¬
قلت: وفي معنى ما ذكره أبو عاصم من حضور مناقرة الديوك ومُناطحة الكباش الوقوف في حلق القرادة، والذبابة، والمشعبذين، والذين يحكون الحكايات المكذوبة، والمجان، وأهل السخرية. وفي معنى حضور يوم عرض المسجونين على السلطان شهود من يقتل من أهل الجرائم والتهم، والدوران مع مَنْ يعزر منهم في البلد، وكذلك سائر المفترجات المكروهة والمحرمة، والجلوس في بيوت القهوات، وحوانيت البرش والحشيش؛ كل ذلك لا يعكف عليه إلا الغوغاء، فلا ينبغي التشبه بهم في ذلك. وروى الدينوري في "المجالسة" عن المعافى بن عمران: أنَّ عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه مرَّ بقوم يتبعون رجلاً فقال: لا مرحباً بهذه الوجوه التي لا ترى إلا في الشر (¬1). وقرأت بخط البرهان بن جماعة: أنَّ معاوية رضي الله تعالى عنه قال لصعصعة بن صوحان: صف لي الناس؟ فقال: خلق الناس أصنافاً؛ فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة للبأس والنجدة، وفيما بين ذلك رجرجة يكدرون الماء، ويغلون السعر، ويضيقون الطريق، وينغصون الحياة (¬2). قلت: والعلماء خاصة أهل العبادات. ¬
والرجرجة - بكسر الراء، وبالجيم -: من لا عقل له؛ قاله في "القاموس" (¬1). وأصلها بقية الماء في الحوض الكدرة المختلطة بالطين، من الرجرجة - بالفتح - وهي الاضطراب لاختلاطهم، واضطرابهم في أنفسهم. ونحوه تسمية الضعفاء من الناس رجاجاً - بفتح الراء -، أُخذ من الرجاج - بالفتح أيضاً - وهي مهازيل الغنم، وضعاف الإبل. وأنشد الأصمعي: [من الرجز] أَقبلْنَ مِنْ نيرٍ وَمِنْ سُواجِ ... بِالقومِ قَدْ مَلُّوا مِنَ الإِدْلاجِ فَهُمْ رَجاجٌ وَعلى رجاجٍ ... يَمْشُون أَفْواجاً عَلى أَفْواجِ مَشيَ الفراريجِ مع الدجاجِ (¬2) أي: ضعفوا من السفر، وضعفت رواحلهم. ونير - بكسر النون، وبالراء، بينهما تحتانية -: اسم جبل لبني عاضرة. وسواج - بالضم -: اسم موضع عنده. وكذلك الرعاعة - بالفتح -: اسم النعامة، ثم سمي به من لا فؤاد له ولا عقل، والجمع: رعاع. ¬
والرعاع أيضاً: الأحداث الطَّغَام من الناس. وتقدم ذكر الرعاع في كلام علي رضي الله تعالى عنه في حديث كُميل بن زياد. والهمج: هو ذباب صغار كالبعوض، يقع على وجوه الغنم والحمير وأعينها؛ الواحدة: همجة. والهمجة أيضاً: الشاة المهزولة. قال في "الصحاح": ويقال للرعاع من الناس الحمقى: إنما هم همج، وقولهم: (همج هامج) تأكيد له (¬1). والهمج أيضاً: سوء التدبير في المعاش والجوع، وعليهما حُمِلَ قول الراجز: قَدْ هَلَكَتْ جارَتُنا مِنَ الْهَمَجِ ... وَإِنْ تَجُعْ تَأْكُلْ عتوداً أَوْ هرج (¬2) ونقل الشيخ علوان الحموي في "شرح تائية ابن حبيب" عن الصفدي، عن شيخه السيد أبي الحسن علي بن ميمون المغربي: أنه كان ينهاه عن الدخول بين العوام والحكام، ويقول: ما رأيت لهم مثلاً إلا الفأر والحيات؛ فإنَّ كلًّا منهما مفسدٌ في الأرض، فالحيات مسلطة على الفأر، والفأر مسلطة على الناس. قلت: وهذا ليس على إطلاقه، بل العالم القادر على الأمر ¬
والنهي متى لم يخش ضرراً بسبب ذلك، وقد رأى من الحكام جوراً ولو على العوام، تعين عليه الإنكار والنهي. فهو إذا علم أنَّ الأمر والنهي لا يجدي، فهل سقط عنه الأمر والنهي، أم لا؟ الأول: مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه. والثاني: مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه. ووقع تمثيل العوام بالأفاعي في كلام عيسى عليه السلام. روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: دخل عيسى بن مريم عليهما السلام بيت المقدس وهم يتبايعون فيه، فجعل ثوبه مخراقاً، وسعى عليهم ضرباً، وقال: يا بني الحيات والأفاعي! اتخذتم مساجد الله أسواقاً (¬1)؟ قلت: وأما أزمنتنا هذه فالعامة فيها لا ترضى بالبيع والشراء في المساجد، بل يجعلونها مجتمعاً لأخذهم وعطائهم، ومجادلاتهم وخصوماتهم، وفي كثير من القرى الآن يجعل المسجد سجناً لأهل تلك القرية، فإذا كانوا في الصلاة خصوصاً يوم الجمعة قَعَدَ جباة الظلم والمكس عند باب المسجد وحبسهم فيه، فلا يدع خارجاً يخرج حتى يُعطي الجريمة المفروضة عليه عن يدٍ وهو صاغر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ¬
وكم من مسجد في كثير من المدائن وغيرها ضم إلى بيت، أو جعل مخزناً لمتاع، وكل ذلك لرقة الدين. وروى أبو نعيم عن أبي زرعة يحيى بن عمرو الشيباني قال: مَثَلُ بيت المقدس في الكتب مثل طَسْتِ من ذهب مملوءة عقارب (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: أول من يُخرج أهلَ مكة من مكة القردةُ. يحتمل أنه أراد القردة حقيقة، تكثر آخر الزمان في مكة حتى يخرج أهل مكة منها من أذاها، ويحتمل أنه أراد قوماً كالقردة في الطباع والشدة، وهو أقرب كما في الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى بني أمية تنزو على منبره كما تنزو القردة. وقال حجة الإسلام الغزالي في "الإحياء": سُئل ابن المبارك: مَن الناس؟ فقال: العلماء. قال حجة الإسلام: ولم يجعل غير العلماء من الناس؛ لأن الخاصة التي تتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم، والإنسان إنسانٌ بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوة شخصه؛ فإنَّ الجمل أقوي منه، ولا ليأكل؛ فإنَّ الجمل أوسع بطناً منه، ولا ليجامع؛ فإن العصافير أقوى على السفاد منه، بل لم يخلق إلا للعلم، انتهى (¬2). ¬
أنشد أبو تمام في "الحماسة" للعباس بن مرداس: [من الوافر] تَرى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيْهِ ... وَفِي أَثْوابِهِ أَسَدٌ مَرِيرُ ويعْجِبُكَ الطَّريرُ فَتَبْتَلِيهِ ... فَيُخْلِفُ ظَنَّكَ الرَّجُلُ الطرِيرُ فَما عِظَمُ الرِّجالِ لَهُمْ بِفَخْرٍ ... وَلَكِنَّ فَخْرَهُمْ كَرمٌ وَخِيْرُ ضِعافُ الطَّيْرِ أَطْولُها جُسُوماً ... وَلَمْ تَطُلِ البزاةُ وَلا الصُّقورُ بُغاثُ الطَّيْرِ أَكْثَرُها فِرَاخًا ... وَأُمُّ الصَّقْرِ مِقلاةٌ نزورُ لَقَدْ عَظُمَ البَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ ... فَلَمْ يَسْتَغْنِ بِالعِظَمِ البَعِيرُ فَيَصْرِفُهُ الصَّغِيرُ بِكُلِّ وَجْهٍ ... وَيَحْبِسُهُ عَلى الحشفِ الْخَبِيرُ (¬1) والخبير في البيت الأخير يعني: الأَكَّار، ومنه المخابرة. والطرير: ذو الرواء والمنظر، كما ذكره الجوهري، وأنشد البيت (¬2). وروى ابن أبي حاتم، والضياء المقدسي في "المختارة" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] قال: المُكاء: الصفير، وإنما شبهوا بصفير الطير (¬3). ¬
وروى الطستي عنه: أنَّ المكاء: صوت القنابر، والتصدية: صوت العصافير، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلي قائماً بين الحجر والركن اليماني، فيجيء رجلان من بني سهم، أحدهم عن يمينه والآخر عن يساره، فيصيح أحدهما كما يصيح المكاء، والآخر يُصفق بيديه تصدية العصافير (¬1). ونقل القرطبي، وغيره عن السدي في الآية، قال: المكاء: الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يُقال له: المكاء. قال الشاعر: إِذا غَرَّدَ الْمُكاءُ فِي غَيرِ رَوْضِهِ ... فَوَيْلٌ لأَهْلِ الشَّاءِ وَالْحمراتِ والمكاء: على وزن خطاف، وزنار. قال القرطبي، وغيره: في الآية رد على الجُهَّال من الصوفية الذين يُصفقون ويصعقون لما فيه من التشبه بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت (¬2). وتقدم بيانه في التشبه بالجاهلية. وقرأت بخط البرهان بن جماعة ما مثاله: سألت شيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي الدمشقي - سقى الله عهده صوب الرحمة - عن سماع الصوفية، فقال: مَنْ كان منهم ذا مراقبة لَحِظَ المعنى، ولم ينظر إلى ¬
الصوت والتلحين، ومن سمع التلحين مع المعنى تحرك وتنهد، ومَنْ سمع التَّلحين وناطه بالحلو الشمائل فسماعه بَهِيْمي لا روحاني، وهذا سماع الشباب البطلة، فما لك ودعوى المحبة، رقصٌ كالدبة، ودفن كالمذبة، وبطن كالقربة، وأنت تلطخ على أرباب المحبة، فما ثم إلا تنعم وتلذد، ولعبٌ وشهوة، قبلها مأكولٌ ومشروب، وملبوسٌ، ومشموم مع مليحٍ وصديق، ثم بعدها نومٌ وتكبيس، ثم حمام، ومصلوقة بلا خشوع، أنت الصوفي على الوضع؟ أكول، بطول، جهول، سؤولٌ، كثير الفضول؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله! انتهى. وقال أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار": سمعت أبا بكر ابن بيان الدينوري قال: سمعت شيخنا أبا علي ممشاد يقول ذات يومٍ لأصحابه: ترقصون مثل الدب من كثرة ما تسمعون. فقال له محمد بن علي بن يزيد - وهو من كبار أصحابه وكان ينبسط معه -: يا أبا علي! أنت لا تُحسن تسمع. قال أبو علي: ولِمَ يا أبا بكر؟ قال: لأنه لا يقع لك انزعاج. فقال ممشاد: رأيت جبلاً تحرك قط، لو أنَّ كل ملاهي الدنيا وضِعَتْ في مسامعي هذه، ما شفي بعض همي، ولقد أمد الله لي في كل شيء منه عليَّ، لا يشبه بعضه بعضاً، وليس أهل الحق هاهنا؛ فاعلم!
وذكر السيوطي في "ديوان الحيوان" عن ابن زهير قال: نهيق الحمار يضرُّ بالكلاب حتى ربما عوى الكلب من كثرة ما يؤلمه، ثم أنشد للمظفر الأعمى: [من الوافر] لِحادِي القَوْمِ أَلْفاظٌ عِذابُ ... كَما زَعَمُوا وَفَاتَهُمُ الصَّوابُ حَدا فِيهِمْ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ ... عَلى نَغَماتِهِ طَرِبُوا وطَابُوا فَقُلْتُ وَقَدْ بَكَوا لَمَّا تَغَنَّى ... إِذا نهقَ الْحِمارُ بَكَتْ كِلابُ وقال الشيخ محي الدين بن العربي رحمهُ الله تعالى: أنشدني ابن ثابت قال: أنشدني الحسن بن محمد البلخي، قال: أنشدني طاهر بن الحسين - وهو أبو الحسن المخزومي - لنفسه بالصفا: [من الكامل] لَيْسَ التَّصَوُّفُ أَنْ يُلاقِيْكَ الفَتَى ... وَعَلَيْهِ مِنْ نَسْجِ الْمَسِيحِ مُرَقَّعُ بِطَرائِقَ بِيضٍ وَسُودٍ لُفِّقَتْ ... فَكَأَنَّهُ فِيها غُرابٌ أَبْقَعُ إنَّ التَّصَوُّفَ مَلْبَسٌ مُتَعارَفٌ ... فِيهِ لِمُوْجِدِهِ الْمُهَيْمِنِ يَخْشَعُ قلت: أخبرنا شيخ الإسلام الوالد - إجازةً، ووجادةً - قال: أخبرنا الشيخ شرف الدين قاسم بن عمر المغربي القيرواني المالكي، خادم ضريح الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه قال: أخبرتنا السيدة حسناء بنت الشيخ العارف بالله سيدس علي وفا، عن أبيها: أنه أنشد لنفسه [من الكان وكان]: كُنْ بِالصَّلاحِ مَوْصُوفْ ... وَالْبَسْ صُنوفْ
لَوْ أنَّ الصَّلاحَ بِالصُّوف ... طارَ الْخَرُوفْ يا مَنْ رَأى الأَلْبابْ ... فِي أَفْخَرِ ثِيابْ قَدْ شاهَدُوا الأَحْبابَ ... فِي كُلِّ غابْ إِنْ كُنْتَ مِنْ أَرْبابِ ... هَذا الْخِطابْ فَحَوْلَ حِماهُمُ طُوْفْ، وَالبْسْ صُنوفْ لَوْ أنَّ الصَّلاحَ بِالصُّوفْ ... طارَ الْخَرُوفْ ما الْفَخْرُ فِي الدفاسْ ... وَالانْحِباس وَلا بِطَرْقِ الرَّاسْ وَالانْخِناسْ ما الْفَقْرُ شَيْءْ غَيْرَ كاسْ ... مَوْتِ الْحَواسْ وَكُنْ بِذا مَنْخُوفْ، وَالْبَسْ صُنوفْ لَوْ أَنَّ الصَّلاحَ بِالصُّوفْ ... طارَ الْخَرُوفْ مُتْ فِي وجُودِ الْحَقِّ ... بِنَفْسِكَ حَقْ عَساكَ أَنْ تَلْحَقَ ... بِمَنْ قَدْ سَبَقْ كُنْ بَعْد ذا مُطْلَق ... كَمَنْ صَدَقْ وَاخْلُصْ مِنَ الْمَوْقُوف ... وَالبْسْ صُنُوفْ لَوْ أنَّ الصَّلاحْ بِالصُّوفِ ... طارَ الْخَرُوفْ دَعْ عَنْكَ لُبْسِ الزيقْ ... ماذا الطَّرِيقْ؟
فَخَلِّ ذا التَّزْوِيقْ ... لِلزَّيْقِ مِيْقْ بَلِ الطَّرِيقُ تَمْزِيقْ ... الذَّاتْ حَقِيقْ وَاتْرُكْ لِباسْ مَعْرُوفْ ... وَالْبَسْ صُنوفْ لَوْ أَنَّ الصَّلاحْ بِالصُّوفِ ... طارَ الْخَرُوفْ قُوْم اكْسِرِ الإِبْريقْ ... وَاطلِ الرِّاجْ وَخَلِّ لُبْسَ الرِّيقْ ... وَأخلِ الرِّباطْ لأَنَّ ذا التَّزْوِيق ... كُفَهُ خباطْ كُنْ بِالْعُلُومْ مَوْصوفْ ... وَالْبَسْ صُنوفْ لَوْ أَنَّ الصَّلاحَ بِالصُّوفِ ... طارَ الْخَرُوفْ وبالإسناد إلى سيدي علي وفا رحمه الله تعالى: لا تَحْسبُوا أنَّ الْعُشَّاقْ ... مَنْ يَعْشَقُ الْمِعْصمَ وَالسَّاق أُوْلَئِكَ بَنُو آدمَ صُورَةْ ... وَهُمْ بِها مَسْتُورَة نُفوسْ شَهواتْ مَقْهُورَةْ ... تَهْوى الْمَعاطِف وَالأَحْداق إِنَّا نَقُولُ الْحَقَّ الْحَقَّ ... مَنْ كانَ يَهْوَى الْحُسْنَ الْمُطْلَق ذاكَ الَّذِي يَصْلُحْ يَعْشَقْ ... [ ... ] مَطْيُوعْ فِي الأَسْواق العِشْقُ حالَةٌ قَلْبيَّةْ ... تَأْتِي مِنَ اللهِ وهْبِيَّةْ نِسْبَةْ شَرِيفَةٌ عَيْنِيَّة ... بَيْنَ الْحَدائِقِ وَالأَحْداق
ومن لطائف أبي عبد الله محمد بن علي بن أحمد اليماني السودي المعروف بالهادي: أنه شبه العازفين عن محبة الله تعالى والإقبال على طاعته بالخفافيش لأنها لا تُبصر في ضوء الشمس والقمر، وما كفاه حتى جعلهم عور، فقال: [من الكان وكان] بِاللهِ بِاللهِ زُوروا ... فَكُلَّما قِيلَ زُوروا وَما رَوى ذاكَ عَنِّي ... إِلاَّ خَفافِيشُ عُورُ تَيَمَّمُوا نَحْوَ نَجْدِه ... فَقُلُتْ: هَيْهاتَ غُوروا إِنَّ الْمَعالِيْ غَوالِي ... لَها النُّفوسُ مُهورُ [ ... ] للحق مُتَّهَمٌ ... إِذْ هُمْ عَنِ الْحَقِّ زُورْ دَخَلْتُ مِصْرَ هَواكُمْ ... وَقُلْ: هُوَ اللهُ سورُ فَصِرْتُ فِيها عَزِيزاً ... تِجارَتِي لا تَبورُ وَقَدْ أَتانِي بِأَمْنِي ... قَبْلَ الدُّخولِ البَشِيرُ وَجارُكُمْ فِي سُرُورٍ ... يَغارُ مِنْهُ السُّرورُ حاشا عَلى الْحالِ حاشا ... يا سَادَتِي أَنْ تَجُوروا واتفق لنا في سنة أربع وألف، وقد قعد بعض المحرومين ممن يُنسب إلى العلم بالجامع الأموي في بعض الأيام آخر النهار ينتظرني حتى أخرج إلى الدرس، فيأخذ مني تفسير شيخ الإسلام الوالد وقال: لآخذنه منه وأُمزقنه، وكان قد تقوى بقرين له وافقه على الحسد،
وجاءا معاً ينتظران خروجي، فبلغني الخبر وقيل لي: لو كسرت الفتنة وتركت الدرس اليوم. فقلت: لا والله، لا بدَّ من الخروج، والله يكفيني إياهما، واطمأننت إلى قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8]، فلمَّا خرجت إلى المسجد الجامع خرجا معاً هاربين من الناس، واتفق أنَّ الدرس كان في ذلك اليوم في تفسير قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} [آل عمران: 13] الآية، فقلت في هذه الحالة: [من المجتث] إِنَّ الْخَفافِيشَ تَبْدو ... فِي جُنْحِ لَيْلِ التَّمارِي وَلَمْ نَكُنْ لِنَراها ... عِنْدَ اتِّضاحِ النَّهارِ فَقُلْ لَها حِينَ يَشْدُو ... الْهزارُ بَيْنَ القمارِي بِاللهِ فِي أَيِّ غابٍ ... يَكُونُ مِنْكِ التَّوارِي وقلت: [من الكان وكان] أَيْنَ الْخَفافِيشُ لِما ... تَجْتَنِي الأَحْرارْ غُرَّ الثِّمارِ مِنَ الـ ... أَشْجارِ وَالأَزْهارْ هاتِيكَ لا شَكَّ عَميا ... واتٌ عَنْ إِبْصارْ ضَوْءِ النَّهارِ إِذا ... أَشْرَقَ عَلى الأَقْطارْ
ويُناسب هذا ما ذكره ابن خلكان في ترجمة أبي العباس الخضر ابن عقيل الإربلي الفقيه الشافعي: أنَّ ابن أخيه عز الدين أبا القاسم نصر بن عقيل بن نصر بعد موته تولى تدريسه، وكان فاضلاً، فسخط عليه الملك المعظم صاحب إربل، وأخرجه منها، فانتقل منها إلى الموصل، فكتب إليه أبو الدر ياقوت الرومي من بغداد، وكان صاحبها: [من الطويل] أَيا ابْنَ عَقِيلٍ لا تَخَفْ سَطْوةَ العِدَى ... وَإِنْ أضَمَرَتْ ما أَضْمَرَتْ مِنْ عِنادِها وَأَقْصَتْكَ يَوْماً عَنْ بِلادِكَ فِتْيَةٌ ... رَأَتْ فِيكَ فَضْلاً لَمْ يَكُنْ فِي بِلادِها كَذا عادَةُ الغِرْبانِ تَكْرهُ أنْ تَرى ... بَياضَ البزاةِ الشُّهْبِ بَيْنَ سَوادِها أشار بذلك إلى الجماعة الذين سعوا به حتى غيروا خاطر الملك عليه، وكان ذلك في سنة ست وست مئة؛ قاله ابن باطيش (¬1). قال ابن خلكان: وفي تلك السنة خرجت الكرج على مدينة مرند، فقتلوا وسبوا وأسروا، فعمل شرف الدين محمد ولد عز الدين المذكور في إخراجهم من إربل. ¬
إِنْ يَكُنْ أَخْرَجوا النِّساءَ مِنَ الأَوْطانِ ... ظُلْماً وَأَسْرَفوا فِي التَّعَدِّي فَلَنا أُسْوَةٌ بِمَنْ جارَتِ الكَرْخُ ... عَلَيْهِمْ وَأُخْرِجوا مِنْ مَرَندِ (¬1) وروى الإمام أحمد، والبزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يشرب قائما، فقال: "أَيَسُرُّكَ أَنْ يَشْرَبَ مَعَكَ الهِرُّ؟ ". قال: لا. قال: "فَقَدْ شَرِبَ مَعَكَ [مَنْ هُو شَرٌّ مِنْهُ] الشَّيْطَانُ" (¬2). يُحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك أنَّ الإنسان إذا شرب قائماً شاركه الشيطان حقيقةً في مشروبه، فأشار إلى كراهية الشرب قائماً. ويحتمل أنه أراد المشابهة في الشرب قائماً، وأنَّ من شرب قائماً فقد تشبه بالشيطان في ذلك كما تقدم في موضعه، وهو في ذلك متشبهٌ بالهر وغيره من الحيوانات؛ فإنَّ شأنها أنْ تشرب قائمة. ¬
وحاصل معنى الحديث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نفَّر الإنسان من فعل يُشاركه فيه الشيطان والهر ونحوه، أو يُماثله فيه، ومن شأن الحكماء والعقلاء تنفير النفوس مما يشاركها فيه البهائم والسباع كما سبق. وقال الفرزدق: [من الوافر] رَأَيْتُ النَّاسَ يَزْدادُونَ يَوْماً ... وَيَوْماً فِي الْجَمِيلِ وَأَنْتَ تَنْقُصْ كَمَثَلِ الْهِرِّ فِي صِغرٍ يُغالَى ... بِهِ حَتَّى إِذا ما شَبَّ يَرْخُصْ فيه التحذير من الانتقال من الحال الجميلة التي استصحبها الإنسان في صغره، ثم عدل إلى ضدها في كبره. وفي المعنى ما تقدم في تشبه الكبير بالصغير من قول القائل: [من الطويل] أَطَعْتُ الْهَوى عَكْسَ الْقَضِيَّةِ لَيْتَنِي ... خُلِقْتُ كَبِيراً وَانْقَلَبْتُ إِلَى الصِّغَرْ وكذلك حال من ابتذل جماله في صباه بالهوى، فَخضعَتْ لجماله الرجال، وتعزز عليهم بأنواع الدلال، ثم عاد بعد الالتحاء إلى ذل الهجر واللفظ، والابتذال بالحال واللفظ، وأكثر ما يؤول من أوله جمال منتاب إلى أن يكون آخراً خداماً، أو قواداً، أو ساعياً، أو طفيلياً مدفوعاً بالأبواب، أو منبوذاً، أو ممقوتاً بين الأصحاب.
ومن لطائف الفقيه عمارة اليمني قصيدته التي كتبها إلى الكامل ابن شاور السعدي، وكان بينه وبينه صحبة متأكدة قبل وزارة أبيه، فلما وزر استحال عليه، فكتب إليه: [من الطويل] إِذا لَمْ يُسالِمْكَ الزَّمانُ فَحارِبِ ... وَباعِدْ إِذا لَمْ تَنْتَفِعْ بِالأَقاربِ وَلا تَحْتَقِرْ كَيْداً ضَعِيفاً فَرُبَّما ... تَمُوتُ الأَفاعِي مِنْ حُمامِ العَقارِبِ فَقَدْ هَدَّ قِدْمًا عَرْشَ بَلْقِيسَ هُدْهدٌ ... وَخَرَّبَ فَأْرٌ قَبْلَ ذا سَدَّ مأْرِبِ إِذا كانَ رَأْسُ الْمالِ عُمْرَكَ فْاحْتَرِزْ ... عَلَيْهِ مِنَ الإِنْفاقِ فِي غَيْرِ واجِبِ فَبَيْنَ اخْتِلافِ اللَّيلِ وَالصُّبْحُ مَعْركٌ ... يَكرُّ عَلَيْنا جَيْشُهِ بِالْعَجائِبِ وَما راعَنِي غَدْرُ الشَّبابِ لأَنَّنِي ... أَنِسْتُ بِهذا الْخَلْقِ مِنْ كُلِّ جانبِ وَغَدْرُ الفَتَى فِي عَهْدِهِ وَوفائِهِ ... وَغَدْرُ الْمواضي فِي نبوءِ الْمضارِبِ
إلى أنْ قال فيها: إِذا كانَ هَذا الدُّرُّ مَعْدِنُهُ فَمِي ... فَصونُوهُ عَنْ تَقْبِيلِ راحَةِ واهبِ رَأَيْتُ رِجالاً أَصْبَحَتْ فِي مآدِبٍ ... لَدَيْكُمْ وَحالِي وَحْدها فِي نَوادِبِ تَأَخَّرْتُ لمَّا قَدَّمَتْهُمْ عُلاكُمُ ... عَليَّ وَتَأْبَى الأُسْدُ سَبْقَ الثَّعالِبِ تُرى أَيْنَ كانُوا فِي مَواطِنِي الَّتِي ... غَدَوْتُ لَكُمْ فِيهِنَّ أَكرَمَ نائبِ لَيالِيَ أَتْلُو ذِكْرَكُمْ فِي مَجالِسٍ ... حديثُ الوَرى فِيها بِغَمْزِ الْحواجِبِ (¬1) ومن أبيات الحماسة لقطري بن الفجاءة الخارجي يخاطب نفسه: [من الوافر] أَقُولُ لَها وَقَدْ طارَتْ شَعاعًا ... مِنَ الأَبْطالِ: وَيْحَكِ لا تُراعِي ¬
فَإِنَّكِ لَوْ سَأَلْتِ بَقاءَ يَوْمٍ ... عَلى الأَجَلِ الَّذِي لَكِ لَنْ تُطَاعِي فَصَبْراً فِي مَجالِ الْمَوْتِ صَبْراً ... فَما نَيْلُ الْخُلُودِ بِمُستَطاعِ وَلا ثَوْبُ البَقاءِ بِثَوْبِ عِزٍّ ... فَيَطْوِي عَن أَخِي الْخَنَعِ اليراعِ سَبِيلُ الْمَوْتِ غايةُ كُلِّ حَيٍّ ... وَدَاعِيْهِ لأَهْلِ الأَرْضِ دَاعِي وَمَنْ لا يُعْتَبَطْ يَسْأَمْ وَيَهْرَمْ ... وَتُسْلِمُهُ الْمَنُونُ إِلَى انْقِطاعِ وَما لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَياةٍ ... إِذا ما عُدَّ مِنْ سَقَطِ الْمَتاعِ (¬1) الخنع - بالخاء المعجمة، والنون -: الخضوع. واليراع في الأصل: جمع يراعة، وهو ذباب يطير بالليل كأنه نار، وفي النهار كسائر الذباب، ثم قيل للجبان: يراع، ويراعة؛ لوهنه ¬
وجُبْنه، وإياه عَنى في البيت، ويقال: للأحمق يراعة أيضاً. ويقال في المثل: أخف من يراعة؛ وهي الذباب، أو القصبة. وقد اشتهر تشاؤم الناس جاهلية، وتشاؤم جهلتهم إسلاماً بالبوم، والغراب، والطاووس، وبارح الطير، والوحش. والحقُّ أنه لا طِيرَة، وأنَّ الطِيرَة شرك، وأنَّ مَنْ تطير طير له. وسبق الكلام على ذلك، وعلى الحديث: "الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ، وَالْمَسْكَنِ، وَالدَّابَّةِ". ونقل بعض العارفين معنى غراب البين إلى البعير الذي عليه تنزح الأحباب عن الأحباب، حتى قال بعضهم: ما غرابُ البَيْنِ إلا ناقة أو جمل. ومما فتح الله تعالى به عليَّ، وألقاه توفيقه وإلهامه إليَّ أنْ قلت: [من المجتث] الذَّنْبُ أَشْأَمُ عِنْدِي ... مِنْ شُؤْمِ كُلِّ غُرابِ لا يَذْهَبُ الشُّؤْمَ عَنِّي ... إِلاَّ بِيُمْنِ الْمَتابِ ومن أعجب الأشياء: أنَّ الطاووس مع حُسنه تتشاءم الناس به. قال السيوطي: كأنه لكونه سبباً لدخول إبليس الجنة، وخروج آدم منها، انتهى. فالشؤم ما نقله من حالٍ شريف أو مكانٍ كريم إلى ضده، ولا يكون العبد على حالٍ شريفة ولا مرتبةٍ منيفة إلا حيث كان مُطيعاً لله
تعالى، فلذلك قال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: ما شغلك عن الله من أهل، أو ولدٍ، أو مالٍ فهو عليك شؤم. وقالوا في المثل: أشأم من طاووس، وهو الطير بعينه. وأشأم من طويس، وهو طويس المغني من موالي آل كريز، وهو مولى أروى بنت كريز، وهي أم عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، واسمه عيسى بن عبداه، وقيل: عبد الملك، وكنيته: أبو عبد المنعم، وغَيَّرها المخنثون إلى عبد النعيم (¬1). قال الجوهري: والطاووس طائر، ويصغر على طوس بعد حذف الزيادات. قال: وقولهم: أشأم من طوس، وهو مخنث كان بالمدينة، وقال: يا أهل المدينة! توقعوا خروج الدجال ما دُمْتُ حياً بين أَظْهركم، فإذا مِتُّ فقد أمنتم لأني [ولدت] في الليلة التي مات فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفطمْتُ في اليوم الذي مات فيه أبو بكر - رضي الله عنه -، وبلغت الحلم في اليوم الذي مات فيه عمر رضي الله تعالى عنه، وتزوجت في اليوم الذي قُتل فيه علي رضي الله تعالى عنه. قال: وكان اسمه طاووسا، فلما تخنث جعله طويساً، وتسمى بعبد النعيم، وقال في نفسه: [من مجزوء الرمل] إِنَّنِي عَبْدُ النَّعِيمِ ... أَنا طاووسُ الْجَحِيمِ ¬
وَأَنا أَشْأَمُ مَنْ يَمْـ ... ـشِي عَلى ظَهْرِ الْحطِيمِ (¬1) وذكر صاحب "القاموس": أنَّ طويساً أول من غنَّى في الإسلام. قال: وكان يقول: إنَّ أمي كانت تمشي بالتمائم بين نساء الأنصار، ثم وَلَدَتْني في الليلة التي مات فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفطمتني يوم مات أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وبلغت الحلم يوم مات عمر رضي الله تعالى عنه، وتزوجت يوم قُتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وولِدَ لي في يوم علي رضي الله تعالى عنه، فمَنْ مثلي (¬2). وذكر ابن خلكان نحو ذلك، وأنه ختَن يوم قُتل عمر، وأنه ولد له يوم قُتل علي. وقيل: بل اليوم الذي مات فيه الحسن بن علي - رضي الله عنهما -، ولعله ولد له مولودان في الوقتين. قال ابن خلكان: وكان طويس من المبرِّزين في الغناء المجيدين فيه. قال: وكان مُفرطاً في الطول، مضطرباً في خلقه، أحول العين، أقعس يسكن المدينة، ثم انتقل عنها إلى السويداء، وهي على مرحلتين في طريق الشام، فلم يزل بها حتى توفي سنة اثنتين وتسعين للهجرة، انتهى (¬3). قلت: ولعله من هنا قيل: ما في السويداء رجالٌ. ¬
ولطف ابن الوردي في قوله معتذراً عن مقاطيعه التي عملها في الغلمان: [من السريع] وَاللهِ ما الْمُرْدُ مُرادِي، وَإِنْ ... نَظَمْتُ فِيْهِمْ كَعُقودِ اللآَّلْ ما فِي سُوَيدائيَ إِلاَّ النِّسا ... ما حِيْلَتِي ما فِي السُّوَيْدا رِجالْ (¬1) ومن ألطف ما قيل في ذم الشاعر ما ينسب للإمام الشافعي - رضي الله عنه -: [من الكامل] عِنْدِي يَواقِيتُ القَرِيضِ وَدُرُّهُ ... وَعَلَيَّ إِكْلِيلُ الْكَلامِ وَتاجُهُ تَرْبَى عَلى رَوْضِ الرُّبى أَزْهارُهُ ... وَيرِفُّ فِي نادِي النَّدى دِيْباجُهُ وَالشَّاعِرُ الْمِنْطِيقُ أَسْودُ سالِخٌ ... وَالشِّعْرُ مِنْهُ لُعابُهُ وَمُجاجُهُ وَعَداوةُ الشُّعَراءِ داءٌ معضِلٌ ... وَلَقَدْ يَهُونُ على الكَرِيْمِ عِلاجُهُ (¬2) ومن أمثال العرب: أنكحنا الفرا فسوف يُرى؛ يُضرب في الحذر من سوء العاقبة. وأصله: أنَّ رجلاً خطب إلى رجلٍ ابنته، فأبى أن يزوجها، ورضيَتْ أمها فزوجت منه، فقال الأب: أنكحنا الفرا فسوف يُرى، والفرا العير؛ أي: زوجنا مَنْ لا خير فيه كأنه حمار، فسيعلم كيف ¬
تكون العاقبة. وقيل: يُضرب في طلب الحاجة من رجل عظيم، وانتظار ما يكون منه (¬1). والفرا مهموز، إلا أنه خُفف في المثل. قال في "الصحاح": وقد أبدلوا من الهمزة الفاء فقالوا: أنكحنا الفرا فسترى (¬2). وذكر ابن خلكان في ترجمة أبي القاسم هبة الله بن الفضل، الشاعر المعروف بابن القطان: أنَّ الوزير شرف الدين أبا الحسن علي ابن طراف الزينبي لمَّا ولي الوزارة دخل عليه ابن الفضل المذكور والمجلس محتفل للهنا، فوقف بين يديه، ودعا له، وأظهر السرور والفرح، ورقص، فقال الوزير لبعض مَنْ يُفضي إليه سرَّه: قبح الله هذا الشيخ؛ فإنه يُشير برقصه إلى ما تقول العوام في أمثالها: ارقص للقرد في زمانه؛ وتقدم لنا ذكر المثل (¬3). ولنا فيما ابتُلي به عقلاء الناس من مداراة رذال الناس الذين صاروا رؤساء، ورُدَّت إليهم الأمور، وصاروا هم الصدور: [من مجزوء الخفيف] ¬
عَجَباً مِنْ زَمانِنا ... أَيْنَ مَنْ فِيهِ يَخلُصُ؟ كُلُّ ذِي نُهْبَةٍ بِهِ ... بِاهْتِمامٍ مُخَصَّصُ كَمْ تَراهُ مُدارياً ... وَالْمُدارى منغَّصُ ذُلَّ لِلدَّهْرِ يا لَهُ ... كَيْفَ تَلْقاهُ يمغُصُ فَهْوَ كَالْكَلْبِ كُلَّ يَوْ ... مٍ لِقِرْدٍ يُبَصْبِصُ كُلُّ مَنْ صَفَّرَ الزما ... نُ لَهُ قامَ يَرْقُصُ كُنْ بعيداً عَنِ الوَرى ... فَهْوَ لِلْمَرْءِ أَخْلَصُ ما عَلا غَيرُ مَنْ علا ... دِيْنُهُ الآنَ يحرِصُ فَهْوَ بِاللهِ مفردٌ ... وَهْوَ لِلَّهِ مُخْلِصُ وقيل: مكتوبٌ على عرش بلقيس: [من المتقارب] سَتَأْتِي سنونَ هِيَ الْمُعْضِلاتُ ... يُراعُ مِنَ الْهرعَةِ الأَجْدَلُ وَفِيها يُهِيْنُ الصَّغِيرُ الكَبِيرَ ... وَذُو الْحِلْمِ يُسْكِتُهُ الأَجْهلُ (¬1) الهرعة - بالراء -: القملة. والأجدل: الصقر. وروى ابن عساكر عن علي رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "يَأْتيْ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُوْنُ المُؤْمِنُ فِيْهِ أَذَلَّ مِنْ شَاتِهِ" (¬1). وروى الطبراني عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتيْ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ هُمْ ذِئَابٌ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذِئْبًا أَكَلَتْهُ الذِّئَابُ" (¬2). وقال بعضهم: [من الطويل] عَوى الذِّئْبُ فَاسْتَأْنَسْتُ لِلذِّئْبِ إِذْ عَوى ... وَصَوَّتَ إِنْسانٌ فَكِدْتُ أَطِيْرُ (¬3) وقال آخر: [من الخفيف] لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ الْخَلاصُ مِنَ النَّا ... سِ وَقَدْ أَصْبَحُوا ذِئابَ اعْتِداءِ قُلْتُ لَمَّا بَلاهُمُ صِدْقُ صَبْرِي ... رَضِيَ اللهُ عَنْ أَبِي الدَّرْداءِ (¬4) ¬
لَمَّحَ بما صحَّ عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أنه قال: وجدتُ الناس: اخْبُرْ تَقْلُهُ (¬1). وسيأتي في ذلك مزيد كلام. وروى الديلمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتيْ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُقْتَلُ العُلَمَاءُ كَمَا تُقْتَلُ الكِلاب، فَيَا لَيْتَ العُلَمَاءَ فيْ ذَلِكَ الزَّمَانِ تَحَامَقُوْا" (¬2). وروى ابن السني عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يَأْتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَخْفِيْ المُؤْمِنُ فِيْهِمْ كَمَا يَسْتَخْفِي المُنَافِقُ فِيْكُمُ اليَوْمَ" (¬3). وروى الديلمي عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَأْتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُتَّبَعُ فِيْهِ العَالِمُ، وَلا يُسْتَحْيَى فِيْهِ مِنَ الحَلِيْمِ، وَلا يُوَقَّرُ فِيْهِ الكَبِيْرُ، وَلا يُرْحَمُ فِيْهِ الصَّغِيْرُ، يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَىْ الدُّنْيَا، قُلُوْبُهُمْ قُلُوْبُ الأَعَاجِمِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ العَرَبِ، لا يَعْرِفُوْنَ مَعْرُوْفًا، وَلا يُنْكِرُوْنَ مُنْكَرًا، يَمْشِيْ الصَّالِحُ فِيْهِمْ مُسْتَخْفِيًا؛ أُوْلَئِكَ شِرَارُ خَلْقِ اللهِ، لا يَنْظُرُ اللهِ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامةِ" (¬4). وروى الحافظ أبو عبد الله محمد بن قايماز الذهبي في "الميزان" ¬
بسند واه، عن أنس رضي الله تعالى عنه - موقوفاً عليه - قال: كيف أنتم إذا كان زمَان الأمير فيه كالأسد الأسود، والحاكِم فيهِ كالذِّئب الأَمعطِ، والتَّاجر كالكَلبِ الهرارِ، والمؤْمِن بينهم كالشَّاةِ الوَلهاءِ بينَ الغَنَمَينِ، ليس لها مأوى، فكيف حال شاة بين أسد وذئب وكلب (¬1)؟ وروى ابن أبي الدنيا عن سعيد بن عبد العزيز قال: قيل لأبي أسيد الفزاري: من أين تعيش؟ فحمد الله وكبره وقال: يرزق الله الكلب والخنزير، ولا يرزق أبا أسيد (¬2). قلت: فيه تنبيه على أنَّ الرزق في الدنيا مقسوم فيها لكل حيوان، فلا ينبغي للعاقل أن يهتم به، وهو مضمون لمن يَعْقِل ولمَنْ لا يَعقل. وأجاد أبو تمام في قوله: [من الطويل] فَلَوْ كانَتِ الأَرْزاقُ تَجْرِي عَلى الْحِجَى ... هَلَكْنَ إِذاً مِنْ جَهْلِهِنَّ البَهائِمُ" (¬3) وقال الطغرائي: [من البسيط] قَدْ رَشَّحَوكَ لأَمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَهُ ... فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ أنْ تَرْعى مَعَ الْهَمَلِ (¬4) ¬
قال في "الصحاح": الهمل - بالتحريك -: الإبل بلا راعٍ مثل النفش، إلا أنَ النفش لا يكون إلا لَيلاً، والهمل يكون ليلاً ونهاراً. يقال: إبل همل، وهامل، وهمال، وهوامل، وتَركتها هملاً؛ أي: سُدى إذا أرسلتها ترعى ليلاً ونهاراً بلا راع (¬1). وفي المثل: اختلط الرعي بالهمل، والرعي الذي ليس له راعٍ. وقال: نفشت الإبل والغنم، تنفش، وتنفش نفوشاً؛ أي: دعت ليلاً بلا راع، وهي إبل نفش - بالتحريك - ونفاش، ونوافش (¬2). ويقال: إبل سُدى - بالضم، وقد تُفتح - أي: مهملة (¬3). وفي كتاب الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] . وقال المتنبي: [من البسيط] وَشَرُّ ما قَنَصَتْ راحَتِي قَنَصٌ ... شُهْبُ البزاةِ سواءٌ فِيهِ وَالرَّخَمُ (¬4) وقال أبو العلاء المعري: [من الطويل] ¬
وَهَلْ يَذْخَرُ الضِّرْغامُ قُوتاً لِيَوْمِه ... إِذا ادَّخَرَ النَّمْلُ الطَّعامَ لِعَامِه وقال آخر: [من الوافر] وَلِلزُّنْبورِ وَالبازِيْ جَمِيعاً ... لَدى الطَّيَرانِ أَجْنِحَةٌ وَخَفْقُ وَلَكِنْ بَيْنَ ما يُصْطادُ بازٍ ... وَما يصطادُ الزُّنْبورُ فَرْقُ (¬1) وقال المهذب أبو عبد الله محمد بن أبي الحسن بن يمان الأنصاري المعروف بابن الإردخل نزيل ميَّافارقين: [من الطويل] أَقُولُ وَقَدْ قالُوا: نَراكَ مُقَطِّباً ... إِذا ما ادَّعَى دِينَ الْهَوى غَيْرُ أَهْلِهِ يَحِقُّ لِدُودِ القَزِّ يَقْتُلُ نَفْسَهُ ... إِذا جاءَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ بِمِثْلِهِ (¬2) وفي معناه قول الجمال أبي محمد القاسم بن عمر بن منصور الواسطي نَزِيْلِ حلب: [من مجزوء الرمل] ¬
حُقَّ دُوْدُ القَزَّ يَبْنِي ... فَوْقَهُ ثُمَّ يَمُوتُ بَعْدما سَدّى وَقَدْ ... صارَ يُسْدِي الْعَنْكَبُوتُ (¬1) وقال آخر: [من الوافر] إِذا شُورِكْتَ فِي أَمْرٍ بِدُونٍ ... فَلا يَلْحَقْكَ عارٌ أَوْ نُفورُ فَفِي الْحَيَوانِ يَشْتَرِكُ اضْطِراراً ... أَرسطالِيسُ وَالكَلْبُ العَقُورُ (¬2) وقال المظفر بن علي: [من مجزوء الكامل المرفل] لا عارَ أَنْ أَعْرى وَغَيْـ ... ـرِي فِي ثِيابِ الوَشْيِ رافِلْ إِنَّ الْحَمائِمَ ذاتُ أَطْـ ... ـواقٍ وَجِيْدُ البازِ عاطِلْ وقال الباخرزي: [من الكامل] ¬
لا تُنْكِرِي يا عَزُّ إِنْ ذُلَّ الفَتَى ... ذُو الأَصْلِ وَاسْتَعْلَى لَئِيمُ الْمَحْتِدِ إِنَّ البُزاةَ رُؤُوسُهُنَّ عَواطِلٌ ... وَالتَّاجُ مَعْقُودٌ بِرَأْسِ الْهُدْهُدِ (¬1) وفي المعنى: [من المنسرح] لا تَنْأَ عَنِّي أَنْ تَرَى خَلَقِي ... فَإِنَّما الدُّرُّ داخِلَ الصَّدَفِ (¬2) وقال جرير: [من البسيط] وَابْنُ اللَّبُونِ إِذا ما لُزَّ فِي قَرَنٍ ... لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَة البُزْلِ القناعِيسِ وهو في معنى المثل: قمقامة حكت بجلد البازل؛ يُضرب للضعيف الذليل يحتك بالقوي العزيز؛ قاله الدميري، والسيوطي (¬3). وحُكِي أن سفيان بن عُيينة قال في مسألةٍ قال فيها بشيء، فقيل ¬
له: إنَّ مالكاً قال فيها بخلاف قولك، فقال: ما مثلي ومثل مالك إلا كما قال الأول، وأنشد بيت جريرٍ المذكور (¬1). وأخبرت بأنَّ الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل المعروف بابن الوين، وبابن عماد الدين، وكان له صَوْلة، قال لرجلٍ دُوْنه خاصمه في شيء: فُرَيْرِيجٌ تقاوم البازات. وقال أبو المظفر بن السمعاني: أنشدنا والدي قال: أنشد سعيد ابن المبارك النحوي لنفسه: [من الطويل] أَرى الفَضْلَ ساعٍ فِي تَأَخُّرِ أَهْلِهِ ... وَجَهْلُ الفَتَى يَسْعَى لَهُ فِي التَّقَدُّمِ كَذاكَ أَرى الْخفَّاشَ يُنْجِيْهِ عَيُّهُ ... وَيَحْتَبِسُ القُمْرِيَّ طيبُ التَّرنُّمِ (¬2) وقال القاضي ناصح الدين الأرجاني: [من الكامل] لَوْ كُنْتُ أَجْهَلُ ما عَلِمْتُ لَسَرَّنِي ... جَهْلِي كَما قَدْ سَاءَنِي ما أَعْلمُ ¬
كَالصَّعْوِ (¬1) يَرْتَعُ فِي الرِّياضِ وَإِنَّما ... حُبِسَ الْهَزَارُ لأَنَّهُ يَتَرَنَّمُ (¬2) وأقول كالمخالف له: [من الكامل] لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ ما جَهِلْتُ لَسَرَّنِي ... عِلْمِي وَلَيْسَ يَسُوؤُنِي ما أَعْلَمُ كَالبازِ تَرْفَعُهُ الْمُلُوكُ لِعِلْمِهِ ... وَالصَّعو فِي الْحرجاتِ ضاوٍ مُحَجَّمُ وقال الشاعر: [من البسيط] لَيْسَ الْمُقَامُ بِدَارِ الذُّلِّ مِنْ شِيَمِي ... وَلا مُعَاشَرَةُ الأَنْذالِ مِنْ هَمِمي وَلا مُعاشَرةُ الأَنْذالِ تَجْمُلُ بِي ... كَذَلِكَ البازُ لا يَأْوِي مَعَ الرَّخَمِ (¬3) ولبعض الشعراء في الحجاج بن يوسف، وقد كان الحجاج هرب في بعض الوقائع مع شبيب من غزالة امرأة شبيب، وكانت تُقاتل في ¬
الحروب بنفسها: [من الكامل] أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعامَةٌ ... فَتخا تُرَفْرِفُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافرِ هَلاَّ بَرَزْتَ إِلَى غَزالةَ فِي الوَغا ... بَلْ كانَ قَلْبُكَ فِي جَناحَيْ طائِرِ (¬1) وقال عمران بن عصام العَنَزي لعبد الملك بن مروان يعني: الحجاج بن يوسف: [من الكامل] وَبَعَثْتَ مِنْ وَلَدِ الأَغَرِّ معتبٍ ... صَقْراً يَلُوذُ حمَامُهُ بالعَوْسَجِ فَإِذا طَبَخْتُ بنارِهِ أَنْضَجْتُهُ ... وَإِذا طُبِخَتْ بِغَيْرِها لم تَنْضجِ (¬2) يُشير إلى المثل السَّائر: صقرٌ يَلُوذ حمامُهُ بالعوسج؛ قال القمي: يُضرب للرجل الذي تهابه الناس (¬3). ¬
وقال الحارث بن حِلِّزة: [من الكامل] وَمُدامَةٍ قَرَّعْتُها بِمُدامةٍ ... وَظِباءِ محنيةٍ ذَعَرتْ بِسَمحجِ وَكَأَنَّهُنَّ لآلِئُ وَكَأَنَّهُ ... صَقْرٌ يَلُوذُ حمامُهُ بِالعَوْسَجِ صَقْرٌ يَصِيدُ بِظُفْرِهِ وَجَناحِهِ ... فَإِذا أَصابَ حَمامَةً لَمْ تدرُجِ (¬1) والعوسج: شجر له شوك، وإنما قيل في المثل: يَلُوذ حمامه بالعوسج؛ لأنه مُتداخل الأغصان، فالطير يلُوذ به من الجوارح. ولطف ابن قلاقس في قوله من قصيدة يمدح فيها القاضي الفاضل عبد الرحيم: [من السريع] وَعاذِلٍ دَامَ دوامَ الدُّجَى ... بَهِيمَةً نادَمْتُها فِي بَهِيمْ يَغِيظُنِي وَهْوَ عَلى رِسْلِهِ ... وَالْمَرْءُ فِي غَيْظِ سِواهُ حَلِيمْ قُلْتُ لَهُ لَمَّا عدا طَورَهُ ... وَالقَلْبُ مِنْهُ فِي العَذابِ الأَلِيمْ اعْذُرْ فُؤادِي إِنَّهُ شاعِرٌ ... مِنْ حُبِّهِ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمْ (¬2) ودخل صقلية فاتصل بأبي القاسم بن الحجر، فأحسن إليه، فلما فارق صقلية راجعاً إلى الديار المصرية - وكان في زمن الشتاء - ردته الريح إلى صقلية، فكتب إلى أبي القاسم المذكور: [من مجزوء الكامل المرفّل] ¬
مَنَعَ الشِّتاءُ مِنَ الوصُو ... لِ مَعَ الرَّسُولِ إِلَى دِيارِي فَأَعادَنِي وَعَلى اخْتِيا ... رِي العَودُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيارِي وَلَرُبَّما وَقَعَ الْحِما ... رُ فَكانَ مِنْ غَرَضِ الْمُكارِي (¬1) ولطف الشهاب فتيان بن علي بن فتيان، الشاعر المعروف بالشاغوري في قوله وقد دخل حمَّاماً شديد الحرارة، وكان قد شاخ وكبر؛ كما أورده والذي قبله ابن خلكان: [من المتقارب] أَرَى ماءَ حَمَّامِكُمْ كَالْحَمِيمِ ... نُكابِدُ مِنْهُ عَناءً وَبُوْساً وَعَهْدِي بِكُمْ تَسمطونَ الْجِدَى ... فَما بالُكُمْ تَسْمُطونَ التُّيوسا (¬2) ومن أمثال العوام: كم كبش في المرعى! وكم جدي في المسمط! يُضرب في أنَّ الموت بالأجل يلحق الصغار والكبار، وربما كان منه في الصغار أكثر منه في الكبار. وذكر الغزالي في "الإحياء": أنَّ سفيان الثوري رحمه الله تعالى كان إذا شبع أحيا تلك الليلة، وكان يقول: [من مجزوء الرمل] أَشْبَعَ الزُّنْجِيَّ وكرُهْ ... إِنَّما الزُّنْجِيْ حِمارُ (¬3) وروى أبو نعيم عن جبير بن نفير رحمه الله تعالى: أنَّ نفراً قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما رأينا رجلاً أقْضى بالقسط، ¬
ولا أَقْول بالحق، ولا أشدَّ على المنافقين منك؟ فأنت خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال عوف عن مالك رضي الله تعالى عنه: كذبتم والله، لقد رأينا خيراً منه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالوا: مَنْ هو؟ فقال: أبو بكر رضي الله تعالى عنه. فقال عمر: صدق عوف؛ والله لقد كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه أطيب من ريح المسك، وأنا أضلُّ من بعير أهلي (¬1). وجملة: (وأنا أضل من بعير أهلي) - في كلامه - حالية. أي: إنه كان أضل من بعير أهله في الحال الذي كان فيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه أطيب من ريح المسك؛ فإنه كان في جاهلية بُرْهة من الزمان، وأبو بكر في إسلام وتصديق. ونظير ذلك ما رواه الإمام أحمد، وغيرهُ: أنَّ الطاعون وقع بالشام، فقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: إنه رجس فتفرقوا عنه. فقال شرحبيل بن حسنة رضي الله تعالى عنه: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعمرو أضلُّ من بعير أهله، وإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّهَا رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نبِيّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِيْنَ قَبْلَكُمْ". ¬
فبلغ ذلك عمرو بن العاص، فقال: صدق. وفي رواية: فبلغ ذلك شرحبيل فغضب، فقال وهو يجرُّ ثوبه معلق نعله بيده، فقال: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمرو أضل من حمار أهله (¬1). فأشار إلى أن حال الجاهلية كحال البعير والحمار في الجهل، بل هي أبلغ. وروى الخطابي في "العزلة" عن العتبي قال: كنا عند سفيان بن عيينة، فَتَلاَ هذه الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38]، فقال: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم، فمنهم مَنْ يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدُو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نبُاح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو أُلقيَ إليها الطعام الطيب عافَتْه، فاذا قام الرجل عن رجيعه وَلَغَتْ فيه. ولذلك تجد من الآدميين مَنْ لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ الرجل عن نفسه، أو حكى خطأً عن غيره تروَّاه وحفظه. قال الخطابي: ما أحسن ما تأول أبو محمد - يعني: سفيان بن ¬
عيينة - هذه الآية، واستنبط منها هذه الحكمة، وذلك أنَّ الكلام إذا لم يكن كله مطاوعاً لظاهره وجب المصير إلى باطنه، وقد أخبر الله تعالى عن وجود المماثلة بيننا وبين كل دابة وطائر، وكان ذلك ممتنعاً من جهة الخلقة والصورة، وعدماً من جهة النطق والمعرفة، فوجب أن يكون منصرفاً إلى المماثلة في الطباع والأخلاق. قال: وإذا كان الأمر كذلك، فاعلم يا أخي أنك إنما تُعاشر البهائم والسباع، وليَكُن حذرُكَ منهم ومُباعدتك إياهم على حسب ذلك (¬1). وروى أبو نعيم عن سهل بن عبد الله التستَري رحمه الله تعالى قال: خلق الله تعالى الإنسان على أربع طبائع: طبع البهائم، وطبع الشياطين، وطبع السَّحرة، وطبع الأبالسة. فمن طبع البهائم: البطن والفرج؛ قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر: 3]. ومن طبع الشياطين: اللهو واللعب، والزينة، والتكاثر؛ قوله تعالى: {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20]. ومن طبع السَّحرة: المكر والخديعة؛ {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ} [الأنفال: 30]. {إِيُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]. ¬
ومن طبع الأبالسة: الإباء والاستكبار؛ {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34]. قال: واستعبد الله العباد بأكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يسلموا من طبع البهائم. واستعبدهم بالتسبيح، والتقديس، والتمجيد، والشكر حتى يَسْلَمُوا من طبع الشياطين. يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]. وقوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]. ومن طبع السَّحرة استعبدهم بالاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والنصيحة، والرحمة، والصدق، والإنصاف، والتفضيل، والاستعانة بالله تعالى، والصبر على ذلك إلى الممات. ومن طبع الأبالسة استعبدهم الله تعالى بالدعاء، والصُراخ، والالتجاء، والتضرع؛ {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]، انتهى (¬1). فقد أشار سهل رحمه الله تعالى إلى أن الله - عز وجل - ابتلى الناس بهذه الأخلاق، ثم استعبدهم بالانسلاخ عنها والتلبس بما هو يُناقضها من الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أكل الحلال، وأداء الفرائض، والذكر، والشكر، والنصيحة، والرحمة، والإنصاف، والإفضال، والدعاء، والتضرع إلى الله تعالى حتى تتبدل أرضُ إنسانيةِ أوليائه غير أرض ¬
الحيوانية والسماوات؛ {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]. وعند ذلك يُقال لهم: أبدال. وقد أشار إلى هذا المعنى أبو طالب المكي في "القوت"؛ فإنه ذكر أنَّ النفس مُبتلاة بأوصاف الربوبية كالكبر، والجبروت، وحب المدح، والغنى، والعز، وأخلاق الشياطين كالخداع، والحيلة، والحسد، والضِنة؛ يعني: البخل، وطبائع البهائم، وهي حب الأكل والشرب، والنكاح، وهي مع ذلك مطالبة بأوصاف العبودية كالخوف، والتواضع، والذلة. ثم قال رحمه الله تعالى: ولا يكون المرء بدلاً حتى يتبدل بمعاني صفات الربوبية وصفات العبودية، وبأخلاق الشياطين صفات المؤمنين، وبطبائع البهائم أوصاف الروحانيين من الأذكار والعلوم، فعندها كان مقرباً، انتهى (¬1). وقال الشيخ علوان الحموي في "شرح تائية ابن حبيب" عند قوله: [من البسيط] إِيَّاكَ نَفْسَكَ احْذَرْ إِن لَدْغَتَها ... فَوقَ السَّعِيرِ وَأَنْواعِ السُّمُوماتِ رَوَّاغةٌ سِحْرُها أَسْرى وَأَعْظمُ مِنْ ... هاروتَ ماروتَ أَقْوى فِي الرَّزِّياتِ ¬
قال: وهذا الروغان مما أودع فيها - يعني: النفس - من أخلاق الوحوش؛ فإنها مستمدة من أخلاق البهائم، والحيوانات، والوحوش، والحشرات، فبجهلها تشبه الثور، وبالشَّره تشبه الخنزير، وبالحرص النمل، وبالوقوع على النجاسة الذباب، وبالتَّهافُتِ على الشهوات الفراش، وبالضراوة والحسد الكلب، وبالتمزيق للأموال الذئب، وبالرئاسة السَّبع، وبالخبث الذئب، وبالروغان الثعلب، وبالجبن الضبع، وبالسرقة والاختلاس الفأر والجرذان، وبالنميمة القرد، وبالكبر النمر، وبالحقد الجمل، وبكثرة السؤال الهر، وبالبلادة الحمار، وبالجماح الخيل الشموسية، وباللدغ العقرب، وبعظم الأذية مع حسن الصورة الحية، وبالمكر والخديعة الشيطان، انتهى. قلت: ولما كانت النفس منطوية على هذه الأخلاق الخبيثة، يتعاقب عليها خلق بعد خلق، ويعتورها طبع بعد طبع مع غلبتها، لم يَسَعِ العاقل أن يغفل عن رياضة نفسه وسياستها. ومن ثمَّ قال علي رضي الله تعالى عنه: ما أنا ونفسي إلا كراعي غنمٍ؛ كما ضممتها من جانبٍ نفشَتْ من جانب. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]: لا تغفلوا عن أنفسكم لأنَّ مَنْ غفل عن نفسه فقد قتلها (¬1). ¬
وقال البوصيري: [من البسيط] وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلى ... حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ مَنْ لِي بِرَدٍّ جماحٍ مِنْ غَوايَتِها ... كَما يُرَدُّ جماحُ الْخَيْلِ بِاللُّجُمِ وروى الخطابي في "غريب الحديث" عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: انتهى عجبي عند ثَلاث: المرء يفرُّ من الموت وهو لاقيه، والمرء يرى في عين أخيه القذى فيُعيْبهُ، ويكون في عينه الجذع فلا يُعيبه، والمرء يكون في دابته الضغن فيقومها جهده، ويكون في نفسه الضغن فلا يقوم نفسه. قال الخطابي: الضغن في الدابة: أن تكون عسرةَ الانقياد (¬1). قال في "الصحاح": فرسٌ ضاغن: لا يُعطي ما عنده من الجَرِي إلا بالضرب. وقال: وقناة ضَغنة؛ أي: عوجاء (¬2). قلت: والسبب في ذلك أمران: الأول: حُسن ظن الإنسان بنفسه، وإعجابه بها، ورضاه عنها، وهذا لا يُظهر عيبها. ¬
[من الطويل] وَعَيْنُ الرِّضا عَنْ كُلِّ عَيبٍ كَلِيلَةٌ ... وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبدي الْمَسَاوِيا وسُئِلَ ذو النون رحمه الله تعالى عن كمال معرفة النفس؛ قال: كمال سوء الظن بها. الأمر الثاني: أنَّ النفس لا يكون فيها عيب إلا وهو متسبب عن هواها، أو داعٍ إليه كالصَّوْلة والظلم؛ فإنهما متسببان عن الرئاسة والقوة، وهما من هوى النفس، وكالروغان والحيلة؛ فإنهما يوصلان إلى غرض النفس. ومهما كان الهوى في شيء لم تتصور النفس أن يكون ذلك الشيء عيباً أصلاً. وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حُبُّكَ لِلشَّيءِ يُعْمِي وَيَصُمُّ" (¬1). ورُوِيَ من حديث أبي برزة، وعبد الله بن أنيس أيضاً رضي الله تعالى عنهما. ولأجل ذلك كان خلاف الهوى صواباً مطلقاً، وآفة العقل الهوى، فمَنْ علا على هواه عفته فقد نجا. ¬
قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41]. وقد وقع الذم في القرآن العظيم على اتباع الهوى كثيراً. وروى الشيخ نصر المقدسي في "الحجة" عن [عبد الله بن عمرو ابن العاص - رضي الله عنهما -] (¬1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُوْنَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ" (¬2). وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن مزيدة بن قضيب الرهاوي قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذ جاء قومٌ فقالوا: إنَّ لنا إماماً يُصلي بنا العصر، فإذا صلَّى صلاته تغنَّى بأبيات. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: قوموا بنا إليه، فاستخرجه عمر من منزله، فقال له: إنه بلغني أنك تقول أبياتاً إذا قضيْتَ صلاتك، فأنشدنيها؛ فإنْ كانت حسنة قُلْتُها معك، وإنْ كانت قبيحة نَهْيْتُكَ عنها، فقال - الرجل: [من الرمل] وَفُؤادِي كُلَّما نبَّهْتُهُ ... عادَ فِي اللَّذَّاتِ يَبْغِي تَعَبِي لا أُراهُ الدَّهْرَ إِلَّا لاهياً ... فِي تَمَادِيْهِ فَقَدْ برَّحَ بِي يا قَرِينَ السُّوءِ ما هَذا الصِّبا ... فَنِيَ الْعُمْرُ كَذا باللَّعِبِ وَشَبابٌ بَانَ مِنِّي فَمَضى ... قَبْلَ أنْ أَقْضِيَ مِنْهُ أَرَبِي ¬
ما أُرَجِّي بَعْدَهُ إِلاَّ الفَنا ... ضَيَّقَ الشَّيْبُ عَلَيَّ مَطْلَبِي نَفْسي لا كُنْتِ وَلا كانَ الْهَوى ... اتَّقِ اللهَ وَخافِي وَارْهَبِي فقال عمر رضي الله تعالى عنه: نعم: نفسي لا كنتِ ولا كان الهوى، وهو يبكي، ويقول: اتق الله وخافي وارْهبي. ثم قال عمر رضي الله تعالى عنه: مَنْ كان مُغَنياً فَلْيُغَنِّ هكذا (¬1). قلت: وهذا الأثر ناطق باستحسان عمر رضي الله تعالى عنه لما كان من الشعر في الزهد، والرياضة، والحث على التقوى. وقد تقدم بيان ذلك في التشبه بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبسطنا القول عليه في "منبر التوحيد" أيضاً. وقلت في معنى هذه الجملة التي نقلتها: [من مخلَّع البسيط] حُبُّكَ لِلشَّيْءِ عَنْكَ يُعْمِي ... ما كانَ فِيهِ مِنْ كُلِّ مُؤْلِمْ تُعْجِبُكَ النَّفْسُ، ثُمَّ تَرْضَى ... عَنْها، وَعَنْ عَيْبِها تَلَعْثمْ تُقَوِّمُ الضغنَ مِنْ حِمارٍ ... تَرْكَبُهُ ما عَسَى تقَوِّمْ وَلَمْ تُقَوِّمْ مِنْ نَفْسِكَ الضغـ ... ـــــــــنَ وَهِيَ أَوْلَى بِأَن تُعَلِّمْ وَتَزْجُرُ العَبْدَ حِينَ يُخْطِيْ ... لَمْ تَرْضَ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ يُسْلِم وَأَنْتَ تَعْصِي الإِلهَ جَهْراً ... وَلَمْ تَتُبْ، لا وَلَمْ تُسَلِّمْ حَتَّى مَتَى يا أَرِيبُ تُقْدِمْ ... عَلى الْمَعاصِي وَلَسْتَ تُحْجِمْ ¬
تُنْجِدُ طوراً لِغَيْرِ شَيْءٍ ... وَتارَةً يا أَرِيبُ تُتْهِمْ إِنَّ الثوى فِي الْمدى قَلِيلٌ ... فارْقُدْ لأُخْراكَ ثُم قَدِّمْ لِلَّهِ كَمْ بَيْنَ ذا ثَراءٍ ... وَذاكَ مِنْ طاعَةٍ وَمُعْدِمْ فابْنِ ديارَ الرِّضى وَأَحْكِمْ ... وَلَو لِدَارِ البَوَارِ تَهْدِمْ وَاسْلُكْ طَرِيقَ السَّدادِ قَصْداً ... إِنَّ طَرِيقَ السَّدادِ قَيِّمْ وَاسْأَلْ مِنَ اللهِ فَهْوَ يُلْهِمْ ... مَنْ شاءَ طاعاتِهِ وينْعِمْ يا رَبِّ خُذ بِي عَنِ الْهَوى إِنَّ ... الْهَوى مُوْبِقٌ وَمُقْحِمْ كَمِ اسْتَزَلَّ الْهَوى أُناساً ... يا سَلِّمْ، يا رَبِّ سَلِّمْ * تَنْبِيهٌ: روى ابن جرير عن سعيد بن أبي هلال: أنَّ عبد الله بن علي حدَّثه: أنَّ ناساً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جَلَسُوا يوماً ورجل من اليهود قريبٌ منهم، فجعل بعضهم يقول: إني لآتي اِمرأتي وهي مضجعة، ويقول آخر: إني لآتيها وهي قائمة، ويقول الآخر: إني لآتيها وهي باركة. فقال اليهودي: ما أنتم إلا أمثال البهائم، إنا نأتيها على هيئةٍ واحدة. فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] (¬1). ¬
وهذا غلطٌ محضٌ من هذا اليهودي في التشبيه، بل كذبٌ بهْتٌ منه، وإنما يُشبه البهائم في لزومهم هيئة واحدة في الجماع؛ فإنَّ البهائم تلزم طريقة واحدة في السفاد، ولا يستطيع التصرف في إتيان الأنثى على هيئات مختلفة إلا ابن آدم، وهو من جملة ما كرَّمه الله تعالى به، وفضله به على سائر البهائم؛ فافهم! وإياك أن يشتبه عليك التشبه في محمود أو مذموم كما اختلف على هذا اليهودي المذكور.
فَصلٌ لا يخفى عليك أنَّ الإنسان حيث هو مُبتلى بالصفات الربوبية، والأخلاق الشيطانية، والطبائع البهيمية والسَّبعية، وهي كثيرة الشعب والأنواع، فقد قلَّ أن يكون إنسانٌ سالماً من شيء منها؛ فإنه إنْ سَلِمَ من البخل لم يَسْلم من الطمع مثلاً، وإنْ سَلِمَ من الحسد لم يَسْلم من محبة النفس وتزكيتها، وإنْ سَلِمَ من الصَّولة والجرأة لم يَسْلم من الخديعة والحيلة، وهكذا. وكل واحدٍ من هذه الأخلاق والطبائع لا يخلو أن يكون الهوى متسبباً عنه، أو داعياً إليه، والشيطان آمراً به. وقلَّ أن يخلو من خليلٍ أو قريبٍ يسأله فيه، أو يحضه عليه، ويُساعده فيه. وقلَّ أن يكون له مَنْ يدعوه منه إلى ضده من أخلاق البر والتقوى. فبقي العقل منفرداً وحده في دعائه إلى البر والتقوى، فإن يسر الله تعالى له مَنْ هو في جانب العقل من أخلاء الصدق ورفقاء الرفق
- وقليلٌ ما هم - وإلا كان العقل وحده. فإن ساعدته العناية، وأَدْركه التوفيق نَجَا بصاحبه، وإن غلب عليه الهوى وجنوده، وأُغمضَتْ عنه عين العناية والتوفيق هلك مع صاحبه. فمن ثمَّ كان الكُمَّل في الأخلاق الجيدة من أهل العلم والدين من أقل الناس في كل زمان، وكان أهل الجهل والفسق والشَّره والانحلال عن الدين، الملحقون بالبهائم والسباع والهوام والشياطين والأبالسة أكثرَ الناس في كل وقت. قال الله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]. وقال الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. وقال تعالى لبني اسرائيل: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83]. وقال: حكايةً عن داود عليه السلام: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] إلى غير ذلك. ثم إنَّ الزمان الذي بُعثَ فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تُوفي - صلى الله عليه وسلم - لا شكَّ أنه كان أَصْلح الأزمنة، وأَلْيقها بظهور الكمالات وكثرة الظاهرين بها، حيث كان - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيهم، فكان يفيض عليهم من علوم السنة، ويطبع في مرآتهم آثار المعارف وأنوار أخلاقه الزكية شيئاً فشيئاً، حتى ظهر سلطان الدين، وبَهَرَ برهان الحق، فكان كمال الدين وتمام النعمة حين كان في حجة الوداع، ونزلت عليه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]. ثم كان زمان الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين أقرب الأزمنة إلى صلاحية ظهور الناس بالكمالات، ثم زمان التابعين كما أشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ القُرُوْنِ القَرْنُ الَّذِيْ بُعِثْتُ فِيْهِ، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنهمْ، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنهمْ" (¬1). ثم ظهرت أوائل البِدع والإحداثات في الدين، فكان كل زمان تنقص فيه السنن والكمالات عن الزمان الذي كان قبله، وتزيد فيه البدع والحوادث على الزمان قبله، وهَلُمَّ جراً، وكان أهل الخير والديانة في كل زمانٍ إذا نظروا إلى مَنْ مضى من أكابر سلفهم من أهل السنة والكمال، ومن خَلَفَ فيهم من الأحداث الذين نشؤوا في البدعة والاختلال، وظنوا أنهم على شيء، استوحشوا لفراق من فارقوا، ولم يستأنسوا بمَنْ لَقُوا، فبكوا على الزمان الغابر، وبَكُوا من الزمان العابر، وأَسِفُوا على السلف، واتقوا من الخلف، لم يُعجبهم شأنهم، ولم ترج عليهم سوقهم، فأطلقوا الذمَّ عليهم جميعاً ولو كان فيهم أفراد محمودون لأنهم قليلون جداً. روى الإمام أحمد عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال: ذَهَبَت المعارف، وبقيت المناكر، ومَن بقي من المسلمين فهو مغموم (¬2). ¬
وروى أبو نعيم عنه قال: والله لقد أدركْتُ سبعين بدريًّا، أكثر لباسهم الصوف، لو رأيتموهم قُلْتُم: مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء من خَلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: لا يؤمن هؤلاء بيوم الحساب (¬1). وهذا موافقٌ لما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى الخطابي في "العزلة" عن مستورد الفهري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَذْهَبُ الصَّالِحُوْنَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَتَبْقَىْ حُثَالةٌ كَحُثَالَةِ الشَّعِيْرِ، لا يُبَالي اللهُ بِهِمْ" (¬2). ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُوْشِكُ أَنْ يَأْتي عَلَى النَّاسِ زَمَان يُغَرْبَلُ فِيْهِ النَّاسُ غَرْبَلَةً، وَتَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مُزِجَتْ عُهُوْدُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفُوْا وَكَانُوْا هَكَذَا - وشبك بين أصابعه -". قالوا: كيف بنا يا رسول الله؟ قال: "تَأْخُذُوْنَ مَا تَعْرِفُوْنَ، وَتَدَعُوْنَ مَا تُنْكِرُوْنَ، وَتُقْبِلُوْنَ عَلَىْ أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ، وَتَذَرُوْنَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ" (¬3). ¬
قال الخطابي: حُثالة الشعير - أي: ونحوه -: رذالته، وما لا خير فيه منه (¬1). وصحح الحاكم عن رويفع بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: قُرِّبَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - تمرٌ أو رُطَبٌ، فأكلوا منه حتى لم يبقَ إلا نواه وما لا خير فيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَدْرُوْنَ مَا هَذَا؟ تَذْهَبُوْنَ الخَيِّرُ فَالخَيِّرُ حَتَّى لا يَبْقَىْ مِنْكُمْ إِلاَّ مِثْلُ هَذَا" (¬2). وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يَأْتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ إِلاَّ وَالَّذِيْ بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ" (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: أمسٌ خيرٌ من اليوم، واليوم خيرٌ من غد، وغد خيرٌ من بعد الغد، وكذلك إلى يوم القيامة (¬4). وروى ابن حبان في "الثقات" عن الحسن أنه قال: مَنْ رأى محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقد رآه غادياً رائحاً لم يضع لبنةً على لبنة، ولا قصبة على قصبة، رفع له عَلَم فشمَّر إليه، الوَحاءَ الوَحَاءَ، ثم النجاة النجاة على ما تعرجون، وقد أسرع بخياركم، وذهب نبيكم وأنتم في كل عامٍ ¬
ترذلون العيان العيان (¬1). وروى ابن أبي شيبة، والخطابي في "العزلة" عن هشام بن عروة، عن أبيه رحمة الله عليهما، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت تتمثل بهذين البيتين؛ يعني: من شعر لبيد - رضي الله تعالى عنها -: [من الكامل] ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنافِهِمْ ... وَبَقِيْتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ يَتَحَدَّثُون مجانةً وَمُلاذةً ... وَيُعابُ قائِلُهمْ وَإِنْ لَمْ يَشْغبِ (¬2) ووقع لنا هذا الخبر من طريقٍ مُسلسلاً، قالت عائشة فيه: يرحمُ الله لبيداً حيث يقول: ذَهَبَ الَّذِينَ يُعاشُ فِي أَكْنافِهِمْ ... وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَقارِ الأَجْرَبِ فكيف لو أدركت زماننا هذا؟ قال: عروة: يرحم الله عائشة! فكيفَ لو أدركت زماننا (¬3). ¬
ثم هذا تسلسل، وقد وصلنا مسلسلاً في غير هذا الكتاب. وقلت: [من الرمل] قُلْ لِمَنْ ذَمَّ زَماناً سَلَفا ... كانَ خَيْراً مِنْ سِواهُ سَلَفَا كَيْفَ لَوْ تُدْرِكُ ما عَنَّ بِنا ... مِنْ زَمانٍ هُوَ شَرٌّ خَلَفَا كَلَّ فِيهِ الفِكْرُ مِمَّا قَدْ يَرى ... وَاسْتَذَلَّ الأَقْوِياءُ الضُّعَفا لا كَبِيْرٌ بِوَقارٍ ظافِراً ... لا صَغِيْرٌ حاطَهُ مَنْ رَأَفا رَأَسَ السُّقَّاطُ فِيهِ وَانْزَوى ... كُلُّ ذِي مَجْدٍ يَؤُمُّ السُّجَفا راجَ فِيهِ ما جِنٌ أَوْ فاسِقٌ ... عُدَّ بَيْنَ النَّاسِ مِمَّنْ ظَرُفا لِعَظِيمَينِ مُلِئْنا حَزَناً ... وِلَهَذَيْنِ انتُهَينا دَلَفا بَيْنَما نبكِي زَماناً سَلَفا ... إِذْ بِنا نَبْكِي زَماناً خَلَفَا فَعَسى نَمْضِي بِأَجْرَي ثَكِلٍ ... وَاغْتِمامٍ لا نَخافُ التَّلَفَا وحيث ذكرنا في هذا الفصل أنه أكثر في كلام السَّلف تمثيل الناس بالبهائم والسباع على الأخلاق، إشارةً إلى أنَّ الصالحين والأخيار كأنهم مُستثنون منهم، فلا يدخلون في إطلاقهم إذا ذموا لقلتهم فيهم وغُربتهم بينهم، فينبغي أن نذكر جملة: - فمن ذلك: ما رواه أبو نعيم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ذهب الناس وبقي النسناس. قيل: وما النسناس؟
قال: الذين يُشبهون الناس، وليسوا الناس (¬1). ورواه الخطابي في "العزلة" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬2). وممن ذَكره عن أبي هريرة الزمخشري في "الفائق"، والهروي في "الغريب"، وابن الأثير في "النهاية" (¬3). وروى الدينوري في "المجالسة" عن الحسن رحمه الله تعالى: أنه قال: ذهب الناس، وبقي النسناس، ولو تكاشفتم ما تدافنتم (¬4). والنَسناس - بفتح النون، وقد تُكسر -: جنسٌ من الخَلْق على سورة الإنسان، يَثِبُ على رِجْلٍ واحدة. وقيل: له عين واحدة، ويد واحدة، ورجل واحدة؛ حكاه الدينوري في "المجالسة" عن أبي إسحاق (¬5). وقيل: هو على سورة نصف إنسان. وقيل: إنها في طباع البهائم تشبه الإِنسان صورة، وتتكلم، إلا أنها تفرس الكلاب أن تأخذها. ¬
ونقل الدميري، والسيوطي عن "تاريخ صنعاء": أنَّ تاجراً سافر إلى بلادهم، فرآهم يَثبُون على رِجْلٍ واحدة، وسمع واحداً منهم يقول: [من الرجز] فَرَرْتُ مِنْ خَوفِ الشّراة شَدَّا ... إِذْ لَمْ أَجِدْ مِنَ الفِرارِ بُدَّا قَدْ كُنْتُ قِدْماً فِي زَمانِي جَلْدَا ... فَها أَنا اليَومَ ضَعِيفٌ جِدَّا (¬1) وقيل: هو جنسٌ من القردة. وقيل: كانت حيًّا من عادٍ فَمُسخوا. وقال الشاعر في معنى الأثر: [من الخفيف] ذَهَبَ النَّاسُ فَاسْتَقَلُّوا وَصارُوا ... خَلَفَاً فِي أَراذلِ النَّسْناسِ فِي أُناسٍ نعدُّهُمْ فِي عَدِيدٍ ... فَإِذا فُتِّشُوا فَلَيْسُوا بِنَاسِ كُلَّما جِئْتُ أَبْتَغِي النَّيْلَ مِنْهُمْ ... بَدَرُونِي قَبْلَ السُّؤالِ بِبَاسِ وَبَكَوْا لِي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي ... مِنهُمْ قَدْ أَفلْتُ رَأسَاً بِرَاسِ (¬2) وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الذين يُشبهون الناس ولَيْسُوا بناس، إشارةٌ إلى أنَّ الناس هم الكمل الذين لم يتصفوا بشيء من صفات البهائم. ¬
ومن لطائف الإمام فخر الدين الرازي في "تفسيره" قال: إنَّ الله تعالى قال في موضع: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وقال في موضع آخر: {هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة: 185]، وهذا يقتضي أنَّ الناس هم المتقون، فمَنْ ليس من المتقين فليس من الناس، انتهى (¬1). وفي الأمثال: يا نفس هوني، وعلى ما كانت الناس كوني. ووقع لأخي شيخ الإسلام العارف شهاب الدين أحمد الغزي: أنه سأل بعض العارفين من أهل عصره عن هذا المثل؛ فإنَّ ظاهره الإرشاد إلى موافقة الناس فيما هم فيه من خيرٍ أو شر، وهو مشكل. فقال له العارف: ليس المراد بالناس في المثل مَنْ نراهم، بل المراد بالناس أبو بكر، وعمر، وأمثالهما. يُشير إلى قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13]. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الآية: أي: صدقوا كما صدق أصحاب محمد. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬2). وفي "تاريخ ابن عساكر" - بسندٍ ضعيف - عن ابن عباس أيضاً في ¬
قوله: {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13] قال: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي (¬1). وروى الخطابي في "الغريب" عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: أنه كان عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فلمَّا قام من عنده قال: إذا ذهب هذا وضرباؤه لم يبقَ من الناس إلا رجاجة. قال الخطابي: الرجاج: صغار الإبل، وحواشيها، فشبه صغار الناس، ومَنْ لا طائل عنده بها. انتهى (¬2). وقد سبق أنَّ الرجاج مهازيل الغنم، والضعفاء من الناس والإبل. قلت: وفيه إشارة إلى غلبة الجهل والوهن على الناس بعد عصر الصحابة والتابعين، وكلما تأخر العصر كان الجهل في أهله أكثر، وكلما كثر الجهل استوى الناس فيه، فلا ينكر بعضهم على بعض، ولهذا قلَّ في هذه الأزمنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي حديث: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا تَفَاضَلُوْا فيْ الْعِلْمِ والتنافُسِ فيْ طَلَبِ الفَضَائِلِ؛ فَإِذَا اسْتَوَوْا فيْ الجَهْلِ وَاتِّبَاعِ الهَوَىْ هَلَكُوْا، وَلا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَىْ بَعْضٍ" (¬3). ¬
وفي المعنى قلت: [من مجزوء الخفيف] عَمَّمَ الْجَهْلُ وَالْهَوى ... فَالوَرى فِي الْهَوى سَوا فَلِذا لا تَرى فَتًى ... مُنْكِراً غَيَّ مَنْ غَوى آهٍ آهٍ لِما جَرى ... فَلِمَنْ نَشْتَكِي الْجَوى فَاجْتَنِبْ كُلَّ ما تَرى ... مِنْ ضَلالٍ وَمِنْ هَوى لِتَنَالَ الرِّضى إِذا ... باءَ ذُو الْجَهْلِ بِالنَّوى ولأبي الأسود الدؤلي من قصيدته المشهورة "ذوات الأمثال": [من الكامل] وَالنَّاسُ قَدْ صارُوا بَهائِمَ كُلُّهُمْ ... وَمَعَ البَهائِمِ فاتِكٌ وَزَعِيمُ صُمٌّ وَبُكْمٌ لَيْسَ يُرْجَى نَفْعُهُمْ ... وَزَعِيمُهُمْ فِي النَّائِباتِ مَلُومُ وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْرُجُ فيْ آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتَلِسُوْنَ الدُّنْيَا بِالدِّيْنِ، يَلْبَسُوْنَ لِلنَّاسِ جُلُوْدَ الضَّأنِ مِنَ اللبنِ، ألسِنتهُمْ أَحْلَىْ مِنَ العَسَلِ، وَقُلُوْبُهُمْ قُلُوْبُ الذِّئَابِ، يَقُوْلُ اللهُ تَعَالىْ: أَفَبِيْ يَغْتَرُّوْنَ، أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُوْنَ؟ لأَبْعَثَنَّ عَلَىْ أُوْلَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الحَلِيْمَ مِنْهُمْ حَيْرَانَ" (¬1). ¬
وروى الطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتي زَمَانٌ عَلَىْ النَّاسِ هُمْ ذِئَابٌ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذِئْبًا أَكَلَتْهُ الذِّئَابُ" (¬1). وفي رواية تقدمت: "فَمَنْ لمَ يَكُنْ لَهُ ذِئْبٌ أَكَلَتْهُ الذِّئَابُ" (¬2). وليس المراد إرشاد الإنسان إلى التذاؤب، بل هو من باب المشاكلة؛ أي: مَنْ لم يُخفْ الناس بجرأته وبتوعِيْدهم بعقوبته، طَمِعُوا في ظلمه واستهانوا به. ونظيره قول ابن دريد: مَنْ ظَلَمَ النَّاسَ تَحامَوْا ظُلْمَهُ ... وَعَزَّ عَنْهُمْ جانِباهُ وَاحْتَمَى وروى الخطابي عن ابن أبي ليلى قال: سيأتي على الناس زمانٌ يقال له: زمان الذئاب، فمَنْ لم يكن في ذلك الزمان كلباً أكلوه. قال قتيبة بن سعيد: وهو هذا الزمان (¬3). قلت: إذا كان قتيبة - وهو من شيوخ البخاري ومسلم - قد نزَّل الحديث على أهل زمانه، فكيف بأهل زماننا؟ وقد مضى بعد زمان قتيبة نحو ثمان مئة عام. وفي هذا المعنى يقول القائل: ¬
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَقْرباً يَتَّقِي ... سَعَتْ بَيْنَ أَثْوابِهِ العَقْرَبُ (¬1) وليس في ذلك كله رخصة في الظلم والعدوان والأذية، ولكن من باب المشاكلة. والمراد أن يكون للرجل قوة وشوكة يدفع بها ظلم الجبارين عنه؛ فافهم! وروى الحاكم في "تاريخ نيسابور" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، يُرَبِّي الرَّجُلُ فِيْهِ جَرْوًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُرَبِّيَ وَلَدًا" (¬2). والجرو - مثلث الجيم -: الصغير من أولاد الكلاب وسائر السباع. وفي المثل: لا تقتني من كلب سوءٍ جَرْواً. قال الزمخشري: يُضرب في اصطناع من لا عرق له، انتهى (¬3). واقتناء المال وغيره: اتخاذه. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله تعالى في "طبقاته": أنشدنا قاضي بلدنا أبو علي الداودي قال: أنشدنا أبو الفرج؛ يعني: ¬
المعافى بن زكريا النهرواني: [من الوافر] أَأَقْتَبسُ الضِّياءَ مِنَ الضَّبابِ ... وَأَلْتَمِسُ الشَّرابَ مِنَ السَّرابِ أُرِيدُ مِنَ الزَّمانِ النَّذْلِ بَذْلاً ... وَأَرْياً مِنْ جَنَى سَلْع وَصابِ أَأَرْضَى أَنْ أُلاقِي لاشْتِياقِي ... خِيارَ النَّاسِ فِي زَمَنِ الْكِلابِ (¬1) وللوزير المغربي: [من الطويل] أَرى النَّاسَ فِي الدُّنْيا كَراعٍ تَنَكَّرَتْ ... مَرَاعِيهِ حَتَّى لَيْسَ فِيهِنَّ مَرْتَعُ فَماءٌ بِلا مَرْعًى وَمَرْعًى بِغَيْرِ ما ... وَحَيْثُ تَرى ماءً وَمَرْعًى فَمَسْبَعُ (¬2) وفي "روض الرياحين" لليافعي: أنَّ مالك بن دينار قال للسمنون المجنون: لِمَ لا تُجالس الناس وتُخالطهم؟ فأنشأ يقول: [من مجزوء الخفيف] كُنْ مَعَ النَّاسِ جانِباً ... وَارْضَ بِاللهِ صاحِبا قَلِّبِ النَّاسَ كَيْفَ شِئْـ ... ـــــــتَ تَجِدْهُمْ عَقَارِبا (¬3) وروى الحافظ عبد الكريم بن السمعاني في "ذيل تاريخ بغداد" ¬
عن أبي الفتح بن الحسن المذكر: أنه أنشد لبعضهم: [من مجزوء الخفيف] كُنْ مِنَ النَّاسِ هارِباً ... كَيْ يَعُدُّوكَ راهِبا إِنَّ دَهْراً أَظَلَّني ... قَدْ أرانِي عَجائِبا قَلِّبِ النَّاسَ كَيْفَ شِئْـ ... ـــــتَ تَجِدْهُمْ عقارِبا ارْضَ بِاللهِ صاحباً ... وَدعَ النَّاسَ جانِبا (¬1) ولابن العميد في معنى أخص من ذلك: [من مجزء الكامل المرفّل] آخِ الرِّجالَ مِنَ الأَبا ... عِدِ وَالأَقارِبَ لا تُقارِبْ إِنَّ الأَقارِبَ كَالْعَقا ... رِبِ، بَلْ أَضَرُّ مِنَ العَقارِبْ (¬2) وقال غيره: [من الخفيف] لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ الْخَلاصُ مِنَ النَّا ... سِ وَقَدْ أَصْبَحُوا ذِئابَ اعْتِداءِ قُلْتُ لَمَّا بَلاهُمُ صِدْقُ قَوْلي ... رَضِيَ اللهُ عَن أبِي الدَّرْداءِ لمَّح يقول أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: كان الناس ورقاً لا شوك فيه، والناسُ اليوم شوكٌ لا ورق فيه (¬3). ¬
أو بقوله: اتقوا الله واحذروا الناس؛ فإنهم ما ركبوا ظهر بعيرٍ إلا أدبروه، ولا ظهر جوادٍ إلا عَقَروه، ولا قلب [مؤمن] إلا خربوه (¬1). أو بالحديث السابق الذي رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "وَجَدْتُ النَّاسَ: اخْبُرْ تَقْلُهُ، وَثِق بِالنَّاسِ رُوَيْدًا" (¬2). ورواه عنه العسكري في "الأمثال" قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اخْبُرْ تَقْلُهُ" (¬3). قال العسكري: قال معاوية - يعني: ابن سعيد أحد رواته -: إذا عاملت الرجل عرفته. قال: نظمه أبو العتاهية، فقال: [من مجزوء الخفيف] اُبْلُ مَنْ شِئْتَ تَقْلُهُ ... عَمَّا قَلِيلٍ لِفِعْلِهْ وَتُبْدِ لَهُ هَجْرَهُ ... بَعْدَ وِدِّهِ وَوَصْلِهْ ضاعَ مَعْرُوفُ واضعِ الْـ ... ـــــمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ أَهْلِهْ ومثل هذا الحديث ما رواه الشيخان عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "النَّاسُ كَإِبِلِ مِئَةٍ؛ لا تَجِدُ فِيْهِمْ رَاحِلَة" (¬1). يعني: إنَّ المرضي منهم قليل. وفي معنى الحديث المثل السائر: وأي الرجال المهذب. وأول مَنْ قاله النابغة الذبياني، واسمه زياد بن معاوية بن ضباب: [من الطويل] فَلا تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأَنَّنِي ... إِلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ القارُ أَجْرَبُ وَلَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أَخاً لا تَلُمُّهُ ... عَلى شَعَثٍ، أَيّ الرِّجالِ الْمُهَذَّبُ وروى الخطابي في "العزلة" عن سهل بن سعد السَّاعدي رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "النَّاسُ كَأَسْنَانِ المِشْطِ" (¬2). وفيه كما قال الخطابي وجهان: الأول: أنهم متساوون في الأحكام، لا يتفاوت منها شريفٌ عن وضيع لشرفه، ولا وضيعٍ عن شريفٍ لِضِعَتِه. والثاني: أنَّ ذلك ذم؛ أي: إنهم سواء في أن الغالب عليهم النقص؛ كقولهم إذا ذموا قبيلة: هم سواسية كأسنان الحمار (¬3). ¬
قال الزمخشري: يُقال: هم سواسية، وسواسوة، وسوىً سية؛ أي: متساوون في الشر (¬1). قال كُثيِّر: [من الطويل] سَواءٌ كَأَسْنانِ الْحِمارِ فَلا تَرى ... لِذِي شَيْبَةٍ مِنْهُمْ عَلى ناشِئٍ فَضْلا وأنشده غير الزمخشري: سواس كأسنان الحمار ... إلخ. وهو جمع: سي؛ بمعنى: مثل؛ فإنه يُجمع على أسواء، وسواسية، وسواس، وسواسوة كما في "القاموس" (¬2). قال صاحب "الصحاح": وهما في الأمر سواء، وإنْ شئت سواءان، وهم سواء للجمع، وهم أسواء، وهم سواسية - مثل ثمانية - على غير قياس (¬3). قال الأخفش: وزنه: فعافلة، ذهب عنها الحرف الثالث، وأصله الياء. ومما أنشده الخطابي في "العزلة" - وقد بين هذا المعنى الذي أشرنا إليه - قولُ أبي العباس الناشئ: [من المتقارب] خَبَرْتُ الأَنامَ فَما إِنْ وَجَدْتُ ... عَلى مِحْنَةٍ مَنْ يُساوِي نَقِيرا ¬
فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ أَنِّي الْتَمَسْتُ ... مِنَ النَاسِ شَيْئاً بَعِيداً عَسِيرا فَزَعْتُ إِلَى الأُنْسِ بِالإنْفِرادِ ... فَكانَ التَّقَلُّلُ مِنْهُمْ كَثِيرا (¬1) وأنشد المنصور بن إسماعيل الفقيه التميمي: [من مجزوء الخفيف] إِنَّما النَّاسُ فُزعةٌ ... لَيْسَ فِي النَّاسِ مَفْزعُ ذُمَّ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمُ ... فَهْوَ لِلذَّمِّ مَوْضعُ (¬2) الفزعة - بضم الفاء -: مَنْ يُفْزَع منه. والمفزع: الملجأ. وروى الخطابي عن إبراهيم بن شماس قال: قال لي حفص بن حميد الأكاف: يا إبراهيم! صَحِبْتُ الناسَ خمسين سنة، فلم أجد منهم من سَتَرَ لي عورة، ولا وَصَلَنِي إذا قطعته، ولا أَمِنْته إذا غضب، فالاشتغال بهؤلاء حمقٌ كبير (¬3). قال الخطابي: أنشدني بعض أصحابنا قال: أنشدنا ابن الأنباري: [من مجزوء الرمل] لَيْسَ لِلنَّاسِ وَفاءٌ ... لا وَلا فِي النَّاسِ خَيْرُ ¬
قَدْ بَلَوْنا النَّاسَ فَالنَّا ... سُ كَسِيرٌ وَعُوَيرُ (¬1) قال الجوهري: ويقال في الخصلتين المكروهتين: كسير وعوير، وكل غير خير، وهو تصغير أعور مرخماً (¬2). وروى الخطابي عن الزبير بن بكَّار: أنه أنشد لأبي همدة مولى المزنيين: [من الخفيف] إِخْوَةٌ ما حَضَرْتُ سُرُّوا بِزَوْرِي ... فَإِذا غِبْتُ فَالسِّباعُ الْجِياعُ بايَنُونِي حَتَّى إِذا بايَنُونِي ... حانَ مِنْهُمْ تَضاؤُلٌ وَاخْتِناعُ فَهُمُ يَغْمِزُونَ مِنِّي قناةً ... لَيْسَ يِأْلُونَ صَدْعَها ما اسْتَطاعُوا ما كَذا تَفْعَلُ الكِرامُ وَلَكِنْ ... هَكَذا تَفْعَلُ اللِّئامُ الوِضَاعُ (¬3) وقال: أنشدني بعض أهل الأدب لعبد الله بن المعتز: [من الوافر] وَأَبْعَدَنِي عَنِ الإِخْوانِ عِلْمِي ... بِهِمْ، فَبَقِيتُ مَهْجُورَ النواحِ وَكَمْ ذَمٍّ لَهُمْ فِي جَنْبِ مَدْحٍ ... وَجِدٍّ تَحْتَ أثوابِ الْمزاحِ (¬4) قلت: ولنا في هذا الباب؛ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21]: [من الوافر] ¬
لَقَدْ أَصْبَحْتُ مَهْجُورَ النَّواحِي ... مِنَ الإِخْوانِ مَقْصُوصَ الْجَناحِ فَلا خِلٌّ يُوافِقُنِي على ما ... يُؤَدِّينِي إِلَى حالِ الفَلاحِ إِذا لاقَيْتُهُمْ بِالْجِدِّ قالُوا ... بِجِدِّي يَرْجِعُونَ إِلَى الْمزاحِ لِذَلِكَ قَدْ عَدَلْتُ إِلَى انْفِرادِي ... بِمَطْلُوبِي، وَعُدْتُ إِلَى ارْتِياحِ فَلا أُصْغِي إِلَى ما هُمْ عَلَيْهِ ... وَلا أُصْغِي إِلَى مَلْحاةِ لاحِي وقال الخطابي: أخبرني محمد بن إبراهيم المكتب، قال: حدثنا سكن قال: حدثنا عيسى بن أبي موسى الأنصاري قال: سمعت سليمان بن موسى يُنشد: [من الخفيف] حالَ عَمَّا عَهِدْتُ رَيْبُ الزَّمانِ ... وَاسْتحالَتْ مَوَدَّةُ الإِخْوانِ وَاسْتَوى الناسُ فِي الْخَدِيعَةِ وَالْمَكْـ ... ــــــــرِ فَكُلٌّ لِسانُهُ إثْنانِ فَلَعَمْرِي لَئِنْ بَلَوْتُ النَّاسَ ... وِدًّا وَجَدْتُ ذا أَلْوانِ (¬1) قال: وأنشدني ابن أبي الدنيا قال: أنشدني أعرابي من بني أسد: [من الوافر] أَلا ذَهَبَ التَّكَرُّمُ وَالْوَفاءُ ... وَبادَ رِجالُهُ وَبَقِيْ العَناءُ وَأَسْلَمَنِي الزَّمانُ إِلَى أُناسٍ ... كَأَنَّهُمُ الذِّئابُ لَهُمْ عُواءُ إِذا ما جِئْتُهُمْ يَتَدافَعُونِي ... كَأَنِّي أَجْرَبٌ أَعْيَاهُ داءُ ¬
أَوِ دَّاءٌ إِذا اسْتَغْنَيْتُ عَنْهُمْ ... وَأَعْداءٌ إِذا نَزَلَ البَلاءُ أقولُ وَلا أُلامُ عَلى مَقالِي ... عَلى الإِخْوانِ كُلِّهِمُ العَفاءُ (¬1) ولا شك أنَّ الأخوة الحقيقية لا تذم، ولا يُقال على الإخوان المنصفين بها العفاء، ولكن لمَّا قلَّ الإخوان الحقيقيون الأخوة حتى صارُوا أعزَّ شيءٍ موجوداً وملحقين بالعدم، استعاروا للمعارف اسم الإخوان، ثم كانوا لا يكادون يجدون السوء إلا من المعارف؛ كما قال بعض السلف: ما وجدْتُ ضرراً قط إلا ممن عرفت. وقال آخر: [من مجزوء الخفيف] جَزَى اللهُ خَيْراً كُـ ... ــــــــــــــــــلَّ مَنْ لَسْتُ أَعْرِفُ فأطلقوا الذمَّ على اسم الإخوان، وعليه يحمل كل ما في ذلك. وروى الخطابي في "العزلة" عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه قال: كنا نتحدث أنَّ أمر هذه الأمة سيرجع أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة (¬2). ثم قال الخطابي: أنشدني التمار النحوي قال: أنشدنا ابن الأنباري لأبي حازم: [من المنسرح] إِخْوانُ هَذا الزَّمانِ كُلُّهُمُ ... إِخْوانُ غَدْرٍ عَلَيْهِ قَدْ جُبِلُو أَخُوهُمُ الْمُسْتَحِقُّ وَصْلَهُمُ ... مَنْ أَكَلُوا عِنْدَهُ وَمَنْ أَكَلُوا ¬
طَوَوْا ثِيابَ الْوِصالِ بَيْنَهُمُ ... فَصارَ ثَوْبُ الرِّياءِ يُبْتَذَلُ وَلَيْسَ فِيما رَأَيْتُ بَيْنَهُمُ ... وَبَيْنَ مَنْ كانَ مُعْدِماً عَمَلُ فَاحْفَظْ مِنَ النَّاسِ إنْ ظَفِرْتَ بِهِ ... مَنْ لَمْ يَكُنْ إِخاؤُهُ دَخَلُ (¬1) وقال: سمعتُ أبا جعفر العتبي يُنشد لعلي بن الجهم، قلت: ولقد أجاد فيما شاد: [من الوافر] تَوَقَّ النَّاسَ يا ابْنَ أَبِي وَأُمِّي ... فَهُمْ تَبَعُ الْمَخافَةِ وَالرَّجاءِ أَلَمْ تَرَ مُظْهِرينَ عَلَيَّ عَيْباً ... وَكانُوا أَمْسِ إِخْوانَ الصَّفاءِ بُلِيْتُ بِنَكْبَةٍ فَغَدَوْا وَراحوا ... عَلَيَّ أَشَدَّ أَسْبابِ القَضاءِ أَبَتْ أَقْدارُهُمْ أَنْ يَنْصُرونِي ... بِجاهٍ أَوْ بِمالٍ أَوْ بِراءِ وَخافُوا أَنْ يُقالَ لَهُمْ: خَذَلْتُم ... صَدِيقاً فَادَّعَوْا قِدَمَ الْجَفاءِ (¬2) وقال: حدثنا الخلدي جعفر بن محمد بن نصير: ثنا أحمد بن مسروق الطوسي: ثنا أحمد بن أبي الحواري قال: قال أبو عبد الله النباحي رحمه الله تعالى: [من الرجز] ارْفُضِ النَّاسَ وَكُلَّ مَشْغَلَةْ ... قَدْ بَخِلَ النَّاسُ بِمِثْلِ الْخَرْدَلَةْ لا تَسْأَلِ النَّاسَ وَسَلْ مَنْ أَنْتَ لَهْ (¬3) ¬
وبالغ المتنبي في وصف أهل زمانه، فقال: [من الطويل] أَذُمُّ إِلَى هَذا الزَّمانِ أُهَيْلَه ... فَأَعْلَمُهُمْ فَذمٌ، وَأَحْزَمُهُمْ وَغْدُ وَأَكْرَمُهُمْ كَلْبٌ، وَأَبْصَرُهُمْ عَمٍّ ... وَأَسْهَدُهُمْ فَهْدٌ، وَأَشْجَعُهُمْ قِرْدُ وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيا عَلى الْمَرْءِ أَنْ يَرَى ... عَدُوًّا لَهُ ما مِنْ صَداقَتِهِ بُدُّ (¬1) وقال: [من البسيط] أَفاضِلُ النَّاسِ أَغْراضٌ لِذا الزَّمَنِ ... يَخْلُو مِنَ الْهَمِّ أَخْلاهُمْ مِنَ الفِطَنِ وَإِنَّما نَحْنُ فِي جِيلٍ كَواسِيَةٍ ... شَرٍّ عَلى الْحُرِّ مِنْ سُقْمٍ عَلى بَدَنِ حَوْلي بِكُلِّ مَكانٍ مِنْهُمُ خَلْقٌ ... تُخْطِيْ إِذا جِئْتَ فِي استفهامها بِمَنِ لا أَفْتَرِي بَلَداً إِلاَّ عَلى غررٍ ... وَلا أَمُرُّ بِخَلْقٍ غَيْرِ مُضْطَغَنِ وَلا أعاشرُ مِنْ أَمْلاكِهِمْ أَحداً ... إِلاَّ أَحَقَّ بِضَرْبِ السَّيْفِ مِنْ وَثَنِ إِنِّي لأَعْذُرُهُمْ مِمَّا أُعَنِّفُهُمْ ... حَتَّى أُعَنِّفَ نَفْسِي فِيْهِمْ وأَنِّيْ فَقْرُ الْجَهُولِ بِلا قَلْب إِلَى أَدَبٍ ... فَقْرُ الْحِمارِ بِلا رَأْسٍ إِلَى رَسَنِ وَمُدْقِعينَ بِسبروتٍ صَحِبْتُهُمُ ... عارِينَ مِنْ حُلَلٍ، كاسِينَ مِنْ دَرَنِ خرابُ بادِيَةٍ غَرْثَى بُطُونُهُمُ ... [مكن الضَّبابِ لهم زادٌ بلا ثَمنِ يستخبرونَ فلا أُعْطِيهمُ خَبري] ... وَما يَطَيْشُ لَهُمْ سَهْمٌ مِنَ الظَّننِ ¬
وَخلةٍ مِنْ جَلِيسٍ أَتَّقِيهِ بِها ... كَيْلا يُرى أَنَّنا مِثْلانِ فِي الوَهَنِ (¬1) وأحسن ما قيل: [من البسيط] غَيْرِي بِأَكْثَرِ هَذا النَّاسِ يَنْخَدِعُ ... إِنْ قاتَلُوا جَبُنوا أَوْ حَدَّثوا شَجُعُوا أَهْلُ الْحَفِيظَةِ إِلاَّ أَنْ تُجَرِّبَهُمْ ... وَفِي التَّجارِبِ بَعْدَ العَيِّ ما يَزَغُ (¬2) وأجاد مهيار في قوله: [من مخلَّع البسيط] وَلائمٍ فِي عُزوفِ نَفْسِي ... قُلْتُ لَهُ أَنتَ وَالْخُطُوبُ عَساك خُبْراً بِالنَّاسِ مِثْلِي ... إِنْ رَدَّ من عِلْمِكَ الغَرِيبُ فَفِي قِلى مَنْ تُراكَ تَلحى ... مِنْهُمْ وَفِي تَرْكِ مَنْ تَعِيبُ اللهُ لِي إِنْ طَرَحْتُ عِرْضِي ... آكِلَةُ آمالهِمْ حَسِيبُ قَدْ كُنْتُ أَبْكِي وَهُمْ فروقٌ ... شَتَّى، وَأَشْكُو وَهُمْ ضروبُ فَما أَرى مِنْهُمُ بَرِيئاً ... يَخْشى افْتِضاحاً بِهِ الْمريبُ وما أحسن قوله: [من الوافر] أُقضِّي ما أُغالِطُ مِنْ زَمانٍ ... بِلَوْعاتٍ تَكادُ عَلَيَّ تَقْضِي ¬
وَمَسْبُوقِينَ فِي طُرُقِ الْمَعالِي ... وَإِنْ زُجِروا بِحَثٍّ أَوْ بِحَضِّ أُصاحِبُهُمْ فيُمْسِي الوِدُّ عَنْهُمْ ... عَلى زَلَقٍ مِنَ الشَّحْناءِ دَحْضِ وَأُبْرِمُ فِيهِمْ مِدَحاً مِتاناً ... فتَلْقاها مَعانِيهِمْ بِنَقْضِ وله أيضاً: [من الرجز] مَنْ لَكَ بِالنَّاسِ وَلا ناسَ لَهُمْ ... إِلاَّ كَلامَ الْخَدِعِ الْمُكاثِرِ نَفْسَكَ صُنْ لَيْسَ أَخُوكَ غَيْرَها ... فَقالِلِ النَّاسَ بِها أَوْ كاثِرِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ عِزَّها قنوعُها ... بِرِزْقِها الْمَيْسورِ فِي الْمعاشرِ وَإِنْ وَصَلْتَ فَأَخاً مُصَافِياً ... صَحَّ عَلى التَّجْرِيبِ وَالْمخابرِ أخٌ ترى لِوَجْهِهِ قَبْلَ الْجدى ... أَسِرَّةً تَلْقاكَ بِالْبَشائِرِ قلت: وقد ذيَّلت عليه بقولي: [من الرجز] مَنْ لِي بِهَذا الأَخِ لَوْ أَبْصَرْتُهُ ... أَصْفَيْتُهُ بِباطِنِي وَظاهِرِي وَكُنْتُ مِنْهُ بِمَكانِ العَيْنِ مِنْ ... إِنْسانِها وَالْقَلْبِ مِنْ بَصائِرِي أَرْعاهُ مِثْلَما رَعَى الظَّبْيُ الرَّشا ... وَالوِدُّ أدْنَى رَحِمٍ وَناصرِ لَكِنَّهُ أَعَزُّ مِنْ عَنْقاءَ مُغْـ ... ــــــربٍ وَأَخْفَى مِنْ خَفِيِّ الْخاطِرِ وروى البيهقي في "الزهد" عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: إذا رأيتَ الأسد فلا يهولنك، وإذا رأيتَ إنساناً فخذ
ثوبك وفِرَّ (¬1). وروى أبو نعيم عن ابن المبارك رحمه الله تعالى: فرَّ من الناس كفرارك من الأسد (¬2). وقال الخطابي: حدثنا عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال: ما أشبه هذا الزمان إلا بما قال تَأَبَّطَ شرًّا: [من الطويل] عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأنَسْتُ لِلذِّئْبِ إِذْ عَوى ... وَصَوَّتَ إِنْسانٌ فَكِدْتُ أَطِيرُ (¬3) قال: وأنشدني الآبري لمنصور بن إسماعيل: [من المجتث] النَاسُ بَحْرٌ عَمِيقٌ ... وَالبُعْدُ عَنْهُمْ سَفِينَةْ وَقَدْ نَصَحْتُكَ فانْظُرْ ... لِنَفْسِكَ الْمِسْكِينَة قال: وأَنْشَدُونا له: ¬
كُلُّ مَنْ أَصْبَحَ فِي دَهـ ... ــــــــــــرِكَ مِمَّنْ [قد] تَراهْ فَهْوَ مِنْ خَلْفِكَ مِقْـ ... ـــــــراضٌ وَفِي الْوَجْهِ مِرَاةْ (¬1) قال الخطابي: والمثل من قديم الدهر: ما لقي الناس من الناس. انتهى (¬2). وقلت مضمناً: [من الرجز] إنَّ بَلاءَ النَّاسِ بِالنَّاسِ ... ما لَقِيَ النَّاسُ مِنَ النَّاسِ أو يُقال: ما لَقِيَ النَّاسُ مِنَ النَّاسِ ... إِنَّ بَلاءَ النَّاسِ بِالنَّاسِ فَاحْذَرْ مِنَ النَّاسِ وَلا تَغْدُ لِلـ ... أَمْرِ الَّذِي أوْصيتَ بِالنَّاسِ وروى الخطابي، وأبو نعيم عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: [من البسيط] لَيْتَ الْكِلابَ لَنا كانَتْ مُجاوِرَةً ... وَلَيْتَنا لا نَرى مِمَّنْ نَرى أَحَداً إِنَّ الْكِلابَ لَتُهْدا فِي مَرابِضِها ... وَالنَّاسُ لَيْسَ بهادٍ شَرُّهُمْ أَبداً فَانجُ بِنَفْسِكَ وَاسْتَأْنِسْ بِوَحْدَتِها ... أَنْتَ السَّعِيدُ إِذا ما كُنْتَ مُنْفَرِداً (¬3) ¬
وأنشد الخطابي في المعنى لبعض أهل عصره: [من البسيط] شَرُّ السِّباعِ الضَّوارِي دُونَهُ وَزَرُ ... وَالنَّاسُ شَرُّهُمْ ما دُونَهُ وزَرُ كَمْ مَعْشَرٍ سَلِموا لَمْ يُؤْذِهِمْ سَبُعٌ ... وَما تَرى بَشَراً لَمْ يُؤْذِهِ بَشَرُ (¬1) وقال آخر؛ أنشده الدميري والسيوطي: [من الكامل] وَالنَّاسُ أَهْدى فِي القَبِيحِ مِنَ القَطا ... وَأَضَلُّ فِي الْحُسْنَى مِنَ الغِرْبانِ (¬2) وروى الخطابي عن الحسن رحمه الله تعالى أنه قال: اعلموا أنَّ الناس شجرة بغي، وفراش نار، وذبان طمع؛ إنَّ الدنيا لمَّا فتحت على أهلها كَلَبوا - والله - أسوأَ الكَلَب حتى غار بعضهم على بعض بالسيوف، واستقل بعضهم حرمة بعض، تجانفوا على قبيحةٍ كسبوها من كل حرام، وأنفقوها في كل شر، وطبقوا الأرض ظلماً (¬3). قال الخطابي: وقرأت لمنصور بن عمار رحمه الله تعالى في صفة الزمان فقال: تغير الزمان حتى كَلَّ عن وصفه اللسان، فأمسى خَرِفاً بعد حداثته، شرساً بعد لِيْنه، يابس الضرع بعد غزارته، يابس الفرع بعد نضارته، قاحل العود بعد رطوبته، بشع المذاق بعد عذوبته، فلا نكاد نرى لبيباً إِلاَّ ذا كمد، ولا ظريفاً واثقاً بأحد، وما أصبح له حليفاً ¬
إلا جاهل، ولا أمسى به قرير عين إلَّا غافل، فما بقي من الخير إلا الاسم، ولا من الدين إلا الرسم، ولا من التواضع إلا المخادعة، ولا من الزهادة إلا الانتحال، ولا من المروءة إلا عذوبة اللسان، ولا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا حمية النفس، والغضب لها، وتضلع الكبر منها، ولا من الاستفادة إلا التعزز والتبجل، ولا من الإيمان إلا التراؤس، والتجلل بالغرور المائق المذموم عند الخلائق، النادم من العواقب، المحظوظ عن المراتب، من اغترَّ ولم يحسم رجاءَه باليأس، ولم يطلق قلبه بشدة الاحتراس. فالحذرَ الحذرَ من الناس؛ فقد أفلَ الناس وبقي النسناس، ذئاب عليهم ثياب، إنْ استرفدتهم حرموك، وإن استنصرتهم خذلوك، وإن استنصحتهم غشوك، وإن كنت شريفاً حسدوك، وإن كنت وضيعاً حقروك، وإن كنت عالماً ضللوك وبدَّعوك، وإن كنت جاهلاً عيروك ولم يرشدوك، وإن نطقت قالوا: مِهْذار مِكثار وصَفيق، وإن سكتَّ قالوا: عَمى بطيء وبَلِيْد، وإن تعمقت قالوا: متكلف متعمق، وإن تغافلت قالوا: جاهل أحمق؛ فمعاشرتهم داءٌ وشقاء، ومزايلتهم دواءٌ وشفاء، ولا يؤمن أن يكون في الداء مرارة وكراهة، فاختاروا الدواء بمرارته وكراهته على الداء لغائلته وافته؛ والله المستعان (¬1)! وقال الخطابي: أنشدني أبو رجاء الغنوي قال: أنشدني العتبي ¬
من قصيدة له: [من الرجز] إِنِّي تَبَدَّلْتُ بِإِخْوانِ الصَّفا ... قَوْماً يَرَوْنَ النُّبْلَ تَطْوِيلَ اللِّحى لا عِلْمَ دُنيا عِنْدَهُمْ وَلا تُقَى ... غُذُّوا صِغاراً ثُمَّ خَلُّوهُمْ سُدَى يَغْمُرُهُ الْجَهْلُ وَآدابُ النِّسا ... فَلَوْ تَرى شَيْخَهُمُ إِذا احْتَبَى ثُمَّ ابْتَدَا فِي وَصْفِ شَيْءٍ وَبَدا ... مِنْ رخْصِ أَسْعارٍ وَمِنْ فَرْطِ غَلا وَرَفَعُوا أَصْواتَهُمْ بُكًى وَلا ... حَسِبْتَهُمْ ضَأناً تَناغَوْا بِثغا أَوْ سِرْبَ بَطٍّ جَاوَبَتْ سِرْبَ قَطا ... فَذَلِكَ الدَّأْبُ إِلَى وَقْتِ العِشا وَالقَلْبُ يَزْدادُ صَدًى إِلَى صَدى ... لِقُرْبِهِمْ وَالعِلْمُ يَزْدادُ فَنا وَكُلُّهُمْ فِي العِلْمِ يَمْشِي القَهْقَرى ... يُرِيدُ قُدَّاماً فَيَجْرِي مِنْ وَرا (¬1) وروى ابن عدي في "الكامل" عن سفيان بن عيينة قال: سمعت علي بن زيد بن جُدْعان سنة سبع وستين يقول: مثل النساء إذا اجتمعن بمنزلة البط؛ إذا صاحت واحدة صِحْن جميعاً (¬2). وقال الدينوري في "المجالسة": أنشدنا ابن أبي الدنيا قال: أنشدني شيخ من الأزد: [من البسيط] قَدْ ضَيَّعَ اللهُ ما جَمَّعْتُ مِنْ أَدَبٍ ... بَيْنَ الْحَمِيْرِ وَبَيْنَ الشَّاءِ وَالْبَقَرِ ¬
أقولُ إِنْ سَكَتُوا أُنْسٌ، وَإِنْ نَطَقُوا ... قُلْتُ: الضَّفادِعُ بَيْنَ الْماءِ وَالشَّجَرِ لا يَسْمَعُونَ إِلَى شَيْءٍ أَجِيْءُ بِهِ ... وَكَيْفَ تَسْتَمعُ الأَنْعامُ لِلْبَشَرِ (¬1) وروى أبو نعيم عن أبي علي النيسابوري الفقيه: أن الشافعي رضي الله تعالى عنه لمَّا دخل مصر أتاه جُلُّ أصحاب مالك في مسائل، فتنكروا له وجَفَوه، فأنشأ يقول: [من الطويل] أَأَنثرُ دُرًّا بَيْنَ سارِحَةِ النَّعَمْ ... وَأَنْظُمُ مَنْثُوراً لِراعِيَةِ الغَنَمْ لَعَمْرِي لَئِنْ ضُيِّعْتُ فِي شَرِّ بَلْدَةٍ ... فَلَسْتُ مُضِيْعاً بَيْنَهُمْ غُرَرَ الْحِكَمْ فَإِنَّ فَرَّجَ اللهُ اللَّطِيفُ بِلُطْفِهِ ... وَصادَفْتُ أَهْلاً لِلْعُلُومِ وَلِلْحِكَمْ بَثَثْتُ مُفِيداً وَاسْتَفَدْتُ وِدادَهُمْ ... وَإِلاَّ فَمَخْزُونٌ لَدَيَّ وَمُكْتَتَمْ وَمَنْ مَنَحَ الْجُهَّالَ عِلْماً أَضاعَهُ ... وَمَنْ مَنَعَ الْمُسْتَوْجِبِيْنَ فَقَدْ ظَلَمْ (¬2) وأنشد الإمام فخر الدين الرازي للإمام الشافعي - رضي الله عنه - أيضاً: [من الوافر] نَعِيبُ زَماننَا وَالْعَيْبُ فِينا ... وَما لِزَمانِنا عَيْبٌ سِوانا وَقَدْ نَهْجُو الزَّمانَ بِغَيْر جُرْمٍ ... وَلَوْ نَطَقَ الزَّمانُ بِهِ هَجانا دِيانَتُنا التَّصَنُّعُ وَالتَّرائِي ... فَنَحْنُ بِهِ نُخادِعُ مَنْ يَرانا ¬
وَلَيْسَ الذِّئْبُ يَأْكُلُ لَحْمَ ذِئبٍ ... وَيَأْكُلُ بَعْضنا بَعْضاً عِياناً لَبِسْنا لِلتَّخادُعِ مَسْكَ ضَأنٍ ... فَوَيْلٌ لِلمُغِيْرِ إِذا أَتانا (¬1) وروى ابن عساكر عن الخطيب البغدادي قال: أنشدنا أبو عبد الله الصُّوري لنفسه: [من المجتث] نِعْمَ الأَنِيسُ الْكِتابُ ... إِنْ خانَكَ الأَصْحابُ يَحْوِي ضُروبَ عُلُومٍ ... تَزِيْنُها الآدابُ تَنالُ مِنْهُ فُنوناً ... تَحْظَى بِها وَتُثابُ لا مُظْهرٌ لَكَ سِرًّا ... وَلا عَلَيْهِ حِجابُ وَلا يَصُدُّكَ عَنْه ... إِنْ جِئْتَهُ بَوَّابُ وَلا يَسُوؤُكَ مِنْه ... تَقَطُّبٌ أَوْ عِتابُ وَلا يَعِيبُكَ إِنْ كا ... نَ فِيكَ شَيْءٌ يُعابُ خِلافَ قَوْمٍ تَراهُمْ ... لَيْسَتْ لَهُمْ أَلْبابُ لَكِنَّهُمْ كَذِئابٍ ... طُلْسٍ عَلَيْهِمْ ثِيابُ إِذا تَقَرَّبْتَ مِنْهُمْ ... أَرْضاكَ مِنْهُمْ خِطابُ وَإِنْ تَباعَدْتَ مِنْهُمْ ... فَكُلُّهُمْ مُغْتابُ ¬
ما هَؤُلاءِ بِناسٍ ... بَلْ هُمْ لَعَمْرِي كِلابُ فَالْبُعْدُ عَنْهُمْ ثَوابٌ ... وَالقُرْبُ مِنْهُمْ عِقابُ (¬1) ومن لطائف شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى: [من الخفيف] مَنْ عَذِيرِي مِنْ مَعْشَرٍ هَجَرُوا العقـ ... ــــــل وَحادُوا عَنْ طُرُقهِ الْمُسْتَقِيمَةْ لا يَرَوْنَ الإِنْسانَ قَدْ نالَ حَظًّا ... مِنْ صَلاحٍ حَتَّى يَكُونَ بَهِيمَةْ (¬2) وأنشد القاضي أبو الحسن الماوردي في "أدبه" لأبي بكر بن دريد: [من مجزوء الكامل المرفّل] النَّاسُ مِثْلُ زَمانِهِمْ ... قُدَّ الْحذاءُ عَلى مِثالِهْ وَرِجالُ دَهْرِكَ مِثْلُ دَهْـ ... ـــــــرِكَ فِي تَقَلُّبِهِ وَحالِه وَكَذا إِذا فَسَدَ الزَّمانُ ... جَرى الفَسادُ عَلى رِجالِهْ (¬3) وروى الخطابي في "غريب الحديث" بإسناده، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: ما أنكرتم فيما غبرتم من أعمالكم؛ إنْ يك خيرًا فواهاً واهاً، وإنْ يك شرًّا فآهاً آهاً (¬4). ¬
وروى أبو عمرو الداني في "الفتن" عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه كان يقول: ما أنكرتم من زمانكم فبسوء أعمالكم (¬1). وروى هو وأبو نعيم عن الشعبي رحمه الله تعالى قال: ما بكيت من زمانٍ إلا بكيت عليه (¬2). وروى أبو عمرو عن ميسرة بن حليس قال: ما لنا لا يأتينا زمان إلا بكينا منه، ولا تولَّى عنا إلا بكينا عليه (¬3). وقال أبو العتاهية: [من مخلع البسيط] يا رَبِّ لَمْ نَبْكِ مِنْ زَمانٍ ... إِلاَّ بَكَيْنا عَلى الزَّمانِ (¬4) وذكر الإمام أبو سعيد عبد الملك بن محمد الخركوشي في كتاب "الشرف" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَيَأتِيَنَّ عَلَىْ النَّاسِ زَمَانٌ يَكُوْنُوْنَ عَلَىْ شِبْهِ أَسَدٍ، وَذِئْبٍ، وَكَلْبٍ، وَثَعْلَبٍ، وَخِنْزِيْرٍ، وَشَاةٍ. فَأَمَّا الأسدُ: فَمُلُوْكُ الدُّنْيَا يُغَيِّرُوْنَ سُنَنَهَا، وَيَدَعُوْنَ حُدُوْدَهَا، ويحَرِّمُوْنَ حَلالهَا، وَيُحِلُّوْنَ حَرَامَهَا، لا يَطْمَعُ أَحَدٌ فيْ فَرِيْسَتِهِ. ¬
وَأَمَّا الذِّئْبُ: فَالتَّاجِرُ الفَاجِرُ، يَذُمُّ إِذَا اشْتَرَىْ، وَيَمْدَحُ إِذَا بَاعَ. وَأَمَّا الكَلْبُ: فَالرَّجُلُ الْكَذَّابُ. وَأَمَّا الثَّعْلَبُ: فَالرَّجُلُ القَارِئُ الَّذِيْ يَأْكُلُ بِدِيْنِهِ. وَأَمَّا الخِنْزِيْرُ: فَالرَّجُلُ المُتَشَبِّهُ بِالنِّسَاءِ لا يَظْلِفُ نَفْسَهُ عَنْ شَيْءٍ. وَأَمَّا الشَّاةُ: فَالرَّجُلُ المُؤْمِنُ يُجَزُّ صُوْفُهُا، ويؤْكَلُ لَحْمُهَا، وَيُحْلَبُ لَبَنُهَا؛ فَكَيْفَ بِشَاةٍ بَيْنَ أَسَدٍ، وَذِئْبٍ، وَكَلْبٍ، وَثَعْلَبٍ، وَخِنْزِيْرٍ". وروى أبو عمرو الداني عن [إبرهيم بن] أبي عبلة قال: تقوم الساعة على أقوام أحلامهم أحلام العصافير (¬1). وفي كلام بعض السلف: لا يكون العبد من المتقين حتى يرى الناس كالأباعر في ذات الله تعالى (¬2). أي: لا يتصورهم في فعل الطاعة لأجلهم، ولا في تركها لأجلهم. فأما ازدراء الناس فلا إلا أن يكون ازدراؤه لأهل المعصية منهم بزجرهم وتأديبهم، وازدراءُ أهل العلم والدين قبيحٌ مذموم. ¬
ومن لطائف ابن دقيق العيد: [من البسيط] أَهْلُ الْمَناصِبِ فِي الدُّنْيا وَرِفْعَتِها ... أَهْلُ الفَضائِلِ مَرْذُولُونَ بَيْنَهُمُ قَدْ أَنْزَلُونا لأَنَّا غَيْرُ جِنْسِهِمُ ... مَنازِلَ الوَحْشِ فِي الإِهْمالِ عِنْدَهُمُ فَما لَهُمْ فِي تَوَقِّي ضُرِّنا نَظَرٌ ... وَلا لَهُمْ فِي تَرَقِّي قَدْرِنا هِمَمُ فَلَيْتَنا لَوْ قَدَرْنا أَنْ نُعرِّفَهُمْ ... مِقْدارَهُمْ عِنْدَنا أَوْ لَوْ دَرَوْهُ هُمُ لَهُمْ مُرِيْحانِ مِنْ جَهْلِ وَفَرْطِ غِنًى ... وَعِنْدَنا الْمُتْعبانِ العِلْمُ وَالعَدَمُ (¬1) وقد ناقضه الفتح الثقفي المنسوب إلى الزندقة؛ قال ابن السبكي: وأجاد: [من البسيط] إِنَّ الْمَراتِبَ وَالدُّنْيا وَرِفْعَتَها ... عِنْدَ الَّذِي حازَ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَهُمُ لا شَكَّ أَنَّ لَنا قَدْرًا رَأَوْهُ وَما ... لِقَدْرِهِمْ عِنْدَنا قَدْرٌ وَلا لَهُمُ هُمُ الوحُوشُ وَنَحْنُ الإِنْسُ حِكْمَتُنا ... تَقُودُهُمْ حَيْثُما شِئْنا وَهُمْ نعمُ وَلَيْسَ شَيْءٌ سِوَى الإِهْمالِ يَقْطَعُنا ... عَنْهُمْ لأَنَّهُمُ وِجْدانهمْ عَدَمُ لَنا الْمُرِيْحانِ مِنْ عِلْمٍ وَمِنْ عَدَمٍ ... وَفِيهِمُ الْمُتْعِبانِ الْجَهْلُ وَالْحَشَمُ (¬2) وقلت: [من البسيط] ¬
إِنَّ الْمُلُوكَ وَأَرْبابَ المَناصِبِ قَد ... عَمُوا وَصَمُّوا بِما هُمْ فِيه وَابْتَكَمُوا بَدَتْ لَهُمْ زِينَةُ الدُّنْيا وَأَمْكَنَهُمْ ... مِنْها هواهُمْ فَظَنُّوا أَنَّهمْ كَرُمُوا وَلَمْ يَرَوْا طَلَبَ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ وَلا ... لِطاعَةِ اللهِ كانَتْ عِنَدَهُمْ هِمَمُ قَدْ غَرَّهُمْ زُخْرُفُ الدُّنْيا وَزِيْنتُها ... فَهُمْ هُمُ النَّاسُ دُونَ النَّاسِ عِنْدَهُمُ وَمَنْ تَجَرَّدَ عَنْ دُنْياهُمُ وَغَدا ... بِالعِلْمِ مُتَّصِفًا لَمْ يَحْسَبُوهُ هُمُ لِذا افْتَرَقْنا، فَلا هُمْ يَحْفِلونَ بِما ... بِهِ احْتَفَلْنا، وَقَدْ خَلَّوْهُ كُلُّهُم وَما لَنا رَغْبَةٌ فِيما بِهِ احْتَفَلُوا ... لأَنَّهُ عِنْدَنا وِجْدانُهُ عَدَمُ عَلَوا وَخالُوا بِما خالوه مَكْرُمَةً ... وَلَمْ نَخِلْ، وَاتَّضَعْنا نَحْنُ دُونَهُمُ لَنا الْمُرِيْحانِ مِنْ عِلْمٍ وَمِنْ ضَعَةٍ ... وَالْمُتْعِبانِ لَهُمُ الْجَهْلُ وَالشَّمَمُ
* تَنْبِيهٌ نَجْعَلُهُ خاتِمَةً لِهذا الفَصْلِ: يجري على ألسنة الناس قولهم للخادم والمخاصم: يا كلب! أو: يا حمار! أو: يا خنزير! أو: ما فَعَل هذا الكلب، أو: لأخرجن من حق هذا الخنزير، أو نحو ذلك. هذا إن كان يريد به مطلق الذم والشتم تشفيًا وتسلِّيًا فهو مكروهٌ قبيحٌ بوجهين: أحدهما: أنه كاذب. والثاني: أنه إيذاء. وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم -يعني: النخعي- قال: كانوا يقولون: إذا قال الرجل للرجل: يا كلب! يا حمار! يا خنزير! قال الله تعالى له يوم القيامة: أتراني خلقته كلبًا، أو حمارًا، أو خنزيرًا (¬1)؟ وعن المسيب قال: لا تقل لصاحبك: يا حمار! يا كلب! يا خنزير! فيقول لك يوم القيامة: أتراني خُلِقْتُ كلبًا أو حمارًا أو خنزيرًا (¬2)؟ وخُلِقْتُ -بضم الخاء المعجمة، وكسر اللام-: مبني لنائب الفاعل. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن هانئ البربر قال: دخل على ¬
عثمان رضي الله تعالى عنه دِهْقان من أهل فارس، فإذا هو يأكل مع أمرأته وغلام له حبشي، فقال في كلامه: يأكل هذا الكلب معكما، فكأن الحبشي فهمها، فكف، فقال: كُلْ. ثم قال عثمان رضي الله تعالى عنه: هو لله وإنا لله، وما أدري أيُّنا أفضل عند الله. قال: فلما قتل عثمان رضي الله تعالى عنه وثب الحبشي إلى قاتله فضربه أيضًا، فقتل، فاختلفت دماؤهما. وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: استسقى موسى عليه السَّلام لقومه فقال: اشربوا يا حمير. فقال الله تعالى له: لا تُسَمِّ عبادي حميرًا (¬1). وإنما سمَّاهم موسى عليه السَّلام حميرًا لِمَا رأى من جزعهم وغفلتهم عن قدرة الله تعالى لأنهم كانوا قد امتنعوا عن مقاتلة الجبارين جُبْنًا عن جهادهم، ولم يثقوا بقدرة الله تعالى وعونه بحيث إن من قدرته وعونه أن ينصر أولياءه وإن كانوا قليلين مستضعفين على أعدائه وإن كانوا كثيرين؛ كما وثق الله تعالى جند طالوت حيث قالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]. بل قالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ ¬
عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 22، 24]. ثم لمَّا دخلوا التِّيه ونَفِدَت أزوادهم، وفرغت مياههم، جزعوا، وخافوا أن يموتوا عطشًا وجوعًا، فلما استسقى لهم موسى عليه السَّلام، فاستجاب الله له، وأمره أن يضرب الحجر بعصاه، وكان فِهْرًا بقدر الكف، فانفجرت منه اثنتا عشرة عَيْنًا بالماء العذب المَعين، وكان موسى عليه السَّلام يطالع القدرة التي بها الماء الكثير من الحجر الصغير، وكانوا هم مشتغلين عن ذلك بالتشوف إلى الماء والعطش إليه، فكانوا والحمير على حدٍّ سواء، فعند ذلك قال لهم موسى عليه السلام: اشربوا يا حمير؛ أي: يا أشباه الحمير، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه للمبالغة، أو سمَّاهم حميرًا ادعاءً للمبالغة، ومثل هذا شائع في الكلام. وقد تقدم أنَّ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال لرجلٍ كلَّم صاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب، فقال له: أما أنت فحمار، وأما صاحبك فلا جمعة له (¬1). وإنما نهى الله تعالى موسى عليه السلام، وقال له: لا تُسَمِّ عبادي حميرًا؛ لأنه كان مُشرِّعًا يُقتدى بأفعاله وأقواله، فربما اقتدى به بعض الجهال في تسمية الإنسان حمارًا، وخاطب بذلك من لا يصلح أن ¬
يُخاطب بمثل هذا الخطاب. والأولى في حق القدوة أن يبعد في أقواله وأفعاله عمَّا يحتمل التأويل، فكان الأليق بمنصبه عليه الصلاة والسلام أن يقول لهم: يا أمثال الحمير، أو: يا إخوان الحمير؛ كما قال الله تعالى في حق أحبار بني إسرائيل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] حين أمرهم أن يأخذوا بما فيها فلم يعلموا بها، فقال النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود حين أنزل الله تعالى عليه فيهم: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60]، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَا إِخْوَانَ القِرَدَةِ". وفيه تورية لطيفة؛ فإنه يصلح أن يُراد به: يا إخوان القردة الممسوخين قردة، وأن يُراد به: يا أمثال القردة كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]؛ أي: أمثالهم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ المُسْتَعَارِ؟ المُحَلِّلُ" (¬1)؛ فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخاطب به مخصوصًا معينًا، ولم يصرح فيه بالتمثيل، بل سمَّى المحلل تيسًا مستعارًا على سبيل المبالغة للتنفير من التحليل. وهذا جائزٌ سائغ -وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقام التشريع - لأنَّ هذا اللفظ لا يتوهم منه إباحة تسمية كل إنسان تيسًا، بل لا يحتمل إلا ¬
تسمية كل محلل تيسًا مستعارًا وقد عرفت الوجه في ذلك، بخلاف قول موسى - صلى الله عليه وسلم - لكافة بني إسرائيل: اشربوا يا حمير. وأيضا، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى سبب إلحاق المحلل بالتيس المستعار، وهو التحليل، بخلاف موسى عليه السلام؛ فإنه لم يُعين سبب تسمية بني إسرائيل حميرًا، ولو بين لهم سبب ذلك لاستفادوا منه التنبه إلى استقباح ما يلحق الإنسان بالحمار، ونفروا عنه كما يتنبه الرجل من هذه الأمة إلى استقباح ما يلحقه بالتيس من التحليل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ المُسْتَعَارِ"، فينفر عن ذلك. ومن هنا يظهر لك أن من سمى إنسانًا كلبًا لاشتماله على الضراوة، والكلب، والجشع لينفر هو عن هذه الأخلاق، أو لينفر عنها غيره، فلا يكون ذلك مكروهًا، بل هو مستحسن كما قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما للمتكلم والإمام يخطب: أما أنت فحمار (¬1)؛ زجرًا له عن التكلم في مثل هذا الوقت، وقد تقدم لهذا نظائر كثيرة. وأما ما رواه عبد الله ابن الإمام أحمد عن صالح بن خالد أنَّه قال: إذا أردت أن تعمل شيئا من الخير فأنزل الناس بمنزلة البقر إلا أنَّك لا تحقرهم (¬2)؛ فإنَّما أراد به ألا تتصور للناس وجودًا في طاعة الله تعالى، فتؤثر رؤيتهم لك في ذلك بفعل أو ترك، أو زيادة أو نقص، أو اجتهاد ¬
أو تقصير، كما لا تؤثر في الطَّاعة رؤيتك للبقر وسائر البهائم شيئًا من ذلك، فأما أنْ ترى لنفسك عليهم فضلًا ومزية فلا، كما أشار إليه بقوله: إلا أنك لا تحقرهم. وعلى هذا المنوال ما سبق عن أبي الدَّرداء وغيره: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس كالأباعر في ذات الله تعالى (¬1). وأمَّا أنك تراهم كالأباعر والأباقر والأحمرة ازدراءً لهم واحتقارًا، وتزكية لنفسك عليهم فهذا حرام. ومن لطائف الأعمش رحمه الله تعالى -ولا يلحق بذلك- ما رواه أبو نعيم عن مندل قال: قلت للأعمش: هل تأذيت بالْمُسَوِّدة قط؟ قال: نعم، كنت في السواد فلقيني رجل منهم عند نهر، فقال: احملني حتى أعبر هذا النهر، قال: فحملته، فلما استوى على ظهري قال: سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كنا له مقرنين. قال: فلما توسطتُ النهر رميتُ به وقلت: اللهم أنزلنا منزلًا مباركًا وأنت خير المنزلين، ثم تركته يتلبط في ثيابه في النهر، وهربت (¬2). فانظر في جفاء هذا السوادي كيف امتهن الأعمش -وإن لم يعرفه- بالتسخير في هذا الأمر المُشِق، ثم لم يكتفِ من جفائه حتى جعله ¬
بمنزلة الدابة التي يُقال عند ركوبها ذلك. لا جرم استجاز الأعمش أن يلقيه في النهر، ومثل ذلك انتصار واقتصاص من غير أن يؤدي هذا الفعل إلى الهلاك. * تَتِمَّةٌ: اعلم أنه لا يستطيع فعل كل شيء حسن، وترك كل شيء قبيح أو مكروه مما ذكرناه في القسم الأول من الكتاب، وفي القسم الثاني إلا نبي، أو صديق، بل لا يتم ذلك للصديقين إلا من عزَّ منهم كأبي بكر رضي الله تعالى عنه. ولقد قال الهاتف: [من مجزوء الرجز] مُحَمَّدُ الْهادِي الَّذِي ... عَلَيْهِ جِبْرِيلٌ هَبَطْ في جواب القائل: مَنِ الَّذِي ما ساءَ قَطٌّ ... وَمَنْ لَهُ الْحُسْنَى فَقَطْ (¬1) فإذا كان كذلك فلم يبق للعبد المتعلق بجناب القُرب من الله تعالى، القاصد إليه -عز وجل- إلا أن يستعين بالله تعالى للترقي إلى هذا المقام بقدر الإمكان، ويتقي الله تعالى بحسب الإمكان، كما علَّمه الله تعالى فيما يقرؤه في كل صلاة أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَقِيْمُوا، وَلَنْ تُحْصُوا" (¬2). ¬
وليحذر من الغفلة عن نفسه حتَّى يترك الخيرات، ويرتكب الزلات خشية أن يُؤخذ على أسوء الأحوال؛ والعياذ بالله سبحانه وتعالى! وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدْخُلُ النَّارَ إِلاَّ شَقِيٌّ". قيل: ومن الشقي؟ قال: "الَّذِيْ لا يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالى، وَلا يَتْرُكُ للهِ مَعْصِيَةً" (¬1). وروى الإمام أحمد عن ثابت البُناني، عن مُطرِّف رحمة الله عليهما قال: إني نظرتُ في بدء هذا الأمر ممن؟ فإذا هو من الله -عز وجل-، ونظرت على من تمامه، فإذا تمامه على الله تعالى، ونظرت ما ملاكه؟ فإذا ملاكه الدعاء (¬2). وقلت في معنى كلام مطرف: [من الخفيف] مِنْكَ يا رَبِّ بَدْءُ كُلِّ جَمِيلٍ ... وَعَلى فَضْلِكَ الكَرِيْمِ تَمامُهْ وَالَّذِي يَسْتَطِيعُ عَبْدُكَ فِيهِ ... لَيْسَ إِلاَّ الدُّعاءُ فَهْوَ خِتامُهْ وَكَفَى بِافْتِقارِ عَبْدِكَ سُؤْلًا ... فَهُوَ وَالذُّلُّ حالُهُ وَمَقامُهْ جُدْ بِتَوْفِيقِهِ إِلَى [كُلِّ] خَيْرٍ ... وَلْيَكُنْ بِالقَبُولِ مِنْكَ خِتامُهْ ¬
فَصْلٌ [في شِرَارِ النَّاسِ] قد تقدم لنا في القسم الأول من الكتاب فصلٌ في خيار الناس، فينبغي أن نذكر هنا في هذا الفصل من ورد النص على أنهم من شرار الناس، أو من شرارهم تحذيرًا من مثل ما سموا لأجله شرارًا؛ ليكون هذا الكتاب كالمبين والمفسر لما أجملته هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} [البينة: 6، 7]. بيَّن في هاتين الآيتين الكريمتين مجموع أمر القسمين من البرية. وبيَّن في الآية الأولى مقام شر الشرار وقدَّمها؛ إشارةً إلى أنَّ من سوى أهل هذا الوصف مرجو له؛ فإن قوله: {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6]؛ أي: البالغون في الشر، المُعْرِقون فيه، المتناهون فيه بسبب الكفر، ومن سواهم خير البرية. إلا أنَّ هؤلاء يتفاوتون في الخيرية؛ فإنَّ الشر إذا حضر في قوم
فالخير في من عداهم لأنَّ الخير والشر ضدان، ولا واسطة بينهما من حيث أصل الاعتقاد؛ إذ هما كفر وإيمان لا غير، فأهل الكفر لا تفاوت بينهم في أصل دخول النار ولا في الخلود فيها، وإنما التفاوت بينهم في العذاب الدائم؛ لا في دوامه، بل في إيلامه، وعمل هؤلاء الذي ظاهره حسن لا عبرة به ولا وزن له. وأهل الإيمان متساوون في أصل التصديق واليقين، وإنما تفاوتهم في الأعمال، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19]؛ فكلما استكثر المؤمن من الأعمال الصَّالحات، وحسَّنها وأحسن فيها، ازداد بذلك إيمانًا مع إيمانه؛ أي: اتضح إيمانه ورسخ يقينه، فينتقل من أصل اليقين إلى عين اليقين وحق اليقين، وأهل الإيمان كلهم على خير وإلى خير. نعم، تنقص أحوالهم بارتكاب الأعمال غير الصَّالحة، والنقصان في الأحوال شر بالنظر إلى الكمال فيها، فمن هنا أطلق اسم الشر، وشر الناس في بعض العبارات على مُرتكبي كثير من المعاصي دون الشرك تنفيرًا منها، ولأنها قد تُوصل مرتكبها بالإصرار عليها، أو بالاستصغار لها إلى حد الشر البالغ والسوء المتناهي. وبهذه الجملة يتضح لك وجه اختلاف إطلاق اسم الشر على نوع من المعاصي تارةً، وعلى نوع آخر منها تارة. ومن شان الفَطِن الْحَذِر أن يتباعد عن كل ما يطلق عليه اسم الشر -وإن قلَّ بالنسبة إلى غيره- لئلا يتناهى فيه فيكون ممن دخل تحت
قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6]. وإذا انتهى به الحذر إلى اجتناب صغير المعاصي وكبيرها، فينبغي أن تسلك به الرغبة مع ذلك سبيل الترقي في الخيرات ليتناهى في الخيرية إلى المقام الذي قدَّر الله تعالى له من المقامات التي بيَّناها وشرحناها في القسم الأول؛ فإنه بالترقي في الأعمال الصالحات في دار الدُّنيا يزداد رضى عنه من الله تعالى، ورضى منه عن الله تعالى؛ فإنَّ الله تعالى يقول بعد أن فتح لخير البرية باب الترقي في الخيرية بذكر عمل الصالحات معطوفًا على الإيمان: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} [البينة: 8]. فانظر كيف أخبر عن جزائهم بأنه جنات، فذكر الجنة بلفظ الجمع إشارة إلى أنَّ لكل واحد منهم جنة، أو أكثر من جنة تليق بعمله، وأضاف الجنات إلى عدن إشارة إلى الخلود؛ إذ العدن الإقامة، ولا يخفى ما بين (عند) و (عدن) من الجناس المحرف، وما أحسنه من جناس تابع مقصود بديع لأجله ذكر لفظ: {عِنْدَ} وهو الإشارة إلى أن هذا الجزاء مقرون بالقرب وحسن التربية؛ فإنه أضاف: {عِنْدَ} الدالة على الحضور إليه باسم الرب مضافًا إليهم. وفي قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} نكتة أخرى، وهي حسن الضمان والتكفل، كما تقول لمن تريد تسكين خاطره عن ماله: حقك عندي، وجزاؤك عندي؛ أي: في قبلي، وأنا المتكفل به.
ثم وصف الجنات بقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، ولم يقل: تجري فيها الأنهار، إشارة إلى أن أنهارها نفع محض، ومتاع صِرْف، ونعيم خالص، لا طغيان لمآبها، ولا خطر ولا محذور فيها. ثم أشار إلى الخلود فيها بعد وصفها بأنها جنات عدن، فقال: {خَالِدِينَ فِيهَا}. ثم أكَّد الخلود فيها بقوله: {أَبَدًا}. وقيد الخلود بقوله: {فِيهَا} إشارة إلى أنهم ليسوا بخارجين منها، بل هم دائمون فيها باقون، ثم أكدَ هذا البقاء والخلود والدوام بذكر سببه، فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وفاقًا لرضاه عنهم، دام رضاه عنهم. ثم ذيَّل على وصفهم، ووصف جزاءهم بعد تمامه بقوله: {ذَلِكَ}؛ أي: ذلك الجزاء الحسن الدائم والرضا {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] من العباد، إشارةً إلى أن العبد لا يتم له الإيمان والعمل الصَّالح، والخيرية ودخول الجنَّة، والفوز بالرضا، بل لا يكون له ذلك إلاَّ بالخوف والخشية؛ كما قال تعالى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] الآيات. وكما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41]؛ أي: له. ثم في قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] مع قوله: {إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] إشارة إلى فضل العلم، وأن هذه السَّعادة لا تتم إلا به، فالعلم وصف الأخيار، والجهل وصف الأشرار، وكل خصلة جميلة فالعلم أوَّلُها، وكل خصلة قبيحة فالجهل أولها، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من العلماء العاملين، ونعوذ بالله أن نكون من الجاهلين. فالجهل منبع كل شر، ثم تتضاعف الشرية على قدر الإغراق في الجهل، فمن ثمَّ حَسُن فيهم قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 22، 23]. قال القاضي ناصر الدين البيضاوي في الآية: عدَّهم من البهائم، ثم جعلهم شرَّها لإبطالهم ما مُيزوا به وفضلوا لأجله (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]: لا يتبعون الحق (¬2). وروى الشيخان، وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: استأذن رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ائْذَنُوْا لَهُ؛ فَبِئْسَ أَخُوْ العَشِيْرَةِ"، فلما دخل أقبل عليه، فلما خرج راجعته، فقال: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ الَّذِي يُكْرَمُ اتَّقَاءَ شَرِّه" (¬3). ¬
وفي رواية: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةَ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ أَكْرَمَهُ النَّاسُ اتَّقَاءَ فُحْشِهِ" (¬1). وفي رواية: فقال: "يَا عَائِشَةُ! مَتىَ عَهِدْتِنيْ فَحَّاشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكُهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّه" (¬2). وفي رواية للترمذي وقال: حسن صحيح: "يَا عَائِشَةُ! إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ" (¬3). ومعنى: من تركه الناس؛ أي: ترك الناس الإنكار عليه. أو هو على ظاهره؛ أي: مَنْ هجره خوفًا من شره أو من فحشه. والأول أليق بسياق سبب الحديث. وروى الطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ يَخَافُ النَّاسُ شَرَّه" (¬4). وروى ابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة" عن أنس رضي الله تعالى ¬
عنه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ يُخَافُ لِسَانُهُ، أَوْ يُخَافُ شَرُّهُ" (¬1). وروى الخطيب في "المتفق والمفترق"، وابن النجار عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنَّ النَّبيَّ قال: "شَرُّ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ مَن اتُّقِيَ مَجْلِسُهُ لِفُحْشِهِ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَجِدُوْنَ النَّاسَ مَعَادِنَ؛ فَخِيَارُهُمْ فيْ الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فيْ الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوْا، وَتَجِدُوْنَ خَيْرَ النَّاسِ فيْ هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيةً قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ، وَتَجِدُوْنَ شَرَّ النَّاسِ يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ اللهِ ذَا الوَجْهَيْنِ؛ الْذِي يَأْتِي هَؤُلاء بِوَجْهٍ وَيَأتِي هَؤُلاء بَوَجْهٍ" (¬3). وهذا داخل في من يُكرم، أو يترك اتقاء شره أو فحشه، ومن يخاف شره، فلا معارضة بين الحديثين. ثم قوله: "شَرُّ الناسِ"؛ أي: في كل زمان، أو من كل قوم؛ فالكفار شرهم ذو الوجهين، والمسلمون شرهم ذو الوجهين. ¬
وذو الوجهين إذا كان كافرًا شر من ذي الوجهين إذا كان مسلمًا، فبذلك ونحوه يرتفع تعارض الأحاديث في مثل ذلك. وروى ابن ماجه، والطَّبراني في "الكبير" من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ". وفي لفظ: "إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ" (¬1). وأخرجه أبو نعيم من حديث أبي هريرة، ولفظه: "مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً مَنْ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ" (¬2). وروى الخِلَعي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في "فوائده" بلفظ: "شَرُّ الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ" (¬3). وروى البخاري في "تاريخه" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُل بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ" (¬4). وروى الطَّبراني في "الأوسط"، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "آخِرُ الكَلامِ في القَدَرِ ¬
لشَرِارِ أُمَّتيْ" (¬1). وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم رضي الله تعالى عنه، والطبراني في "الكبير" عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خِيَارُ أُمَّتيْ الَّذِيْنَ إِذَا رُؤُوْا ذُكِرَ اللهُ، وَشِرَارُ أُمَّتيْ المَشَّاؤُوْنَ بِالنَّمِيْمَةِ، المُفَرِّقُوْنَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، البَاغُوْنَ البُراَءَ الْعَنَتَ" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - بنحوه (¬3). وأخرج من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خِيَارُكُمْ أَحَاسِنكُمْ أَخْلاقًا، المُوَطِّئُوْنَ أَكنَافًا، وَشِرَارُكُمْ الثَرْثَارُوْنَ الْمُتَفَيْهِقُونَ المُتَشَدِّقُوْنَ" (¬4). ¬
والثرثرة: كثرة الكلام وترديده. والثرثار: المهذار. وقال الفراء: فلان يتفيهق في كلامه، وذلك إذا توسع فيه وتقطع؛ قال: وأصله الفهق، وهو الامتلاء، كأنه مَلأَ به فمه (¬1). والمتشدق: الذي يلوي شدقيه؛ أي: جانبي فِيْه للتفصح. وروى ابن أبي الدُّنيا في "ذم النَّميمة"، والبيهقي في "الشعب" عن فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "شِرَارُ أُمَّتي الَّذِيْنَ غُذُّوْا بِالنَّعِيْمِ، الَّذِيْ يَأْكُلُوْنَ ألوَانَ الطَّعَامِ، وَيَلْبَسُوْنَ ألوَانَ الثِّيَابِ، وَيَتَشَدَّقُوْنَ فيْ الْكَلامِ" (¬2). وروى الترمذي من حديث جابر رضي الله تعالى عنه -وحسنه-: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِليَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّيْ فيْ الآخِرَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِليَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي في الآخِرَةِ الثَّرْثَارُوْنَ وَالْمُتَفيهِقونَ المُتَشَدِّقُوْنَ". قالوا: يا رسول الله! قد عَلِمنا الثرثارون والمتشدقون؛ فما المتفيهقون؟ ¬
قال: "المُتكبِّرُوْنَ" (¬1). وهذا الحديث عند الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه بدون هذا التفسير. وزاد فيه: "وَأَبْعَدَكُمْ مِني في الآخِرَةِ أَسْوَؤُكُمْ أَخْلاقًا الثَّرْثَارُوْنَ" ... إلى آخره (¬2). وروى أبو الشيخ في كتاب "التوبيخ" عن العلاء بن الحارث - معضلًا -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الهَمَّازُوْنَ وَاللَّمَّازُوْنَ وَالمَشَّاؤُوْنَ بِالنَّمِيْمَةِ وَالبَاغُوْنَ البُرَآءَ العَنَتَ يَحْشُرُهُمْ اللهُ في وجُوْهِ الكِلابِ" (¬3)؛ أي: في وجوهٍ مثل وجوه الكلاب. وروى الإمام أحمد بسند جيد، عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِشَر عِبَادِ اللهِ؟ الفَظُّ المُسْتَكْبِرُ. أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ عِبَادِ اللهِ؟ الضَّعِيْفُ المُسْتَضْعَفُ ذُوْ الطِّمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ بِهِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَىْ اللهِ لأَبَرَّهُ" (¬4). ¬
وروى البخاري في "تاريخه" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَرُّ النَّاسِ الَّذِيْ يَسْأَلُ بِاللهِ ثُمَّ لا يُعْطَى" (¬1). وروى الترمذي -وقال: حديثٌ حسن، واللفظ له- والنسائي، وابن حبان في "صحيحه" من حديثه رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِ النَّاسِ؟ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فيْ سَبِيْلِ اللهِ. أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالَّذِيْ يَتْلُوْهُ؟ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فيْ خَيْمَةٍ لَهُ يُؤَدِّيْ حَقَّ اللهِ تَعَالىْ فِيْهَا. أَلا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ؟ رَجُلٌ يُسْأَلُ بِاللهِ ثُمَّ لا يُعْطى" (¬2). وروى الطبراني، وغيره بسند ضعيف، من حديثه أيضًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُنبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ ". قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله. ¬
قال: "إِنَّ شِرَارَكُمْ الَّذِيْ يَنْزِلُ وَحْدَهُ وَيجْلِدُ عَبْده، وَيَمْنعُ رِفْدَهُ؛ أفلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله إن شئت. قال: "الَّذِيْنَ لا يَقِيْلُوْنَ عَثْرَةً، وَلا يَغْفِرُوْنَ ذَنْبًا". قال: "أفلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "مَنْ لا يُرْجَىْ خَيْرُهُ، وَلا يُؤْمَنُ شَرُّهُ" (¬1). وروى الإمام أحمد عن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا لِلناسِ فيْ الدُّنْيَا" (¬2). وشدة العذاب شر ما في الآخرة، وهي مترتبة على شدة الشر في الدُّنيا. والأصل في ذلك قسوة القلب الناشئة عن الغفلة عن الله -عز وجل-، وعن ذكره وذكر عظمته، وانتقامه وشدة عقابه. وفي "موطأ مالك" رضي الله تعالى عنه: أنه بَلَغَهُ أنَّ عيسى بن مريم ¬
عليه السلام كان يقول: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم؛ فإنَّ القلب القاسي بعيدٌ من الله، ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد؛ فإنما الناس مُبتلى ومُعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية (¬1). وهذا ثابتٌ في الحديث المرفوع؛ رواه الترمذي وحسنه، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "لا تُكْثِرُوْا الكَلامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ قَسْوَة لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ القَلْبُ القَاسِيْ" (¬2). ولنا في هذا المعنى: [من السريع] اتَّقُوا اللهَ عَلاَ وَلْيَكُنْ ... مِنْكُمْ لَكُمْ عَنْ جَهْلِكُمْ ناهِيَةْ ثُمَّ اذْكُرُوا رَبَّكُمُ وَاتْرُكُوا ... مَا لَمْ يَكُنْ خَيْرًا إِلَى ناحِيَةْ لا تُكْثِرُوا فِي غَيْرِ ذَا قَولَكُمْ ... قُلُوبُكُمْ تَغدُو بِهِ قاسِيَةْ إِنَّ قُلُوبَ النَّاسِ مَهْمَا قَسَتْ ... كانَتْ عَنِ اللهِ علا قاصِيَةْ وَالنَّاسُ ذو عاقِبَةٍ أَوْ ذَوُو ... بَلِيَّةٍ تَظْهَرُ أَوْ خَافِيَةْ أَلا ارْحَمُوا أَهْلَ البَلا كُلَّهُمْ ... ثُمَّ احْمَدُوا اللهَ على العافِيَةْ فَالعَبْدُ بِالرَّحْمَةِ يَرْقى وَبِالـ ... حَمْدِ إِلَى الْمَرْتَبَةِ العَالِيَةْ ¬
وفي الحديث: "ثَلاثُ خِصَالِ تُوْرِثُ القَسْوَةَ فيْ القَلْبِ: حُبُّ الطَّعَامِ، وَحُبُّ النَّوْمِ، وَحُبُّ الرَّاحَةِ". رواه الديلمي عن عائشة رضي الله عنها (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة"، والبيهقي في "الشعب" عن فاطمة رضي الله تعالى عنها: أنَّ أباها - صلى الله عليه وسلم - قال: "شِرَارُ أُمَّتيْ الَّذِيْنَ غُذُّوْا بِالنَّعِيْمِ، الَّذِيْنَ يَاْكُلُوْنَ ألْوَانَ الطَّعَامِ، وَيَلْبسُوْنَ ألوَانَ الثِّيَابِ، وَتتَشَدَّقُوْنَ فيْ الْكَلامِ" (¬2). ولعل معناه: شرار كل نوع من الأمة الذين هذا حالهم من ذلك النوع، أو: الذين ليس لهم إلا ذلك بحيث لَهُوا به عمَّا يُراد منهم. وروى الحاكم وصححه -وتُعُقِّبَ تصحيحه- عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: "شرَارُ أُمَّتيْ الَّذِيْنَ ولِدُوْا فيْ النَّعِيْمِ، وَغُذُّوْا يَأْكُلُوْنَ مِنَ الطَّعَامِ ألْوَانًا، وَيَلْبسُوْنَ مِنَ الثِّيَابِ ألوَانًا، وَيَرْكَبُوْنَ مِنَ الدَّوَابِّ ألوَانًا، يَتَشَدَّقُوْنَ فيْ الْكَلامِ" (¬3). وروى الطَّبراني في "الكبير"، و"الأوسط" بسند ضعيف، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيَكُوْنُ رِجَالٌ مِنْ ¬
أمَّتيْ يَأكلوْن ألوَان الطَّعَامِ، وَيَشرَبُوْن ألْوَانَ الشَّرَابِ، وَيَلبَسُوْن ألوَانَ الثِّيَابِ، وَيَتَشَدَّقُوْنَ فيْ الْكَلامِ، فَأُوْلَئِكَ شِرَارُ أُمَّتيْ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححه، عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنُ عَمَلُهُ، وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ" (¬2). وروى مسلم عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِيْنَ تُحِبُّوْنهمْ ويُحِبُّوْنكُمْ، وَتُصَلُّوْنَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّوْنَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِيْنَ تُبْغِضُوْنهمْ وَيُبْغِضُوْنكُمْ". قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: "لا؛ مَا أَقَامُوْا فِيْكُمُ الصَّلاةَ، وَإذَا رَأَيْتُمْ مِنْ ولاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُوْنَهُ فَاكْرَهُوْا عَمَلَهُ، وَلا تَنْزِعُوْا يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ" (¬3). وروى الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، والطَّبراني في "الكبير" عن عائذ بن عمرو المزني رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ الرِّعَاءِ الْحُطَمةُ" (¬4). ¬
وهو في "صحيح مسلم"، ولفظه: "إِن شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمةُ" (¬1). وهو من الأمثال التي تكلم بها النبي - صلى الله عليه وسلم -. والحطمة -على وزن الهُمزة-: وهو الذي يَحْطِم الماشية؛ أي: يكسرها ويضربها، إذا ساقها عنَّف بها، وإذا أَسمَامها قصَّر في إسامتها، يضرب في سوء الملكة والسياسة؛ قاله الزمخشري (¬2). وفي "الصحاح": رجل حطم، وحطمة أيضًا: قليل الرحمة للماشية، يَهْشِم بعضها ببعض (¬3). وفي "القاموس": إنه الظلوم للماشية (¬4). وروى الديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "شِرَارُ أُمتيْ مَنْ يَلي القَضَاء، إِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لَمْ يُشَاوِرْ، وَإِنْ أَصَابَ بَطِرَ، وَإِنْ غَضِبَ عَنَّفَ، وَكَاتِبُ السُّوْءِ كَالْعَامِلِ لَه" (¬5). وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ القَاضِيْ الَّذِيْ يُخَالِفُ إِلىْ غَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ". ¬
وروى الطبراني في "الصغير"، والبيهقي في "الشعب" عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ عَالِم لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ" (¬1). وروى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "شِرَارُ أُمَّتيْ العُلَمَاءُ الَّذِيْنَ يَأْتُوْنَ الأُمَرَاءَ" (¬2)؛ أي: لغير ضرورة. وروى أبو بكر بن لال عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَبْغَضَ الخَلْقِ إِلىْ اللهِ العَالِمُ يَزُوْرُ العُمَّالَ" (¬3). وروى ابن عبد ربه في "عقده": أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ الناسِ؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "العُلَمَاءُ إِذَا فَسدُوْا" (¬4). والمعروف أنه من كلام سفيان؛ قيل له: أي الناس شر؟ ¬
قال: اللهم غُفْرًا! العلماء إذا فسدوا. رواه أبو نعيم (¬1). وروى البزار عن معاذ رضي الله تعالى عنه، وصححه أبو نعيم عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شِرَارُ النَّاسِ شِرَارُ العُلَمَاءِ فيْ النَّاسِ" (¬2). وروى ابن عساكر عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَشَدُّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ أَمْكَنَهُ العِلْمُ فيْ الدُّنْيَا فَلَمْ يَطْلُبْهُ، وَرَجُلٌ عَلِمَ عِلْمَا فَانتفَعَ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ دُوْنهُ" (¬3). وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "الأربعين"، والديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ يُرِيْ النَّاسَ أَنَّ فِيْهِ خَيْرًا وَلا خَيْرَ فِيْهِ" (¬4). وروى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: قيل للقمان: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يُبالي أن يراه الناس مُسِيْئًا (¬5). وروى الإمام أحمد عن أبي ذر - رضي الله عنه -، وأبو يعلى عن عطية بن بسر ¬
رضي الله تعالى عنه، وهو والطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ". وفي رواية أبي ذر: "وَأَرَاذِلُ مَوْتَاكُمْ عُزَّابُكُمْ" (¬1). زاد ابن عدي في حديث أبي هريرة: "رَكْعَتَانِ مِنْ مُتَأَهِّلٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِيْنَ رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِ مُتَأَهِّلٍ" (¬2). ولعل الشَّرِّية هنا باعتبار مقابلة الأعزب بالمتأهل. أو المراد بالعُزاب: الذين يؤثرون العزوبة رغبة عن السُّنة التي هي النكاح. أو هو في غير الأزمنة المتأخرة التي تحل فيها العزوبة حين يكون هلاك الرجل على يدي أهله. وروى الطَّبراني في "الأوسط" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ النَّاسِ الضَّيِّقُ عَلَىْ أَهْلِهِ". قالوا: يا رسول الله! وكيف يكون ضيقًا على أهله؟ ¬
قال: "الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ خَشَعَتِ امْرَأتهُ، وَهَرَبَ وَلَدُهُ وَفَرَّ، فَإِذَا خَرَجَ ضَحِكَتِ امْرَأَتُهُ وَاسْتَأْنسَ أَهْلُ بَيْتِهِ" (¬1). ومن شواهده حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ". صححه الترمذي (¬2). وروى أبو القاسم البغوي، والبيهقي في "السُّنن" عن أبي أذينة الصدفي من أهل مصر -قال البغوي: ولا أدري له صحبة أم لا - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ نِسَائِكُمْ الْوَلُوْدُ الْوَدُوْدُ، وَالمُؤَاتِيَةُ المُوَاسِيَةُ، إِذَا اتَّقَيْنَ اللهَ، وَشَرُّ نِسَائِكُمْ المُتَبَرِّجَاتُ المُتَخَيِّلاتُ، وَهُنَّ المُنَافِقَاتُ، لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلَّا مثلُ الغُرَابِ الأَعْصَمِ" (¬3). وروى الإمام أحمد، والنسائي عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: كنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَرِّ الظَّهْران، فإذا بغِربان كثيرة فيهن غراب أعصم أحمر المنقار، فقال: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ النّسَاءِ إِلاَّ مثلُ هَذَا الْغُرَابِ". ¬
قال العراقي: وإسناده صحيح (¬1). قال في "الصحاح": والغراب الأعصم: الذي في جناحه ريشة بيضاء، ويقال هذا كقولهم: الأبيض العقوق، وبيض الأنوق لكل شيءٍ يَعِزُّ وجودُه (¬2). وذكر في "القاموس" معنى آخر في الغراب الأعصم: أنه الأحمر الرجلين والمنقار (¬3). وروى أبو يعلى، والطَّبراني في "الكبير" -وضعف - عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ شَبَابِكُمْ مَنْ تَشَبَّهَ بِكُهُوْلكُمْ، وَشَرُّ كُهُوْلكُمْ مَنْ تَشَبَّهَ بِشَبَابِكُمْ" (¬4)، وتقدم بيانه. وروى ابن عدي في "الكامل" عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "شِرَارُ أُمَّتيْ أَجْرَؤُهُمْ عَلَىْ صَحَابَتيْ" (¬5). وروى أبو نعيم في كتاب "حرمة المساجد" عن ابن عباس رضي ¬
الله تعالى عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَحَبُّ البِقَاعِ إِلىْ اللهِ المَسَاجِدُ، وَأَحَبُّ أَهْلِهَا إِلَيْهِ أَوَّلُهُمْ دُخُوْلًا وَآخِرُهُمْ خُرُوْجًا" (¬1). وذكر الغزالي في "الإحياء" بلفظ: خير، وشر (¬2). والحديث معروف من رواية ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بلفظ: "خَيْرُ البِقَاعِ المَسَاجِدُ، وَشَرُّ البِقَاعِ الأَسْوَاقُ". صححه ابن حبان، والحاكم (¬3). وتقدم في التشبه بالشيطان: أنه يكون مع أول داخل إلى السوق، وآخر خارج منها، وكفى بذلك شرًّا. وروى العقيلي، والديلمي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَبْغَضُ الْعِبَادِ إِلىْ اللهِ مَنْ كَانَ ثَوْبَاهُ خَيْرًا مِنْ عَمَلِهِ؛ أَنْ يَكُوْنَ ثِيَابُهُ ثِيَابَ الأَنْبِيَاءِ، وَعَمَلُهُ عَمَلَ الجَبَّارِيْنَ" (¬4). وروى ابن أبي الدُّنيا في "الإخلاص" عن أبي قِلابة -مرسلًا- ¬
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلانِ: رَجُلٌ لا يُراقِبُ اللهَ فيْ السِّرِ، وَرَجُلٌ يُجَالِسُ الأُمَرَاءَ كُلَّمَا قَالُوْا شَيْئًا قَالَ: صَدَقَ الأَمِيْرُ". وروى الشيخان، وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلىْ اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ" (¬1). وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْغَضُ النَّاسِ إِلىْ اللهِ ثَلاثَةٌ: مُلْحِدٌ فيْ الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فيْ الإِسْلامِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبٌ دَمَ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهْرِيْقَ دَمَهُ" (¬2). وروى مسلم عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِيْ إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِيْ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا" (¬3). وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُوْنَ" (¬4). وروى أبو نعيم عن وهب بن منبه: أن موسى عليه السلام قال: ¬
يا رب! أي عبادك أشقى؟ قال: من لا تنفعه موعظة، ولا يذكرني إذا خلا (¬1). وفي كتاب الله تعالى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} [الليل: 15 - 16]. وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي عثمان النَّهْدي -مرسلًا- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَبْغَضَ عِبَادِ اللهِ إِلىْ اللهِ العِفْرِيْتُ النِّفْرِيْتُ الَّذِيْ لَمْ يَرْزَأْ فِي مَالٍ وَلا وَلَدٍ" (¬2). وروى أبو الشيخ، والديلمي عن ثابت بن ثوبان، عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شِرَارُ أُمَّتيْ الْوحْدَانُ المُعْجَبُ بِدِيْنِهِ، المُرَائِيْ بِعَمَلِهِ، المُخَاصِمُ بِحُجَّتِهِ، قَلِيْلُ الرِّيَاءِ شِرْكٌ" (¬3). والوحدان -بضم الواو-: جمع واحد؛ أي: المنفردون عن الناس المباينون لهم. ثم بيَّن أوصافهم بوصف واحد منهم فقال: المعجب بدينه ... إلى آخره. وروى أبو نعيم عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: شر ¬
الناس العيابون (¬1)؛ [أي]: المكثرون من ذكر معايب الناس، المفتشون عن عيوبهم. وروى الديلمي عن عائشة رضي الله عنها. قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شِرَارُكُمْ أَسْوَأُكُمْ خُلُقًا، وَأَشَدُّكُمْ مُؤْنَةً، وَأثقَلُكُمْ عَلَىْ أَهْلِهِ" (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شِرَارُ النَّاسِ الَّذِيْنَ يَشْرُوْنَ النَّاسَ وَيَبِيْعُوْنهمْ" (¬3). ولعل معناه: شرار الناس حرفةً وكسبًا. وكذلك ما رواه الديلمي أيضًا عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ أُمَّتيْ الصَّائِغُوْنَ وَالصَّيَّاغُوْنَ" (¬4). أي: شر أمتي حرفةً. والمعنى فيه وفيما قبله: إنَّ من كان نَخَّاسًا كان قليل الحياء والشفقة قاسي القلب، ولا يكاد يطيب له كسب، وإن الصائغ والصياغ يُعاشران النساء وسفلة الناس، ويزخرفان أمتعة الدنيا للناس ويدعوانها، وهما مع ذلك يعتادان الكذب، كما في حديث أبي هريرة ¬
رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَكْذَبُ النَّاسِ الصَّيَّاغُوْنَ وَالصَّوَّاغُوْنَ". رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، وسنده مضطرب (¬1). وروى إبراهيم الحربي في "غريبه" عن أبي رافع الصائغ قال: كان عمر يمازحني فيقول: أكذب الناس الصواغ؛ يقول: اليوم وغدًا (¬2). ولعل معنى: أكذب الناس: أقربهم إلى الكذب. وروى الدارقطني في "الأفراد"، وأبو نعيم، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ بَعَثَني مَلْحَمَةً وَمَرْحَمَةً، وَلَمْ يَبْعَثْني تَاجِرًا وَلا زَرَّاعًا، وَإنَّ شَرَّ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ التُّجَّارُ وَالزَّرَّاعُوْنَ إِلاَّ مَنْ شَحَّ عَلَىْ دِيْنِهِ" (¬3). والمعنى في ذلك: أنَّ هذين الصنفين من الناس شغلهم تجارتهم وزراعتهم عن الطاعة التي هي جِماع الخير؛ فهم إذا استغرقتهم صناعتهم وحرفتهم عن الطاعة - كما هو دأب الغالب منهم - شر الناس، لا ينقذهم من هذه الشرِّية إلا الشح على الدين، فإذا شحوا ¬
على دينهم فلم تشغلهم حالهم عن الواجبات والمفروضات، ولا وقعت بهم على حرام ولا معصية، كانوا من خيار الناس. وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرِّكُمْ؟ خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَىْ خَيْرُهُ، ويؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لا يُرْجَىْ خَيْرُهُ، وَلا يُؤْمَنُ شَرُّهُ" (¬1). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرَ النَّاسِ وَشَرِّ النَّاسِ؟ إِنَّ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ رَجُلًا حَمَلَ فيْ سَبِيْلِ اللهِ -عز وجل- عَلَىْ ظَهْرِ فَرَسِهِ، أَوْ عَلَىْ ظَهْرِ بَعِيْرِهِ أَوْ عَلَىْ قَدَمَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهِ المَوْتُ، وَإِنَّ من شَرِّ الناسِ رَجُلًا فَاجِرًا جَرِيْئًا، يَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ لا يَرْعَوِيْ إِلىْ شَيْءٍ مِنْهُ" (¬2). وروى ابن عساكر عن معاذ رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أُنبِّئُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ؟ مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ، وَمَنَعَ رِفْدَهُ، وَسَافَرَ وَحْدَهُ، وَضَرَبَ عَبْدَهُ. أَلا أُنبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ -أَيْ: فيْ غَيْرِ ذَاتِ اللهِ تَعَالىْ- وَيُبْغِضُوْنَهُ. ¬
أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ يُخْشَىْ شَرُّهُ وَلا يُرْجَىْ خَيْرُهُ. أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِ. أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا بِالدِّيْنِ" (¬1). وروى الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شِرَارُ النَّاسِ فَاسِقٌ قَرَأَ كِتَابَ اللهِ وَتَفَقَّهَ فيْ دِيْنِ اللهِ، ثُمَّ بَذَلَ نَفْسَهُ لِفَاجِرٍ، إِذَا نَشَطَ تَفَكَّهَ بِقِرَاءَتِهِ وَمُحَادَثَتِهِ، فَيَطْبَعُ اللهُ عَلَىْ قَلْبِ القَائِلِ وَالمُسْتَمعِ". وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ النَّاسِ ثَلاثَةٌ: مُتكَبِّرٌ عَلَىْ وَالِدَيْهِ يُحَقرُهُمَا، وَرَجُلٌ سَعَىْ فيْ فَسَادٍ بَيْنَ النَّاسِ بِالكَذِبِ حَتَّى يَتَبَاغَضُوْا أَوْ يَتَبَاعَدُوْا، وَرَجُلٌ سَعَىْ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ بِالكَذِبِ حَتَّى يغيِّرَهُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ الحَقِّ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَخْلُفُهُ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِهِ". وروى تمَّام في "جزءٍ من حديثه" عن علي رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شِرَارُ أُمَّتيْ أَولُ مَنْ يُسَاقُ إِلىْ النَّارِ الأَقْمَاعُ مِنْ أُمَّتيْ، إِذَا أَكَلُوْا لَمْ يَشْبَعُوْا، وَإِذَا جَمَعُوْا لَمْ يَسْتَغْنُوْا". والأقماع في الأصل: جمع قَمع -بفتح أوله وإسكان ثانيه، وكسر أوله وإسكان ثانيه وفتحه-: ما يوضع في فم الإناء، ينصب فيه الدُّهن وغيره. ¬
فشبه به الذين لا ينتفعون في الآخرة بما يجمعون في الدنيا، كأن ما يأكلونه ويجمعونه يمر بهم مجتازًا غير ثابت النفع لهم، ولا باقي عندهم، كما يمرُّ الشراب والدهن بالقمع اجتيازًا؛ ذكره صاحب "النهاية"، وغيره (¬1). وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ويلٌ لأَقْمَاعِ الْقَوْل" (¬2): شبه أسماع الذين يسمعون القول ولا يَعُونه ولا يعملون به بالأقماع التي لا تعي شيئًا مما مرَّ بها ولا يبقى فيها. ويحتمل أن يراد بالأقماع في الحديث: من أهل البطالات الذين لا همَّ لهم إلاَّ في ملْء بطونهم وأكياسهم، وتفريغها من غير فائدة، والذين لا همَّ لهم إلا سماع أخبار الناس من قوم، وإلقاؤها إلى آخرين (¬3). وروى عبد الرزاق عن علي رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مِنْ شِرَارِ أُمَّتيْ مَنْ يَتَّخِذُ القُبُوْرَ مَسَاجِدَ" (¬4). ¬
وروى أبو نعيم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: ما لي أراكم تَحْرِصُون على ما كفل لكم به، وتضيعون ما وكلتم به؟ لأَنَا أعلم بشراركم من البيطار بالخيل؛ هم الذين لا يأتون الصلاة إلا دبرًا، ولا يسمعون إلا هُجْرًا، ولا يُعتق محرروهم (¬1). وعن معاذ رضي الله تعالى عنه: تصديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يطوف، فقلت: يا رسول الله! أرنا شرَّ الناس. فقال: "سَلُوْا عَنِ الخَيْرِ، وَلا تَسْألوْا عَنِ الشَّرِّ؛ شِرَارُ النَّاسِ شِرَارُ الْعُلَمَاءِ فيْ النَّاسِ". وقد تقدم من حديث جابر (¬2). والمعنى: أن العلماء إذا كانوا شرارًا كانوا شرًا من الجهلاء إذا كانوا شرارًا؛ لأن شرار الجهلاء لا وازع لهم من علم يمنعهم من ارتكاب الشر، والعالم له وازع من العلم، فإذا ارتكب الشر مع الوازع لم يكن له من العذر في ذلك صغير ولا كبير. وروى الدينوري في "المجالسة" عن الشعبي قال: شرار أهل كل دين علماؤهم غير المسلمين (¬3). وهذا يناقضه الحديث المذكور؛ فإنه عام ولا يصلح لحمل ¬
الحديث عليه إلا إن ثبت هذا في الحديث المرفوع. وروى الشافعي، والبيهقي في "المعرفة" عن ابن أبي ذئب رحمه الله تعالى -معضلًا - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شِرَارُ قُرَيْشٍ خَيْرُ شِرَارِ النَّاسِ" (¬1). وليس المراد بالشرار في الحديث من لا خير فيه أصلًا، بل المراد من غلب عليهم الشر حتى سُمُّوا أشرارًا وشرارًا وإن كان فيهم خير. ومحصل معنى الحديث: أنَّ قريشًا أقرب من غيرهم إلى الخير حتى شرارهم. وروى الطبراني في "الأوسط" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ قَتِيْلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، أَحَدُهُمَا يَطْلُبُ المُلْكَ" (¬2). أي: واحد منها يطلب الملك، ويقصد حصوله بالمقاتلة لفساد نيته. وهو محمول على أن الصفين مسلمون لا يقاتلون لإعلاء كلمة الدين، بل لطلب الملك، فمن قتل منهم على هذه النية فهو شر القتلى. ¬
وروى أبو نعيم عن أبي رافع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَرُّ الرَّقيْقِ الزِّنْجُ؛ إِنْ شَبِعُوْا زَنَوْا، وَإِنْ جَاعُوْا سَرَقُوْا" (¬1). واعلم أن شَرِّية ابن آدم ليست من حيث الأصل والنسب؛ فإن أصله كريم ونسبه طيب، وإنما تكون شريته من حيث اتصافه بالشر خلقًا أو عملًا أو قولًا، فينبغي له أن يتجنب شرار الأخلاق، والأعمال والأقوال؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: "إِنمَّا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُمِ، وَالحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوْقَهُ" (¬2)، فإنما يتصف بالشر أهله والشر للشر خلق. وقد روى البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود بسند جيد، وآخرون عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَرُّ مَا فيْ الرَّجُلِ شُحٌّ مُطَاعٌ، وَجُبْن خَالِعٌ" (¬3). وروى الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي عن رافع بن خَديج رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ الْكَسْبِ مَهْرُ الْبَغِي وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَكَسْبُ الحَجَّامِ" (¬4). ¬
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَليْمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيْهَا، وَيُدْعَىْ إِليْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لا يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَىْ اللهَ وَرَسُوْلَهُ" (¬1). وروى الطَّبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَليْمَةِ، يُدْعَىْ إِلَيْهِ الشَّبْعَانُ، وَيُحْبَسُ عَنْهُ الجَائِعُ" (¬2). وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شَرُّ المَالِ فيْ آخِرِ الزَّمَانِ المَمَالِيْكُ" (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَرُّ البُيُوْتِ الحَمَّامُ، تَعْلُوْ فِيْهِ الأَصْوَاتُ، وَتُكْشَفُ فِيْهِ الْعَوْرَاتُ، فَمَنْ دَخَلَهُ لا يَدْخُلْ إِلاَّ مُسْتَتِرًا" (¬4). ¬
وروى البخاري في "الأدب المفرد"، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ بَيْتٍ فيْ المُسْلِمِيْنَ بَيْتٌ فِيْهِ يَتِيْمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتِ فيْ المُسْلِمِيْنَ بَيْتٌ فِيْهِ يَتِيْمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ، أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيْمِ فيْ الجَنَّةِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ" (¬1). وروى الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَمَّا بَعْدُ! فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيْثِ كِتَابُ اللهِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدِ، وَشَرُّ الأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا"، الحديث (¬2). وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححه، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث: "أَلا إِنَّ خَيْرَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ بَطِيْءَ الْغَضَبِ سَرِيْعَ الرضَا، وَشَرُّ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ سَرِيْعَ الْغَضَبِ بَطِيْءَ الرِّضَا، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ بَطِيْءَ الْغَضَبِ بَطِيْءَ الْفَيْءِ، وَسَرِيْعَ الْغَضَبِ بَطِيْءَ الْفَيْءِ فَإِنَّهَا بهَا، أَلا إِنَّ خَيْرَ التُّجَّارِ مَنْ كَانَ حَسَنَ الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ، وَشَرُّ التُّجَارِ مَنْ كَانَ سَيِّءَ الْقَضَاءِ سَيِّءَ الطَّلَبِ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ حَسَنَ الْقَضَاءِ سَيِّءَ الطَّلَبِ أَوْ كَانَ سَيِّءَ ¬
الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ فَإِنَّهَا بهَا" (¬1). وروى الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الشعب" بسند ضعيف، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَسْبُ المُؤْمِنِ مِنَ الشَّرِّ إِلاَّ مَنْ عَصَمَهُ اللهِ أَنْ يُشِيْرَ إِلَيْهِ النَّاسُ بِالأَصَابعِ فيْ دِيْنِهِ وَدُنْيَاه" (¬2). وذكره في "الإحياء" عن جابر، ولا يُعرف من حديثه، كما قال العراقي (¬3). ورواه البيهقي من حديث أنس - رضي الله عنه -، ولفظه: "حَسْبُ امْرِئٍ مَنَ الشَّرِّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالأَصَابعِ" (¬4)، مُقْتَصِرًا عَلَىْ ذَلِكَ. وحديثه في "مسلم" بلفظ: "كَفَىْ بِالمَرْءِ إِثْمًا" (¬5). ¬
ورواه الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن مرسلًا، ولفظه: "كَفَىْ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الشَرِّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالأَصَابعِ إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللهُ وَرَحِمَ" (¬1). وذلك أنه إذا أُشير إليه وعول عليه رأى لنفسه مزية وفضلًا، ومتى رأى فضل نفسه ومزيتها عَمِيَ عن معايبها فلم يجتنبها، ولم يحذر من غوائل شهوات. ومن هنا مُدِحَ اتهامُ الإنسان لنفسه وظنُّه الشرَّ بها. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى: أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: ائتوني بخيركم رجلًا، فأتوه برجل؛ قال: أنت خير بني إسرائيل؟ ¬
قال: كذلك يزعمون. قال: اذهب فائتني بشرهم. قال: فذهب، فجاء وليس معه أحد، فقال: جئني بشرهم؟ قال: أنا ما أعلم من أحدٍ منهم ما أعلم من نفسي. قال: أنت خيرهم (¬1). ومن هنا لمَّا سُئِلَ أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى: متى يكون الرجل متواضعًا؟ قال: إذا لم يَرَ لنفسه مقاما ولا حالًا، ولا يرى أنَّ في الخلق من هو شرٌ منه (¬2). وسُئل يوسف بن أسباط رحمه الله تعالى عن التواضع، فقال: أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدًا إلا رأيته خيرًا منك (¬3). وسُئِل سفيان الثوري، أو عبد الله بن المبارك: متى يكون الرجل متكبرًا؟ قال: متى رأى أن في الناس من هو شرٌ منه، فهو متكبر (¬4). ووجه ذلك: أنه من ذَنْبِه وعَيبِ نفسِه على يقين، وهو من عيب ¬
غيره على ظن وتخمين؛ كما أشار إلى ذلك صاحب موسى عليه السلام. وروى الترمذي، وابن حبان، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ وَقَاهُ اللهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الجَنَّةَ" (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ وقِيَ شَرَّ لقلقهِ وَقبقبهِ وَذبذبهِ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَةُ" (¬2). اللقلق: اللسان. والقبقب: البطن. والذبدب: الذكر. وروى الإمام أحمد -ورواته يحتج بهم في "الصحيح" - عن حميد بن عبد الرحمن رحمه الله تعالى، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رجلٌ: يا رسول الله! أوصني. قال: "لاَ تَغْضَبْ". قال: ففكرت حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال، فإذا الغضب يجمع ¬
الشر كله (¬1). وروى الحاكم وصححه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "اجْتَنِبُوْا الخَمْرَ؛ فَإِنَّها مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ" (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال في كلامٍ له: وشر العمى عمى القلب، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم (¬3). ويروى مرفوعاً من حديث عقبة بن عامر، وأبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنهما (¬4). واعلم أن القول الجامع في هذا الباب، والحكمة البالغة قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. ويذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُسمي هذه الآية: "الجامعة الفاذَّة". أخرجه عبد بن حميد عن قتادة رحمه الله تعالى (¬5)، وشاهده في "الصحيح" (¬6). ¬
وروى الإمامان عبد الله بن المبارك في "الزهد"، وأحمد، والنسائي، والحاكم وصححه، عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أو جده: أنه قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسمعه يقرأ هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ} ... إلى آخره، فقال: حسبي حسبي، لا أُبالي أن أسمع غيرها. وفي رواية: أن لا أسمع من القرآن غيرها (¬1). وروى عبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم - دفع رجلاً إلى رجلٍ يعلمه، فعلمه حتى بلغ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} فقال: حسبي. فقال الرجل: يا رسول الله! أرأيت الرجل الذي أمرتني أن أُعلمه لمَّا بلغ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} قال: حسبي. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دَعْهُ؛ فَقَدْ فَقُهَ" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وغيره عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه قال: لولا ثلاث لأحببتُ أن لا أبقى في الدنيا: وضعي وجهي للسجود لخالقي في اختلاف الليل والنهار تقدمةً لحياتي، وظمأ الهواجر، ومقاعدة أقوام ينتقون الكلام كما تُنتقى الفاكهة. ¬
وتمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه في مثقال ذرة، حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً حتى يكون حاجزاً بينه وبين الحرام؛ إنَّ الله قد بين للناس الذي هو مصيرهم إليه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]؛ فلا تحقرن شيئاً من الشر أن تتقيه، ولا شيئاً من الشر أن تفعله (¬1). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن شدَّاد بن أوس رضي الله تعالى عنه: أنه خطب الناس، فحمد الله أثنى عليه، وقال: يا أيُّها الناس! ألا إنَّ الدنيا عَرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، والآخرة أجلٌ مستأخر، يقضي فيه ملكٌ قادر. ألا وإنَّ الخير بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر بحذافيره في النار. ألا واعلموا أنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره (¬2). وروى المفسرون، والطَّبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الشُّعب" عن أنس -رضي الله عنه- قال: بينما أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يأكل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ نزل عليه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا ¬
يَرَهُ} الآية، فرفع أبو بكر يده، وقال: يا رسول الله! لراءٍ ما عملت من مثقال ذرة من شر. فقال: "يَا أَبَا بَكْر! أَرَأَيْتَ مَا تَرَىْ فيْ الدُّنْيَا ممَّا تَكْرَهُ فَبِمَثَاقِيْلِ ذَرِّ الشَّرِّ، وَيُدَّخَرُ لَكَ مَثَاقِيْلُ ذَرِّ الخَيْرِ حَتَّى تُوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬1). ورواه إسحاق بن راهويه، والحاكم عن أبي أسماء قال: بينما أبو بكر يتغدى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا نزلت هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ} إلى آخره، فأمسك أبو بكر، وقال: يا رسول الله! كل ما عملنا من سوء رأيناه؟ فقال: "ما تَرَوْنَ مِمَّا تَكْرَهُونَ فَذاكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ، ويؤَخَّرُ الْخَيْرُ لأَهْلِهِ فِي الآخِرَةِ" (¬2). * تَنْبِيهٌ: ينبغي للعبد أن يعتزل أهل الشر ويعزل شره عن أهل الخير، ولا يشارَّ أهل الشر، بل يدفع بالتي هي أحسن، ويعفو أو ينتقم من غير مجاوزة، وقد سبق الحديث: "وَمَنْ يَتَوَقَّى الشَّرَّ يُوقَهُ" (¬3). وروى ابن عساكر عن أنس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِيَّاكَ وَقَرِينَ ¬
السُّوءِ؛ فَإِنَّكً بِهِ تُعْرَفُ" (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "المداراة" عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِيَّاكُمْ وَمُشارَّةَ النَّاسِ؛ فَإِنَّها تَدْفِنُ الغُرَّةَ، وَتُظْهِرُ الْعَوْرَةَ" (¬2). وروى الشيخان، وغيرهما عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: "مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فيْ سَبِيْلِ اللهِ". قال: ثمَّ من؟ قال: "ثُمَّ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فيْ شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ، ويدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ". وفي رواية: "يَتَّقِي اللهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ" (¬3). وما أحسن قولَ من قال: [من مجزوء الخفيف] يا خَلِيلَيَّ عَدِّيا ... عَنْ حَدِيثِ الْمَكارِمِ مَنْ كَفى النَّاسَ شَرَّهُ ... كانَ فِي جُودِ حاتِمِ ¬
وقلتُ في هذا الباب: [من مجزوء الرمل] افْعَلِ الْخَيْرَ يَسُرُّكْ ... وَاكْفِ كُلَّ النَّاسِ شَرَّكْ إِنَّ ذا يَجْلُو لَكَ الْفِكْـ ... ــــــــــــــــــرَ وَيُخْلِي لَكَ بِرَّكْ وَاحْتَسِبْ بِاللهِ تُكْفَى الشَّـ ... ـــــــــــــــــرَّ حَتَى لا يَضُرَّكْ اسْمَعِ النُّصْحَ وَلا تُصْغـ ... ــــــــــــغِ إِلَى مَنْ كان غَرَّكْ إِنَّ مَنْ حَرَّكَ شَرًّا ... ذُمَّ ما قَدْ كانَ حَرَّكْ مَنْ يُثِرْ مِنْكَ بِما قا ... لَ لَمَّا غاظَ مقرَّكْ فَهْوَ ما رامَ لَكَ الْخَيْرَ ... وَلا بِالنُّصْحِ بَرَّكْ رُبَّ ما قَلَّ مِنَ الشَّرِّ ... إِلَى الأَكْثَرِ جَرَّكْ رُبَّما قُلْتَ لِمَا اسْتَحْـ ... ـــــــــــــــــلَيْتَ ما كانَ أَمَرَّكْ رُبَّ فِعْلٍ كُنْتَ تَرْضَى ... تَرْكَهُ قَدْ كانَ أَبْرَكْ رُبَّما كانَ مِنَ القَوْلِ ... الَّذي قَدْ خَفَّ معرَّكْ رُبَّ ذِي صَمْتٍ لِما شا ... ءَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَدْرَكْ إِنَّ خُبْرَ الندبِ يُجدِيـ ... ـــــــــــــكَ وَإِنْ خالَفَ خُبْرَكْ وَالتَّأنِّى بِكَ أَوْلَى ... بِكَ أَنْ تُحْكِمَ أَمْرَكْ عَمْرَكَ اللهَ اسْتَمِعْ لِي ... فَعَسى تُحْمَدُ عَمْرَكْ
* تَتِمَّةٌ: تقدم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوْقَهُ" (¬1). هذا التوقي - وإن كنا مأمورين به - فإنه لا يكون إلا بتوفيق الله وإعاذته إيانا من الشر. ثم جاءت الاستعاذة من الشر وذوات الشر في كتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وكفاك إن كنت مكتفياً السورتان المعوذتان. روى النسائي عن ابن عابس الجهني رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يَا ابْنَ عَابِسٍ! أَلا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلَ مَا تَعَوَّذَ بِهِ المُتَعَوِّذُوْنَ؟ ". قلت: بلى يا رسول الله. قال: " {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]؛ هُمَا المُعَوِّذَتَان" (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا سَأَلَ سَائِلٌ وَلا اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيْذٌ بِمِثْلِهِمَا" (¬3)؛ يعني: المعوذتين. ¬
وروى الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم وصححه، عن أبي ذر، والإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي ذر رضي الله تعالى عنه: "يَا أَبَا ذَرٍّ! تَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ شَرِّ شَيَاطِيْنِ الإِنْسِ وَالجِنِّ". قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله! وللإنس شياطين؟ قال: "نعَمْ" (¬1). وروى أبو داود الطَّيالسي، والطَّبراني في "الكبير" عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ" (¬2). وروى مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه كان يقول في دعائه: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ" (¬3). وروى ابن ماجه، والحاكم وصححه، من حديثها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم - ¬
قال لها: "عَلَيْكِ بِالجَوَامعِ الْكَوَامِلِ، قُوْليْ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْألُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهُ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَسْألُكَ الجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَسْألكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَرَسُوْلُكَ مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وَأَسْتَعِيْذُكَ مِمَّا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَرَسُوْلُكَ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَسْأَلُكَ مَا قَضَيْتَ ليْ مِنْ أَمْرٍ أَنْ تَجْعَلَ عَاقِبَتَهُ رُشْدًا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ" (¬1). وروى الترمذي، والحاكم عن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه: أن من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فيْ الأَمْرِ، وَالْعَزِيْمَةَ عَلَىْ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيْمًا، وَخُلُقًا مُسْتَقِيْمًا، وَلِسَاناً صَادِقًا، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوْبِ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي من حديثه رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ: اللهُمَّ أَنْتَ رَبِّيْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنيْ وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَىْ عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوْءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوْءُ بِذَنْبيْ ¬
فَاغْفِرْ ليْ، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُنُوْبَ إِلَّا أَنْتَ. مَنْ قَالهَا مِنَ النَّهَارِ مُوْقِنًا بهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِي فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنةِ، وَمَنْ قَالهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوْقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ" (¬1). وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "اللهُمَّ أَصْلِحْ ليْ دِيْنيْ الَّذِيْ هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِيْ، وَأَصْلحْ ليْ دُنْيَايَ الَّتيْ فِيْهَا مَعَاشِيْ، وَأَصْلِحْ ليْ آخِرَتيْ الَّتيْ فِيْهَا مَعَادِيْ، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيادَةً ليْ فيْ كُل خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةَ ليْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ" (¬2). وروى أبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، وصححوه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله! مُرني بكلماتٍ أقولهن إذا أصبحتُ وإذا أَمْسيت. قال: "قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيْكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِيْ وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ". قال: "قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ" (¬3). ¬
وروى الترمذي وحسنه، عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي: "يا حُصَيْنُ! كَمْ تَعْبُدُ اليَوْمَ إِلَهاً؟ ". قال أبي: سبعة؛ ستة في الأرض، وواحداً في السماء. قال: "فَأيُّهُمْ تُعِدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟ ". قال: الذي في السَّماء. قال: "يا حُصَيْنُ! أَما إِنَّكَ إِنْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعانِكَ". قال: فلمَّا أسلم حصين رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله! علِّمني الكلمتين اللتين وعدتني. فقال: "قُلْ: اللَّهُمَّ ألهِمْني رُشْدِي، وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي" (¬1). رواه الترمذي، والنَّسائي، والحاكم، وصححه على شرط الشيخين، من حديث حصين رضي الله تعالى عنه (¬2). وروى أبو داود، والترمذي، وحسنه، عن شكل بن حميد رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله! علمني دعاءً. قال: "قُلْ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِيْ، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِيْ، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِيْ، وَمِنْ شَرِّ قَلْبيْ، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّيْ" (¬3). ¬
ورواه الطَّبراني في "الدُّعاء" بسند ضعيف، عن أبي الدَّرداء -رضي الله عنه - أنه قيل له: قد احترقت دارك، وكانت النار قد وقعت في محلته. فقال: ما كان الله ليفعل ذلك. فقيل له ذلك ثلاثاً. فقال: ما كان الله ليفعل ذلك. ثم أتاه آتٍ فقال له: يا أبا الدرداء! إنَّ النار حيثُ دنَتْ من دارك طُفِئتْ. قال: قد علمت. فقيل: ما ندري من أي قوليك أعجب؟ فقال: إنِّي سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ يَقُلْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فيْ لَيْلٍ أَوْ نهارٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ"، وقد قُلْتُهُن. وهن: "اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، عَلَيْكَ تَوَكَلْتُ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيْمِ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَلِي الْعَظِيْمِ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لمَ يَشَأْ لمَ يَكُنْ، أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَىْ كُل شَيْءٍ قَدِيْرٌ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِيْ، وَشَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إِنَّ رَبِّيْ عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيْمٍ" (¬1). وروى ابن حبان في "صحيحه" عن عثمان بن أبي العاص، ¬
وامرأة من قريش: أنهما - رضي الله تعالى عنهما - سَمِعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهُمَّ اغْفِرْ ليْ ذُنُوْبيْ وَخَطَئِيْ وَعَمْدِيْ". وقال الآخر: سمعته يقول: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْتَهْدِيْكَ لأَرْشَدِ أَمْرِيْ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِيْ" (¬1). وليس في هذه الأحاديث صريح استعاذة النبي -صلى الله عليه وسلم- من شرِ نفسه إلا في هذا الحديث، وهو تشريع منه، أو لهضم نفسه، أو لأنه لا يأمن مكر الله، ولا شكَّ أن في هذا اعتباراً ظاهراً لأهل البصائر؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان قد استعاذ من شر نفسه وهي أشرف النفوس وأكرمها وأفضلها، فكيف بغيره؟ خصوصاً من استولت عليهم شهوات نفوسهم. وروى أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا استجد ثوباً - سمَّاه باسمه: عمامة، أو قميصاً، أو رداء - يقول: "اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيْهِ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ". قال النووي: حديث صحيح (¬2). وروى أبو داود، وابن ماجه بسند جيد، عن عمرو بن شعيب، ¬
عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اشْتَرىْ أَحَدُكُمْ خَادِمًا أَوْ دَابَّةً فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهُ عَلَيْهِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهُ عَلَيْهِ". وفي رواية: "إِذَا اشْتَرَى أَحَدُكُم الجَارِيَةَ فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ إِنِّىْ أَسْأَلُكَ خَيرَهَا وَخَيرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا، وَلْيَدْعُ بِالبَرَكَةِ، وَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُكُمْ بَعِيرًا فَلْيَأْخُذْ بِذُرْوَةِ سَنَامِهِ وَلْيَدْعُ بِالبَرَكَةِ وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ" (¬1). وروى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا عَصَفت الريح قال: "اللهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيْهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيْهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ" (¬2). وروى النسائي، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" عن صهيب رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يرَ قريةً يريد دخولها إلا قال حين يراها: "اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْع وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرَضِيْنِ السَّبع وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِيْنِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ، أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وَنَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا ¬
وَشَرِّ مَا فِيْهَا" (¬1). وروى ابن السني عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أشرف على أرض يريد دخولها قال: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ وَخَيْرِ مَا جُمَعْتْ فِيْهَا، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَمَعْتَ فِيْهَا، اللهُمَّ ارْزُقْنَا حبَاهَا وَأَعِذْنَا مِنْ وَبَاهَا، وَحَبِّبْنَا إِلىْ أَهْلِهَا، وَحَبِّبْ صَالحِيْ أَهْلِهَا إِلَيْنَا" (¬2). وروى أبو داود، والنسائي في "اليوم والليلة" بإسناد صحيح، عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا خاف قوماً قال: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَجْعَلُكَ فيْ نحُوْرِهِمْ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شُرُوْرِهِمْ" (¬3). وروى ابن السني عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي، فأراني القمر حين طلع فقال: "تَعَوَّذِيْ مِنْ شَرِّ هَذَا الْغَاسِقِ إِذَا وَقَبْ" (¬4). وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يقول أذا رأى الهلال: "اللهُمَّ إِنِّيْ ¬
أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الشَّهْرِ وأعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْقَدَرِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الحَشْرِ" (¬1). وفي لفظ أخرجه الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه": كان إذا رأى الهلال قال: "اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذا الشَّهْرِ، وَخَيْرَ القَدَرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْحَشْرِ". وفي لفظ أخرجه الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه": كان إذا رأى الهلال قال: "اللهُ أَكْبَرُ، الحَمْدُ للهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الشَّهْرِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْقَدَرِ، وَمِنْ شَرِّ يَوْمِ المحَشَرِ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى الهلال قال: "هِلاَلُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذَا ثَلاَثًا، اللَّهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذَا الشَّهْرِ وَخَيْرِ الْقَدَرِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ"؛ ثلاث مرات (¬3). ¬
وروى أبو يعلى، وابن السني عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أصبح وإذا أمسى يدعو بهذه الدعوات: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ مِنْ فَجْأَةِ الخَيرِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ فَجْأَةِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لاَ يَدْرِيْ مَا يَفْجَؤُهُ إِذَا أَصْبَحَ وإِذَا أَمْسَىْ" (¬1). وروى أبو داود بإسناد جيد، عن أبي مالك الأشعري رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، اللهُمَّ أَسْأَلُكَ خَيرَ هَذَا الْيَوْمِ فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ وَنُوْرَهُ وَبَرَكَتَهُ وَهُدَاهُ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيْهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ، وإِذَا أَمْسَىْ فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ" (¬2). وروى الترمذي، وابن حبان، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِيْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: أَعُوْذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ لَدْغَةُ حُمَةٍ (¬3) تِلْكَ اللَيْلَةِ" (¬4). ¬
ورواه ابن عدي في "الكامل"، وأبو نصر السجزي في "الإبانة"، ولفظه: "مَنْ قَالَ حِيْنَ يُصْبحُ: أَعُوْذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ - ثَلاَثَ مَرَّاتِ - لَمْ تَضُرَّهُ عَقْرَبٌ حَتَّى يُمْسِي، وَمَنْ قَالهَا حِينَ يُمْسِيْ لَمْ تَضُرَّهُ حَئى يُصْبحَ" (¬1). وروى الإمام أحمد عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يخَرُجُ مِنْ بَيْتِهِ، يُرِيْدُ سَفَراً أَوْ غَيْرَهُ فَقَالَ حِينَ يخَرُجُ: آمَنْتُ بِاللهِ، اعْتَصَمْتُ بِاللهِ، تَوَكَّلتُ عَلَىْ اللهِ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِلاَّ رُزِقَ خَيرَ ذَلِكَ المَخْرَجِ، وَصُرِفَ عَنْهُ شَرَّ ذَلِكَ المَخْرَجِ" (¬2). * تَنْبِيهٌ: لا تخلو المخلوقات من خير أو شر. ثم كل مكلف فإما من الخِيَار، وإما من الشرار، ومآلُ كل مكلف إما إلى خير، ولا خير إلا خير الجنة، وإما إلى شر، ولا شر فوق شر النار. وكل ما يتعلق به المكلف من شيء فهو إما خير، وإما شر، فعليه طلب كل خير واجتناب كل شر لتنجو نفسه يوم القيامة من الشر وتفوز بالخير، ومتى قصر في ذلك فإن تقصيره في حق نفسه كما قال تعالى: ¬
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]. وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]؛ أي: بذي ظلم لهم، فالعبد مبتلى بالخير والشر، وإنما ينجو من الفتنة فيهما بالتوفيق للطاعة، والتقوى من الله تعالى ثم بالتقوى. وقد سبق في الحديث: "مَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوْقَهُ" (¬1). وطريق توقية الشر حسم مواده عنه؛ بأن يقطع عنه شهوات نفسه إلا ما احتاج إليه في معاشه المُعين له على صلاح معاده من طعام أو شراب، أو نكاح، أو غير ذلك. وأصل الاسترسال في الشهوات المؤدية إلى الهلاك ومنبعها شهوة الطعام والشراب، ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ" (¬2). ثم يرغب في مخالطة أهل الخير ما دامت المخالطة خيراً، وما دامت تدعو إلى خير، فاذا تجاوز ذلك فليس له خير من الاعتذار عنهم. ويرهب ويبعد عن مخالطة أهل الشر، ومن فيه مظنة الشر إلا إذا ¬
اضطر، فيقدر اضطراره لا غير، كما تقدم عن حاتم الأصم رحمه الله تعالى قال: قال لي شقيق البَلْخي: اِصحب النَّاس كما تصحب النار؛ خذ منفعتها واحذر أن تحرقك (¬1). ويبعد عن مشاهدة المناكر، بل يعرض عن مشاهدة زخارف الدنيا وزينتها بالكلية؛ فإنها إما شر، وإما تؤدي إلى الشر. كما روى الدينوري في "المجالسة" عن عبد الله بن جعفر الرقي، قال: وشى واشٍ برجل إلى الإسكندر، قال: أتحب أن نقبل منك ما قلت فيه على أنا نقبل منه ما قال فيك؟ فقال: لا. فقال له: فكُفَّ عن الشر يُكَفُّ الشر عنك (¬2). وهذا القول من الإسكندر حكمة بالغة. والكف عن الشر شامل لكف اللسان عن الغيبة والنميمة، والسعاية والكذب، وغير ذلك، وغض البصر عما لا يحل، وعما يُكره من زينة الدُّنيا وغيره، وكف السَّمع عما ينبغي، وكف اللسان عن التكلم به، وكف اليد عن ضرر الناس بقتلٍ أو ضرب، أو إشارة، أو غير ذلك، وكف الرجل عن المشي في معصية، بل وعما سوى الطَّاعة، وكف الشم والذوق والمس عما لا يليق، وكف النفس عن ¬
الشَّهوات، وعن موافقة الأصدقاء والخلان فيما لا ينبغي، وعن مقابلة الأضداد بالخصومات والمجادلات وغيرها؛ فإنه يتعوض عن تشفي النفس بذلك بفضيلة العفو وثواب الحلم والكرم. وقد روى الدَّينوري في "المجالسة" عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما: أنَّه قال لرجل: أتحب أن تغلب شر الناس؟ قال: نعم. قال إنك إن تغلبه تكنْ شراً منه (¬1). ويبعد أشد الإبعاد عن معاشرة الملوك والأغنياء إلا على حد الضَّرورة؛ فإن معاشرتهم تؤدي إلى استحسان ما هم فيه، وذلك يجر إلى الوقوع فيه وإلى مُراءاتهم ومنافقتهم، وكفى بذلك شراً. وهؤلاء في هذه الأعصار لا يسلمون ولا يسلم أصحابهم من الوقوع في الآثام والمعاصي في لباسهم، ومساكنهم، ومطاعمهم ومشاربهم، وغير ذلك، وكفى بالمعاصي وما يجر إليها شراً، وإذا زعم تقي في عشرتهم على حد الحرص منهم، والحذر من مشاركتهم فيما هو فيه، وكان صادقاً في زعمه، فقد أوقع النَّاس في الوقوع فيه، وأساء الظن به، كما قال بشر بن الحارث رحمه الله تعالى: صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار (¬2). ¬
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: صحبة من لا يخاف العار عار (¬1). وروى الأصبهاني في "ترغيبه" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال لقمان عليه السَّلام لابنه: يا بني! اجتنب الأشرار؛ فإنك إن لم تعمل بأعمالهم أخذتَ من أخلاقهم. وليحذر من كثرة محادثة النساء ولو كنَّ محارم؛ فإن صحبة النساء والصبيان تؤدي بالرجل إلى التنزل إلى عقولهم وأخلاقهم، وموافقتهم على هواهم، وهم يريدون منه ما هَوِيَتْه نفوسهم وإن أدى به إلى الهلاك والسواف، والدخول في مداخل الشر. وقد نقل الدميري في "حياة الحيوان": أنَّ لقمان قال في وصيةٍ لابنه: اتق المرأة السوء؛ فإنها تشيبك على المشيب، واتق شرار النساء؛ فإنهن لا يدعون إلى خير، وكن من خيارهن على حذر (¬2). واعلم أن ما ذكره من التقوى والحذر مطلوب من كل مسلم، لكنه مطلوب أشد من العلماء، وإذا كان العالم واقعاً فيما التقوى الإبعاد منه، فكيف حال غيره إذا رآه على خلاف ذلك من اتباع الشهوات ومعاشرة أهل الغرور وهو عنده قدوة؟ فكيف لا يقتدي به فيما يُوافق هواه؟ ¬
وهذا حال أكثر المتلبسين بالعلم اليوم، وكلما تأخر الزمان كان علماؤه أسوء حالاً من الزمان قبله، ويكون عوامه لاحقين بهم حتى تقوم السَّاعة على شرار الخلق. كما روى ابن ماجه، والحاكم وصححه، وأبو نعيم عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَزْدَادُ الأَمْرُ إِلاَّ شِدَّةً، وَلاَ الدُّنْيَا إِلاَّ إِدْبَاراً، وَلاَ النَّاسُ إِلاَّ شُحًّا، وَلاَ تَقُوْمُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَىْ شِرَارِ النَّاسِ" (¬1). ورواه الحاكم وصححه، عن أبي أمامة، والطبراني في "الكبير" عنه، وعن معاوية رضي الله تعالى عنهما بلفظ: "لاَ يَزْدَادُ الأَمْرُ إِلاَّ شِدَّةً، وَلاَ يَزْدَادُ المَالُ إِلاَّ إِفَاضَةً، وَلاَ يَزْدَادُ النَّاسُ إِلاَّ شُحًّا، وَلاَ تَقُوْمُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَىْ شِرَارِ النَّاسِ" (¬2). والقول الجامع في هذا الباب قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ شَيْءٍ يَنْقُصُ إِلاَّ الشَّرُّ؛ فَإِنَّهُ يُزَادُ فِيْهِ". أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي ¬
الدَّرداء رضي الله تعالى عنه (¬1). وأخرجه العسكري في "الأمثال" بلفظ: "كُلُّ شَيْءٍ يَغِيْضُ إِلاَّ الشَّرَّ، فَإِنَّهُ يُزَادُ فِيْهِ" (¬2)، وهو بمعنى: ينقص. وروى ابن أبي الدُّنيا في "العقوبات" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: سيأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، مساجدهم يومئذ عامرة، وهي من التقوى خراب، ومن الهدى خاوية، علماؤهم شَرُّ مَنْ تحت أديم السماء، منهم تخرج الفتنة، وإليهم تعود (¬3). ولا يشكل عليك ما تجده من قيام صورة الدين وإجراء الأحكام على وفق الشرع في بعض الأحيان، وسريان سر السياسات في إصلاح بعض الناس، والقائمون بذلك إن لم يكونوا كلهم فالغالب منهم على أمور لو عرضت أفرادها على الشريعة لم تجدها موافقة؛ فإن هذا من باب تأييد الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خَلاق لهم، كما في الحديث: "إِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّيْنَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ". وفي لفظ: "بِأَقْوَامٍ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ". ¬
وفي لفظ: "مَا هُمْ مِنْ أَهْلِهِ" (¬1). وبذلك يتضح لك معنى ما رواه الإمام أحمد، والطَّبراني في "الكبير" عن ميمون بن سنباذ رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قِوَامُ أُمَّتيْ بِشِرَارِهَا" (¬2). وقوام الشيء: عماده الذي يقوم به. فإنه محمول على غير زمان النبى -صلى الله عليه وسلم- وزمان الصحابة -رضي الله عنهم - حين صار الأمر بعد الخلافة ملكاً عَضُوضاً. فاعلم يا أخي - أرشدني الله وإياك، وإن كنا في زمان بالسوء أليق، ولأهل الشر أوفق - أنَّ من وفقه الله في هذه الأزمنة - وما ذلك على الله بعزيز - إلى الاستقامة على قدم التقوى من أهل العلم بقدر طاقته واستطاعته، فهو قطب الوقت المطلق، وولي الزمان المحقق، ولا أعني بذلك أن يعرف الخير من الشر فقط حتى يفعل الخير كما أمر، ويحذر الشر كما أمر، كما روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: ليس العالم الذي يعرف الخير من الشر، إنما العالم الذي يعرف الخير فيتبعه، ويعرف الشر فيجتنبه (¬3). ¬
وروى أبوه فيه عن زبيد اليامي رحمه الله تعالى قال: قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: قولوا خيراً تُعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله (¬1). فَهِمَ - رضي الله تعالى عنه - أن مَنْ عرف الخير فقالَ به، صار معروفاً به في الناس، موسوماً به عندهم، ولكنه لا يكون من أهل الخير حقيقةً حتى يعمل به مخلصاً فيه؛ وبالله التوفيق. ثم اعلم أنَّ من وفقه الله تعالى من الحكام والقضاة إلى الوقوف مع الشرع، ثم إلى الاستقامة على ذلك إلى وفاته - وأنى لنا بهذا في هذه الأزمنة التي قوام الأمة فيها شرارها - فهو من الأوتاد في الأرض لأنهم ظل الله في الأرض، فإذا كان الظل لطيفاً معتدلاً وَرِيفاً عاش الناس في كَنَفه في أهنى عيش، بخلاف مالم يكن كذلك؛ فإن الناس -وإن عاشوا في كنفه- إلا أنه لا هَنَاء في عيشهم، بل هو منغص مكدر، فهم إذا صبروا أُجزوا على الطاعة والانقياد، وأثيبوا على الصبر على جفاء الولاة ومقاساة الأمور، وأهل الاستقامة من هذا الصنف أعز من الكبريت الأحمر والأبيض العقوق، وعنقاء مغرب، ولا أحسب منهم أحداً موجوداً الآن؛ لأن الشر غالب على الناس، فكيف يتوهم أهل الخير والله تعالى يقول في كتابه العزيز: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]. ¬
قال منصور بن الأسود: سألت الأعمش عن قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [الأنعام: 129] ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أُمِّر عليهم شرارهم. رواه أبو الشيخ (¬1). وقال الحسن رحمه الله تعالى: إن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام: سَلْ لنا ربك يُبين لنا عَلَمَ رضاه عنا وعَلَمَ سَخَطِه. فسأله فقال: يا موسى! أنبئهم أنَّ رضاي عنهم أن أستعمل عليهم خيارهم، وأن سخطي عليهم أن أستعمل عليهم شرارهم (¬2). وقال الأصمعي: حدَّثنا مالك عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: حدثت أنَّ موسى أو عيسى عليهما السلام قال: يا رب! ما علامة رضاك عن خلقك؟ قال: أن أنزل عليهم الغيث إبان زرعهم، وأحبسه إبان حصادهم، وأجعل أمورهم إلى حلمائهم، وفَيئهم في أيدي سمحائهم. قال: يارب! فما علامة السُّخط؟ قال: أن أنزل عليهم الغيث إبان حصادهم، وأحبسه إبان زرعهم، فأجعل أمورهم إلى سفهائهم، وفيئهم في أيدي بخلائهم (¬3). ¬
رواهما البيهقي في "الشعب". وروى الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنَّه سمع النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءكُمْ، وَأُمُوْرُكُمْ شُوْرَى بَيْنَكُمْ، فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاَءكُمْ، وَأُمُوْرُكُمْ إِلى نِسَائِكُمْ، فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا" (¬1). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا مَشَتْ أُمَّتيْ المُطَيْطَاء، وَخَدَمَهَا أَبْنَاءُ المُلُوْكِ أَبْنَاءُ فَارِسَ وَالرُّوْمِ، سُلِّطَ شِرَارُهَا عَلَى خِيَارِهَا" (¬2). * وَهَذهِ فَوائِدُ مُهِمَّاتٌ لِهَذا الفَصْلِ: روى الترمذي، وابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَسْرَعُ الخَيْرِ ثَوَابًا الْبِرُّ وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَأَسْرَعُ الشَّرِّ عُقُوْبَةً الْبَغْيُ وَقَطِيْعَةُ الرَّحِمِ" (¬3). وروى الإمام أحمد، والأئمة الستة عن أبي هريرة رضي الله ¬
تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَسْرِعُوْا بِالجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيرٌ تُقَدِّمُوْهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُنْ سِوَىْ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُوْنَهُ عَلَىْ رِقَابِكُمْ" (¬1). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن القاسم بن محمَّد مرسلاً: أنهم استأذنوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في ضرب النساء حين فسدن عليهم، فقال: "اضْرِبُوْهُنَّ، وَلاَ يَضْربُ إِلاَّ شِرَارُكُمْ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ تَعَالىْ قَالَ: أَنَا خَلَقْتُ الخَيرَ وَالشَّرَّ، فَطُوْبَىْ لِمَنْ قَدَّرْتُ عَلَىْ يَدِهِ الخَيرَ، وَوَيْلٌ لِمَنْ قَدَّرْتُ عَلَيْهِ الشَّرَّ". وروى ابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيْحُ لِلْخَيرِ مَغَالِيْقُ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيْحُ لِلشَّرِّ مَغَالِيْقُ لِلْخَيرِ، فَطُوْبَىْ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَىْ مَفَاتِيْحَ الخَيْرِ عَلَىْ يَدِيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيْحَ الشَّرِّ عَلَىْ يَدَيِهِ" (¬3). وروى ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال ¬
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ لمَّا خَلَقَ الدُّنْيَا نَظَرَ إِلَيْهَا ثمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ثمَّ قَالَ: وَعِزَّتيْ وَجَلاَليْ لاَ أَنْزَلْتُكِ إِلاَّ فيْ شِرَارِ خَلْقِيْ" (¬1). أي: في قلوب شرار خلقي، فهي - وإن وُجدت بأيدي بعض الأخيار كبعض الأنبياء والصَّالحين - فهي ليست في قلوبهم ولا لها عندهم منزلة؛ فإنهم بذلوها في سبيل الله تعالى، فهي - وإن كانت دنيا صورة - فإنما هي لطلب الآخرة. وروى البخاري، ومسلم - واللفظ له - والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: مرَّ بجنازة فأثني عليها خيراً، فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ". ومرَّ بجنازة فأثني عليها شراً، فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ". فقال عمر رضي الله تعالى عنه: فداك أبي وأمي! مُرَّ بجنازة فأثني عليها خيراً فقلت: "وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"، ومر بجنازة فأثني عليها شراً، فقلت: "وَجَبَتْ، وَجَبَت، وَجَبَتْ"؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أثنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيرًا وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَمَنْ أثنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فيْ الأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فيْ الأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فيْ الأَرْضِ" (¬2). ¬
وروى البخاري عن أبي الأسود قال: قدمتُ المدينة فجلستُ إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فمرَّت بهم جنازة فأثنوا على صاحبها خيراً، فقال عمر: وجبت. ثم مرَّ بأخرى فأثنوا على صاحبها خيراً، فقال عمر: وجبت. ثم مرَّ بالثالثة فأثنوا على صاحبها شراً، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: وجبت. قال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلتُ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ". قال: فقلنا: وثلاثة؟ فقال: "وَثَلاَثةٌ". فقلنا: واثنان؟ قال: "وَاثْنَانِ". ثم لم نسأله عن الواحد (¬1). وروى البزار بسند ضعيف، عن عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ وَاللهُ يَعْلَمُ مِنْهُ شَرًّا، وَيَقُوْلُ النَّاسُ خَيرًا، قَالَ اللهُ عز وجل لملاَئِكَتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ: قَبِلْتُ شَهَادةَ عِبَادِيْ عَلَى عَبْدِيْ، وَغَفَرْتُ لَهُ عِلْمِيْ فِيْهِ" (¬2). ¬
أي: معلومي فيه. وهذا من كمال الكرم، وهو أهل للعفو والكرم سبحانه وتعالى. وروى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن قتادة: أن لقمان عليه السلام قال لابنه: يا بني! اعتزل الشر كيما يعتزلك؛ فإن الشر للشر خُلِق (¬1). وعن سفيان - يعني: الثوري - قال: قيل للقمان عليه السلام: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يُبالي أن يراه النَّاس مُسيئاً (¬2). وعن معاوية بن قرة قال: قال لقمان عليه السلام لابنه: يا بني! جالس الصالحين من عباد الله؛ فإنك تُصيبك بمجالستهم خيراً، ولعله أن يكون في آخر ذلك أن تنزل عليهم الرحمة فتصيبك معهم. يا بني! لا تجالس الأشرار؛ فإنك لا يُصيبك من مجالستهم خير، ولعلَّ أن يكون في آخر ذلك أن تنزل عليهم عقوبة فتصيبك معهم (¬3). وروى ابن أبي شيبة عن أبي عبد الله الجدلي قال: كان يقول داود عليه السلام: اللهم إني أعوذ بك من جارٍ عينه تراني وقلبه يرعاني، إن رأى خيراً دفنه، وإن رأى شراً أشاعه (¬4). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن سفيان بن عيينة قال: كان عيسى ويحيى عليهما السلام يأتيان القرية، يسأل عيسى عليه السلام عن شرار أهلها، وشمال يحيى عليه السلام عن خيار أهلها، فقال - يعني: يحيى - لعيسى عليهما السلام: لم تنزل على شرار الناس؟ قال: إنما أنا طبيب أُداوي المرضى (¬1). فمعاشرة الأشرار ومخالطتهم بهذه النية لهذه المصلحة من أعمال الخير. لكن هذا لا يتم إلا لمن كمل في نفسه، ثم صلح في تكميل غيره، وكان له كلمة نافذة فيمن يأمره وينهاه ممن يُعاشره، إما لشرف مقامه عنده، وإما لمحبته إياه واعتقاده فيه. فأما من لم يكن كذلك فيوشك أن يغلب خلق من يعاشره من أهل الشر على ما عنده من خلق الخير، ومن المعلوم أن كثيراً من العسل يفسده قليلٌ من المر، وكثيراً من الطيب يفسده قليلٌ من النتن، وهذا ينبغي له أن يسلك مسلك يحيى عليه السلام؛ فإنه أحوط لدينه، وأبعد عن فتنته؛ فافهم! وروى ابن عساكر عن ابن المبارك رحمه الله تعالى قال: بلغني أن عيسى بن مريم عليهما السلام مرَّ بقومٍ فشتموه، فقال خيراً، ومرَّ بآخرين فشتموه وزادوا، فزادهم خيراً، فقال رجلٌ من الحواريين: ¬
كلما زادوك شراً زدتهم خيراً كأنك تغريهم بنفسك؟ فقال عيسى عليه السلام: كل إنسان يُعطي ما عنده (¬1). وفي معناه المثل: كل إناءٍ ينضح بما فيه. وقلتُ مضِّمناً: [من الطويل] سَتَسْمَعُ مِنِّي صالِحاً ما لقِيتَنِي ... وَأَسْمَعُ مِنْكَ الدَّهْرَ ما لَيْسَ يَصْلُحُ كِلانا وَفِيٌّ بِالِّذِي فِيهِ كامِنٌ ... وَكُلُّ إِناءٍ بِالَّذِي فِيهِ يَنْضَحُ وروى ابن أبي الدنيا عن مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه قال: مرَّ بعيسى بن مريم عليهما السلام خنزير، فقال: مُر بسلام. فقيل له: يا روح الله! لهذا الخنزير تقول؟ قال: أكره أن أعوِّد لساني الشر (¬2). وقيل: [من البسيط] عَوِّدْ لِسانَكَ قَوْلَ الْخَيْرِ وَارْضَ بِهِ ... إِنَّ اللِّسانَ لِما عَوَّدْتَ مُعْتادُ (¬3) ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد"، والبيهقي في "الشعب" عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: رأيت ابن عباس -رضي الله عنه- آخذاً بثمرة لسانه وهو يقول: يا لساناه! قل خيراً تغنم، أو اسكت عن شرٍ تسلم قبل أن تندم. فقال له رجل: ما لي أراك آخذاً بلسانك تقول كذا وكذا؟ قال: إنه بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه (¬1). وروى ابن أبي الدُّنيا في "الصمت" عن سفيان رحمه الله تعالى قال: قالوا لعيسى بن مريم عليهما السلام: دُلَّنا على عمل ندخل به الجنة. قال: لا تنطقوا أبداً. قالوا: لا نستطيع ذلك. قال: فلا تنطقوا إلا بخير (¬2). وروى أيضاً - بإسناد جيد - عن البراء -رضي الله عنه- قال: جاء أعرابي إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: دُلني على عمل يُدخلني الجنة. فقال: "أَطْعِمِ الجَائِعَ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَأْمُرْ بِالمَعْرُوْفِ، وَانْهَ عَنِ ¬
المُنْكَرِ، فَإِنْ لمَ تَسْتَطِعْ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ" (¬1). وروى الطَّبراني في "الصغير" عن أبي سعيد الخُدْريِّ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اُخْزُنْ لِسَانَكَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ" (¬2). والحديثان يُرشدان إلى حبس اللسان عن المباح فضلاً عن الشر، وذلك أنَّ ما صرفه العبد من أعضائه فيما لا ثواب فيه كأنه مُضاع. ومما يُحمد الصمت فيه الاستعجال بالدعاء على النفس أو الولد أو المال؛ فإنه ربما يُستجاب للداعي به فيندم. قال الله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]؛ أي: ضجراً لا صبر له على سرَّاء ولا ضرَّاء؛ كما روى ابن جرير عن ابن عبَّاس (¬3). وقال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]. ¬
روى المفسرون، واللالكائي في "السنة" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنَّه قال في الآية: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة (¬1). والبلاء والابتلاء: الاختبار، وهو معنى الفتنة، ولذلك نُصبت نصب المصدر بـ (نبلوكم). وذلك أن الله تعالى يبتلي العبد بالنعمة والسَّراء والخير ليظهر شكره أو كفره، كما قال سليمان بن داود عليهما السلام: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40]. كما يبتليه بالنقمة والضراء والشر ليظهر صبره أو جزعه. ولعل فتنة السَّراء أعظم من فتنة الضراء؛ لأن السَّراء معها البطر والغرُور والعجب، وهي موافقة لهوى النفس بخلاف الضراء؛ فإنها تورث الذلة والضعف والمسكنة، وإن كانت تلجئ إلى الجزع والضجر. ومن هنا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأَنَا لِفِتْنَةِ السَّرَّاءِ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ مِنْ فِتْنَةِ الضَّرَّاءِ، إِنَّكُمْ ابْتُلِيْتُمْ بِفِتْنَةِ الضَّرَّاءِ فَصَبَرْتُمْ، وإِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ". رواه أبو يعلى، والبزار عن سعد بن أبي وقاص رضي الله ¬
تعالى عنه (¬1). وأخرجه أبو نعيم بلفظ: "لأَنَا فيْ فِتْنَةِ السَّرَّاءِ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ مِنْ فِتْنَةِ الضَّرَّاءِ" ... إلى آخره (¬2). وروى ابن عساكر عن المنكدر بن محمد بن المنكدر قال: بلغني أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأَنَا أَشَدُّ عَلَيْكُمْ خَوْفًا مِنَ النِّعَمِ مِنِّي مِنَ الذُّنوبِ، أَلاَ إنَّ النِّعَمَ الَّتيْ لاَ تُشْكَرُ هِيَ الحَتْفُ القَاضِيْ" (¬3)؛ أي: المُهلك. ولا شك أن المال - وإن كان يُسمى خيراً كما في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، "وقوله: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32]- إلا أنَّه يعود شراً إذا جرَّ إلى الشر. ومن هنا كان أولياء الله تعالى إذا فتحت عليهم الدنيا وَجِلُوا منها خشية أن يغتروا بها، وأن يكون إقبالها عليهم إملاء لهم واستدراجاً لهم، ألا ترى إلى ما يفتح من الدُّنيا على الفجار والفساق؟ وقال الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ¬
{مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 178 - 180]. فالبلاء للمؤمن بمنزلة السَّبك للذهب؛ فإنه يخرج بالبلاء عبداً خالصاً له مخلصاً له، كما يخرج الذهب مهما سبك إبريزاً خالصاً ونضاراً محضاً، والمنافق كالدرهم الزيف يخرج بالسبك أسود مظلماً. ولما كان أهل العمى الذي هو شر العمى وهو عمى القلب والبصيرة كما تقدم في الحديث: "وَشَرُّ الْعَمَىْ عَمَىْ الْقَلْبِ" (¬1) لا يرون المال ومتاع الدنيا إلا خيراً، ولم يفطنوا أنه قد يصير شراً لشر عاقبته، بل لا يرون الخير إلا ما هم فيه، رأوا من لم يكن له مثلما لهم من زخارف الدُّنيا شراراً، حتَّى إنهم يستديمون ذلك إلى ورود الآخرة بدليل ما حكاه الله تعالى عن الطاغين: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 62]. نزلت الآية في أصحاب قليب بدر، وفي فقراء المهاجرين؛ كعبد الله بن مسعود، وعمار، وبلال، وصهيب، وخباب رضي الله تعالى عنهم؛ كان صناديد قريش يَعُدُّونهم من أشرار الناس (¬2)، فلما ¬
نظروا وهم في النار فلم يجدوهم فيها، وكانوا يرونهم أشراراً، ولا يرون أنفسهم أشراراً، ودخلوا هم النار التي هي دار الأشرار ولم يجدوهم فيها، وكانوا يرونهم أحق منهم بها، فتعجبوا حين لم يروهم فيها، ولم يعلموا أنهم نَجُوا منها من حيث كانوا يعتقدون كلهم أنهم به يلقون فيها؛ فإن الذي كانوا يعتقدون شَرِّيتهم به من الزهد في الدنيا، وإيثار الفقد والفقر فيها، واتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أنقذهم منها. ثم إن قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] مما استدلَّ به أهلُ السنة على إثبات القدر. قال علماء البلاغة: وإنما قُدم الشر على الخير لأنَّ الابتلاء به أكثر، ولأنَّ أكثر الناس لا يعدُّون شيئاً من الخير بلاء بخلاف الشر. وفي تقديمه مبالغة في الرد على من يقول من القدرية: إن الخير من الله، وإن الشر من الشَّيطان، ويعتقدون أن ذلك تنزيه منهم. وقد ردَّ عليهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأنهم يوافقون أهل السنة في أن الله تعالى خالق إبليس، وهو أبو كل شر وأخوه، فقد لزمهم ما أنكروه. وقد روى اللالكائي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: "يَا أَبَا بَكْر! لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ لاَ يُعْصَىْ مَا خَلَقَ إِبْلِيْسَ" (¬1). ¬
وروى ابن عدي عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بُعِثْتُ دَاعِيًا وَمُبَلِّغًا، وَلَيْسَ إِليَّ مِنَ الهُدَىْ شَيْءٌ، وَخُلِقَ إِبْلِيْسُ مُزَيِّنًا وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الضَّلالِ شَيْءٌ" (¬1). وروى الترمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه: أنِّه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لمَ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لمَ يَكُنْ لِيُصِيْبَهُ" (¬2). وروى هو والإمام أحمد، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن علي -رضي الله عنه-: أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنِّيْ رَسُوْلُ اللهِ بَعَثَنيْ بِالحَقِّ، ويُؤْمِنُ بِالمَوْتِ، ويُؤْمِنُ بِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، ويُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَره" (¬3). وروى اللالكائي عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَيَكُوْنُ فيْ أُمَّتيْ قَوْمٌ يَكْفُرُوْنَ بِالْقُرْآنِ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُوْنَ". قال: قلت: يقولون ماذا يا رسول الله؟ ¬
قال: "يَقُوْلُوْنَ: الخَيْرُ مِنَ اللهِ، وَالشَّرُّ مِنْ إِبْلِيْسَ وَيُقِرُّونَ عَلَىْ ذَلِكَ كِتَابَ اللهِ، وَيَكْفُرُوْنَ بِاللهِ وَبِالْقُرْآنِ بَعْدَ الإِيمَانِ وَالمَعْرِفَةِ، فَمَا تَلْقَىْ أُمَّتِيْ مِنْهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ ثُمَّ يَكُوْنُ المَسْخُ فِيْهِمْ عَامًّا، أُوْلئِكَ قِرَدَةٌ وَخَنَازِيْرُ، ثمَّ يَكُوْنُ الخَسْفُ، قَلَّ مَنْ يَنْجُوْ مِنْهُمْ، المُؤْمِنُ يَوْمَئِذٍ قَلِيْلٌ فَرَحُهُ، شَدِيْدٌ غَمُّهُ" (¬1). وفي دعاء القنوت الثابت من رواية الحسن رضي الله تعالى عنه: "وَاكْفِنِي شَرَّ ما قَضَيْتَ" (¬2). فإن قلت: ما تصنع بقوله -صلى الله عليه وسلم- في دعاء الاستفتاح الثابت في "صحيح مسلم": "لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالخَيرُ فيْ يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ" (¬3). فالجواب عنه كما قال النووي رحمه الله تعالى من وجوه: أشهرهما قاله النضر بن شميل، والأئمة بعده: أن معناه لا يتقرب به إليك. والثاني: لا يصعد إليك. ¬
والثالث: لا يُضاف إليك، فلا يُقال: يا خالق الشر وإن كان خالقه، كما لا يُقال: يا خالق الخنازير وإن وإن خالقها. والرابع: ليس شراً بالنسبة إلى حكمك؛ فإنك تفعل ما تريد (¬1). والخامس: ولم يذكره النووي: والشر لا يصل إليك ولا يلحقك لأنَّك القدوس. وأما قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، فإنه على حَدِّ قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]؛ أي: والبرد. والتقدير: بيدك الخير والشر، حذف ذكر الشر للعلم به وتعليماً لنا كيف نتأدب في خطاب الله تعالى، ولا سبيل إلى غير ذلك لأنه يقول بعد ذلك: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، والشيء شامل للخير والشر. وقد قال أولاً: {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]، والإذلال كله أو بعضه من الشر الذي هو بيده سبحانه وتعالى. وأما قوله تعالى حكايةً عن الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] فإنما حذف الفاعل في قوله: ¬
{أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ}، والمُريد هو الله تعالى تأدباً مع الله تعالى، وأظهره في قوله: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} مذكوراً باسم الرب مضافاً إليهم مبالغة في الثناء عليه، وإشارةً إلى أن إرادة الرشد بهم من تمام ربه إياهم وكمال تربيته لهم ورحمته عليهم، وقد جاء إسناد إرادة الشر إلى الله تعالى إيثاراً للبيان ومبالغة في العِظَة. وما رواه الترمذي، والحاكم وصححه، عن أنس، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب" عن عبد الله بن مغفل، والطبراني في "الكبير" عن عمار بن ياسر، وابن عدي في "الكامل" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيرًا عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوْبَةَ فيْ الدُّنْيَا، وإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ شَرًّا أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬1). ورواه أبو نصر السجزي في "الإبانة" عن حبان بن أبي جَبَلة رضي الله تعالى عنه، والديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ ¬
النَبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ خَيرًا أَكْثَرَ فُقَهَاءَهُمْ وَأَقَلَّ جُهَّالهَمْ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الْفَقِيْهُ وَجَدَ أَعْوَاناً، وَإِذَا تَكَلَّمَ الجَاهِلُ قُهِرَ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ شَرًّا أَكْثَرَ جُهَّالَهُمْ وَأَقَلَّ فُقَهَاءَهُمْ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الجَاهِلُ وَجَدَ أَعْوَاناً، وَإِذَا تَكَلَّمَ الْفَقِيْهُ قُهِرَ" (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بَعَبِيْدِهِ خَيرًا رَزَقَهُمْ الرِّفْقَ فيْ مَعَاشِهِمْ، وَإِذَا أَرَادَ بهِمْ شَرًّا رَزَقَهُمْ الخَرْقَ فيْ مَعَاشِهِمْ" (¬2). وروى الدَّارقطني في "سننه" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيرًا فَقَّهَهُمْ فيْ الدِّيْنِ، وَوَقَّرَ صَغِيْرُهُمْ كَبِيرَهُمْ، وَرَزَقَهُمْ الرِّفْقَ فيْ مَعِيْشَتِهِمْ، وَالْقَصْدَ فيْ نَفَقَاتهِمْ، وَبَصَّرَهُمْ عُيُوْبَهُمْ فَيَتُوْبُوْنَ مِنْهَا، وَإِذَا أَرَادَ بِهِمْ غَيْرَ ذَلِكَ تَرَكَهُمْ هَمَلاً" (¬3). وروى الحكيم الترمذي في "نوادره"، والديلمي عن أبي هريرة ¬
رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جَعَلَ غِنَاهُ فيْ نَفْسِهِ، وَتُقَاهُ فيْ قَلْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا جَعَلَ فَقْرَهُ بَينَ عَيْنَيْهِ" (¬1). روى الطبراني في "الكبير"، والخطيب البغدادي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ شَرًّا خَضَّرَ لَهُ فيْ اللَبِنِ وَالطِّيْنِ حَتَّى يَبْنِيَ" (¬2). وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِالأَمِيرِ خَيرًا جَعَلَ اللهُ لَهُ وَزِيْرَ صِدْقٍ، إِنْ نسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانهُ، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ غَيرَ ذَلِكَ جَعَلَ لَهُ وَزيرَ سُوْءٍ، إِنْ نسِيَ لمَ يُذَكِّرْهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لمَ يُعِنْهُ" (¬3). ويكفي دليلاً على أنه لا يكون خير ولا شر إلا بإرادة الله تعالى: إسناد إرادة الفتنة والسوء والإضلال والمس بالضر إليه سبحانه وتعالى، كما أسندتُ إليه أضدادها مع قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]. ¬
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]. {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. وفي الحديث: "كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ" (¬1). ومن هنا نهي عن التطير والتشاؤم، كما روي أنَّ ابن عباس كان عنده رجل، فَنَعَبَ غراب، فقال الرجل: خير خير، فقال ابن عباس: لا خير ولا شر (¬2). أي: لا يكون عند نعيب الغراب ولا به خير ولا شر، بل كل شيء فهو من الله تعالى؛ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون: 88]. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه كان إذا نعَبَ الغراب قال: اللهم لا شرَّ إلا شرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك (¬3). وروى الترمذي وحسنه، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فيْ الْقَلْبِ لَمَّتَانِ، لَمَّةٌ مِنْ المَلَكِ إِيْعَادٌ بِالخَيرِ وَتَصْدِيْقٌ بِالحَقِّ، وَلَمَّةٌ ¬
مِنَ الْعَدُوِّ - يعني: الشيطان - إِيْعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيْبٌ بِالحَقِّ" (¬1). وهذا هو القدر الذي يملكه الشيطان من قلب العبد، ولا يقدر على إحداث ضلال فيه ولا شر، وإنما إضلاله وإغواؤه تزيين ووعد وإشارة بما يُوافق الهوى، ولذلك يقول يوم القيامة لمن ضلوا: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22]. وقال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]. ثم عرفنا طريق النجاة منه بقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس: 1 - 4]. وروى ابن أبي شيبة عن مطرف بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: لو كان لي نفسان لقدَّمْتُ إحداهما قبل الأخرى، فإن هجمت على شيء اتبعتها الأخرى وإلا أمسكتُها، ولكن أنا في نفس واحدة ما أدري على ما تهجم خير أو شر (¬2). وعنه أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من شر السلطان، ومن شر ما تجري به أقلامهم (¬3). ¬
وروى أبو نعيم عن إسحاق بن سويد قال: تعبَّدَ عبد الله بن مطرف، فقال له أبوه: أي عبد الله! العلم أفضل من العمل، والسيئة بين الحسنتين، وشر السير الحَقْحَقَة. قال أبو نعيم: كذا قال، وقد قيل: الحسنة بين السيئتين (¬1). قال في "الصحاح": والحقحقة: أرفع السير وأتعبه للظهر. قال ويقال: هو السير أول الليل، ونهي عن ذلك (¬2). وذكر الزمخشري من الأمثال: شر السير الحقحقة، وقال: يُضرب في ذم الإفراط (¬3). وروى أبو نعيم عن حُميد بن هلال: كان مطرف بن عبد الله يقول: نظرت ما خير لا شرَّ فيه ولا آفة، ولكل شيءٍ آفة، فما وجدته إلا أن يُعافى عبدٌ فيشكر. ومن الأمثال ما ذكره الزَّمخشري: شر إخوانك مَنْ لا يعاتب، أو من لا يُعاتبك (¬4). وبيانه: أنه إذا بلغه عنك شيء يكرهه، فإن عاتبك أعتبته واعتذرت ¬
إليه، أو تنصلت مما بلغه عنك، فإن لم يُعاتبك حقد عليك وعادَ عدواً. وفي المثل: شر الرأي الدبري - بالتحريك وياء النسبة -، وهو الذي يسنح أخيراً بعد فوت الحاجة (¬1). وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى قال: والذي فلقَ البحر لبني إسرائيل: إن لفي التوراة مكتوباً: يا ابن آدم! اتقِ ربك، وأبرر والديك، وصِلْ رحمك، أمدُد لك في عمرك، وأيسر لك يسرك، وأصْرف عنك شرَّك (¬2). وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أنه قال لابنه عبد العزيز: يا بني! إذا سمعت كلمة من امرئٍ مسلم، فلا تحملها على شيءٍ من الشر ما وجدتَ لها محملاً من الخير (¬3). وعن جعونة قال: استعمل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عاملاً، فبلغه أنه عمل للحجاج، فعزله، فأتاه يعتذر إليه، فقال: لم أعمل له إلا قليلاً. فقال له عمر: حسبك من صحبة شر يوم أو بعض يوم (¬4). وقلت في المعنى مضمِّناً: [من الرجز] ¬
حَسْبُكَ مِنْ صُحْبَةِ شَرٍّ يَوْمُ ... أَوْ بَعْضُ يَوْمٍ، فَهْوَ بِئْسَ اليَوْمُ فَالشَّرَّ دَعْهُ وَلَوِ اسْتَقْلَلْتَهُ ... فَرُبَّما نالَكَ مِنْهُ اللَّوْمُ وروى أبو نعيم عن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى قال: لو انتهيت إلى مسجد وهو ملآن مغص بالرجال فقال لي قائل: أي هؤلاء خير؟ لقلت لقائلي: أي هؤلاء أنصح لجماعتهم؟ فإذا قال: هذا، قلت: هو خيرهم. ولو انتهيت إلى المسجد يوم الجمعة وهو ملآن مغص، فقال: أي هؤلاء شر؟ لقلت: أيهم أغش لجماعتهم؟ فإذا قال: هذا، قلت: هو شرهم. وما كنت أشهد على خيرهم أنه مؤمن مستكمل الإيمان إذاً لشهدتُ أنه من أهل الجنة، وما كنت لأشهد على شرهم أنه منافق بريء من الإيمان إذاً لشهدتُ أنه من أهل النار، ولكن أخشى على مُحسنهم، وأرجو لمُسيئهم (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي رحمه الله تعالى قال: ما من أحد يُريد خيراً أو شراً إلا وجدتَ في قلبه آمراً وزاجراً، آمراً يأمر بالخير وزاجراً يزجر عن الشر، انتهى (¬2). ¬
وهذا الأمر الزاجر إما الملك يلم بالقلب لمَّة، وإما واعظ من القلب، وهو المُشَار إليه بقول بعض العارفين: من لم يكن له في قلبه واعظ لم تنفعه المواعظ (¬1). وروى أبو نعيم عن سليمان التيمي رحمه الله تعالى قال: لو أخذت برخصة كل عالم أو زلَّة كل عالم اجتمع فيك الشرَّ كلَّه (¬2). وروى هو والسجزي في "الإبانة" - واللفظ لأبي نعيم - عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "سَيَكُوْنُ فيْ آخِرِ الزَّمَانِ دِيْدَانُ الْقُرْآنِ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ شَرِّهِمْ" (¬3). كأنه شبههم بالدود من حيث إنه يُفسد الطعام إذا نشأ منه، وتقدم الحديث في الباب. وروى أبو نعيم عن يحيى بن أبي بشر رحمه الله تعالى قال: قال سليمان عليه السلام لابنه: لا تكثر الغيرة على أهلك ولم ترَ سُوءاً، فتُرمى بالشرِّ من أجلك وإن كانت منه بريئة (¬4). وعنه قال: خير الإخوان الذي يقول لصاحبه: تعال نصم قبل أن ¬
نموت، وشر الإخوان الذي يقول لصاحبه: تعال نأكل ونشرب حتى نموت (¬1). ومعناه: أنَّ خير إخوان المرء من يدعوه إلى الطاعة ومجاهدة النفس، وشرهم من يدعوه إلى شهوات النفس. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَهْلُ الْبِدَعِ شَرُّ الخَلْقِ وَالخَلِيْقَةِ" (¬2). وتقدم أن عيسى عليه السلام قال: واضع الحكمة في غير أهلها كمقلِّد الخنازير الدُّر (¬3)، والحكمة خيرٌ من الدُّر ومن لا يريدها شر من الخنازير. وروى أبو نعيم عن أبي الجوزاء رحمه الله تعالى قال: لأن أُجالس القردة والخنازير أحب إليَّ من أن أُجالس رجلاً من أهل الأهواء. وفي رواية: والذي نفسي بيده لأن تمتلئ داري قردة وخنازير أحبُّ إليَّ من أن يجاورني أحد من أهل الأهواء (¬4). ¬
فجعلهم شرًّا من القردة والخنازير. ووجهه: أنها يوم القيامة تكون تراباً، وأهل الأهواء والبدع يُقاسون نكالاً وعقاباً. ونظيره ما قدمناه عن الواعظ الذي سأله بعض القوم: أنت خير أم الكلب؟ فقال: إن دخلت الجنة فأنا خير من الكلب، وإن دخلت النار فالكلب خيرٌ مني (¬1). وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَهْلُ الجَنَّةِ مَنْ مَلأَ اللهُ أُذُنيهِ مِنْ ثَنَاءِ النَّاسِ خَيرًا وَهُوَ يَسْمَعُ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنْ مَلأَ اللهُ أُذُنَيْهِ مِنْ ثَنَاءِ النَّاسِ شَرًّا وَهُوَ يَسْمَعُ" (¬2). وروى أبو نعيم عن ابن المبارك رحمه الله تعالى قال: قال محمد ابن علي بن الحسين - يعني: أبا جعفر الباقر - رحمه الله تعالى: من أُعطيَ الخلق والرفق فقد أُعطي الخير والراحة، وحَسُن حاله في دنياه وآخرته، ومن حُرم الرفق والخلق كان ذلك سبيلاً إلى كل شر وبلية إلا من عصمه الله (¬3). وقلتُ في معناه: [من الرجز] ¬
مَنْ مَنَّ عَلَيْهِ رَبُّهُ بِالرِّفْقِ ... فِي كُلِّ أُمُورِهِ وَحُسْنِ الْخُلْقِ بِالرَّاحَةِ وَالْخَيْرِ غَدا مُغْتَبِطاً ... فِي النَّاسِ وَحَسُنَ حالُهُ فِي الْخَلْقِ وروى أبو نعيم عن سفيان بن عيينة قال: دخل أبو حازم رحمه الله تعالى على أمير المدينة، فقال له: تكلم. فقال له: انظر الناس ببابك؛ إن أدْنيت أهل الخير ذهبَ أهل الشر، وإن أدْنيت أهل الشر ذهب أهل الخير (¬1). وعن أبي حازم: أن رجلاً قال له: ما شكر العينين يا أبا حازم؟ قال: إن رأيت بهما خيراً أَعْلنته، وإن رأيت بهما شراً سترته. قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيراً وَعَيته، وإن سمعت بهما شراً وقيته. قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاً لله عز وجل هو فيهما. قال: ما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعام وأعلاه علم. قال: فما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 6 - 7]. ¬
قال: فما شكر الرِّجْلين؟ قال: إن رأيت شيئاً غبطته استعملت بهما عمله، وإن رأيت شيئاً مَقتَّه ففتهما عن عمله وأنت شاكرٌ لله عز وجل في كل شيء. فأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله كمثل رجل له كساء، فأخذ بطرفه ولم يلبسه فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر (¬1). وعن يوسف بن أسباط رحمه الله تعالى قال: أخبرني بُجير: أن بعض الأمراء أرسل إلى أبي حازم، فأتاه وعنده الإفريقي والزهري وغيرهما، فقال له: تكلم يا أبا حازم. فقال: إنَّ خير الأمراء من أحبَّ العلماء، وإنَّ شر العلماء من أحب الأمراء، وإنه كان فيما مضى إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا أعطوهم لم يقبلوا منهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم، وكان الأمراء يأتون العلماء بأبدانهم يسألونهم، وكان في ذلك صلاح الأمراء وصلاح العلماء، فلما رأى ذلك ناسٌ من الناس قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى نكون مثل هؤلاء، فطلبوا العلم، فأتوا الأمراء، فحدثوهم، فرخصوا لهم، فقبلوا منهم، فخزيت العلماء على الأمراء، وخزيت الأمراء على العلماء (¬2). ¬
ومعنى خزيت - بفتح الخاء المعجمة، وكسر الزاي -: هانت. وروى أبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دخل رجلٌ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد ومعه أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، فصلى أسامة بن زيد ركعتين ثم احتبى، فأطال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة، فلمَّا قضى صلاته قال: "يَا أُسَامَةُ! لَقَدْ أَقْصَرْتَ فيْ الصَّلاَةِ وَأَطَلْتَ الحَبْوَةَ، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا خَلَفْتَ فيْ قَوْمٍ يَقْصُرُوْنَ الصَّلاَةَ، ويطِيْلُوْنَ الحَبْوَةَ، فَيَأْكلُوْن أَلْوَانَ الطَّعَامِ، ضِحْكُهُمْ الْقَهْقَهَةُ وَضِحْكُ المُؤْمِنِ الْتَبَسُّمُ، أُوْلَئِكَ شِرَارُ أُمَّتيْ، أُوْلَئِكَ شِرَارُ أُمَّتيْ، أُوْلَئِكَ شِرَارُ أُمَّتيْ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن فضيل بن عياض قال: أخذ بيدي سفيان بن عيينة في هذا الوادي، فقلت له: إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك، فبئس ما نرى (¬2). وروى أبو الحسن بن جهضم عن شعيب بن حرب رحمه الله تعالى قال: بينا أنا في الطواف إذ لَكَزَني رجلٌ بمرفقه، فالتفت فإذا أنا بالفضيل بن عياض رحمه الله تعالى، فقال لي: يا أبا صالح! قلت: لبيك يا أبا علي. فقال: إن كنت تظن أنه شهد الموسم شر مني ومنك فبئسما ظننت (¬3). ¬
وهذا من باب هضم النفس والحَيدة بها عن التزكية، وقد سبق في ذلك خبر عن موسى عليه السلام. فالمؤمن متضع في نفسه متواضعٌ لغيره، يحقِرُ نفسه ويتهمها، ويُحسن الظن بغيره ولا يُحقر أحداً من المسلمين. وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "المُسْلِمُ أَخُوْ المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَىْ هَاهُنَا التقْوَىْ هَاهُنَا -ويشير إلى صدره- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَىْ المُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نبَيٍّ، وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيْفَةٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانتَانِ، بِطَانَهٌ تَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوْفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالمَعْصُوْمُ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ" (¬2). ورويا ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ نبَيٍّ وَلاَ وَالٍ إِلاَّ وَلَهُ بِطَانتَانِ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ باِلمَعْرُوْفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ المُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لاَ تَأْلُوْهُ خَبَالاً، وَمَنْ وَقِيَ شَرَّهَا فَقَدْ وَقِيَ، وَهُوَ مَعَ الَّتيْ تَغْلِبُ ¬
عَلَيْهِ مِنْهُمَا" (¬1). وأخرجه النسائي، ولفظه: "مَا مِنْ أَمِيرٍ وَلاَ وَالٍ إِلاَّ وَلَهُ بِطَانتَانِ مِنْ أَهْلِهِ - أي من خاصته -، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوْفِ وَتَنْهَاهُ عَنْ المُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لاَ تَأْلُوْهُ خَبَالاً، فَمَنْ وَقِيَ شَرَّهَا فَقَدْ وَقِيَ، وَهُوَ مَعَ الَّتيْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا" (¬2). والبطانة: السريرة؛ بمعنى: صاحب السريرة. والبطانة أيضاً: الصاحب، الوليجة. والوليجة: خاصتك من الرجال، أو ممن تتخذه معتمداً عليه من غير أهلك، كما في "القاموس" (¬3). وبطانة الرجل: صاحب سره، وداخلة أمره الذي يشاهده في أحواله، كما في "النهاية" (¬4). وتقدم ما ورد في الوزير. وروى الطبراني بسند جيد، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا تَخَوَّفَ أَحَدُكُمْ السُّلْطَانَ فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيْمِ، كُنْ ليْ جَارًا مِنْ شَرِّ فُلاَنٍ بْنِ ¬
فُلاَنٍ، وَشَرِّ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَأتْبَاعِهِمْ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيرُكَ" (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا أتيت سلطاناً مَهيباً تخاف أن يَسْطو بك فقل: الله أكبر، أعز من خلقه جميعاً، أعز مما أخاف وأحذر، أعوذ بالله الذي لا إله إلا هو، الممسك السماوات أن يقعن على الأرض إلا بإذنه من شر عبده فلان ابن فلان وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس، اللهم كن لي جاراً من شرهم، جلَّ ثناؤك، وعزَّ جارك، وتبارك اسمك، ولا إله غيرك (¬2). وقال الدينوري في "المجالسة": ثنا أحمد بن عبدان الأزدي قال: ثنا يعلى بن أيوب قال: بينما الرشيد هارون يطوف بالبيت إذ عرض له رجل قال: يا أمير المؤمنين إني أُريد أن أُكلمك بكلامٍ فيه غلظة فاحتمله لي. قال: لا ولا قرة عين ولا كرامة، قد بعث الله من هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌّ مني، فأمره أن يقول له قولاً ليناً (¬3). وفي "الإحياء" عن هذه القصة عن المأمون بن الرشيد، وهما ¬
واقعتان لهما توافقتا (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "الإخلاص" عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: ما من عبدٍ يسر سريرةً إلا ردَّاه الله رداءها علانيةً، إن خيراً فخير وإن شراً فشر (¬2). ويؤيده ما رواه الإمام أحمد، وابن أبي الدنيا، وأبو يعلى، وابن حبان، والحاكم وصححاه، والضياء في "المختارة" - وهو جيد الإسناد - عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ عَمِلَ فيْ صَخْرَةٍ لاَ بَابَ لهَا وَلاَ كُوُّةَ، لأَخْرَجَ اللهُ عَمَلَهُ كَائِنًا مَا كَانَ" (¬3). وروى الطبراني في "الكبير" عن جندب البجلي -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا أَسَرَّ عَبْدٌ سَرِيْرَةً إِلاَّ أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهَا، إِنْ خَيرًا فَخَيرٌ، وإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ" (¬4). ¬
وروى الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب "الزهد والرقائق" عن أبي جعفر - يعني: عبد الله بن مسور الهاشمي - رضي الله تعالى عنه (¬1) قال: جاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: بارك الله للمسلمين فيك، فخُصَّني منك بخاصة خير، قال: "أَمُسْتَوْصٍ أَنْتَ"؟ أراه قال ثلاثاً. قال: نعم. قال: "اِجْلِسْ، إِذَا أَرَدْتَ أَمْرًا فَتَدَبَّر عَاقِبَتَهُ، فإنْ كَانَ خَيرًا فَأَمْضِهِ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَانتهِ" (¬2). فقلت عاقداً للحديث: [من الوافر] تَدَبَّرْ إِنْ أَرَدْتَ الأَمْرَ وَانْظُرْ ... عَواقِبَهُ وَنَفْسَكَ فِيهِ ناصِحْ فَدَعْ ما كانَ شَرًّا وَامْضِ فِيما ... إِلَى خَيْرٍ، وَحاوِلْ كُلَّ صالِحْ وقلت: [من الوافر] تَدَبَّرْ إِنْ أَرَدْتَ الأَمْرَ وَانْظُرْ ... عَواقِبَهُ، وَكُنْ مِمَّنْ تَدارَكْ فَدَعْ ما كانَ شَرًّا وَامْضِ فِيما ... إِلَى خَيْرٍ بنا تُوقَى بَوارَك فَذَلِكَ فِي وَصِيَّةِ سَيِّدِ الْخَلْـ ... ــــقِ فِي خَبَرٍ رَواهُ ابْنُ الْمُبارَكْ وفي كتاب الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى ¬
أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]. روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كنت رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! اِرْضَ عَن اللهِ بِمَا يُقَدِّرُهُ وَإِنْ كَانَ بِخِلاَفِ هَوَاكَ، فَإِنَّهُ مُثَبَّتٌ فيْ كِتَابِ اللهِ تَعَالى". قلت: يا رسول الله! فأين وقد قرأت القرآن؟ قال: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] (¬1). ومن الأمثال ما ذكره الزمخشري: شر ما رام امرؤ، ما لم ينل؛ قاله الأغلب العجل؛ يضرب في طلب المتعذر (¬2)؛ وهو كلام صحيح. وقد ذكر بعض العلماء أن من آداب الدعاء وأسباب إجابته: أن لا يطلب العبد ما لا يليق به مما هو متعذر، كأن يطلب رتبه النبوة. أو ما هو بعيد في العادة، كأن يطلب الحجَّام مقام السلطنة. قال في "الصحاح": وفي المثل: شر ما يجيئك إلى مخ عرقوب (¬3). وأورده الزمخشري بلفظ: شر ما أجاءك - أي: ألجأك واضطرك - ¬
يُضرب للمضطر جداً، وفي الفاقة والحاجة إلى البخيل (¬1). قال الأصمعي في المثل: وذلك أن العرقوب لا مخَّ فيه، وإنما يحوج من لا يقدر على شيء (¬2). وفي المثل: شر الغريبة يعلَن، وخيرها يدفن؛ يُضرب في التحذير من الاغتراب، والرغبة في مصاهرة غير الجنس، ومعاشرة الغرباء، والرغبة في غير الأوطان. وأول من قاله من العرب عتبة بنت مطر البجلي لأختها خود، وقد رغبت في النزوح بمدرك بن مالك وهو من غير قومها (¬3). وفي المثل: شر المال القُلْعة؛ ذكره الزمخشري، وقال: هو الذي لا يبقى على صاحبه، وإنما يقلع منه (¬4). والقُلْعة - بضم القاف، وإسكان اللام -: قال في "الصحاح": المال العارية (¬5). قال في "القاموس": أي: ما لا يدوم (¬6). ¬
قال في "الصحاح": وفي الحديث "بِئْسَ المَالُ القُلْعَةُ" (¬1). أورده بهذا اللفظ حديثاً. وأورده أيضاً صاحب "النهاية"، وفسره بالعارية لأنه غير ثابت في يد المستعير ومتقلع إلى مالكه (¬2). قال في "الصحاح": وفي المثل: خير الغنى القنوع، وشر الفقر الخضوع (¬3). وفي المثل: شر المال ما لا يزكى ولا يذكى؛ يعني: الحمر؛ يُضرب فيما يُعاب من المال؛ ذكره الزمخشري (¬4). وقال العقيلي: عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "شَرُّ الحَمِيرِ الأَسْوَدُ الْقَصِيْرُ" (¬5). وفي أمثال العوام: لا يقعد على المعالف إلا شر الدواب. وأورد يعقوب بن السكيت في "إصلاح المنطق" لكُثيِّر: [من الطويل] ¬
وَأَنْتَ الَّذِي حَبَّبْت كُلَّ قَصِيرَةٍ ... إِلَيَّ وَما تَدْرِي بِذاكَ القَصائِر عَنَيتُ قَصيراتِ الْحِجالِ وَلَمْ أُرِدْ ... قِصارَ الْخُطا، شَرُّ النِّساءِ الْبَحاتر (¬1) أراد بالقصائر: جمع قصيرة، أو قصورة، وهي المحبوبة المحجوبة. وأما البحاتر، ويروى: البهاتر لهما جميعاً بحتره وبهتره، وهي القصيرة ضد الطويلة، والعرب تذم بزيادة الطول والقصر، وتحمد الرَّبعة من الرجال والنساء، وهي صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وروى الحسن المروزي في "زوائد الزهد" للإمام عبد الله بن المبارك عن مكحول - مرسلاً - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فيْ اللهِ إِلاَّ كَانَ أَفْضَلُهُمَا أَشَدَّهُمَا حُبًّا لِصَاحِبِهِ، وَمَا افْتَرَقَا إِلاَّ عَنْ ذَنْبٍ وَأَشَرَّهُمَا المُحَدِثُ". أي: شرهما الذي أحدث ذلك الذنب؛ استعمل الشر وهو الأصل، والأصل في خير وشر أخير وأشير، إلا أنه أصل متروك. وروى ابن أبى شيبة عن أبي إسحاق السبيعي، عن رجل من جهينة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ مَا أُعْطِيَ المُؤْمِن خُلُقٌ حَسَنٌ، ¬
وَشَرُّ مَا أُعْطِيَ الرَّجُلُ قَلْبُ سُوْءٍ فيْ صُوْرَةٍ حَسَنَةٍ" (¬1). وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: إنَّ للشر أهلاً، وللخير أهلاً، ومن ترك شيئاً كفيه (¬2). وروى أبو نعيم عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى، قال: من العجز أن يُظَنَّ بأهل الشر الخير (¬3). قلت: ومن الجَور أن يُظَنَّ بأهل الخير الشر. وقلت في عقد ذلك مع عقد الآية الكريمة: [من الرمل] ظَنُّكَ الْخَيْرَ بِأَهْلِ الشَّرِّ عَجْزٌ ... ظَنُّكَ الشَّرَّ بِأَهْلِ الْخَيْرِ ظُلْمُ فَاتَّقِ اللهَ علا فِي الظَّنِّ وَاقْرَأْ ... قَوْلَ رَبِّي: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمُ) وروى الدينوري في "المجالسة" عن مؤوخ قال: دعا أعرابي بعرفة، فسمعته يقول: اللهم إنِّي أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، فأعطني الخير واجعلني له أهلاً، وجنبني الشر ولا تجعلني للشر مثلاً (¬4). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن سليط بن عبد الله قال: قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: رُوا بالخير ولا ترُوا بالشر (¬1). أي: إذا كان لكم رأي فليكن مصحوباً بقصد الخير وإرادته، ولا يكن مصحوباً بإرادة الشر؛ أي: فليكن مستعملاً في الخير. والباء بمعنى في؛ أي: استعملوا رأيكم في الخير، ولا تستعملوه في الشر؛ فإن الرأي في الحقيقة اجتهاد قد يقع فيه الخطأ، والخطأ في الخير فوات وفي الشر تفويت، والتفويت جناية بخلاف الفوات. ويحتمل أنه ضمن الرأي معنى الإشارة بالشورى؛ أي: إذا كان لك شورى فلتكن بالخير؛ فإنها مصلحة، ولا تكن بالشر؛ فإنها غش وخيانة. وروى أبو نعيم عن الأعمش رحمه الله تعالى قال: كنا نَعُدُّ أهل السوق شرارنا، وإنا لنعدهم اليوم خيارنا (¬2). ووجه ذلك: أنهم كانوا في صدر الإسلام وإقبال الدِّين يؤثرون التوكل ويقبلون على العبادة والعلم، فلما وهن كثير منهم وتعرض لمخالطة الملوك والأغنياء طمعاً فيما في أيديهم صار أهل الكسب والاجتزائية عما في أيدي الناس خيراً منهم، وكان أهل السوق إذ ذاك لهم اهتمام بالدين في معاملاتهم وأحوالهم. ¬
وروى الدينوري في "المجالسة" عن أبي حازم قال: إذا كنت في زمان ترضى فيه من العمل بالقول، ومن العلم بالعمل فأنت في شر زمان وشر ناس (¬1). أي: ترضى فيه بالقول والدعوى بدلاً من العمل، وترضى فيه بالعمل كيف كان بدلاً من العلم، ومعناه التعبد على جهل. وقال الدينوري: حدثنا عباس بن محمد الدوري قال: أنشدنا يحيى بن معين هذا الشعر، وذكر أنه للعمري العابد رحمه الله تعالى: [من الطويل] وَما لِي مِنْ عَبْدٍ وَلا مِنْ وَلِيدَةٍ ... وَإِنِّي لَفِي فَضْلٍ مِنَ اللهِ واسِعِ بِنِعْمَةِ رَبِّي ما أُرِيدُ مَعِيشَةً ... سِوى قَصْدِ حِلٍّ مِنْ مَعِيشةِ قانِعِ وَمَنْ يَجْعَلِ الرَّحْمنُ فِي قَلْبِهِ الرِّضا ... يَعِشْ فِي غِنًى مِنْ طَيِّبِ العَيْشِ واسِعِ وَلَمْ أَبْتَغِ الدُّنْيا بِدِينٍ أَبِيعُهُ ... فَبائِعٌ دِينَ اللهِ مِنْ شَرِّ بائِعِ وَلَمْ تَسْتَمِلْنِي الْمُرْدِياتُ مِنَ الْهَوى ... وَلَمْ أَتخَشَّعْ لامْرِئٍ ذِي بَضائِعِ جَموعٍ لِشَرِّ الْمالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ ... ضَنِينٍ بِقَولِ الْحَقِّ لِلزُّورِ راتِعِ قال يحيى: كنت أظن أن هذا الشعر للعمري حتى قال لي ابنه: هذا قاله عبد الله بن إدريس رحمه الله تعالى (¬2). ¬
وروى ابن أبي الدنيا، والدينوري من طريقه عن أبي عبيدة قال: قال أكثم بن صيفي: الشر بدؤه صغار، فاصفح عنه لكيلا يخرجك إلى أكبر منه (¬1). وقلت في معناه: [من المجتث] الشَّرُّ يَبْدُو صِغاراً ... فَاصْفَحْ بِحِلْمِكَ عَنْهُ كَيْلا يَصِيرَ كِباراً ... يَعْسُرْ خَلاصُكَ مِنْهُ وروى ابن أبي الدنيا في "العقوبات" عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: إذا لم يَلِ الوالي لله، ولم يؤدِّ المولى ما عليه من حق الله، فاحذروا مكر الله وأخذه، فقد اجتمع الشر عليكم. وروى ابن عساكر في ترجمة أبي جعفر محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي عنه قال: كنت ألعب في الكنيسة بالأكرة وأنا حَدَث، فدخلت الكرة إلى المسجد حتى وقعت بالقرب من المعافى ابن عمران، فقال لي: يا فتى! ابن من أنت؟ فقلت: أنا ابن عوف. قال: ابن سفيان؟ قلت: نعم. قال: أما إنَّ أباك كان من إخواننا، وكان ممن يكتب معنا الحديث والعلم، والذي كان يشبهك أن تتبع ما كان عليه والدك، ¬
فصرتُ إلى أمي فأخبرتها. فقالت: صدق يا بني! هو صديق لأبيك، فألبستني ثوباً من ثيابه وإزاراً من إزاره، ثم جئت إلى المعافى بن عمران ومعي محبرة وورق، فقال: اكتب: حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد ربه بن سليمان قال: كتبت لي أمُّ الدرداء في لوحي مما تعلمني: اطلبوا العلم صغاراً تعملوا به كباراً؛ فإن لكل حاصدٍ ما زرع - خيراً كان أم شراً - فكان أول حديث سمعته (¬1). وفي معنى كلام أم الدرداء رضي الله تعالى عنها: الحديث الذي أورده النحاة مستشهدين به على حذف فعل الشرط، وعلى حذف كان واسمها: "النَّاسُ مَجْزِيُّونَ بِأَعْمالِهِم؛ إِنْ خَيْراً فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ" (¬2)؛ أي: إن كان العمل خيراً فجزاؤه خير، وإن كان شراً فجزاؤه شر. وبهذا اللفظ أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفاً عليه (¬3). وروى الديلمي بسند ضعيف، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اسْتَوَىْ يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُوْنٌ، وَمَنْ كَانَ آخِرُ ¬
يَوْمَيْهِ شَرًّا فَهُوَ مَلْعُوْنٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فيْ الزِّيَادَةِ فَهُوَ فيْ النُّقْصَانِ" (¬1). وروى الغزالي في "الإحياء" بلفظ: "مَنِ اسْتَوَىْ يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُوْنٌ، وَمَنْ كَانَ يَوْمُهُ شَرًّا مِنْ أَمْسِهِ فَهُوَ مَلْعُوْنٌ" (¬2). وقال العراقي في تخريجه: لا أعرف هذا إلا في منام لعبد العزيز ابن أبي روَّاد. قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله! أوصني، فقال ذلك (¬3). وروى الدينوري في "المجالسة" عن ابن المبارك قال: إنَّ شاعراً امتدح ابن شهاب الزهري، فأعطاه فأجزل، فقيل له في ذلك، فقال: إنَّ من السخاء في الخير اتقاء الشر (¬4). وروى ابن السمعاني في "تاريخه" عن ضميرة قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يشكو جاره، فقال: الحجارة تجيئني من الليل يرمى بها، فقال: أعدها من حيث تجيئك، ثم قال: إنَّ الشر لا يُصلحه إلا الشر. وقلت في المعنى: ¬
عَفْوُ الفَتَى عَنِ الوَرى مِنْ فَضْلِهِ ... إِلاَّ مُلِحًّا فِي الأَذى مِنْ جَهْلِهِ فَإِنَّما جَزاؤُهُ مِنْ فِعْلِهِ ... قَدْ يُدْفَعُ الشَّرُّ بِشَرٍّ مِثْلِهِ وفي معناه قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. وكذلك المثل: الجزاء من جنس العمل. وروى ابن عساكر في ترجمة محمد بن وضاح الأندلسي القرطبي عنه قال: سمعت سحنون يقول [سمعت الأشهب يقول]: أغنج النساء المدنيات، وأخبث النساء المكيات، وأعف النساء البصريات، وشر النساء المصريات (¬1). قلت: وأشد النساء حياءً الدمشقيات، وأرغب النساء في الرجال الروميات. وقد تقدم حديث أبي أُذينة: "خَيْرُ نِسَائِكُمْ الْوَلُوْدُ الْوَدُوْدُ، المُوَاتيةُ المُوَاسِيَةُ إِذَا اتَّقَيْنَ الله، وَشَرُّ نِسَائِكُمْ المُتَبَرِّجَاتُ المُتَخَيِّلاَتُ" (¬2). وروى ابن النجار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خِيَارُ أُمَّتيْ مَنْ دَعَا إِلىْ اللهِ وَحَبَّبَ إِلَيْهِ عِبَادَهُ، وَشِرَارُ أُمَّتيْ التُّجَّارُ مَنْ ¬
كَثُرَتْ أَيْمَانُهُ وإِنْ كَانَ صَادِقًا" (¬1). ويشهد له ما رواه الإمام أحمد، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب" عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ التُّجَّارَ هُمُ الْفُجَّارُ". فقيل: يا رسول الله! أليس الله قد أحلَّ البيع؟ قال: "نعَمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُوْنَ فَيَأْثَمُوْنَ، وَيُحَدِّثُوْنَ فَيَكْذِبُوْنَ" (¬2). وروى أبو داود الطيالسي، وابن منيع، وابن أبي أسامة في "مسانيدهم"، والديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "النَّاسُ مَعَادِنُ فيْ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، خِيَارُهُمْ فيْ الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فيْ الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوْا" (¬3). وروى البيهقي، والديلمي عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "النَّاسُ مَعَادِنُ وَالْعِرْقُ دَسَاسٌ، وَأَدَبُ السُّوْءِ كَعِرْقِ السُّوْءِ" (¬4). ¬
وروى الإمام أحمد، ومسلم عن جابر -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ في الخَيرِ وَالشَّرِّ" (¬1). وروى أبو نعيم عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أنه قال: إنما الخير والشر بعد اليوم (¬2). وأراد باليوم مدة زمان الدنيا؛ أي: لا يكون الخير الحقيقي والشر الحقيقي إلا ما كان في الآخرة. وروى أبو نعيم بإسنادٍ صحيح، عن كعب رضي الله تعالى عنه قال: يؤتى بالرئيس في الخير يوم القيامة، فيُقال له: أجب ربك، فَيُنطلق به إلى ربه عز وجل فلا يحجب عنه، فيؤمر به إلى الجنة فيرى منزله ومنازل أصحابه الذين كانوا يتابعونه على الخير، فيعينونه عليه بخير، فيقال له: هذه منزلة فلان، وهذه منزلة فلان، فيرى ما أعدَّ الله لهم في الجنَّة، ويوضع على رأسه تاج، ويغلف من ريح الجنة، ويشرق وجهه حتى يكون مثل القمر. قال همام: أحسبه قال: ليلة البدر. قال: فيخرج فلا يراه أهل ملأ إلا قالوا: اللَّهُمَّ اجعله منهم حتَّى ¬
يأتي أصحابه الذين كانوا يجامعونه على الخير ويعينونه عليه، فيقولون: بشِّرنا يا فلان. فيقول لهذا: إنَّ الله أعدَّ لك في الجنة كذا، ولهذا: إنَّ الله أعدَّ لك في الجنة كذا، وأعدَّ لك كذا، فما يزال يُخبرهم بما أعدَّ لهم في الجنة من الكرامة حتى يعلو وجوههم من البياض مثلما علا وجهه، فيعرفهم الناس ببياض وجوههم. قال: ويؤتى بالرئيس في الشر فيُقال له: أجب ربك، فينطلق به إلى ربه عز وجل، فيُحجب عنه، ويؤمر به إلى النَّار، فيرى منزله ومنزل أصحابه، فيقال: هذه منزلة فلان، وهذه منزلة فلان، فيرى ما أعدَّ لهم فيها من الهوان، ويرى منزلته أشر من منازلهم، قال: فيسود وجهه، وتزرقُّ عيناه، ويوضع على رأسه قلنسوة من نار. قال: فيخرج فلا يراه أهل ملأ إلا تعوذوا بالله منه، فيأتي أصحابه الَّذين كانوا يجامعونه على الشر ويعينونه عليه، فما يزال يخبرهم بما أعدَّ لهم في النار حتى يعلو وجوههم من السواد مثل ما علا وجهه، فيعرفهم الناس بسواد وجوههم فيقولون: هؤلاء أهل النار (¬1). وإنما يكون الرئيس الخير بالرتبة المذكورة إذا كان عاملاً بما يعلم، مؤتمراً بما يؤمر، مُنتهياً عما يُنهى. ¬
وكذلك ينبغي لكل عالم يعلم الناس كما قال بعض السلف: إذا أمرت بخير، فكن آخَذَ الناسِ به، وإذا نهيتَ عن شر، فكن أبعد الناس عنه. وإلا فإنه من أشد الناس عذاباً، أو هو أشدهم كما في الحديث: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ عَالمٌ لمَ يَنْفَعْهُ اللهُ بِعِلْمِهِ" (¬1). وروى الشيخان، وغيرهما عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُؤْتَىْ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَىْ فيْ النَّارِ، فتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ؛ أي أمعاؤه، فَيَدُوْرُ بهَا كَمَا يَدُوْرُ الحِمَارُ فيْ الرَّحَا، فَيَطِيْفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُوْلُوْنَ لَهُ: مَالَكَ؟ فَيَقُوْلُ: كُنْتُ آمُرُ بِالخَيرِ وَلاَ آتِيْهِ، وَأَنْهَىْ عَنِ الشَّرِّ وَآتِيْهِ". وفي رواية: "آمُرُ بِالمَعْرُوْفِ وَلاَ آتِيْهِ، وَأَنْهَىْ عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيْهِ" (¬2). وروى الحاكم في "تاريخه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- "يَا عُدَّتيْ فيْ كُرْبَتيْ، وَيَا صَاحِبي عِنْدَ شِدَّتيْ، وَيَا وَليَّ نِعْمَتيْ، يَا إِلهَيْ وَإِلَهَ آبَائِيْ، لاَ تَكِلْنيْ إِلى نَفْسِيْ فَأَقْتَرِبَ مِنَ الشَّرِّ وَأَتَبَاعَدَ عَنِ الخَيرِ، وَآنِسْنيْ فيْ قَبرِيْ مِنْ وِحْشَتيْ، وَاجْعَلْ ليْ عَهْدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَسْؤُوْلاً" (¬3). ¬
وروى الطَّبراني في "الكبير" عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللهَ تَعَالى قَالَ: أَنَا خَلَقْتُ الخَيرَ وَالشَّرَّ، فَطُوْبَىْ لِمَنْ قَدَّرْتُ عَلَىْ يَدَيْهِ الخَيرَ، وَوَيْلٌ لِمَنْ قَدَّرْتُ عَلَىْ يَدَيْهِ الشَّرَّ" (¬1). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن أسماء بن عبيد رحمه الله تعالى قال: قال لقمان عليه السلام لابنه: اِستعذ بالله من شرار النساء، وكن على خيارهن على حذر؛ فإنهن لا يُسارعن إلى الخير، بل هنَّ إلى الشَّر أسرع (¬2). وروى أبو عمرو الداني في "الفتن" عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: في آخر الزمان الزموا الصوامع. قلنا: وما الصوامع؟ قال: البيوت؛ فإنه ليس ينجو من شر ذلك الزمان إلا صفوته من خلقه (¬3). وروى الإمام أحمد، والترمذي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتي خَمْسَ عَشْرَةَ خَلَّةَ، حَلَّ بِهَا الْبَلاَءُ" قيل: وما هنَّ يا رسول الله؟ قال: "إِذَا كَانَ المَغْنَمُ دُوْلاً، وَالأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَعَقَّ أُمَّهُ، وَبَرَّ ¬
صَدِيْقَهُ، وَجَفَا أَبَاهُ، وَارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ فيْ المَسَاجِدِ، وَكَانَ زَعِيْمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَشُرِبَتِ الخُمُوْرُ، وَلُبِسَ الحَرِيْرُ، وَاتُّخِذَتِ القِيَانُ وَالمعَازِفُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا، فَلْيَرْتَقِبُوْا عِنْدَ ذَلِكَ رِيْحًا حَمْرَاءَ أَوْ خَسْفًا أَوْ مَسْخًا" (¬1). وروى أبو عمرو الداني عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: إنَّ من أشراط السَّاعة أن توضع الأخيار، وترفع الأشرار، ويسود كل قبيلة منافقوها (¬2). وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: يأتي على الناس زمان، يمتلئ فيه جوف كل امرئٍ شراً [حتى يجري الشر] فضلاً، ولا يجد جوفاً يلجُ فيه (¬3). وعن حذيفة قال: ليأتين على الناس زمان، يمتلئ فيه كل قلب شراً حتى لاتجد قلباً يَعِيْه (¬4). وعن الحسن رحمه الله -مرسلاً - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ تَحْتَ يَدِ اللهِ وَفيْ كَنَفِهِ مَا لَمْ يُمَالِئْ قُرَّاؤُهَا أُمَرَاءَهَا، وَلَمْ يُزَكِّيْ صُلَحَاؤُهَا فُجَّارَهَا، وَمَا لَمْ ينمُّ خِيَارُهَا أَشْرَارَهَا، فَإِذَا فَعَلُوْا ¬
ذَلِكَ رَفَعَ اللهُ الْكَرِيْمُ يَدَهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتَهُمْ يَسُوْمُوْنهمْ سُوْءَ الْعَذَابِ، وَضَرَبَهَمْ بِالْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، وَمَلأَ قُلُوْبَهُمْ رُعْبًا" (¬1). وأورده الماوردي في "أدب الدِّين والدُّنيا" بلفظ: "مَا لَمْ يَملل قُرَّاؤُهَا أُمَرَاءَهَا، وَلَمْ يُزَكِّ صُلَحَاؤُهَا فُجَّارُهَا، وَيُمَالِ أَخْيَارُهَا شِرَارَهَا" (¬2). يقال: مالأته على الأمر، ممالأة: ساعدته عليه وشايعته، وتمالؤا: اجتمعوا، ويقال: نميت الشيء على الشيء: إذا رفعته عليه. والتزكية: المدح والثناء. وأما الإملال فمعناه زيارة القراء للأمراء حتى يملُّوهم. وجميع ما في هذا الحديث صفات أهل هذا الزمان. ومن هنا وقع الناس في وعيده من تسليط الجبارين على النَّاس حتى ساموهم سوء العذاب من تكليفهم الأموال ومضايقتهم في المساكن وانتزاع أملاكهم منهم، ومن وقوع أكثر الناس في الرعب والخوف، وابتلاؤهم بالفقر والفاقة، وإن جمعوا الأموال محقت منهم أُخرى بتغريم الظَّلمة إياهم، واستلاب السُّرَّاق والقطاع إياها منهم، وتسليطهم على أموال أنفسهم بالسرف والتبذير في المعاصي وما لا يُجدي وغير ذلك، وقانا الله الأسواء والسيئات، وكفانا البلاء والخطيئات. ¬
وروى أبو يعلى عن أبي سعيد، وأبي هريرة معاً رضي الله تعالى عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال"لَيَأْتِيَنَّ عَلَىْ النَّاسِ زَمَانٌ يَكُوْنُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ سُفَهَاءُ، يُقَدِّمُوْنَ شِرَارَ النَّاسِ، ويُظْهِرُوْنَ حُبَّ أَخْيَارِهِمْ، ويؤَخِّرُوْنَ الصَّلاَةَ عَنْ مَوَاقِيْتِهَا، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلاَ يَكُوْنَنَّ عَرِيْفًا وَلاَ شُرْطِيًّا وَلاَ جَابِيًا وَلَا خَازِنًا" (¬1). وروى سمُّويه عن ثوبان رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَيَكُوْنُ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتيْ، يُغَلِّطُوْنَ فُقَهَاءَهُمْ بِمُعْضِلِ الْمَسَائِلِ، أُوْلَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِيْ" (¬2). ورواه الطبراني في "الكبير" -وضعف - ولفظه: "سَيَكُوْنُ فيْ أُمَّتيْ أَقْوَامٌ يَتَعَاطَىْ فُقَهَاؤُهُمْ عُضْلَ المَسَائِلِ، أُوْلَئِكَ أَشْرَارُ أُمَّتيْ" (¬3). والعضل: جمع عُضلة - بالضم -: وهي الدَّاهية، ثم أطلق على الأمر الشديدِ المُشْكلِ: عضلة. وروى الطبراني في "الأوسط" بسند جيد، عن حذيفة رضي الله ¬
تعالى عنه قال: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله! متى يُترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما سيدا أعمال أهل البر؟ قال: "إِذَا أَصَابَكُمْ مَا أَصَابَ بَنيْ إِسْرَائِيْلَ". قلت: يا رسول الله! وما أصاب بني اسرائيل؟ قال: "إِذَا دَاهَنَ أَخْيَارُكُمْ فُجَّارَكُمْ، وَصَارَ الْفِقْهُ فيْ شِرَارِكُمْ، وَصَارَ المُلْكُ فيْ صِغَارِكُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَلْبَسُكُمْ فِتْنَهٌ تَكُرُّوْنَ عَلَيْهَا وَتَكُرُّ عَلَيْكُمْ" (¬1)؛ أي: ترجع عليكم. وروى الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لاَ يَأْتيْ عَلَيْكُمْ عَامٌ وَلاَ يَوْمٌ إِلاَّ وَالَّذِيْ بَعْدَهُ شَرُّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ" (¬2). وروى الدينوري في "المجالسة" عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قال هَرِم بن حيَّان رحمه الله تعالى: اللهم إني أعوذ بك من شر زمان يتمرد فيه صغيرهم، ويأمل فيه كبيرهم، وتقرب فيه آجالهم (¬3). ¬
وقال نعيم بن حمَّاد في "الفتن": أنا عبد الرزاق عن أمه، عن ميناء مولى عبد الرحمن بن عوف قال: رأيت أبا هريرة رضي الله تعالى وسمع صبياناً يقولون: الآخر شر، الآخر شر، فقال أبو هريرة: إي والذي نفسي بيده إلى يوم القيامة (¬1). وأخرج بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن شر الليالي والأيام والشهور والأزمنة أقربها إلى السَّاعة (¬2). وروى الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بَادِرُوْا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا، مَا تَنْتَظِرُوْنَ إِلاَّ فَقْرًا مُنْسِياً، أَوْ غِنىً مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَالَ فَإِنَّهُ شَرُّ مُنْتَظَرٍ، أَوِ السَّاعَةُ وَالسَّاعَةَ أَدْهَىْ وَأَمَر" (¬3). وروى الدَّارقطني عن مجاهد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَحَبَّ الْعَبْدُ لِقَاءَ رَبِّهِ، أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ الْعَبْدُ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ". قال: فذكر ذلك لعائشة رضي الله تعالى عنها فقالت: يرحمه الله، حدثكم بآخر الحديث ولم يحدثكم بأوله. قالت عائشة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيرًا، بَعَثَ ¬
إِليْهِ مَلَكًا فيْ عَامِهِ الَّذِيْ يَمُوْتُ فِيْهِ، فَيُسَدِّدُهُ وَيُبَشِّرُهُ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ مَوْتهِ أَتَىْ مَلَكُ المَوْتِ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ اُخْرُجِيْ عَلَىْ مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرُضْوَانٍ، فَتهوَّعُ نَفْسُهُ رَجَاءَ أَنْ تَخْرُجَ، فَذَلِكَ حِيْنَ يُحِبُّ لِقَاءَ اللهِ ويحِبُّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ شَرًّا بَعَثَ إِليْه شَيْطَاناً فيْ عَامِهِ الَّذِيْ يَمُوْتُ فِيْهِ، فَأَغْرَاهُ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ مَوْتهِ أَتَاهُ مَلَكُ المَوْتِ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ اُخْرُجِيْ إِلى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبِهِ، فتفَرَّقُ فيْ جَسَدِهِ، فَذَلِكَ حِيْنَ يُبْغِضُ لِقَاءَ اللهِ ويبْغِضُ اللهُ لِقَاءَهُ" (¬1). قال في "الصحاح": هاع يَهُوع هواعاً وهيعوعة؛ أي: قاء، والتهيع: التقيؤ (¬2). وروى الأستاذ أبو منصور البغدادي في مؤلفه "فيما استدركته عائشة على الصحابة -رضي الله عنهم -" عن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة رضي الله تعالى عنها، فقال مسروق: قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَه"، فقالت عائشة: يرحم الله تعالى أبا عبد الرحمن، حدَّث بأول الحديث، ولم تسألوه عن آخره: "إِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ ¬
خَيرًا قَيَّضَ اللهُ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ مَلَكاً يُوْفِّقُهُ وَيُسَدِّدُهُ حَتَّى يَقُوْلَ النَّاسُ: مَاتَ فُلاَنٌ عَلَىْ خَيرِ مَا كَانَ، فَإِذَا حَضَرَ وَرَأَىْ ثَوَابَهُ مِنَ الجَنَّةِ تهَوَّعُ نَفْسُهُ أَوْ قَالَ تَهَوَّعَتْ نَفْسُهُ، فَذَلِكَ حِينَ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ شَرًّا بَعَثَ اللهُ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ شَيْطَاناً، فَافْتَتَنَهُ حَتَّى يَقُوْلَ النَّاسُ: مَاتَ فُلاَنٌ عَلَىْ شَرِّ مَا كَانَ، فَإِذَا حَضَرَ وَرَأَىْ مَا يَنزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ فَبَلَعَ نَفسه بِذَلِكَ حِينَ كِرَهَ لِقَاءَ اللهِ وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ" (¬1). وقولها: فبلع نفسه - بكسر اللام - أي: حاول أن يبتلعها ويردها لئلا تخرج. وروى الإمام أحمد - ورواته رواة "الصحيح" - عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ أَبْغَضَ لِقَاءَ اللهِ بَغَضَ اللهُ لِقَاءَهُ". قلنا: يا رسول الله! كلنا يكره الموت؟ قال: "لَيْسَ كَرَاهَةَ المَوْتِ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَ جَاءَهُ الْبَشِيْرُ مِنَ اللهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُوْنَ قَدْ لَقِيَ اللهَ فَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ أَوِ الْكَافِرَ إِذَا حَضَرَ جَاءَهُ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ أَوْ مَا يَلْقَىْ مِنَ الشَّرِّ، فَكَرِهَ لِقَاءَ اللهِ فَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ" (¬2). ¬
وروى أبو نعيم عن وهب قال: قرأت في بعض الكتب فوجدت أنه تعالى يقول: يا ابن آدم! ما أنصفتني؛ تذكرني وتنساني، وتدعو إلي فتفر مني، خيري إليك نازل، وشرك إليَّ صاعد (¬1). وعن وهب في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء: 47] قال: إنما توزن من الأعمال خواتيمها، وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً خَتَم له بخير عمله، وإذا أراد بعبده شراً ختم له بشر عمله (¬2). وعن وهب أيضاً قال: لما أُهبط آدم عليه السلام إلى الأرض استوحش لفقد أصوات الملائكة عليهم السلام، فهبط عليه جبريل عليه السلام فقال: يا آدم! هلا أعلمك شيئاً تنتفع به؟ قال: بلى. قال: قل: اللهم أَدِم لي النعمة حتى تُهنيني المعيشة، اللهم اختم لي بخير حتى لا تضرني ذنوبي، اللهم اكفني مؤنة الدنيا وكل هول في القيامة حتى تُدخلني الجنة (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في "المنامات" عن الهيثم بن معاوية قال: حدثني فلان قد سمَّاه قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقلت: ¬
يا رسول الله! ادع لي بخير، فحَسَر عن ذراعيه ودعا، وقال: ليكن كلما تدعو: اللهم اختم لنا بخير (¬1). * * * ¬
(9) باب ما يحسن من التشبه بالبهائم والسباع
(9) بَابُ مَا يَحْسُنُ مِنَ اْلتَّشَبُّهِ بِاْلبَهَائِمِ وَاْلسِّبَاعِ
(9) بَابُ مَا يَحْسُنُ مِنَ اْلتَّشَبُّهِ بِاْلبَهَائِمِ وَاْلسِّبَاعِ هذا الباب كالتكملة للباب قبله، وذلك أنه قد وردت آثار في الإرشاد إلى التشبه ببعض أشراف الحيوانات كالأسد، والنسر، والبازي، والنمر، والحمام. وليس ذلك لكمالٍ فيها، لما تقرر لك أن البهائم لا حظ لها في العقل، ولا نصيب لها في التمييز، ولذلك لم تكن مُكلَّفة. وما جاء في السنة من الاقتصاص من القَرْناء للجَمَّاء، وسؤال العُود: لم خدش العود (¬1)؛ فقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: إنه ليس على حقيقته، ولا قصاص على البهائم لأنها غير مكلفة؛ إذ لا تعقل، قال: وإنما ذلك على سبيل المثل والإخبار عن شدة التقصي في الحساب، وأنه لا بد أن يقتص من الظالم للمظلوم. وقال أبو إسحاق الإسفراييني: يجري القصاص بين البهائم، ¬
ويحتمل أنها كانت تعقل هذا القدر في دار الدنيا. وقال غيره: يجوز أن يكون الاقتصاص هنا على حقيقته، وإن لم يكن لها عقل ولا تمييز؛ لأن الله تعالى لا يُسأل عمَّا يفعل (¬1). قلت: ولإجراء القصاص بين البهائم والجمادات حكمة، وهي بيان كمال مظهرية اسم الله العدل، والمقسط، والحكم، وسريع الحساب، وأسرع الحاسبين؛ لأنه إذا كثر المحاسبون ذلك اليوم وانقضى حسابهم في يومٍ واحد، أو بعض يوم كان ذلك أبلغ في كمال مظهريته سبحانه بسرعة الحساب بكمال العدل والحكم، والقدرة والعظمة. وكذلك ما جاء في السنة من نسبة الخوف والإشفاق من قيام الساعة إلى البهائم والدواب محمول على ما جَبَلها الله تعالى عليه من نفارها مما يضرها، وانقيادها لما ينفعها جِبِلَّة وطبعاً لا عقلاً ومعرفة وإحساساً حيوانياً لا إدراكاً فهمياً، كما نصَّ عليه الدميري وغيره (¬2). وتقدم لنا فيه كلام مستوفى، فليس الإرشاد إلى التشبه بأشراف الحيوانات لكمالاتها، ولكن من جملة ما جبل الله تعالى عليه بعض البهائم والسباع من الغرائز الحيوانية ما يشبه الأخلاق الشريفة الإنسانية، فإذا خلا الإنسان من تلك الأخلاق الشريفة، وعَرِيَ عن تلك الصفات ¬
اللطيفة، مع اتصَاف بعض البهائم والسباع أو الطير بما يُلائمها، فقد رضي لنفسه بحال يكون بها أَدْوَن من هذه الحيوانات المخصوصة. فإرشاد العبد إلى التشبه بالأسد مثلاً في الشجاعة والأَنَفة، ونزاهة الطبع إشارة إليه بأن يزداد بنفسه إلى خلق يوجد مثله في الأسد الذي هو سبع من سِباع الله تعالى، سمَّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض ألفاظه كلباً (¬1)، مع أنَّ الإنسان بهذه الأخلاق الشريفة أولى من الأسد، ومن سائر الحيوانات غير الإنسان، فحسن بذلك الإرشاد إلى التشبه بالأسد وغيره من أشراف الحيوانات في الأخلاق الشريفة. ووجهٌ آخر، وهو أن الأخلاق الحميدة التي طبعت على ما يلائمها أجناس من الحيوانات غير الإنسان، فقد جبلت النفوس الزكية على محبتها واستحسانها وطلبها ودعوى الاتصاف بها والتمدح بها وإن كانت عارية عنها، واستكملتها العقول بالطبع والجبلة، حتى إنَّ العقلاء والحكماء لتنشرح صدورهم إلى المسامرة بذكرها وبذكر المتصفين بها من العقلاء كالأناسي، ومن غير العقلاء كذكر الأسد بوصف الشجاعة والنزاهة، وذكر الغزال بوصف الحَذَاقة واللطانة والرشاقة، إلى غير ذلك، ولم تأنف النفوس الزكية الأبيَّة السنية من تمثيلها وتشبيهها بالحيوانات المتصفة بهذه الأوصاف الشريفة، بل تنشرح لمن يصفها بها، وتحب لو كانت متصفة بتلك الأوصاف متحلية بتلك الأخلاق؛ ليكون الوصف موافقاً للاتصاف والتشبيه موافقاً للتشبه. ¬
وكفاك شاهداً على ذلك: أن الله عَزَّ وَجَلَّ شبه نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالأسد، ولو لم يكن ذلك من أكمل الثناء وأبلغ المدح لم يشبهه به، وذلك في قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51]. روى البزار بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: القسورة: الأسد (¬1). وروى الثعلبي عن ابن عباس قال: بلسان العرب: الأسد، وبلسان الحبشة: القسورة، وبلسان فارس: شير، وبلسان القبط: ارثا (¬2). قال السمرقندي في "تفسيره": وذلك أن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت، فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ القرآن هربوا منه، انتهى (¬3). وقد يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: (46)]. قلت: واختير لفظ القسورة في الآية لمناسبة رؤوس الآي، ولأنه ¬
من القسر وهو القهر، سُمي به الأسد لأنه يقهر السباع كلها، وكذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ذَلَّتْ لسلطانه رقابُ المشركين وسائر المتمردين. وقد ألمَّ كعب بن زهير بن أبي سلمى -رضي الله عنه- في قصيدته حيث يقول: [من البسيط] فَلَهْوَ أَخْوَفُ عِنْدِي مُذْ أكلِّمُه ... وَقِيلَ إِنَّكَ مَنْسُوبٌ وَمَسْؤُولُ مِنْ ضَيْغَمٍ بِضراءِ الأَرْضِ مَخْدرُه ... فِي بَطْنِ عثر غيل دُوْنَه غيلُ يَغْدُو فَيلحمُ ضِرغامَيْنِ عَيْشَهما ... لَحمٌ مِنَ النَّاس مَعْفورٌ خَراديلُ إِذا يُساورُ قِرْناً لا يَحلُّ بِه ... أَنْ يتركَ القِرْنَ إِلاَّ وَهُوَ مغلولُ مِنْهُ تَظلُّ حَميرُ الْجوِّ نافرةً ... وَلا تَمَشَّى بوادِيه الأراجيلُ (¬1) ووقع تشبيه النبي -صلى الله عليه وسلم- عمه حمزة -رضي الله عنه- بالأسد، وذلك فيما رواه الطَّبراني بإسناد صحيح، عن يحيى بن عبد الرَّحمن بن أبي لبيبة، عن ¬
أبيه، عن جدِّه رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدهِ إِنَّهُ لمَكْتُوْبٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالىْ فيْ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُوْلهِ" (¬1). وروى الطبرانيِّ أيضًا - بإسناد رجاله رجال "الصحيح" - عن عمير ابن إسحاق - مرسلاً - قال: كان حمزة بن عبد المطلب يقاتل بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسيفين، ويقول: أنا أسد الله وأسد رسوله (¬2). وروى الديلمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خَالِدُ بْنُ الْوَليْدِ سَيْفُ اللهِ وَسَيْفُ رَسُوْلهِ، وَحَمْزَةُ أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُوْلهِ، وَأَبُوْ عُبَيْدةَ أَمِيْنُ اللهِ وَأَمِيْنُ رَسُوْلهِ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مِنْ أَخِصَّاءِ الرحْمَنِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِنْ تجَّارِ الرَّحمَنِ" (¬3). واتفق تمثيل حمزة رضي الله تعالى عنه بالأسد، وعلي رضي الله تعالى عنه بالصقر في أبيات قالتها هند بنت أثاثة بن عباد بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنها، أجابت بها عن أبيات قالتها هند بنت ¬
عتبة يوم أحد قبل إسلامها: [من الرجز] خَزِيتِ فِي بَدْرٍ وَبَعْدَ بَدْرِ ... يا بِنْتَ وَقَّاعٍ عَظِيمِ الكُفْرِ صَبَّحَكِ اللهُ غَداةَ الفَجْرِ ... بِالْهاشِمِيِّينَ الطِّوالِ الزُّهْرِ بِكُلِّ قَطَّاعٍ حُسامٍ يَفْرِي ... حَمْزَةُ لَيْثِي وَعَلِيٌّ صَقْرِي (¬1) وقال حسان بن ثابت -رضي الله عنه- في النبي -صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله تعالى عنهم: [من البسيط] لا يَفْخَرُونَ إِذا نالُوا عَدُوَّهُمُ ... وَإِنْ أُصِيبوا فَلا خَوْرٌ وَلا هَلَعُ كَأَنَّهُمْ فِي الوَغا وَالْمَوْتُ مُكْتَتَبٌ ... أُسْدٌ بِحلية فِي أَرْساغها فدَعُ (¬2) وروى الشيخان عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ قَتِيْلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ". وكنت قتلت قتيلاً من المشركين، فقمت، فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، فأعادها، فقمت وقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست فأعادها الثالثة، فقال رجل: صدق يا رسول الله! سلبه عندي فأرضه عني. فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: لا ها اللهِ، إذاً لا يعمِدُ إلى أسدٍ من أسد الله يُقاتل عن الله ورسوله يعطيك سلبه. ¬
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صَدَقَ، فَأَعْطِهِ". قال: فبعث الدِّرع، فابتعت به مخرفاً في بني سلمة؛ فإنه لأول مال تأثَّلته في الإسلام (¬1). وروى الدِّينوري في "المجالسة" عن أبي المنهال قال: سأل عمر ابن الخطاب عمرو بن معدي كرب عن صفة سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه. فقال: متواضع في جبايته، عربي في نمرته، أسد في تاموره، يعدل في القضية، ويقسم بالسَّوية، ويبعد في السَّرية، ويعطف علينا عطف الأم البرَّة، وينقل إلينا حقنا نقل الذّرَّة (¬2). وقال الفرزدق في آل البيت -رضي الله عنهم -: [من البسيط] هُمُ الغُيُوثُ إِذا ما أَزْمَةٌ أَزِمَتْ ... وَالأُسْدُ أُسْدُ الشَّرى وَالنَّاسُ كُلُّهُمُ وورد تشبيه هذه الأمة في التوراة وغيرها من الكتب بالأسود. وروى الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الدلائل" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صِفَتيْ أَحْمَدُ المُتَوَكِّلُ، لِيْسَ بِفَظٍّ، وَلاَ غَلِيْظٍ، يُجْزِئُ بِالحَسَنَةِ الحَسَنَةَ، وَلاَ يُكَافِئُ بِالسَّيِّئَةِ، مَوْلِدُهُ مَكَةَ، وَمُهَاجرُهُ طَيْبَةَ، وَأُمَّتُهُ الحَمَّادُوْنَ، ¬
يَأْتَزِرُوْنَ عَلَىْ أَنْصَافِهِمْ، ويوَضِّئُوْنَ أَطْرَافَهُمْ، أَنَاجِيْلُهُمْ فيْ صُدُوْرِهِمْ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، لُيُوْثٌ بِالنَّهَارِ" (¬1). وروى ابن أبي حاتم، وأبو نعيم عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: إن الله تعالى أوحى إلى شعْيَاء بصفة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصفة أمته، فقال فيهم: يُطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب إلى الأنصاف، ويهلون على التِّلال والأشراف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم صدورهم، رهباناً باليل، ليوثاً بالنهار. في حديث طويل (¬2). وقال ابن أبي الدُّنيا في كتاب "الحذر": أنشدني شمخ من تميم: [من البسيط] لَقَدْ نَجا أَهْلُ تَقْوى زادُهُم عَمَلُ ... باعُوا الشُّكُوكَ فَقَدْ نَجَّاهُمُ الْحَذَرُ قَرَّتْ عُيونُ الْمُطِيعينَ الَّذِينَ هُمُ ... رُهْبانُ لَيْلٍ، وَأُسْدٌ فِي الوَغا سُعُرُ شابَتْ نَواصِيهِمُ مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِمُ ... وَحُفِّرَتْ فِي جُفُونٍ مِنْهُمُ الدُّرَرُ ¬
مَرْضى وَلا مَرَضٌ فِيهِمْ وَلا سَقَمٌ ... إِلَّا الْحِدادَ لِيَومٍ حَرُّهُ سَقَرُ ومن ألطف ما قيل في هذا الباب ما ذكره الدِّينوري في "المجالسة" قال: أنشدنا أحمد بن عباد قال: أنشدني أبو سعيد المدني في العفو بعد القدرة: [من مجزوء الكامل المرفّل] أَسَدٌ على أَعْدائِه ... ما إِنْ يَلِينُ وَلا يَهونُ فَإِذا تَمَكَّنَ مِنْهُمُ ... فَهُناكَ أَحْلَمُ ما يَكُونُ (¬1) وجاء في الكتب أيضاً تشبيه تلاوة هذه الأمة بدوي النحل، وحبهم الذكر وإسراعهم إليه بحب الحمام والنسور أوكارها، وإسراع الإبل إلى وِردها، وبغضبهم لله بغضب النمر. روى الدارمي عن كعب رحمه الله تعالى قال: في السطر الأول من التوراة: محمدٌ رسول الله عبدي المختار، لا فظ، ولا غليظ، ولا سَخَّاب في الأسواق، ولا يجزئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام. وفي السطر الثاني: محمدٌ رسول الله، أمته الحمادون لله في ¬
السَّراء والضَّراء، يحمدون الله في كل منزلة، ويُكبرون الله على كل شرف، رعاة الشمس، يصلون الصَّلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة، ويأتزرون على أوساطهم، ويوضئون أطرافهم، أصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل (¬1). وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: أجد في الكتب أن هذه الأمة تحب ذكر الله كما تحب الحمامة وكْرها، وهم أسرع إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظمئها (¬2). وروى أبو الشَّيخ عن قتادة: أن موسى عليه السلام قال: يا رب! إنِّي وجدتُ في التوراة نعت قومٍ يأوون إلى ذكرك ويتحاثون عليه كما تأوي النسور إلى وكورها، فمن هم؟ قال: تلك أمة أحمد -صلى الله عليه وسلم-. قال: يا رب! إنِّي وجدت في التوراة نعت قومٍ إذا غضبوا هلَّلوك، وإذا تنازعوا سبَّحوك، فمن هم؟ قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب! إني وجدت في التوراة نعت قومٍ يغضبون لك كما يغضب النمر الحَرِب لنفسه، فمن هم؟ ¬
- فمن ذلك الأسد
قال: تلك أمة أحمد (¬1). وكذلك شبه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إسراعَ فقراء أمته إلى الله يوم القيامة بإسراع الحمام إلى أوكارها أو مبيتاتها فيما روى الطبراني، وأبو الشيخ في "الثواب" بإسناد جيد، عن سعيد بن عائذ -رضي الله عنه-: أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ فُقَرَاءَ المُسْلِمِيْنَ يُزَفُّوْنَ - يعني: إلى الجنة - كَمَا تُزَفُّ الحَمَامُ، فَيُقَالُ لهم: قِفُوْا لِلْحِسَابِ، فَيقُوْلُوْنَ: وَاللهِ مَا تَرَكْنَا شَيْئًا نُحَاسَبُ بِهِ، فَيقُوْلُ اللهُ تَعَالىْ: صَدَقَ عِبَادِيْ فَيَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ" (¬2). فينبغي أن نشير هنا إلى جملة ما يحسن التخلق بأخلاقه من الحيوانات. - فمن ذلك الأسد؛ فإن من أخلاقه القوة، والصولة، والشهامة، والشجاعة، وشدة الإقدام، وشدة البأس، ولذلك قالوا: أكرم من الأسد (¬3)، وأبخر من الأسد، وأجرأ من الأسد، ومن أسامة، وهو علم على الأسد (¬4)، وهي أخلاق محمودة من الإنسان وقد اجتمعت هذه ¬
الأخلاق كلها في بيت النبوة. ولذلك قال الفرزدق في وصف آل البيت: [من البسيط] هُمُ الغُيوثُ إِذا ما أَزْمَةٌ أزمتْ ... وَالأُسْدُ أُسْدُ الشَّرى والبأسُ محتدِمُ ومن شهامة الأسد وقوة نفسه: أنه لا يأكل من فريسة غيره، ولا يشرب من ماء ولغ عليه كلب، فكذلك ينبغي للإنسان أن يأكل من كسب يمينه، ويتنزه عن الصَّدقات وفضلات أموال الناس. ومن هنا حرمت الزكاة على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وآله الكرام لما علمت أنهم الأُسْد، قال -صلى الله عليه وسلم-: "هَذِهِ الصَّدَقَاتُ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وأنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلاَ لآلِ مُحَمَّدٍ". رواه [مسلم] من حديث عبد المطلب ابن ربيعة رضي الله تعالى عنه (¬1). ولقد أحسن القائل: [من الوافر] وَأَتْرُكُ حُبَّها مِنْ غَيْرِ بُغْضٍ ... وَلَكِنْ كَثْرَةُ الشُّرَكاءِ فِيه إِذا وَقَعَ الذُّبابُ عَلى طَعامٍ ... رَفَعْتُ يَدِي وَنَفْسِي تَشْتَهِيهِ ¬
وَتَجْتَنِبُ الأُسودُ ورودَ ماءٍ ... إِذا كانَ الكِلابُ يَلَغْنَ فِيهِ (¬1) ومن بلاغات المتنبي: [من البسيط] وَما حمدتكَ فِي هَولٍ ثَبَتَّ لَهُ ... حَتَّى بَلَوْتُكَ وَالأَبْطالُ تَمْتصعُ فَقَدْ يُظَنُّ شُجاعاً مَنْ بِهِ خَرَقٌ ... وَقَدْ يُظَنُّ جَباناً مَنْ بِه ذمعُ إِنَّ السِّلاحَ جَمِيعُ النَّاسِ تَحْمِلُه ... وَلَيْسَ كُلُّ ذواتِ الْمِخْلَبِ السَّبُعُ (¬2) وقال الدينوري: سمعت ابن قتيبة يقول: قرأت في كتب الهند: ذو المروءة يُكرم وإن كان معدماً، كالأسد يُهاب وإن كان رابضاً، ومن لا مروءة له يُهان وإن كان موسراً، كالكلب وإن طوق وحُلي (¬3). وذكر التجاني في "تحفة العروس" عن الهيثم بن عدي قال: ¬
قدمت امرأة بمكة وكانت من أجمل النِّساء، فنظر إليها عمر بن أبي ربيعة فوقعت في قلبه، فكلمها فلم تجبه، فلما كان في الليلة الثانية تعرَّض لها فقالت: إليكَ عني؛ فإنك في حرم الله وفي أيامٍ عظيمة الحرمة، فألحَّ عليها في الكلام فخافت الشهرة، فقالت لأخيها في الليلة الثالثة: اخرج معي فأرني المناسك، فتعرَّض لها عمر، فلمَّا رأى أخاها معها أعرض عنها، فتمثلت بقول الشاعر: [من البسيط] تَعْدُو الذِّئابُ عَلى مَنْ لا كِلابَ لَهُ ... وَتتَّقِي صَوْلَةَ الْمُسْتَأْسِدِ الضَّارِي قال: وسمع أبو جعفر المنصور هذا الخبر، فقال: وددت لو أنه لم تبقَ فتاة إلا سمعت هذا الخبر. والبيت للزبرقان بن عمرو؛ كما ذكره ابن خلكان، وذكر القصة (¬1). وقيل لبعض العرب: ما بالكم تُسَمون عبيدكم بأحسن الأسماء؛ تسمونهم سارا، وميسرة، وسعيداً، ومسعدة، ورباحاً، وتسمون أولادكم بأسوء الأسماء؛ تسمونهم كلباً، وكلاباً، وأسداً، وفهداً؟ فقال: لأننا نسمي عبيدنا لنا، ونسمي أولادنا لأعدائنا. وقال في "القاموس": وادي السباع بطريق الرقة مرَّ به وائل بن ¬
فائدة
قاسط على أسماء بنت أبي رويم، فهمَّ بها حين رآها منفردة في الخباء، فقالت: والله لئن هممت بي لدعوت أسبعي. فقال: ما أرى في الوادي غيرك. فصاحت ببنيها: يا كلب! يا فهد! يا ذئب! يا دب! يا سرحان! يا سيد! يا سبع! يا نمر! فجاؤوا يتعادون بالسيوف. فقال: ما أرى هذا إلا وادي السِّباع (¬1). * فائِدَةٌ: روى الطبراني، والديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَتَدْرُوْنَ مَا يَقُوْلُ الأَسَدُ فِيْ زَئِيْرِهِ؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "إِنَّهُ يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ لا تُسَلِّطْنِيْ عَلَىْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرُوْفِ" (¬2). وروى ابن منيع في "شفاء الصدور" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه خرج في سفر، فبينما هو يسير إذا هو بقومٍ وقوف، فقال: ما لهؤلاء؟ قالوا: أسد على الطريق قد أَخَافهم. ¬
فنزل عن دابته، ثم مشى إليه حتى أخذ بأذنيه ونحَّاه عن الطريق، ثم قال: ما كذب عليك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إنما سلطت على ابن آدم من مخافة غير الله، ولو أن ابن آدم لم يخف إلا الله تعالى لم تُسلط عليه، ولو لم يرج إلا الله لما وَكَله إلى غيره (¬1). قلت: ويؤخذ من ذلك أن الخوف من الله تعالى يُعطي القوة والشَّجاعة، والأمن من غير الله تعالى، وأن تسليط المخلوقات على ابن آدم بسبب خوفه منها دون الله تعالى، بل ينبغي لمن يخاف من شيء أن يكون خوفه من الله تعالى أن يُسلط ذلك المخوف عليه. وتقدم حديث: "مَنْ خَافَ اللهَ خَوَّفَ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَنْ خَافَ غَيْرَ اللهِ خَوَّفَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" (¬2). وروى أبو نعيم، والديلمي عن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيْلُ أَمَانُ كُلِّ خَائِفٍ" (¬3). وروى اللالكائي في "كرامات الأولياء" من كتاب "السنة" عن ¬
عامر بن عبد قيس: أنه مرَّ بقافلة قد حبسهم أسد من بين أيديهم على طريقهم، فلما جاء عامر نزل عن دابته، فقالوا: يا أبا عبد الله! إنا نخاف عليك من الأسد. فقال: إنما هو كلب من كلاب الله عَزَّ وَجَلَّ؛ إن شاء الله يُسلطه سلطه، وإن شاء أن يكفه كفه، فمشى إليه حتى أخذ بيديه أذني الأسد، فنحاه عن الطريق وجازت القافلة، وقال: إني أستحيى من ربي عَزَّ وَجَلَّ أن يرى من قلبي أني أخاف من غيره (¬1). وروى الدينوري في "المجالسة" عن عبد الجبار بن كليب قال: كنا مع إبراهيم بن أدهم في سفر، فعرض لنا الأسد، فقال إبراهيم رحمه الله تعالى: قولوا: اللَّهُمَّ احرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يُرام، وارحمنا بقدرتك علينا، لا نهلك وأنت رجاؤنا يا الله يا الله يا الله. قال: فولَّى الأسد عنا. قال: وأنا أدعو به عند كل مخوف، فما رأيت إلا خيراً (¬2). ورواه اللالكائي، وقال في أوله: قيل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: هذا السبع قد ظهر لنا. قال: أرونِيهِ. ¬
فلما رآه قال: يا قسورة! إن كنت أُمرت فينا بشيء فامضِ لما أُمرت به، وإلا فعودك على يديك. قال: فولى السبع ذاهباً، قال: فعجبنا كيف ذهب، قال: قولوا؛ فذكر الدُّعاء (¬1). وذكر حجة الإسلام في "الإحياء" عن إبراهيم الرقِّي قال: قصدتُ أبا الخير الثينائي مسلِّماً عليه، فصلى صلاة المغرب فلم يقرأ الفاتحة مستوياً، فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي، فلما أصبحت خرجت إلى الطهارة، فقصدني السبع، فعدت إليه، وقلت: إن الأسد قد قصدني، فخرج وصاح على الأسد، وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لأضيافي؟ فتنحى الأسد، فتطهرت، فلما رجعت قال: اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد، واشتغلنا بتقويم الباطن فخافنا الأسد (¬2). وقلت في المعنى: [من الرجز] شَتَّانَ بَيْنَ مَنْ يَخافُ أَسَداً ... وَبَيْنَ مَنْ يَخافُ مِنْهُ الأَسَدُ فَخَفْ مِنَ الأَحَدِ لا تَخَفْ سِو ... اهُ أَحَداً يُؤْمِنْكَ مِنْهُ الأَحَدُ ¬
وروى ابن سعد في "طبقاته"، والبزار، وأبو يعلى، والحاكم في "المستدرك"، وأبو نعيم، والبيهقي عن سفينة مولى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ركبت سفينة في البحر فانكسرت، فركبتُ لوحاً فأخرجتني إلى أَجَمة فيها أسد، فأقبل إلي فقلت: أنا سفينة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكنتُ تائهاً، فجعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الطَّريق، فهمهم، فظننت أنه السَّلام (¬1). وروى اللالكائي عن محمد بن المنكدر: أن سفينة أخطأ الجيش بأرض الروم، أو أمسى في أرض الروم، فانطلق هارباً يطلب الجيش فإذا هو بالأسد، فقال: أبا الحارث! أنا مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان من أمري كيت وكيت، فأقبل الأسد له بصبصة حتى قام إلى جنبه، فلما سمع صوته أهوى إليه ثم أقبل يمشي إلى جنبه، فلم يزل كذلك حتى بلغ الجيش، ثم رجع الأسد (¬2). وروى ابن عساكر عن أنس قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سفينة بكتاب إلى معاذ باليمن، فذكر نحو القصة (¬3). وهذا يدل أن الأسد عرض لسفينة مرتين أو مرات، وهو مسخر ¬
التشبه بالنسر
له في كلها، وهو أبلغ في الكرامة. وروى أبو نعيم عن ثور بن يزيد قال: بلغني أن الأسد لا يأكل إلا من أتى محرَّماً (¬1). وروى الغافقي في كتاب "نفحات الأزهار ولمحات الأبرار" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هَبَطَ عَلَيَّ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَيِّدًا، وَسَيِّدُ فَارِسَ سَلْمَانُ، وَسَيِّدُ الْحَبَشِ بِلالُ، وَسَيِّدُ الشَّجَرِ السِّدْرُ، وَسَيِّدُ الطَّيْرِ النَّسْرُ، وَسَيِّدُ الشُّهُوْرِ رَمَضَانُ، وَسَيِّدُ الأَيْامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَسَيِّدُ الْكَلامِ الْمُعْرِبُ، وَسَيِّدُ الْعَرَبِيَّةِ الْقُرْآنُ، وَسَيِّدُ الْقُرْآنِ سُوْرَةُ الْبَقَرَةِ" (¬2). - واعلم أن التشبه بالنسر من حيث إنه سيد إنما يكون بالاجتهاد على تحصيل السيادة، ثم العمل بمقتضياتها. فأما السيادة فإنما تحصل للعبد بالعلم والدِّين والكرم. وأما العمل بمقتضياتها فاحتمال الكل، وفك العاني، واكتساب المعدم، وبذل الجاه، والحلم، والعفو، والصبر، ومناصرة العشيرة من غير إثم، وصلة الأرحام، والإفضال على الجيران. وحسن المعاشرة هو بذل النصيحة من غير فضيحة. ولا تكون السيادة في جنس البشر إلا بهذه الأخلاق الكريمة، ¬
وطالبها إن كان له سلف فيها وحسب فبالحري أن يسعى في تحصيلها، وإلا فإن طريقها ليس بمنسد عنه. وقد قال بعض الحكماء: لأن يشرف بي قومي أحب إلي من أن أشرف بقومي. وقد قيل: [من الكامل] إِنَّ السَّريَّ هُوَ السَّريُّ بِنَفْسِهِ ... وَابْنُ السَّريِّ إِذا سرى أَسراهُما (¬1) ويقال: الشبل من الأسد. وقال الدينوري في "المجالسة": عن ابن أبي الدُّنيا قال: أنشدني محمد بن الحسين للقيط بن زُرارة: [من الطويل] وَإِنِّي مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ عَرَفْتَهُمْ ... إِذا ماتَ مِنْهُمْ سَيِّدٌ قامَ صاحِبُهْ نُجومُ سَماءٍ كُلَّما غابَ كَوْكَبٌ ... بَدا كَوْكَبٌ تَأْوِي إِلَيْهِ كَواكِبُه أَضاءَتْ لَهُمْ أَحْسابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ ... دُجى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّم الجَزْعَ ثاقِبُهْ (¬2) ¬
ومن أوصاف النسر أنه أشد الجوارح هيبة، بحيث إنها تخافه وترهب منه، فما ظنك ببقية الطير؟ وكذلك ينبغي للعبد أن يُربي لنفسه الهيبة والوقار بالطَّاعة لله، والعمل والصَّمت، وحسن السمت لا بالشرة والعدوان، والكبر والافتخار، وأسُّ ذلك الخوف من الله تعالى كما تقدم في الحديث: "مَنْ خَافَ اللهَ خَوَّفَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ" (¬1). فإن العبد إذا خاف مقام ربه أطاعه بجهده، وحذر من قليل معصيته وكثيرها، ولم يمتد في دعابة ولا مزح ولا لهو، فيُلقي الله تعالى هيبته في قلوب الخلق ويكسوه الوقار، ويكون مثاله في البشر كمثال النسر في الطير تخافه الطير وتنجمع عن الانبعاث، فكذلك يهاب العالم التقي فلا يستطيع أحد أن ينبعث في لهو أو لعب أو رخصة في حضرته، وهذا في زماننا قليل. روى الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" بإسناد حسن، عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنه قال: لقد سمعت حديثاً منذ زمان، إذا كنت في قومٍ عشرين رجلاً أو أقل أو أكثر، فتصفحت وجوههم فلم ترَ فيهم رجلاً يُهاب في الله تعالى، فاعلم أن الأمر قد رقَّ (¬2). وما أحسن قول بعضهم في الإمام مالك بن أنس رضي الله تعالى ¬
تنبيه
عنه: [من الكامل] يَأْتِي الْجوابَ فَما يُراجعُ هَيْبَةً ... وَالسَّائِلُونَ نَواكسُ الأَذْقانِ أدبُ الوقارِ وَعِزُّ سُلْطانِ التُّقَى ... فَهْوَ الْمُطاعُ وَلَيْسَ ذا سُلْطانِ ومن لطائف الشيخ يحيى الخباز: [من المتقارب] وَقالُوا: امْتَدِحْ رُؤَساءَ الزَّمانِ ... فَقُلْتُ: نِظامِي عِندِي أجَل مَدَحْتُ النُّسورَ مُلوكَ الطُّيورِ ... فَأَرْضَى امْتِداحَ فِراخِ الْحَجَلْ * تَنْبِيهٌ: إنَّما كان العالم التقي موقَّراً لأنه موقَّرٌ لله تعالى، وكان جزاؤه من جنس عمله، والتوقير التعظيم. وقد قال الله تعالى حكايةً عن نوح عليه السلام معاتباً لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]؛ أي: لا تخافون لله عظمةً؛ كما في "الصِّحاح" عن الأخفش (¬1). ¬
والرجاء يكون بمعنى الخوف ضِدٌّ. وفي معناه قول ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما في الآية: لا تخشون له عظمة (¬1). ومن أوصاف النسر أنه أشد الطير طيراناً وأقواها جناحاً حتى قيل: إنه ليطير ما بين المشرق والمغرب في يوم واحد (¬2)، فينبغي التشبه به في ذلك بأمرين: الأول: أن يكون الإنسان قوي الهمة، بعيدها في تحصيل المعالي والكمالات فلا يستبعد شيئاً أن يحصل له، ولا يستصغر نفسه عن طلب شيء من الفضائل الممكن تحصيلها؛ فإنه إن لم يحصل على ذلك حصل على ثوابه بدليل الحديث الصَّحيح: "إِذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ تُكْتَبْ لَهُ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا" (¬3). وقال بعضهم: [من مجزوء الرجز] جَمِيعُ ما قَدْ خَلَقَ اللـ ... ـــــــــــــهُ وَما لَمْ يَخْلُقِ ¬
مُحْتَقَرٌ فِي هِمَّتِي ... كَشَعْرَةِ فِي مفرِقي رُوِيَ أن الشبلي كان يتمثل به. والمعنى: إن كل ما خلق الله تعالى من تمتعات الدنيا والآخرة محتقر في همتي، فلا أطلبه دون الله تعالى. ورُوِيَ أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: قيمة كل عالم همته (¬1)، فقال الشيخ أبو عبد الله القرشي: فمن كانت همته الدُّنيا فقيمته أقل من جناح بعوضة، ومن كانت همته الله ففضله وشرفه ماله قيمة. وسُئِلَ الشبلي رحمه الله تعالى: هل يقنع المحب بشيء من حبيبه دون مشاهدته؟ فأنشد: [من السريع] وَاللهِ لَوْ أَنَّكَ تَوَّجْتَنِي ... بِتاجِ كِسْرى مَلِكِ الْمَشْرِقِ وَلَوْ بِأَمْوالِ الوَرى جُدْتَ لِي ... أَمْوالِ مَنْ بادَ وَمَنْ قَدْ بَقِي وَقُلْتَ لِي: لا نَلْتَقِي ساعَةً ... لاخْتَرْتُ يا مَوْلايَ أَنْ نَلْتَقِي (¬2) الأمر الثاني: أن يكون العبد راجعاً إلى الله تعالى رجوع النسر إلى وكره، مسرعاً إلى طاعة الله تعالى كإسراع النسر إلى هواه. روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن معمر، عن رجل من قريش قال: قال موسى عليه السلام: يا رب! أخبرني عن أهلك ¬
الذين هم أهلك. قال: هم المتحابون في، الذين يعمرون مساجدي، ويستغفروني بالأسحار، الذين إذا ذُكِرت ذكروا بي، وإذا ذُكِروا ذكرت بهم، هم الذين يثوبون إلى طاعتي كما تثوب السنور إلى ركودها، الذين اذا استحلت محارمي غضبوا كما يغضب النمر إذا حرِب (¬1). وروى الطَّبراني في "الأوسط" عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: يَا رَبِّ! أَخْبِرْنِيْ بِأَكْرَمِ خَلْقِكَ عَلَيْكَ. قَالَ: الَّذِيْ يُسَارِعُ إِلَىْ هَوَايَ إِسْرَاعَ النَّسْرِ إِلَىْ هَوَاهُ، وَالَّذِيْ يَأْلَفُ عِبَادِيَ الصَّالِحِيْنَ كَمَا يَأْلَفُ الظَّبِيُّ النَّاسَ، وَالَّذِيْ يَغْضَبُ إِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمِيْ كَغَضَبِ النَّمْرِ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ النَّمْرَ لا يُبَالِيْ إِذَا غَضِبَ أقلَّ النَّاسُ أَمْ كَثُرُوا" (¬2). وقد اشتمَل هذا الحديث على أمرين آخرين يرشد إلى التشبه ببعض الحيوانات فيهما: فالأول: التشبه بالظبي في ألفة الصَّالحين إذا تآلف بالنَّاس ألفهم، وإن كان في أول أمره نفوراً حتَّى لا يقدر بعد ذلك على الوحشة. وفي المثل: آلف من الظبي بالحرم، وآلف من حمام مكة؛ ¬
أوردها الزمخشري (¬1). وفي الحديث: "الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلا خَيْرَ فِيْمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ". رواه الدارقطني في "الأفراد"، والضياء المقدسي في "المختارة" عن جابر -رضي الله عنه- (¬2). الأمر الثاني: التشبه بالنمر في الغضب، إلا أن غضب العبد يكون لله تعالى، وغضب النمر لنفسه، وشدة الغضب لله تعالى ممدوحة بحيث لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا تبالي أقَلَّ الناس أم كثروا. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يغضب لنفسه أو كان لا يغضب إلا لله، فإذا غضب لا يقوم لغضبه شيء (¬3). وكان عمر -رضي الله عنه- كما هو موصوف في التوراة قرناً من حديد، لا تأخذه في الله لومة لائم (¬4). وكذلك يرشد إلى التشبه بالنمر بالجد والاجتهاد خصوصاً في أمور الآخرة؛ فإن العرب تقول في المثل: جد واتزر والبس جلد النمر، يُضرب في الأمر بالجد والاجتهاد والجَلَد في تحصيل المراد (¬5). ¬
- ومن أوصاف النسر: الحنين إلى الوطن، والحزن على فراق الإلف؛ فإنه أشد الطير حزناً على فراق إلفه إذا فارق أحدهما مات حزناً. وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزُّهد والرقائق" عن معمر، عن رجل من قريش قال: قال موسى عليه السَّلام: يا رب! أخبرني عن أهلك الذين هم أهلك. قال: المتحابون فيَّ، الذين يعمرون ويستغفروني، الذين إذا ذكرت ذكروا بي، وإذا ذكروا ذكرت بهم، الذين يُنيبون إلى طاعتي كما تُنيب النسور إلى وكورها ... الحديث، وتقدم سابقاً. يثوبون - بالمثلثة، والواو - من: ثاب يثوب: إذا رجع بعد ذهابه، وثاب النَّاس: اجتمعوا وجاؤوا. وأما يُنيبون في هذه الرواية: بالنون والياء: من الإنابة، وهي الإقبال على الله والتوبة. وروى البيهقي في "الشعب" عن عبد الرحمن الهندي قال: سمعت الجنيد -رضي الله عنه- يقول: حق الشكر أن لا يعصى الله بنعمته فيما أنعم، ومَنْ كان لسانه رطبًا بذكر الله تعالى دخل الجنة وهو يضحك، قال: وقال: إن لله عباداً يأوون إلى ذكر الله تعالى كما يأوي النسر إلى وكره (¬1). ¬
- ومن أوصاف النسر: أنه أطول الطير عمراً حتى قيل: إنه يبقى ألف سنة، ولذلك اختار لقمان ابن عاد حين سأل طول العمر وخير، فطلب أعمار سبعة أنسر كما تقدم. وقالوا في المثل: أعمر من نسر (¬1). ومع ذلك فإنه يقول في صياحه: ابن آدم! عش ما شئت فإن الموت مُلاقيك؛ كما رواه الثعلبي عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما (¬2). فينبغي للإنسان أن يتشبه بالنسر خصوصاً إذا كان معمَّراً في أنه لا يغتر بإنسائه في الأجل وطول عمره، ولا يطول أمله، بل يعلم أنه ميت آخراً ومُجازى على أعماله، وليعلم أن طول العمر نعمة، فلا ينبغي أن يصرف في غير الشكر وهو الطاعة. وقد روى أبو داود الطيالسي عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ رُوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِيْ رُوْعِيْ، أَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَعِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُجَازَى" (¬3). ¬
- ومن ذلك البازي
وتقدم في الحديث: "خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ" (¬1). وروى الإمام أحمد عن طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِيْ الإِسْلامِ لِتَكْبِيْرِهِ وَتَحْمِيْدِهِ وَتَسْبِيْحِهِ وَتَهْلِيْلِهِ" (¬2). - ومن ذلك البازي: قال في "حياة الحيوان": يُضرب به المثل في نهاية الشرف، كما قال الشاعر: [من الوافر] إِذا ما اعْتَزَّ ذُو عِلْمٍ بِعِلْمٍ ... فَعِلْمُ الفِقْهِ أَشْرَفُها اعْتِزازا وَكَمْ طِيبٍ يَفُوحُ وَلا كَمِسْكٍ ... وَكَمْ طَيْرٍ يَطِيرُ وَلا كَبازا (¬3) وذكر الشَّيخ أبو إسحاق الشيرازي في "طبقاته": أن أبا العباس ابن سريج رحمه الله تعالى كان يُقال له: الباز الأشهب (¬4). ونقل الحافظ الذهبي، وغيره عن الشيخ داود بن يحيى بن داود الجريري - وكان صدوقاً - قال: كان الشيخ أحمد بن الرفاعي ¬
رحمه الله تعالى قد دار النخل الذي له وعين واحدة منها، وقال لأصحابه: إذا استوت هذه أهديناها إلى الشيخ أرسلان، فمرَّ بها بعد مدة فوجد أكثر ما عليها قد ذهب، فسألهم فقالوا: لم يطلع إليها أحد، ولكن في كل يوم يجيء باز أشهب يأكل منها ولا يقرب غيرها، ثم يطير. فقال لهم: الباز الأشهب هو الشيخ أرسلان، فلذلك يُقال له: الباز الأشهب (¬1). قلت: وهذا تشكل الأبدال وتبدلها في صور مختلفة (¬2). وذكر الشيخ عبد الله اليافعي في "كفاية المعتقد" أبياتاً للشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى سمَّى نفسه فيها الباز الأشهب، ووصف نفسه فيها بأنه بلبل الأفراح، وهي هذه الأبيات: [من الكامل] ما فِي الْمَناهِلِ مَنْهلٌ مُسْتَعْذَبُ ... إِلاَّ وَلِي فِيهِ الأَلَذُّ الأَطْيَبُ أَوْ فِي الوِصالِ مَكانةٌ مَخْصُوصَةٌ ... إِلاَّ وَمَنْزِلَتِي أَعَزُّ وَأَقْرَبُ ¬
وَهَبَتْ لِيَ الأَيَّامُ رَوْنَقَ صَفْوِها ... فَحَلَتْ مَناهِلُها وَطابَ الْمَشْربُ وَغَدَوْتُ مَخْطُوباً لِكُلِّ كَرِيْمَةٍ ... لا يَهْتَدِي فِيها اللَّبِيبُ وَيَخْطِبُ أَنا مِنْ رِجالٍ لا يَخافُ جَلِيسُهُمْ ... رَيْبَ الزَّمانِ، وَلا يَرى ما يَرْهَب قَوْمٌ لَهُمْ فِي كُلِّ مَجْدٍ رُتْبةٌ ... عُلْوِّيةٌ، وَلِكُلِّ جَيْشٍ مَوْكِبُ أَنا بُلْبُلُ الأَفْراحِ أَمْلأُ دَوْحَها ... طَرباً، وَفِي العَلْياءِ بازٌ أَشْهَبُ أَضْحَتُ جُيوشُ الْحُبِّ تَحْتَ مَشِيئَتِي ... طَوْعاً، وَمَهْما رُمْتُهُ لا يَعْزُبُ أَصْبَحْتُ لا أَمَلاً وَلا أُمْنِيَّةً ... أَرْجُو وَلا مَوْعُودَةً أترَقَّبُ ما زِلْتُ أَرْتَعُ فِي مَيادِينِ الرِّضا ... حَتَّى وهِبْتُ مَكانَةً لا تُوْهَبُ
أَضْحَى الزَّمانُ كَحُلَّةِ مَرْقُومَةٍ ... تَزْهُو، وَنَحْنُ لَها الطِّرازُ الْمُذْهَبُ أَفَلَتْ شُموسُ الأَوَّلِينَ وَشَمْسُنا ... أَبداً عَلى فَلَكِ العُلى لا تَغْرُبُ (¬1) قال: ولمَّا أَنشد الشيخ عبد القادر هذه الأبيات أجابه الشيخ أبو المظفر الواعظ المعروف بجرادة رحمه الله تعالى منشداً: [من البسيط] بِكَ الشُّهورُ تُهَنَّى وَالْمَواقِيت ... يا مَنْ بِأَلْفاظِهِ تَغْلُو اليَواقِيتُ البازُ أَنْتَ فَإِنْ تَفْخَرْ فَلا عَجَبٌ ... وَسائِرُ النَّاسِ فِي عَيْنِي فَواخِيتُ أَشَمُّ مِنْ قَدَمَيْكَ الصِّدْقَ مُجْتَهِداً ... لأَنَّهُ قَدمٌ فِي نَعْلِهِ الصِّيتُ وقال في "حياة الحيوان": قال الشيخ الزاهد أبو العباس القسطلاني: سمعت الشيخ أبا شجاع زاهر بن رستم الأصبهاني إمام مقام إبراهيم بمكة المشرفة يقول: سمعت الشيخ أحمد خادم الشيخ حمَّاد يقول: دخل الشيخ عبد القادر على الشَّيخ حماد الدباس يزوره، فنظر إليه الشيخ وكان قد رأى أنه اصطاد بازياً، فأثَّرت نظرة الشيخ فيه، ¬
فخرج من عنده وتجرد عن أسبابه وكان من أكابر أصحابه قال: ولهذا كان الشيخ عبد القادر رحمه الله تعالى يقول: [من الكامل] أَنا بُلْبُلُ الأَفْراحِ أَمْلأُ دَوْحَها ... طَرباً، وَفِي العَلْياءِ بازٌ أَشْهَبُ (¬1) وفي معنى كلام أبي المظفر المذكور آنفاً ما روي أن بكر بن سوادة قال في خالد بن صفوان: [من الطويل] عَلِيمٌ بِتَنْزِيلِ الكِتابِ مُلَقَّنٌ ... ذَكُورٌ بِما أَسْداهُ أَوَّلَ أَوَّلا يُرَى خُطَباءُ النَّاسِ يَومَ ارْتجالِهِ ... كَأَنَّهُمُ الكِرْوانُ عاينَ أَجْدَلا (¬2) الكروان - بكسر الكاف، وإسكان الراء -: جمع كَرَوان - بفتحهما - على غير قياس، وهو طائر شبيه بالبط لا ينام الليل؛ سمي بضده من الكَرَى؛ يُضرب به المثل في الجبن لأنه إذا قيل له: [من مجزوء الرجز] أَطْرِقْ كَرا، أَطْرِقْ كَرا ... إِنَّ النَّعامَ فِي القُرى ¬
التصق بالأرض، فيُلقى عليه ثوب فيُصاد (¬1). والأجدل من أسماء الصقر، ويقال له: الأجذل، وهي صفة غالبة. وفي المثل: بيض القطا يحضنه الأجدل؛ يُضرب للشريف يأوي إليه الوضيع فيتقوى به ويشرف، فيكون مدحاً (¬2). والتشبه بالأجدل في ذلك بأن يربأ الإنسان إلى معالي الأمور والأخلاق، وإذا انضم إليه دنيء حقير عظم به وحمى ذِمامه، وتعلم من أخلاقه، وزَكَت نفسه به، ويحمد لذلك الحقير انضمامه إليه تحصيلاً لكمال نفسه كما قيل: [من الطويل] عَلَيْكَ بِأَرْبابِ الصُّدُورِ فَإنَّ مَنْ ... يُضافُ لأَرْبابِ الصُّدُورِ تَصَدَّرا فَرَفْعُ أَبو مِنْ ثَمَّ جَرٌّ مُؤثل ... يُبَيِّنُ قَوْلي مُغْرِياً وَمُحَذِّرا أو يُضرب للشريف إذا ضم إليه الوضيع ليكون وصلة له إلى تحصيل الدنيا ومجاوزة الحدود، فيكون ذمًّا، فلا ينبغي التشبه بالأجدل في ذلك، وقد قيل: [من الطويل] ¬
وَمَنْ رَبَطَ الكَلْبَ العَقُورَ بِبابِهِ ... فَإِنَّ بَلاءَ النَّاسِ مِنْ رابِطِ الكَلْبِ (¬1) وقريبٌ من هذا المثل قولهم في المثل الآخر: إنَّ البغاث بأرضنا تستنسر؛ أي: من جاورنا عزَّ بنا (¬2). والبغاث - مثلث الأول، وغينه معجمة، وثاؤه مثلثة -: طائر أغبر، جمعه: بغثان كغزلان، أو هو شرار الطير. وقال الزمخشري: يستنسر؛ أي: يصير نسراً، فلا يقدر على صيده؛ يُضرب في قوم أعزاء، يتصل بهم الذليل فَيُعَز بجوارهم، انتهى (¬3). فإن كان حين عزَّ بجوارهم استطال على الناس بالأذى، فالمثل ذم. وإن كان حين عزَّ بهم صفا عيشه، وأطاع ربه وسلم بانضيافه إليهم من يحاول امتهانه واستذلاله، فالمثل مدح. وفي المثل معنى آخر: أنَّ الضعيف يتقوى علينا؛ إما لضعفنا ولين جانبنا، وقلة استنصارنا وأنصارنا، وإما لعدم رواج الخير الذي منا عنده وعدم اكتراثه بنا. ¬
ولنا في وصف الزمان: [من المتقارب] أَرى عَصْرَنا الزَّمِنَ الأَغْبَرا ... وَكُلَّ بُغاثٍ بِهِ اسْتَنْسَرا فَكَمْ مِنْ كَرِيْمٍ يَمَلُّ الْحَياةَ ... لِكُلِّ لَئِيمٍ قَدِ اسْتَقْدَرا حَلا فِي ذَوِيهِ الْمَرِيرُ الكَرِيهُ ... وَطابَ الَّذِي كانَ مُسْتَقْذَرا وَما فِيهِ لِلْحَقِّ مِنْ ناصِرٍ ... وَلَوْ كُنْتَ لِلْحَقِّ مُسْتَنْصِرا فَكُنْ بِاعْتِزالِكَ مُسْتَأثِراً ... وَفِي طاعَةِ اللهِ مُسْتَبْصِرا - ومن أوصاف البازي: أنه لا يقنع في الصيد بالأمور الجزئية، بل همته ترتفع عن صيد نحو جرادة أو ذبابة. وقد قيل كما تقدم: [من الوافر] وَلِلزُّنْبورِ وَالبازِيِّ جَمِيعاً ... لَدى الطَّيَرانِ أَجْنِحَةٌ وَخَفْقُ وَلَكِنْ بَيْنَ ما يَصْطادُ بازٌ ... وَما يَصْطادُهُ الزُّنْبُورُ فَرْقُ وكذلك ينبغي للإنسان أن يربأ بهمته عن سفساف الدنيا ودنيء ما فيها، وكل ما فيها دنيء عند العارفين لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فما كان رفيع الهمة بدون دار القرار داراً، وبدون الجنة عقاراً. وقد قدمنا في صدر الكتاب: أن رجلاً قال لبعض الحكماء: فلان بعيد الهمة. قال: إذاً لا يرضى بمنزلة دون الجنة. ولامرئ القيس: [من الطويل]
لطيفة
وَلَوْ أَنَّ ما أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفانِي، وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلاً مِنَ الْمالِ وَلَكِنَّما أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ ... وَقَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْمُؤثلَ أَمْثالِي (¬1) * لَطِيفَةٌ: لا ينبغي للإنسان إذا كان تام القوة وافر الهمة أن يضيع أيامه، والقوة ناهضة والهمة مكينة، ممكنة في غير طاعة الله تعالى، بل يغتنم الفرص قبل وقوع الغصص بضعف الهمة وفتور القوة، ويكون كما قال الشاعر: [من الطويل] وَكُنْتُ كَبازِ السَّوْءِ قُصَّ جَناحُهُ ... يَرى حَسَراتٍ كُلَّما طارَ طائِرُ يَرى طائِراتِ الْجَوِّ يَخْفِقْنَ حَوْلَهُ ... فَيَذْكُرُ إِذْ رِيشُ الْجَناحَيْنِ وافِرُ (¬2) * لَطِيفَةٌ أُخْرى: قالوا في المثل: وهل ينهض البازي بغير جناح؟ يُضرب لمن قلَّ أنصاره، ولمن يدعي علماً ليس معه آلته؛ قاله الزمخشري (¬3). والاعتبار فيه أن الإنسان - وإن كان قوي الجاه وافر القوة - لا يستغني عن العشيرة، فلا ينبغي له أن يغفل عن أمر أقاربه، ولا يعرض ¬
عن إصلاح شأنهم، ولا يرفض أصحابه ويترك تعهد عشائره، فربما احتاج إلى صديقه وقريبه وعشيرته يوماً ما، وكذلك لا ينبغي أن يتجاوز في دعواه مقدوره من علم أو غيره. وأصل المثل من قول مسكين الدارمي: [من الطويل] وَما طالِبُ الْحاجاتِ إِلاَّ مُخاطِرٌ ... وَما نالَ شَيْئاً طالِبٌ كَنَجاحِ أَخاكَ أَخاكَ إِنَّ مَنْ لا أخا لَه ... كَساعٍ إِلَى الْهَيْجا بِغَيْرِ سِلاحِ وَإِنَّ ابْنَ عَمِّ الْمَرْءِ فَاعْلَمْ جَناحُهُ ... وَهَلْ يَنْهَضُ البازِيْ بِغَيْرِ جَناحِ (¬1) وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان"، والعسكري في "الأمثال" عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما، والديلمي، والقضاعي عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمَرْءُ كَثِيرٌ بِأَخِيْهِ" (¬2). ¬
- ومن ذلك الباشق
- ومن ذلك الباشق - بكسر المعجمة، وفتحها - معرب باشه، وهو نوع من الصقر، والواشق لغةٌ فيه، وهو يأنس تارةً وينفر أخرى. وذكر في "القاموس": أنه يعجز عن الطيران في المطر (¬1). والاعتبار في ذلك أن يكون الإنسان مستأنساً بالخير منقاداً له، نافراً عن الشر مستوحشاً منه. وقد قال بعض الحكماء: إن خيراً من الخير الراغبُ فيه، وشراً من الشر الطالب له. وأن يسكن في محل يحمد فيه السكون كالنمل، وأوقات شدة الحر وشدة البرد، وهيجان الريح، واسترسال الأمطار والثلوج المؤذية؛ فإن الله تعالى جعل لنا الليل سكناً وخلفة لنسكن فيه، وامتنَّ علينا بالمساكن والبيوت والدِّثار والشِّعار، فلا ينبغي تعطيل هذه الحكمة ورد هذه النعمة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 80 - 81]. ¬
- ومن ذلك الصقر
ولا يرد على ذلك ما جاءت به السنة من استحباب البروز لأول المطر؛ فإن ذلك يكون ساعة لطيفة من الزمان مرة واحدة للتبرك بأول الغيث، فأما البروز للأمطار الدائمة لغير ضرورة فإنَّ فيه تعرُّضاً لإتلاف المال والنفس. قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. - ومن ذلك الصقر: وهو كل ما يصطاد به من الجوارح إلا النسر والعقاب؛ قاله النضر بن شميل، وأبو حاتم. فهو شامل للباز، والباشق، والحر، والشاهين، والفرزان، والبيدق، وهو أصغرها وأضعفها لا يصيد إلا العصافير ونحوها. وسميت قطع الشطرنج بأسماء الحيوانات المشهورة بالقوة والصيد، وهي: الرخ، والفرزان، والبيدق، والحيوانات المعتمد عليها في الحرب، وهي: الفيل، والفرس لأن موضوع الشطرنج للتمرين في ذلك. ولقد أحسن القائل مشيراً إلى خلو الزمان من الأماثل، وتصدر الأصاغر، وارتفاع الأداني: [من مجزوء الكامل المرفّل] خَلَتِ الرِّقاعُ مِنَ الرِّخا ... خِ وَفَرْزَنَتْ فِيها البَيادِقْ وَتَسابَقَتْ عُرُجُ الْحَمِيـ ... ــــــرِ فَقُلْتُ مِنْ عَدَمِ السَّوابِقْ وقلت: وهو من نظم الصبا: [من السريع] لا غَرْوَ إِنْ طالَ عَلى ماجِدٍ ... نَذْلٌ دَعِىٌّ ما لَهُ سِنْخُ
كَمْ بَيْدَقٍ فَرَزْنَ فِي رُقْعَةٍ ... فَصارَ مَقْهُوراً لَهُ الرَّخُّ ومن أوصاف الصقر: أنه إذا انبعث لا يكاد يرجع إلا بصيد، ولذلك قالوا: أنجز من صقر من النجاز، وربما قالوا: أبخر (¬1)؛ ولعله تصحيف. وقيل: إن الصقر كالأسد أبخر. وقالوا: صقرٌ يلوذ حَمَامُه بالعوسَج؛ يُضرب بهذا المثل لمن تهابه الرجال. ولذلك قالت هند بنت أثاثة في كلامها المتقدم: حمزة ليثي وعلي صقري وحُكِيَ عن عثمان بن مرة، عن أبيه قال: سمعت الجن تنوح عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فوق مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث ليالٍ، فكان مما قالوه: [من مجزوء الكامل المرفّل] لَيلَةَ الحَصْبَةِ إِذْ ... يَرْمُونَ بِالصَّخْرِ الصِّلابِ ثُمَّ جاؤُوا بُكْرةً ... ـــــــــــــــغونَ صَقْراً كَالشِّهابِ زينَهمْ فِي الْحَيِّ وَالـ ... ـــــــــــمَجْلِسِ فَكَّاكَ الرِّقابِ (¬2) وروى الخطابي في "الغريب" عن عروة بن الزبير، عن أبيه -رضي الله عنه-: ¬
أنه قاتل غلاماً - يعني: وهو غلام - فكسر الزبير يديه وضربه ضرباً شديداً، فمرَّ به على صفية وهو يُحمل فقالت: وما شأنه؟ فقالوا: قاتل الزبير، فأشعره - أي: أدماه - فقالت: [من مجزوء الرجز] كَيْفَ رأيتَ زَبْراً أَأقِطاً أَمْ تَمراً أَوْ مُشْمَعِلاً صقْرا قال الخطابي: تقول وجدته مما يؤكل كالأقط، والتمر، أم رأيته كالصقر الذي يختطف الصيد (¬1). والمشمعل: السريع الماضي. ومن أنواع الصقر: الحر. وقال النضر بن شميل، وأبو حاتم، وابن سيده: هو طائر نحو الصقر، أغبر أسفع، قصير الذنب، عظيم المنكبين والرأس، يضرب إلى الخضرة وهو يصيد. ومن أمثال العوام: الحر إذا وقع لا يتلبط؛ يعنون: لا يضطرب ولا يتحرك. أرادوا أن الحر إذا وقع في شبكة القانص رسب وصبر، والمراد ¬
به الصقر، أو فرخ الحمام، أو ولد الظبية. والاعتبار في ذلك أن الرجل الكامل، أو العارف إذا نزل به أمر لا يستطيع دفعه صبر واستسلم. أو أرادوا: أن الحر أو الصقر خاصة إذا وقع على الفريسة لزمها وثبت عليها، ولم يبالِ بها إذا اضطربت، ولا بما يكفُّه عنها. والاعتبار في ذلك أن الرجل إذا أمكنته الفرصة لم يفرط واغتنمها، وهذا من الحزم. - ومن أنواع الصقر: المَضْرَحي - بفتح الميم، والراء، بينهما ضاد معجمة ساكنة، وبالحاء المهملة -: وهو الصقر الطويل الجناح. ويقال للسيد الكريم: مضرحي تشبيهاً له بالصقر. والمضرحي: الأبيض من كل شيء. وروى الإمام أحمد بسند جيد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّ داود عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا مَاتَ أَظَلَّتِ الطَّيْرُ جَنَازَتَهُ، وَغَلَبَتْ عَلَيْه المَضْرَحية، أو غَلَبَتْ عَلَىْ التَّظْلِيْلِ عَلَيْه" (¬1). ويحصل الشبه بها في شهود جنائز الصالحين، والمزاحمة على الخير والمسابقة إليه. - ومن أنواع الصقر: الشاهين، وهو معرب، ولا يكاد يُضرب به ¬
- ومن أنواع الصقر: اليؤيؤ
المثل فيما يمدح، بل يُضرب به المثل كثيراً في اقتناص الأموال. ولعبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى؛ أنشده ابن خلكان، وغيره يخاطب من وَلِيَ من أصحابه: [من البسيط] قَدْ يَفْتَحُ الْمَرْءُ حانُوتاً لِمَتْجَرِه ... وَقَدْ فَتَحْتَ لَكَ الْحانوتَ بِالدِّينِ بَيْنَ الأَساطينِ حانوتاً بِلا غَلَقٍ ... تَبْتاعُ بِالدِّينِ أَمْوالَ الْمَساكِينِ صَيَّرْتَ دِينَكَ شاهِيناً تَصِيدُ بِهِ ... وَلَيْسَ يُفْلِحُ أَصْحابُ الشَّواهِينِ (¬1) وقلت: [من المنسرح] اعْجَبْ لِهَذا الزَّمانِ وَالْحِينِ ... أكثَرُ أَهْلِيهِ كَالشَّواهِينِ قَدِ اسْتَحَلُّوا الْحَرامَ وَاعْتَمَدُوا ... فِيهِ عَلى أَضْعَفِ البَراهِينِ أَكْثَرُ مَنْ يَدَّعِي العُلُومَ عَلى الإِ ... كْثارِ مِنْ صُحْبَةِ السَّلاطِينِ لِيَكْسِبوا الْجاهَ بِالْمُلوكِ عَلى اقْـ ... ـــــــتِناصِ ما كانَ لِلْمَساكِينِ كَمْ مُؤْمِنٍ فِيهِ خافَ كَما ... تَخافُ شاةٌ سَطا السَّراحِينِ فَالعاقِلُ الْمُنْزَوِي بِناحِيَةٍ ... عَنْهُمْ فِراراً بِالعِرْضِ وَالدِّينِ وإِنْ تَكُنْ مُبْتَلًى بِصُحْبَتِهِمْ ... فَاصْبِرْ قَنوعاً بِالعِيشَةِ الدُّونِ - ومن أنواع الصقر: اليؤيؤ - بياء تحتانية مضمومة، وهمزة مكررتين - وجمعه: يآيئ - بتقديم الياء - وجاء تأخيرهما في الشعر؛ أنشد الجوهري: [من الرجز] ¬
حَفِظَ الْمُهَيْمِنُ يُؤْيُؤِيَّ وَرَعا ... ما فِي اليآئِيِ يُؤْيُؤ شَروا (¬1) واليأياء - كالصلصال - صياح اليؤيؤ؛ ذكره في "القاموس". وهو طائر من الجوارح كالباشق كما في "الصحاح"، و"القاموس" (¬2). وقال آخرون: طائر صغير قصير الذنب. وقد قيل: إنه أشجع من الصقر. قيل: وأول من صاد به بهرام جور من ملوك الفرس، شاهده يوماً يُطارد قنبرة، ويراوغها، ويرتفع معها وما تركها حتى صادها، فاتخذه وأدبه وعلمه. والتشبه به أن لا يزدري الإنسان نفسه، ويقعد عن بلوغ مآربه بهمته وإن كان صغيراً في نفسه، فإن عظم اليؤيؤ بهمته لا بجثته. ومن هنا تجد الدَّهاء أكثر ما يوجد في صغار الرجال. ومن كلام بعض الأدباء: إنما الإنسان بجَدِّه لا بقَدِّه. وقال بعضهم: من جدَّ وجد. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن قتادة رحمه الله تعالى قال: مكتوب في الحكمة: اتق تُوقه، وابتغ تجد، واشرب لتشبع. وقال بعض الحكماء: لكل مجتهد نصيب. ¬
-ومن ذلك: العقاب.
وقلت: [من مجزوء الكامل المرفّل] بِالْجِدِّ تَبْلُغُ ما يَعِزُّ ... وَتَنْجَلِي عَنْكَ الكُرُوبُ فَاصْبِرْ وَبِاللهِ اسْتَعِنْ ... وَلِكُل مُجْتَهِدٍ نَصِيبُ وَاقْصِدْ إِلَهَكَ فِي الأمُو ... رِ فَإنَّ قَصْدَكَ لا يَخِيبُ - ومن ذلك: العُقاب. وفي الحديث: "العُقَابُ سَيِّدُ الطَّيْرِ وَالنَّسْرُ عَرِيْفُهَا". أخرجه ابن عدي في "الكامل" (¬1). وهو حديد البصر جداً، ولذلك قالوا في المثل: أبصر من عقاب ملاع، بالإضافة إلى ملاع كقطام، وهي الصحراء، وعقابها أبصر من عقاب الجبال؛ إذ لا يَحُول في الصحراء بين بصره وبين ما يبصره شيء. قال الزمخشري: وبصر العقاب أنها تعرف من سكاك الجو أنثى الأرنب من ذكرها؛ لأن الذكر يلتوي على عنقها فيقتلها (¬2). وكذلك يقولون في المثل: أبصر من بازي، وأبصر من نسر. قال الزمخشري: ليس في الطير أبصر منه؛ تزعم الفرس أنه إذا حلق أبصر الجيفة من مَسافة أربع مئة فرسخ (¬3). ¬
وقالوا أيضاً: أبصر من غراب. قال الزمخشري: يغمض إحدى عينيه اجتزاءً بالواحدة (¬1). والعرب تسميه أعور لذلك على طريق القلب، كان حدَّة بصرها تناهت حتى انقلبت إلى العكس. وقال الشاعر: [من الطويل] وَقَدْ ظَلَمُوهُ حِينَ سَمَّوْهُ سَيِّدا ... كَما ظَلَمَ النَّاسُ الغُرابَ بِأَعْوَرا (¬2) وقالوا: أبصر من كلب، وأبصر من فرس (¬3). وربما قالوا: أبصر من فرس ... في ظلماء ليل وغَلَس وقالوا: أبصر من فرس بيهماء في غلس. قال الزمخشري: تزعم الفرس أنه ليس في الدواب أبصر من الفرس؛ فإنه لو أجريَ في الضباب الكثيف، ومُدت في طريقه شعرة لوقف عند انتهائه إليها (¬4). والتشبه بهذه المبصرات بأن يكون الإنسان بصيراً بالأمور، حذوراً يُبصر الحق ويتبعه، ولا يقدم على أمر حتى ينظر في عواقبه، ¬
ولا يمشي قدماً؛ فإنه إنما خلق له البصر ليبصر به. قال الله تعالى في تقريع الإنسان وتوبيخه: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10]. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46]، أو أبصار ينظرون بها، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. [الحج: 46]. وقد روى الطبراني، وغيره عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَا ابْنَ مَسْعُوْد! أَيُّ عُرَىْ الإِيْمَانِ أَوْثَقُ؟ ". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "أَوْثَقُ عُرَىْ الإيْمَانِ الْوِلايَةُ فِيْ اللهِ وَالحُبُّ فِيْ اللهِ وَالْبُغْضُ فِيْ الله". ثم قال: "يَا ابْنَ مَسْعُوْد". قلت: لبيك يا رسول. قال: "أتَدْرِيْ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ ". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "أَفْضَلُهُمْ عَمَلاً إِذَا فَقُهُوا فِيْ دِيْنِهِمْ". ثم قال: "يَا ابْنَ مَسْعُوْد". قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: "أتدْرِيْ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ ". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "إِنْ أَعْلَمَ النَّاسِ أَبْصرُهُمْ بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ، وإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِيْ عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَىْ اسْتِهِ زَحْفًا" الحديث (¬1). وقلت في عقد هذه الجملة الأخيرة منه: [من الخفيف] أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصرُ النَّاسِ بِالْحـ ... ـــــــــقِّ إِذا ما رَأَيْتَ فِي النَّاسِ خُلْفا ذاكَ ما ضَرَّهُ وَلا نالَ مِنْهُ ... نَقْصُ أَعْمالِهِ وَلَوْ سارَ زَحْفا - ومن أوصاف العقاب: الحزم حتى قالوا: أحزم من عقاب. وقيل لبشار بن برد: لو خيرت أن تكون حيواناً ما كنت تختار؟ قال: العقاب لأنها تلبث حيث لا يبلغها سبع ولا ذو أربع، وتحيد عنها سباع الطير (¬2). وإنما ضربوا المثل بفرخ العقاب في الحلم والحزم، فقالوا: أحزم من فرخ العقاب، وأحلم من فرخ العقاب لأنه يكون وكره في عُرض جبل، والجبل ربما كان عموداً فلو تحرك من مجثمه، أو أقبل عليه أبواه لهوى إلى الحضيض، وهو على صغره يعرف أن الصواب ¬
في ترك الحركة، فيترك الحركة أخذاً بالحزم (¬1). وحقيقة الحزم: ضبط الرجل أمره، والأخذ بالثقة، والتثبت بالتبين. وفي كتاب الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]. وقُرِئ: {فتثبتوا}. وفي الحزامة أمانٌ من الندامة. ومن طباع العقاب ما ذكره الدميري، والسيوطي: أنها إذا صادفت الأرانب تبدأ بالصغار قبل الكبار (¬2). والتشبه بها في ذلك بأن يبدأ الإنسان في صيد العلم بصغار العلم قبل كباره، وكذلك إذا عَلَّمَ غيره بدأ في تعليمه بالأسهل فالأسهل، وعلمه الصغار قبل الكبار تدريجاً؛ أي: انتقالاً من درجة إلى أرفع منها. ومنه تدريج الصبي الصغير على المشي بالدراجة. واعلم أنه كما يتدرج في الخير من صغيره إلى كبيره، كذلك الشر إذا تابعت صغيره جرَّك إلى كبيره. ألا ترى أن العبد إذا ركب صغيرة من المعاصي، ولم يحسم ¬
مادتها بالتوبة، بل عاودها، تدرَّب عليها، ثم جرَّته إلى غيرها حتى يرتكب العظائم، وإذا سمع كلمة السوء الصغيرة، فإن أغضى عنها وعفا عنها ذهب شرها، وإن قلبها في فكره وتأثر في نفسه منها، دعته إلى الانتقام من التكلم بها والانتصار، فربما ردَّ عليها بمثلها فسمع أقوى منها. فأول الحرب الكلام، وأول الحريق الشرر، وأول العشق النظر، وأول الشجرة النواة. وفي المثل أيضاً: الشر يبدؤه صغاره؛ أي: ينشأ كبيره من صغيره، فاحتمل الصغير لئلا يخرجك إلى الكبير؛ يُضرب في الحلم وكظم الغيظ (¬1). وقال مسكين الدارمي: [من مجزوء الكامل المرفّل] وَلَقَدْ رَأَيْتُ الشَّرَّ بَيـ ... ـــــــــــنَ الْحَيِّ يَبْدَؤُهُ صِغارُه فَلَوْ اَنَّهُمْ يَأسونَهُ ... لَتَنَهْنَهَتْ عَنْهُمْ كِبارُهْ (¬2) وكذلك لا يحقر الإنسان عدوه لِصغره أو صُغْره، ولا يغتر بكبر نفسه وكبره. وقد قال القائل: [من البسيط] ¬
- ومن ذلك الجوارح
لا تَحْقِرَنَّ صَغِيراً فِي مُخاصَمَةٍ ... إِنَّ الذُّبابَةَ أَدْمَتْ مُقْلةَ الأَسَدِ - ومن ذلك الجوارح: وهي من الطير، والسباع ذوات الصيد، جمع جارحة للذكر والأنثى؛ سميت بذلك لأنها تكتسب من: جرح، واجترح عمل بيده، واكتسب، ومنه سميت أعضاء الإنسان التي يكتسب بها جوارح. ومنه قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60]؛ أي: اكتسبتم. والاجتراح والاكتساب نتيجة العقل، وأحق ما يوصف به الإنسان لأنه هو العاقل المدرك بنهيته وهمته طرق الكسب. وإنما سميت جوارح الطير جوارح: لأنها في الإدراك قريبة من الإنسان الكاسب، ولذلك يُنسب إليها العلم اللازم لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4]. فلا ينبغي للإنسان أن يكون أعجر من كواسب الطير والسباع في اكتساب ما ينفعه دون ما يضره؛ ألا ترى أن العقاب يصطاد إناث الأرانب دون ذكرانها لأن الذكر يلتوي على عنق العقاب فيقتلها كما تقدم؟ والهر إذا أكل الحية اجتنب موضع السم منها. والأيل يأكل الحيات أكلاً ذريعاً فلا تضره إلا إذا شرب الماء، فلذلك يجتنب الماء إذا أكلها حتى تنهضم عنه، فإذا عطش حام حول
الماء ولا يشرب منه. فإذا كان الإنسان يتناول ما يضره مع علمه بمضرته فهو من أحمق الناس، كما قال بعض العارفين: أحمق الناس من يسره ما يضره. وقال بيان الحمال رحمه الله تعالى: من كان يسره ما يضره كيف يفلح (¬1). وقلت مُلماً بذلك من دوبيت: أَلْفَيْتُكَ مُغْرَمًا بِجَمْعِ الضرَّةْ ... تَحْتَجُّ بِأَنَّ ذاكَ خَوْفَ الضَّرَّةْ ما ضَرَّكَ مِنْ دُنْياكَ فَاحْذَرْ ضرَّهُ ... هَلْ يُفْلِحُ مَنْ يَسُرُّهُ ما ضَرَّهْ الضرة في المصراع الأول هي: المال الكثير، وفي الثاني: الاسم من الاضطرار، وهي بمعنى سوء الحال أيضاً. وضره في المصراع الثالث: الضر ضد النفع مضافاً إلى الضمير العائد إلى ما، وفي المصراع الرابع: فعل ناصب لهاء الضمير. وللضَّرة - بالفتح - معان: القطعة من المال، والإبل، والغنم، والمال تعتمد عليه وهو لغيرك، والضرة للمرأة، وزوجتاك؛ الزوجتان كل واحدة ضرة الأخرى، والدنيا والآخرة ضرتان كما في الخبر. وقلت أيضاً: [من الرجز] ¬
يا مَنْ جَمَعَ الأَمْوالَ خَوْفَ الضَّرَّة ... حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْها لَدَيْكَ الضَّرَّة ما الضَّرَةُ يا أُخِيَّ إِلاَّ الضَّرَّة ... لا تَجْتَمِعُ الدُّنْيا مَعاً وَالضَّرَّة وحكى حجة الإسلام في "الإحياء": أن عيسى عليه السَّلام كان يقول: الدنيا والآخرة ضرتان؛ فإذا أرضيت أحدهما أسخطت الأخرى (¬1). وفي معناه ما رواه الإمام أحمد، والبزار، والطبراني، وابن حبان، والحاكم وصححه، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فآثِرُوْا مَا يَبْقَى عَلَىْ مَا يَفْنَىْ" (¬2). فينبغي للعاقل أن ينظر لنفسه في دنياه ويجترح ما يحمد عقباه؛ فإن الله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. ¬
واعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، فما زرعت فيها حصدته في آخرتك؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. كاسبان لا يستويان؛ كاسب خير، وكاسب شر. قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 21 - 22]. ثم الجوارح منها: ما لا يصيد إلا كبيراً كالنسر، والعقاب، والفهد. ومنها ما يصيد صغيراً: وهو الأسد، والصقر؛ فإنهما يصيدان صغيرين، ولذلك قالوا في المثل: إن الشبل من الأسد، وإن هذا الشبل من ذاك الأسد. وقال كشاجم: [من الرجز] إن الفرازين من البيادق (¬1) وفي المثل: القرم من الأفيل. قال الزمخشري: يُضرب في كون الشيء الجليل في بدئه صغيراً، انتهى (¬2). ¬
والأفيل يُجمع على أفال كجمال، وأفائل: وهو صغار الإبل بنات المخاض ونحوها. والقرم، ويقال له: مقرم - كمكرم - وهو البعير لا يُحمل عليه، ولا يُذلل، وإنما هو للفحلة. قال في "الصحاح": ومنه قيل للسيد: قرم، ومقرم تشبيهاً بذلك (¬1). والمعنى في ذلك: أنه لا ينبغي أن تستصغر أولاد الأشراف عن بلوغ مراتب آبائهم، وإنما تقال تلك الأمثال لولد النجيب مدحاً له وترغيباً له في مثل نجابة أبيه؛ لأن كل إنسان يميل إلى ما كان عليه آباؤه من الخير لأنه يعجب بآبائه، كما قالوا في المثل: كل فتاةٍ بأبيها مُعجبة (¬2). ونظر إلي بعض العلماء وأنا في أوائل الطلب، فوجد مني فهماً وحذقاً، فقال: لا يُستكثر عليه ذلك؛ فإنه ابن فلان، ثم تمثل بالمثل، فقال: إن هذا الشبل من ذاك الأسد، فلم يزل ذلك يبعثني على طلب العلم والميل إلى التقوى والخير إلى يومنا هذا، وإلى الممات إن شاء الله تعالى بحيث إني أقول: [من مجزوء الرمل] أَعْرَضَ القَلْبُ أَبِيًّا ... عَنْ هَوى لُبْنَى وَلَيْلَى ¬
وَلَقَدْ شَمَّرْتُ حَزْماً ... فِي رِضَى مَولايَ ذَيْلا مائِلاً عَمَّا سِواهُ ... فِي بَقايا العُمْرِ مَيْلا أَمْتَطِي مِنْ هِمَّةِ القَلـ ... ـــــــــــــــــبِ إِلَى لُقياهُ خَيْلا طائِعاً رَبِّي نَهاراً ... بِالَّذِي يَرْضَى وَلَيْلا عائِذاً مِنْ أَنْ أُلاقِي ... يَوْمَ أَلْقَى اللهَ وَيْلا وروى الحاكم في "مناقب الإمام الشافعي" -رضي الله عنه- عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يُشْبِهَ أَبَاهُ" (¬1). يعني: في عمل الخير والأخذ به؛ فإن الخير هو الآخذ بيد أبيه إلى السعادة. وقال رؤبة في عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه: [من الرجز] بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيٌّ فِي الكَرَمْ ... وَمَنْ يُشابِهْ أَبَهُ فَما ظَلَمْ وروى الشيرازي في "الألقاب" عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى - مرسلاً -: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنْ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ عَلَىْ عَبْدِهِ أَنْ يَشْبَهَهُ وَلَدُهُ"؛ أي: في كل خير. فأمَّا تشبه الولد بأبيه فيما هو بسبب الشقاوة، فهو من أبلغ أسباب ¬
الشقاوة، ولذلك ذمَّ الله تعالى المقلدين لآبائهم في الكفر والمعاصي، والعادات المخالفة للحق في مواضع كثيرة من كتابه العزيز كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]؛ أي: أَوَ لَوْ كان آباؤهم مُلْحَقِين بالبهائم في الجهالة والضلالة يتبعونهم ويدعون الحق الذي أنزله الله تعالى. وقالت العرب في المثل في عكس ما تقدم، وهو شبه الولد بأبيه في الشر: لا تلد الحية إلا حُيية (¬1). وهو في معنى قول نوح عليه السلام: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27]. وقال الشيخ قطب الدين القسطلاني: [من الطويل] إِذا طابَ أَصْلُ الْمَرْءِ طابَتْ فُروعُهُ ... وَمِنْ عَجَبٍ جاءتْ يَدُ الشَّوْكِ بِالوَرْدِ وَقَدْ يَخْبُثُ الفَرْعُ الَّذِي طابَ أَصْلُهُ ... لِيَظْهَرَ صُنع اللهِ فِي العَكْسِ وَالطَّرْدِ (¬2) واعلم أن الماجد إذا رغب في مجد أبيه فقد يكون ذلك لمقتضى طبعه، وقد يكون لتحرك نفسه للخير توفيقاً من الله تعالى، وهذا أفضل ¬
تنبيه
من الأول؛ لأن المرء إذا جاء ما يأتي به على وفق طبعه فهو غير ممدوح عليه ذلك المدح؛ فإن الطبع قاهره كما يحمل صاحبه على مقتضاه وهو شريف ممدوح، كذلك يحمله عليه وهو قبيحٌ مذموم؛ ألا ترى أنَّ جرو الذئب ذئب، وفرخ الحية حية؟ وقد سبق قول الأعرابي: [من الوافر] فمن أدراك أنَّ أباك ذيب وقولهم: ومن يُشابه أباه فما ظلم؛ أي: من حيث إنه مقهورٌ بطبعه، ومن حيث إنه وضع الشيء في محله، والظلم وضع الشيء في غير محله. * تَنْبِيهٌ: من أمثال الناس: من العجيب: نجيبٌ من نجيب. والنجيب: الكريم من الناس ومن الإبل. وإنما قيل ذلك لأن مخالفة الأنجال للآباء كثيرة، والحكمة في ذلك بيان أنَّ قدرة الله هي المؤثرة كما قال الله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19]؛ أي: المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والصالح من الطالح، والطالح من الصالح لأنه فعَّال لما يريد. وتقول العرب: أنجبت المرأة إذا ولدت نجيباً، وربما قالوا: أنجب: إذا ولد غير نجيب.
- ومن ذلك الديك
وقد قلت: [من المجتث] عَجِيبٌ مِنْ عَجِيبٍ ... نَجِيبٌ مِنْ نَجِيبِ وَكَمْ مِنْ بارعٍ لَيْـ ... ـسَ ذا جَدٍّ حَسِيبِ وَحُكْمُ اللهِ يَمْضِي ... عَلى وَجْهٍ غَرِيبِ فَسَلِّمْ ما تَرى فِي الـ ... ـوجُودِ مِنَ الضُّروبِ فَرَدُّ الأَمْرِ لِلَّـ ... ـه مِنْ شَأْنِ الأَرِيب - ومن ذلك الديك: من أخلاقه السَّخاء والإيثار لأنه يأخذ الحبة بمنقاره ولا يأكلها، وإنما يُلقيها إلى الدجاج ويؤثرهن، ولذلك قالوا في المثل: أسخى من الديك؛ ذكره الزمخشري (¬1). وقال القمي: من أمثالهم: أسخى من لافظه؛ قال الخليل: يعني: الديك (¬2). والتشبه به في ذلك بالقيام على الأهل والعيال بالكفاية؛ فإن كفاية العيال من أفضل أنواع الكرم، وأي كرم لمن يُجيع عياله، ومن ذا الذي يرجو بعد ذلك نواله؟ كما قال أبو العتاهية: [من مخلَّع البسيط] مَنْ ذا الَّذِي يَرْتَجِي الأَقاصِي ... إِنْ لَمْ ينَلْ فَضْلَهُ الأَدانِي (¬3) ¬
وفي الحديث: "وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُوْلُ" (¬1). "كَفَىْ بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُوْلُ" (¬2). وقلت: [من الوافر] أقولُ لِقاعِدٍ عَنْ كَسْبِ مالٍ ... يُفِيدُ بِهِ العِيالَ قضاء حاجِ أليْسَ الدِّيكُ أَكرَمَ مِنْكَ يَسْعَى ... فَيَلْقُطُ ثُمَّ يَلْفِظُ لِلدَّجاجِ ومن طباع الديك: الإيناس والاستئناس، ولذلك سمي: الأنيس، والمؤانس. والتشبه به بأن تؤنس من يستحق الأنس بك لكونه مطيعاً لله تعالى، وتستأنس بأهل الله تعالى وأهل طاعته. روى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَرَجَ مَعَ أخٍ لَهُ فِيْ طَرِيْقِ مُوْحِشَةٍ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ رَقَبَةً" (¬3). وأحق الناس بإيناسك أبواك، وأهلك، وأولادك، ومن يليك، وأحق الناس بأن تأنس به أهل طاعة الله تعالى، ولا تكاد تجد الآن من تأنس به الأنس المحمود شرعاً. وفي "الرسالة" للأستاذ أبي القاسم القشيري: قال ابن خبيق رحمه ¬
لطيفة
الله تعالى: وحشة العباد عن الحق أوحشت منهم القلوب، ولو أنهم استانسوا بربهم لاستأنس بهم كل أحد (¬1). * لَطِيفَة: روى الإمام أحمد في "الزهد" عن موسى بن أبي عيسى: أن مريم عليها السلام فقدت عيسى عليه السلام، فدارَتْ تطلبه، فلقيت حائكاً فلم يرشدها، فدَعَتْ عليه، فلا تزال تراه تائهاً، فلقيَتْ خياطاً فارشدها، فدعَتْ له، فهم يؤنس إليهم (¬2). وروى ابن جهضم في "بهجة الأسرار" عن محمد بن يوسف الجوهري قال: سمعت بِشْراً -يعني: الحافي- رحمه الله تعالى يقول في جنازة أخته: إذا قصر العبد فيما بينه وبين الله تعالى أخذ منه من كان يؤنسه (¬3). وقال الإمام أحمد في "الزهد": حدثنا أبو معاوية الهمداني، ثنا بعض أصحابنا قال: كان عبد الله بن عامر بن كريز وهو أمير إذا صلَّى بالناس رجع إلى بيته، فيمر برجل به عرجة في مؤخر المسجد فيقول: كيف أنت يا فلان؟ فيقول: بخير، على أنَّ أهل الخير قد أصبحوا مستوحشين. ¬
- ومن حميد خصال الديك: معرفة مواقيت الصلاة.
فيقول: ما أوحشهم؟ فيقول: فقدوا أحوالهم فاستوحشوا. وقلت في المعنى: [من الرمل] أَصْبَحَ الأَخْيارُ فِي وَحْشَتِهِمْ ... مِنْ زمانٍ عضَّهم قَدْ دهشُوا لا تَسَلْ بِاللهِ عَنْ وَحْشَتِهِمْ ... فَقَدُوا إِخْوانهم فَاسْتَوْحَشوا - ومن حميد خصال الديك: معرفة مواقيت الصلاة. روى الطبراني، وابن عدي، والبيهقي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ للهِ دِيْكًا رِجْلاهُ فِيْ التُّخُوْمِ وَعُنْقُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ مُنْطَوِيَةٌ، فَإِذَا كَانَتْ هَنَةٌ مِنَ اللَّيْلِ صَاحَ: سُبّوْحٌ قُدُّوْسٌ، فَصَاحَتِ الدِّيَكَةُ" (¬1). ومعرفة أوقات الصلاة مما مدح الله تعالى به هذه الأمة في التوراة، فقال: هم الحمادون رعاة الشمس؛ كما رواه أبو نعيم في "الدلائل" (¬2). وروى الطَّبراني -واللفظ له - والبزار، والحاكم وصححه، عن ¬
- ومن خصال الديك: التذكير بالله تعالى.
ابن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ خِيَارَ عِبَادِ اللهِ الَّذِيْنَ يُرَاعُوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِذِكْرِ اللهِ" (¬1). - ومن خصال الديك: التذكير بالله تعالى. روى أبو الشيخ عن فرقد السبخي رحمه الله تعالى قال: مرَّ سليمان بن داود عليهما السلام ببلبل ساقط على شجرة، يُحرك رأسه ويُميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: الله ونبيه أعلم. قال: يقول: أكلت نصف تمرة وعلى الدنيا العفاء. ومرَّ بديك يسقع، فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: الله ونبيه أعلم. قال: يقول: اذكروا الله يا غافلين (¬2). وتقدم نحو ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع فوائد أخرى في التشبه بالشياطين. - ومن خصال الديك: الإيقاظ للصلاة. روى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه بإسناد جيد، عن زيد ¬
ابن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَسُبُّوْا الدِّيْكَ؛ فَإِنَّهُ يُوْقظُ لِلصَّلاةِ" (¬1). قال الحليمي: فيه دليل على أنه كل من استفيد منه خير لا ينبغي أن يُسب ويستهان، بل حقُّه أن يُكرم ويشكر (¬2). قلت: وأبلغ من ذلك في الاستدلال على ذلك الأحاديث الواردة في النهي عن سب البرغوث. روى الإمام أحمد، والبزار، والبيهقي عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يسبُّ برغوثاً فقال: "لا تَسُبَّهُ؛ فَإِنَّهُ أَيْقَظَ نبِيًّا لِلصَّلاةِ" (¬3). وروى الطبراني عنه قال: ذُكر البراغيت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِنَّهَا لَتُوْقظُ لِلصَّلاةِ" (¬4). وروى الطبراني عن علي رضي الله تعالى عنه قال: نزلنا منزلاً فآذتنا البراغيث، فسببناها، فقال: "إِنَّهَا لتوْقِظُ لِلصَّلاةِ". وروى الطبراني عن علي رضي الله تعالى عنه قال: نزلنا منزلاً ¬
فآذتنا البراغيث، فسببناها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبوهَا؛ فَنِعْمَتِ الدَّابَةُ أَيْقَظَتْكُمْ لِلصلاةِ" (¬1). قلت: فيه تنبيه على أنَّ الإنسان لا ينبغي له أن يسُب شيئاً من مخلوقات الله تعالى إلا من حيث أُذِنَ له في السب؛ فإنَّ العبد مهما طالع صنع الله تعالى في مخلوقاته بعين الرضا، واعتبار الحكمة في خلقها ظهرت له من كل مصنوع كل مليحة؛ فإن الله تعالى لم يخلق شيئا إلا وفيه فائدة؛ ألا ترى أنه خلق إبليس وابتلى النَّاس بعداوته، وابتلاه بإغواء الإنسان حتى يجاهده الإنسان ويُخالفه فيُثابُ ويؤجر، ولولا ابتلى الله آدم بإبليس حتى وقعت منه الزلة لم يظهر آدم عليه السلام بالتوبة التي هي أول مقامات الأولياء، والوسيلة إلى محبة الله تعالى؛ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. فإن أطاع الإنسان الشيطان ولم يجاهده ظهرت حجة الله تعالى عليه. وكذلك خلق الله تعالى العصاة لتظهر حجة الله تعالى عليهم ليكونوا عبرة لأهل الطاعة. وكذلك خلق القردة والخنازير والأباعر ليظهر فضله عليك في أن خلقك إنسانا ولم يخلقك كذلك فيزداد شكرك، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
إذا رأى القرد خَرَّ ساجدًا. رواه ابن عدي، والحاكم، والبيهقي من حديث جابر رضي الله تعالى عنه (¬1). وكنت في مجلس فاغتابوا رجلاً، ووصفوه بأوصاف هي فيه من الشِّره والشَّره، والهَلَع والجشع، والظلم والبغي، وغير ذلك، وأنا ساكت أتألم بما يتكلمون به، ولم أجد للإنكار عليهم مساغاً حتى قال لي بعض أهل المجلس: ما تقول فيه أنت؟ فقلت: أقول فيه: إنه من كمال الكون، وجمال الوجود. فقيل لي في ذلك، وتعجَّبوا أن يكون كما ذكرت وهم يعرفون منه كل قبيحة. فقلت: يا سبحان الله! ألستم تستقبحون هذه الأمور وتستبشعون منه هذه الأخلاق؟ قالوا: بلى. قلت: فإذا كنتم تستقبحونها فإنكم لا تتصفون بها، فاتصاف هذا المذكور بهذه الأوصاف القبيحة كان لظهور قبحها لكم حتى تنزهتم عنها، فهو من كمال الكون بهذا لاعتبار. وأيضًا فإن مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - البرغوث بقوله: "نِعْمَ الدَّابّهُ" (¬2) مُعللاً ¬
لمدحه بأنه أيقظهم للصلاة من باب تعويد الألسنة خيراً وتنزيهها عن عادة الشر. كما روى ابن أبي الدُّنيا في "الصمت" عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى قال: مرَّ بعيسى بن مريم عليهما السلام خنزير، فقال: مُرْ بسلام. فقيل: يا روح الله! لهذا الخنزير تقول؟ قال: أكره أن أعوِّد لساني الشر (¬1). وروى هو والطبراني بإسناد حسن، عن أسود بن أصرم الحاربي رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله! أوصني. قال: "أتمْلِكُ يَدَكَ؟ ". قلت: فما أملك إن لم أملك يدي؟ قال: "أتمْلِكُ لِسَانَكَ؟ ". قال: فما أملك إن لم أملك لساني؟ قال: "لا تَبْسُطْ يَدَكَ إِلاَّ إِلَىْ خَيْرٍ، وَلا تَقُلْ بِلِسَانِكَ إِلاَّ مَعْرُوْفًا" (¬2). وقال الشاعر: [من البسيط] ¬
عَوّدْ لِسانكَ قَوْلَ الْخَيْرِ وَارْضَ بِهِ ... إِنَّ اللِّسانَ لِما عَوَّدْتَ يَعْتادُ (¬1) وقال بعضهم: [من السريع] لا تَشْتُمِ البُرْغُوثَ إِنَّ اسْمَهُ ... بِرٌّ وَغَوْث لَكَ لَوْ تَدْرِي فَبِرُّهُ مَصُّ دَمٍ فاسِدٍ ... وَغَوْثُهُ الإِيْقاظُ لِلْفَجْرِ وأيضًا: فإن في قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكرت البراغيث: "إِنَّهَا تُوْقِظُ لِلصَّلاةِ"، وقوله: "لا تَسُبُّوْهَا؛ فَإِنَّهَا أَيْقَظَتْكُمْ لِذِكْرِ اللهِ" إشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعليم منه لنا أنَّا إذا أردنا ذكر مخلوق بصفة مستكرهة وله صفة مستحسنة، فذِكْرُه بالصفة المستحسنة أولى لأن ذكر المحاسن لا يضر، بخلاف ذكر المثالب. ومن هذا القبيل ما رواه عبد الله ابن الإمام أحمد رضي الله تعالى عنهما عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: مرَّ عيسى عليه السَّلام والحواريون على جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا! فقال عيسى عليه السلام: ما أشد بياضَ أسنانه؛ يعظهم وينهاهم عن الغيبة (¬2). وقلت في هذا المعنى: [من السريع] إِنْ تَلْفَ مَخْلُوقاً لَهُ سَيِّئٌ ... مِنْ عَمَلٍ لَكِنْ لَهُ صالِحُ ¬
فَامْحُ بِما يَصْلُحْ ما لَيْسَ بِالصَّـ ... ــــــــــــالِح، نِعْمَ الرَّجُلُ الْمادحُ فَذِكْرُكَ الصَّالِحَ ما ضَرَّ ما ... يَضُرُّ ذِكْرُ الطَّالِحِ القادِح لِسانَكَ اجْعَلْ قالَهُ الْخَيْرَ مِن ... عادَتِهِ، أَنْتَ إِذاً رابحُ عَذْبٌ فُراتٌ قَوْلُكَ الْخَيْرَ وَالـ ... ـــــــملحَ الَّذِي قَدْ قالَه الْمالِحُ إِنَّ مَقالَ السُّوْء لا يَنْبَغِي ... حَتَّى وَلَوْ جاءَ بِه مازِحُ والمالح في البيت: المغتاب. قال في "القاموس": مَلَحَه -كمنعه -: اغتابه (¬1)، وفيه تورية. تقول العوام: فلان مالح؛ يعنون به أنه خارج عن القبول، مستثقل به، ولا يُغبط بوجوده. وأيضًا فإن ذم البرغوث وغيره من المخلوقات المستبشعة عادةً كالقرد، والكلب ربما أدى بالعبد إلى السخرية، والطعن في الخلقة، وقد قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لو سَخِرْتَ من كلب خشيت أن كون كلباً. رواه الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" (¬2). وقد أفضى الاسترسال في استقباح الأمور وتعييبها بعض المبتدعة إلى الكفر الصراح، ونسبة الذات العلية إلى الظلم في القضية. ¬
وحُكي أن بعض هؤلاء الضلال كان في بستان، فنظر إلى شجرة الجوز وارتفاعها وكبرها، وإلى صغر ثمرها، وإلى شجرة اليقطين وانطراحها وكبر ثمارها، فقال: لو كانت هذه الثمرة على هذه الشجرة، وهذه الثمرة على هذه الشجرة كان أقرب إلى العدل! فجاء طائر فقطع واحدة من ثمر الجوز فسقطت على جبهته فآلمته، فقيل له: تأدب؛ فلو كانت هذه الجوزة في مقدار القرعة أو البطيخة كانت قتلتك. فقال: نعم. وروى الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، والترمذي، وأبو يعلى، والطَّبراني في "الكبير"، وابن حبان، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود، والبيهقي في "الشعب" عنه، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلا اللَّعَّانِ، وَلا الْفَاحِشِ، وَلا الْبَذِيْءِ" (¬1). وسمع بعض العلماء ولده يقول لكلب يُضايق أباه في الطريق: إخسأ يا كلب! فقال له: لا تقل ذلك؛ فإنه من خلق الله تعالى. فقال له: إنه أليس كلباً؟ قال: نعم، ولكنك أخرجت كلامك مخرج الذم. ¬
وأما ما رواه ابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لدغَتْ النبي - صلى الله عليه وسلم - عقرب وهو في الصلاة، فقال: "لَعَنَ اللهُ الْعَقْرَبَ؛ مَا تَدَعُ مُصَلِّيًّا وَلا غَيْرَ المُصَلِّيَ، اقتلُوْهَا فِيْ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ" (¬1). وروى أبو نعيم في "الطب" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: لدغت النبي - صلى الله عليه وسلم - عقرب وهو يصلي فقال: "لَعَنَكِ اللهُ؛ لا تَدَعِيْنَ نبَيًّا وَلا غَيْرَهُ"، ثم دعا بماء وملح ورَشه عليها (¬2). فإن سبب لعنه للعقرب تعرضها له في الصلاة باللدغ لتشغله عنها، فقد لعنها معللاً للعنها بقيد ما علل به النهي عن سبِّ الديك والبرغوث وإن كان فيه ما يدعو إلى سبه من القرص؛ فإنَّ قرصه لطيف لا يؤثر أكثر من إيقاظ النائم للصَّلاة، فحسنته تُذهب سيئته بخلاف العقرب، والحية، والكلب العقور، والحدأة، والغراب الأبقع، والفأرة، وهي الفواسق؛ فإنها متمحضة للإيذاء، فلذلك تُقتل في الحل والحرم، ويقتلها المحرم والحلال. ومن هنا ساغ سبُّها كما يسوغ سب الكفار والظلمة لتمحضهم للشر والأذية، وإنما لم يَجُزْ لعن كافر بعينه ولا ظالم بعينه إلا أن يموت على الكفر لأن خاتمته مُغَيَّبة عنا. والذي تلخص لنا: أن ما يتمحض للأذية والشر من الحيوانات ¬
- ومن ذلك الهدهد
كالعقرب، والزنبور يجوز لعنه، وما لا يؤذي كالنمل، والشاة، أو لا تتمحض للأذية كالبرغوث، أو ما نفعه أكثر من ضرره كالدابة الشموس، فلا ينبغي أن تُلعن أو تُسب، ومن ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لعن الدابة. - ومن ذلك الهدهد: وقصته مع سليمان عليه السلام، ومحاورته معه في كتاب الله، والقرآن ناطقٌ بأنه كان رسولاً إلى ملكة سبأ. والتشبه به بأن يكون العبد حسن المحاورة خصوصاً مع الأكابر والملوك ناصحاً لهم. وفي الحديث: "الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ". قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: "للهِ وَلَرسُوْلهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِيْنَ وَعَامَّتِهِمْ". رواه مسلم، وغيره من حديث تميم الداريِّ رضي الله تعالى عنه (¬1). وقصة سليمان عليه السلام هذه أصل في إرسال الملوك الرسل، والبريد في مآربهم. وينبغي لمرسل الرسول أن يختاره حسن الاسم حسن الوجه، حسن العبادة، كامل العقل؛ فإن سليمان عليه السلام اختار الهدهد لذلك لما رأى فيه من الكفاءة ولحسن اسمه وصورته؛ فإن اسمه كأنه منقول من الأمر مِنْ هاد: إذا رجع مكرراً. ¬
ومن لطائفِ الزمخشري في "الكشاف": [من المجتث] يا طالِبَ اللهِ هَدْ هِدْ ... وَاسْجُدْ كَأَنَّكَ هُدْهُدْ (¬1) وروى البزار، والطَّبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا بَعَثْتُمْ إِلَيَّ رَجُلاً فَابْعَثُوْهُ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الاسْمِ" (¬2). وروى البزار عن بريدة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَبْرَدْتُمْ إِلَيَّ بَرِيْدًا فَابْعَثُوْهُ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الْوَسْمِ" (¬3). وينبغي للمرسل أن يحسن البلاع ويُبينه، وما على الرسول إلا البلاع المبين. - ومن أوصاف الهدهد ما يذكر أنه يرى الماء في باطن الأرض كما يراه الإنسان من باطن الزجاج، وأنه كان دليل سليمان عليه السلام على الماء، ولهذا توعَّده لما فقده. وروى ابن عدي، والبيهقي في "الشعب": أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن سليمان عليه السلام مع ما خوَّله الله تعالى من الملك وأعطاه، كيف عني بالهدهد مع صغره؟ ¬
فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد كانت له الأرض كالزجاج. فقال له ابن الأزرق: قف يا وقاف، كيف ينظر الماء من تحت الأرض، ولا يرى الفخ إذا غطي له بقدر إصبع من تراب؟ فقال ابن عباس: إذا نزل القضاء عَمِيَ البصر (¬1). ومن لطائف قول بعضهم: [من البسيط] جاءَتْ سُلَيمانَ يَومَ العَرْضِ هُدْهُدَةٌ ... أَهْدَتْ إِلَيْهِ جَراداً كانَ فِي فِيْها وَأَنْشدَتْ بِلِسانِ الْحالِ قائِلَةً ... إِنَّ الْهَدايا عَلى مِقْدارِ مُهْدِيها لَوْ كانَ يُهْدى إِلَى الإِنْسانِ قِيمَتُهُ ... فَأَنْتَ قِيمَتُكَ الدُّنْيا وَما فِيها والاعتبار في ذلك أن الهدية تستعطف القلوب، وهي مطلوبة ما لم يكن المطلوب بها إبطال حق إلى التوصل إلى باطل؛ فإنها تنقلب رشوة وتكون سُحتاً. ¬
- ومن ذلك الحمام
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَهَادُوْا تَحَابُّوْا". رواه البخاري في "الأدب المفرد"، والطيالسي، والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (¬1). - ومن ذلك الحمام: وهو كل ما عبَّ وهدر. روى الثعلبي عن وهب رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] قال: اختار من الغنم الضأن، ومن الطير الحمام (¬2). - فمن أوصاف الحمام: البلاهة، وتقدم الحديث: "أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ" (¬3). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى: أن المسيح عليه السلام كان يقول لأصحابه: أن تكونوا بلهاً في الله مثل الحمام. قال: وكان يقول: إنه ليس شيء أَبْله من الحمام؛ إنك تأخذ فرخَيْه فتذبحها، ثم يعود إلى مكانه ذلك فتفرخ فيه (¬4). ¬
- ومن أوصاف الحمام أيضا: الأنس بالناس، والألفة بهم
وروى الدينوري في "المجالسة" عن مصعب الزبيري، عن أبيه، عن جده قال: قال عيسى عليه السلام: كن لربك كالحمام الألوف؛ تُذبح فراخه ولا يطير عنهم (¬1)؛ أي: عن أهله الذي يألفهم. - ومن أوصاف الحمام أيضاً: الأُنس بالناس، والألفة بهم، كما في هذا الأثر. وروى ابن عدي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِيْ بَيْتِهِ خَالِيًا فَلْيَتَّخِذْ فِيْهِ زَوْجَ حَمَامٍ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" بسند جيد، عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: شكا رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحشة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتَّخِذْ زَوْجًا مِنْ حَمَامٍ" (¬3). وروى ابن السني، وابن عساكر عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أنه شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحشة، فأمره أن يتخذ زوج حمام، ويذكر الله عند هديره (¬4). ¬
فائدة
وروى وكيع في "الغرر"، وابن عدي في "الكامل" عن علي رضي الله تعالى عنه: أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحشة، قال: "أَلا اتَّخَذْتَ زَوْجًا مِنْ حَمَامٍ فَآنسَكَ، وَأَكَلْتَ مِنْ فِرَاخِهِ، أَوْ اتَّخَذْتَ دِيْكًا فَآنَسَكَ، وَأَيْقَظَكَ لِلصَّلاةِ" (¬1). * فائِدَةٌ: كان عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما يلقب بحمامة المسجد؛ لملازمته المسجد الحرام، وكثرة هديره بتلاوة القرآن (¬2). - ومن أوصاف الحمام: أنها لا تحكم عشها، فإذا هبت الريح كان ما يُكسر أكثر مما يسلم. أنشد ابن قتيبة لعبيد بن الأبرص: [من مجزوء الكامل المرفّل] عَيوا بِأمرِهِمُ كَما ... عيَّتْ بِبَيْضَتِها الْحَمامَةْ جَعَلَتْ لَها عُودينِ مِنْ ... نشمٍ وَآخَرَ مِنْ ثُمامَةْ (¬3) والتشبه بالحمام في ذلك أنه لا ينبغي للمؤمن أن يهتم بتشييد المساكن، بل يقتصر على ما يكنه من الحر والقَر؛ فإن الأمر قريب، والثَّوى في الدنيا قليل. ¬
روى أبو داود، والترمذي وصححه، وابن ماجه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: مرَّ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نُعالج خُصًّا لنا قد وهى، فقال: "مَا هَذَا؟ ". فقلنا: خُصٌّ لنا قد وهى. فقال: "أَرَى الأَمْرَ أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ" (¬1). وروى أبو داود في "المراسيل" عن عطية بن قيس رحمه الله تعالى قال: كان حجر أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجريد النخل، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في مغزى له وكانت أم سلمة رضي الله تعالى عنها موسرة، فجعلت مكان الجريد لَبِناً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا هَذَا؟ ". قالت: أردت أن أكف عني أبصار الناس. فقال: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ! إِنَّ شَرَّ مَا ذَهَبَ فِيْهِ مَالُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ الْبُنْيَانُ" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن المهاجر الرقي قال: لبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً في بيت من شَعر. فقيل: يا نبيَّ الله! ابْنِ بيتاً. ¬
فيقول: أموتُ غداً (¬1). وروى فيه: أن نوحاً بنى بيتاً من قصب، فقيل له: لو بَنَيْتَ غير هذا. فقال: هذا كثيرٌ لمن يموت (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الشعبي، ونحوه عن مجاهد قال: كان عيسى عليه السلام يلبس الصوف، ويأكل الشجر، ويبيتُ حيث أمسى، ليس له بيت يخرب، ولا ولد يموت، ولا يدخر شيئاً لغد (¬3). وعن سفيان: "أن" عيسى عليه السلام قيل له: ألا تتزوج؟ قال: أتزوج امرأة تموت؟ قيل له: ألا تبني؟ قال: إنني على طريق السبيل (¬4). وروى البيهقي في "الشعب" عن ميسرة قال: ما بنى عيسى عليه السلام بيتاً. فقيل له: ألا تبني؟ ¬
- ومما وصفت العرب به الحمام: الحزن
قال: لا أترك من الدنيا شيئاً أُذكر به (¬1). - ومما وصفت العرب به الحمام: الحزن، وتزعم أن هديلها وهو صوتها كالهدير -بالراء - لفقد هديلها. والهديل: الذكر من الحمام. قال في "الصحاح": والهديل: فرخ كان على عهد نوح عليه السلام، فصاده جارح من جوارح الطير؛ قالوا: فليس من حمامةٍ إلا وتبكي عليه (¬2). قال الشاعر: [من الوافر] وما مَنْ تَهْتِفِينَ بِهِ لِنَصْرٍ ... بِأَسْرَعَ جابة لَكِ مِنْ هَدِيلِ وحكى في "القاموس" قولاً آخر: أن الهديل مات عطشاً (¬3). والحزن إما لفقد محبوب كالولد وغيره، وهو جبلة في الإنسان لا يُلام عليه إلا أنه ينبغي له التصبر بقدر إمكانه، فأما التحزن وتكلف الحزن بالندب ونحوه فذلك مذمومٌ مكروه. وروى أبو عبيد القاسم بن سلام، وابن سعد في "طبقاته"، وابن أبي شيبة، وابن المنذر عن يونس قال: لما مات سعيد بن الحسن ¬
-يعني: البصري- حزن عليه الحسن حزناً شديداً، فكلم الحسن في ذلك، فقال: ما سمعت الله عاب على يعقوب الحزن (¬1). وروى ابن جرير عن الحسن مرسلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ: ما بلغ وَجْدُ يعقوبَ على ابنه؟ قال: "وَجْدَ سَبْعِيْنَ ثَكْلَىْ". قيل: فما لَه من الأجر؟ قال: "أَجْرُ مِئَةِ شَهِيْدٍ، وَمَا سَاءَ ظَنُّهُ بِاللهِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نهارٍ" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في "الحزن" عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، عن خاله هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليس له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة (¬3). وروى هو والطبراني في "الكبير"، والحاكم وصححه، عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه، والديلمي عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِيْنٍ" (¬4). ¬
وهو شامل للحزن على فقد المحبوب، والحزن على ما فات من العمر ضائعاً في غير طاعة الله تعالى، والحزن من الذنوب، والحزن خوفاً من الوقوع في الذنب، وخوفاً من المكر، وخوفاً من العذاب، وعقبى هذه الأحزان جميلة وفيها كفارة. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: إنَّ العبد ليذنب الذنب، فإذا رآه الله قد أحزنه ذلك غفر له من غير أن يُحدث صلاة ولا صدقة. رواه ابن أبي الدنيا (¬1). وقال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! كيف الصلاح بعد هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألسْتَ تَمْرَضُ؟ ألسْتَ تَحْزَنُ؟ ألسْتَ تنصَبُ؟ ألَسْتَ تُصِيبُكَ اللأوَاءُ؟ فَذَلِكَ الَّذِيْ تُجْزَوْنَ بِهِ". رواه الإمام أحمد، وهنَّاد بن السَّرِي، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن السني، والحكيم الترمذي، وأبو يعلى، وابن حبان في "صحيحه"، وابن جرير، وابن المنذر (¬2). وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ¬
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوْبُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُكَفِّرُهَا ابْتَلاهُ اللهُ بِالْحُزْنِ فَيُكَفِّرَهَا" (¬1). وقال عبد الرحمن بن السائب: قدم علينا سعد بن مالك رضي الله تعالى عنه بعدما كفَّ بصره، فأتيته مسلماً، فانتسبني فانتسبت له، فقال: مرحباً يا ابن أخي، بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن، وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نزَلَ بِحُزْنٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوْهُ فَابْكُوْا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوْا فَتَبَاكَوْا" (¬2). وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون (¬3). وقال أيضاً: ينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً، حكيماً حليمًا، سكيناً ليناً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون خائناً ولا غافلاً، ولا سَخَّاباً ولا صَيَّاحاً (¬4). وقال الأسود بن شيبان: كان عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه رجلاً طويل الحزن والكآبة، وكان عامة كلامه: عائذ ¬
بالرحمن من فتنه (¬1). وقال النضر بن عربي: دخلت على عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وكان لا يكاد يتكئ، إنما هو منقبض أبداً كأنَّ عليه حزن الخلق (¬2). وقال شميط بن عجلان رحمه الله تعالى: كل يوم ينقص من عمرك وأنت لا تحزن! وكل يوم تستوفي رزقك وأنت لا تحزن (¬3)! وقال عمر بن بكير شيخ ابن أبي الدُّنيا: عن شيخ من قريش: كان إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام لا يرفع طرفه إلى السماء إلا اختلاساً، ويقول: اللهم نَعِّمْ عيشي بطول الحزن فيها (¬4). وقال صالح بن شعيب رحمه الله تعالى: أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم عليهما السلام: أكحل عينيك بطول الحزن إذا ضحك البطَّالون (¬5). وقال مكحول الله تعالى: أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام أن اغسل قلبك. ¬
قال: يا رب! بأي شيءٍ أغسله؟ قال: بالغم والهم (¬1). وقال عبد الله بن شَوذَب رحمه النه تعالى: قال داود النبي عليه السلام: يا رب! أين ألقاك؟ قال: تلقاني عند المنكسرة قلوبهم (¬2). وقال سفيان: كان الحسن رحمه الله تعالى يقول: أفضل العبادة طول الحزن (¬3). وقال عبد الله بن مرزوق: قلت لعبد العزيز بن أبي رواد: ما أفضل العبادة؟ قال: طول الحزن في الليل والنهار (¬4). وقال عطاء رحمه الله تعالى: لا يتمُّ للمؤمن فرح يوم (¬5). وقال الحسن بن عميرة: اشترى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى جارية أعجمية، فقالت: أرى الناس فرحين، ولا أرى هذا يفرح. فقال: ما تقول لُكَع؟ ¬
فقيل له: إنها تقول كذا وكذا. فقال: ويحها! حدثوها أن الفرح أمامها؛ يعني: يوم القيامة (¬1). وقال يونس: قال الحسن: إن المؤمن والله ما يصبح إلا حزيناً، ولا يُمسي إلا حزيناً. قال: وكان الحسن قل ما تلقاه إلا وكأنه قد أصيب بمصيبة حديثاً (¬2). وقال الحجاج بن دينار: كان الحكم بن حجل صديقاً لمحمد بن سيرين، فلما مات محمد حزن عليه حتى جعل يعاد كما يعاد المريض، قال: فحدث بعده، قال: رأيت أخي محمداً -يعني: ابن سيرين- في المنام، فقلت: أي أخي! قد أراك في حال تسرني، فما فعل الحسن؟ قال: رفع فوقي بسبعين درجة. قلت: ولم ذاك وقد كنا نرى أنك أفضل منه؟ قال: ذاك بطول حزنه (¬3). وقال يزيد بن مذعور: رأيت الأوزاعي في منامي، فقلت: يا أبا عمرو! دُلَّني على أمر أتقرب به إلى الله عز وجل. ¬
- ومن أوصاف الحمام: الصبر على المصيبة وعدم الجزع
قال: ما رأيتُ هناك درجة أرفع من العلماء، ومن بعدها درجة المحزونين (¬1). روى هذه الآثار ابن أبي الدُّنيا في "الحزن". - ومن أوصاف الحمام: الصبر على المصيبة وعدم الجزع؛ فإن الحمامة إذا ذُبحت فراخها لم تنفر من وكرها، ولم تَطِرْ منه، بل تبقى على ألفة أهلها وملازمتهم. قرأت من خط البرهان بن جماعة في "تذكرته": قال عيسى عليه السلام: يا بني إسرائيل! تكون في بيوتكم الحمام تفرخ وتذبحون فراخها، فلا تنفر عنكم لما أسلفتم من العلف والماء والإحسان، يأخذ الله بعض أولادكم فتسخطون عليه، وتفرون منه؟ فبئس المثل لكم! انتهى. فلا ينبغي للمؤمن أن يكون أعجز من الحمام في الصبر وعدم الجزع، بل يصبر إذا أُصيب بولده ونحوه، ويسترجع ويحمد الله على كل حال. نعم، جرت عادة الأدباء بنسبة الشَّجن والحزن والنوح إلى الحمام، ولعل الأصل في ذلك ما ذكره الأستاذ أبو القاسم القشيري في "التحبير": أن يوسف عليه السلام كان له زوج حمام، فلما فارق ¬
يوسف يعقوب عليهما السلام، فكلما أراد يعقوب أن يتبسم أو يخاطب أحداً أو يتكلم، جاء الحمام ووقع بحذائه، فذكره عهد يوسف بهديره، فكان يُنَغص عيشه. فلا يبعد أن يكون هذا أصلاً فيما اعتاده أهل الأدب من نسبة الأحزان والأشجان للحمام. كما قال نصيب: [من الطويل] لَقَدْ هَتَفَتْ فِي جُنْحِ لَيْلٍ حَمامَةٌ ... عَلى فَنَنٍ وَهناً وَإِنِّي لَنائِمُ وَأَزْعُمُ أَنِّي هائِمٌ ذُو صَبابةٍ ... بِلَيْلَى وَلا أَبْكِي وَتَبْكِي البَهائِمُ كَذَبْتُ وَبَيْتِ اللهِ لَوْ كُنْتُ عاشِقاً ... لَما سَبَقَتْنِي بِالبُكاءِ الْحَمائِمُ وقال عدي بن الرقاع العاملي: [من الطويل] وَهَيَّجَ وَجْدِيَ بَعْدَ ما كُنْتُ نائِماً ... هَتُوفُ الضُّحَى مَشْغوفةٌ بِالتَّرَنُّمِ بَكَتْ ساقَ حُرِّ قَدْ نَأى، فَتَبادرَتْ ... إِلَيْها دُمُوعُ العَيْنِ مِنْ كُلِّ مُنْتَمِي
وَلَوْ قبلَ مَبْكاها بَكَيْتُ صَبابةً ... بِسُعْدَى شَفَيْتُ العَيْنَ قَبْلَ التَّنَدُّمِ وَلَكِنْ بَكَتْ قَبْلي فَهَيَّجَ لِيَ البُكا ... بُكاها، فَقُلْتُ: الفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ وقال مجنون ليلى، أو غيره: [من الطويل] وَلَوْ لَمْ يَرُعْنِي الرَّائِحُونَ لَهاجَنِي ... حَمائِمُ ورْقٌ فِي الدِّيارِ وقوعُ تَداعَيْنَ شَتَّى مِنْ ثَلاثٍ وَأَرْبعٍ ... وَواحِدَةٍ حَتَّى أسين جميعُ تَجاوَبْنَ فَاسْتَبْكَيْنَ مَنْ كانَ ذا هَوى ... نَوائحُ لا تَجْرِي لَهُنَّ دُموع (¬1) وقال حميد بن ثور: [من الطويل] وما هاجَ هَذا الشَّوْقَ إِلا حَمامةٌ ... رَقتْ ساقَ حُرٍّ تَرْحَةً وَتَرَنُّما عَجِبْتُ لَها أَنَّى يَكُونُ غِناؤُها ... فَصِيحاً وَلَمْ تَفْغَرْ بِمَنْطِقها فَما ¬
وَلَمْ أَرَ مَحْزُوناً لَهُ مِثْلُ صَوْتها ... وَلا عَرَبِيًّا شاقَهُ صَوْتٌ أُعْجِما (¬1) وقال توبة: [من الطويل] حَمامةَ بَطْنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّحِي ... سَقاكِ مِن الغُرِّ الغَوادِي مَطيرُها أَبِيْنِي لَنا لا زالَ بَيْتُكِ ناعِماً ... وَلا زِلْتِ فِي خَضْراءَ غَضٍّ نَضِيرُها وأنشد أبو عمرو الشيباني المجنون: [من الطويل] دَعاكِ الْهَوى وَالشَّوْقُ لَمَّا تَرَنَّمَتْ ... هَتُوفُ الضُّحى بَيْنَ الغُصونِ طَروبُ تجاوِب وُرْقاً قَدْ أَرعنَ لِصَوْتِها ... فَكُلٌّ لِكُلٍّ مُسْعِدٍ وَمُجِيبٌ أَلا يا حَمامَ الأَيْكِ ما لَكَ باكِياً ... أَفارَقْتَ إِلْفاً أَمْ جَفاكَ حَبِيبُ (¬2) ¬
وقال جهم بن خلف: [من المتقارب] وَقَدْ شاقَنِي نَوْحُ قُمْرِيَّةٍ ... طَروبِ العَشِيِّ هَتُوفِ الضُّحَى مِنَ الورْقِ هَتَافَةٌ باكَرَتْ ... عَشِيَّةَ يَومٍ بِذاتِ الغضا فَغَنَّتْ عَلَيْهِ بِلَحْنٍ لَها ... يُهَيِّجُ لِلصَّبِّ ما قَدْ مَضَى مُطَوَّقَةٌ كَسَبَتْ زِينةً ... بِدَعْوَةِ نُوْحٍ لَها إِذْ دَعا فَلَمْ أَرَ ناطِقةً مِثْلَها ... تَبْكِي وَدَمْعَتُها لا تُرى أَطافَتْ بِفَرْخٍ لَها هالِكٍ ... وَقَدْ عَلِقَتْهُ حِبالُ الرَّدَى فَلَمَّا بَدا اليأسُ مِنْهُ بَكَتْ ... وَماذا يَرُدُّ عَلَيْها البُكا (¬1) وقال اليافعي: سُئِلَ الشيخ الكبير العارف بالله أبو بكر الشبلي: ما بال الرجل يسمع الشيء وربما لا يفهم معناه، ويتواجد عليه؟ فأنشأ يقول: [من الرمل] رُبَّ وَرْقاءَ هَتُوفٍ فِي الضُّحَى ... ذاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ فِي فَنَنِ ذَكَرَتْ إِلْفاً وَدَهْراً صالِحاً ... فَبَكَتْ حُزْناً وَهاجَتْ حَزَنِي فَبُكائِي رُبَّما أَرَّقَها ... وَبُكاها رُبَّما أَرَّقَنِي وَلَقَدْ تَشْكُو فَما أَفْهَمُها ... وَلَقَدْ أَشْكُو فَما تَفْهَمُنِي ¬
فَتَرانِي بِالْجَوى أَعْرِفُها ... وَهِيَ أَيْضاً بِالْجَوى تَعْرِفُنِي (¬1) وقال حجة الإسلام في "الإحياء": رُوِيَ أنه كان أبو الحسين النوري في دعوة، فجرت بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت، ثم رفع رأسه، فأنشدهم: رُبَّ وَرْقاءَ هَتُوفٍ فِي الضُّحَى ... إلى آخر الأبيات قال: فما بقي في القوم أحد إلا قام وتواجد، ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم الذي خاضوا فيه وإن كان العلم جداً وحقاً (¬2). وقال الشيخ العارف بالله المحيوي بن العربي رحمه الله تعالى: [من الكامل] ناحَتْ مُطَوَّقَة فَحَنَّ حَزِينُ ... وَشَجاهُ تَرْجِيعٌ لَها وَحَنِينُ جَرَتِ العُيُونُ مِنَ العُيُونِ تَفَجُّعاً ... لِحَنِينِها فَكَأَنهنَّ عُيونُ طارَحْتُها ثَكْلَى لِفَقْدِ وَحِيدِها ... وَالثُّكْلُ مِنْ فَقْدِ الوَحِيدِ يَكُونُ طارَحْتُها وَالوَجْدُ يَمْشِي بَيْنَنا ... ما إِنْ تُبِينُ، وَإِنَّنَي لأُبِينُ وقال الشيخ العارف بالله أبو الحجاج الأقصرائي - كما قرأت من خط العارف بالله الحافظ صلاح الدين العلائي الأقصرائي -: كان الشيخ أبو الحسن الصباغ رضي الله تعالى عنه سائراً في بعض الأيام وقت الضحى بين بساتين قُوص، فرأى حمامة على شجرة تغرد بصوتٍ شج، فوقف ¬
يسمعها، ثم تواجد واستغرق في وجده، وأنشد: [من المتقارب] حَمامَ الأَراكِ أَلا فَاخْبِرِينا ... بِمَنْ تَهْتِفِينَ، وَمَنْ تَنْدُبِينا فَقَدْ شِقْتِ بِالنَّوْحِ مِنَّا القُلُوبَ ... وَأَرْدَفْتِ وَيْحَكِ ماءً مَعِينا تَعالَي نُقِمْ مَأْتَماً لِلْفِراقِ ... وَنندُبَ أَحْبابَنا الظَّاعِنِينا وَأَسْعَدُ بِالنَّوْحِ كَيْ تُسْعِدِينا ... كَذاكَ الْحَزِينُ يُواسِي الْحَزِينا قال: ثم بكى رحمه الله تعالى طويلاً، وأنشد: [من الطويل] أَيَبْكِي حَمامُ الأَيْكِ مِنْ فَقْدِ إِلْفِهِ ... وَأَصْبِرُ عَنْهُ كَيْفَ ذاكَ يَكُونُ وَلِمْ لا أُبَكي، ثُمَّ أندُبُ ما مَضَى ... وَذاكَ الْهَوى بَيْنَ الضلُوعِ دَفِينُ وَإِنْ كانَ قَلْبِي قَبْلَ ذلكَ قاسِياً ... فَإِنْ دامَتِ البَلْوَى بِهِ سَيَبِينُ أَلا هَلْ عَلى الشَّوْقِ المُبَرِّحِ ... وَهَلْ لِي عَلى الوَجْدِ الشَّدِيدِ مُعِينُ سَلامٌ عَلى قَلْب تَعَرَّضَ بِالْهَوى ... سَلامٌ عَلَيْهِ أَحْرَقَتْهُ شُجُونُ وَعَذَّبَهُ هَمٌّ يُهَيِّجُ حُزْنَهُ ... فَلِلْهَمِّ وَالأَحْزانِ فِيهِ فُنونُ ثم خرَّ مغشيًّا عليه، فلمَّا أفاق أنشد: [من الخفيف] غَنِّنِي فِي الفِراقِ صَوْتاً حَزِيناً ... إِنَّ بَيْنَ الضُّلُوعِ شَوْقاً دَفِيناً ثُمَّ جُدْ لِي بِدَمْعِ عَيْنَيْكَ بِاللـ ... ــــهِ وَكُنْ لِي عَلى البُكاءِ مُعِينا فَسَأَبْكِي الدِّماءَ فَضْلاً عَنِ الدَّمْـ ... ـــعِ، وَمِثْلُ الفِراقِ أَبْكَى العُيونا فَكُلُّ أَمْرِ الدُّنا حَقِيرٌ يَسِيرٌ ... غَيْرَ فَقْدِ القَرِينِ فِيها القَرِينا
قال: فجرى الدمع من مُقلتيه، وسقطت الحمامة إلى الأرض بين يديه، وجعلت تُصَفق بجناحيها حتى ماتت، فانشد رحمه الله تعالى: [من الطويل] وَرَدْنا عَلى أَنَّ الْهَوى مَشْربٌ عَذْبُ ... وَحَطَّ بِهِ لِلسَّيْرِ أَشْواقَهُ الرَّكْبُ فَلَمَّا وَرَدْنا ماءَهُ أَلهَبَ الظَّما ... فَيا مَنْ رَأى ظَمْآنَ أَلْهَبَهُ الشُّرْبُ أَكَبَّ الْهَوى يُذْكِي عَلَيَّ زِنادَهُ ... أَيا قادِحاً أَمْسِكْ فَقَدْ عَلِقَ الْحِبُّ وَلَوْ أَنَّنِي أَخْلَيْتُ قَلْبِي لِغَيْرِكُمْ ... مِنَ النَّاسِ مَحْبُوباً لَما وَسِعَ الْقَلْبُ تُرى تَسْمَحُ الأَيَّامُ مِنْكُمْ بِنَظْرَةٍ ... فَتُلْقَى عَنِ الأَيْدِي الرَّسائِلُ وَالكُتْبُ أُعاتِبُكُمْ لا عَنْ قِلَى وَمَلامَةٍ ... وَلَكِنْ إِذا صَحَّ الْهَوَى حَسُنَ الْعَتْبُ وذكر ابن خلكان في "وفيات الأعيان": أنَّ المسعودي حكى عن جماعة من أهل البصرة قالوا: خرجنا نريد الحج، فلمَّا كان ببعض الطريق إذا غلام واقف على المحجة وهو ينادي: يا أيها الناس! هل
فيكم أحدٌ من أهل البصرة؟ قال: فعَدَيْنا إليه، وقلنا له: ما تريد؟ قال: إنَّ مولانا لما به يريد أن يوصيكم، فملنا إليه، فإذا بشخصٍ مُلقى على بُعدٍ من الطريق تحت شجرة لا يحير جواباً، فجلسنا حوله، فأحس بنا، فرفع طرفه وهو لا يكاد يرفعه ضعفاً، وأنشأ يقول: [من المنسرح] يا غَرِيبَ الدَّارِ عَنْ وَطَنِهْ ... مُفْرَداً يَبْكِي عَلى شَجَنِهْ كُلَّما جَدَّ البُكاءُ بِهِ ... دَبَّتِ الأَسْقامُ فِي بَدَنِهْ ثم أُغميَ عليه طويلاً ونحن جلوسٌ من حوله إذ أقبل طائرٌ، فوقع أصل شجرة، وجعل يُغرد، ففتح عينيه، وجعل يسمع تغريد الطائر، ثم أنشأ يقول: [من المنسرح] وَلَقَدْ زادَ الفُؤادَ جَوًى ... طَائرٌ يَبْكِي عَلى فَنَنِهْ شفَّهُ ما شفني، فَبَكى ... كُلُّنا يَبْكِي عَلى سَكَنِهْ قال: ثم تنفس تنفساً فاضت نفسه منه، فلم نبرح من عنده حتى فرغنا من دفنه، فسألنا الغلام عنه، فقال: هذا العباس بن الأحنف رحمه الله تعالى (¬1). والتشبه بالحمام في البكاء والنوح يحسن من الإنسان إذا كان من ¬
التفريط في العمر في غير طاعة الله تعالى، ومن التقصير في طلب مرضاة الله تعالى والعمل بمقتضى حب الله تعالى المشروط في صحة الإيمان؛ كما حُكي أن أبا بكر الشبلي مرَّ في المقابر على امرأة تنوح وتقول: ويلاه من فقد الولد! فقال الشبلي: ويلاه من فقد الأحد! وكذلك البكاء من خشية الله تعالى؛ ومنه البكاء عند قراءة القرآن من القارئ والمستمع كما وصف الله تعالى الذين أنعم الله عليهم من النبيين بقوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]. والعلماءَ بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]. قال عبد الأعلى التميمي رحمه الله تعالى: إن من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه؛ لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء: 109]. رواه ابن أبي شيبة، والمفسرون (¬1). وروى الترمذي وحسنه، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ؛ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ ¬
اللهِ، وَعَيْنْ باتَتْ تَحْرسُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ" (¬1). وفي الباب أحاديث صحيحة كثيرة. وقال شهر بن حوشب رحمه الله تعالى: كان داود عليه السلام يسمَّى: النَّواح (¬2). وقال وهب بن منبه رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] قال: نوحي معه، والطير تساعدك على ذلك، وكان داود إذا نادى بالنياحة أجابت الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه، قال: فصدى الجبال الذي يسمع الناس من ذلك (¬3). وقال زيد بن أسلم رحمه الله تعالى: كان داود عليه السلام إذا رفع صوته بقراءة الزبور تركت الطير أوكارها، وعكفت عليه حول محرابه، حتى يفْرُغَ من قراءته، وكان يبكي حتى تجريَ دموعُه على الأرض، وكان إذا أتي بالشراب بكى حتى يمتزج شرابه بدموعه. وقال الأوزاعي: بلغني أن داود عليه السلام كان إذا رفع صوته عكفت الوحوش والسباع حول محرابه، يموت بعضها هزلاً قبل أن تفارقه. ¬
وقال وهب: كان داود عليه السلام إذا رفع صوته بالزبور لم يسمعه شيء إلا حَجَل؛ أي: رقص. رواه ابن أبي الدنيا في "البكاء" (¬1). وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" وابن أبي الدنيا عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله، ورواه الترمذي وحسنه، وغيره من حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله! ما النجاة قال: "أمسِكْ عليكَ لسانَك"، وفي لفظ: "أملِكْ عليكَ لِسَانَكَ، وليسَعْكَ بيتُكَ، وابْكِ على خطيئتكَ" (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط" و"الصغير" -وحسن إسناده- عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طُوبى لِمَنْ مَلَكَ لسانَه، ووسِعَهُ بيتُه، وبَكَى على خطيئه" (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في "البكاء" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: لو ملكت البكاء لبكيت أيامَ الدنيا، ولولا أن يقول الناس مجنون، لوضعت التراب على رأسي، ثم نُحْتُ على نفسي في الطرق ¬
- ومن أنواع الحمام: القمرية
والأحياء حتى تأتيني منيَّتي (¬1). وقال أبو العتاهية: [من مجزوء الرمل] أحسَنَ الله بنا ... أنَّ الخطايا لا تفُوحُ فإذا المستور منَّا ... بين ثوبيه فَضُوح نُحْ على نفسك يا ... مسكينُ إن كنتَ تَنُوح لتموتنَّ ولو ... عُمِّرتَ ما عُمِّرَ نُوْحُ - ومن أنواع الحمام: القمرية، ومن أخلاقها الوفاء وهو مندوب إليه الإنسان. قرأت من خط البرهان بن جماعة ما نصه: يقال: إنه ليس في الدنيا أو فى من القمرية، فإذا مات ذكرها لم تقرب ذكراً آخر بعده، ولا تزال تنوح عليه حتى تبلى حزناً. وفي "حياة الحيوان" وغيره، عن ابن أبي عبد الله التميمي أنه قال: ليس في جميع الطيور أو فى من القمري والقمرية، وذلك أنه إذا مات أحد الزوجين تعزَّب الآخر بعده، ولا يستأنس إلى غيره، ولا يأنس رفيقاً ولا سكناً، ولا يزال باكياً فرداً إلى أن يموت، وفي المثل: الوفاء من الله بمكان، أورده الزمخشري. وقال الشاعر: [من الطويل] ¬
- ومن ذلك العصفور
فَما حَمَلَتْ مِنْ ناقَةٍ فَوْقَ رَحْلِها ... أَحَقَّ وَأَوْفَى ذِمَّة مِنْ مُحَمَّد وقال الغزالي في "الإحياء" في حقوق الصحبة والأخوة: ومعنى الوفاء الثبات على الحب، وإدامته إلى الموت معه؛ أي: مع الأخ أو الخليل، وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه؛ فإن الحب إنما يُراد للآخرة، فإن انقطع بعد الموت حبط العمل وضاع السَّعي (¬1). وروى الحاكم -وصححه على شرط الشيخين، قال العراقي: وليس له علة (¬2) - عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكرم عجوزاً دخلت عليه، فقيل له في ذلك، فقال: "إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِيْنَا أَيَّامَ خَدِيْجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الإِيْمَانِ" (¬3). - ومن ذلك العصفور: من أوصافه ما ذكره الدميري، والسيوطي أنه ليس في الأرض طائر سبع ولا بهيمة أحنى منه على ولده، وكذلك فهو حنو على أنثاه. روى البيهقي، وابن عساكر عن أبي مالك قال: مرَّ سليمان عليه السلام بعصفور يدور حول عصفورة، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ ¬
قالوا: وما يقول يا نبي الله؟ قال: يخطبها إلى نفسها، ويقول: تزوجيني أُسكنك أيَّ قصور دمشق شئت؟ قال سليمان: وغرف دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها، ولكن كل خاطب كذاب (¬1). قلت: هذا يدل أن أبنية دمشق كانت في ذلك الزمان كلها أو أكثرها قبابًا معقودة من الصخر، ثم هي كانت تبني أبنيتها من الطين والأخشاب بُرْهة من الزمان، حتى اعتاد أهل دولتها الآن وهم أجناد الروم عقدها بالصَّخر والآجر، وآثروا ذلك على بنائها بالطين والخشب كأنهم استطالوا أعمارهم ومدة بقاء الدنيا، سبحان الله! هكذا يلقى الآمال على الناس كلما قربَتْ أيامهم من الساعة وهم يرون غيرهم يبنون ويعلون، ثم يموتون ويخلون، وهكذا يفعلون. ثم التشبه بالعصفور بالحنو على الأهل والولد مطلوب. روى ابن عساكر رضي الله تعالى عنه [عن أنس - رضي الله عنه -] قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرحم الناس بالصبيان والعيال (¬2). وروى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى ¬
- ومن طباع العصافير
عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَىْ وَلَدٍ فِيْ صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَىْ زَوْج فِيْ ذَاتِ يَدهِ" (¬1) وحقيقة الحنو: العطف والشفقة؛ يُقال: حَنَت عليه، وأحنت؛ أي: عطفت. قال في "الصحاح": وفلان أحنى الناس ضلوعاً عليك؛ أي: أشفقهم (¬2). وفي "الصحاح" أيضا يقول: أرعيت عليه إذا أبقيت عليه ورحمته (¬3)، فهي أرعاه على زوج ذات يد؛ أي: أحفظ لماله، وأبقى عليه، وهو في النساء قليل، لا تكاد امرأة تشفق ولا تبقى على بعلها، فإن فعلت كانت من خير النساء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن وجه خيرية نساء العرب، وهنَّ اللاتي يركبن الإبل أنه كونهن أحنى على الأولاد، وأرعى وأبقى على الأزواج. - ومن طباع العصافير: ما ذكره الدميري، والسيوطي: أنه إذا خَلَتْ مدينة من أهلها ذهبت العصافير منها، وإذا عادوا عادت، فهي على ضدٍّ من حال البوم ونحوه. والتشبه بالعصافير في ذلك بأن يؤثر سكنى المدن مع الناس على ¬
- ومن صفات العصافير: القناعة بقوت يوم، وذكر الله تعالى.
الانفراد في الكهوف والغيران، ولا يمنعه ذلك من العزلة عن الناس إذا كانت أنفع له؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ" (¬1)، ولم يرشد إلى ترك البيوت، ففي سُكنى المدن الحصول على الجمعة، والجماعة، والتعلم والتعليم. وقد قالوا: اسكن المدن ولو جارت، واتبع الطرق ولو دارت، وانكح البكر ولو بارت. وقالوا: لا تصلح السُّكنى إلا في مدينة فيها سلطان حاكم، وفقيه عالم، وطبيب حاذق، وسوق قائمة. - ومن صفات العصافير: القناعة بقوت يوم، وذكر الله تعالى. روى أبو نعيم عن أبي حمزة الثمالي قال: كنت عند علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما وإذا عصافير يَطُفْنَ حوله ويَصْرُخن، فقال: يا أبا حمزة! هل تدري ما تقول هذه العصافير؟ قلت: لا. قال: إنها تذكر ربها، وتسأل قوت يومها (¬2). وروى أبو الشيخ في "العظمة" عن أبي جعفر قال: تدرون ما تقول العصافير قبل طلوع الفجر؟ قالوا: لا. ¬
قال: تُسبح ربها، وتطلب قوت يومها (¬1). وكذلك ينبغي للإنسان أن يتشبه بالعصفور ونحوه في القناعة بالبُلْغة، والاجتزاء بقوت يوم. روى الطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْقَنَاعَةُ مَالٌ لا يَنْفَدُ، وَكَنْزٌ لا يَفْنَى" (¬2). وأخرجه العسكري في "الأمثال"، والقضاعي مقتصرين على الجملة الأولى (¬3). وروى البخاري في "الأدب المفرد"، والترمذي وحسنه، وابن ماجه عن عبيد الله بن محصن رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِيْ سِرْبِهِ، مُعَافَى فِيْ جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوْتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيْزَتْ لَهُ الدُّنْيَا" (¬4). وأنشدوا: [من الهَزَج] إِذا القُوتُ تَأتَّى لـ ... ـــــــــكَ وَالصِّحَّةُ وَالأَمْنُ وَأَصْبَحْتَ أَخا حُزْنٍ ... فَلا فارَقَكَ الْحُزْنُ (¬5) ¬
- ومن طباع العصفور: سرعة الحركة والتقلب.
- ومن طباع العصفور: سرعة الحركة والتقلب. روى الحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب" عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ قَلْبَ ابْنِ آدَمَ مِثْلُ الْعُصْفُوْرِ، يَتَقَلَّبُ فِيْ الْيَوْمِ سَبع مَرَّاتٍ" (¬1). والمراد: يتقلب في كل ساعة، وهي تبين ما أشرت إليه، وحيث كان قلب ابن آدم كالعصفور في التقلب، فينبغي أن يكون تقلبه مع الحق يدور معه كيف دار. كما قال بعض العارفين: المنافق يدوم على عمل يستحسن منه، والمؤمن يكون في كل عمل يخلص فيه، وكل عمل بعد تأدية فرض الوقت يصلح فيه قلبه مع الله تعالى أقبل عليه. - ومن لطائف العصفور: ما رواه أبو الشيخ في "العظمة" عن عمرو بن قيس المُلائي رحمه الله تعالى قال: مرَّ سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام بعصفور وهو يَسْفِد أنثاه، وهو يصيح ذلك الصياح؛ قال: أتدرون ما يقول هذا العصفور لأنثاه؟ قالوا: لا يا نبي الله. قال: يقول: تابعيني على ما أريد، فوالله ما أريد تلذذاً، وما أريد إلا أن يخلق الله تعالى بيننا خلقاً يُسبحه (¬2). ¬
وقال الشيرازي في "الألقاب": حدثنا الفضل العطار، ثنا أبو جعفر الخالدي، ثنا الجنيد، ثنا السري السقطي، ثنا معروف الكرخي قال: سمعت جعفر الصَّادق - رضي الله عنهم - يقول: كان سليمان عليه الصلاة والسلام قاعداً على سرير ملكه وبين يديه عصفورتان تلعبان، فضحك، فقيل له: يا نبي الله! لماذا ضحكت من العصفورتين؟ قال: قال الذكر للأنثى: إني لا أُجامعك لحظِّ نفسي، بل أُجامعك ليكون بيننا ولد يُسبح الله ويذكره. ثم حلف وقال: والذي رفع السماء وبسط الأرض! إني لا أريد أن تلدي ولداً لا يُسبحه ولي ملكُ فرعون، دان ولدت ولدًا يُسبحه كان أحبَّ إليَّ من ملك سليمان الذي هو قاعدٌ هنا. فلا ينبغي أن يكون العصفور أكْيَسَ من العبد المؤمن، فيأتي أهله غافلاً عن ذكر ربه ولا بغير نية صالحة، بل لمجرد قضاء الوطر، بل ينوي بالجماع حصولَ ولد يطيع الله، ويكاثر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة؛ فإنه يُكاثر الأمم يومئذٍ بأمته، كما رويناه: أن عمر - رضي الله عنه - كان يقول: والله إني لآتي أهلي وما بي حاجةٌ إلى النكاح إلا ليولد لي من يُكاثر به النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة (¬1). وقد تقدم أن سليمان عليه السلام قال للحراث الذي استعظم ملكه: لَتسبيحةٌ تُسبحها خيرٌ من ملك آل داود (¬2). ¬
- ومن لطائف العصفور
وقلت: [من السريع] لَوْ كانَ لِي مِنْ بَعْضِ مَوْجُودِي ... مُلْكُ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدِ لَمْ يُغْنِنِي عَنْ حُسْنِ ظَنِّي بِمَوْ ... لايَ وَلا عَنْ ذِكْرِ مَعْبُودِي فَإِنَّ كَنْزِي حُسْنُ ظَنِّي بِهِ ... أُكْفَى بِهِ عَنْ كُلِّ مَفْقُودِ وَذِكْرُهُ حِرْزِي وَمالِي وَلِي ... مِنْ شُرْبِهِ أَعْذَبُ مَوْرُودِ لِلّهِ تَسْبِيحِي وَتَحْمِيدِي ... لِلَّهِ تَكْبِيرِي وَتَوْحِيدِي وَالذِّكْرُ بابُ اللهِ مَنْ يَأْتِهِ ... فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَرْدُودِ - ومن لطائف العصفور: ما رواه أبو الشيخ في "العظمة" عن معقل قال: بنى سليمان عليه السلام قبة أربعين في أربعين، وقعد فيها مع أصحابه وأظلته الطير، فراود عصفور عصفورة فقالت: أما تستحي تراودني وسليمان يسمعنا؟ فقال: لي تقولين ذاك؟ ولو أمرتني أن أقتلع القبة من أسفلها لاقتلعتها. فسمع سليمان عليه السلام كلامهما، فدعا بهما، فقال: من القائل منكما كذا وكذا؟ قال: أنا. قال: وما حملك على ذلك؟ قال: إن المحبَّ لا يُلام.
فخلَّى سبيلهما (¬1). قلت: يُشير قوله: إن المحب لا يُلام إلى حالة شريفة تكلم عليها الصوفية وهي حال الغلبة، ويكون سببها إما فرط المحبة، وإما فرط الغضب. فأما الأول: فإنَّ المحبة تغلب على المحب حتى يتكلم بما لا يكون، ومن هنا جاء الحديث: "لا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إِلاَّ فِيْ ثَلاثٍ: الْحَرْبِ، وَالرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنَ، وَالرَّجُلِ يُكَلِّمُ زَوْجَتَهُ" (¬2). وقلت: [من المتقارب] إِذا وَثَبَ الْحُبُّ يَوْماً عَلى ... فُؤادِ الْمُتَيَّمِ حَتَّى غَلَبْ فَلا عَتبٌ عِنْد أَهْلِ الْهَوى ... عَلَيْهِ إِذا اخْتَلَّ شَرْطُ الأَدَبْ وأما الثاني: فإذا كان الغضب في حق الله تعالى وغلب على العبد حتى صار منه ما لا يحسن في غير تلك الحالة كما روي أن عمر رضي الله تعالى عنه أخذ لرداء النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أراد أن يُصلي على عبد الله ابن أُبي بن سلول، وقال له: يا رسول الله! لا تصلِّ على هذا المنافق، ونزلت الآية على وفق كلامه (¬3). ¬
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ «وهو كتابٌ فرِيدٌ فِي بَابهِ يشتَمل على بَيَان مَا يتشبَّهُ بهِ المسلمُ وَمَا لَا يتشبَّهُ بهِ» تَألِيف العَلَّامَةِ نَجْمِ الدِّينِ الغزِّيِّ محمَّدِ بْنِ محمَّدِ العَامِريِّ القُرَشِيِّ الغَزيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعيِّ المولُودِ بِدِمَشق سَنَة 977 هـ، وَالمتَوفَّى بِهَا سَنَة 1061 هـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى تَحقِيقَ وَدِرَاسَة لَجْنَة مختصَّة منَ المحققينَ بِإِشْرَافِ نُورِ الدِّين طَالِب المُجَلَّد الثَّاني عَشَر دَارُ النَّوادِرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُسْنُ التَّنَبُّهِ لمَا وَرَدَ فِي التَّشَبُّهِ (12)
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 7 - 84 - 418 - 9933 - 978: ISBN دَار النَّوادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤَسَّسَة دَار النَّوادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللِّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِرِ الكُوَيْتِيَّةِ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م - نُورُ الدِّين طَالِب - المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنْفِيذِي
تَابِع (8) بَابُ النَّهْي عَنِ التَّشَبُّهِ بِالبَهَائِمِ وَالسِّبَاعِ وَالطَّيْرِ وَالهَوَام
- ومن ذلك: الحمرة
تَابِع (8) بَابُ النَّهْي عَنِ التَّشَبُّهِ بِالبَهَائِمِ وَالسِّبَاعِ وَالطَّيْرِ وَالهَوَام - ومن ذلك: الحُمَّرة - بضم الحاء المهملة، وفتح الميم المشددة وقد تخفف -: وهي طائر كالعصفور. روى أبو داود الطيالسي، والحاكم وصححه، وأبو الشيخ في "العظمة" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فدخل رجل غيضة، فأَخرج منها بيض حُمَّرة - وفي رواية: أو فرخي حمرة - فجاءت الحمرة ترفُّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّكُمْ فَجعَ هَذه؟ ". فقال رجل: يا رسول الله! أنا أخذت بيضها، ولفظ الحاكم: فَرْخيها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُدَّهُ رُدَّهُ رَحْمَةً لَهَا" (¬1). قيل: كانوا محرمين، فأمر بردها لذلك، وإلا فهي حلال في الأشهر، كما قاله الرافعي. ¬
- ومن ذلك: الزرزور
وقيل: لمَّا استجارت به أَجَارها، وهذا أقرب، وهو مفهوم من رَفِّها على النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره، أو فهم هو - صلى الله عليه وسلم - ذلك بالوحي. والحديث داخل في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -. والتشبه بها في ذلك يكون بالتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو حسنٌ مقبول، وقد تقدم بيانه في التشبه بالأنبياء عليهم السلام. - ومن ذلك: الزرزور: طائر صغير كالعصفور، وهو نوع منه سمي بذلك لأنه يزرزر؛ أي: يصوت، ويقال له: الزرزر، كما في "القاموس" (¬1). وكأن صوته زجل بتسبيح الله تعالى وذكره، فينبغي للعبد أن لا يكون أعجز منه، ولا يزال لسانه رطباً بذكر الله تعالى، وقد شُبهت به الطير التي فيها أرواح المؤمنين لما ذكر. روى ابن أبي شيبة، والطبراني عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: أرواح المؤمنين في جوف طيرٍ أخضر كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة (¬2). وقلت في الحث على ذكر الله تعالى: [من السريع] ¬
- ومن ذلك: الصعو
زَرْزِرْ خَلِيلاً ثُمَّ زَرْزِرْ إِذا ... زُرْتَ بِذِكْرِ اللهِ كَالزَّرْزَرِ وَأْنَسْ بِذِكْرِ اللهِ فِي لَيْلِهِ ... وَلا تَكُنْ أَعْجَزَ مِنْ صُرْصُرِ والصرصر - كهُدهد، وفدفد - ويقال فيه: صرصر، وصرصار، وصرار الليل: هو الجدجد - بالضم - وهو طائر أكبر من الجندب، أكثر صياحه بالليل، والصرصر أشد الصوت، ومنه سمي. وأكثر صياحه بالليل يصوت إلى الصباح، فإذا طلبه الطالب لم يره، ولذلك قالوا في المثل: أكن من جدجد (¬1). - ومن ذلك: الصعو: وهو من صغار العصافير أحمر الرأس، والواحدة: صعوة؛ تقدم قول الأرجاني: [من الكامل] كَالصعوِ يَرْتَعُ فِي الرَّياضِ وَإِنَّما ... حُبِسَ الْهزارُ لأَنَّهُ يَتَرَنَّمُ والمعنى فيه: أن الصعو خامل متروك لا يلتفت إليه، فهو راتع لخموله في واسع الرياض، ويانع الغياض، وكذلك ينبغي للمؤمن في هذه الأزمنة أن يؤثر الخمول على الشهرة، والظهور متى استغنى. - ومن ذلك: الوصع صغير العصافير، من شأنه التضاؤل والتصاغر خصوصاً إذا رأى جوارح الطير. كذلك ينبغي للمؤمن التضاؤل في هذه الأعصار الشديدة، بل ينبغي له في كل زمان وحال أن يكون متواضعاً في نفسه متصاغراً، وبذلك يرفعه الله تعالى، ويُعظم قدره. ¬
وقد روى الإمام عبد الله بن المبارك عن ابن شهاب هو الزهريّ رحمه الله تعالى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته، فقال جبريل عليه السلام: إنك لن تطيق، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى في ليلة مقمرة، فأتاه جبريل عليه السلام في صورته، فغشيَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه، ثم أفاق وجبريل مسنده، وواضع إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سُبْحَانَ اللهِ! مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ شَيْئاً مِنَ الْخَلْقِ هَكذَا". فقال جبريل عليه السلام: فكيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام؛ إنَّ له لاثني عشر جناحاً، جناح منها في المشرق وجناح في المغرب، وإن العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل الأحيان لعظمة الله حتى يصير مثل الوصع حتى ما يحمل عرشه إلا عظمته (¬1). قال الجوهري: الوصع: طائر أصغر من العصفور، واستدل بالحديث (¬2). وقال صاحب "القاموس": الوَصْع، ويحرك: طائر أصغر من العصفور (¬3). ذكراه في مادة: (وص ع) بالصاد المهملة، وكذلك ضبطه ¬
- ومن ذلك: الفرفر
المحدثون، وضبطه في "حياة الحيوان" بالضاد المعجمة، وذكر الحديث، ولعله ظنه من الصفة. قلت: ولو قيل: إنه مقلوب الصعو لم يبعد. وقلت: [من الرجز] كُنْ خافِياً كَالوصعِ أَوْ كالصعوِ ... حَتَّى يَتِمَّ لَكَ وَصْفُ الصفوِ إِنَّ الظُّهورَ لِلظُّهور قاصِمٌ ... وَالْخامِلُ الْخافِي حَراً بِالعفْوِ - ومن ذلك: الفرفر - على أوزان هدهد، وزبرج، وعصفور -: وهو العصفور بعينه، أو نوع منه سمي بذلك لفرفرته؛ من: فرفرت الشيء: إذا حركته، وفرفر: تحرك لشدة حركته، وأكثر ما يكون العصفور فرفرةً إذا وقع في الشبك. فكذلك ينبغي للمؤمن إذا وقع في قنص الخطايا وشبك الذنوب أن يحزن لذلك، ويضطرب له، ويَضرع إلى الله بالتوبة. روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لنفس المؤمن أشد ارتكاضاً من الخطيئة من العصفور حين يغدف به (¬1)؛ أي: اضطراباً وفراراً. ويقال: أغدف بالصيد: إذا ألقى عليه الشبكة؛ قاله الزمخشري في "الفائق" (¬2). ¬
- ومن ذلك: البلبل
وفي "الصحاح" نحوه (¬1). وأغدف: بمعجمتين بينهما مهملة. وفي معناه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرّتْهُ حَسَنتهُ وَسَاءَتْهُ سيِّئتهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ". رواه الطبراني في "الكبير" من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - (¬2). - ومن ذلك: البلبل: وهو نوع من العصافير حسن الصوت والتغريد. قالت العرب: البلبل يعندل؛ أي: يصوت، وهو من الأمثال السائرة يُضرب لصاحب الفضيلة لا بد أن تظهر عليه، ولمن لا فضيلة له يدعيها فلا تظهر عليه شواهدها، فيفتضح ويظهر عليه؛ أي: لو كان بلبلاً لعندل. وقلت: [من الرجز] لا تَعْتَبِرْ مَنْ يدَّعي بَياناً ... حَتَّى تَرى شاهِدَهُ عياناً فَإِنْ يَكُنْ لَهُ بَيانٌ بانا ... يُعَنْدِلُ البُلْبُلُ حَيْثُ كانا وتقدم قول الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى: [من الكامل] ¬
أَنا بُلْبُلُ الأَفْراحِ أَمْلأُ دَوْحَها ... وَفِي العَلْياء بازٌ أَشْهبُ وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى: أن سليمان بن داود عليهما السلام مرَّ على بلبل على شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: أكلتُ نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء (¬1)؛ أي: الدروس وذهاب الأثر. وقيل: التراب. والمؤمن أولى بالقناعة بالكفاف، والقدوة في ذلك بسيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يقول: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمّدٍ كَفَافًا". وفي رواية "قُوتاً" كما تقدم (¬2). وذكر ابن عبد ربه في "العقد" أنه قيل لأبي نواس: قد أرسلوا وراء أبي عبيدة والأصمعي ليجمعوا بينهما. فقال: أما أبو عبيدة فإن خلوه وسفَره قرأ عليهم أساطير الأولين، وأما الأصمعي فبلبلٌ في قفص، يطربهم بصفيره (¬3). وكذلك ينبغي لمن له حفظ إذا جلس بين قوم أن يفيض عليهم ¬
- ومن ذلك: الهزار، والعندليب
من فوائده وعلومه إلا أن لا يكونوا من أهلها، فينبغي أن يمسك. - ومن ذلك: الهزار، والعندليب: وهما واحد، ويقال: عندليل، وجمعها عنادل. وذكر في "القاموس": أن الهزار معرب، فارسيته: هذار دستان (¬1). - ومن ذلك: الشحرور -كسحنون -: طائر أسود فوق العصفور يصوت أصواتاً، وهو والبلبل والهزار ألطف الطير أصواتًا، وأطيبها نغمة وتغريداً. قال الشيخ علاء الدين الباجي: [من الرجز] بِالبُلْبُلِ وَالْهَزارِ وَالشحْرُورِ ... يَسْبِي طَرباً قَلْبَ الشَّجِيْ الْمَهْجُورِ فَانْهَضْ عَجِلاً وَانْهَبْ مِنَ اللَّذَّةِ ما ... جاءَتْ كَرماً بِهِ يَدُ الْمَقْدُورِ (¬2) فينبغي التشبه بهذه الأطيار في حسن الصوت بالقرآن، وإملاء العلم من غير تصنع ولا تشقيق ولا تمطيط، ولا تغيير لألفاظ القرآن والذكر، ولا تغيير لأجل الألحان والأنغام، بل على طبعه الذي أوتيه من غير تصنع؛ فإن ألحان هذه السواجع كذلك. - ومن طباع هذه السواجع وكثير من الطير: ارتياحها في زمن الربيع، والإكثار فيه من التغريد والترجيع. ¬
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن إبراهيم الأرموي: [من البسيط] وافَى الرَّبِيعُ فَعادَ الرَّوْضُ مُبْتَسِماً ... وَطالَما انتُحَبَتْ فِيهِ سَحائِبُهُ وَالغُصْنُ مِنْ فَوْقِهِ الشُّحْرُورُ تَحْسِبُهُ ... يِتْلُو الزَّبورَ بِأَعْلى الدَّيْرِ راهِبُه وَشاطِئُ النَّهْرِ قَدْ دبَّتْ عَوارِضُهُ ... وَافْتَرَّ مَبْسَمُهُ وَاخْضَرَّ عارِضُه وَصَفَّقَ الدَّوْحُ لَمَّا أَنْ رَأى عجباً ... مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَدْ شابَتْ ذَوائِبُهُ وقال بعضهم في الهزار: [من الطويل] وَخَرساءَ إِلاَّ فِي الرَّبِيعِ فَإِنَّها ... نَظِيرَةُ قِسٍّ فِي العُصُورِ الذَّواهِبِ أتَتْ تَمْدَحُ النَّوَّارَ فَوْقَ غُصونِها ... كَما تَمْدَحُ العُشَّاقُ حُسْنَ الْحَبائِبِ تُبَدِّلُ ألْحاناً إِذا قِيلَ بَدِّلِي ... كَما بَدَّلَتْ ضَرْبًا أَكَفُّ الضَّوارِبِ
وقال: [من الكامل] ضَحِكَ الثَّرى فَبدا لَكَ اسْتِبْشارُهُ ... وَاخْضَرَّ عارِضُهُ وَطَرَّ عِذارُهُ وَدَنَتْ حَدائِقُهُ وَأَوْرَد نبتُه ... وَتَعَطَّرَتْ أَنْوارُهُ وَثمارُهُ وَاهْتَزَّ ذابِلُ كلِّ ما بِقَرارهِ ... لَمَّا أَتى مُتَطَلَّعا آذارُه وَتَعَمَّرَتْ صُلْعُ الرُّبَى بِنَباتِها ... وَتَرَنَّمَتْ مِنْ عُجْمَةٍ أَطْيارُهُ (¬1) وقلت: [من السريع] لِلَّهِ ما أَزْهى رِياضَ الرُّبَى ... لَمَّا كَساها النُّورَ زاهِي الرَّبيِعْ هَواؤُهُ حَرَّكَ حُكْمَ الْهَوى ... مِنْ كُلِّ قَلْبٍ مُسْتَهامٍ صَدِيعْ ¬
إِذْ غَرَّدَ الشَّحرُورُ وَالورْقُ فِي الـ ... . ــــــأَوْراقِ بِاللَّحْنِ العَجِيبِ البَدِيعْ وَصَفَّقَ النَّهْرُ لَها إِذْ شَدَتْ ... كَيْفَ تَرى ما صَنَعَتْ بِالسَّمِيعْ وَاسْتَرْقَصَ الغُصْنَ نَسِيمُ الصَّبا ... كَأَنَّهُ فِي الرَّوْضِ صَبٌّ خَلِيعْ ما شِئْتَ أَنْ تُبْصِرَ ما راعَ مِنْ ... شَيْءٍ تَرى فِي كُلِّ وادٍ وَرَيْعْ تُسْقَى بِماءٍ واحدٍ وَهْيَ فِي ... ألْوانِها شَتَّى بَراها البَدِيعْ يا مَنْ قَدِ ارْتاحَ لِما قَدْ رَأى ... وَاشْتَمَّ أَنْفاسَ عَبِيرِ الرَّبِيعْ لَوْلا تَذَكَّرْتَ بِهِ جَنَّةَ الـ ... ــــــــمَأْوَى الَّتِي قَدْ أُزْلِفَتْ لِلْمُطِيع وينبغي للمؤمن أن يكون في زمان الربيع أكثر طاعة لله منه في غيره؛ فإنه فصل تعتدل فيه الأبدان لاعتدال الأخلاط فيه. ومن الطاعات التي تكون أقرب إلى القابلية فيه التذكر والتفكر: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19].
ولذلك قال الأستاذ أبو الحسن بن سمعون رحمه الله تعالى: الربيع أرضه حرير، وأنفاسه عبير، وأوقاته كلها أوقات وعظ وتذكير، والذكر والفكر من أفضل العبادات. ولقد سمَّى الله تعالى الجامعين بينهما أولي الألباب في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 190، 191]. وروى ابن حيان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادةِ سِتِّيْنَ سَنَةٍ" (¬1). ورواه الديلمي من حديث أنس بلفظ: "ثَمَانِيْنَ سَنَةٍ" (¬2). فإذا خرجْتَ أيام الربيع إلى الصحاري والروابي كان مجالك في الذكر والفكر فيها أوسع منه في غيرها؛ فإنك تنظر في ألوان الربيع المختلفة خضرة، وحمرة، وصفرة، وزرقة، وبياضاً وسواداً، مع أنها تُسقى بماءٍ واحدٍ، وتنظر إلى نضارته واخضراره وريعانه، ثم إلى ما يعود إليه من اليَبَس والقحول، فتعتبر به حال الدنيا وفنائها كما قال الله ¬
تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45]. وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]. وفي هذه الآية زيادة على ما في الآية السالفة الإشارة إلى أن الدنيا على أن مصيرها إلى الفناء والزوال، وقد تفجأ صاحبها المَنِيَّة قبل بلوغ الأمنية كالزروع التي تجتاحها الآفة وقد قارب حصادها، وآن جذاذها وتوقع صاحبها أن يبلغ مُراده منها. وقرأ الآية أُبي بن كعب - رضي الله عنه -: فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها كذلك نفصل الآيات. رواه ابن جرير، وابن المنذر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي - رضي الله عنه - (¬1). وقال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور} [الحديد: 20]. وتنظر إلى بهجة ما طلع في الأغصان من الورق والزهر والثمر ¬
بعدما كان ذلك داوياً (¬1)، فتعتبر بذلك البعث والنشور بعد الموت والفناء كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]. وروى الإمام أحمد، وغيره عن أبي رزين رضي الله تعالى عنه: أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف يُحيى الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟ قال: "هَلْ مَرَرْتَ بِوَادٍ أُهْلِكَ مَحْلاً ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَز خُضْرًا". قال: نعم. قال: "كَذَلِكَ يُخْرِجُ اللهُ الْمَوْتَىْ، وَذَلِكَ آيَتُهُ فِيْ خَلْقِه" (¬2). وكذلك تعتبر حال الإنسان إذا يُولد غضًّا طرياً ناعماً، ثم يتكامل في صباه وشبابه، ثم يشيخ، ثم يَهْرَم، ثم يموت، ثم يبعثه الله تعالى كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 17، 18]. وقيل: [من الطويل] وَما الْمَرْءُ إِلَّا كَالنَّباتِ وَزَهْرهِ ... يَعُودُ رُفاتاً بَعْدَما كانَ ناضِرا ولنا في هذا المعنى وهو من نظم الصبا: [من مخلَّع البسيط] ¬
- ومن ذلك: الدرج
انْظُرْ إِلَى الْمَرْءِ فِي صِباهُ ... كَأَنَّهُ الرَّوْضُ فِي نَماهُ تَراهُ فِي بَهْجَةٍ وَحُسنِ ... يَرُوعُ طَرْفَ الَّذِي يَراهُ تَضُوعُ فِيهِ الزُّهورُ نَشْراً ... كَالْمِسْكِ وَالند فِي شَذاهُ وَالغصْنُ فِيهِ غَضٌّ وَريقٌ ... يهْتَزُّ فِي ذِكْرِ مَنْ كَساهُ وَالنَّهْرُ يَجْرِي وَالشَّطُّ يَزْهُو ... كَمِعْصمٍ زانَهُ حَلاهُ وَالطَّيْرُ فَوْقَ الغُصونِ تَشْدُو ... كَسائِقِ العِيْسِ فِي حداهُ أَوْ خاطِبٍ قالَ إِذْ تَرَقَّى ... يُوْصِيكُمُ اللهُ فِي تُقاهُ حَتَّى إِذا آنَ آنُ قَطْفٍ ... وَطابَ لِلْمَرْءِ مُجْتَناهُ ابْيَضَّ لَوْنًا وَاسْوَدَّ حَبًّا ... وَكانَ لِلفَرْكِ مُنْتَهاهُ فَقِيلَ بهرا كانَ هَذا ... لَمْ يُغْنِ بِالأَمْسِ مُزْدَهاهُ كَذَلِكَ الْمَرْءُ حِينَ يَنْشا ... يُرَوِّعُهُ حُسنُ مُنْتَشاهُ وَيزْدَهِي بِالشَّبابِ تيهاً ... أَزْهَى مِنَ الرئمِ فِي فَلاهُ حَتَّى إِذا شانَهُ مَشِيبٌ ... وَانْهَدَّ مِنْ ضَعْفِهِ قُواهُ كانَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ شَبابُ ... سُبْحانَ مَنْ لَمْ يَدُمْ سِواهُ فَلْيَتَّقِ العَبْدُ مَنْ بَراهُ ... يَبْلُغْ بِتَقْواهُ مُنْتَهاهُ - ومن ذلك: الدرج: وهو جمع، مفرده: درَجَة - كعنبة - للذكر والأنثى.
- وكذلك الطير المعروف في بلاد الشام والروم بدائم اشكر،
وحكى ابن قتيبة عن بعضهم أن واحده: درُّوج؛ كفرُّوج. وهو طائر أسود باطن الجناحين، أغبر ظاهرهما على خلقة القطا إلا أنه ألطف من القطا، وهو من جملة الطير المبشرة بالربيع. ذكر الدميري، والسيوطي أنه يقول في تصويته: بالشُّكر تدوم النعم، وصوته على وزن هذه الكلمات. والاعتبار في ذلك أن يتلقى العبد نعمة الربيع وكل نعم الله تعالى المسبغة عليه بالشكر. - وكذلك الطير المعروف في بلاد الشام والروم بدائم اشكر، وهو من أنواع الحمام شبيه بالقمري؛ فإنه سمي بذلك لأن صياحه على مثل هذا الوزان: الدائم اشكر؛ أي: اشكر الدائم؛ بذلك تعرفه عوام الناس، ويعرفون القمري بالكريم لأن صياحه على وزن: يا كريم. والاعتبار في ذلك أن يكون مستديم الشكر كما أن الله تعالى يتداومه بالنعم ويتداركه بها، فالشكر يحصل بالطاعات، وأظهرها فيه اللسان، والحمد أظهر ما ينطق به اللسان فيه، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأْسُ الشُّكْرِ الْحَمْدُ لله" (¬1). - ومن ذلك: القطا: وهو جمع قطاة، ويُجمع على قَطَوات، وقَطَيات كما قاله الجوهري (¬2)، وهي نوعان: كدرية، وجونية. ¬
فالكدرية: غبر اللون، رقش البطون والظهور، صغار الحلوق، قصار الأذناب، وهي ألطف من الجونية. والجونية: سود بطون الأجنحة والقوادم، وظهرها أغبر أرقط يعلوه صفرة، وهي أكبر من الكدرية. والكدرية فصيحة تنادي باسمها: قطا قطا مفسرة. والجونية تغرغر بذلك من حلقها؛ ولهذا سميت جوني. والقطا شديدة الطيران، وتوصف بالهداية لأنها تبيض في القفر، وتستقي من بعيد بحيث إنها تقطع من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبع مراحل حتى تقع على الماء، فتستقي وتأتي به في حواصلها لفراخها، وتعود في الظلمة، فإذا كانت حيال أولادها صاحت: قطا قطا، وبه سميت، فتجيبها أولادها فلا تخطئ مكانها بلا عَلَم ولا شجر ولا إشارة، ومن هنا ضُرب بها المثل في الهداية. وربما طلبت الماء من مسيرة عشرين ليلة وأكثر وأقل، وتعود من ليلتها، ولذلك اختار العباس بن الأحنف التمثيل بالقطا في قوله: [من الطويل] أَسِرْبَ القَطا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَناحَهُ ... لَعَلِّي إِلَى مَنْ قَد هَوِيْتُ أَطِيرُ فَجَاوَبْنَنِي مِنْ فَوْقِ غُصْنِ أَراكَةٍ ... أَلا كُلُّنا يا مُسْتَعِيرُ يُعِيرُ وَكُلُّ قَطاةٍ لَمْ تُعِرْكَ جَناحَها ... تَعِيشُ بِذُلٍّ وَالْجَناحُ كَسِيرُ وقال مزاحم العقيلي في القطا وفرخها: [من الطويل]
وَلَمَّا دَعَتْهُ بِالقَطاةِ أَجابَها ... بِمِثْلِ الَّذِي قالَتْ بِهِ لَمْ يُبدِّلِ وتوصف بحُسن المشي، ويمثل مشي النساء الخَفِرات بمشيها كما قالت هند بنت عتبة يوم أُحد: [من المجتث] نَحْنُ بَناتُ طارِق ... نَمْشِي عَلى النَّمارِق مَشْيَ القَطا النَّقانِق (¬1) أي: الكثيرات الأولاد. وقالوا في المثل: أصدق من القطا، وأنسب من القطا؛ فإنها إذا صوتت تنسب باسم نفسها، فصدقت لما سبق أنها تقول: قطا قطا. والاعتبار في التشبه بالقطا بالصدق وحسن الرعاية، والفطنة والهداية، والهوينا في المشي مع علو الهمة، وحسن التشبه بالآباء في المكارم والمناقب ومحاسن الأخلاق والآداب. وقالوا في المثل: ليس قطا مثل قطي؛ يُضرب في قصور الأصاغر عن بلوغ مراتب الأكابر في الإغناء في الأمور المهمة (¬2). ونظيره قول بعض العلماء في حق بعض الظلمة وقد تصدى لما لم تبلغه حاله وعلمه: فلان فروج، لكنه يتدايك. وقالوا في المثل: لو ترك القطا ليلاً لنام؛ يُضرب لمن لم يتهيج ¬
- ومن ذلك: الدرة
حتى هيج كما قال الشاعر: [من الوافر] أَلا يا قَوْمَنا ارْتَحِلوا وَسِيروا ... فَلَو تَرَكَ القَطا لَيْلاً لَناما قالته امرأة لقومها ولهم عدو يريدهم، وقد ساروا عنه يوماً وليلة، فنزلوا وهم يظنون أن العدو بعيدٌ عنهم، فهم نيام والقطا تنفر، فقالت لقومها: ارتحلوا؛ فإني رأيت القطا تنفر من أوكارها، فلولا أثارها مثير لَمَا ثارت، لو ترك القطا ليلًا لنام القطا (¬1). وقال آخر: [من الطويل] وَإِنِّي وإِيَّاكُمْ كَمَنْ نبَّهَ القَطا ... وَلَوْ لَمْ تُنبِّهْ باتَتِ الطَّيْر لا تَسْرِي (¬2) ويضرب أيضا لمن حُمِل على مكروه بغير إرادته، ولو لم يبدأ بالشر ويلجأ لم يرده. - ومن ذلك: الدرة: وهي البَبْغَاء - بموحدتين؛ الأولى مفتوحة، والثانية ساكنة - كذا ضبطها ابن السمعاني في "الأنساب". وضبطها غيره بفتح الثانية مشددة. وجعله في "القاموس" قليلاً (¬3). وهي طائر أخضر معروف، وقد يكون أحمر وأصفر وأبيض، له منقار كبير، ولسان كذلك، تسمع كلام الناس وتحكيه بأي لغة كان. ¬
- ومن ذلك: فاقد إلفه
والذي يحسن من التشبه بها إعادة المتعلم ما يُمْلِيْه العالم عليه مما يتعلق بالألفاظ وغيرها، والإخبار في تعلم العلم معروفة، وقد تقدمت في محالِّها. وهي من الطير التي تُحبس لسماع أصواتها ولا يسعها إلا الصبر. كذلك ينبغي للإنسان إذا ابتُلِيَ بحبسٍ أو غيره من مصائب الدنيا أن يصبر ويطلب الفرج والتيسير من الله تعالى، ولْيَسَل نفسه بأن البلاء ولع بالأكابر، وأشد الناس بلاءً الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم الأمثل فالأمثل. ومن لطائف القاضي الأرجاني: [من السريع] تَقْصِدُ أَهْلَ الفَضْلِ دُونَ الوَرَى ... مَصائِبُ الدُّنْيا وَآفاتُها كَالطَّيْرِ لا يُحْبَسُ مِنْ دُونها ... إِلَّا الَّتِي تُطْرِبُ أَصْواتُها (¬1) - ومن ذلك: فاقد إلفه: روى ابن خميس في "مناقب الأبرار" عن السري السقطي قال: بتُّ في بعض قرى الشام، فسمعت طول الليل طيراً يصيح ويقول: أخطأت لا أعود، فلما أصبحت سألت أهل القرية: إيش اسم هذا الطير؟ فقالوا: فاقد إلفه (¬2). وذكر اليافعي في "روض الرياحين" هذه الحكاية عن السري ¬
رحمه الله تعالى قال: كنت ليلةً في قريةٍ من قرى الشام، فإذا بصوب فصيح: أسأت فلا أعود، فلما أصبحتُ سألتُ عن الصوت، فقيل لي: إنه طائر. فقلت: ما يقال له؟ فقيل: فاقد إلفه. قال: ثم سمعت في الوقت صوتاً ولا أرى شخصاً، وهو ينشد ويقول: [من البسيط] طَيْرٌ نَحِيلٌ بِأَرْضِ الشَّامِ أَقْلَقَه ... ذِكْرُ الْحَبِيبِ لَهُ نُطْقٌ بِإِضْمارِ يَقُولُ أَخْطَأْتُ حِينَ الصُّبْحُ يُسْعِدُهُ ... صَوْتٌ شَجِي يُبَكِّي وَقْتَ إسْحارِ قلت: كثيراً ما يُسمع بالشام الآن طائران بالليل يصيحان، أحدهما صياحه على وزان حق، والآخر صياحه على وزان يعقوب، والعوام يقولون: هما طائران فقد كلُّ واحد منهما رفيقه ولا يجتمعان، أحدهما اسمه إسحاق، والآخر يعقوب، فالثاني يصيح: إسحاق، والأول يصيح: يعقوب. والناس ينزلون أصوات الطير كل منهم على ما يليق بحاله، ولعل الطائر الذي سمعه السري يقول: أخطأت لا أعود هو الذي يحسب العوام أنه يقول يعقوب.
والاعتبار بفاقد إلفه: أن ينوح الإنسان على ما فاته من الخير بسبب خطيئته. كما روى ابن أبي الدنيا في "البكاء" عن ابن عباس قال: نزل آدم بالحجر - يعني: الأسود - يمسح به دموعه حين أُهبط من الجنة، ولم ترقا عينُ آدم تبكي منذ خرج من الجنة حتى رجع إليها (¬1). قلت: ومن هنا جاء في الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عند الحجر الأسود: "هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ" (¬2). فبكاء آدم عليه السلام كان لفقد مألوفه في جوار الله تعالى من الملائكة، وما في الجنة من النعيم والأنس بسبب أكل الشجرة حيث أُخرج من الجنة فهو يُريد العود إليها، فينبغي للعبد أن يبكي لفقد مألوفاته إذا عوقب بفقدها على خطيئة فعلها، وينبغي أن يتوب ولا يعود. وقد قلت ملمحاً بقصة السري مع فاقد إلفه: [من الوافر] أنُوحُ عَلى ذُنُوبِي كُلَّ وَقْتٍ ... كَفاقِدِ إِلْفِهِ وَأَنا وَحِيدُ أقولُ كَما يَقُولُ: لَعَل رَبِّي ... . يسَيَغْفِرُ لِي أَسَأتُ فَلا أَعُودُ وقلت: [من المجتث] ¬
يا رَبِّ يا مَجِيدُ ... يا بَرُّ يَا حَمِيدُ انْظُرْ إِلَيَّ وَاعْطِفْ ... عَليَّ يا وَدُودُ لَقَدْ عَصَيْتُ لَكِن ... العَفْو مِنْكَ جودُ فتبْ عَليَّ حَتَّى ... أَتُوبَ يا مَجِيدُ أقولُ فِي اعْتِرافِي ... وَلَيْسَ لِي جُحودُ أَخْطَأتُ لا أَعُودُ ... أَخْطَأْتُ لا أَعُودُ ومن ذلك الطير من حيث هو؛ فإنه يوصف بالتوكل، بل وكذلك سائر البهائم والوحوش وبقية الحيوانات؛ فإنها لا توسع الحيلة في الطلب ولا تهتدي لذلك. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن سالم بن أبي الجعد قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم، انظروا إلى هذه الطير تغدو وتروح، لا تحرث ولا تحصد، الله يرزقها، فإن قلتم: نحن أعظم بطوناً من الطير، فانظروا إلى هذه الأباقر من الوحش والحمر تغدو وتروح، لا تحرث ولا تحصد، الله يرزقها، اتقوا فضول الدنيا؛ فإن فضول الدنيا رجس (¬1). وروى الترمذي - وقال: حسن صحيح - وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
قال: "لَوْ أنَّكمْ تتَوَكَّلُوْنَ عَلَىْ اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرَ؛ تَغْدُوْ خِمَاصًا وَتَرُوْحُ بِطَاناً" (¬1). وهذا الحديث ليس فيه رفض الأسباب بالكلية نوبة واحدة، ألا ترى أن الطير تغدو وتروح، وهذا سبب، لكنها لما لم تقصد موضعًا معينا وصفت بالتوكل؟ وروى الدينوري في "المجالسة" قال: حدثنا أبو القاسم بن الحنبلي قال: سألت أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فقلت: ما تقول في رجلٍ جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد: هذا رجلٌ قد جهل العلم، أما سمعت قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جَعَلَ اللهُ رِزْقِيْ تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِيْ" (¬2). وحديثه الآخر حين ذكر الطير فقال: "تَغْدُوْ خِمَاصًا وَتَرُوْحُ بِطَاناً". فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق. وقال الله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] ¬
وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]. وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتَّجرون في البر والبحر، ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم (¬1). وروى الإمام أحمد، والبزار - وسنده جيد - عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه، والطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" - ورواته ثقات - عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الكسب أفضل؟ - وقال رافع: قيل: يا رسول الله! أي الكسب أطيب؟ - ثم اتفقا، قال: "عَمَلُ الرَّجُلِ بِيدهِ، وَكُلُّ بَيع مَبْرُوْر" (¬2). وروى هؤلاء عن جميع بن عمير، عن خاله - يعني: بردة بن نيار - رضي الله تعالى عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الكسب، فقال: "بَيعٌ مَبْرُوْرٌ، وَعَمَلُ الرَّجُلِ بِيدهِ" (¬3). ¬
وروى الحاكم - وصححه - عن سعيد بن عمير، عن عمه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الكسب أطيب؟ قال: "عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدهِ، وَكُلُّ كَسْبٍ مَبْرُوْرٍ". قال يحيى بن معين: عم سعيد هو البراء - رضي الله عنه - (¬1). نعم، ينبغي للعبد إذا كسب أن يكون ثقته في كسبه بربه - عز وجل - لا بسبب، وأن يُجْمِل في الطلب ولا يتهالك فيه، وأن يفضل من كسبه على من يليه، فبذلك يتم له العمل بالسنة. روى ابن أبي الدنيا في "القناعة" - واللفظ له - والحاكم عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنِّيْ لا أَعْلَمُ شَيْئاً يُقرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ويبْعِدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلا أَعْلَمُ شَيْئاً يُبْعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ويقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا نهيْتُكُمْ عَنْهُ، وَإِنَّ الرُّوْحَ الأَمِيْنَ عَلَيْهِ السَّلامُ نَفَثَ فِيْ رُوْعِيْ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوْتَ حَتَّىْ تَسْتَوْفيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوْا اللهَ وَأَجْمِلُوْا فِيْ الطَّلْبِ، وَلا يَحْمِلنَّكُمْ اسْتِبْطَاءُ شَيْءٍ مِنَ الزِّزْقِ عَلَىْ أَنْ تَطْلُبُوْهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ - عز وجل - لا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ بِمَعْصِيَةٍ (¬2). وروى ابن ماجه - واللفظ له - والحاكم - وصححه - عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّهَا الناسُ! اتَّقُوْا اللهَ ¬
وَأَجْمِلُوْا فِيْ الطَّلَبْ؛ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوْتَ حَتَّىْ تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوْا اللهَ وَأَجْمِلُوْا فِيْ الطَّلَبِ، خُذُوْا مَا حَلَّ وَدَعُوْا مَا حَرَّمَ" (¬1). وعن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَجْمِلُوْا فِيْ طَلَبِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ كُلاَّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ". ولفظ الحاكم وصححه: "فَإِنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا كُتِبَ لَهُ مِنْهَا". وبهذا اللفظ أخرجه أبو الشيخ في "الثواب" (¬2). وروى الدينوري في "المجالسة" عن خلف بن تميم قال: التقى إبراهيم بن أدهم وشقيق بمكة، فقال ابراهيم لشقيق: ما بدو أمرك الذي بلغك هذا؟ فقال: سِرْتُ في بعض الفَلَوات، فرأيتُ طيراً مكسور الجناحين في فلاةِ من الأرض، فقلت: انظر من أين يرزق هذا؟ فقعدتُ حذاءه، فإذا أنا بطائرٍ قد أَقْبل في منقاره جرادة وضعها في منقار الطير المكسور الجناح، فقلت لنفسي: يا نفس! الذي قيض هذا الطير الصحيح لهذا الطير المكسور الجناحين في فلاةٍ من الأرض هو قادرٌ أن يرزقني حيثما كنت، فتركتُ الكسب واشتغلتُ بالعبادة. فقال له إبراهيم: يا شقيق! ولم لا تكون أنت الطير الصحيح الذي أطعم العليل فتكون أفضل منه؟ أما سمعت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "الْيَدُ ¬
الْعُلْيَا خَيْر مِنَ الْيَدِ السُّفْلَىْ"؟ ومن علامة المؤمن أن يطلب أعلى الدرجتين في أموره كلها حتى يبلغ منازل الأبرار. فأخذ يد إبراهيم فقبلها، وقال له: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق (¬1). وفي هذه القصة إشارة إلى أنَّ من الطير من يفضل على غيره، ويكون في معونته وحاجته، فلا ينبغي للمؤمن أن يكون أعجز من الطير في ذلك. وروى أبو داود في "مراسيله" عن أبي قلابة رحمه الله تعالى: أن ناساً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قدموا يثنون على صاحبٍ لهم خيراً، قالوا: ما رأينا مثل هذا قط، ما كان في مسير إلا كان فى قراءة، ولا نزلنا منزلاً إلا كان في صلاة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَمَنْ كَانَ يَكْفِيْهِ ضَيْعَتُهُ حَتَّىْ ذَكَرَ مَنْ كَانَ يَعْلِفُ جَمَلَهُ أَوْ دَابَّتهُ. قالوا: نحن. قال: "فَكُلُّكُمْ خَيْرٌ مِنهُ" (¬2). وروى الطبراني بإسناد صحيح، عن زيد بن ثابت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَزَالُ اللهُ فِيْ حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دامَ الْعَبْدُ فِيْ حَاجَةِ أَخِيْهِ" (¬3). ¬
- ومن أحوال الطير: التبكير بالطاعة والذكر، وطلب الرزق
ورواه مسلم، وغيره (¬1). وللشيخ العلامة أحمد بن أحمد بن أحمد الطيبي الشافعي رحمه الله تعالى، وسمعته منه: [من الطويل] وَخَيْرُ عِبادِ اللهِ أَنْفَعُهُمْ لَهُمْ ... رَواهُ عَنِ الأَثْباتِ كُلُّ نبِيهِ وإنَّ إِلَهَ العَرْشِ جَلَّ جَلالُهُ ... يُعِينُ الفَتَى ما دامَ عَوْنَ أَخِيهِ وقلت: [من مجزوء الرجز] أَعِنْ أَخاكَ فِي الَّذِي ... لَيْسَ يَكُونُ الإِثْمُ فِيهِ فَاللهُ فِي عَوْنِ الفَتَى ... ما كانَ فِي عَوْنِ أَخِيهِ - ومن أحوال الطير: التبكير بالطاعة والذكر، وطلب الرزق. روى الخطيب عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الطَّيْرَ إِذَا أَصْبَحَتْ سَبَّحَتْ رَبَّهَا وَسَألتْ قُوْتَ يَوْمِهَا" (¬2). وتقدم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه: إِنَّ الْعَصَافِيْرَ قَبْلَ طُلُوْعِ الشَّمْسِ تُسَبِّحُ رَبَّهَا وَتَسْأَلُ قُوْتَ يَوْمِهَا (¬3). وكذلك ينبغي للمؤمن أن يُباكر ذكر الله تعالى وطاعته؛ فقد امتنَّ الله تعالى على المستغفرين بالأسحار، وأرشد إلى التَّسبيح بالعشي والإبكار. ¬
ثم ينبغي له أن يُبكر في طلب الرزق بعد الفراغ من وظيفة الصلاة والذكر بعدها. روى أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، عن صخر بن رفاعة الغامدي رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لأمَّتِيْ فِيْ بُكُوْرِهَا". وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار. وكان صخر تاجراً، وكان يبعث بتجارته من أول النهار؛ فأثرى وكثر ماله (¬1). وفي رواية أشار إليها ابن عبد البر: "بُوْرِكَ لأُمَّتِيْ فِيْ بُكُوْرِهَا" (¬2). وروي هذا الحديث عن جماعة منهم علي، وابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر، وأبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن سلام، والنواس ابن سمعان، وعمران بن الحصين، وجابر، ونبيط بن شريط، وبريدة، وأوس بن عبد الله، وعائشة، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم. وقد جمعها الحافظ عبد العظيم المنذري في جزء، وأشار إليها في "الترغيب" (¬3). ¬
وروى البزار، والطبراني في "الأوسط" بإسناد ضعيف، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَاكِرُوْا فِيْ طَلَبِ الرِّزْقِ وَالْحَوَائِجِ، فَإِنَّ الْغُدُوَّ بَرَكَةٌ وَنَجَاحٌ". ولا ينبغي له التبكير إلى غير الطاعة كالذين يبكرون إلى بيوت القهوة قبل المسجد، فيتعوضون بالغناء واللهو عن الذكر والصلاة، فيكونون ممن اشتروا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة. وإذا بكر في طلب الخير وابتغاء الرزق فليكن تبكيره بالنية الصالحة والإخلاص في العمل؛ فربَّ مُبكر في الخير صورةً ونيته غير ممدوحة ولا مشكورة. وقد روى الطبراني في "معاجمة" الثلاثة - وقوَّاه المنذري، وضعفه العراقي، وهو صحيح المعنى يشهد له الكتاب والسنة - عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً مع أصحابه ذات يوم، فنظر إلى شاب ذي جَلَد وقوة وقد بكر يسعى، فقالوا: ويح هذا لو كان جَلَده وشبابه في سبيل الله! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُوْلُوْا هَذَا؛ فَإنَّه إِنْ كَانَ يَسْعَىْ عَلَىْ نَفْسِهِ لِيَكُفَّهَا عَنِ الْمَسْأَلَةِ ويغْنِيهَا عَنِ النَّاسِ فَهُوَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، وإِنْ كَانَ يَسْعَىْ عَلَىْ أَبَوَيْنِ ضَعِيْفَيْنِ أَوْ ذُرَّيَةٍ ضِعَافٍ لِيُغْنِيهِم وَيَكْفِيَهُمْ فَهُوَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، وإِنْ كَانَ يَسْعَىْ تَفَاخُرًا وَتَكَاثُرًا فَهُوَ فِي سَبِيْلِ الشَّيْطَانِ" (¬1). ¬
- ومن أحوال الطير: استئناسه بجنسه ونفوره عن غير جنسه
- ومن أحوال الطير: استئناسه بجنسه ونفوره عن غير جنسه. والمطلوب من العبد أن يأنس بأهل الذِّكر والطاعة، ويفر من أهل الغفلة والمعصية. كما روى أبو نعيم عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: أن عبد الملك بن مروان قدم المدينة، فبعث حاجبه إلى سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى فقال: أجب أمير المؤمنين. قال: وما حاجته؟ قال: لتتحدث معه. فقال: لست من حدَّاثه. فرجع الحاجب إليه، فأخبره، فقال: دعه (¬1). وروى ابن جهضم في "بهجة الأسرار": أن بشر بن الحارث ذكر أن الأوزاعي كتب إلى إبراهيم ابن أدهم: إني أحب أن أصحبك. فكتب إليه إبراهيم: إن الطير إذا طار مع غير شكله من الطير طار وتركه. والمعنى في ذلك: أن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى خرج عن الدنيا، وأقبل على الاشتغال بالله تعالى، والعمل له على وجه دقيق ¬
- ومن أحوال الطير: خلو قلوبها لأمثالها من أجناسها
الورع واجتناب خفي الشبه، والأوزاعي رحمه الله تعالى - وإن كان من زهاد العلماء ونقاد الحكماء - إلا أنه لم يكن من شكل إبراهيم، ولا إبراهيم من شكله، وكفاك لذلك نظيراً قصة موسى والخضر عليهما السلام، وقول الخضر لموسى عليهما السلام: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: الناس أشكال كأجناس الطير؛ الحمام مع الحمام، والبط مع البط، والصعو مع الصعو، والغراب مع الغراب، وكل إنسان مع شكله (¬1). وحُكِيَ أنه كان يتَكلم قبل ذلك، فبينما هو كذلك إذ نظر إلى حمامةٍ تمشي مع غراب، فعجب من ذلك، وقال: اتفقا وليسا من جنس واحد، فلما طارا إذا هما أعرجان؛ قال: لذلك اتفقا. والإشارة بذلك إلى أن الإنسان - وإن كان جنسه واحداً - فإن النوع يكون مع مثله من ذلك النوع كالعربي مع العربي، والفارسي مع الفارسي، والرومي مع الرومي، وكالعالِم مع العالِم، والتاجر مع التاجر، والعامي مع العامي، فإذا اتفق واحد من هذا النوع مع آخر من غير ذلك النوع فإنهما يتفقان لمعنى فيهما، إذا فتشت عنه رأيته. - ومن أحوال الطير: خلو قلوبها لأمثالها من أجناسها من الحقد ¬
- ومن أحوال كثير من الطير: الاستئناس بالله تعالى والانفراد عن الخلق
والغل إلا ما كان من الديكة والكباش، ونحوهما في بعض الأحيان. وسبب ذلك: أن الطير لمَّا كان مسيرها في الهواء ومَرَاحها في الفضاء اتسعت أخلاقها، وسلمت قلوبها. وكذلك ينبغي للعبد أن يكون واسع الأخلاق دمثها، سليم القلب من الغل والحقد والحسد، والشقاق والنفاق. قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر: 47]. وروى الإمام أحمد، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ" (¬1)؛ أي: فارغة من كل شيء سوى ذكر الله تعالى، وطلب ما يعنيها. - ومن أحوال كثير من الطير: الاستئناس بالله تعالى والانفراد عن الخلق. وذلك مطلوب من الآدمي في محله على ما سبق بيانه. وروى الدينوري عن وهب قال: أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل إن أردتَ أن تسكن معي غداً حظيرة القدس فكن في الدنيا وحيداً فريداً مهموماً محزوناً كالطائر الوحداني، يطير في رياض الفلا، وَيرِدُ ماء العيون، يأكل أطراف الشجر، فإذا جَنَّ عليه الليل آوى وحده استيحاشاً من الطير، واستئناساً بربه (¬2). ¬
وروى الحارث بن أبي أسامة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيَأْتِيْ عَلَىْ النَّاسِ زَمَانٌ لا يَسْلَمُ لِذِيْ دِينٍ دِيْنُهُ إِلاَّ مَنْ فَرَّ بِدِيْنِهِ مِنْ شَاهِقٍ إِلَىْ شَاهِقٍ، وَمِنْ جُحْرٍ إِلَىْ جُحْرٍ كَالطَّيْرِ بِأَفْرَاخِهِ، وَكَالثَّعْلَبِ بِأَشْبَالِهِ" (¬1). ومن شواهده حديث الأئمة مالك، وأحمد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري، وأبي داود، والنسائي عن أبي سعيد - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُوْشِكُ أَنْ يَكُوْنَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا، يَتَتَبَّعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِيْنِهِ مِنَ الْفِتَنِ" (¬2). وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُوْشِكُ أَنْ يَكُوْنَ خَيْرَ النَّاسِ رَجُلٌ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسِهِ، يُجَاهِدُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، وَيعْتَزِلُ شِرَارَ النَّاسِ، وَرَجُلٌ بَادٍ فِيْ نَعْمٍ لَهُ يُؤَدِّيْ حَقَّهَا وَيُقرِيْ الضَّيْفَ" (¬3). ومن الطير ما يأنس بالناس كاليمام، وهي التي تألف البيوت من الحمام كما قال الكسائي (¬4). والفواخت والعصافير؛ فإنها إذا خلت مدينة من أهلها ذهبت معها العصافير، فإن عادوا إليها عادَتْ كما تقدم. ¬
والخطاف؛ روى الثعلبي، وغيره: أن آدم عليه السلام لمَّا أُخرج من الجنة شكا إلى الله الوحشة، فآتاه الخطاف، فأسكنها البيوت، وألزمها إياه، فهي لا تفارق بني آدم أُنساً بهم (¬1). وكذلك شأن المؤمن التآلف، وفي حديث عامر المتقدم: "الْمُؤْمِنُ يَألَفُ ويُؤْلَفُ، وَلا خَيْرَ فِيْمَنْ لا يَألَفُ وَلا يُؤْلَفُ" (¬2). وروى الإمام أحمد، ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِيْنَ فِيْ تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتكَىْ مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّىْ" (¬3). ويجمع بين هذا الخُلق والذي قبله بأن ألفة المؤمن بالمؤمن محلها إذا كانت للإفادة والاستفادة، والنفع والانتفاع في غير إثم ولا إرادة [غير] وجه الله تعالى. وفرار المؤمن من الناس حين لا يجد في الاجتماع فائدة أُخروية، وحين يكون الاجتماع شاغلاً للقلب عن الطاعة، أو سبباً للوقوع في المعصية. وفي مثل ذلك قال إبراهيم بن أدهم وغيره: ¬
اتَّخِذِ اللهَ صاحِباً ... وَكُنْ مِنَ النَّاسِ جانِبا (¬1) ومن لطائف الخطاف ما ذكره الدميري، والسيوطي أنه من الطير القواطع إلى الناس، تقطع من البلاد البعيدة إليهم رغبةً في القرب منهم، ثم إنَّ الخطاطيف تبني بيوتها في أبعد المواضع عن الوصول إليها، وتُعرف عند الناس بعصفور الجنة لأنه زهد فيما في أيديهم من الأقوات، وإنما تَقْتَاتُ بالبعوض والذباب، ولا يرى واقفاً على شيء يأكله أبداً. وفي المعنى قيل: [من الكامل] كُنْ زاهِداً فِيما حَوَتْهُ يَدُ الوَرَى ... تَضْحَى إِلَى كُلِّ الأَنامِ حَبِيبا أَوَ ما تَرى الْخَطَّافَ حَرَّمَ زادَهُمْ ... فَغَدا مُقِيماً فِي البِلادِ رَبِيبا قلت: وإلى هذا المعنى أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن ماجه عن سهل بن سعد - رضي الله عنهما -، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس. فقال: "ازْهَدْ فِيْ الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيْمَا فِيْ أَيْدِيْ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ" (¬2). وقال الشيخ زين الدين بن الوردي: [من البسيط] ¬
فوائد تتعلق بالخطاف
إِنَّ القُلُوبَ إِلَى الْخَطَّافِ مائِلَة ... طَيْرٌ بِتَرْكِ طَعامِ النَّاسِ مَنْعُوتُ وَالنَّاسُ يَهْوَوْنَ مَنْ خَفَّتْ مَؤُونَتُهُ ... وَمَنْ يُشارِكُهُمْ فِي القُوتِ مَنْعُوتُ وقلت: [من البسيط] لا تَزْحَمِ النَّاسَ فِي شَيْءٍ يَخُصُّهُمُ ... فَيَجْعَلُونَكَ مِنْ أَعْدى أَعادِيهِمْ وَيَلْحَظُونَكَ كَالثِّيْرانِ مِنْ حَرَدٍ ... وَلَسْتَ تَأمَنُ مِنْهُمْ فِي نَوادِيْهِمْ تَرى الْخَطاطِيفَ فِي البُلْدانِ آمِنةً ... لأنَّها زَهِدَتْ فِيما بِأَيْدِيهِمْ وهنا فوائد تتعلق بالخطاف: الأولى: أن الخطاطيف تسمى زوار الصيف لأنَّها تشتي في بلاد الهند لحرارتها، وتصيف في بلاد الشام. قال أبو إسحاق الصابي يصف الخطاف: وَهِنْدَيَّةِ الأَوْطانِ زُنْجِيَّةِ الْخَلْقِ ... مُسْوَدَّةِ الأَلْوانِ مُحْمَرَّةِ الْحَدَقْ
كَأَنَّ بِها حُزْناً وَقَدْ لَبِسَتْ لَهُ ... حِداداً فَأَذْرَتْ مِنْ مَدامِعِها العَلقْ إِذا صَرْصَرَتْ صَوْتاً تَأَخَّرَ صَوْتُها ... كَما صَرَّ ملوي العُودِ بِالوترِ الْحذَقْ تَصِيفُ لَدَيْنا ثُمَّ تَشْتُو بِأَرْضِنا ... فَفِي كُلِّ عامٍ نَلْتَقِي ثُمَّ نَفْتَرِقْ (¬1) والاعتبار في ذلك أنَّ الإنسان ينبغي له أن يرتاد لصيفه مكاناً يليق بالصيف، ولشتائه مكاناً يليق بالشتاء، وكذلك يتخذ لكل ما يليق به من الثياب صيانة لجسده الحامل لروحه ليكون ذلك عوناً له على طاعة الله تعالى. ولقد امتَنَّ الله تعالى بالرحلتين على قريش في قوله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش: 1 - 4]. قال ابن زيد رحمه الله تعالى: كانت لهم رحلتان؛ الصيف إلى الشام، والشّتاء إلى اليمن في التجارة. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (¬2). ¬
وقال أبو مالك: كانوا يتجرون في الشتاء والصيف، فيأخذون في الشتاء على طريق البحر وأيلة إلى فلسطين يلتمسون الرخاء، وأما الصيف فيأخذون قبل بصرى وأذرعات يلتمسون البرد. رواه سعيد بن منصور، وابن المنذر (¬1). ولا شك أن الإنسان متى كان في أرض تلائمه وتوافق مزاجه كان أصفى قلباً، وأفرغ لأموره. فلذلك امتنَّ الله تعالى عليهم بالرحلتين الموافقتين، وطالبهم بالشكر على ذلك، فقال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش: 3، 4]. وكذلك النعمة على العباد ما كان لهم مصيف ومشتى من أرض، أو بيت أو ثوب. وروى الخطيب، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء الشتاء دخل البيت ليلة الجمعة، وإذا جاء الصيف خرج ليلة الجمعة، وإذا لبس ثوباً جديداً حمد الله تعالى وصلَّى ركعتين، وكسا الخلق (¬2). الثانية: تقدم عن الثعلبي أن آدم عليه السلام لمَّا شكا إلى الله - عز وجل - ¬
الوحشة آنسه بالخطاف، فلذلك لا تفارق الخطاطيف بني آدم، وفيه إشارة إلى حفظ مودَّة الآباء وتوارث الحب. روى الطبراني في "الكبير"، والحاكم وصححه، عن عفير رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الْودُّ يُتَوَارَثُ، وَالْبُغْضُ يُتَوَارَثُ" (¬1). قلت: شاهد الأول ألفة الخطاف بني آدم، وشاهد الثاني عداوة الحية بني آدم كما علمت فيما تقدم. الثالثة: روى البيهقي عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية التابعي - مرسلاً -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل الخطاطيف، وقال: "لا تَقْتُلُوْا هَذهِ الْعُوَّذَ؛ فَإِنَّهَا تَعُوْذُ بِكُمْ مِنْ غَيْرِكُمْ" (¬2). الاعتبار في ذلك أنَّها لمَّا كانت عائذة بالناس نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها؛ فإنَّ من حق العوذ بنا أن تأمن من غيرنا، فكيف لا تأمن منا؛ فكيف إذا عاذ المؤمن بالله - عز وجل - واستجار به! قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَاذَ بِاللهِ فَقَدْ عَاذَ بِمَعَاذٍ". رَواه الترمذي، وغيره، وتقدم في التشبه ببني إسرائيل (¬3). ¬
الرابعة: روى البيهقي - وقال: إسناده صحيح - عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما - موقوفاً عليه - أنَّه قال: لا تقتلوا الضفادع؛ فإنَّ نقيقها تسبيح، ولا تقتلوا الخطاطيف؛ فإنَّه لما خرب بيت المقدس قال: يا رب! سلطني على البحر حتى أعرفهم (¬1). قلت: شكر الله تعالى ذلك للخطاف حيث حملته الغيرة لله، وبغض أعدائه على طلب ما لا يليق بحقارته وصغره من تغريقهم، فآمنه الله تعالى من القتل، وأسكنه البيوت، وحفظ على الوزغ عداوته لإبراهيم عليه السلام، فأباح قتله في الحل والحرم كما فهمت. والاعتبار في ذلك أن العبد ينبغي له إذا عجز عن إنكار المنكر، وتغييره بيده أو بلسانه أن ينكره بقلبه، ويغضب على مرتكبه، ويبغضه طلباً لمرضاة الله تعالى. الخامسة: روى أبو الشيخ في "العظمة" عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَيْنَمَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ يَسِيْرُ فِيْ الْمَوْكِبِ إِذْ عَرَضَ فِيْ الضِّيَاءِ فَيْء، فَعَدَلَ عَنِ الطَّرِيْق، فلمَّا أَنْ نزَلَ مَنْزِلَهُ جَاءَتْ خُطَّافَةٌ فِيْ مِنْقَارِهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ فَرَشَّتْ بِهِ مَكَانهُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: أتَدْرُوْنَ لِمَ عَدَلْتُ بِكُم؟ قَالُوْا: لا. قَالَ: جَاءَتْنِيْ هَذهِ فَأَخْبَرَتْنِيْ أَنَّهَا قَدْ فَرَّخَتْ فُرُوْخَهَا وَهُنَّ وَقع عَلَىْ الطَّرِيْق وَإِنَّكَ إِنْ أَخَذْتَ الطَّرِيْقَ حَطَّمْتَهُنَّ ¬
- ومن أوصاف الطير: كثرة الاستيقاظ بالليل حذرا من الجوارح
فَجَاءَتْ فَرَشَّتْ هَذَا الْمَكَانَ شُكْرًا لِمَا كَانَ" (¬1). قلت: والاعتبار فيه أنَّه ينبغي مكافأة الإنسان على الإحسان بقدر الإمكان، وينبغي الجود جهد المقل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُوْلُ". رواه أبو داود، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وفي رواية قلت: يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: "جُهْدُ الْمُقِلِّ" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ سِرٌّ إِلَىْ فَقِيْرٍ، وَجُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ". رواه الطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه (¬3). - ومن أوصاف الطير: كثرة الاستيقاظ بالليل حذراً من الجوارح، والاشتغال كلما استيقظ بالهدير بذكر الله تعالى كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. ¬
- ومن أوصاف طير الليل كالبوم، والهام، والخفاش
وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون كثير الاستيقاظ للعبادة كلما استيقظ ذكر الله تعالى خائفاً من البَيَات. روى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّه كان له مِهْراس فيه ماء، فيصلي ما قُدِّر له، ثم يصير إلى الفراش، فيغفى إغفاء الطير، ثم يقوم فيتوضأ، ثم يصلي، ثم يرجع إلى فراشه، فيغفى إغفاء الطير، ثم يثب فيتوضأ، ثم يصلي؛ يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمس مرات (¬1). وقوله: إغفاء الطير؛ يعني: إنَّه كان لا يدوم نومه وغفلته، بل ينام كأنه مذعور يخاف البيات، كما أن الطير لا ينام نومة واحدة، بل تغفي وتهب خوفاً من الجوارح. وفي كتاب الله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 - 99]. - ومن أوصاف طير الليل كالبوم، والهام، والخفاش: الاختفاء نهاراً خوفاً من كواسر الطير، وسكنى الخراب، والانفراد في الأماكن الخالية. ومنها ما لا يبني له وَكْنة ولا عُشاً. ¬
وقد يستحسن من العبد مثل ذلك حيث كان فيه صلاح حاله، وخلوص قلبه، كما أنَّ عيسى بن مريم عليهما السلام لم يتخذ داراً ولا عقاراً. وقد روى أبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعنده كعب الأحبار رحمه الله تعالى، فقال كعب: يا أمير المؤمنين! ألا أخبرك بأغرب شيء قرأته في كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: إن هامة جاءت إلى سليمان عليه السلام، فقالت: السلام عليك يا نبي الله. قال: وعليك السلام يا هامة؛ أخبريني كيف لا تأكلين من الزرع. قالت: يا نبي الله! إنَّ آدم عليه السلام أخرج من الجنة بسببه. قال: وكيف لا تشربين الماء؟ قالت: لأنه غرق فيه قوم نوح عليه السلام، فلذلك لا أشربه. قال لها سليمان: كيف تركت العمران ونزلت الخراب؟ قالت: لأن الخراب ميراث الله؛ فأنا أسكن ميراث الله. قال سليمان: فما صياحك في الدور إذا مررت عليها؟ قال: أقول: ويل لبني آدم! كيف ينامون وأمامهم الشدائد. قال: فما لك لا تخرجين بالنهار؟ قالت: من كثرة ظلم بني آدم لأنفسهم.
- ومن أوصاف الطير، وسائر البهائم والسباع والهوام
قال: فأخبريني ما تقولين في صياحك؟ قالت: أقول: تذكروا يا غافلين، وتهيؤوا لسفركم؛ سبحان خالق النور! فقال سليمان عليه السلام: ليس طير من الطير أنصح لبني آدم، وأشفق من الهامة، وما في قلوب الجهال أبغض منها (¬1). يشير إلى أن الجهال لا يحبون الناصحين. - ومن أوصاف الطير، وسائر البهائم والسباع والهوام: التراحم الذي يكون بين الجنس منها، أو بين النوع والتعاطف إلا ما شذ كمناقرة بعض الديوك، ومناطحة بعض الكباش، وإحالة الذئاب على الذئب إذا دَمِي كما قَدَّمناه، وأخص من ذلك عطف سائر الحيوانات على أولادها ورحمتها لها، وشفقتها عليها إلا ما شذ من ذلك كالهرة التي تأكل أولادها كما قال الشاعر: [من السريع] أَما تَرى الدَّهْرَ وَهذا الوَرى ... كَهِرَّةٍ تَأكلُ أَوْلادَها (¬2) والأناسي أخص المخلوقات بهذه الرحمة؛ ولاسيما الشفقة على أطفالهم، وأطفال غيرهم، وعلى ضعفائهم. روى مسلم عن أبي هريرة، وسلمان رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ للهِ تَعَالَىْ مِائَةُ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً ¬
بَيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُوْنَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُوْنَ، وَأَخَّرَ تِسْعًا وَتِسْعِيْنَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬1). فالمطلوب من العبد المؤمن الرحمة والشفقة على إخوانه من الإنس، وعلى سائر الخلق خصوصاً الضعيف من المخلوقات، وهي صفة المؤمن؛ وقسوة القلب صفة المنافق. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خِيَارُ أُمَّتِيْ عُلَمَاؤُهَا وَخِيَارُ عُلَمَائِهَا رُحَمَاؤُهَا، أَلا وَإِنَّ اللهَ لَيَغْفِرُ لِلْعَالِمِ أَرْبَعِيْنَ ذَنْبًا قَبْلَ أَنْ يَغْفِرَ لِلْجَاهِلِ ذَنْبًا وَاحِدًا، أَلا وَإِنَّ الْعَالِمَ الرَّحِيْمَ يَجِيْءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ نُوْرَهُ قَدْ أَضَاءَ يَمْشِيْ بِهِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَمَا يُضِيْءُ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ". رواه أبو نعيم، والخطيب وقال: منكر، وابن عساكر (¬2). وهذا الحديث - وإن كان منكر الإسناد - فإنَّ معناه صحيح (¬3). روى الشيخان عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لا يَرْحَمِ النَّاسَ لا يَرْحَمُهُ اللهُ تَعَالَىْ" (¬4). وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: جاء أعرابي إلى ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تقبلون الصبيان ولا نقبلهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ أَمْلِكَ لَكَ أَنْ نزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ" (¬1). وروى أبو داود، والترمذي وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الرَّاحِمُوْنَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ تَعَالَىْ، اِرْحَمُوْا مَنْ فِيْ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِيْ السَّمَاءِ" (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله الصادقَ الصدوق صاحب هذه الحجرة أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِىٍّ". هذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: حديث حسن، وفي بعض نسخه: حسن صحيح (¬3). وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، والأصبهاني - واللفظ له - عن معاوية بن قرة [عن أبيه] رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً قال: يا رسول الله! إني آخذ شاة وأريد أن أذبحها فأرحمها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَالشَّاةَ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ الله" (¬4). ¬
وروى ابن ماجه عن تميم الداري رضي الله تعالى عنه قال: كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل بعير يعدو حتى وقف على هامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّهَا الْبَعِيْرُ! اسْكُنْ؛ فَإِنْ تَكُ صَادِقًا فَلَكَ صِدْقُكَ، وَإِنْ تَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْكَ كَذِبُكَ؛ مَعَ أَنَّ اللهَ تَعَالَىْ قَدْ آمَنَ عَائِذَناَ وَلَيْسَ بِخَائِبٍ لائِذُنَا". فقلنا: يا رسول الله! ما يقول هذا البعير؟ فقال: "هَذَا بَعِيْرٌ قَدْ هَمَّ أَهْلُهُ بِنَحْرِهِ وَأَكْلِ لَحْمِهِ فَاسْتَغَاثَ بِنَبِيِّكُمْ". قال: فبينا نحن كذلك إذ أقبل أصحابه يتعادون، فلما نظر إليهم البعير عاد إلى هامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلاذ بها، فقالوا: يا رسول الله! هذا بعيرنا هرب منذ ثلاثة أيام، فلم نلقه إلا بين يديك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا إِنَّهُ يَشْكُوْ لِيْ فَبِئْسَتِ الشِّكَايَةُ". فقالوا: يا رسول الله! ما يقول؟ قال: "إِنَّهُ يَقُوْلُ: إِنَّهُ رُبِّيَ فِيْ أَمْنِكُمْ أَحْوَالاً، وَكُنتمْ تَحْمِلُوْنَ عَلَيْهِ فِيْ الصَّيْفِ إِلَىْ مَوْضعِ الْكَلأِ، فَإِذَا كَانَ الشِّتَاءُ رَحَلْتُمْ إِلَىْ مَوْضعِ الدِّفْءِ، فَلَمَّا كَبُرَ اسْتَفْحَلْتُمُوْهُ فَرَزَقَكُمْ اللهُ مِنْهُ إِبِلاً سَائِمَةً، فَلَمَّا أَدْرَكَتْهُ هَذهِ السَّنَةُ الْخَصْبَةُ هَمَمْتُمْ بِنَحْرِهِ وَأَكْلِ لَحْمِهِ". فقالوا: قد والله كان ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا هَذَا جَزَاءُ الْمَمْلُوْكِ الصَّالِحِ مِنْ مَوَالِيْهِ".
قالوا: يا رسول الله! فإنا لا نبيعه ولا ننحره. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كَذَبْتُم، قَدْ اسْتَغَاثَ بِكُم فَلَم تَغِيْثُوْه، وَأَنَا أَوْلَى بِالرَّحْمَةِ مِنْكُمْ، فَإِنَّ اللهَ نزَعَ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوْبِ الْمُنَافِقِيْنَ، وَأَسْكَنَهَا فِيْ قُلُوْبِ الْمُؤْمِنِيْنَ". فاشتراه النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم بمئة درهم، وقال: "أَيُّهَا الْبَعِيْرُ! اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَىْ". فرغا على هامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "آمِيْنَ"، ثم رغا فقال: "آمِيْنَ"، ثم رغا، فقال: "آمِيْنَ"، ثم رغا الرابعة، فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يارسول الله! ما يقول هذا البعير؟ قال: "قَالَ: جَزَاكَ اللهُ أَيُّهَا النَّبِيُّ عَن الإِسْلامِ وَالْقُرْآنِ خَيْرًا، فَقُلْتُ: آمِيْنَ، ثُمَّ قَالَ: سَكَّنَ اللهُ رُعْبَ أُمَّتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا سَكَّنْتَ رُعْبِيْ، فَقُلْتُ: آمِيْنَ، ثُمَّ قَالَ: حَقنَ اللهُ دِمَاءَ أُمَّتِكَ مِنْ أَعْدَائِهَا - يَعْنِيْ: مِنْ الْكُفَّارِ - كَمَا حَقَنْتَ دَمِي، فَقُلْتُ: آمِيْنَ، ثُمَّ قَالَ: لا جَعَلَ اللهُ بَأْسَ أُمَّتِكَ بَيْنَهَا، فَبَكَيْتُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ سَأَلتُ رَبِّي فَأْعْطَانِيْهَا، وَمَنَعَنِيْ هَذِهِ، وَأَخْبَرَنِيْ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَن اللهِ تَعَالَىْ أَنَّ فَنَاءَ أُمَّتِيْ بِالسَّيْفِ، جَرىْ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ" (¬1). وروى ابن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، [عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] قال: "دَنَا رجُلٌ إلى بئرٍ، فنزَلَ فشَرِبَ منها، ¬
وعلى البئرِ كلبٌ يَلْهَثُ، فرَحِمَهُ، فَنَزَعَ أحدَ خُفَّيهِ فَسَقَاهُ، فَشَكَرَ اللهُ له، فأدخلَهُ الجنَّةَ" (¬1). وهو عند مالك في "الموطأ"، والشيخين، وأبي داود أبسط من هذا: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِيْ بِطَرِيْقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيْهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَىْ مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلَ الَّذِيْ بَلَغَ مِنِّيْ فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَ بِفِيْهِ حَتَّىْ رَقِيَ فَسَقَىْ الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللهَ لَه". فقالُوْا: يَا رَسُوْلَ اللهِ! إِنَّ لَنَا فِيْ الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فقال: "فِيْ كُلِّ كَبْدٍ حَرَّى رَطْبَةٍ أَجْرٌ" (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصْغي للهرة الإناء فتشرب، ثم يتوضأ بفضلها (¬3). ولا شك أنَّ هذا من الرحمة. وروى أبو داود الطيالسي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان ¬
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رحيمًا بالعيال (¬1). وأخرجه ابن عساكر، وقال: كان أرحم الناس بالصبيان والعيال (¬2). وروى البخاري في "الأدب المفرد"، وعنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيماً، وكان لا يأتيه أحد إلا وعده وأنجز له إن كان عنده (¬3). ويكفي في وصفه بالرأفة والرحمة قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك متخلقاً بهذه الأخلاق الكريمة، ولا تتم له إلا بالعلم، فمن جمع بين العلم والرحمة، وأجراهما مجراهما، فهو أفضل الناس اتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أرحم الأمة بالأمة؛ أي: بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى ابن جرير عن أبي صالح الحنفي رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ رَحِيْمٌ يُحِبُّ الرَّحِيْمَ، يَضَعُ رَحْمَتَهُ عَلَى كُلِّ رَحِيْمٍ". قالوا: يا رسول الله! إنَّا لنرحم أنفسنا وأموالنا وأزواجنا. ¬
قال: "لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ كُوْنُوْا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَىْ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] " (¬1). وقلت: [من الخفيف] أَرْحَمُ النَّاسِ بِالأَنامِ نَبِيٌّ ... وَصَفَ اللهُ بِالرَّؤُوفِ الرَّحِيمِ وَالَّذِي يَقْتَدِي بِهِ فِي هُداهُ ... فَهْوَ أَوْلَى الوَرَى بِوَصْفِ العَلِيمِ كُنْ رَؤُوفاً بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ... تَلْقَ رُحْمَى مِنَ الرَّحِيمِ العَظِيمِ وَقُساةُ القُلُوبِ أَحْرى مِنَ اللـ ... ــه بِبُعْدٍ عَنِ الْمَقامِ الكَرِيمِ وَذَوو الرَّحْمَةِ الكِرامُ حَرِيُّو ... نَ بِها وَهْيَ عَيْنُ دارِ النَّعِيمِ ومن شأن الطير اللازم لها ما وقعت الإشارة إليه بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك: 19]. قوله: {صَافَّاتٍ}؛ أي: أجنحتهن يبسطنها مصفوفة. {وَيَقْبِضْنَ}؛ أي: يضربن بأجنحتهن بسطاً وقبضاً، وبذلك يتيسر لها الطيران كما قال تعالى: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]. والتشبه بالطير، والطيران على وجهين: الأول: أن يكون بالهمة وطلب المعالي والمعارف كما قال ¬
الشيخ نجم الدين المعروف بالكبري: المريد سيار، والعارف طيار. والثاني: أن يكون على الحقيقة، وذلك لا يتهيأ إلا لبعض أولياء الله تعالى على وجه الكرامة وخرق العادة، ولا يكون ذلك بالتعمل، وإنما يكون إكراما من الله تعالى لمن شاء من عباده من أهل اليقين. وفي الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في عيسى عليه السلام - وقد ذكر أنه كان يمشي على الماء - قال: "لَو ازْدادَ يَقِيْناً لَمَشى فِيْ الْهَوَاءِ" (¬1). قال أبو علي الدقاق: أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك إلى مقام نفسه ليلة المعراج؛ أشار إليه الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" في باب اليقين. وقال في باب الكرامات: وحكيَ عن أبي عمران الواسطي قال: انكسرت بنا السفينة، وبقيت أنا وامرأتي على لوح، وقد ولدت في تلك الحالة صبية فصاحت بي، وقالت: يقتلني العطش. فقلت: هو ذا تَرَينَ حالنا. فرفعت رأسي فإذا رجل جالس في الهواء وفي يده سلسلة من ذهب وفيها كوز من ياقوت أحمر، وقال: هاك اشربا. قال: فأخذت الكوز، وشربنا منه، فإذا هو أطيب من المسك، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، فقلت: مَنْ أنت يرحمك الله تعالى؟ ¬
فقال: عبد لمولاك. فقلت: بم وصلت إلى هذا؟ فقال: تركت هواي لمرضاته، فأجلسني في الهواء، ثم غاب عني فلم أره. قال: وقيل: كان لإبراهيم بن أدهم صاحب يقال له: يحيى، يتعبد في غرفة ليس لها سلم ولا درج، فكان إذا أراد أن يتطهر يحرك باب الغرفة، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويمر في الهواء كأنه طائر ثم يتطهر، فإذا فرغ يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويعود إلى غرفته. وقد تقدم أن هذه الكلمة هي التي تقولها الملائكة عليهم السلام إذا أراد الواحد منهم هبوطاً أو صعوداً، وبها أقلت حملة العرش العرش بعد أن لم يقدروا عليه، ولهذه الكلمة سر عظيم، وهي من كنوز العرش، وقد سبق فضلها. ثم إن الكرامة بالمشي على الماء أو في الهواء لا ينبغي أن يتعجب من وقوعهما لبعض أولياء الله تعالى بعد أن تيسر ذلك للحوت والطير. وقد يتفق مثل هذا الخارق لغير ولي؛ إما على سبيل الاستدراج، وإما من باب السيمياء والإيهامات، وذلك لا فضلية فيه بخلاف ما كان على وجه الكرامة.
- ومن أحوال الطير أو أكثرها: المزاوجة.
قال القشيري: قيل لأبي يزيد - يعني: البسطامي -[فلان] يمشي ليلاً إلى مكة؟ فقال: الشيطان يمشي في ساعة من المشرق إلى المغرب. وقيل له: فلان يمشي على الماء؟ فقال: الطير يطير في الهواء، والحوت يمر على الماء. - ومن أحوال الطير أو أكثرها: المزاوجة. فكل طائر ذكر وله أنثى يعطف عليها وتعطف عليه بخلاف غيرها من البهائم؛ فإن الذكر منها يأتي كل أنثى، والأنثى منها تقبل كل ذكر، وممَّا شذ من الطير في ذلك الديك؛ فإنهم عدُّوا من خصاله التي لا تحمد أنه لا يحنو على ولده، ولا يألف زوجة واحدة، وهو أبله الطبع. ومن لطائف بعض الأدباء: [من السريع] قَدْ ماتَ دِيكٌ عِنْدَ جارٍ لَنا ... صاحَتْ دَجاجاتٌ عَلى قَبْرِهِ أَذانُه طَوَّلَ مِنْ عُمْرِهِ ... وَفِسْقُهُ قَصَّرَ مِنْ عُمْرِهِ وكذلك ينبغي للإنسان أن تكون شهوته مقصورة على حليلته، ولا يفضي بها إلى كل أنثى [ ... ] (¬1) كما تقدم. ثم ينبغي له أن يعطف على أهله ويستوصي بها، وللمرأة أن تعطف على بعلها، وتقوم بخدمته ورعايته. ¬
وفي الحديث المتقدم "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ النَسَاءِ مَنْ تَسُرُّكَ إِذَا أَبْصَرْتَ، وَتُطِيْعُكَ إِذَا أَمَرْتَ، وَتَحْفَظُ غَيْبَكَ فِيْ نَفْسِهَا وَمَالِكَ" (¬2). وروى الإمام أحمد، والنسائي بسند صحيح، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ النّسَاءِ الَّتِيْ تُسِرُّ زَوْجَهَا إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيْعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلا تُخَالِفُهُ فِيْ نَفْسِهَا وَلا مَالِهَا بِمَا يَكْرَه". وفي رواية: "وَتَحْفَظُهُ فِيْ نَفْسِهَا وَمَالِهِ" (¬3). وروى أبو داود نحوه - بسند صحيح - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬4). وروى ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "النِّسَاءُ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وإَذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِيْ مَالِهَا وَنَفْسِهَا" (¬5). ¬
- ومن أحوال الطير - خصوصا أشرافها -: علو الهمة، وبلوغ المآرب بالطيران.
- ومن أحوال الطير - خصوصاً أشرافها -: علو الهمة، وبلوغ المآرب بالطيران. وكذلك ينبغي للمؤمن أن تعلو همته وتتشوَّف بها إلى بلوغ مآربه من مرضاة الله بطاعته، فلا يرضى بمنزلة دون الجنة كما قيل لبعض العارفين: فلان يعبد الله؛ قال: إذاَ لا يرضى بمنزلة دون الجنة. وإلى قضاء حوائج إخوانه، ونفع ذويه بجاهه وماله، وطلب الإخوان في الله تعالى، وزيارتهم، وعيادة مرضى المسلمين، وتشييع جنائزهم، وتهنئتهم وتعزيتهم، وغير ذلك مما تبلغه همم الرجال. ولير نفسه إذا قصر عن بلوغ المآرب الأخروية والدنيوية بالهمة كأنه مقصوص الجناحين. ومن لطائف القاضي عياض ما أنشده له ابن خلكان: اللهُ يَعْلَمُ أَني حِينَ لَمْ أَرَكُمْ ... كَطائِرٍ خانَهُ رِيشُ الْجَناحَيْنِ فَلَوْ قَدِرْتُ رَكِبْتُ البَحْرَ نَحْوَكُمُ ... فَإِنَّ بُعْدَكُمْ عَني جَنَى حِينِي (¬1) وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي علي الروذباري رحمه الله تعالى قال: الخوف والرجاء كجناحي الطائر؛ إذا استويا استوى الطائر وتم طيرانه، وإذا انتقص واحد منهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا جميعاً صار الطائر في حد الموت، ولذلك قيل: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا (¬2). ¬
- ومن أحوال الطير والوحش: الإمساك يوم عاشوراء عن الطعام والشراب.
وقلت: [من مجزوء الرمل] إِنَّ خَوْفِي وَرَجائِي ... كَجَناحَيْنِ لِطَيْر بِهِما أَظْفَرُ مَهْما اعْـ ... ـــــــتَدَلا مِنِّي بِخَيْر - ومن أحوال الطير والوحش: الإمساك يوم عاشوراء عن الطعام والشراب. روى الأصبهاني في "الترغيب" عن قيس بن عباد رحمه الله تعالى قال: بلغني أن الوحش كانت تصوم يوم عاشوراء (¬1). وروى ابن قانع في "معجمه" عن سلمة بن أمية قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى يدي صرد فقال: "هَذَا أَوَّلُ طَيْرٍ صَامَ". وفي رواية: "أَوَّلُ طَيْرٍ صَامَ يَوْمَ عَاشُوْرَاءَ" (¬2). قال الحاكم: هذا حديث باطل، انتهى (¬3). وممن خرجه أبو موسى المديني، والخطيب (¬4). وروى الحكيم الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: الصرد أول طير صام (¬5). ¬
والصرد - بضم الصاد المهملة، وفتح الراء -: طائر فوق العصفور، نصفه أبيض ونصفه أسود، ضخم الرأس والمنقار، عظيم الأصابع، ممتنع لا يقدر عليه أحد. وروى الأصبهاني عن الفتح بن شخرف - وكان رحمه الله تعالى من الزهاد - قال: كنت أفُت للنمل خبزاً كل يوم، فلما كان يوم عاشوراء لم تأكل. وروى أبو موسى المديني عن رجل أتى البادية في يوم عاشوراء، فرأى قومًا يذبحون ذبائح، فسألهم عن ذلك، فأخبروه أن الوحوش صائمة، وقالوا: اذهب بنا نرى، فذهبوا إلى روضة فأوقفوه، فلما كان بعد العصر جاءت الوحوش من كل وجه، فأحاطت بالروضة رافعة رؤوسها، ليس شيء منها يأكل حتى إذا غابت الشمس أسرعت جميعاً فأكلت. قلت: لعل الحكمة في صوم الوحوش والطير يوم عاشوراء: أنَّ سفينة نوح عليه السلام استوت على الجُودي يوم عاشوراء، فهي تصوم خصوصية لذلك اليوم. كما روى الأصبهاني، وغيره عن أبي هريرة قال: إنَّ سفينة نوح عليه السلام استوت على الجودي يوم عاشوراء، فصام نوح عليه السلام ذلك اليوم، وصامته الحيوانات التي كانت معه في السفينة (¬1). ¬
ولا يلزم أن تصوم عاشوراء سائر الحيوانات؛ فإنها غير مكلفة، وإنما يصومه منها الطير والوحش، أو شيء منها بإلهام من الله تعالى لتبقى آثار معجزة نوح عليه الصلاة والسلام كما بقيت له آثار معجزة أخرى، وهي ما رواه الثعلبي بإسناده عن مالك بن سليمان الهروي: أن الحية والعقرب أتيا نوحاً عليه السلام، فقالتا: احملنا. قال: إنكما سبب الضرر والبلايا والأوجاع، فلا أحملكما. قالتا: احملنا؛ فإنَّا نضمن لك أن لا نضر أحداً ذَكَرَك، فمن قرأ حين يخاف مضرتهما: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 79 - 81] ما ضرتاه (¬1). وروى ابن عبد البر في "التمهيد" عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال: بلغني أن من قال حين يمسي: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79]؛ لم يلدغه عقرب (¬2). وروى ابن عساكر عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ حِيْنَ يُمْسِي: صَلَّى اللهُ عَلَىْ نُوْحٍ وَعَلَىْ نُوْحٍ السَّلامُ، لَمْ يَلْدَغْهُ عَقْرَب تِلْكَ اللَّيْلَة" (¬3). وكما بقيت آثار آية الله تعالى في هلاك قوم هود عليه السلام ¬
بالريح العقيم في الأيام الثمانية والليالي السبع الحُسُوم في عجز الشتاء بحيث يظهر فيها في كل عام الرياح الباردة والتغيرات الظاهرة. - ومن ذلك النحل؛ فإنَّ لها أخلاقاً مدحها الشرع، وأرشد الشارع - صلى الله عليه وسلم - إليها؛ فينبغي للمؤمن أن يتخلق بها. روى ابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "الكبير" عن أبي رزين - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّحْلَةِ لا تَأْكُلُ إِلا طَيِّبًا، وَلا تَضَعُ إِلا طَيِّبًا" (¬1). وروى الرامهرمزي في "الأمثال"، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكْلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا، وَوَقَعَتْ فَلَمْ تُفْسِدْ وَلَمْ تكْسِرُ، وَمَثَلُ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْقِطْعَةِ الْجَيِّدَةِ مِنَ الذهَبِ نَفَخَ عَلَيْهَا فَخَرَجَتْ طَيِّبَةً وَوزِنَتْ فَلَمْ تَنقُصْ" (¬2). ورواه البيهقي في "الشعب"، ولفظه: "مَثَلُ المْؤُمِنِ مَثَلُ النَّحْلَةِ إِنْ أَكَلَتْ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَإِنْ وَضَعَتْ وَضَعَتْ طَيِّبًا وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَىْ عُوْدٍ نَخْرٍ لَمْ تكْسِرْهُ" (¬3). ¬
قوله: "إِنْ أَكَلَتْ أَكَلَتْ طَيِّبًا"؛ أي: وكذلك المؤمن لا يأكل إلا طيباً وهو الحلال، وما لا مِنَّة فيه لمخلوق. "وإِذَا وَضَعَتْ وَضَعَتْ طَيِّبًا"؛ أي: وكذلك المؤمن لا يظهر من أقواله وأفعاله إلا الطيب، وهو الحسن المقبول عند الله تعالى وعند المؤمنين، لا يتكلم إلا بخير، ولا يتحرك إلا في خير، ولا يجد الناس منه إلا خيراً، ولا يقول في أحد إلا خيراً، ولا يظن في مؤمن إلا خيراً، ولا يضره قول المنافقين، ولا ذم من لا يذم بحق، أو من يتكلم بغرض النفس، أو من لا يعرف الحق من الباطل، كما لا يضر النحلة من يذمها باللسع ويعرض عن العسل، والنحلة لا تلسع أذية بل دفعاً للأذى عنها، وكذلك المؤمن لا يضره الانتصار بحق، والمؤمن لا ينوي إلا خيراً، ولا يريد بعمل ولا بقول إلا الخير، ولا يسلك إلا سبيل الخير، كما أن النحلة لا تخرج من بيتها إلا للاجتناء الطيب سالكة سبل ربها ذُلُلاً كما أمرها الله تعالى. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَىْ عُوْدٍ نَخْرٍ لَمْ تكْسِرْهُ"؛ أي: وكذلك المؤمن لين العَرِيكة لا يصيب الناس منه أذى، وإن استضعفهم فمؤنته خفيفة وكُلفته لطيفة، وسيرته نظيفة، ونفسه كريمة عفيفة. والمراد من الحديث: تهييج الأمة إلى التخلق بهذه الأخلاق التي لا يتحقق الإيمان إلا بها. وقال ابن الأثير: وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة حذق النحل وفطنته، وقلة أذاه وحقارته، ومنفعته وقنوعه، وسعيه في النهار، وتنزهه عن الأقذار، وطيب أكله؛ فإنه لا يأكل من كسب غيره، ونُحُولُه وطاعته
لأميره، وأنَّ للنحل آفات تقطعه عن عمله؛ منها: الظلمة، والغيم، والريح، والدخان، والماء، والنار، وكذلك المؤمن له آفات تفتره عن عمله: ظلمة الغفلة، وغيم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، وماء السمعة، ونار الهوى، انتهى (¬1). وروى أبو نعيم عن أشرس بن عبد الرحمن - وكان فاضلاً - عن وهب رحمه الله تعالى قال: مر عابد براهب، فأشرف عليه، فقال: منذ كم أنت بهذه الصومعة؟ قال: منذ ستين سنة. قال: وكيف صبرت فيها ستين سنة؟ فقال: من آفات الدنيا. ثم قال: يا راهب! كيف ذكرك للموت؟ قال: ما أحسب عبداً يعرف أنه لا يأتي عليه ساعة لا يذكر الموت فيها، وما أرفع قدماً إلا وأنا أظن أني لا أضعها حتى أموت، وما أضع قدماً إلا وأنا أظن أني لا أرفعها حتى أموت. قال: فجعل العابد يبكي، فقال له الراهب: هذا بكاؤك في العلانية، فكيف أنت إذا خلوت؟ فقال العابد: إني لأبكي عند إفطاري فأشرب شرابي بدموعي، وآكل طعامي بدموعي، ويصرعني النوم فأبل مضاجعي بدموعي. ¬
قال له: إنك أن تضحك وأنت معترف لله بذنبك خير لك من أن تبكي وأنت تمن على الله -عز وجل- بذلك. قال: فأوصني بوصية. قال: كن في الدنيا بمنزلة النحلة؛ إن أكلت أكلت طيباً، وإن وضعت وضعت طيباً، وإن سقطت على شيء لم تضرَّه ولم تكسره، ولا تكن في الدنيا بمنزلة الحمار؛ إنما همته أن يشبع ثم يرمي نفسه في التراب، وانصح لله نصح الكلب لأهله؛ فإنهم يجيعونه ويطردونه وهو يحرسهم. قال أبو عبد الرحمن الشرس: وكان طاوس رحمه الله تعالى إذا ذكر هذا الحديث بكى، ثم قال: عز علينا أن تكون الكلاب أنصح لأهلها منا لمولانا -عز وجل- (¬1). وفي هذا المعنى قال الشاطبي رحمه الله تعالى: [من الطويل] وَقَدْ قِيلَ: كُنْ كَالْكَلْبِ يُقْصِيهِ أَهْلُهُ ... وَلا يَأْتَلِي فِي نُصْحِهِمْ مُتَبَذِّلاً (¬2) ومما يناسب هذا ما رُوي عن بعض أهل الغلم: أن في الكلب عشر خصال ينبغي لكل مؤمن أن تكون فيه: - إن الكلب في الغالب جائع. ¬
- وليس له مكان معروف. - ولا ينام من الليل إلا قليلاً. - ويرضى من الأرض بأردأ الأماكن. - وإذا غُلِب على مكانه تركه وانصرف إلى غيره. - وإذا رحل من مكان لا يلتفت إليه. - وليس له ميراث. - ولا يترك صاحبه وإن جفاه. - وإذا ضرب وطرد ثم ألقي عليه كسرة أجاب ولم يحقد على ما مضى. - وإذا حضر الطعام جلس بعيداً عن الأكل (¬1). وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون مُؤثراً للجوع، غريباً عن الناس، متواضعاً، محتملاً للأذى، غير متأسف على شيء من الدنيا، مكثراً من قيام الليل في طاعة الله تعالى، فقيراً، ودوداً، ذليل النفس، عفواً، غير حقود ولا شره. وقال بعضهم: [من المتقارب] تَعَلَّمْتُ أَخْلاقَ هَذِي الكِلابِ ... وَمَنْ لِي بِأَمْثالِها فِي صِحابِي وَفاءٌ وَصَبْرٌ وَحِفْظُ الذمامِ ... وَذَبٌّ عَنِ الْخيلِ عِنْدَ الضِّرابِ ¬
وَيَسْهَرُ إِنْ نِمْتُ فِي قَفْرَةٍ ... وَيَحْفَظُنِي مِنْ ضَوارِي الذِّئابِ كِلابٌ وَلَكِنَّها فُضِّلَتْ ... عَلى بَعْضِ قَوْمٍ مَشَوْا فِي الثِّيابِ وقال ابن عبد ربه في "العقد": أهدى علي بن الجهم كلباً وكتب: [من المنسرح] اسْتَوْصِ خَيْراً بِهِ فَإِنَّ لَهُ ... عِنْدِي يَداً لا أَزالُ أَحْمَدُها يَدُلُّ ضَيْفِيَ عَلَيَّ فِي غَسَقِ اللَّـ ... ــــــــــيْلِ إِذا النَّارُ نامَ مَوْقِدُها (¬1) وأنشد غيره للشريف الموسوي: [من الكامل] أَنا كَالْكَلْبِ الَّذِي إِنْ تُوْلهِ ... شُكْرَ الْجَمِيلِ غَدا لِبِرِّكَ شاكِراً وَإِذا تَكَرَّرَ ذاكَ مِنْكَ إِلَيْهِ أَضْـ ... ــحَى عَنْكَ للأَعْداءِ سَيْفاً باتِراً وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن جعفر بن سليمان قال: رأيت مع مالك بن دينار كلباً، فقلت: ما تصنع بهذا؟ قال: هذا خير من جليس السوء (¬2). وروى القاسم بن سلمة - بإسناده - عن علقمة بن عبد الله قال: أول شيء اتخذ الكلب للحراسة نوح عليه السلام؛ قال: يا رب! أمرتني أن أصنع الفلك وأنا في صناعته، أصنع أياماً فيجيئون في الليل فيفسدون كل ما عملت، فمتى يلتئم لي ما أمرتني به؟ قد طال علي أمري. ¬
فأوحى الله تعالى إليه: يا نوح! اتخذ كلباً يحرسك. فاتخذ نوح عليه السلام كلباً، وكان يعمل بالنهار وينام بالليل، فإذا جاء قومه ليفسدوا بالليل نبحهم الكلب، فينتبه نوح عليه السلام، فيأخذ الهراوة، ويثب لهم فينهزمون، والتأم له ما أراد (¬1). والحراسة مطلوبة لأمور الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71]. وهذا منه، وأفضلها الحراسة في سبيل الله. وروى الترمذي وحسَّنه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَيْنَانِ لا تَمَسَّهُمَا النَّارُ؛ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" بسند جيد، عن معاوية بن حيدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثة لا تَرَى أَعْيُنَهُم النَّارَ؛ عَيْنٌ حَرَسَتْ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ غَضَّت عَنْ مَحَارِمِ اللهِ" (¬3). ¬
ومن لطائف الشريف أبي المختار أحمد بن محمد العلوي ما كتبه إلى بعض الأمراء: [من الوافر] مَرَرْتُ عَلى كِلابِ الصَّيْدِ يَوماً ... وَقَدْ أَلْقى الغُلامُ لَها سِخالاً فَلَوْ أَنِّي وَمَنْ يَحْوِيهِ دارِي ... كِلابُكَ لَمْ نَجِدْ أَبَداً هُزالاً فَقُلْ ما شِئْتَ فِي رَجُلٍ شَرِيفٍ ... يَكُونُ الكَلْبُ أَحْسَنَ مِنْهُ حالاً (¬1) وهذا الذي قاله حال كثير من الأمراء والأجناد الآن؛ يتعانون الصيد فيتخذون لها الكلاب، فربما أطعموها اللحوم والنفائس، وجلَّلوها بالجِلال، واستخدموا لها الرجال، وأعرضوا عن الأكباد الجائعة من الأناسي حتى أخص الناس بهم. وهذا من الغفلة التي أشار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "مَن اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ" (¬2). بل منهم من يخرج إلى الصحراء أياماً وليالي للصيد، ثم يبيتون في بعض القرى، فيكلفون أهلها أضعاف أضعافِ ما صادوه، وهذا ضلال مبين وظلم عظيم. وفي المثل: كلب أعتس خير من أسد ربض. وربما قالوا: كلب أعتس خير من أسد أندس. وربما قالوا: كلب عس. ¬
- ومن أوصاف النحل
وربما قالوا: كلب عائر خير من أسد رابض. والعائر: المتردد. قال الزمخشري: والعامة تقول: كلب طوَّاف خير من أسد رابض؛ يضرب في تفضيل الضعيف إذا تصرف في الكسب على القوي إذا تقاعس (¬1). ولاشك أنَّ الحركة في طلب الرزق مع الاعتماد على فضل الله والثقة به أولى بالمؤمن من أن يكون بطالاً؛ لا سيما إذا لم يشتغل بالعبادة. وفي المثل: كل طائر يصيد قدره. قال الزمخشري: يضرب في إقدام المرء على ما يقدر عليه (¬2). قلت: وأبلغ منه قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وسْعَهَا} [البقرة: 286]. وهذا استطراد حسن، ولنعد إلى ما يتعلق بالنحل. - ومن أوصاف النحل: ما أشار إليه سيدنا علي رضي الله تعالى عنه فيما رواه الدينوري عنه قال: كونوا في الناس كالنحل في الطير؛ إنه ليس شيء في الطير إلا وهو يستضعفها، ولو تعلم الطير ما في أجوافها لم يفعلوا ذلك بها. ¬
- ومن أوصاف النحل: الدوي في ذكر الله تعالى
وخالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم؛ فإن للمرء ما كسب، وهو يوم القيامة مع من أحب (¬1). وقد اشتمل هذا الكلام إلى إرشاد العبد إلى أن يكون في الظاهر مستضعفاً، مَهيناً لا يؤبه به، وفي باطن أمره يكون مقبلاً على أعمال الخير متعبداً بها، مخلصاً فيها صادقاً في كل أحواله وأنفاسه. روى الإمام أحمد، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوْعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَىْ اللهِ لأَبَرَّهُ" (¬2). ورواه الحاكم وصححه، وأبو نعيم، ولفظه: "رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِيْ طِمْرَيْنِ تَنْبُوْ عَنْهُ أَعْيُنُ النَّاسِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَىْ اللهِ لأَبَرَّهُ" (¬3). وروى البزار عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رُبَّ ذِيْ طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ بِهِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَىْ اللهِ لأَبَرَّهُ" (¬4). - ومن أوصاف النحل: الدوي في ذكر الله تعالى، وهو تسبيحها: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. ¬
- ومن خصال النحل: أنها لا ترعى إلا الطيب.
وقد أثنى الله تعالى على هذه الأمة بأن دويهم في مساجدهم كدوي النحل. روى الطبراني، وابن سعد، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه سأل كعب الأحبار: كيف تجد نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة؟ فقال كعب: نجده: محمد بن عبد الله، مولده بمكة، ومهاجره إلى طابة، ويكون ملكه في الشام، وليس بفحاش، ولا سخاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، أمته الحمَّادون يحمدون الله في كل سراء وضراء، ويكبرون الله على كل نجد، يوضؤون أطرافهم، ويأتزرون في أوساطهم، يصُفُّون في صلاتهم كما تصفون في قتالهم، دويهم في مساجدهم كدوي النحل، يسمع مناديهم في جو السماء (¬1). - ومن خصال النحل: أنها لا ترعى إلا الطيِّب. فالتشبه بها في ذلك يحصل بأكل الحلال. روى مسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمْرَ الْمُؤْمِنِيْنَ بِمَا أَمْرَ بِهِ الْمُرْسَلِيْنَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ¬
- ومن خصال النحل
وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَىْ السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبُسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" (¬1). ولطف بعضهم في قوله: [من مجزوء الكامل] رِزْقُ الضَّعِيفِ بِعَجْزِهِ ... فاقَ القَوِيَّ الأَغْلَبا كَالنَّسْرِ يَأْكُلُ جِيفَةً ... والنَّحْلُ يَأْكُلُ طَيِّباً - ومن خصال النحل: ما أشار إليه بعض حكماء اليونان فقال لتلامذته: كونوا كالنحل في الخلايا. قالوا: وكيف يكون النحل؟ قال: إنها لا تترك عندها بطالاً إلا أبعدته وأقصته لأنه يضيق المكان، ويفني العسل، ويعلِّم النشيطَ الكسلَ. قال في "حياة الحيوان": والنحل تجتمع فتقتسم الأعمال؛ بعضها يعمل الشمع، وبعضها يعمل العسل، وبعضها يستقي، وبعضها يعمل البيوت، انتهى. فينبغي للإخوان أن يكونوا كذلك متعاونين على الخير كما قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. ¬
- ومن النحل اليعسوب
ومن اللطائف: ما رواه الدينوري في "المجالسة" عن الربيع بن نافع قال: سمعت من يوسف بن أسباط رحمه الله تعالى حرفاً في الورع ما سمعت أحسن منه. قلت له يوماً وقد اتخذ كوائر نحل: يا أبا محمد! لو اتخذت حماماً؟ فقال: النحل أحب إلي من الحمام؛ الحمام تدخل الغريب، والنحل لا تداع الغريب يدخل فيها، فمن هنا اتخذت النحل (¬1). - ومن النحل اليعسوب: وهو كبير النحل ورئيسها الذي لا يتم أمرها إلا به، وكذلك المؤمنون لا بد لهم من إمام يقوم بمصالحهم، ويسد ثغورهم، ويدفع أعداءهم ومضارهم، وعليهم طاعته. روى الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: إن لكل شيء سيداً، حتى إنَّ للنحل سيداً (¬2). وفي المثل: صار الأمر إلى النزعة؛ أي: أصحاب الأناة مع وازع؛ ذكره في "الصحاح"، وتبعه في "القاموس" (¬3). وهذا المثل يضرب لاستقامة الأمر، ورده إلى من له أناة وتروٍ في ¬
الأمور؛ لأن من كان كذلك كان له حسن تدبير. وأورد الزمخشري في "المستقصى" المثل: صار الأمر إلى الوزعة؛ أي: الذي يكفون الجهلاء؛ يضرب في وقوع الأمر إلى من يضبطه (¬1). وقال في "القاموس": الوزعة - محرك -: جمع وازع، وهم الولاة المانعون من محارم الله، والوازع: الكلب، والزاجر، ومن يدبر أمور الجيش، ويرد من شذ منهم (¬2). قال في "الصحاح": وقال الحسن: لا بد للناس من وازع - أي: من سلطان - يكفهم؛ يقال: وزعت الجيش: إذا حبست أولهم على آخرهم. قال الله تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17]. وإنما سموا الكلب وازعاً؛ لأنه يكف الذئب عن الغنم، انتهى (¬3). قلت: وهذه من خصال الكلب المحمودة منه. وقال الزبر قان كما تقدم: [من البسيط] ¬
لطيفة
تَعْدُو الذِّئابُ عَلى مَنْ لا كِلابَ لَهُ ... وَتتَّقِي صَوْلَةَ الْمُسْتَأْسِدِ الضَّارِي * لَطِيفَةٌ: روى الطبراني عن أبي ذر، وسلمان، والديلمىُّ عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلِيٌّ يَعْسُوْبُ الْمُؤْمِنِيْنَ" (¬1). وهذا الحديث مما تمسك به الشيعة في تقديم علي - صلى الله عليه وسلم - بالخلافة، ولا دليل فيه إن صح؛ إذ المراد منه أن يكون علي رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين حين لا يكون أولى منه بولاية أمرهم، وإلا لكان أميرهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم لا يقولون بذلك إلا من زاغ من غُلاتهم. ثم لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه أولى من غيره، فقدم، ثم قدم أبو بكر عمر - رضي الله عنه - لأنه أولى من غيره، ثم قدم أهل الشورى عثمان رضي الله تعالى عنه وعنهم؛ لأنه أولى من علي - رضي الله عنه -، ثم لم يكن بعد عثمان أولى من علي رضي الله تعالى عنه، فصار يعسوب ¬
المؤمنين حينئذ. ومما يؤيد ذلك ما رواه الخطابي في "الغريب" بإسناده عن أسيد ابن صفوان قال: لما مات أبو بكر رضي الله تعالى عنه قام علي - رضي الله عنه - على باب البيت الذي هو مسجى فيه، فقال: كنت والله للدين يعسوباً؛ أولاً حين نفر الناس عنه، وآخراً حين فيلوا، طرت بعبائها، وفزت بحبائها، وذهبت بفضائلها، كنت كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف. قال الخطابي: اليعسوب: فحل النحل وسيدها؛ ضربه مثلاً لسبقه إلى الأحلام، ومبادرة الناس إلى قبوله، فصار الناس بعد تبعاً له كاليعسوب يتقدم النحل إذا طارت، فتتبعه طرائق مطردة. قال: وقوله: حين فيلوا؛ أي: حين فال رأيهم فلم يستبينوا الحق في قتال مانعي الزكاة، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فلمَّا رأوا منه الجد تابعوه. يقال: فال الرأي، وفيل: إذا لم يصب فيه، انتهى (¬1). وقوله: فيلوا، وفال، وفيل؛ الكل بالفاء. فانظر كيف وصف علي أبا بكر رضي الله تعالى عنهما بأنه كان يعسوباً أولاً بالسبق إلى الإيمان، وثانياً بالتثبث في الرأي حين رأى قتال مانعي الزكاة، فرأى بعض الصحابة خلاف رأيه، ثم رجعوا كلهم ¬
تنبيه
إلى قوله، وتبعوه فيه حتى عليُّ - رضي الله عنه -، كما تتبع النحل يعسوبها، وذلك إجماع منهم على طاعته، وإذعان منهم لخلافته. * تَنْبِيهٌ: يناسب ما سبق أن لا بد للناس من إمام يسوسهم، ويقوم بمصالحهم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه الإمام وكل قائم على قوم بالراعي لما كان في الناس من النسبة الحيوانية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" الحديث. وقال فيه: "وَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" (¬1)، فشبه الإمام بالراعي والرعية بما يرعى من الأنعام ونحوها. وكما أن في الأنعام ما له كمال الانقياد لراعيه، ومنها ما لا ينقاد له ولا يسمع زجره كذلك الناس. قال الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. فالرعية مطالبون بالطاعة لوالي أمرهم وراعيهم، والإمام ومَنْ يقوم مقامَه مُطالبٌ بالإحسان إليهم والنصيحة لهم. وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عطية بن قيس: أنَّ أبا مسلم الخولاني أتى معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهم، فقام بين السماطين، فقال: السلام عليك أيها الأجير! ¬
فائدة زائدة
فقال من عنده: صه. فقال: السلام عليك أيها الأجير! فقال معاوية: دعوا أبا مسلم؛ فإنه أعرف بما يريد. قال: فتقدم، فقال: السلام عليك أيها الأجير! فقال معاوية: وعليك السلام يا أبا مسلم. فقال: اعلم أنه ليس من راع استرعي رعية إلا وبأجره سائله عنها؛ فإن كان داوى مرضاها، وهَنأَ جرباها، وجبر كسراها، ورَدَّ أولاها على أخراها، ووضعها في أنف من الكلأ وصفوة من الماء، وفَّاه الله أجره، وإن كان لم يداو مرضاها، ولم يهنأ جرباها، ولم يجبر كسراها، ولم يرد أولاها على أخراها، ولم يضعها في أنف من الكلأ وصفوة من الماء، لم يوفه أجره؛ فانظر مَنْ أنت مِنْ ذلك يا معاوية. فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: يرحمك الله يا أبا مسلم! يرحمك الله يا أبا مسلم! يرحمك الله يا أبا مسلم (¬1)! * فائِدَةٌ زائِدَةٌ: كما ورد تمثيل المؤمنين بالنحلة - بالمهملة - ورد تمثيله بالنخلة - بالمعجمة -، وهي مصحفها. روى الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن ¬
- ومن ذلك النمل
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ؛ فَحَدِّثُوْنِيْ مَا هِيَ؟ ". ثم قال: "هِيَ النخْلَةُ" (¬1). ووجه التمثيل: أن المسلم لا يتعرى من جماله وكسوته؛ أعني: من أعماله الصالحة، ولا من أخلاقه الجميلة، ولا من آدابه الحسنة، كما لا تتعرى النخلة من أوراقها صيفاً ولا شتاءاً. وأيضاً فإنه ليس في النخلة شيء إلا ينفع؛ ثمرها، وجريدها، وكربها، وليفها، وقلبها. وكذلك المؤمن لا يكون منه إلا نفع كما روى الرامهرمزي - بسند جيد - عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلَ النَّخْلَةِ؛ إِنْ شَاوَرْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ سَاكَنْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ شَارَكْتَهُ نَفَعَكَ" (¬2). - ومن ذلك النمل: وإنما ذكرته مع الطير لأنه يطير آخر عمره كما تقدم. ¬
وفيه من الخصال المحمودة أنه ضعيف حتى يضرب به المثل، فيقال: أضعف من نملة. ومع ذلك لا يدع الحركة فيما ينفعه، ولذلك سمي نملاً لتنمله، وهو كثرة حركته. وله حيلة في طلب الرزق، فإذا وجد شيئاً أنذر إخوانه لتأتيه، ويقال: إنما يفعل ذلك رؤساؤها. والاعتبار في ذلك أن المؤمن ينبغي له أن يتحرك في نفع نفسه ومن يعوله على قدر حاله، ولا يكون كَلًّا على الناس، ولا يستبعد على نفسه الوصول إلى مطلوبه لضعفه كما قيل: [من السريع] اقْنَعْ فَلا تَبْقَى بِلا بلغَة ... فَلَيْسَ يَنْسَى رَبُّكَ النَّمْلَةْ إِنْ أَقْبَلَ الدَّهْرُ فَقُمْ قائِماً ... وَإِنْ تَوَلَّى مُدْبِراً نَمْ لَهْ وروى الدارقطني، والحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقْتُلُوْا النَّمْلَ؛ فَإِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ يَسْتَسْقِيْ فَإِذَا هُوَ بِنَمْلَةٍ مُسْتَلْقِيَةٍ عَلَىْ قَفَاهَا رَافِعَةً قَوَائِمَهَا تَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ، لا غِنَىْ لَهُ عَنْ فَضْلِكَ، اللَّهُمَّ لا تُؤَاخِذْنَا بِذِنُوْبِ عِبَادِكَ الْخَاطِئِيْنَ، وَاسْقِنَا مَطَرًا تُنْبِتْ لَنَا بِهِ شَجَرًا وَأَطْعِمْنَا ثَمَرًا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ارْحَلُوْا فَقَدْ كُفِيْنَا وَسُقِيْتُمْ بِغَيْرِكُمْ" (¬1). ¬
- ومن ذلك: الحوت، والسمك وهو ما لا يعيش إلا في الماء.
والاعتبار في ذلك أن العبد لا ينبغي له أن يكون مقصراً في الدعاء عند الطاعات والاضطرار، فيكون أعجز من هذه النملة، وإذا كان الله تعالى يجيب النملة ونحوها لدعائها فكيف بالقلوب المتوجهات إلى الله تعالى الناشئ توجهها إليه عن معرفته ومطالعة آياته بالعقول الصافية. وروى الترمذي وصححه، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان؛ أحدهما عابد، والآخر عالم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الأَرْضِ حَتَّىْ النَّمْلَةَ فِيْ جُحْرِهَا وَحَتَّىْ الْحُوْتَ فِيْ الْبَحْرِ لَيُصَلُّوْنَ عَلَىْ مُعَلِّمِيْ النَّاسِ الْخَيْرَ" (¬1). والاعتبار في ذلك أن العبد ينبغي له أن يعرف للعالم حقه ويصلي عليه؛ أي: يدعو له معظماً لشأنه؛ لأن الصلاة: الدعاء بالرحمة مقرونة بالتعظيم، ولا يكون أعجز من النمل والحوت. - ومن ذلك: الحوت، والسمك وهو ما لا يعيش إلا في الماء. وروى أبو نعيم عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: لما ¬
أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض كان فيها نسر وحوت في البحر، ولم يكن في الأرض غيرهما، فلما رأى النسر آدم وكان يأوي إلى الحوت ويبيت عنده كل ليلة، قال: يا حوت! لقد أهبط اليوم إلى الأرض شيء يمشي على رجليه ويبطش بيديه. فقال له الحوت: لئن كنت صادقاً ما لي منه في البحر منجى ولا لك في البر [منه مَهْرب] (¬1). وهذا بإلهام من الله تعالى لهما. والاعتبار في ذلك أنَّ ابن آدم كذلك ألوف يألف إلى جنسه، فيجتمعان ويتشاكيان، ويتحاكيان، فينبغي أن لا تكون شكايته وحكايته إلا في خير وفيما ينفع. وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُلَمَاءُ هَذهِ الأُمَّةِ رَجُلانِ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا فَبَذَلَهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ طَمَعًا وَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ ثَمَنًا فَذَلِكَ تَسْتَغْفِرُ لَهُ حِيْتَانُ الْبَحْرِ وَدَوَابُّ الْبَرِّ وَالطَّيْرُ فِيْ جَوِّ السَّمَاءِ، وَيَقْدُمُ عَلَىْ اللهِ تَعَالَىْ سَيِّدًا شَرِيْفًا حَتَّىْ يُرَافِقَ الْمُرْسَلِيْنَ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا وَشَرَىْ فِيْهِ ثَمَنًا فَذَلِكَ يُلْجَمُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُنَادِيْ مُنَادٍ: هَذَا الَّذِيْ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا وَاشْتَرَىْ بِهِ ثَمَنًا ¬
وَكَذَلِكَ حَتَّىْ يَفْرُغَ مِنَ الْحِسَابِ" (¬1). والاعتبار في ذلك أن الإنسان ينبغي له أن يحب العلماء العاملين المخلصين، ويدعو لهم، ويتجنب علماء السوء، ويعْرِض عنهم؛ فإن قربهم فتنة. روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن أبي عمران الجوني عن هَرِم بن حيان رحمه الله تعالى أنه قال: إياكم والعالمَ الفاسق. فبلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فكتب إليه وأشفق منها: ما العالم الفاسق؟ فكتب إليه هرم: والله يا أمير المؤمنين ما أردت به إلا الخير؛ يكون إمام يتكلم بالعلم ويعمل بالفسق، فيشبِّه على الناس، فيضِلُّون (¬2). وعن الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى قال: قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فاحتبسني عنده حولاً، ثم قال: يا أحنف! إني قد بلوتك وخبرتك، فوجدت علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك، وإنا كنا لنتحدث أن مما يهلك ¬
هذه الأمة كل منافق عليم. ثم كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أن أَدْنِ الأحنف منك، واسمع منه، وشاوره (¬1). وفي رواية عن الأحنف: وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: كنت عنده جالساً فقال: إن هلكة هذه الأمة على يدي كل منافق عليم، وقد رمقتك فلم أر منك إلا خيراً، فارجع إلى قومك؛ فإنهم لا يستغنون عن رأيك (¬2). وروى الإمام أحمد في "المسند" عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَىْ أُمَّتِيْ كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيْمِ اللِّسَانِ" (¬3). وأقول: [من الوافر] عَلَيْكَ بِصُحْبَةِ العُلَماءِ إِذْ هُمُ ... هُداةُ النَّاسِ فِي ظُلَمِ الزَّمانِ عَنَيْتُ العامِلِينَ وَلَسْتُ أَعْنِي ... مِنَ العُلَماءِ عَلاَّمَ اللِّسانِ يُنافِقُ مَنْ يَراهُ لأَجْلِ دُنْيا ... ويمْعِنُ فِي التَّفَصُّحِ وَالبَيانِ ¬
- ومن ذلك: الإبل.
فَإِنْ فَتَّشْتَ عَنْ أَعْمالِهِ لا ... تَجِدْهُ أخاً لأَعْمالٍ حِسانِ رآهُ النَّاسُ فَافْتُتِنُوا بِما قَدْ ... رَأَوْا مِنْهُ أَشَدَّ الافْتِتانِ وقرأت في بعض المجاميع حديثاً: "الْمُؤْمِنُ فِي الْمَسْجِدِ كَالسَّمَكِ فِيْ الْمَاءِ، وَالمُنَافِقُ فِيْ الْمَسْجِدِ كَالطَّيْرِ فِيْ الْقَفَصِ" (¬1). ولم أجده في كتب الحديث مع التطلُّب، ولكن معناه صحيح يشهد له الحديث المتقدم: "إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإيْمَانِ" (¬2). وفي كتاب الله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 18]. - ومن ذلك: الإبل. وهي توصف بالحنين، وهو الشوق وتوقان النفس، وهي تحن إلى أوطانها، وتشتاق إلى معاطنها حتى قالوا في المثل: لا أفعله ما حنت الإبل. وقالوا: ما حنت النيب، وهي جمع ناب، وهي المسنة من النوق (¬3). ¬
وقال الشريف الرضي يخاطب ناقته: [من الطويل] تَحِنِّينَ إِلاَّ أَنَّ بِي لا بِكِ الْهَوى ... وَلِي لا لَكِ اليوْمَ الْخليطُ المودَّعُ وَباتَتْ تَشَكَّى تَحْتَ رِجلي ضَمانهُ ... كِلانا إِذاً يا ناقُ نضوٌ مُفَجَّعُ أَحَسَّتْ بِنارٍ فِي ضُلُوعِي فَأَصْبَحَتْ ... يَخُبُّ بِها حر الغَرامِ ويوْضِعُ وأجاد مهيار في قوله: [من الطويل] إِذا فاتَها رَوْضُ الْحِمى وَجُنُوبُه ... كَفاها نَسِيمُ البابِلِيِّ وَطِيبُهُ فَدَعْها تَكْسُ العَيْشَ طوعَ قُلُوبِها ... فأمرَعُ ما تَرْعاهُ ما تَسْتَطِيبُهُ وَإِنَّ الثُّمادَ البرض فِي عِزِّ قَوْمِها ... لأَنْقعُ مِنْ جمرٍ يذل غَرِيبُهُ يَلُومُ عَلى نَجدٍ ضنينٍ بدمعةٍ ... إِذا فارقَ الأَحْبابَ جفتْ غُروبُه وما النَّاسُ إِلاَّ مَنْ فُؤادِي فؤادهُ ... لأَهْلِ الغَضا أَوْ مَنْ حَبِيبي حبيبُه
ومما يمدح به الإنسان حنينه إلى الأوطان حتى قيل: حب الوطن من الإيمان؛ وليس بحديث. قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه. وقال أيضاً: قالت حكماء الهند: ثلاثة أصناف من الحيوان تحن إلى الأوطان: الإبل تحن إلى أوطانها وإن كان عهدها بها بعيداً، والطير إلى وَكْره وإن كان موضعه مجدباً، والإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر له نفعاً، رواهما الدينوري في "المجالسة" (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة فبلغ الجحفة، اشتاق إلى مكة، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]: إلى مكة (¬2). وروى البخاري، والنسائي، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]؛ قال: إلى مكة كما أخرجك منها (¬3). وروى الخطابي في "الغريب" عن الزهري قال: قدم أُصَيل ¬
- بالتصغير - الغفاري على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة قبل أن يضرب الحجاب، فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها: كيف تركت مكة؟ قال: اخضرت جنباتها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وانتشر سلمها ... الحديث. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَسْبُكَ يَا أُصَيْلُ! لا تَحْزُنِّيْ" (¬1). وروى ابن الجوزي في "مثير الغرام الساكن" عن الأصمعي، عن أبي بكر الهذلي، عن رجال من قومه: أن أصيل الهذلي قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، فقال له: يا أصيل! كيف تركت مكة؟ قال: يا رسول الله! تركتها وقد ابيضت بطائحها، واخضرت مسيلاتها، وأمشر سلمها، وأغدق إذخرها، وأحجن ثمامها. فقال: "يَا أُصَيْلُ! دعِ الْقُلُوْبَ تَقِرُّ، لا تُشَوِّقْهُمْ إِلَىْ مَكَّةَ" (¬2). والمسيلات: جمع مسيل، وهي الشعاب. والأشار: خروج ورق الشجر وأغصانها، أو إمشار المسلم: إثماره ثمراً أحمر. وإغداق الإذخر: اجتماع أصوله. وإحجان الثمام: تعقفه؛ يقال: أحجن الثمام: إذا خرجت ¬
- ومن الإبل: الجمل الأنوف
حجنته، وهي خوصه. - ومن الإبل: الجمل الأنوف، ويقال له: الآنف - بالمد، وبالقصر - وهو الذلول، أو المخزوم الذي لا يمتنع على قائده، بل ينقاد للولد الصغير؛ وأصله من: أنف - كعَلِمَ - إذا اشتكى أنفه من البرة، فهو أنف - كتَعِب -؛ عن ابن السكيت (¬1). وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون منقاداً لطاعة الله وأوامره. وفي حديث العرباض بن سارية المتقدم - رضي الله عنه -: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون ... الحديث. [وفي رواية]: "وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ كَالْجَمَلِ الآنِفِ حَيْثُ قِيْدَ انْقَادَ، وَإِنَّ أُنِيخَ عَلَىْ صَخْرَةِ اسْتنَاخَ". رواه أبو داود، وغيره (¬2). وروى الإمام عبد الله بن المبارك عن مكحول مرسلاً، والعقيلي، والبيهقي في "الشعب"، والديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُؤْمِنُوْنَ هَيِّنُوْنَ لَيِّنُوْنَ كَالْجَمَلِ الآنِفِ؛ إِنْ قِيْدَ انْقَادَ، وَإِنْ أُنِيْخَ عَلَىْ صَخْرَةِ اسْتَنَاخَ" (¬3). ¬
تنبيه
* تنبِيهٌ: الجمل الذكر، والناقة الأنثى، والبعير يقال لكل منهما. قال أبو عبيد: وسُمع: صرعتني بعيري، وشربت من لبن بعيري، وإنما يقال له: بعير إذا أجدع (¬1). وإنما وقع تمثيل المؤمن بالجمل الأنف لأن الجمل الذكر إذا كان ينقاد فكيف بالناقة، فالتمثيل بالجمل أبلغ. وفي المثل: لكل أناس في بعيرهم خبر؛ أي: كل قوم يعلمون من صاحبهم ما لا يعلمه منه الغرباء. وقال الزمخشري: قاله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في العلباء بن الهيثم السدوسي وقد وفد عليه في هيئة رَثَّة، وكان دميماً أعور، فلما كلمه أعجبه بجودة لسانه وحسن بيانه؛ أراد أن قومه لم يسودوه إلا لمعرفتهم به (¬2). وفي المثل أيضاً: القرم من الأفيل، والأفيل يجمع على إفال - كجمال - وأفايل، وهي صغار الإبل بنات المخاض ونحوها. ¬
- ومن أخلاق الإبل
والقرم، ويقال له: مقرم - ككرم -: هو البعير لا يحمل عليه ولا يذلل، وإنما هو للفحلة. قال في "الصحاح": ومنه قيل للسيد: قَرْمٌ مُقْرَم تشبيهاً به، انتهى (¬1). - ومن أخلاق الإبل: أنها تميل إلى السماع ميلاً كليا بحيث تكتفي به عن الطعام والشراب، وتتأثر منه تأثراً تستخف منه الأعمال الثقيلة، وتستقصر لقوة نشاطها في السماع المسافات الطويلة بحيث تسكر من السماع، وتتوله منه عن المشقات الهائلة بحيث تمد أعناقها، وتسرع في السير سراعاً حثيثاً إذا سمعت صوت الحادي. قال جحظة البرمكي في ذلك: [من مجزوء الكامل المرفّل] إِنْ كُنْتَ تُنْكِرُ أَنَّ فِي الأَلْـ ... ــــــــــــــــحانِ فائِدَةً وَنَفْعاً فَانْظُرْ إِلَى الإِبِلِ اللَّوا ... تِي هُنَّ أَغْلَظُ مِنْكَ طَبْعاً تُصْغِي إِلَى صَوْتِ الْحُدا ... ةِ فَتَقْطَعُ الفَلَواتِ قَطْعاً مَعْ أَنهمْ يُظْمُونهَا ... عَنْ مائِها خَمْساً وَرَبْعاً قال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى في "رسالته": واستلذاذ القلوب واشتياقها إلى الأصوات الطيبة، وارتياحها إليها ما لا يمكن جحوده؛ فإن الطفل يسكن إلى الصوت الطيب، والجمل يقاسي ¬
تعب السفر ومشقة الحمولة، فيهون عليه بالحداء. قال الله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]. ثم قال: أنا أبو حاتم السجستاني، أنا عبد الله بن علي السراج، قال: حكى محمد بن داود الدينوري الرقي قال: كنت في البادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب، فأضافني رجل منهم، فرأيت غلاماً أسود مقيداً هناك، ورأيت جمالاً ماتت بفناء البيت، فقال لي الغلام: أنت الليلة ضيف، وأنت على مولاي كريم، فتشفع لي؛ فإنه لا يردك. فقلت لصاحب البيت: لا آكل طعامك حتى تخلي هذا العبد. فقال: هذا الغلام قد أفقرني وأتلف مالي. فقلت: ما فعل؟ فقال: له صوت طيب، وكنت أعيش من ظهر هذه الجمال، فحملها أحمالاً ثقيلة، وحدا لها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في يوم واحد، فلما وصلت ماتت كلها. ولكن قد وهبته لك، وحل عن العبد. فلما أصبحت اشتهيت أن أسمع صوته، وسألته ذلك، فأمر الغلام أن يحدو على جمل كان هناك على بئر يستقي عليه، فحدا، فهام الجمل على وجهه، وقطع حباله، ولم أظن أني سمعت صوتاً أطيب منه، ووقعت على وجهي حتى أشار إليه بالسكوت. وأجاد الشيخ عمر بن الفارض رحمه الله تعالى في شرح ما أشار
إليه القشيري من سكون الطفل إلى الصوت الطيب بقوله: [من الطويل] ويُنْبِيْكَ عَنْ شَأْنِ الوَليدِ وَإِنْ نَشا ... بَلِيداً بِإِلْهامٍ كَوَحْيٍ وَفِطْنَة إِذْ إِنَّ مَنْ شَدَّ القِماطَ وَحنَّ فِي ... نَشاطٍ إِلَى تَفْرِيجِ هَمٍّ وَكُرْبَةِ يُناغِي فَيُلْقي كُلَّ كَلِّ أصابَهُ ... ويصْغِي لِمَنْ ناغاهُ كَالْمُتَنَصِّتِ وَيُنْسِيهِ مُرَّ الْخَطْبِ حُلْو خِطابِهِ ... وَيُذْكِرُهُ نَجْوى عُهودٍ قَدِيْمَةِ وَيُعرِبُ عَنْ حالِ السَّماعِ بِحالِهِ ... فَيثبُتُ لِلرَّقْصِ انْتفاءَ النقِيصَةِ إِذا هامَ شَوقاً بِالْمُناغِي وَهَمَّ أَنْ ... يَطِيرَ إِلَى أَوْطانِهِ الأَوَّلِيَّة يُسَكَّنُ بِالتَّحْرِيكِ وَهْوَ بِمَهْدِهِ ... إِذا ما لَهُ أَيْدِي مُرَبيِّهِ هَزَّتِ وَجذب بِوَجْدٍ آخِذي عِنْدَ ذِكْرِها ... بِتَحْبِيرِ قالٍ أَوْ بِأَلْحانِ صَيِّتِ
كَما يَجِدُ الْمَكْرُوبُ فِي نَزْعِ نَفْسِهِ ... إِذا ما لَهُ رُسْلُ الْمَنايا تَوَفَّتِ فَواجِدُ كَرْبٍ فِي سِياقٍ لِفُرْقَةٍ ... كَمَكْرُوبِ وَجْدٍ لاشْتِياقٍ لِرِفْقَةِ فَذا نَفْسُهُ رَقَّتْ إِلَى ما بَدَتْ بِهِ ... وَرُوحِي تَرَقَّتْ لِلْمُبادِي الْعَلِيَّةِ وذكر ابن قتيبة في "عيون الأخبار": أن الفهد يصاد بضروب؛ منها الصوت الحسن؛ فإنَّه يصغي إليه إصغاءً شديداً (¬1). وذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب "الأغاني": أن مخارق المغني خرج يوماً يتنزه مع إخوانه وفي يد أحدهم قوس مذهبة، فقال لصاحب القوس: أرأيت إن تغنيت صوتاً فعطفت عليه هذه الظباء، أتدفع إلي القوس؟ فقال: نعم. فاندفع يغني: [من المجتث] ماذا تَقُولُ الظِّباءُ ... أَفُرْقَةٌ أَمْ لِقاءُ أَمْ عَهْدُها بِسُلَيْمَى ... وَفِي البَيانِ شِفاءُ مَرَّتْ بِنا سانِحاتٍ ... وَقَدْ دَنا الإِمْساءُ ¬
فَما أَحارَتْ جَواباً ... وَطالَ مِنَّا العَناءُ قال: فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه مصغية إلى صوته، فتعجب مَنْ حَضَرَ من رجوعها ووقوفها، وأخذ القوس (¬1). قلت: وأنا لقد اتفق لي مرة أني كنت ومعي جماعة من إخواني الفقراء إلى الله تعالى في بعض بساتين الربوة بدمشق، ومعنا رجل حسن الصوت، مشهور بمعرفة الألحان والأنغام، أستاذ في بابه، وكان يتغنى وينشد من كلام القوم، فإذا أخذ في ألحانه أصغت إليه جميع الأطيار في ذلك البستان كأنها تستمع إليه، فإذا فرغ من نوبته أخذت سواجعها في نوبتها تغرد ما شاء الله تعالى، فلما أفقت عليها، وتعرفت أمرها بإصغائي إليها نبهت أصحابي، فاقبلوا على تبين ذلك، فاستبان لهم لا يشكون فيه، وقلنا للمنشد: أنشد، فلما أنشد سكت السواجع، وأصغت إليه سوامع، فما زال هذا ديدنها وديدننا حتى فرغ ذلك النهار، وكان هذا من عجيب الاتفاق. فلا بأس أن يصغي الإنسان إلى السماع الطيب الذي لا يحرم ولا يكره، ولا يكون أعجز من الإبل والظباء، والفهود والأطيار، والبهائم؛ فإن العرب قد أحدثت لها أسماء أصوات تُفهمها ما تريده منها من سير أو شرب، أو وقوف أو تحول من طريق إلى طريق، أو انزجار عن شيء إلى غير ذلك. ¬
قال في "الإحياء": ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظة الطبع على الجمال والطيور، بل على سائر البهائم؛ فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة، ولذلك كانت الطير تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته (¬1). وقال الشيخ شمس الدين بن الجزري في "النشر": أخبرني جماعة من شيوخي، وغيرهم إخباراً بلغ التواتر عن شيخهم الإمام تقي الدين محمد بن أحمد الصائغ المصري - وكان أستاذاً في التجويد - أنه قرأ يوماً في صلاة الصبح: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20]، وكرر هذه الآية، فنزل طائر على رأس الشيخ يسمع قراءته حتى أكملها، فنظروا إليه فإذا هو هدهد (¬2). قلت: وحدثنا شيخنا فسح الله تعالى في مدته عن والده الشيخ الإمام العلامة يونس بن عبد الوهاب العيثاوي: أنه كان إذا قرأ القرآن في داره تبادر لسماع قراءته ديك كان عندهم، فيأتي حتى يقف أمام الشيخ منصتاً للقراءة، يرفع رجلاً ويضع أخرى، ولا يمل - وإن طالت القراءة وامتدت - حتى يتم الشيخ القراءة، فيضرب بجناحيه، ويصقع، ثم ينصرف. قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته": وقيل: مات ¬
بعض ملوك العجم، وخلَّفَ ابناً صغيراً، فأرادوا أن يبايعوه، فقالوا: كيف نصل إلى عقله وذكائه؟ فتوافقوا على أن يأتوا بقوَّال يقول شيئاً، فإن أحسن الإصغاء عَلِموا كياسته، فأتوا بقوال، فلما قال القوال شيئاً ضحك الرضيع، فقبلوا الأرض بين يديه، وبايعوه. وقال فيها أيضاً: حكى إسماعيل بن علية قال: كنت أمشي مع الشافعي رضي الله تعالى عنه وقت الهاجرة، فجُزنا بموضع يقول فيه واحد شيئاً، فقال: مِلْ بنا إليه. ثم قال: أيطربك هذا؟ فقلت: لا. فقال: ما لك حِسٌّ؛ أي: إحساس. والمعروف أن القصة إنما وقعت لإبراهيم بن إسماعيل بن علية كما ذكره ابن السبكي في ترجمة المزني عنه (¬1). ورواه أبو علي بن الحسن بن الحسين بن حمكان في "مناقب الشافعي" عن المزني قال: مررنا مع الشافعي - رضي الله عنه - وإبراهيم بن إسماعيل بن علية على دار قوم وجارية تغنيهم: [من الطويل] خَلِيلَيَّ ما بالُ الْمَطايا كَأَنَّنا ... نرَاها عَلى الأَعْقابِ بِالقَوْمِ تَنْكُصُ ¬
- ومن الإبل: البزل
فقال الشافعي: ميلوا بنا نسمع. فلما فرغت، قال الشافعي لإبراهيم بن علية: أيطربك هذا؟ قال: لا. قال: فما لَكَ حس (¬1). والمجال في هذا الباب متسع، وللهو فيه في السماع مشارب وموارد، وقد وفينا بجملة من ذلك في كتابنا "منبر التوحيد". - ومن الإبل: البُزْل، ويقال لها: البُزَّل - بالتشديد -. والبوازل: جمع بازل، وهو البعير الذي فطر نابه؛ يضرب به المثل للقوي في شأنه (¬2). وحكي أن سفيان بن عيينة ذكر له مالك بن أنس، فقال: ما مثلنا ومثل مالك إلا كما قال القائل: وَابْنُ اللَّبونِ إِذا ما لُزَّ فِي قَرَنٍ ... لَمْ يَسْتَطِعْ صولَةَ البُزْلِ القَناعِيسِ (¬3) ¬
وروى الخطابي في "الغريب" عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: رأيت علياً رضي الله تعالى عنه يؤم بدن، وهو يقول: [من الرجز] يا بُزلَ عامَيْنِ حديثٌ سِنِّي سَنَحْنَحُ اللَّيْلِ كَأَنِّى جِنِّي لِمِثْلِ هَذا وَلَدَتْنِي أُمِّي وفي رواية: سمعمع الليل (¬1). وأراد علي رضي الله تعالى عنه أنه مستجمع الشباب، مستكمل القوة في الجهاد والطاعة كالبازل الذي تم له سن شبابه، وكملت قوته من الإبل. قال في "القاموس": رجل سنحنح: لا ينام الليل (¬2)، والسمعمع: الداهية، والخفيف السريع، ويوصف به الذئب (¬3). ومن ذلك الخيل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْخَيْلُ مَعْقُوْدٌ فِيْ نَوَاصِيْهَا الْخَيْرُ إِلَىْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ". رواه الإمامان مالك، وأحمد، والشيخان، والنسائي، وابن ماجه عن عروة البارقي رضي الله تعالى عنه (¬4). ¬
زاد في حديث: قيل: يا رسول الله! وما ذاك؟ قال: "لِلْغَزْوِ وَالْغَنِيْمَةِ". قال في "حياة الحيوان": الفرس أشبه الحيوان بالإنسان لما يوجد فيه من الكرم، وشرف النفس، وعلو الهمة. ومن أخلاقه الدالة على شرف نفسه: أنه لا يأكل علف غيره، انتهى. وكذلك ينبغي للإنسان أن ينزه نفسه إلى التطلع إلى ما في أيدي الناس، ولا يتعدى على مال غيره بالظلم والعدوان، بل يكتفي بما قُسم له. روى الخطيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَرَفُ الْمُؤْمِنِ صَلاتُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ" (¬1). وللجوهري صاحب "الصحاح": [من السريع] لَوْ كانَ لِي بُدٌّ مِنَ النَّاسِ ... قَطَعْتُ حَبْلَ النَّاسِ بِاليَاسِ العِزُّ فِي العُزْلَةِ لَكِنَّهُ ... لابُدَّ لِلنَّاسِ مِنَ النَّاسِ (¬2) ومن كرم الفرس: أنه يُعاتب فينجع فيه العتاب. روى الطبراني في "الكبير"، والضياء المقدسي في "المختارة" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَاتِبُوْا الْخَيْل؛ ¬
فَإِنَّهَا تُعْتَبُ" (¬1). وهو بضم أوله؛ أي: ترجع إلى ما يرضي صاحبها؛ تقول: استعتبت فلاناً فأعتبني؛ أي: أرضاني، وأعتبني فلان: إذا عاد إلى مسرتك راجعاً عن الإساءة. والتشبه في ذلك بأن يرجع الإنسان إلى مرضاة حميمه - أي: صديقه - إذا عاتبه على أمر كرهه منه. قال في "الصحاح": قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة؛ يقال: عاتبه معاتبة. قال الشاعر: [من الوافر] أُعاتِبُ ذا الْمَوَدَّةِ مِنْ صَدِيقٍ ... إِذا ما رابَنِي مِنْهُ اجْتِنابُ إِذا ذَهَبَ العِتابُ فَلَيْسَ وِدٌّ ... وَيَبْقَى الوِدُّ ما بَقِيَ العِتابُ ويقال: إذا تعاتبوا أصلح بينهم العتاب (¬2). ¬
ومن لطائف الشيخ أبي إسحاق الشيرازي: [من مخلَّع البسيط] إِذا تَخَلَّفْتَ عَنْ صَدِيقِ ... وَلَمْ يُعاتِبْكَ فِي التَّخَلُّفْ فَلا تَعُدْ بَعْدَها إِلَيْهِ ... فَإِنَّما وِدُّهُ تَكَلُّفْ (¬1) وروى الإمام عبد الله بن المبارك، والإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان في "صحيحه"، وأبو نعيم، والبيهقي، والضياء في "المختارة" عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَالإِيْمَانِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِيْ آخِيَّتِهِ يَجُوْلُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَىْ آخِيَّتِهِ، وَإِنْ الْمُؤْمِنَ يَسْهُوْ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَىْ الإِيْمَانِ؛ فَأَطْعِمُوْا طَعَامَكُمْ الأَتْقِيَاءَ، وَأَدْلُوْا مَعْرُوْفَكُمْ الْمُؤْمِنِيْنَ" (¬2). وروى الرامهرمزي بسند صحيح، عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَالإِيْمَانِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِيْ آخِيَّتِهِ يَجُوْلُ مَا يَجُوْلُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَىْ آخِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَقْرِفُ مَا يَقْرِفُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَىْ الإِيْمَانِ، فَأَطْعِمُوْا طَعَامَكُمْ الأَبْرَارَ وَأَدْلُوْا مَعْرُوْفَكُمْ الْمُؤْمِنِيْنَ" (¬3). ¬
- ومن أحوال الخيل
والآخية - ويمد، ويخفف -: عود في حائط، أو في حبل يدفن طرفاه في الأرض، ويبرز طرفه كالحلقة تشد فيها الدابة، وجمع: أخايا، وأخاي؛ قاله في "القاموس" (¬1). والمعنى في الحديث: أن المؤمن يبعد عن ربه تعالى بالذنوب والإيمان ثابت في قلبه، كما أن الفرس يبعد عن آخيته ما طال رَسَنُه، ثم يعود إلى آخيته الثابتة. - ومن أحوال الخيل: أن تنقسم انقسام الإنسان من حيث النسب، وتعتبر بأنسابها. قال أهل اللغة: إذا كان الفرس كريم الأصل رائع الخلق، مستعداً للجري فهو عتيق وجواد، فإذا استوفى أقسام الكرم وحسن المنظر والمخبر، فهو طرف - بالكسر - وبذلك يوصف الإنسان. قال في "الصحاح": والطرف أيضاً: الكريم من الفتيان (¬2). والذي تلخص من "القاموس": أن الطرف - بالفتح مع إسكان الثاني، وفتحه - بمعنى الكريم، وبالكسر: الكريم الطرفين (¬3). قال في "الصحاح": ويقال: فلان كريم الطرفين؛ يراد به نسبُ أبيه ونسب أمه، انتهى (¬4). ¬
وإذا اختلف أبواه فهو إما هجين، وإما مقرف. قال في "الصحاح": والهُجنة في الناس وفي الخيل إنما تكون من قبل الأم، فإذا كان الأب عتيقاً والأم ليست كذلك كان الولد هجيناً. قال الراجز: [من الرجز] ثَلاثَةٌ أَيُّهُمْ تلتمسُ ... العَبْدُ وَالْهَجِينُ وَالفَلَنْقَسُ قال: والإقراف من قبل الأم. قالت هند: فَإِنْ نُتِجتْ حُرًّا كَرِيْماً فَبِالْحرى ... وإنْ يَكُ إقرافٌ فَمِنْ قِبَلِ الفَحْلِ (¬1) وقال في باب السين: الفلنقس: الذي أبوه مولى وأمه عربية، وأنشد: العَبْدُ وَالْهَجِينُ والفلنقسُ ... ثَلاثَةٌ فَأَيُّهُمْ تَلْتَمِسُ قال: وقال أبو الغوث: الفلنقس: الذي أبوه مولى وأمه مولاة. والهجين: الذي أبوه عتيق وأمه مولاة. والمقرف الذي أبوه مولى وأمه ليست كذلك، انتهى (¬2). وقال في "القاموس": الفلنقس - كسَمَنْدَل -: مَنْ أبوه مولى وأمه ¬
عربية، أو أبواه عربيان وجدتاه أَمَتان، أو أمه عربية لا أبوه، أو كلاهما مولى. والبخيل الرديء كالفلنقس (¬1). وقال في باب النون: الهجين: اللئيم، وعربي ولِدَ من أمة أو من أبوه خير من أمه، انتهى (¬2). ولا شك أنَّ من كرم طرفاه أفضل من غيره نسباً، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ بَيْنَ كَرِيْمَيْنِ" رواه الطبراني في "الكبير" عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه (¬3). أي: مؤمن أبواه مؤمنان، أو أبواه نسبيان، أو بين عملين صالحين لا يفرغ من أحدهما إلا نصب في الآخر، أو بين صاحبين صالحين؛ أي: لا يصحب طالحاً، أو أحدهما صالح لدينه والآخر لدنياه، أو حالين كريمين بين حركة في خير أو سكون عن شر. وقد يكون الإنسان كريم النسب لكنه خبيث الطباع، وقد يكون خبيث النسب كريم الطباع، والله يفعل ما يشاء في عباده، ويطبع كل واحد منهم على مراده، والمرجع إلى قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ ¬
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]؛ أي: أتقاكم في نفسه وإن اختلفت أنسابكم وبلادكم وأزمنتكم. وقال أنس بن زنيم لعبد الله بن زياد: [من الرمل] سَلْ أَمِيرِي ما الَّذِي غَيَّرَهْ ... عَنْ وِصالِي اليَوْمَ حَتَّى وَدَّعَهْ لا تُهِنِّي بَعْدَما أَكْرَمْتَنِي ... وَعَزِيزٌ عادَةٌ مُنْتَزَعَهْ لا يَكُنْ بَرْقُكَ بَرقاً خُلَّباً ... إِنَّ خَيْرَ البَرْقِ ما الْماءُ مَعَهْ كَمْ بِجُودٍ مقرفٌ نالَ العُلَى ... وَكَرِيمٍ بُخْلُهُ قَدْ وَضَعَهْ (¬1) وفي المثل: استكرمت فاربط، أو فارتبط. وربما قالوا: أكرمت فارتبط؛ أي: وجدت فرساً كريماً فاربطه، واستمسك به. قال الزمخشري: يضرب في وجوب الاحتفاظ بالنفائس (¬2). والمعنى في ذلك: أنَّ الإنسان إذا وجد رفيقاً رفيقاً، أو صديقاً صدوقاً، أو شيئاً موافقاً فليستمسك به؛ فإنه عزيز. وقد قلت: [من البسيط] ¬
احْرِصْ عَلى وِدِّ خِلٍّ طابَ عُنْصُرُهُ ... وَقَدْ صَفا لَكَ مِنْهُ الوِدُّ وَالوَمَقُ مِنَ السَّعادَةِ أَنْ تَلْقَى أَخا ثِقَةٍ ... فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِهِ إِنْ كانَ يتفقُ وَمَنْ يُفارِقْ خَلِيلاً كَيْ يُوافِقَ مَنْ ... يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُ خانَهُ الحمقُ وَمَنْ يَعزهُ أَخو صِدْقٍ فَلَمْ يَرَهُ ... فِي النَّاسِ وَالآنَ ما فِي قَولهم ألَقْ فَلْيَرْضَ بِاللهِ مِنْ كُلِّ الوَرى عِوَضاً ... كَفَى بِهِ آنِساً إِنْ مَسَّهُ الفَرَقُ رَأَيْتُ عُزْلَةَ قَلْبِيَ الآنَ أَفْضَلَ ما ... يَرْجُوهُ ذُو اللُّبِّ مِنْ أَمْرٍ بِهِ يَثقُ قَلقتُ مِنْ فَعَلاتِ الدَّهْرِ فِي زَمَنٍ ... حَتَّى عَرَفْتُ فَزالَ الْهَمُّ وَالقَلَقُ وفي المثل: الخيل أعرف بفرسانها. قال أبو عبيد: يعني: إنها اختبرت ركبانها، فهي تعرف الأكفاء من أهل الفروسية؛ يضرب لمن يستعين بالأكفاء، وربما يضرب لمن يخبر للصاحب بما هو عليه فينزله بمنزلته (¬1). ¬
وكذلك ينبغي للإنسان أن يكون عارفاً بمن له غناء ممن لا غناء فيه، فينزل الناس منازلهم، ويعرف الصديق من العدو. وفي أمثال العوام: فلان ما يعرف صديقه من عدوه. وفي معناه أيضاً قولهم في المثل الآخر: وصاحب البيت أدرى بالذي فيه. وقولهم: أنا أخبر بشمس بلادي. وقولهم: المربي أخبر من الشاري. وفي المثل: هما كفرَسَيْ رهان؛ يضرب للمتسابقين إلى غاية في خير أو شر (¬1). والاعتبار فيه أنَّ الإنسان ينبغي له المسابقة إلى الخيرات كما قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. وكثيراً ما يضرب المثل بالسوابق من الخيل في الاستباق إلى خير، فيمثلون السابق والتالي بالسابق من الخيل، ثم بالمصلي، ثم المسلي، ويقال: القفي، ثم التالي، ثم المرتاح، ثم العاطف، ثم الحظي، ثم المؤمل، ثم اللطيم، ثم السكيت. وقال الجاحظ: كانت العرب تعد السوابق ثمانية، ولا يعد ما جاء بعدها حظاً، وجعل اللطيم ثامناً. ¬
قال: وكانت العرب تلطم وجه الأخير وإن كان له حظ. ويقال لمن جاء بعد العشرة: المقروح، والفسكل، والقاشور؛ والثلاثة بمعنى واحد. والفسكل فيه لغات: كقنفذ، وزبرج، وزنبور، وبرذون. ويقال للقاشور: القاشر، ويضرب المثل بها للمقصر في الأمر (¬1). والأناسي كالخيل في الاستباق، فالسابقون كالسوابق، والمتأخرون عن الخير والسبق فيه كالمتأخرات. وفي المعنى يقال في المثل: ولكن جئت في الزمن الأخير. ويقال: ليس السابق كاللاحق. وقالوا: ليس قطاً كمثل قطي. ويقال: فرُّوج تدايك. وقال كشاجم: [من مجزوء الكامل المرفّل] وَتَسابَقَتْ عُرْجُ الْحَمِيـ ... ــــــــرِ فَقُلْتُ مِنْ عَدَمِ السَّوابِقْ وقلت: [من المجتث] ما فِي الزَّمانِ سَبُوقٌ ... وَلا سَبُوحٌ مُصْلِّيْ وَلا مُسلٍّ إِذا كا ... نَ لِلقُلُوبِ يُسلِّي بَلِ البطالَةُ صارَتْ ... لِلنَّاسِ أَفْضَلَ شُغْلِ ¬
وَلَيْتَهُمْ بَعْدَ هَذا ... لَمْ يَزْعُموا كُلَّ فَضْلِ تَساوَتِ النَّاسُ حَتَّى ... لَمْ يُحْسِبُوا رَبَّ أَصْلِ وَإِنْ تَرُمْ سَيِّدَ النَّا ... سِ لا تَجِدْ غَيْرَ فسلِ فَما البُكاءُ بِمُجْدٍ ... لِذاتِ حُزْنٍ وَثُكلِ تُرِيدُ إِقْبالَ خَيْرٍ ... عَلى الزَّمانِ الْمُوَلِّي لا يَنْفَعُ الْمَرْءَ إِلاَّ ... أَداءُ فَرْضٍ وَنَفْلِ وفي المثل: جري المذكي حسرت عنه الحمر؛ أي: كلت وأعيت (¬1). والمذكي فاعل من التذكية: هو الفرس إذا أتى عليه بعد القروح سنة أو سنتان، وهو أقوى ما يكون فيه الفرس من السن؛ يضرب في تبريز الرجل على أقرانه. وفي المثل: مذكية تقاس بالجذاع. المذكية: الفرس المسنة، والجذاع: الصغار؛ يضرب لمن يقيس الصغير بالكبير (¬2). والاعتبار في ذلك أن يكون الإنسان قوياً في دينه، لا يلحق شَأْوه في العلم والعبادة والفضائل. ¬
روى الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيٌّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلِّ خَيْرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْء فَلا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ" (¬1). وفي المثل: يجري بُليق ويُذم. قال في "الصحاح": وهو اسم فرس كان يسبق الخيل، وهو مع ذلك يعاب (¬2). وكذلك قال الزمخشري، وقال: يضرب لذم المحسن (¬3). ومثله: الشعير يؤكل ويذم؛ يضرب في ذم المحسن (¬4). قلت: وقد يضربان في شكاية سوء حظ بعض المحسنين. وفي المثل: أحشُّك وتروثني؛ يضرب لمن يسيء إليك وأنت تحسن إليه. ¬
وأول من قاله رجل كان يعلف فرساً له، فراث عليه، فقال ذلك مخاطباً للفرس (¬1). ولا يقال ذلك للعتيق؛ فإنه لا يكون منه ذلك. ثم صار مثلاً لكل من قابل الإحسان بالإساءة، وهو غير لائق. وفي هذا المعنى قيل: [من الوافر] أُعَلِّمُهُ الرِّمايَةَ كُلَّ يَوْمٍ ... فَلَمَّا اسْتَدَّ ساعِدُهُ رَمانِي وَكَمْ عَلَّمْتُهُ نَظْمَ القَوافِي ... فَلَمَّا قالَ قافِيةً هَجانِي (¬2) والحق الذي لا شبهة فيه قول الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]. وفي المعنى قالوا: ما جزاء من أحب إلا أن يُحب. نعم، الإحسان إلى المسيء أعلى رتبة من الإحسان إلى المحسن، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ أَخْلاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ". رواه البيهقي (¬3). ¬
- ومن أوصاف الخيل المحمودة التي يتيمن بها
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ يَنَالَ عَبْدٌ صَرِيْحَ الإِيْمَانِ حَتَّىْ يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ، وَيَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيَغْفِرَ لِمَنْ شَتَمَهُ، ويحْسِنَ إِلَىْ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ". رواه ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (¬1). وتقدم لنا في ذلك كلام مستوفى في القسم الأول من الكتاب. - ومن أوصاف الخيل المحمودة التي يتيمن بها: الغرة: وهو بياض في الناصية. والتحجيل: وهو بياض في الأطراف. وكذلك هذه الأمة يكونون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، وبذلك وصفوا في بعض الكتب المتقدمة. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أُمَّتِيْ يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقَيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ مِنْ آثَارِ الْوضُوْءِ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيْلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ" (¬2). * لَطِيفَةٌ: في الحديث إشارة إلى أن الغرة والتحجيل ممكنا الحصول للإنسان بالتكسب مع التوفيق بخلافهما من الفرس؛ فإنهما فيها لمجرد الخلقة. - ومن لطائف الخيل: ما رواه الحاكم وصححه، عن أبي ذر - رضي الله عنه -، ¬
- ومن ذلك: الشاة
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَا مِنْ فَرَس عَرَبِىٍّ إِلاَّ يُؤْذَنُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ بِدَعْوَتَيْنِ يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ كَمَا خَوَّلْتَنِيْ مَنْ خَوَّلْتَنِيْ فَاجْعَلْنِيْ مِنْ أَحَبِّ مَالِهِ وَأَهْلِهِ إِلَيهِ" (¬1). وفي لفظ: "مَا مِنْ فَرَسٍ عَرَبِىٍّ إِلاَّ يُؤْذَنُ لَهُ عِنْدَ سَحَرِ كُلِّ يَوْمٍ بِدَعْوَتَيْنِ: اللَّهُمَّ كَمَا خَوَّلْتَنِيْ مَنْ خَوَّلْتَنِيْ مِنْ بَنِيْ آدَمَ فَاجْعَلْنِيْ مِنْ أَحَبّ مَالِهِ وَأَهْلِهِ إِلَيْهِ" (¬2). وفي قوله: "وَأَهْلِهِ" إشارة إلى أن الفرس تقوم مقام الأهل من حيث إنه يرتفق به صاحبه، ويأنس به، ويوصله إلا ما لا يصل إليه دونه. ومن هنا كان للفارس ضعف ما للراجل في الغنائم. وعن عبد الله بن وهب مر رجل راكب على فرس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَعَلَيْكُمَا السَّلامُ" كما نقله السيوطي في "ديوان الحيوان" عن "تذكرة" الشيخ تاج الدين بن مكتوم عن تعليق لأبي علي الآمدي بخطه. - ومن ذلك: الشاة: واحدة الشاء، والغنم: الذكر والأنثى من الضأن، أو المعز. جاء في الخبر تمثيل المؤمن بالشاة، وكذلك تمثيل المنافق بالشاة العائر بين الغنمين، وقد سبق هذا. ¬
وأمَّا تشبيه المؤمن بالشاة فمن حيث ضعفها ولينها وعدم صيالها، وكذلك المؤمن هين لين، كما تقدم. روى عبد بن حميد في "مسنده" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: افتخر أهل الإبل وأهل الغنم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "السَّكِيْنَةُ وَالْوَقَارُ فِيْ أَهْلِ الْغَنَمِ، وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاءُ فِيْ أَهْلِ الإِبِلِ" (¬1). وروى ابن ماجه عن عروة البارقي رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإِبِلُ عِزٌّ لأَهْلِهَا، وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ، وَالْخَيْرُ مَعْقُوْدٌ فِيْ نَوَاصِي الْخَيْلِ إِلَىْ يَوْمِ الْقَيَامَةِ" (¬2). وروى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْبَرَكَةُ فِيْ الْغَنَمِ، وَالْجَمَالُ فِيْ الإِبِلِ" (¬3). وروى البخاري في "الأدب المفرد" عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّاةُ فِىْ الْبَيْتِ بَرَكَةٌ، وَالشَّاتَانِ بَرَكتَانِ، وَالثلاثُ ثَلاثُ بَرَكَاتِ" (¬4). ¬
وروى ابن سعد في "طبقاته" عن أبي الهيثم بن التيهان رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ عِنْدَهُمْ شَاةٌ إِلاَّ وَفِيْ بَيْتِهِمْ بَرَكَةٌ" (¬1). وعن خالد بن يزيد المزني رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ تَرُوْحُ عَلَيْهِمْ ثَلاثة مِنَ الْغَنَمِ إِلا بَاتَتْ الملائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ تُصَلّيْ عَلَيْهِمْ حَتَّىْ يَصْحُوا" (¬2). وأخرجه أبو نعيم - بسند واه - وقال: "إِلاَّ صَلَّتْ عَلَيْهِمْ الملائِكَةُ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتِهِمْ حَتَّىْ يُصْبِحُوْا" (¬3). وروى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشَّاةُ مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ" (¬4). قلت: ومن شواهده ما رُوِيَ أن الكبش الذي فُدِيَ به إسماعيل عليه السلام أتى به جبريل عليه السلام من الجنة (¬5). وإنما كانت الشاء بهذه المثابة لما يغلب عليها من الطاعة والانقياد ¬
لرعاتها، ولطف إمرتها وعدم سطاها، فلا تحتاج رعاتها إلى كثير نَصَب، ولا شدة وزع وقوة منع. ومن هنا كانت السكينة والوقار يغلبان على أهلها كما وقعت الإشارة إلى ذلك في الحديث المذكور بخلاف الإبل؛ فإنها تنفر وتند، وتهدر، وربما حقدت وسمخت، وأبت ونفرت عن أهلها، ومن هنا غلب على أهلها الفخر والخيلاء. وفي الحديث: "أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِيْنِ" (¬1)، "وأَنَّ عَلَىْ سِنَامِ كُلِّ بَعِيْرٍ شَيْطَانٌ" (¬2). ومن ثم شبه إباء الخارج عن الطاعة بشرادها فيما رواه الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ أُمَّتِيْ يَدْخُلُوْنَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَىْ وَشَردَ شُرُودَ الْبَعِيْرِ عَنْ أَهْلِهِ" (¬3). وأخرجه البخاري مقتصراً على قوله: "إِلَّا مَنْ أَبَى". زاد: قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ ¬
فائدة لطيفة
قال: "مَنْ أَطَاعَنِيْ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِيْ فَقَدْ أَبَىْ" (¬1). * فائِدَةٌ لَطِيفَةٌ: الغالب من حال أهل القرى دون المدائن الفلاحة، فيقتنون بها البقر، ويقتنون الغنم ضأنها ومعزها للذر والنسل، وقد يقتنون البقر لذلك، وقد علمت ما في الغنم من البركة وصلاة الملائكة على أهلها، ولعلها هي سبب البركة، وجاء في بقر الحراثة أنَّها سبب ذل صاحبها. روى الطبراني في "الكبير" عن أبي أُمَامة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَغْدُوْ عَلَيْهِمْ فَدَّانٌ إِلاَّ ذُلُّوْا" (¬2). والفدان - بالتخفيف، والتشديد - كما في "القاموس": الثور، أو الثوران يقرن للحرث بينهما، ولا يقال للواحد فدان، أو هو آلة الثور (¬3). والمراد في الحديث المعنى الثاني. ويحتمل الثالث؛ ففي "الصحيح": أنه - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى آلة حرث فقال: "مَا دَخَلَتْ هَذهِ دَارَ قَوْمِ إِلاَّ ذُلُّوا" (¬4). والحكمة في ذلك أن الله تعالى لما حكم على أهل الحراثة بالذل ¬
وهنا فائدة مهمة ينبغي التنبيه عليها
عوضهم ببركات المواشي ليتماسكوا بذلك عن ترك الحراثة، ومع ذلك فقد حبب الله إليهم الحرث حتى يحلف أحدهم الأيمان عند شيء ينوبه وشدة تلحقه على تركها، فإذا جاء إبانها كفَّرَ عن يمينه، وخلص منه، وعاد إليها ليكون ذلك سببا لعمارة البلاد والرفق بالعباد. وهنا فائدة مهمة ينبغي التنبيه عليها: روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْناَبَ الْبَقَرِ، وَرَضِيْتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُم الْجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لا يَنْزِعُهُ عَنْكُمْ حَتَّىْ تَرْجِعُوْا إِلَىْ دِيْنكُمْ" (¬1). فتبين من ذلك معجزة ظهرت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في صدق ما بينه، وذلك أنَّ العساكر إنما فرضت لهم الأعطية من بيت المال ليكونوا رصداً للجهاد، فآثروا الدنيا على ما أرصدوا له، وأقبلوا على تحصيلها ببيع العينة، بل بالربا المحض أضعافاً مضاعفة، وتعاطي الحرث والزروع، ومزاحمة الفلاحين في شأنهم، حتى إن الجندي منهم لا يزال بالفلاح حتى يأخذ داره وأرضه بأي طريق كان، ويشق عليهم مفارقة أموالهم ونعمهم، فأعرضوا عن الجهاد، فأصابهم الذل بعدم إغنائهم في الغزو وإخفاقهم، وتسلط الأعداء عليهم، بل سلَّط الله بعضهم على بعض ¬
حتى استذلت كبارهم صغارهم، واستطالت صغارهم على كبارهم، وهم لا يراجعون دينهم، ولا يرجعون إلى سبيلهم الذي أرصدوا له، فبقوا على زللهم وفتنتهم؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون! وروى الديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْغَنَمُ أَمْوَالُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ " (¬1). وروى ابن ماجه بسند ضعيف، عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الأنبياء باتخاذ الغنم، وأمر الفقراء باتخاذ الدجاج، وقال: "عِنْدَ اتِّخَاذِ الأَغْنِيَاءِ الدَّجَاجَ يَأْذَنُ اللهُ بِإِهْلاكِ الْقُرَى" (¬2). قال الشيخ موفق الدين عبد اللطيف البغدادي: أمر كلاًّ بالكسب بحسب مقدرتهم لأنَّ به عمارة الدنيا وحصول التعفف. ومعنى آخر الحديث: أن الأغنياء إذا ضيقوا على الفقراء في مكاسبهم وشاركوهم في معايشهم تعطل الفقراء، ومن ذلك يكون هلاك القرى (¬3). وفي الحديث: "الْمُؤْمِنُ كَالشَّاةِ الْمَأْبُوْرَةِ". أورده صاحب "النهاية"، ¬
وغيره من علماء الغريب، وذكره الدميري، والسيوطي (¬1). أي: التي أكلت الإبرة، فنشبت في جوفها، فهي لا تأكل شيئاً، وإن أكلت لم ينجع فيها؛ كذا قالوا. ووجه التشبيه: أن المؤمن لشدة وَجَله وغمه من ذنوبه وخطاياه، وخوفه من المكر والعياذ بالله يمتنع بذلك عن الطعام والشراب إلا على وجه الاقتيات، لا يستلذ به ولا يتنعم لأن له شاغلاً عنه. وقال في "الصحاح": أبرت الكلب: أطعمته الإبرة في الخبز. قال: وفي الحديث: "الْمُؤْمِنُ كَالْكَلْبِ المْأْبُور"، انتهى (¬2). ولم أقف على تخريج هذا الحديث، ولا الذي قبله، ويشبه أن يكونا من كلام الحسن البصري أو غيره؛ والله الموفق. وروى الحافظ الذهبي في "الميزان" بسند ضعيف جداً، عن أنس - موقوفاً - قال: كيف أنتم إذا كان زمان يكون الأمير فيه كالأسد والأسود، والحاكم فيه كالذئب الأمعط، والفاجر كالكلب الهرار، والمؤمن بينهم كالشاة الولهاء بين الغنمين، فكيف حال شاة بين أسد وذئب وكلب (¬3). ¬
ومن شواهده ما رواه ابن عساكر عن علي -رضي الله عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَأْتِيْ عَلَىْ النَّاسِ زَمَانٌ يَكُوْنُ الْمُؤْمِنُ فِيْهِ أَذَلَّ مِنْ شَاتِهِ" (¬1). وسبب ذلك تسلط الحكام من الأمراء وغيرهم على الناس، فينتزعوا ما في أيديهم طمعاً في الأموال والتبسط في الدنيا ونعيمها كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُوْشِكُ أَنْ يَمْلأَ اللهُ أَيْدِيَكُمْ مِنَ الْعَجَمِ وَيَجْعَلَهُمْ أُسْدًا لا يَفِرُّوْنَ فَيَضْرِبُوْنَ رِقَابَكُمْ وَيأكلُوْنَ فَيْئَكُمْ". رواه النسائي، والحاكم وصححه، عن حذيفة، والإمام أحمد، والحاكم - وصححه - والضياء في "المختارة" عن سمرة، والطبراني في "الكبير" عنه وعن ابن عمر، وأخرجه أيضاً بنحوه عن أبي موسى رضي الله تعالى عنهم (¬2). ¬
فائدة
والمراد بالعجم ما سوى العرب. قال في "الصحاح": والعجم خلاف العرب، الواحد: أعجمي، والعُجم - بالضم -: خلاف العرب (¬1). وتبعه في "القاموس" (¬2). * فائِدَةٌ: قال الدينوري في "المجالسة": سمعت ابن أبي الدنيا يقول: إنَّ لله تبارك وتعالى من العلوم ما لا يحصى، فيعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره. لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن سعيد الطائي، ثنا عبد الله بن بكر السهمي، عن أبيه: أن قوماً كانوا في سفر، فكان فيهم رجل يمر الطائر فيقول: تدرون ما يقول هذا الطائر؟ فيقولون: لا. فيقول: كذا وكذا، فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق هو أم كاذب. إلى أن مروا على غنم ومنها شاة قد تخلفت على سخلة لها، فجعلت تلوي عنقها إليها وتثغوا، فقال: أتدرون ما تقول هذه الشاة؟ قلنا: لا. ¬
قال: تقول: الحقي لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان. قال: فانتهينا إلى الراعي، فقلنا له: ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا؟ قال: نعم، ولدت سخلة عام أول، فأكلها الذئب في هذا المكان. قال: ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو ويحنو عنقه إليها. قال: أتدرون ما يقول هذا البعير؟ قلنا: لا. قال: فإنه يلعن راكبته، ويزعم أنها رحلته على مخيط، فهو يؤثر في سنامه. قال: فانتهينا إليهم، فقلنا: يا هؤلاء! إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعق راكبته، ويزعم أنها رحلته على مخيط، وأنه في سنامه. قال: فأناخوا البعير فإذا هو كما قال (¬1). قلت: وهذا يدل على ما ذكره جماعة من المحققين أن البهائم، والطير، والوحش، والسباع، والهوام كلها عوالم، ولها إدراك بحيث ¬
- ومن ذلك: الظباء والغزلان
يفهم بعضها من بعض، وبعض ما ينفعها وما يضرها. ولقد جاء في نص القرآن أنها تسبِّح بحمد الله. والسنة أن القصاص يجري يوم القيامة بين البهائم، وهذا وجهه. ثم إن الله تعالى يطلع بعض أنبيائه على معاني ما ينطق به معجزة، ويعطي كرامة، أو فِراسة. وقدْ صح سجود البعير للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وشكايته إليه من أهله أنهم يقلون علفه، ويشقون عليه في العمل، وقد رويت قصته من طرق؛ والله الموفق. - ومن ذلك: الظِّباء والغِزلان: وهي أولاد الظباء إلى أن تقوى وتطلع قرونها، فإذا قوي الغزال وتحرك ومشى مع أمه فهو رشا - بالفتح - وجمعه: أرشاء. والريم: ولد الظبية: والجمع: آرام. وقال الأصمعي: إنها الظباء الخالصة البياض. ويقال: إنها ضأن الظباء لأنها كثر لحماً وشحماً، والعرب تمثل بالظباء والغزلان والأرشاء والآرام في الرشاقة والظرف والجمال والْحَوَر والدَّل. قال مجنون ليلى: [من الطويل] أقولُ لِظَبْيٍ مَرَّ بِي وَهْوَ رائِعٌ ... أأنتَ أَخُو لَيْلَى فَقالَ يُقالُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَيْلَى غَزالاً بِعَيْنهِ ... فَقَدْ أَشْبَهَتْهَا ظَبْيَةٌ وَغَزالُ
وكذلك يمثلون في الحسن والبياض والسمن بالمَهَاة، وهي البقرة الوحشية، والجُؤْذر - بفتح الجيم، والذال المعجمة، وضمها مع الهمز - والجيذر، وبالواو - على وزن فرتك، وتولب، وبفتح الجيم، وكسر الذال - والجمع: جاَذر، وهو ولد البقرة الوحشية. قال الأخطل: [من الخفيف] إِنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكَنِيسَةَ يَوماً ... يَلْقَ فِيها جآذِراً وَظِباء أي: حساناً أمثالها. وقال آخر: لَها مُقْلَةٌ كَحلاءُ نَجْلاءُ خِلْقَةً ... كَأنَّ أَباها الظَّبْيُ أَوْ أُمَّها الْمَها وأنشد الثعالبي لابن مطيران: [من الطويل] ظباءٌ أَعارتها الْمَها حُسْنَ مَشْيِها ... كَما قَدْ أَعارتها العُيونَ الْجآذرُ فَمِنْ حُسْنِ ذاكَ الْمَشْيِ جاءَتْ فَقَبَّلَتْ ... مَواطِيَ مِنْ أَقْدامِهِنَّ الغَدائِرُ (¬1) وحكى ابن الجوزي في كتاب "الأذكياء" قال: قعد رجل على جسر بغداد، فأقبلت امرأة من جهة الرصافة إلى الجانب الغربي، فاستقبلها شاب، فقال لها: رحم الله علي بن الجهم. فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري. وما وقفا، ومرَّا مشرقاً ومغرباً. ¬
قال: فتبعت المرأة وقلت لها: إن لم تقولي لي ما قال وإلا قتلتك. فضحكت، وقالت: أراد قول ابن الجهم: [من الطويل] عُيُونُ الْمَها بَيْنَ الرُّصافَةِ وَالْجِسْرِ ... جَلَبْنَ الْهَوى مِنْ حَيْثُ أَدْرِي وَلا أَدْرِي وأردت أنا قول المعري: [من الطويل] فَيا جدارَها بِالْخَيْفِ إِنَّ مَزارَها ... قَرِيبٌ وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ أَهْوالُ (¬1) وقد أفصحت هذه القصة عن أدب في تلك المرأة، وفطنة وفضيلة، وعفة وصيانة. وهذا هو الذي ينبغي لكل ذي جمال؛ فإنه بذلك يكون كماله إذ يجمع بذلك بين جمال الظاهر وجمال الباطن. ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِيْ فَحَسنْ خُلُقِيْ". رواه الإمام أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (¬2). وروى البيهقي في "الشعب " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ آتَاهُ الله وَجْهًا حَسَناً وَاسْمًا حَسَناً، ¬
وَجَعَلَهُ اللهُ فِيْ مَوْضعٍ غَيْرِ شَائِنٍ، فَهَو مِنْ صَفْوَةِ الله مِنْ خَلْقِهِ". قال ابن عباس: قال الشاعر: [من الخفيف] أَنْتَ شَرْطُ النَّبِيِّ إِذْ قالَ يَوْماً ... اطْلُبُوا الْخَيْرَ مِنْ حِسانِ الوجُوه (¬1) وأورده التجاني في "تحفة العروس" بلفظ: "مَنْ آتَاهُ الله وَجْهًا حَسَناً، وَخُلُقًا حَسَناً، وَاسْمًا حَسَناً، فَهُوَ مِنْ صَفْوَةِ خَلْقِ الله" (¬2). وروى أبو نعيم عن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: من كان ذا صورة حسنة وموضع لا يشينه، ووسع عليه رزقه، ثم تواضع لله، كان من خالصة الله -عز وجل-. وفي لفظ: مَنْ أحسن الله صورته، وأحسن رزقه، وجعله في منصب صالح، ثم تواضع لله، فهو من خالص [أهل] الله (¬3). وقلت: [من مجزوء الرمل] صَفْوَةُ الله جَمِيلٌ ... خُلُقاً وَاسْماً وَصُورَةْ لَيْسَ فِي مَوْضعِ شَيْنٍ ... وَلَهُ أَحْسَنُ سِيرَةْ وروى الدارقطني عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما بعث الله نبياً إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أحسنهم وجهاً ¬
وأحسنهم صوتاً (¬1). وروى الخرائطي في "اعتلال القلوب" عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثٌ يُجْلِيْنَ الْبَصَر؛ الماءُ، وَالْخُضْرَةُ، وَالْوَجْهُ الْحَسَنُ" (¬2). وروى أبو نعيم في "الطب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثٌ يُجْلِيْنَ الْبَصَرَ؛ النَّظَرُ إِلَىْ الْمَاءِ الْجَارِيْ، وَالنَّظَرُ إِلَىْ الْخُضْرَةِ، وَالنَّظَرُ إِلَىْ الْوَجْهِ الْحَسَنِ". ورواه هو، وابن السني عن ابن عباس موقوفاً عليه. وروى بنحوه من حديث علي، وجابر، وبريدة (¬3). ومجموع طرقه ترفعه عن درجة الوضع؛ وإن كانت طرقه ضعيفة (¬4). ¬
وذكر التجاني في "تحفة العروس" عن الحكم بن عبد الله قال: رأيت شريحاً على باب المسجد الحرام واقفاً، فقلت له: ما وقوفك هاهنا يا أبا أمية؟ قال: أقف لعلِّي أنظر إلى وجه حسن. وكان شريح مجتهداً يرى أن النظر إلى المرد الحسان بغير شهوة مباح؛ إذ لا يلزم أن يكون أراد النظر إليهم. قال التجاني: قال الشاعر: [من البسيط] إِنِّي امْرُؤٌ مُوْلَعٌ بِالْحُسْنِ أَتْبَعُه ... لا حَظَ لِي فِيهِ إِلاَّ لَذَّةُ النَّظَرِ وذكر التجاني أيضاً من تخريج الحصري في "الزهد" قال: خرج أبو حازم رحمه الله تعالى يرمي الجمار ومعه قوم ناسكون وهو يحدثهم، فبينما هم كذلك إذ نظروا إلى امرأة من أجمل الناس تختلف يَمْنة وَيسْرة، وقد شغلت الناس، وبهتوا ينظرون إليها، وخاض بعضهم في بعض، فقال لها أبو حازم: يا هذه! اتق الله؛ فإنك في مشعر من مشاعره وقد فتنت الناس، فاضربي على جيبك خمارك؛ فإنَّ الله تعالى يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]. فأقبلت تضحك من كلامه وقالت: يا هذا! أنا ممن قال فيه الحارث بن خالد: [من الطويل] أَماطَتْ كِساءَ الْخَزِّ عَنْ حُرِّ وَجْهِها ... وَأَرْخَتْ عَلى الكَشْحَيْنِ بُرْداً مُهَلْهَلا
أَراهُنَّ لَمْ يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ خَشْيَةً ... وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ البَرِيرَ الْمُغَفَّلا فأقبل أبو حازم على أصحابه فقال: يا هؤلاء! تعالوا ندعو الله ألا يعذب هذه الصورة الحسنة. فجعل يدعو وأصحابه يؤمِّنون. قال: وبلغ ذلك سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى فقال: والله لو كان بعض بغضاء أهل العراق لقال لها: اغربي قبحك الله، ولكنه ظُرْفُ عُبَّاد أهل الحجاز. قال التجاني: قال الأصمعي: رأيت في الطواف جارية كأنها مهاة قد فتنت الناس جميعاً بجمالها، فوقفت أنظر، فقالت: ما لك يا هذا؟ قلت! وما عليك من النظر؟ فأنشأت تقول: [من الطويل] وَأَنْتَ إِذا أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رائِداً ... لِقَلْبِكَ يَوْما أَتعَبَتْكَ الْمَناظِرُ رَأَيْتَ الَّذِي لا كُلَّهُ أَنْتَ قادِرٌ ... عَلَيْهِ وَلا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صابِرُ قلت: وهذا وأمثاله مما يذكر من السلف إنما كان منهم على ضرب من التأويل مع العفة والصيانة، ولا يكاد متأول في هذا الباب
الآن يسلم من الفتنة وإعلال القلب، واختلال الدين؛ فالحزم والحسم لهذه المادة وصيانة النظر عن الإطلاق إلا فيما يحل. وقد روى الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" عن أبي علي الرُّوذباري قال: كان الحارث بن أسد المحاسبي يقول: ثلاث يمتع بهن وقد فقدناها: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن الصوت مع الأمانة، وحسن الإخاء مع الوفاء. واعلم أن الجمال أكثر ما يكون سبباً لطغيان النساء وفجورهن، وقد يكون سبباً لطغيان الرجال؛ كما أن الشباب والقوة أكثر ما يكون سبباً لطغيان الرجال، وقد يكون مطغياً للنساء، والمال يُطغي الرجال والنساء جميعاً. قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6 - 7]. وقيل: [من الرجز] إِنَّ الشَّبابَ وَالفَراغَ وَالْجِدَةْ ... مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيَّ مَفْسَدَة وروى ابن ماجه بسند ضعيف، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَنْكِحِ الْمَرْأَةَ لِجَمَالِهَا؛ فَلَعَلَّ جَمَالَهَا يُرْدِيْهَا، وَلا لِمَالِهَا؛ فَلَعَلَّ مَالَهَا يُطْغِيها، وَانْكِحِ الْمَرْأَةَ لِدِيِنهَا" (¬1). ¬
- ومن أوصاف الطير: الفطنة، والكياسة، والحذر، والفرار مما يؤذيه، والنفور
وهذه الأمور تكون من الدنيا الغرور، وقد قال تعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]. وقال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]. - ومن أوصاف الطير: الفطنة، والكياسة، والحذر، والفرار مما يؤذيه، والنفور. ومن كيسه أنه إذا أراد أن يدخل كناسة يدخله مستدبراً، ويستقبل بعينيه ما يخافه، فإذا رأى أحداً لم يدخل وإلا دخل. وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون حذوراً، فرَّاراً بدينه، نفوراً عما يرديه، حازماً، كَيِّساً فطناً. قال الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ، حَذِرٌ، وَقَّافٌ لا يَعْجَلُ". رواه القضاعي عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). ثئمَ فسر الكيس - صلى الله عليه وسلم - فقال: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْفَاجِرُ مَنْ أتبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّىْ عَلَىْ اللهِ". رواه الحاكم وصححه، والعسكري، والقضاعي عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - (¬2). ¬
وفي حديث جابر رضي الله تعالى عنه في "الصحيح": "وإِذَا قَدِمْتَ فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ" (¬1). أراد أَمْرَهُ بإتيان أهله لطلب الولد. ومن تمام الكياسة في ذلك أمران: الأول: إذا سألت الله تعالى أن يهبك ولداً فاسأله صالحاً كما قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]. وقال: زكريا عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38]. وقال: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6]. والثاني: إذا طلب الولد فليتخير له إمَّا خيرة ذات حسب ونسب وعقل ودين ليكون مكيساً. وفي الحديث: "تَخَيَّرُوْا لِنُطَفِكُمْ". رواه ابن ماجه، والدارقطني (¬2). والعرب تمدح بالإكاسة، وهي أن يولد للرجل أولاد أكياس؛ أي: عقلاء؛ تقول: أكيس الرجل، وأكاس: إذا ولد له أولاد أكياس. ¬
- ومن أوصاف الظبي: الغرة.
وتذم بالإحماق؛ قال الشاعر: [من الوافر] فَلَوْ كُنْتُمْ كَمكيسةٍ أَكاسَتْ ... وَكيسُ الأُمِّ يُعْرَفُ فِي البَنِينا وَلَكِنْ أُمَّكُمْ حَمُقَتْ فَجِئْتُمْ ... غِثاثاً مايُرى فِيْكُمْ سَمِيناً (¬1) وأحمقت المرأة: جاءت بولد أحمق، فهي محمق، ومحمقة. قالت امرأة من العرب: [من الرجز] لَسْتُ أُبالِي أَنْ أَكُونَ مُحْمَقَة ... إِذا رَأَيْتُ خِصْيَةً مُعَلَّقَة قال في "الصحاح": تقول ما أبالي أن ألد أحمق بعد أن يكون الولد ذكراً له خصية معلقة، انتهى (¬2). وهذا حال أكثر أهل الجهل - خصوصاً النساء المقلات الأولاد الذكور - تتمنى الولد الذكر على أي خلق كان. وهذا عين الحمق، وإنما الكياسة طلب الولد قبل طلب صلاح ذاته (¬3)، كما تقدم. - ومن أوصاف الظبي: الغرَّة. وهي الغفلة حتى قالوا في المثل: أغر من ظبي مقمر؛ يعني: إنه ¬
يغتر بالقمر، فيأنس به، ويظهر من كناسه، فيصاد (¬1). وقد جاء وصف المؤمن بالغرة. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المْؤُمِنُ غِرٌّ كَرِيْمٌ، وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيْمٌ" (¬2). فإن قلت: كيف يجمع بين وصفه بالغرة ووصفه بالكياسة والفطنة والحذر؟ قلت: يجمع بينهما بأنه كيس فطن حذر، لكنه لا ينتهي إلى حد الدهاء والمكر، بل يحمله لينه وحسن ظنه على الاغترار بالخير؛ فإن المؤمن ينخدع بالخير؛ ألا ترى كيف انخدع آدم وحواء عليهما السلام بمقاسمة الشيطان لهما أنه لهما ناصح؟ وقد قال بعض السلف: مَنْ خادعنا بالله خَدَعَنا. ونظير ذلك أن المؤمن هين لين. وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمُؤْمِنُ لَيّنٌ تَخَالُهُ مِنَ اللِّيْنِ أَحْمَقَ" (¬3). ¬
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "الْحِدَّةُ تَعْتَرِيْ خِيَارَ أُمَّتِيْ". رواه أبو يعلى، والطبراني عن ابن عباس (¬1). وروى الحسن بن سفيان في "مسنده"، والبغوي في "معجمه" عن الليث، وعن دريد بن نافع قال: قلت لأبي منصور الفارسي - رضي الله عنه - وكانت له صحبة -: يا أبا منصور! لولا حدة فيك! فقال: ما يسرني بحدتي كذا وكذا، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْحِدَّةَ تَعْتَرِيْ خِيَارَ أُمَّتِيْ" (¬2). وروى الطبراني في "الأوسط" بسند ضعيف، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيَارُ أُمَّتِيْ أَحِدَّاؤُهُمْ، وَهُمْ الَّذِيْنَ إِذَا غَضِبُوْا رَجَعُوْا" (¬3). وهذا التفسير يحتمل أن يكون من لفظ الحديث، ويحتمل أن يكون مُدْرجاً فيه من كلام علي رضي الله تعالى عنه، وفيه بيان ما قاله ¬
السخاوي وغيره: أن محل ذلك ما لم يؤد إلى محذور (¬1). وبهذا الذي بينَّاه تبين أن مراد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مدح كل من الخلفاء الأربعة بما فيه من غير ذم، وذلك فيما ذكره ابن عبد ربه في "العقد" فقال: سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أبي بكر - رضي الله عنه -، فقال: كان والله خيراً كله مع الحدة التي كانت فيه. قالوا: فأخبرنا عن عمر رضي الله تعالى عنه. قال: كان والله كالطير الحذر الذي نصب له الفخ، فهو يخاف أن يقع فيه. قالوا: فأخبرنا عن عثمان رضي الله تعالى عنه. قال: كان والله صوَّاماً قوَّاماً، من رجل غلبته غفلته عن قدمته. قالوا: فأخبرنا عن علي رضي الله تعالى عنه. فقال: كان والله مُرْتدياً علماً وحلماً، من رجل عذره سابقته، وقدمه وقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقل ما أشرف على شيء إلا فاته. قالوا: يقولون إنه كان مجدوداً؛ أي: محظوظاً؟ قال: أنتم تقولونه (¬2). وصف أبا بكر - رضي الله عنه - بالحدة بعد قوله: كان خيراً كله إشارة إلى أن حدته كانت من جملة خيرة؛ فإنها لم تخرجه إلى باطل قط، وهي ¬
الحدة التي وصف بها خيار الأمة، وهو خيرها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ووصف عثمان رضي الله تعالى عنه بالغفلة، ثم أشار إلى أنها لا تضره بسبب قدمته في الخير. والقُدمة - بضم القاف، وإسكان الدال - كما في "الصحاح"، وهي السابقة في الأمر (¬1). ويقال لهما: قَدَم - بفتحتين - وقِدَم - بكسر، ففتحة -؛ فإنَّ عثمان - رضي الله عنه - من السابقين الأولين إلى الإيمان، غير أنه اغتر بأهله ومواليه، فولاَّهم، وكان ذلك مما انتقد عليه، وما كان يريد إلا الخير. وهذه الغِرَّة وصف بها المؤمن مع كرمه، وعثمان رضي الله تعالى عنه كرمه ونبله لا ينكره إلا مباهت ناكب عن الحق. وقوله في وصف علي رضي الله تعالى عنه: قلَّ ما أشرف على شيء إلا فاته؛ المراد أنَّه ما أشرف على شيء من الخير شجاعة، وكرماً، وزهداً، وعلماً، وغير ذلك إلا بلغه، وفات الرتبة التي تبلغها الناس فيه. وقوله: (أنتم تقولونه)، جواباً عن قول السائل: يقولون: كان مجدوداً؛ أراد به الرد على من كان يخفض من مقام علي رضي الله تعالى عنه، ويقول: إنما نال الخلافة وغيرها من الفضائل بالحظ ¬
- ومما يوصف به الظبي: الرشاقة
والبخت، لا بالذات، فرد عليهم بأن فضله كان بذاته، وفضيلته في نفسه؛ فإنه كان الحسيب الذي لا يشبهه في حسبه الشجاع الكريم العارف بالله تعالى، وبكتابه وأحكامه رضي الله تعالى عنه. - وممَّا يوصف به الظبي: الرشاقة؛ أعني: الخفة والسرعة، وهي ثمرة رشاقة قَدِّه واعتداله. وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون رشيق الحركة في مصالح دينه ودنياه، غير فتور ولا كسلان من غير مجاوزة إلى حد الرعونة والطيش، ويعينه على ذلك التقلل من المآكل والمشارب، والنعيم والرفاهية، والرياضة بالصيام والقيام، وبذلك يحصل له رشاقة القد وخفة البدن، ولا يسعى في التسمن والتبدن باستعمال الأدوية ونحوها؛ فإن التسمن للبهائم للانتفاع بلحمها وشحمها. روى الإمام أحمد، وأبو نعيم عن معاذ رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ؛ فَإِنَّ عِبَادَ الله لَيْسُوْا بِالْمُتَنَعِّمِيْنَ" (¬1). وقال عمر رضي الله تعالى عنه: اخشوشنوا وتمَعْدَدوا، وإياكم وزي الأعاجم. رواه ابن حبان وغيره (¬2). وروى ابن شاهين في "الصحابة"، والطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "المعرفة" عن القعقاع بن أبي حدرد رضي الله تعالى عنه: أن ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَمَعْدَدُوْا، وَاخْشَوْشِنُوْا، وَاخْلَوْلقُوْا، وَانتُعِلُوْا، وَامْشُوْا حُفَاء" (¬1). وقوله: "تَمَعْدَدُوْا"؛ أي: تزيُّوا بزي معد بن عدنان، واقتدوا به من الخشونة في العيش، والتقشف، ودعوا التنعم وزي العجم. وروى أبو داود عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة قال المشركون: إنه يقدم عليكم غداً قوم وهنتهم الحمى، فلما كان الغد جلسوا مما يلي الحجر، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا بين الركنين ليرى المشركون جَلَدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين نزعم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء كأنهم الغزلان (¬2). وفي الحديث إشارة إلى استحباب إظهار الشجاعة والنشاط والنعمة؛ خصوصاً عند الدخول على الأعداء؛ فإن ذلك أشد عليهم وأقمع لهم، وعلى الإخوان والأصدقاء؛ فإن ذلك أشرح لصدورهم وأدخل للسرور عليهم، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: "إِنَّكمْ قَادِمُوْنَ عَلَىْ إِخْوَانِكُمْ فَأَصْلِحُوْا رِحَالَكُمْ وَأَصْلِحُوْا شَأْنكُمْ حَتَّىْ ¬
تَكُوْنُوْا كَأَنَّكمْ شَامَةٌ فِيْ النَّاسِ، فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ". رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وغيرهما من حديث سهل ابن الحنظلية وصححه الحاكم (¬1). وروى الترمذي وحسنه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَىْ أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَىْ عَبْدهِ" (¬2). وروى أبو داود عن أبي الأحوص، عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثوب دون، فقال: "ألكَ مَالٌ؟ ". قلت: نعم. قال: "مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟ ". قال: قد آتاني الله من الإبل، والغنم، والخيل، والرقيق. قال: "إِذَا آتَاكَ اللهُ فَلْيَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ" ((¬3). وروى ابن سعد في "طبقاته" عن جندب بن مكيث رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم الوفد لبس خير ثيابه، وأمر عامة أصحابه بذلك (¬4). ¬
وروى أبو داود عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما خرجت الحرورية أتيت علياً فقال: ائت هؤلاء القوم. قال: فلبست أحسن ما يكون من حُلل اليمن فأتيتهم. فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس، ما هذه الحلة؟ قلت: ما تعيبون عليَّ؟ رأيت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن ما يكون من الحُلل (¬1). وفي وصية بعض الحكماء: ادخل على عدوك جوعان، ولا تدخل عليه عريان. ووجهه: أن الجوع يخفى ويكتم، والثياب ظاهرة تلحظ؛ فإذا كان عليك ثوب يزري بك لخَلاَقته وغيرها، فدخلت فيه على عدوك، شَمَت بك. وروى الطبراني - ورجاله رجال الصحيح - عن أبي يعفور قال: سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنه يسأله رجل: ما ألبس من الثياب؟ قال: ما لا يزدريك فيه السفهاء، ولا يعيبك به الحكماء. قال: وما هو؟ قال: ما بين الخمسة دراهم إلى العشرين (¬2). وهذا الذي قاله ابن عمر من القول الفصل في هذا الباب، والمنهج ¬
العدل في هذا الأمر، وأراد بالحكماء علماء الشرع، وهم أهل الحكمة الذين أوتوها: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا} [البقرة: 269]. وما يعيبه العلماء هو ما خالف الشرع والسنة، وما يزدري فيه المرء السفهاء شامل لأن يلبس المفتي أو القاضي، أو المدرس ثياب الصوفية وغيرهم، أو البزاز ثياب البقال والجزار، ونحو ذلك، أو العامي ثياب الفقهاء وزي العلماء، أو التاجر زي الأمراء، أو العالم زي الأجناد، أو زي الولاة؛ فإن السفهاء يزدرون هؤلاء بذلك، ويصير الواحد منهم ضحكة. - ومن الظباء ما له نافجة مسك، ومنها ما ليس له ذلك، وهو الأكثر، وغزلان المسك بأرضِ تِبْت من بلاد الهند وغيرها. وحكى الشرف بن يونس شارح "التنبيه"، و"مختصر الإحياء": أنه لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض جاءته الوحوش تسلم عليه وتزوره، وكان يدعو لكل جنس بما يليق به، فجاءته طائفة من الظباء، فدعا لهن، ومسح على ظهورهن، فظهرت فيهن نوافج المسك، فلما رأى بواقيها ذلك قلن: ومن أين لك هذا؟ فقلن لهن: زرنا صفي الله آدم عليه السلام، ومسح على ظهورنا. فمضى البواقي إليه، فدعا لهن، ومسح على ظهورهن، فلم يظهر لهن من ذلك شيء، فقلن: قد فعلنا كما فعلتن، فلم نر شيئاً مما حصل لكُنَّ.
فقيل لهن: أنتن كان عملكن لتنَلْنَ كما نال إخوتكن، وأولئك عملهن لله من غير شوب، فظهر ذلك في نسلهن وعقبهن إلى يوم القيامة. وكذلك ينبغي للعبد الإخلاص في كل أعماله لتظهر آثار بركة الإخلاص عليه وعلى عقبه إلى يوم القيامة. وعلى ذكر ظباء المسك، فقد روى البخاري عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالحِ وَالْجَلِيسِ السُّوْءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ؛ لا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً" (¬1). وروى أبو داود، وأبو يعلى، والرامهرمزي في "الأمثال"، وابن حبان في "روضة العقلاء"، والضياء المقدسي في "المختارة" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]: "مَثَلُ الجليسِ الصَّالحِ مَثَلُ العَطَّار؛ إن لم يُعْطِكَ مِنْ عِطْرِهِ أصابَكَ مِنْ رِيحِهِ، ومَثَلُ الجليسِ السُّوءِ مَثَلُ القَيْنِ - أي: الحدَّاد - إن لم يُحْرِقْ ثوبَكَ أصابَكَ مِنْ رِيحِهِ" (¬2). ¬
وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْعَطَّار؛ إِنْ جَالَسْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ مَاشَيْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ شَارَكْتَهُ نَفَعَكَ" (¬1). وروى الشيرازي عن أحمد بن عمر الوزان، قال: سمعت بعض النساء يقول: كنت أصيد على شاطئ البحر الظباء بالشَّرَك، فأقبل ظبي كبير له جمال وهيبة، فطمِعْتُ أن يقع في يدي، فلما نظر إلى الشَّرَك رجع عن الماء وخاف، ثم أراد الهجوم لما به من العطش، فلما عظم ذلك عليه طلع إلى ذروة الجبل، فبسط يديه ومد رجليه، ثم صرخ صرخة ففزعت من شدتها، فما كان إلا يسير حتى أقبلت سحابة فأمطرت حتى صار بين يديه بركة، فشرب من الماء وهو نائم، فتبت من الصيد. قلت: وما في هذه القصة من إلهام هذا الظبي من التوجه إلى الله تعالى في حال الاضطرار إلى الماء وقد حِيل بينه وبينه حتى سأل الله تعالى فأجابه وأغاثه= كافٍ في إرشاد العبد في حال اضطراره إلى التوجه إلى الله تعالى بالدعاء، والتوسل بالالتجاء: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]. وهذا النوع من المعرفة أنفع شيء للعبد، وقد وقع التعريف به في غير موضع من كتاب الله - عز وجل -، لكن العارفين به قليل، والمهتدين به ¬
سالكون أوضح السبيل، ونيلهم منه أعظم النيل، وهم متقلدون به آناء النهار والليل. وفي المعنى يقول (¬1): [من الطويل] إِذا لَمْ يَكُنْ لِي فِي اضْطِرارِي وَشِدَّتِي ... مُعِينٌ سِوى اللهِ الْمُقَدَّسِ مَجْدُهُ فَما فِي شُهودِي غَيْرَهُ غَيْرُ خَيْبَةٍ ... وَما نافِعِي إِلاَّ إِذا احْتَجْتُ قَصْدُهُ وَلا أَهْتَدِي لِلْقَصْدِ إِلَّا بِفَضْلِهِ ... وَتَوْفيقِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَوَدُّهُ فَيا رَبِّ ما لِي غَيْرُ بابِكَ مَقْصِدٌ ... وَأَنْتَ الَّذِي فِي كُلِّ أَمْرٍ أَعُدُّهُ فَكُنْ بِيْ رَحِيماً وَاعْفُ عَنِّي تَكَرُّماً ... فَأنْتَ العَظِيمُ الشَّامِلُ الْخَلْقِ رِفْدُهُ فَما اقْتَدَحَ العَبْدُ الزِّنادَ لِمَقْصِدٍ ... وَأَوْرَى بِغَيْرِ اللهِ ذِي العَرْشِ زِنْدُهُ ¬
- ومن ذلك: الوعل -كفخذ- وفيه اللغات الأربع، وجمعه: أو عال، ووعول.
فَيَشْغَلْ بِغَيْرِ اللهِ تَضْيِيعَ مُدَّةٍ ... مِنَ العُمْرِ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللهَ عَبْدُهُ وَما سَعْدُ عَبْدٍ لَيْسَ إِلاَّ لِرَبِّه ... تَوَجُّهُهُ فِي كُلِّ حالٍ وَقَصْدُهُ فَذاكَ الَّذِي قَدْ جَلَّ بِاللهِ قَدْرُهُ ... وَذاكَ الَّذِي قَدْ تَمَّ بِاللهِ سَعْدُهُ وَذاكَ الَّذِي بِاللهِ أَيْنَعَ رَوْضُه ... وَفُتِّحَ لِلتَّعْطِيرِ بِالطِّيبِ وَرْدُهُ فَشُكْرُ الإِلَهِ الْحَقِّ ذِي العَرْشِ واجبٌ ... عَلَيْهِ لَهُ فِي كُلِّ حالٍ وَحَمْدُهُ - ومن ذلك: الوَعِل -كفخذ- وفيه اللغات الأربع، وجمعه: أو عال، ووعول. ويقال للذكر منه: أيل -كسيد، وقنب، وخلب-. وللأنثى منه أروية -بضم الهمزة، وإسكان الراء، وكسر الواو، وتشديد الياء التحتية- ويجمع على أروى على غير قياس. قيل: والوعل مع الظباء كالمعز مع الضأن. ومن عادة الوعل أن يحتمي من الماء وهو يشتهيه خشية ضرره، وذلك أن الأيايل تقتات بالأفاعي، فإذا أكلت منها في الصيف حميت
والتهبت حرارتها، فتطلب الماء، فإذا رأته امتنعت من شربه، وحامت حوله فتشمه لأنها لو شربته في تلك الحال فصادف الماء السم الذي في أجوافها هلكت، فلا تزال تمتنع منه بإلهام من الله تعالى حتى تذهب عنها فورة السم، ثم تشربه فلا يضرها. وفي ذلك قيل: [من الوافر] هَجَرْتُكَ لا قِلًى مِني وَلَكِنْ ... رَأَيْتُ بَقاءَ وِدِّكَ فِي الصُّدُودِ كَهَجْرِ الْحائِماتِ الوِرْدَ لمَّا ... رَأَتْ أَن الْمَنِيَّةَ فِي الورُودِ تَفِيضُ نُفُوسُها ظَمَأً وَتَخْشَى ... حِماماً فَهْيَ تَنْظُرُ مِنْ بَعِيدِ تَصُدُّ بِوَجْهِها البَغْضاءَ عَنْهُ ... وَتَرْمُقُهُ بِإِلْحاظِ الورُودِ (¬1) وكذلك ينبغي للإنسان أن يحتمي عما يضره في بدنه من الأغذية وغيرها، وفي دينه من الحرام والشبهة وغيرهما. وأنشد أقضى القضاة الماوردي في "أدبه": [من السريع] جِسْمُكَ قَدْ أَضْعَفْتَهُ بِالْحمى ... خَوفاً مِنَ البارِدِ وَالْحارِ وَكانَ أَوْلَى بِكَ أَنْ تَحْتَمِي ... مِنَ الْمَعاصِي خَشْيةَ النَّارِ والحمية قد تكون بتعمُّل من العبد وصبر، وهي من باب المجاهدة. ¬
- ومن خصال الأوعال والأروى: أنها تتخذ مساكنها في رؤوس الجبال وشعفها،
وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. فمن يحتمي مستعيناً بالله يجد سبيله إلى الله تعالى. وقد يكون بمحض المئة من الله تعالى، والعصمة منه، كما روى الطبراني بإسناد حسن، عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه، عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِيْ سَقِيْمَهُ الْمَاءَ" (¬1). وروى الحاكم وصححه، عن أبي سعيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ يَحْمِيْ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ كَمَا تَحْمُوْنَ مَرِيْضَكُم الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ" (¬2). - ومن خصال الأوعال والأروى: أنها تتخذ مساكنها في رؤوس الجبال وشَعَفِها، فتمتنع بنفسها من شرار الخلق. وقد قيل في المثل: إنما هو كبارح الأروى؛ لأنها تأوي الجبال الممتنعة وكنانها، فلا تكاد تشاهد سانِحة ولا بارحة إلا في الدهر مرة؛ يضرب مثلاً لمن يجري منه الإحسان في الآحايين، وقد يضرب لمن ¬
اعتزل الناس بالكلية واختفى عنهم حتى كأنه غائب منسي (¬1). وكذلك ينبغي للمؤمن أن يفر بدينه من الفتن خصوصاً في هذا الزمن. روى الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُوْشِكُ أَنْ يَكُوْنَ خَيْرُ مَالِ الْمُؤْمِنِ غَنَمٌ تتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِيْنِهِ مِنَ الْفِتَنِ" (¬2). ولعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى هذا الذي لَمَحْناه هنا بقوله: "إِنَّ الدِّيْنَ لَيَأرِزُ إِلَىْ الْحِجَازِ كَمَا تأرِزُ الْحَيَّةُ إِلَىْ جُحْرِهَا، وَلْيَعْقِلَنَّ الدِّيْنُ مِنَ الْحِجَازِ مَعْقِلَ الأَرْوِيَّة مِنْ رَأْسِ الجَبَلِ، إِنَّ الدِّيْنَ بَدَأَ غَرِيْباً وَيرْجِعُ غَرِيْبًا، فَطُوْبَىْ لِلْغُرَبَاءِ الَّذِيْنَ يُصْلِحُوْنَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ بَعْدِي مِنْ سُنَتِيْ". رواه الترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني رضي الله تعالى عنه (¬3). وروى البخاري في "تاريخه"، وغيره - وهو صحيح الإسناد - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّىْ يَفْشُوَ الْفُحْشُ وَالْبُخْلُ، وَحَتَّى يَخُوْنَ الأَمِيْنُ، ويؤْتَمَنَ الْخَائِنُ، وَتَهْلَكَ الْوعُوْلُ، وَتَظْهَرَ التَّحُوتَ". ¬
- ومن عادة الوعل
قالوا: يا رسول الله! ما الوعول والتحوت؟ قال: "الْوعُوْلُ وجُوْهُ النَّاسِ، وَالتُّحُوْتُ الَّذِيْنَ تَحْتَ الأَقْدَامِ". وفي رواية: قالوا: يا رسول الله! ما الوعول؟ قال: "وجُوْهُ النَّاسِ وَأَشْرَافُها" (¬1). شبههم بالوعول لتمنعها تشبيهاً لشرف نفوسهم وارتفاع هممهم بالوعول في تحصُّنها، وسكناها قنان الجبال، وقلل الأطواد والشوامخ. - ومن عادة الوعل: أنه إذا لسعته حية أكل السرطان فيبرأ، وقد سبق أنه مولع بأكل الحيات فربما ضرته، وقد سبق أنه يحتمي بعد أكلها عن الماء. وهذا أمر عجيب الإلهام؛ فإنه ألهم الطب بطرفيه لأن الطب يرجع إلى الحمية، والعلاج بالأدوية. ونظير ذلك أن الأفعى تختفي في التراب أربعة أشهر في البرد، ثم تخرج وقد أظلمت عيناها، وقيل: تعمى، فتطلب شجرة الرازيانج فتحك عينيها به، فيرجع إليها بصرها. ذكره القزويني. وقال غيره: إذا مرضت أكلت ورق الزيتون فتشفى. وكثير من الأنعام والدواب تأكل من المرعى شيئاً دون شيء، ¬
وربما كان فيما عافته ضررها فتحجم عنه بإلهام من الله تبارك وتعالى. فينبغي للإنسان أن لا يكون أعجز من الحيوان في تدبير فصول السنة، واتقاء حرها وبردها صيفاً وشتاءً؛ فإن الحية وغيرها من دواب الأجحرة يحتجر أربعة أشهر ونحوها، وبعض الطير يشتي في البلاد الدافئة، ويصيف في البلاد الباردة كالخطاف، ولا في الحمية عما يضره، والتداوي بما ينفعه عند الحاجة إليه، ولا ينفي عنه ذلك شيئاً من التوكل والثقة بالله تعالى. روى ابن ماجه عن قيس بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: أتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له ماء يتبرد به، فاغتسل (¬1). وروى ابن السني، وأبو نعيم؛ كلاهما في "الطب" عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار وقد وضع له ماء ليتبرد به، فجاء العباس فستره (¬2). وروى أبو نعيم عنه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَدْفِئُوْا مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْد" (¬3). ¬
وعن مدركة بن حجير رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً نائماً في الشمس فقال: "قُمْ؛ فَإِنَّها تُغَيِّرُ الْبَدَنَ وَتُبْلِي الثَّوْبَ" (¬1). وروى ابن السني، وأبو نعيم، والحاكم وصححه، عن عائشة رضي الله عنها: كان - صلى الله عليه وسلم - يُستعذب له الماء العذب (¬2). وروى الشيخان، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً" (¬3). وروى أبو داود، والترمذي، والحاكم وصححاه، والنسائي، وابن ماجه، وابن السني، وأبو نعيم عن أسامة بن شريك رضي الله تعالى عنه قال: قالوا: يا رسول الله! هل علينا جُناح ألا نتداوى. قال: "تَدَاووا عِبَادَ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ: الْهَرَم" (¬4). ¬
وروى ابن السني، وأبو نعيم، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أجيف برجل من الأنصار يوم أحد، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طبيبين كانا بالمدينة، فقال: "عَالِجَاهُ". فقالا: إنما كنا نعالج ونحتال في الجاهلية، فلما جاء الإسلام فما هو إلا التوكل. فقال: "عَالِجَاهُ؛ فَإِنَّ الَّذِيْ أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ، ثُمَّ جَعَلَ فِيْهِ شِفَاءً". فعالجاه، فبرأ (¬1). وروى الإمام مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم رحمهما الله تعالى: أن رجلًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرح، فحقن الدم، فدعى له رجلان من بني أنمار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّكُمَا أَطَبُّ؟ ". فقال أحدهما: يا رسول الله! أوفي الطبِّ خير؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الَّذِيْ أَنْزَلَ الدَّاءَ هُوَ الَّذِيْ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ" (¬2). وهو - وإن كان مرسلاً - فذِكْرُ مالك له إثبات لأصله، وشاهده ¬
- ومن طبع الوعل
حديث أبي هريرة المذكور، وهو حديث صحيح، وله شواهد أخرى. وفيه دليل على أنه ينبغي أن يختار للتطبيب الأعلم والأحذق. وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسَّنه، والحاكم وصححه، عن أبي خزامة (¬1) - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها؛ هل ترُدُّ من قدر الله شيئاً؟ فقال: "هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ" (¬2). والمعنى: أنَّ الداء ينزل بقدر الله، ويكون في قدره أنه يذهب بالدواء الفلاني والرقية الفلانية، وإذا لم يوافقا القدر لا ينفعان. والمراد الرقى المأذون فيها شرعاً، وهي ما كانت كلاماً عربياً لا حرج فيه، وقد سبق لنا في هذا الباب كلام في موضعٍ من القسم الأول من الكتاب. - ومن طبع الوَعِل: ما ذكره الدميري والسيوطي في ترجمة الأروية أنه يبر أبويه، وذلك أنه يختلف إليهما بما يأكلانه، فإذا عجزا عن الأكل مضغ لهما وأطعمهما. ¬
ونظير ذلك ما ذكراه: أن الفهود الهرمة العاجزة عن الصيد لنفسها تجتمع على فهد فتي فيصيد لها كل يوم شبعها. فلا ينبغي للعبد أن يكون أعجز من هذين الحيوانين، فيقصَّر في بِرِّ أبويه خصوصاً عند كبرهما، ولا في حق من يليه إذا كان في حال الكبر والعجز، أو الضعف. وقد سبق في حديث كعب بن عجرة عن الشاب الذي بكر يسعى: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَىْ أَبَوَيْنِ كَبِيْرَيْنِ لِيَكْفِيَهِمَا فَهُوَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَا كرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنَّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ". رواه الترمذي من حديث أنس (¬2). ومما يناسب هذا الفصل ما ذكره الدميري، والسيوطي أيضاً: أنَّ في طبع الكركي أنه يبر أبويه إذا كبرا. قال كشاجم يخاطب ولده: [من الخفيف] اتَّخِذ فِيَّ خُلَّةَ الكراكِي ... أتخِذْ فِيكَ خُلَّةَ الوَطْواطِ أَنا إِنْ لَمْ تَبَرَّنِي تُعَنَّى ... فَبِبِرِّي تَرْجُو جَوازَ السِّراطِ وخلة الوطواط، وهو الخفاش أنه يبر ولده، ولا يتركه بِمَضْيعة، بل يحمله معه حيثما توجه. ¬
قيل: وليس في الحيوان ما يحمل ولده غير الوطواط، والقرد، والإنسان، ولعله في الغالب. وإلا فالهر تحمل أولادها، لكنها تجمع بين بر وعقوق، فربما أكلت أولادها. قيل: وذلك لشدة حنوها على أولادها. والوطواط يحمل ولده تحت جناحه، وربما قبض عليه بفيه، وذلك من حنوه وإشفاقه عليه، وربما أرضعت الأنثى ولدها وهي طائرة. فلا ينبغي للإنسان أن يكون أعجز من هذه البهائم في الحنو على ولده والقيام عليهم بالإنفاق والتربية. وأكثر ما يحصل للآباء القسوة على الأولاد من موت الأمهات، واختيار الآباء لزوجات أُخر، فتغلب شهوتُه مروءتَه، وذلك غير محمود، بل هو مما يذم به الإنسان. وقد روى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "أَعِيْنُوْا أَوْلادكمْ عَلَىْ الْبِرِّ، مَنْ شَاءَ اسْتَخْرَجَ الْعُقُوْقَ مِنْ وَلَد" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه: "وَإِنْ ¬
- ومن ذلك: الأرنب والثعلب؛ يضرب بهما المثل في الفرار.
كَانْ يَسْعَىْ عَلَىْ وَلَدهِ صِغَارًا فَهُوَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ" (¬1). وفي "صحيح مسلم"، و"جامع الترمذي" عن أبي قلابة، عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ دِيْنَارِ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِيْنَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَىْ عِيَالِهِ، وَدِيْنَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى دابَّتِهِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، وَدِيْنَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَىْ أَصْحَابِهِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ". قال أبو قلابة رحمه الله تعالى: بدأ بالعيال. ثم قال أبو قلابة: وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم الله به؛ أي: ينفعهم الله به ويغنيهم (¬2). - ومن ذلك: الأرنب والثعلب؛ يضرب بهما المثل في الفرار. وفي المثل: ألطف من الأرنب (¬3)، وأطعم أخاك من كلية الأرنب (¬4)؛ يضرب في المواساة ولو في القليل، وهو من أخلاق المؤمن. والثعلب ذو فرار مما يؤذيه، وحذر وحيلة. وذلك كله ممدوح من العبد إذا كان في محله كأن يفر بدينه، ويحذر من عدوه، ويحتال في استخلاص نفسه إذا وقع في معضلة، وفي نفع نفسه من غير مخالفة للشرع في شيء من ذلك. ¬
وإنما كراهية المشابهة بالثعلب في الروغان إذا كان عن الحق كما تقدم. روى أبو نعيم، والبيهقي في "الزهد"، والرافعي في "تاريخ قزوين" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأْتِيْ عَلَىْ النَّاسِ زَمَانٌ لا يَسْلَمُ لِذِيْ دِيْنٍ دِيْنُهُ إِلاَّ مَنْ فَرَّ مِنْ شَاهِقٍ إِلَىْ شَاهِقٍ أَوْ جُحْرٍ إِلَىْ جُحْرٍ كَالثَّعْلَبِ بِأَشْبَالِهِ" (¬1). وذلك في آخر الزمان إذا لم تحصل المعيشة إلا بمعصية الله تعالى، فإذا كان ذلك حلت الغربة. يكون في ذلك الزمان هلاك الرجل على يدي أبويه إن كان له أبوان، فإن لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجته وولده، فإن لم يكن له ولد فعلى يدي الأقارب والجيران؛ يعيرونه بضيق المعيشة، ويكلفونه ما لا يطيق. وقلت موالياً: هَذا الزَّمانُ الَّذِي لَمْ يَصْفُ فِيهِ العَيْش إِلاَّ بِمَعْصِيَةِ اللهِ وَاتِّباعِ الْهَيش فَاحْرِصْ عَلى الدِّينِ وَاهْرُبْ مِنْ مَكافيِ الطَّيش وَاقْنَعْ تَسَاوي البِلَى بَيْنَ الْحَرِيرِ وَالْخَيْش ¬
- ومن أحوال البهائم: الاستسقاء.
العيش: الحياة، والمعيشة. والهيش: الإفساد، والتحرك، والهيج، والجمع، والإكثار من الكلام، وجمع هيشة بمعنى الهوشة، وهي الجماعة المختلطة، والكل صالح في البيت. والطيش: النزق، والخفة، وذهاب العقل. والخيش: ثياب في نسجها دقة، وخيوطها غلاظ من مشاقة الكتان، أو من أردأ الثياب. - ومن أحوال البهائم: الاستسقاء. والإشارة إليه في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا مَعْشَرَ الْمُهاجِرِينَ! خِصالٌ خَمْسٌ إِنِ ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَنزَلْنَ بِكُمْ؛ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الفاحِشَةُ فِي قَوْمِ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِها إِلَّا فَشا فِيهُمُ الطَّاعونُ وَالأَوْجاعُ التِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلافِهِمْ. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِلَّةِ الْمؤنَةِ وَجَوْرِ السُّلطانِ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكاةَ أَمْوالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا القَطْرَ مِنَ السَّماءِ، وَلَوْلا البَهائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا. وَلا نَقَضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولهِ إِلَّا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ عَدوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَأخُذَ بَعْضَ ما فِي أَيْدِيهِمْ.
وَما لَمْ يَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتابِ اللهِ إِلاَّ جَعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ". رواه ابن ماجه، والبزار، والبيهقي، واللفظ له (¬1). وروى البزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَهْلاً عَنِ اللهِ مَهْلاً؛ فَلَوْلا عِبَادٌ رُكَّعٌ، وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ، وَبَهَائِمٌ رُتَّعٌ، لصَبَّ عَلَيْكُمْ الْعَذَابَ صَبًّا" (¬2). وروى ابن عدي عن مالك بن عبيدة، عن أبيه، عن جده (¬3) رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْلا عِبَادٌ للهِ رُكَّعٌ، وَصِبْيَةٌ رُضَّعٌ، وَبَهَائِمٌ رُتَّعٌ، لَصَبَّ عَلَيْكُمُ الْعذابَ صَبًّا ثُمَّ يَرُصُّ رَصًّا" (¬4). ويرص - بالصاد المهملة -: من رص البناء إذا ضمَّ بعضه إلى بعض، ويروى بالضاد المعجمة كما في "النهاية" (¬5). ¬
والمعنى: إن الله تعالى ينظر إلى هؤلاء الأصناف الثلاثة فيرحمهم، ويرحم بقية العباد بهم أهل الطاعة لطاعتهم، والأطفال لضعفهم، والبهائم لتسبيحها وعدم تحقق معصية منها، أو لطلبها من الله تعالى أن يرزقها ويسقيها، ولا يهلكها بذنوب الخاطئين من عباده كما روى الدارقطني، والحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقْتُلُوْا النَّمْلَةَ فَإِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ يَسْتَسْقِيْ فَإِذَا هُوَ بِنَمْلَةٍ مُسْتَلْقِيَةٍ عَلَى قَفَاهَا رَافِعَةٍ قَوَائِمَهَا تَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ لا غِنَىْ لَنَا عَنْ فَضْلِكَ، اللَّهُمَّ لا تُؤَاخِذْناَ بِذُنُوْبِ عِبَادِكَ الْخَاطِئِيْنَ وَاسْقِنَا مَطَرًا تُنْبِتُ لَنَا بِهِ شَجَرًا وَأَطْعِمْنَا ثَمَرًا فَقَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيِهِ السَّلامُ ارْجَعُوْا فَقَدْ كُفِيْنَا وَسُقِيْتُمْ بِغَيْرِكُمْ" (¬1). وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وأبو نعيم عن أبي الصدِّيق النَّاجي رحمه الله تعالى قال: خرج سليمان بن داود عليهما السلام قال: فمر بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنَّا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك؛ فإمَّا أن تسقينا وترزقنا وإما أن تهلكنا. فقال سليمان عليه السلام: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم (¬2). ويروى: أنه اتفق لأبيه داود عليهما السلام مثل ذلك. ¬
- ومن أحوال بعض البهائم والحيوانات: الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وطلب الشفاعة، والاستجارة به عليه الصلاة والسلام
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب قال: خرج داود عليه السلام يستسقي، فبينما هو في سيره - أو قال: على سريره - فإذا هو بنملة رافعة يدها تقول: اللهم إنَّا خلق من خلقك لا غنى بنا عن رزقك؛ فلا تؤاخذنا بذنوب بني آدم. فقال داود عليه السلام: ارجعوا فقد سقيتم. وتقدم الأثر عن السري بن يحيى في استسقاء الحمر الوحشية، وعن أحمد بن عمر الوزان في استسقاء الظبي حين حيل بينه وبين الماء (¬1). - ومن أحوال بعض البهائم والحيوانات: الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وطلب الشفاعة، والاستجارة به عليه الصلاة والسلام. روى ابن أبي شيبة، وأبو نعيم، والبيهقي؛ كلاهما في "الدلائل" عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائطاً لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حنَّ إليه وذَرَفت عيناه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَل؟ ". فجاء فتى من الأنصار، فقال: هو لي. فقال: "أَلا تتَّقِيْ اللهَ فِيْ هَذهِ الْبَهِيْمَةِ الَّتِيْ مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّهُ شَكَىْ إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيْعُهُ وَتُدْئِبُهُ" (¬2). ¬
وروى الطبراني، وأبو نعيم عن يعلى بن مرَّة رضي الله تعالى عنه قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فجاء بعير يرغو حتى سجد له، فقال المسلمون: نحن أحق أن نسجد للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللهِ لأَمَرْتُ الْمَرْأةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا؛ تَدْرُوْنَ مَا يَقُوْلُ هَذَا؟ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَدَمَ مَوَالِيْهِ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً حَتَّى إِذَا كَبُرَ سِنُّهُ نَقَصُوْا مِنْ عَلَفِهِ وَزَادُوْا فِيْ عَمَلِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ لَهُمْ عُرسٌ أَخَذُوْا الشِّفَارَ لِيَنْحَرُوْهُ". فأرسل إلى مواليه فقص عليهم، فقالوا: صدق والله يا رسول الله. قال: "فَأُحِبُّ أَنْ تَدَعُوْهُ لِيْ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الدلائل" عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحراء فإذا مناد يناديه، يا رسول الله! فالتفت فلم يرَ أحداً، ثم التفت فإذا ظبية مُوثَقة، فقالت: اُدْنُ مني يا رسول الله. فدنا منها وعندها أعرابي نائم، فقال: "مَا حَاجَتُكَ؟ ". فقالت: إنَّ لي خشفين في هذا الجبل، فحلني حتى أذهب فأرضعهما، ثم أرجع إليك. ¬
فقال: "وَتَفْعَلِيْنَ؟ ". فقالت: عذَّبَني الله عذاب العشار إن لم أفعل. فأطلقها، فذهبت وأرضعت خشفيها، ثم رجعت فأوثقها، فانتبه الأعرابي، فقال: ألك حاجة يا رسول الله؟ قال: "نعَمْ؛ تُطْلِقُ هَذِهِ الظَّبْيَةَ". فأطلقها، فخرجت تعدو وهي تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله (¬1). في إسناده أغلب بن تميم (¬2)، لكن لهذا الحديث طرق كثيرة تشهد أنَّ لهذه القصة أصلاً؛ فإنَّه رواه الطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم من حديث أنس، والبيهقي من حديث أبي سعيد، وهو وأبو نعيم من حديث زيد بن أرقم (¬3). وتقدم ما رواه أبو داود الطيالسي، والحاكم - وقال: صحيح الإسناد - عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فدخل رجل غَيضة، فأخرج منها بيض حُمْرة - وفي لفظ: فرخي حمرة - فجات الحمرة ترف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
- ومن أحوال بعض البهائم والسباع: انقيادها لأهل الله تعالى، ولياذها بأوليائه، واحتشامها لهم، وأنسها بهم.
"أيُّكُمْ فَجَعَ هَذهِ؟ ". فقال رجل: يا رسول الله! أنا أخذت بيضها. ولفظ الحاكم: فرخيها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُدَّهُ، رُدَّهُ رَحْمَةً" (¬1). ورواه أبو الشيخ في "العظمة"، وأبو نعيم، والبيهقي؛ كلاهما في "الدلائل"، ولفظهم: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فمررنا بشجرة فيها فرخا حمرة، فأخذناهما، فجاءت الحمرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تعرض، فقال: "مَنْ فَجعَ هَذِهِ بِفَرْخَيْهَا؟ ". قلنا: نحن. قال: ردُّوهما موضعهما. فرددناهما (¬2). قيل: كانوا محرمين؛ فلذلك أمرهم برد الفرخين. وقيل: لما استجارت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أجارها، وهذا أقرب. - ومن أحوال بعض البهائم والسباع: انقيادها لأهل الله تعالى، ولياذها بأوليائه، واحتشامها لهم، وأُنسها بهم. روى الإمام أحمد، وأبو يعلى، والطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم، والبيهقي؛ كلاهما في "الدلائل"، وابن عساكر عن عائشة رضي ¬
الله تعالى عنها قالت: كان لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحش، فإذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعب، وذهب وجاء، فإذا جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَبَضَ، فلم يترمرم ما دام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في البيت (¬1). وروى أبو نعيم في "الدلائل" عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً من الأنصار كان له بعير فشرد عليه، فقال: يا رسول الله! إنَّ لي بعيراً قد شرد علي، وهو في أقصى أرضي لا أستطيع أن أدنو منه خشية أن يتناولني، فانطلق إليه، فلما أن نظر البعير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل يحبو، وألقى بجرانه حتىجرك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل عيناه تسيلان، فقال: "يَا فُلانُ! أَرَى بَعِيْرَكَ يَشْكُوْكَ؛ فَأحْسِنْ إِلَيْهِ"، فجاء بحبل فألقاه في رأسه (¬2). ورواه الإمام أحمد، والبزار، وأبو نعيم بنحوه، وزادوا: فجاء الجمل حتى خرَّ ساجداً بين يديه، فقال أصحابه: هذه بهيمة لا تعقل، فنحن أحق أن نسجد لك ... الحديث (¬3). ¬
وفي هذا الباب أحاديث كثيرة (¬1). وروى البيهقي: أن دانيال عليه السلام طُرِح في جب، وألقي عليه السباع، فجعلت السباع تلحسه وتبصبص إليه، فأتاه رسول، فقال: يا دانيال! قال: من أنت؟ قال: أنا رسول ربك إليك، أرسلني إليك بطعام. فقال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن أبي الزناد قال: رأيت في يد أبي بردة بن أبي موسى خاتماً نقش فصه أسدان بينهما رجل وهما يلحسانه، قال أبو بردة: هذا خاتم دانيال، فسأل أبو الزناد علماء تلك البلدة، فقالوا: إن دانيال نقش صورته وصورة الأسدين يلحسانه في فص خاتمه لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك (¬3). وروى ابن السني في "عمل اليوم والليلة" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: إذا كنت بواد تخاف فيه السبع فقل: أعوذ بدانيال، وبالجب من شر الأسد (¬4). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وأبو الشيخ بن حيان في "تفسيره"، وأبو نعيم عن وهب قال: لما أمر نوح عليه السلام أن يحمل من كل زوجين اثنين قال: يا رب! كيف أصنع بالأسد والبقرة؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب؟ وكيف أصنع بالحمام والهر؟ قال: من ألقى بينهم العداوة؟ قال: أنت. قال: فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضارون (¬1). وروى أبو يعلى، والبزار، والحاكم، وأبو نعيم، والبيهقي عن سفينة رضي الله تعالى عنه مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ركبت سفينة في البحر فانكسرت، فركبت لوحاً، فأخرجني إلى أجمة فيها أسد، فأقبل إليَّ، فقلت: أنا سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنت تائهاً، فجعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الطريق، ثم هَمْهَم، فظننت أنه السلام (¬2). ولهذه القصة طرق، وتقدمت قصة ابن عم - رضي الله عنهما - مع الأسد (¬3). وروى اللالكائي في كرامات الأولياء من كتاب "شرح السنة" عن ¬
المعلَّى بن زياد: أنَّ عامر بن عبد قيس كان مسافراً، فمرَّ بقافلة قد حبسهم الأسد من بين أيديهم على طريقهم، فلما جاء عامر نزل عن دابته، فقالوا: يا أبا عبد الله! إنا نخاف [عليك] من الأسد. فقال: إنما هو كلب من كلاب الله - عز وجل -؛ إن شاء أن يسلطه سلطه، كان شاء أن يكُفَّه كفه، فمشى إليه حتى أخذ بيديه أذني الأسد، فحاد عن الطريق، وجازت القافلة. وقال: إني أستحي من ربي أن يرى من قلبي أني أخاف من غيره (¬1). وعن عبد الجبار بن كثير قال: قيل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: هذا السبع قد ظهر لنا. فقال: أرونيه. فلما رآه قال: يا قسورة! إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به، وإلا فعودك على يديك. قال: فولى السبع ذاهباً (¬2). وعن عبد الله بن نوح القنطري العابد قال: اطلعت على إبراهيم ابن أدهم رحمه الله تعالى في بستان بالشام، فإذا إبراهيم نائم مستلق، وإذا حية في فمها باقة نرجس، فما زالت تذب عنه حتى انتبه (¬3). ¬
وعن الحسن بن دعابة قال: رأيت عتبة البغدادي رحمه الله تعالى إذا استحسن الطير دعا به، فيجيء حتى يسقط على فخذه، فيمسه، ثم يسيبه فيطير (¬1). وعن أحمد بن شبرمة - واستشهد بجماعة فشهدوا معه - قال: قدم سفيان الثوري هاهنا البصرة فارًّا من القوم، فاستخفى في بيت بعض أصحابنا، وكان لابن المنزول به طير يلعب به، فقال سفيان يوماً: لي إليك حاجة. قال: ما هي؟ قال: أحب أن تستوهب ذلك الطير وتهبه لي. قال: نعم. فاستوهب ذلك الطير من ابنه، فوهبه لسفيان، فقبضه سفيان، فأطاره، وخرج من الكن، فلما جَنَّ الليل عاد ودخل الكن، فكان ذلك دأبه يسرح بالنهار ويأوي بالليل حتى توفي سفيان، وظهر أمره، فخرجوا إلى جنازته، فلما صلي عليه ودفنوه وأهيل عليه التراب، وانصرف الناس، أتى ذلك الطير حتى قعد على قبره كئيباً حزيناً، ثم طار يذهب، فكان ذلك دأبه حتى مات، فعمد صاحبه فدفنه إلى جنب سفيان الثوري (¬2). ¬
وروى أبو نعيم عن شريح بن يونس قال: كنت ليلة نائماً فوق المشرعة، فسمعت صوت ضفدع، فإذا ضفدع في فم حية، فقلت: سألتك بالله إلا خليتِها، فخلتها (¬1). وعن أحمد بن خلف قال: دخلت يوماً على السري، فقال: ما أعجبك من عصفور يجيء فيسقط على هذا الرواق، فأكون قد أعددت له لقمة، فأفتها في كفي، فيسقط على أطراف أناملي، فيأكل؟ فلما كان في وقت من الأوقات سقط على الرواق، ففتت الخبز في يدي، فلم يسقط على يدي كما كان، فذكرت في سِرِّي العلة في وحشته مني، فوجدتني قد كلت ملحاً طيباً، فقلت في نفسي: أنا تائب من الملح، فسقط على يدي، فأكل وانصرف (¬2). وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري في "الرسالة" عن الجنيد رحمه الله تعالى قال: دخلت على السري يوماً فقال لي: عصفور كان يجيئني كل يوم، فأفت له الخبز، فيأكل بين يدي، فنزل وقتاً من الأوقات فلم يسقط على يدي، فتذكرت في نفسي إيش السبب، فتذكرت أني أكلت ملحاً بأبزار، فقلت في نفسي: لا آكله بعدها، وأنا تائب، فسقط على يدي وأكل. وروى أبو نعيم عن محمد بن وهب عن بعض أصحابه أنه حج ¬
- ومن أحوال بعض البهائم والعجماوات: حزنها لفقد أولياء الله تعالى، وحنينها إليهم
مع أيوب الحمال قال: فلما دخلنا البادية وسرنا منازل، وإذا بعصفور يحوم حولنا، فرفع أيوب رأسه إليه، وقال: قد جئت إلى هاهنا، فأخذ كسرة خبز ففتَّها في كفه، فانحط العصفور وقعد على كفه يأكل منها، ثم صب له ماء فشربه، ثم قال له: اذهب الآن، فطار العصفور، فلما كان من الغد رجع العصفور، ففعل أيوب مثل فعله في اليوم الأول، فلم يزل كذلك يفعل به ذلك إلى آخر السفر. ثم قال أيوب: تدري ما قصة هذا العصفور؟ كان يجيئني في منزلي كل يوم، فكنت أفعل به ما رأيت، فلما خرجنا تبعني يقتضي مني ما كنت أفعل به في المنزل (¬1). والحكايات في هذا الباب كثيرة، وهي داخلة في كرامات الأولياء رضي الله تعالى عنهم. - ومن أحوال بعض البهائم والعجماوات: حزنها لفقد أولياء الله تعالى، وحنينها إليهم. روى ابن عساكر، وغيره بسند ضعيف، عن أبي منظور - رضي الله عنه - قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر أصاب حماراً أسود، فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحمار، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا اسْمُكَ؟ ". قال: يزيد بن شهاب، أخرج من نسل أبي ستون حماراً كلهم لم يركبه إلا نبي، قد كنت أتوصل أن تركبني، فلم يبق من نسل جدي ¬
غيري، ولا من الأنبياء غيرك، قد كنت قبلك لرجل يهودي، وكنت أتعثر به عمداً، وكان يجيع بطني ويضرب ظهري. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فَأَنْتَ يَعْفُوْرٌ". فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث به إلى باب الرجل، فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى بئر كانت لأبي الهيثم بن التيهان، فتردَّى فيها حزناً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وهذا الحديث - وإن أنكره ابن حبان، والمديني، وغيرهما من الحفاظ - إلا أنه يستأنس به لهذا النوع (¬2). وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ داودَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا مَاتَ أَظَلَّتِ الطَّيْرُ جَنَازَتَهُ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الْمَضْرَحِيَّةُ"، وَهِيَ الصُّقُوْرُ الطِّوَالُ الأَجْنِحَةِ (¬3). ¬
وقد ذكرت آنفاً قصة سفيان الثوري مع الطائر، وحزن الطائر عليه، حتى مات على قبره بعد ثلاثة أيام (¬1). وحكى ابن السبكي في "طبقاته" في ترجمة الأستاذ أبو القاسم القشيري: أنَّ الفرس الذي كان يركبه الأستاذ أبو القاسم القشيري - وكانت رمكة (¬2) - أهديت إليه قبل موته بنحو عشرين سنة، ما كان الأستاذ يركب غيرها، وما ركبها أحد بعده. وحكى أنها لم تعتلف بعد وفاته حتى ماتت، وسقطت في الإصطبل سادس يوم من يوم وفاته (¬3). قلت: وكان لشيخ الإسلام الوالد رحمه الله تعالى هر أبيض اللون منقط بحمرة، وكان يألف الشيخ، ويكون حواليه غالباً لا يكاد يفارق الشيخ إلا قليلاً، يلوذ به في غالب أحيانه، وكان الشيخ يسميه فارساً، وكان إذا دعاه باسمه أقبل إليه حيثما كان، وكان يبره ويطعمه من أحسن ما يكون بين يديه، فلما انتقل الشيخ إلى رحمة الله تعالى فقدنا ذلك الهر، ثم وجِدَ ميتاً بعد ثلاثة أيام فوق سطح زاوية الشيخ المعروفة بالحلبية لصيق الجامع الأموي، مُلقى فوق الموضع الذي كان الشيخ يجلس فيه للمطالعة والإفتاء والتصنيف، وكان الجيران ¬
تنبيه
يسمعون صياحه في تلك الأيام الثلاثة ليلاً ونهاراً، ثم انقطع صوته بعد ذلك فوجد ميتاً مما شُرِح. * تَنْبِيهٌ: أعجب مما ذكر حزن الجمادات كالبقاع، وبكاؤها لفقد العبد المؤمن والصالح خصوصاً العلماء. روى عبد بن حميد عن مجاهد قال: إن العالم إذا مات بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً (¬1). وعن وهب قال: إن الأرض لتحزن على العبد الصالح أربعين صباحاً (¬2). وروى الترمذي، وابن أبي الدنيا في كتاب "ذكر الموت"، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والخطيب عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ عَبْدٍ إِلاَّ وَلَهُ فِيْ السَّمَاءِ بَابَانِ، بَابٌ يَصْعَدُ مِنْهُ عَمَلُهُ وَبَابٌ يَنْزِلُ مِنْهُ رِزْقُهُ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدَاهُ وَبَكِيَا عَلَيْهِ"، وتلا هذه الآية: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] (¬3). ¬
وذكر أنهم - يعني: آل فرعون - لم يكونوا يعملون على وجه الأرض عملاً صالحاً فتبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا عملهم كلام طيب، ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم. وسُئِل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الآية: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال: نعم، إنه ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق عليه بابه من السماء فقده، فيبكي عليه، وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله تعالى فيها بكت عليه. قال: وإنَّ قوم فرعون لم يكن لهم آثار صالحة في الأرض، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض. رواه ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في "الشعب" (¬1). ويروى هذا المعنى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (¬2). ¬
- ومن أحوال العجماوات: أنها تستغفر لطلبة العلم والعلماء العاملين، وتترحم عليهم مع التعظيم لهم
- ومن أحوال العجماوات: أنها تستغفر لطلبة العلم والعلماء العاملين، وتترحم عليهم مع التعظيم لهم. روى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، وغيرهم عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ سَلَكَ طَرِيْقًا يَلْتَمِسُ فِيْهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيْقًا إِلَىْ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بِمَا يَصْنعُ، وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِيْ السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِيْ الأَرْضِ حَتَّىْ الْحِيْتَانُ فِيْ الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَىْ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوْا دِيْنَارًا وَلا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوْا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِر" (¬1). وفي حديث معاذ - رضي الله عنه - المتقدم في فضل العلم وأهله: يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه ... الحديث بطوله. رواه أبو الشيخ، وابن عبد البر (¬2). وروى الترمذي وصححه، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّىْ النَّمْلَةَ فِيْ جُحْرِهَا وَحَتَّىْ الْحُوْتَ لَيُصَلُّوْنَ عَلَىْ مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ" (¬3). ¬
- ومن أحوال العجماوات: أن منها ما يلهم النصيحة للخلق
وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عُلَمَاءُ هَذِهِ الأُمَّةِ رَجُلانِ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا فَبَذَلَهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ طَمَعًا وَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ ثَمَنًا، فَذَلِكَ تَسْتَغْفِرُ لَهُ حِيْتَانُ الْبَحْرِ وَدَوَابُّ الْبَرِّ وَالطَّيْرُ فِيْ جَوِّ السَّمَاءِ، وَيقْدُمُ عَلَىْ اللهِ تَعَالَىْ سَيِّدًا شَرِيْفًا حَتَّىْ يُرَافِقَ الْمُرْسَلِيْنَ"، وذكر الحديث، وتقدم بتمامه (¬1). وفي الباب غير ذلك من الأحاديث. - ومن أحوال العجماوات: أنَّ منها ما يلهم النصيحة للخلق. روى أبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعنده كعب الأحبار، فقال كعب: يا أمير المؤمنين! ألا أخبرك بأغرب شيء؟ قرأت في كتب الأنبياء عليهم السلام أن هامَة - وهي بتخفيف الميم على المشهور: طير الليل - جاءت إلى سليمان عليه الصلاة والسلام، فقالت: السلام عليك يا نبي الله. فقال: وعليك السلام يا هامة؛ أخبريني كيف لا تأكلين من الزرع؟ قالت: يا نبي الله! إن آدم أخرج من الجنة بسببه، فمن أجل ذلك لا آكل. فقال: وكيف لا تشربين من الماء؟ ¬
قالت: لأنه غرق فيه قوم نوح، فمن أجل ذلك لا أشربه. قال لها سليمان: كيف تركت العمران؟ قالت: لأن الخراب ميراث الله، فأنا أسكن ميراث الله. قال سليمان: فما صياحك في الدور إذا مررت عليها؟ قالت: أقول: ويل لبني آدم كيف ينامون وأمامهم الشدائد؟ قال: فما لك لا تخرجين بالنهار؟ قالت: من كثرة ظلم بني آدم لأنفسهم. قال: فأخبريني ما تقولين في صياحك؟ قال: أقول: تذكروا يا غافلين وتهيؤوا لسفركم؛ سبحان خالق النور! فقال لسليمان عليه السلام: ليس من الطيور أنصح لابن آدم وأشفق من الهامة، وما في قلوب الجهال أبغض منها (¬1). ومما يضرب به المثل في النصح الكلب. وقال الشاطبي رحمه الله تعالى: [من الطويل] وَقَدْ قِيلَ كُنْ كَالْكَلْبِ يُقْصِيهِ أَهْلُهُ ... وَلا يَأتَلِي فِي نُصْحِهِمْ مُتَأَثِّلاً ¬
- ومن أحوال العجماوات: أن منها ما يلهم النصيحة للخلق
- ومن أحوال العجماوات والبهائم: أنها تلعن العصاة وعلماء السوء، وتردُّ اللعنة على لاعنها. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160]. قيل في تفسير الآية: كما أن العلماء العاملين يستغفر لهم كل شيء حتى الحيتان فى الماء والطير في الهواء، كذلك كاتم العلم لغرض فاسد يلعنه كل شيء. وروى ابن الجوزي في "العلل" عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كَاتِمُ الْعِلْمِ يَلْعَنُهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّىْ الْحُوْتُ فِيْ الْبَحْرِ وَالطَّيْرُ فِيْ السَّمَاءِ" (¬1). وقلت ملمحاً بذلك: [من الخفيف] عالِمٌ مُخْلِصٌ نَصُوحٌ لَهُ اسْتَغْـ ... فَرَ كُلٌّ مِنَ الْخَلائِقِ حَقًّا وَالَّذِي يَكْتُمُ العُلُومَ لِدَيْنا ... لَعَنَتْهُ الأَشْياءُ بُغْضاً وَحَنَقاً إِنَّ هَذا لَفِي الْحَضِيضِ وَذاكَ الـ ... مُخْلِصُ القَلْبَ فِي الْمَراتِبِ يَرْقَى ¬
تنبيه لطيف
فَتَلَبَّسْ بِما تَشاءُ فَإنَّ الـ ... ــــمَرْءَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ سَيَلْقَى وَتَعَلَّمْ وَكُنْ سَعِيداً بِعِلْمٍ ... لا تَكُنْ مُسْرِفاً بِعِلْمِكَ تَشْقَى * تنبِيهٌ لَطِيفٌ: قد اشتملت هذه الآية المذكورة مع الوعيد على كتمان العلم على غاية التلطف بالعالم المفرِّط في علمه ليتوب ويفيء إلى حفظ خير العلم الذي أوتيه؛ فإنه الشرف البالغ الشَّأو في الرفعة والسمو، ألا ترى أنه سبحانه وتعالى لما وجه الوعيد إلى كاتم البينات والهدى لم يصفه بالعلم، بل صبَّ الوعيد على الكتمان صيانة لمنصب العلم عن وصمة اللعن، وإشارة إلى أن الكاتم لا يكاد يوصف بالعلم؛ فإنه ساوى أهل الجهل في ذلك، ثمَّ لما استثنى التائبين وصفهم بالبيان الذي هو ثمرة العلم، وفي طي ذلك وصفهم بالعلم، ثم نوَّه باسمهم بقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ}؛ ذكرهم باسم الإشارة الموضوع للبعيد إشارة إلى بعد مقامهم في السمو والسناء، وذكر وعده لهم بفعل المتكلم الواحد على وجه الالتفات، وأتى في الوعيد بقوله: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ}، فأتى باسم الإشارة الموضوع للبعيد إبعاداً لهم، وباسم الله الجامع إشارة إلى وصف يجمع صفات القهر والانتقام، وأتى بالهمزة في {أَتُوبُ} الموضوعة للمفرد، ولم يأت بنون العظمة إشارة إلى اختصاصهم به الداعي إلى أن يتولى التوبة عليهم بذاته الكريمة دون الوسائط، ولم يقل: أقبل توبتهم، بل: أتوب عليهم تحقيقاً لثمرات التوبة التي تابوها، وأتوب مع الاحتمال أبلغ من أقبل توبتهم، وفيه إيماء إلى أن
توبة العالم تكون من بصيرة، فإذا تاب فإنما توبته بتوبة الله عليه ورده إياه إلى التبيين والتفقه بعلمه والانتفاع به، ثم أكد هذا الوعد الجميل بالتوبة المخصوصة بتولي الله تعالى لها وحده بالضمير الموضوع للمتكلم وحده مخبراً عنه بوصفين عظيمين بصفتي المبالغة، فقال: {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160]. ولقد قلت: [من السريع] يا رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي عِلْماً ... فَأَتْمِمِ الإِحْسانَ وَالنِّعَما فَلا يَكُونَ العِلْمُ لِي فاتِناً ... وَوَقِّنِي العِصْيانَ وَالإِثْما وَثَبِّتِ اللَّهُمَّ قَلْبِي عَلى ... دِينِكَ يا مَنْ حِصْنُهُ الأَحْمَى حَتَّى أُفِيدَ العِلْمَ لا طاغِياً ... بِهِ وَلا أَمْنَعَهُ كَتْماً عَلَّمْتَنِي العِلْمَ وَأَشْقَى بِهِ ... قِنِي إِلَهِي كُلَّ ما هَمَّا يا رَبِّ فَانْفَعْنِي بِما نِلْتُ مِنْ ... عِلْمٍ وَزِدْنِي سَيِّدِي عِلْماً وروى الحافظ عماد الدين بن كثير في "تفسيره" عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فقال: "إِنَّ الْكَافِرَ يُضْرَبُ ضَرْبَةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَسْمَعُهَا كُلُّ دَابَّةٍ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ، تَلْعَنُهُ كُلُّ دَابَّةٍ سَمِعَتْ صَوْتَهُ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَىْ: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] (¬1). ¬
تنبيهان
وروى عبد بن حميد، وابن جرير عن عكرمة رحمه الله تعالى: أن عصاة بني آدم يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقارب؛ يقولون: مُنِعْنا القطر بذنوب بني آدم (¬1). وروى سعيد بن منصور، وابن جرير عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: إنَّ البهائم إذا اشتدت عليها السنة قالت: هذا من أجل عصاة بني آدم؛ لعن الله عصاة بني آدم (¬2). وروى عبد بن حميد عنه قال: إذا أجدب البهائم دعت على فجار بني آدم، فقالت: حبس عنا الغيث بذنوبهم (¬3). * تنبِيهانَ: الأَوَّلُ: دلَّت هذه الآثار أن ذنوب بني آدم تكون سبباً لهلاك غيرهم من الدواب. روى البيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رجلاً يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال أبو هريرة: كذبت والذي نفسي بيده؛ إن الحُبارى لتموت هزالاً من خطايا بني آدم (¬4). ¬
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "العقوبات" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: إن الضب ليموت في جحره هزالاً من ظلم ابن آدم (¬1). وروى الحاكم، وغيره عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه قرأ قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] قال: كاد الجعل يعذب في جحره بذنب ابن آدم (¬2). وتقدم في حديث: "وَمَا مَنَعَ قَوْمٌ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوْا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاء وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوْا" (¬3). وحديث: "لَوْلاَ عِبَادٌ رُكَّعٌ، وَصِبْيَةٌ رُضَّعٌ، وَبَهَائِمٌ رُتَّعٌ، لَصَبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابَ صَبًّا" (¬4). والجمع بين هذين الحديثين وبين الآثار المتقدمة: أن هذا على حسب التجليات الإلهية؛ فتارة تقتضي الحكمة الإلهية الظهور بمظهر اللطف والعفو، فيهب الله تعالى أهل معصيته لأهل طاعته ولضعفاء خليقته، فيدر الغمام ببركة هؤلاء، ويعفو عن ذنوب أولئك. ¬
الثاني
وتارة تقتضي الظهور بمظهر الجلال والقهر، والانتقام والاستقصاء فيه، فيمتنع القطر وتقحط الأرض حتى يموت بعض دواب الأرض. وقد يكون السر في ذلك استعتاب الناس، وتأديبهم وقودهم بأزمة البلاء والشدة إلى الطاعة والتوبة، أو إحقاق الكلمة على من سبقت له - والعياذ بالله - في علمه الشقاوة والهلاك، ويفعل الله سبحانه وتعالى في ملكه ما يشاء. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: ينبغي للإنسان أن لا يكون أعجز من الجمادات والبهائم في الدعاء لأهل العلم والاعتناء بشأنهم، والاستغفار للمؤمنين والاهتمام بأمورهم، لا ينبغي له أن يلعن شيئاً لما تقدم أن المؤمن لا يكون من خلقه كثرة اللعن ولا يكون الصديق لعاناً وإن جاز له أن يلعن العصاة والكفار من غير تعيين واحد بنفسه. وقد قالوا: إنَّ الذكر والتسبيح أَعْوَدُ على الإنسان من الاشتغال بلعن الشيطان؛ فإنه يغضب من الذكر ما لا يغضب من اللعن. روى ابن أبي الدنيا في "الصمت" عن مجاهد قال: قَلَّ ما ذكر الشيطان قوم إلا حضرهم، فإذا سمع أحداً يلعنه قال: لقد لعنت مُلَعَّناً. قال: ولا شيء أقطع لظهره من: لا إله إلا الله (¬1) وقد تقدم هذا المعنى في محله. ¬
تنبيه
وأمَّا رد العجماء اللعن على لاعنها فروى ابن أبي الدنيا عن عمرو ابن قيس رحمه الله تعالى قال: إذا ركب الرجل الدابة قال: اللهم اجعله بي رفيقاً رحيماً، فإذا لعنها قالت: على أعصانا لعنة الله (¬1). وعن الفضيل رحمه الله تعالى قال: كان يقال: ما أحد يسب شيئاً من الدنيا دابة أو غيرها فيقول: أخزاك الله، ولعنك الله إلا قال: أخزى الله أعصانا. [قال الفضيل]: وابن آدم أعصى وأظلم (¬2). * تنبِيهٌ: إذا سبَّ إنسانٌ إنساناً، فسبَّه ولم يتجاوز في رده عليه، ولم يكذب في سبِّه، لم يحرم عليه، ولكن الأولى أن لا يجيبه ويعرض عنه بالكلية، فهو أولى من الانتصار وإن كان مع الاقتصار على القدر الواجب لقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]. وقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. - ومن أحوال العجماوات، بل والجمادات: طاعتها لله تعالى، وانقيادها له، وتسبيحها بحمده، وشهادتها بوحدانيته. قال الله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. ¬
قيل: أراد الله تكوينها فلم تمتنعا عليه. وقيل: قال الله لها: أخرجا ما خلقت بكما من المنافع لمصالح العباد؛ أمَّا أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأما أنت يا أرض فشقي أنهارك، وأخرجي ثمارك ونباتك. وهذا هو المأثور. أخرجه ابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه (¬1). وقيل: المراد بقوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}: أنهما قالا بلسان الحال، أم بلسان المقال بأن أنطقها الله تعالى، وجعل فيها إدراكاً حقيقة لسماع الكلام ورد الجواب. والقولان جائزان، والثاني مذهب المحدثين وأكثر المحققين، ويدل عليه قوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، ولم يقل: طائعات، أو طائعتين إلحاقاً لهما بالعقلاء من أهل المنطق. وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]. وقال - عز وجل -: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49]. ¬
وقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]. وقد حمل أكثر العلماء السجود في هذه الآيات على الانقياد والتسخير لقدرة الله تعالى، ولكن هذا المعنى غير ظاهر في هذه الآية الأخيرة لأنه قال: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18]. فأشار إلى أن منهم من يسجد، ومنهم من يمتنع، ولو أراد بالسجود التسخير لعمَّم السجود كما عممه في الآيتين المذكورتين قبلها؛ فإن الكافر أيضاً مسخَّر منقاد بيد القدرة والقدر فيما هو فيه، وإنما المراد السجود حقيقة إذ بامتناع المكلف منه يحق عليه الوعيد. والتحقيق في هذا المقام: أنَّ الله تعالى أمر جميع المخلوقات بالسجود على حسب ما أعطى كل واحد منها من القابلية، وجعل في ابن آدم قابلية الإجابة والطاعة من وجهين: - من حيث التسخير والانقياد لما خلق بيد القدرة. - ومن حيث القيام بحق الأمانة التي عرضت عليه، فقبلها وحملها على وفق الأمر والخطاب. ولم يجعل في غيره من المخلوقات قابلية الإجابة والطاعة إلا من الحيثية الأولى، فأطاع الحيثية الأولى كما أطاع غيره.
وأمَّا من الحيثية الثانية فمن غمسه الله تعالى في نور الهداية من جنس البشر أطاع بقدر ما وفقه الله تعالى له فعلاً على سائر الحيوانات والجمادات بهذا الاعتبار، ثم لم يبلغ كمال الطاعة التي تليق بجلال المطاع سبحانه وتعالى، فمن ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَقِيْمُوْا وَلَنْ تُحْصُوا" (¬1). نعم، يعلو قدر الطائع المكلف على قدر طاعته وتقواه لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وحقيقة التقوى هي الطاعة، ولذلك قال أبو رجاء العطاردي رحمه الله تعالى: من سرَّه أن يكون متقياً فليكن أذل من قعود إبل؛ كل من أتى عليه أرغاه. رواه ابن أبي الدنيا (¬2). وإنما ضرب المثل بالقعود لأنه مع كبره وقوته ليس في الحيوانات أطوع منه لمتصرف فيه، كأن لسان حاله يقول: إنه لا يتصرف فيه متصرف إلا بتصريف من خلقه، فطاعته طاعة لمن صرفه فيه. وكذلك يكون طاعة المؤمن لله تعالى ولمن أمره بطاعتهم من رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأولي الأمر. وقد تقدم في وصف المؤمن في الحديث أنه كالجمل الأنف؛ إن ¬
قيد انقاد، وإن أُنيخ على صخرة استناخ (¬1). ومن بقي في ظلمة الخذلان، وحقت عليه كلمة الحرمان لم يطع الله تعالى من الحيثية المذكورة، فوقعت الإشارة إليه بقوله تعالى: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18]. فهو - وإن أطاع الله تعالى من حيث إنه يسخر لقدرته في يد قضائه وقدره - فإنه لم يحمد على هذه الطاعة حتى يأتي بالطاعة الأخرى التي هي مقتضى الأمانة التي حملها حين عرضت عليه، ولو أباها حين العرض كما أبتها سائر المخلوقات لم تطلب منه هذه الطاعة، ولم يكلف بها. هذا ما يتعلق بالإنس من الثقلين. وأما الجن فإن قلنا: إنهم مكلفون بمثل ما كُلِّفنا به - وهو الأصح - فيحتمل أن الله تعالى عرض عليهم الأمانة فقبلوها كما قبلها البشر، ولمَّا لم يقع النص على حملهم للأمانة في القرآن العظيم كما وقع النص فيه على حمل الإنسان لها، وقع الخلاف من العلماء في أنهم مكلفون بمثل ما كلفنا به أم لا، وفي أنهم مثابون ومعاقبون كما أنَّ البشر كذلك أم لا؟ والأول أصح؛ لأنَّ القرآن نص على تكليفهم بما كلفنا به، ولا مانع أن يكون تكليفهم بذلك دليلاً على أنهم قبلوا الأمانة حين عرضت ¬
عليهم كما قبلناها، وإنما وقع الاقتصار في فنون الأمانة وحملها على الإنسان إظهاراً لمزيته وتكريمه وتفضيله، وتنويهاً بمقامه في المعرفة والإدراك. وقد يقال على القول بأنَّ إبليس أبو الجن: إن النكتة في تكليفهم بذلك: أن إبليس لمَّا عُرِضت الأمانة على الإنسان فحملها، ووصف بأنه كان ظلوماً جهولاً تشفَّى بأمره وشَمَت به، وكلفَّه تعالى وذريته ما كلف به البشر عقوبة وابتلاء. وحاصله: أنَّ الإنس خاصة، أو هم والجن مكلفون بالطاعة من وجهين، وبقية المخلوقات مأخوذة بالطاعة من وجه واحد، وكل شيء فهو طائع لله حق الطاعة وساجد له حق السجود إلا ما كان من المكلفين، فلا يقضى لهم بأنهم أطاعوا حق الطاعة حتى يقوموا بحق التكليف الذي هو مقتضى الأمانة، والقائمون بذلك قليل، وكل شيء فهو قائم بحق الطاعة التي هي طاعة التسخير والانقياد للقدرة، فصح ما ورد عن بعض كتب الله تعالى: كل شيء أطوع لله من ابن آدم (¬1). ومن هنا يظهر لك وجه الحكمة في أن الله تعالى يستشهد على العاصي بجوارحه، وهي شهود عدول بسبب انقيادها لله تعالى وسجودها لها، فيكون محتجًّا عليه بنفسه كما قال الله تعالى: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]. ¬
وروى أبو نعيم عن بشر بن الحارث رحمه الله تعالى قال: قال فضيل بن عياض لابنه رحمهما الله تعالى: لعلك ترى أنك في شيء الجُعَل أطوع لله منك (¬1)؟ وعن أحمد بن عاصم الأنطاكي رحمه الله تعالى قال: قال فضيل ابن عياض لابنه علي: لعلك ترى أنك مطيع؟ لَصَرصر من صراصر الحُشِّ أطوع لله منك (¬2). قال: يعني بالصرصر: الذي يصيح بالليل. وقال بعض العلماء: سجود الدواب والجمادات لله تعالى على بابه، وكذلك تسبيحها بحمده المشار إليه بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] على حقيقته، إلا أنه تسبيح خاص وسجود خاص غير ما ذكر من الانقياد والتسخير، ولكن ذلك السجود والتسبيح لا يعلمه إلا بعض أهل الولاية والخصوصية كما قال تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. روى البزار بإسناد جيد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبت عنده سورة النجم، فلما بلغ السجدة سجد، وسجدنا معه، وسجدت الدَّواة والقلم (¬3). ¬
وروى الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "صحيحه"، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إني رأيتني في هذه الليلة فيما يرى النائم كأني أصلي عند شجرة، وكأني قرأت سجدة - وفي لفظ: سورة السجدة - وسجدت، فرأيت الشجرة كأنها سجدت لسجودي، وكأني أسمعها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك ذكراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود. قال ابن عباس: فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السجدة، فسمعته يقول في سجوده كما أخبره الرجل عن قول الشجرة (¬1). والرجل المذكور في هذا الحديث [يحتمل] أنه هو أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، ويحتمل أنه غيره. روى أبو يعلى عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: رأيت فيما يرى النائم كأني تحت شجرة تقرأ (ص)، فلما أتت على السجدة سجَدَت، فقالت في سجدتها: اللهم اغفر لي بها، اللهم حُطَّ عني بها وزراً، وأَحْدِثِ لي بها شكراً، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته. ¬
فغدوت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: "سَجَدْتَ أَنْتَ يا أَبا سَعِيدٍ؟ ". قلت: لا. قال: "فَأَنْتَ أَحَقُّ بِالسُّجُودِ مِنَ الشَّجَرَةِ". ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة (ص)، ثم أتى على السجدة، فسجد، وقال في سجوده ما قالت الشجرة في سجودها (¬1). وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الدلائل" عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أنه رأى رؤيا أنه يكتب (ص)، فلما بلغ الآية التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجداً، قال: فقصصتها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يزل يسجد بها بعد (¬2). ومن هذا الفصل سجود البعير للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه من طاعة الله تعالى، وإجابة الشجر لدعائه - صلى الله عليه وسلم - كما قال البوصيري: [من البسيط] جاءَتْ لِدَعْوَتهِ الأَشْجارُ ساجِدَةً ... تَهْوِي إِلَيْهِ عَلى ساقي بِلا قَدَمِ ¬
وحنين الجذع لقراءته - صلى الله عليه وسلم -، وفراق موعظته وكلامه، وتأمين أسكفة الباب، وحوائط البيت لدعائه لآل بيته، وتسبيح الحصى في يده، والطعام كما هو مشهور في كتب الخصائص، والمعجزات، وكتب الحديث، والسير، ونحوها مما لا يحتمل هذا الكتاب تفصيله (¬1). إلا إني أقتصر هنا على قصة الذئب لاشتماله حديثها على ما يكون في آخر الزمان من كلام السباع، وبعض الجمادات كثيراً من الناس، وهو يحقق إذ ذاك ما أشرنا إليه من أنَّ الله تعالى إذا شاء جعل فيما شاء من العجماوات والجمادات قوة النطق والإدراك. فروى الإمام أحمد، وابن سعد في "طبقاته"، والبزار، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "الدلائل" وصححاه، وأبو نعيم في "الدلائل" من طرق عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: بينما راعٍ يرعى بالحرَّة إذ عرض ذئب لشاة من شياهه، فحال الراعي بين الذئب وبين الشاة، فأقعى الذئب على ذنبه، ثم قال للراعي: ألا تتقي الله! تحول بيني وبين رزق ساقه الله إليَّ؟ فقال الراعي: العجب من ذئب يتكلم بكلام الإنس. فقال الذئب: ألا أحدثك بأعجب مني؟ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الحرتين يُحدِّث بأنباء ما قد سبق. فساق الراعي غنمه حتى قدم المدينة فدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬
فحدَّثه بحديث الذئب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَقَ صَدَقَ، أَلاَ إِنَّهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعة كَلاَمُ السِّبَاعِ لِلإِنْسِ، وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدهِ لاَ تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى تُكَلِّمَ السِّبَاعُ الإِنْسَ، وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ شِرَاكُ نَعْلِهِ، وَعَذَبَةُ سَوْطِهِ، وَيُخْبِرُهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ مِنْ بَعْدِهِ" (¬1). وروى البخاري في "تاريخه"، وأبو نعيم، والبيهقي؛ كلاهما في "الدلائل" عن أُهبان بن أوس رضي الله تعالى عنه: أنَّه كان له غنم، فشدَّ الذئب على شاة منها، فصاح عليه، فأقبل على ذنبه، قال: فخاطبني، فقال: من لها يوم تشغل عنها، أتنزع مني رزقاً رزقنيه الله؟ قلت: والله ما رأيت شيئًا أعجب من هذا. قال: وتعجب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين هذه النخلات يحدث الناس بأنباء ما سبق، وأنباء ما يكون، وهو يدعو إلى الله وإلى عبادته. فأتى أهبان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره وأسلم (¬2). وقصة الذئب مشهورة ثابتة من طريق ابن عمر، وأنس، وأبي هريرة، وغيرهم (¬3). ¬
وروى ابن عساكر عن محمد بن جعفر بن خالد الدمشقي قال: رافع بن عميرة الطائي فيما يزعمون كلمه الذئب وهو في ضأن له يرعاها، فدعاه الذئب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره باللحوق به، وله شعر قاله في ذلك: [من الوافر] رَعَيْتُ الضَّأنَ أَحْمِيها زَماناً ... مِنَ الضَّبُعِ الْخَفِيِّ وَكُلِّ ذِئْبِ فَلَمَّا أَنْ سَمِعْتُ الذِّئْبَ نادَى ... يُبَشِّرُنِي بِأَحْمَدَ مِنْ قَرِيبِ سَعَيْتُ إِلَيْهِ قَدْ شَمَّرْتُ ثَوْبِي ... عَنِ السَّاقَيْنِ قاصِدَهُ الرَّكيبِ فَأَلْفَيْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ قَوْلاً ... صَدُوقاً لَيْسَ بِالقَوْلِ الكَذوبِ فَيَسَّرَنِي لِدينِ الْحَقِّ حَتَّى ... تَبيَّنَتِ الشَّرِيعَةُ لِلْمُريبِ وَأَبْصَرْتُ الضِّياءَ يُضِيءُ حَوْلي ... أَمامِي إِنْ سَعَيْتُ وَعَنْ جنوبِ أَلا أَبْلِغْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ... وَإِخْوَتَهُمْ جُدَيلةَ أَنْ أَجِيبِي دُعاءَ الْمُصْطَفَى لاشَكَّ فِيهِ ... فَإِنَّكِ إِنْ أَجَبْتِ فَلَنْ تَخِيبِي (¬1) وذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب"، وقال: إنه كان لصًّا في الجاهلية، فدعاه الذئب إلى اللحوق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال: يقال: إنَّ رافع بن عميرة قطع ما بين الكوفة إلى دمشق في خمس ليال لمعرفته بالمفاوز، أو لما شاء الله تعالى (¬2). ¬
ومن قبيل ما تقدم أيضاً مخاطبة النملة والهدهد لسليمان عليه السلام، ومنطق الطير والبهائم الذي كان يخبر عنه عليه السلام، فذكر الثعلبي في "تفسيره" عن فرقد السبخي رحمه الله تعالى قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: هل تدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا: الله ونبيه أعلم. قال: يَقُوْلُ: أَكَلْتُ نِصْفَ ثَمَرَةٍ فَعَلَىْ الدُّنْيَا العَفَاءُ (¬1). وقد تقدم هذا عن مالك بن دينار. وروى بسنده عن كعب رحمه الله تعالى قال: صاح ورشان (¬2) عند سليمان بن داود عليهما السلام، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: لِدوا للموت، وابنوا للخراب. وصاحت فاختة عند سليمان عليه السلام فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: فإنها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا. وصاح طاوس عند سليمان عليه السلام فقال: أتدرون ما يقول؟ ¬
قالوا: لا. قال: فإنه يقول: كما تدين تُدان. وصاح هدهد عند سليمان عليه السلام، فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا. قال: فإنه يقول: من لا يَرْحم لا يُرْحم. وصاح صرد عند سليمان عليه السلام، فقال: أتدرون ما يقول؟ قال: فإنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين. قال: فمن ثَمَ نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتله. قال: وصاحت طيطوى عند سليمان عليه السلام، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: فإنها تقول: كل حي ميت، وكل جديد بال. وصاح خطاف عند سليمان عليه السلام، فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا. قال: فإنه يقول: قدِّموا خيراً تجدوه. فمن ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتله. وهدرت حمامة عند سليمان عليه السلام، فقال: أتدرون ما تقول هذه الحمامة؟
قالوا: لا. قال: فإنها تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. وصاح قُمْري عند سليمان عليه السلام، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: تقول: سبحان ربي الأعلى. قال: والغراب يدعو على العشار. والحدأة تقول: كل شيء هالك إلا وجهه. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همُّه. والضفدع يقول: سبحان ربي القدوس. والباز يقول: سبحان ربي وبحمده. والضفدعة تقول: سبحان المذكور بكل مكان (¬1). وروى أيضًا بإسناده عن مكحول رحمه الله تعالى قال: صاح دراج عند سليمان بن داود عليهما السلام قال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: فإنه يقول: الرحمن على العرش استوى (¬2). ¬
قلت: وقدمنا عن الدميري، والسيوطي أن الدراج يقول: بالشكر تدوم النعم. وكان يخطر لي أنه يقول في صياحه: سبحان القديم الأزل، ثم رأيت ذلك منقولًا عن بعض العلماء، وهو أليق وأوفق لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. ويزعم عوام الناس أنه يقول: طاب طبيخ السنبل، والذي دعاهم إلى ذلك أنَّ هذا وزَّان صوته، وأنَّ وقت صياحه في آخر فصل الربيع حين يبدو نضج السنبل، وهو سنبل الزرع. ومن لطيف ما وقع لي مع بعض عوام مصر أني كنت مرةً ماشياً بين بساتين دمشق ودرَّاج يصيح، وهذا المصري مصْغٍ إليه متعجب من حسن صوته، وفي نفسه كلام نشأ عن فكر كان قد عيي منه ولم يجد من يبثه إليه حتى وقع بصره عليَّ، فقال: يا سيدي! لقد لقيت عجباً في بلدتكم هذه؛ هذا الطائر يصيح: طاب طبيخ السنبل، وما كنت أظن أن هذا الطائر يوجد في غير مصر حتى وجدته اليوم، إلا أني سمعته يقول في هذه البلدة: طاب طبيخ السنبل ولا يزيد عليها شيئاً، وأمَّا في مصر فإنه يزيد عليها: طاب طبيخ السنبل، سبحان القديم الأزل، ينطق بها كذلك في مصر لا يشك في نطقه، فلم أزده على التبسم والتعجب. وروى أبو الشيخ في "العظمة" عن فرقد السبخي قال: مرَّ سليمان ابن داود عليهما السلام ببلبل ساقط على شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا؟
قالوا: الله ونبيه أعلم. قال: يقول: أكلت نصف تمرة وعلى الدنيا العفاء. قال: ومرَّ بديك يسقع، فقال: أتدرون ما يقول؟ يقول: اذكروا الله، اذكروا الله يا غافلين (¬1). وهكذا الرواية بالياء، وأصله يا غافلون. ووجه الياء أنه أراد خطاب غافلين، لكن غير مقصودة. وتقدم نظيره عن الصرد: استغفروا الله يا مذنبين. وسبق هذا الأثر عن الثعلبي إلا أنه بدون الزيادة الأخيرة فيه؛ أوردته هنا إشارة إليها، وإلى أنها من رواية أبي الشيخ. وروى الثعلبي عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدِّيْكُ إِذَا صَاحَ قَالَ: اذْكُرُوْا اللهَ يَا غَافِلِيْنَ" (¬2). وروى أبو الشيخ عن أبي هريرة، وابن مردويه عن عائشة، قالا - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَوْتُ الدِّيْكِ تَسْبِيْحُهُ، وَضَرْبُهُ بِجَنَاحَيْهِ رُكُوْعُهُ وَسُجُوْدُه" (¬3). ¬
وروى أبو الشيخ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: حين يقول الملك: سبحوا القدوس تحرك الطير أجنحتها (¬1). وروى الطبراني، والبيهقي في "الشعب" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ للهِ ديْكًا رِجْلاَهُ في التُّخُوْمِ وَعُنُقُهُ تَحْتَ العَرْشِ مُنْطَوِيةٌ، فَإِذَا كَانَ هِنةٌ مِنَ اللَّيْلِ صَاحَ: سُبُّوح قُدُّوْسٌ، فَصَاحَتِ الدِّيَكَةُ" (¬2). وَقَالَ: "إنَّ للهِ دِيْكًا بَرَاثِنُهُ في الأَرْضِ السُّفْلَىْ، وَعُنُقُهُ مَثْنيٌّ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَجَنَاحَاهُ في الهَوَاءِ يَخْفِقُ بِهَا فيْ السَّحَرِ". وأخرج نحوه جعفر الفريابي في "فضل الذكر"، وأبو الشيخ عن ثوبان، وقال: "إنَّ لله تعالى ديكاً براثنه في الأرض السفلى، وعنق مثني تحت العرش، وجناحاه في الهواء، يخفق بها كل [سحر] ليلة يقول: سبحان الملك القدوس، ربنا الرحمن الملك لا إله غيره" (¬3). وصحح الحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً، وتقدم في التشبه بالملائكة: "إنَّ اللهَ تَعَالى أَذِنَ لي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ دِيْكٍ قَدْ مَرَقَتْ رِجْلاَهُ ¬
فيْ الأَرْضِ وَعُنُقُهُ مَثْنِيَّةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَقُوْلُ: سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ حَلَفَ بيْ كَاذِبًا" (¬1). وروى الأئمة الستة إلا ابن ماجه من حديثه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَسَلُوْا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، فإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وإِذَا سَمِعْتُمْ نهاقَ الحِمَارِ فَتَعَوَّذُوْا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَاناً" (¬2). وفي الحديث: "ثَلَاثَةُ أَصْوَاتٍ يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالى، صَوْتُ الدِّيَكِ، وَصَوْتُ قَارِئِ القُرْآنِ، وَصَوْتُ المُسْتَغْفِرِيْنَ بِالأَسْحَارِ". رواه الثعلبي (¬3). وقال عبد الله بن صالح العجلي رحمه الله تعالى: في الديك عشر خصال. - هو أحب الطير إلى الله - عز وجل -. - وأبعد الطير صوتاً. - وأشد غَيرة. - وأشده قتالاً. - وأسخاه نفساً. - وأعلمه بأوقات الصلاة. ¬
- ويؤنس الجيران. - وهو أحسن الطير. - وأكثره سفاداً؛ أي جماعاً. أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" (¬1). وأخرج فيه عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير: أنَّ رجلين اقتمرا، أي: غرَّهما القمر، فأمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالديكة أن تذبح، فقال له رجل من الأنصار: يا أمير المؤمنين! تقتل أمة تسبح؟ قال: فتركها (¬2). وروى الستة إلا الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نزَلَ نبيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَذَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجِهَازهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تحتِهَا، وَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَىْ اللهُ تَعَالى إِلَيْهِ: مِنْ أَجْلِ نَمْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ، فَهَلاَّ نَمْلَةً وَاحِدَةً" (¬3). وذكر الثعلبي عن جعفر الصادق - رضي الله عنه - عن أبيه، عن جده، عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم قال: إذا صاح النسر قال: عش ما شئت آخره الموت. ¬
وإذا صاح العقاب قال: في البعد عن الناس أنس. وإذا صاح الصقر قال: اللهم العن مبغض آل محمد. وإذا صاح الخطاف قرأ: الحمد لله ربِّ العالمين، ويمد الضالين كما يمدها القارئ (¬1). وذكر الثعلبي، وغيره: أن الخطاف معه أربع آيات من كتاب الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] إلى آخر السورة، ويمد صوته بقوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24] (¬2). وروى ابن عدي عن سفيان رحمه الله تعالى: أنَّه قال: يقال: إنه ليس شيء أكثر ذكراً لله تعالى من الضفدع (¬3). وروى أبو الشيخ في "العظمة" عن أبي بردة بن أبي موسى، قال: بلغني أنه ليس شيء أكثر ذكراً لله تعالى من الدودة الحمراء (¬4). وعن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: بينما داود عليه السلام جالساً يوماً إذ مرَّت به دودة حمراء رافعةً رأسها، ففكر داود في خلقها، فنطقت الدودة، وقالت: يا داود! أعجبتك نفسك فتفكرت؛ تسبيحة واحدة أسبحها خير من كذا وكذا (¬5). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وأبو الشيخ في "العظمة" عن المغيرة بن عتبة قال: قال داود عليه السلام: يا رب! هل بات أحد من خلقك الليلة أطول ذكراً لك مني؟ فأوحى الله تعالى إليه: نعم، الضفدع (¬1). وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: صلى داود عليه السلام ليلة حتى أصبح، فلما أصبح وجد في نفسه سروراً، فنادته ضفدعة: كلا يا داود! كنت أدأب منك، قد أغفيت إغفاء (¬2). وروى أبو الشيخ عن بكر بن عبد المزني رحمه الله تعالى قال: قال داود عليه السلام: يا رب! اغفر لي؛ فمن أكثر ذكراً لك مني؟ فنام إلى صخرة إلى جنب نهر حتى أصبح، فناداه ضفدع: يا داود! تَمُنُّ على الله وأنا ضفدع أسبح الله الليل والنهار من خشيته (¬3)؟ ورويا عن شهر بن حوشب رحمه الله تعالى قال: خرج داود عليه السلام إلى البحر في ساعة يصلي فيها، فنادته ضفدعة، فقالت: يا داود! إنك حدثت نفسك إنك قدَّست في ساعة ليس يذكر الله فيها غيرك، وإني ¬
في سبعين ألف ضفدع كلها قائمة على رجل تسبح الله تعالى وتقدسه (¬1). وروى البيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: إن نبي الله داود عليه السلام ظنَّ في نفسه أن أحداً لم يدعُ خالقه جلَّ وعلا بأفضل مما مدحه، فأنزل الله تعالى عليه ملكاً وهو قاعد في محرابه والبركة إلى جانبه، فقال: يا داود! افهم ما تصوت به الضفدع. فأنصت إليها فإذا هي تقول: سبحانك وبحمدك منتهى علمك يا رب. فقال له الملك: كيف ترى؟ فقال: والذي جعلني نبياً إني لم أمدحه بهذا (¬2). والمراد بالعلم هنا المعلومات أولاً نهاية لعلم الله تعالى الذي وصفه. وذكر أبو عبد الله القرطبي في كتابه "الزاهر": أن داود عليه السلام قال: لأسبحنَّ الله الليلة تسبيحاً ما سبحه به أحد من خلقه، فنادته ضفدع من ساقية في داره: يا داود! تفتخر على الله بتسبيحك، وإن لي سبعين سنة ما جفَّ لساني من ذكر الله، وإنَّ لي لعشر ليال ما طعمت خضراً ولا شربت ماءً اشتغالاً بكلمتين. قال: وما هما؟ ¬
قالت: يا مسبَّحًا بكل لسان، ويا مذكوراً بكل مكان. فقال داود في نفسه: وما عسى أقول أبلغ من هذا. وروى أبو الشيخ عن أبي إدريس الخولاني رحمه الله تعالى: أن داود عليه السلام عَبَدَ الله تعالى ليلة حتى أصبح، فحدَّث نفسه، فأوحى الله - عز وجل - إلى ضفدع في جانبه: أجيبيه. فقالت: يا داود! أعجبت بليلتك وأنا في مقامي هذا منذ ثمان مئة سنة أعبد الله وأشكره (¬1)؟ فقلت: جعل الله تعالى في الضفدع في كثرة تسبيحها وتأنقها في تقديسها مَأدَبة لداود عليه السلام لئلا يعجب بكثرة عبادته وتسبيحه وتأنقه فيه، كما جعل في النملة في تأنقها في الخطاب وسياستها للنمل ونفوذ أمرها فيهم، والهدهد في مجيئه بخبر بلقيس وملكها في زمن يسير من مسيرة شهر مأدبة لولده سليمان عليهما السلام لئلا يعجب بملكه وسياسته لرعاياه، وبلوغه مسيرة شهر في غَدوته ورَوحته، واطلاعه على مدائن الأرض وأقاليمها إشارةً إلى أنَّ الله تعالى إذا أنعم على عبد بنعمة فلا تتم له النعمة إلا إذا لم تحجبه عن المنعم سبحانه وتعالى بالنظر إليها والإعجاب بها. وروى أبو الشيخ أيضاً عن عبد الحميد بن يوسف قال: تسبيح الضفدع: سبحان المعبود بكل مكان، سبحان المحمود بكل مكان، ¬
سبحان المذكور بكل لسان (¬1). وذكر الزمخشري أنها تقول: سبحان الملك القدوس. وتقدم عن كعب أنها تقول: سبحان ربي القدوس. وروى أبو الشيخ، وابن عدي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقْتُلُوْا الضِّفْدَعَ؛ فَإِنَّ تَنْقِيْقَهَا تَسْبِيْحٌ" (¬2). وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عطاء بن يسار - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ نُوْحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ! أُوْصِيْكَ بِاثْنتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنتَيْنِ، فَأمَّا اللَّتَانِ أُوْصِيْكَ بِهِمَا فَإِنِّي رَأَيْتُهُمَا يُكْثِرَانِ الولُوجَ عَلَى اللهِ وَرَأَيْتُ اللهَ تَعَالَى يَسْتَبْشِرُ بِهِمَا وَصَالحَ خَلْقِهِ، قَوْلُ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمدهِ فإنَّهَا صَلاةُ الْخَلْقِ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ، وَقَوْلُ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ لَوْ كُنَّ حَلَقَةً لَقَصَمْتُهَا، وَلَو كُنَّ فْي كَفَّةٍ لَرَجَحَتْ بِهِنَّ، وَأَمَّا اللَّتَانِ أَنْهَاكَ عَنْهُمَا فَالشِّرْكَ وَالْكِبْرَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ شَيْءٌ مِنْ شِرْكٍ وَلا كِبْرٍ فَافْعَلْ" (¬3). وأخرجه النسائي عن سليمان بن يسار، عن رجل من الأنصار، ¬
وقال فيه: "وَأُوْصِيْكَ بِسُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدهِ؛ فَإِنَّهَا صَلاَةُ الخَلْقِ وَبِهَا يُرْزَقُ الخَلْقُ، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44] " (¬1). وأخرجه البزار، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه. وفي بعض ألفاظه: "فَإنَّهَا صَلاَةُ كُلِّ شَيْءٍ وَتَسْبِيْحُ كُلِّ شَيْءٍ" (¬2). والآية تدل على ذلك، ولذلك قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرجة في مقالة نوح عليه السلام. وروى ابن أبي شيبة عن عمرو بن دينار رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتَّخِذُوْا ظُهُوْرَ الدَّوَابِّ كَرَاسِيَّ لأَحَادِيْثكُمْ؛ فَرُبَّ رَاكِبٍ مَرْكُوْبَة هِيَ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَطْوَعُ للهِ - عز وجل - وَأكثَرُ ذِكْراً" (¬3). وروى الإمام أحمد، وابن حبّان في "صحيحه"، والطبراني عن سعد بن معاذ بن أنس، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوم على ¬
فوائد
دواب ورواحل لهم وهم وقوف، فقال: "ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَانْزِلُوا عَنْهَا سَالِمَةً، وَلا تتَّخِذُوْهَا كَرَاسِيَّ لأَحَادِيْثكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالأَسْوَاقِ؛ فَرُبَّ مَرْكُوْبَةٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا وَأكثَرُ ذِكْرًا للهِ - عز وجل -" (¬1). * فوائِدُ: * الفائدة الأُولَى: روى الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" عن إبراهيم الخواص رحمه الله تعالى قال: طلبت المعاش لأجل الحلال، فاصطدت السمك، فيوماً وقعت في الشبكة سمكة فأخرجتها، وطرحت الشبكة في الماء، فوقعت أخرى فيها، فرميت بها، ثمَّ عدت فهتف بي هاتف: لم تجد معاشاً إلَّا تأتي من يَذْكُرُنا فتقتلهم. قال: فكسرت القصبة وتركت الاصطياد. * الفائدَةُ الثَّانِيَةُ: روى أبو الشيخ عن ابن عباس قال: كل شيء يسبح إلا الحمار والكلب (¬2). ¬
الفائدة الثالثة
وروى هو والثعلبي عن سفيان في قوله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] قال: صوت كل شيء تسبيح إلا صوت الحمار لأنه ينهق بلا فائدة (¬1). * الفائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قال أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار": حدثني أحمد بن محمد، قال: سمعت أبا سليمان المغربي يقول - وقد سُئِل عن كلام الحمار له - فقال: كان عندي حمار، فحملته ذات يوم حملة ثقيلة، وضربته مرَّة أو مرتين، ففي الثالثة حَول رأسه إليَّ، وقال: كم تضربني وأنت أحق بالضرب مني! قد حملتني ما أنسيتني ذكر الله. وقد يجمع بين هذا وبين ما سبق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأنَّه إنَّما نفى عن الحمار التسبيح، وأنه يذكر الله بغير التسبيح، وهو الذي يدل عليه عموم الحديث السابق: "فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ راكِبِها وَأَكْثَرُ لِلَّهِ ذِكْرًا" (¬2)، على أنَّ إبقاء الآية على عمومها أولى؛ أعني: قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. * الفائِدَةُ الرَّابِعَةُ: ذكر الحافظ المزي في "تهذيب الكمال" في ترجمة أبي قلابة (¬3) ¬
الفائدة الخامسة
الرقاشي، واسمه عبد الملك بن محمد حكى أنَّ أمَّهُ قالت: لما حملت به رأيت كأني ولدت هدهداً، فقيل لي: إن صدقت رؤياك ولدت ولداً يكثر الصلاة. فيقال: إنَّه كان يصلي كل يوم أربع مئة ركعة. ويقال: إنَّهُ حدَّث من حفظه بسبعين ألف حديث (¬1). * الفائِدَةُ الْخامِسَةُ: روى ابن أبي الدنيا في "الصمت" عن مخلد قال: كان رجل في بني إسرائيل كثير الصمت، فبعث إليه ملكهم، فلم يتكلم، فبعث به معهم إلى الصيد، فقال: لعله يرى شيئاً فيتكلم، فرجعوا به، فرأى صيداً [فصاح]، فسرحوا عليه طير باز، فأخذه. قال الرجل: السكوت لكل شيء خير حتى للطير (¬2). * الفائِدَةُ السَّادسَةُ: روى أبو الشيخ عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا أُخِذَ طَائِرٌ وَلا حُوْتٌ إِلاَّ بِتَضْيِيعِ التَّسْبِيْحِ" (¬3). ¬
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن روح بن حبيب (¬1) رحمه الله تعالى قال: بينا أنا عند أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إذ أُتِي بغراب، فلمَّا رآه بجناحين حمد الله تعالى ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا صِيْدَ صَيدٌ إِلاَّ بِنَقْصٍ مِنَ التَّسْبِيْحِ". ثم قال: يا غراب! عبد الله، ثم خلَّى سبيله (¬2). وروى أبو نعيم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا صِيْدَ صَيْدٌ، وَلا قُطِعَتْ شَجَرَةٌ إِلاَّ بِتَضْيِيعٍ مِنَ التَّسْبِيْحِ" (¬3). وروى ابن طبرزذ بإسناده عن أبي واقد قال: لمَّا نزل عمر بن الخطاب بالجابية أتاه رجل بأسد في تابوت حتى وضعه بين يديه، قال: كسرتم له ناباً أو مخلباً؟ قالوا: لا. قال: الحمد لله؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما صِيْدَ صَيْدٌ إِلاَّ بِنَقْصٍ فِي تَسْبِيْحِهِ". ¬
الفائدة السابعة
يا قسورة! اعبد الله، ثم خَلَّى سبيله (¬1). وروى إسحاق بن راهويه بسنده عن الزهريّ عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَا صِيْدَ مَصِيدٌ، وَلا عُضِدَتْ عَضَاةٌ، وَلا قُطِعَتْ شَجَرَةٌ إِلاَّ بِقِلَّةِ التَّسْبِيْحِ" (¬2). * الفائِدَةُ السَّابِعَةُ: روى أبو الشيخ في "العظمة" عن أبي إدريس الخولاني رحمه الله تعالى قال: الزرع يسبح ويكتب الأجر لصاحبه (¬3). قلت: وهذا من فوائد الزرع، فإذا كان هذا لمن زرع زرعاً أو غرس غرساً وهما جماد، فكيف بمن علَّم إنساناً مكلَّفاً قرآناً، أو علماً يتوصل به إلى طاعة الله تعالى وعبادته وذكره حتى يلقاه، فهو أحق بعود أجور من علَّمهم وفقههم ما عبدوا الله به إليه. وقد وقع تمثيل إنشاء أهل الطاعة وأخصه إنشاء أهل العلم بالغرس فيما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والحكيم الترمذي، والحاكم في "الكنى"، وابن عدي في "الكامل"، والطبراني في ¬
الفائدة الثامنة
"الكبير"، وأبو القاسم البغوي في "المعجم" عن أبي عنبة الخولاني رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَزَالُ اللهُ تَعَالَى يَغرِسُ فِي هَذَا الدِّيْنِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِيْهِ بِطَاعَتِهِ إِلَى يَوْم القِيَامةِ" (¬1). وهذا الحديث يدل على أنَّ مدد الله في هذه الأمة بالتوفيق إلى الطاعة لا ينقطع إلا بقيام الساعة، ولله الحمد * الفاِئدُة الثَّامِنَةُ: روى أبو الشيخ في "العظمة" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: لولا ما غمَّ عليكم من تسبيح ما معكم في البيوت ما تقاررتم (¬2). وعن مسعر قال: لولا ما غمَّ الله عليكم من تسبيح خلقه ما تقاررتم (¬3). أي: لم يكن لكم قرار بل كنتم تضطربون من عجبكم. وروى أبو الشيخ أيضاً عن الحسن قال: التراب يسبح؛ فإذا بُنيَ به الحائط سَبَّحَ (¬4). ¬
تتمات لهذا الباب
وروى الخطيب عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: "يَا عَائِشَةُ! اغْسِلِيْ هَذَيْنِ". فقلت: يا رسول الله! بالأمس غسلتهما. فقال لي: "أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ الثَّوْبَ يُسَبِّحُ، فَإِذَا اتَّسَخَ انْقَطَعَ تَسْبِيْحَهُ" (¬1). وهذه الآثار مع ما تقدَّم دالة على أن كل شيء يسبح الله تعالى من حيوان وجماد مطلقاً. وقد قال تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1]. وهذا الذي أختاره، ولينفع هذا الفن من العلم العبد الموقن فلا يكون في ملأ ولا في خلاء إلا ويُنبه نفسه لتستحي مما معها من شيء أن لا يُسبِّحُ الله معه، ولو أنكر وجوده مع شيء لا ينكر وجوده في نفسه، والله تعالى يقول: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: 205]. * وَهَذه تَتِمَّاتٌ لِهَذا البابِ: روى ابن عبد البر في "التمهيد" عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنه قال: حملة العرش أحدهم على صورة إنسان، والثاني على صورة ثور، والثالث على صورة نسْر، والرابع على صورة أسد (¬2). ¬
قلت: وفي غير هذه الرواية: أنَّ الأول يسترزق الله للبشر، والثاني يسترزقه للبهائم، والثالث للطير، والرابع للسباع. وتقدم في التشبه بالملائكة: أنَّ إسرافيل عليه السلام على صورة ديك. وفي قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] إشارة إلى أن الملائكة على صورة الطير، والأحاديث الواردة في أرواح الشهداء أنَّها في صور طير مشهورة. وروى ابن أبي شيبة، والطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: أرواح المؤمنين في جوف طير خُضر كالزرازير يتعارفون، ويرزقون من ثمر الجنة (¬1). وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لوددت أني طير في منكبي ريش (¬2). يحتمل معنيين: ¬
الأول: أن يكون عبر بذلك عن طلب الشهادة لما تقدم. والثاني: أنه تمنى أن يكون طائراً له ريش، ولا يكون مكلفاً مبتلى بالحساب والعتاب والعقاب، فيكون ذلك ناشئاً عن الخوف كما روى ابن أبي شيبة أيضا عنه أنَّهُ قال: ليتني شجرة تُعضد (¬1). وأنَّهُ قال: ليتني إذا مت لم أبعث (¬2). وأنه قال: لو وقعت بين الجنة والنار فقيل: تخيَّر أيُّهما أحب إليك أو تكون رماداً؟ لاخترت أن أكون رماداً (¬3). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الحذر والشفقة" عن طارق قال: قلت لابن عباس: أي رجل كان عمر رضي الله تعالى عنه؟ قال: كان كالطير الحذر الذي كأن له بكل طريق شَرَكاً (¬4). وروى أبو نعيم عن ابن شهاب قال: جلست إلى أبي إدريس الخولاني رحمه الله تعالى وهو يقص فقال: ألا أخبركم بمن كان أطيب الناس طعاماً؟ فلما رأى الناس قد نظروا إليه قال: يحيى بن زكريا عليهما ¬
السلام كان أطيب الناس طعاماً، إنَّما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس في معاشهم (¬1). وقال الزمخشري في "الفائق": في الحديث أنَّ الله - عز وجل - قال لأيوب عليه السلام: إنه لا ينبغي أن يخاصمني إلَّا من جعل الزيار في فم الأسد والسحال في فم العنقاء (¬2). الزيار: ما يشد به البيطار محنكة الدابة وزيره إذا شُد به. والسحال يعني: السحل، وهي الحلقة المدخلة في الأخرى على طرف شكيمة اللجام، وهما مسحلان في طرفيها (¬3). قلت: والتمثيل الذي وقع في الحديث المذكور إنما هو من باب التقريب والتعجيز للعبد، وإلا فإنَّ العبد لا ينبغي له مخاصمة الله - عز وجل - أصلاً ولا يستطيعها؛ فإنَّ الله عزيز، ولكن لما كان وضع الزيار في فم الأسد والمسحلين بشكيمها في فم العنقاء بعيداً جداً حتى يعد في العادة مستحيلاً - وإن كان ممكنًا في نفسه - مَثَّل لذلك كأنَّه يقول: إذا كان العبد عاجزاً عن مثل ذلك فلا قدرة له على مخاصمة الله العزيز الجبار، فليستقل من مخاصمته وليرجع إلى مسالمته؛ فإنه لا قِبَل له بغير ذلك. ¬
ومن هنا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لكعب بن مالك - رضي الله عنه -: "لَقَدْ شَكَرَ اللهُ لَكَ قَوْلَكَ: [من الكامل] جاءَتْ مُزَيْنَةُ كَيْ تُغالِبَ رَبَّها ... وَلَيُغْلَبَنَّ مُغالِبُ الغَلاَّبِ" (¬1) وروى ابن عدي، والبيهقي في "الشعب" عن سعيد بن جبير: أنَّ نافع بن الأزرق سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن سليمان بن داود عليهما السلام مع ما خوَّلَهُ الله تعالى من الملك وأعطاه: كيف عني بالهدهد مع صغره؟ فقال له ابن عباس: إنَّهُ احتاج إلى الماء والهدهد كانت الأرض له كالزجاج. فقال ابن الأزرق لابن عباس: قف يا وقَّاف؛ كيف يبصر الماء من تحت الأرض ولا يرى الفخ إذا غُطيَ له بقدر إصبع من تراب؟ فقال ابن عباس: إذا نزل القضاء عمي البصر (¬2). وفي غير هذه الرواية عن ابن عباس: إذا جاء القدر عمي البصر، وإذا جاء الحين غطى العين (¬3). وفي معناه: ما رواه أبو نعيم في تاريخ "أصبهان" عن عكرمة، ¬
عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَرَادَ اللهُ إِنْفَاذَ قَضَائِهِ وَقَدَرهِ سَلَبَ ذِي العُقُوْلِ عُقُوْلَهُمْ حَتَّى يَنْفُذَ فِيْهِمْ قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ" (¬1). وأخرجه الديلمي من حديث أنس وعلي رضي الله تعالى عنهما وزاد فيه: "فَإِذَا مَضَى أَمْرُهُ رَدَّ إِلَيْهِمْ عُقُوْلَهُمْ وَوَقَعَتِ النَّدَامَةُ" (¬2). وفي المثل: لكل عاقل زلة. وربما قيل: لكل عاقل صبوة، ولكل فارس كبوة، ولكل صارم نبوة. وأنشد أبو عمر الزاهد غلام ثعلب لنفسه: [من الرجز] إِذا أَرادَ اللهُ أَمْراً بِامْرِئٍ ... وَكانَ ذا عَقْلِ وَرَأْيِ وَبَصَرْ وَحِيلَةٍ يُعْمِلُها فِي كُلِّ ما ... يَأتِي بِهِ مَحْتومُ أَسبابِ القَدَرْ أَغْراهُ بِالْجَهْلِ وَأَعْمى عَيْنَهُ ... فَسَلَّهُ عَنْ عَقْلِهِ سَلَّ الشَّعَرْ ¬
حتَّى إِذا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ ... رَدَّ عَلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ (¬1) وحكى القزويني: أنَّ الهدهد قال لسليمان عليه السلام: أريد أن تكون في ضيافتي. قال: أنا وحدي؟ قال: لا، أنت وعسكرك في جزيرة كذا في يوم كذا. فحضر سليمان عليه السلام بجنوده، فطار الهدهد، فاصطاد جرادة وخنقها، ورمى بها في البحر، فقال: كلوا يا نبي الله! من فاته اللحم ناله المرق. فضحك سليمان وجنوده من ذلك حولاً كاملاً. ومن لطائف أبي الشيص الشاعر: [من البسيط] لا تَأْمَنَنَّ عَلى سِرِّي وَسِرِّكُمُ ... غَيْرِي وَغَيْرَكَ أَوْ طَيَّ القَراطِيسِ أَوْ طائِرٍ سَأُحلِّيهِ وَأَنْعَتُه ... ما زالَ صاحِبَ تَقْدِيسٍ وَتأسِيسِ سودٍ بَراثِنُهُ ميل زرائِبُهُ ... صفرٍ حَماليقُهُ فِي الْحبر مَغْموسِ ¬
وَكانَ هَمَّ سُلَيْمان لِيَذْبَحَهُ ... لَولا سِياسَتُهُ فِي مُلْكِ بَلْقِيسِ ومن الأمثال اللطيفة: ما رواه الخطيب عن داود بن أبي هند قال: صاد رجل قنبرة فقالت: ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أذبحك وآكلك. قالت: ما أُشفي من قرم، ولا أغني من جوع، ولكن أُعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي: أمَّا الواحدة فأعلمك إيَّاها وأنا على يدك. والثانية: إذا صرت على الشجرة. والثالثة: إذا صرت على الجبل. قال: نعم. فقالت وهي على يده: لا تأسفن على ما فاتك. فخلَّى عنها، فلمَّا صارت على الشجرة قالت: لا تصدقنَّ بما لا يكون. فلمَّا صارت على الجبل قالت: يا شقي! لو ذبحتني لوجدت في حوصلتي درة زنتها عشرون مثقالاً. قال: فعضَّ على شفتيه وتلهَّف، ثم قال: هات الثالثة. قالت: قد نسيتَ اثنتين كيف أعلمك الثالثة؟ قال: وكيف؟ قالت: ألم أقل لك: لا تأسفنَّ على ما فاتك وقد
أسفت عليَّ؟ وقلت لك: لا تُصدقنَّ بما لا يكون وقد صدقت؛ فإنَّك لو جمعت عظامي وريشي لم تبلغ عشرين مثقالاً، فكيف يكون في حوصلتي درة زنتها عشرون مثقالاً (¬1)؟ وحكي أنَّ رجلاً من بغداد كان معه أربع مئة درهم لا يملك غيرها، فاشترى بها أفراخ زرياب، وهو الطائر المعروف بأبي زريق، ويقال له: القوق ألوف، يقبل التعليم سريع الإدراك، يزيد على الدُّرة إذا ألحن، وإذا تكلَّم جاء بالحروف مبينة حتى لا يشك سامعه أنه إنسان، فهبت ريح باردة فماتت تلك الأفراخ كلها إلا واحداً كان أصغرها وأضعفها، فأيقن الرجل بالفقر، فلم يزل يبتهل إلى الله - عز وجل - بالدعاء ليله كله يقول: يا غياث المستغيثين! أغثني، فلما أصبح زال البرد وجعل ذلك الفرخ ينفض ريشه ويصيح بلسان فصيح: يا غياث المستغيثين! أغثني، فاجتمع الناس عليه يستمعون صوته، فاجتازت به أمة للخليفة فَشَرَته بألف درهم. وفي كتاب "المسامرة" للشيخ محي الدين بن العربي الحاتمي خبر الطائر المغيث في قصة الرجل الذي كان في سفينة، فقام ليلاً ليتوضأ، فزلقت رجله فوقع في البحر، فقال: ذلك تقدير العزيز العليم، فإذا طائر اختطفه من البحر فألقاه في السفينة، ثم وقع على ¬
صاري السفينة، قال: فقلت: ما هذا؟ فقال: أنا تقدير العزيز العليم. ومن اللطائف قصة حَمْي الدَّبْر - بفتح المهملة، وإسكان الموحدة - وهو عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وكان قد عاهد الله أن لا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، فلما قتله المشركون أرادوا أن يمثلوا به، فأرسل الله ظُلَّة من الدَّبْر فحمته منهم. والدبر: فسره السهيلي بالزنابير، وقيل: هي النملة. وهذه القصة مشهورة في كتب الحديث، والسير (¬1). وروى الحاكم في "تاريخه" عن تمام بن عبد الله بن أنس بن مالك قال: خرجت مرة إلى خراسان ومعنا رجل يشتم أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فنهيناه فأبى، فذهب يوماً لحاجته فأبطأ، فبعثنا في طلبه، فرجع إلينا الرسول قال: أدركوا صاحبكم فإذا هو قد قعد على حجر فقضى حاجته، فخرج عليه عنق من الدبر فشرب مفاصله مفصلاً مفصلاً. قال: فجمعنا عظامه، وإنَّها لتقع علينا ما تؤذينا، وهي تبري مفاصله (¬2). ¬
وروى ابن أبي الدنيا عن أبي المحياة التيمي قال: حدثني رجل قال: خرجنا في سفر ومعنا رجل يشتم أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فنهيناه فلم ينته، فخرج لبعض حاجته، فاجتمع عليه الزنابير، فاستغاث فأغثناه، فحملَتْ عليه فتركناه، فما أقلعت عنه حتى قطَّعته قِطَعاً (¬1). وروى الحافظ شرف الدين الدمياطي في كتابه "العقد المثمن فيمن يسمى عبد المؤمن" عن عبد المؤمن بن عبد الصمد الزاهد قال: كان عندنا بتنيس رجل رافضي، وكان على طريق سكته كلب يعبر عليه كل من في المحلة من كبير وصغير فلا يتأذى به، إلى أن يعبر ذلك الرافضي فيقوم ويمزق ثيابه، ويعقره إلى أن أكثر ذلك منه، فشكا إلى جانب السلطان، وكان من أهل مذهبه، فبعث من ضرب الكلب وأخرجه من المحلة، ففي بعض الأيام نظر الكلب إلى ذلك الرافضي وهو جالس على بعض الدكاكين في السوق، فصعد على ظهر السوق، وجاور الرافضي، وتغوَّطَ عليه، فخرج الرافضي من تنيس من خجله. وروى الضياء في كتاب "النهي عن سب الأصحاب" عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: كان على طريقي إلى المسجد كلب يعقر الناس، فأردت يوماً الصلاة والكلب على الطريق، فتنحيت عنه، فقال: يا أبا عبد الله! جُزْ؛ فإنَّما سلطني الله على من يشتم أبا بكر وعمر ¬
رضي الله تعالى عنهما (¬1). وروى اللالكائي في "السنة" عن المعافى بن عمران قال: قال سفيان الثوري: كنت أمر أغدو إلى الصلاة بغَلَس، فغدوت ذات يوم وكان لنا جار كان له كلب عقور، فقعدت أنتظر حتى يتنحى، فقال لي الكلب: جُز يا أبا عبد الله؛ فإنَّما أُمِرت بمن يشتم أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما (¬2). وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: أقبل سعد - يعني: أباه - رضي الله تعالى عنه من أرض له، فإذا الناس علوف على رجل، فاطَّلع فإذا هو يسبُّ طلحة بن الزبير وعليًّا رضي الله تعالى عنهم، فنهاه فكأنَّما زاده إغراءً، فقال: ويلك! ما تريد إلى أن تسب أقواماً هم خير منك، لتنتهين أو لأدعونَّ عليك. فقال: هيه، فكأنَّما تخوفني بنبي من الأنبياء. فانطلق فدخل داراً، فتوضأ ودخل المسجد، ثم قال: اللهمَّ إن كان هذا قد سبَّ أقواماً قد سبق لهم منك خير فأرني اليوم به آية تكون آية للمؤمنين. قال: وتخرج بختية من دار بني فلان نادَّة لا يردها شيء حتى تنتهي إليه، ويتفرَّق الناس عنه، فتجعله بين قوائمها فتطؤه حتى طفئ. ¬
قال: فأنا رأيت سعداً رضي الله تعالى عنه يتبعه الناس ويقولون: استجاب الله لك أبا إسحاق، استجاب الله لك أبا إسحاق (¬1). وقد ثبت أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لسعد بن أبي وقاص باستجابة الدعوة، فقال: "اللَّهُمَّ أَجِبْ دَعْوَتَهُ، وَسَدِّدْ رَمْيَتَهُ" (¬2). فاستجاب الله دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصار سعداً مستجاب الدعوة. وروى اللالكائي أيضا عن عمار بن سيف الضبي قال: خرجنا في غزاة في البحر وعلينا موسى بن كعب، وكان معنا في الركب رجل يُكنَّى: أبا حمان، فأقبل يشتم أبا بكر وعمر، فنهيناه فلم ينته، وزجرناه فلم ينزجر، فأتينا على جزيرة في البحر فارتقينا إليهم، ثمَّ خرجنا وتفرقنا يزيد الوضوء لصلاة الظهر، فأخبرنا أن الدَّبْر - يعني: الزنابير - وقعت على أبي حمان، فأتت على نفسه؛ قال: فوقعت عليه وهو ميت. وفي رواية: أنهم أقبلوا يحفرون له، فاستوعرت عليهم الأرض وصلبت، فلم يقدروا على أن يحفروا له، فألقوا عليه الحجارة وورق الشجر (¬3). وعن عمر بن الحكم عن عمه قال: خرجنا يزيد مكران ومعنا رجل يسب أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، قال: فنهيناه فلم ¬
ينته، وانطلق ليقضي حاجته، فوقع عليه الدبر، فلم يقلع عنه حتى قطَّعه (¬1). وذكر القزويني في "عجائب المخلوقات": أنَّ شخصاً قُتِلَ بأصبهان، وأُلقِيَ في بئر وله كلب يراه، فكان كل يوم يأتي إلى رأس البئر وينحي التراب عنها، ويشير إليها، وإذا رأى القاتل نبح عليه، فلمَّا تكرر ذلك منه حفروا فوجدوا القتيل، ثم أخذوا الرجل فأقر، فقُتِلَ به. وأنشد للشريف الموسوي: [من الكامل] الْكَلْبُ كَالرَّجُلِ الَّذِي إِنْ تُوْلِهِ ... بَعْضَ الْجَمِيلِ غَدا لِبِرِّكَ شاكِراً وَإِذا تَكَرَّرَ ذاكَ مِنْكَ إِلَيْهِ أضْـ ... ــــحَى عَنْكَ لِلأَعْداءِ سَيْفاً باتِراً وروى ابن جهضم في "بهجة الأسرار"، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن أبي سعيد الخراز رحمه الله تعالى قال: كنت يوماً أمشي في الصحراء فإذا قريب مني عشرة كلاب من كلاب الرعاة شدُّوا عليَّ، فلما قربوا مني جعلت أستعمل المراقبة، فإذا كلب أبيض قد خرج من بينها وحمل على الطلاب، وطردها عني، ولم يفارقني حتى تباعدت عني الكلاب، ثم التفت فلم أره (¬2). ¬
وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى في "رسالته": أنَّ أبا عثمان دعاه إنسان إلى ضيافته، فلمَّا وافى إلى باب داره قال: يا أستاذ! ليس لي وجه في دخولك وقد ندمت. فانصرف، فرجع أبو عثمان، فلما وافى منزله عاد إليه الرجل، وقال: يا أستاذ! ندمت على ردك، وأخذ يعتذر، وقال: احضر الساعة. فقام أبو عثمان ومضى، فلما وافى باب الرجل قال مثل ما قال في الأول، ثم كذلك فعل في الثالثة والرابعة، وأبو عثمان ينصرف ويحضر، فلما كان بعد مرات قال: يا أستاذ! أردت اختبارك، وأخذ يعتذر ويمدحه. فقال أبو عثمان: لا تمدحني على خلق تجد مثله مع الكلاب؛ الكلب إذا دعي حضر، وإذا زجر انزجر. ونقل القرطبي في "تفسيره" عن أبي يزيد البسطامي رحمه الله تعالى: ما علَّمني أحد ما علمني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجًّا، فقال لي: يا أبا يزيد! ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا. فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا. قلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إذا فقدنا شكرنا، داذا وجدنا آثرنا (¬1). ¬
وروى ابن أبي شيبة عن سالم بن أبي الجعد قال: مَرَّ ثوران على أبي الدرداء - رضي الله عنه - وهما يعملان، فقام أحدهما فقام الآخر، فقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: إنَّ في هذا لمعتبراً (¬1). قلت: ووجه الاعتبار أنَّ الأعمال التي لا تتأتى إلا من اثنين يحتاج مريدها إلى تحصيل رفيق صالح موافق حركته وسكونه، وإلاَّ استضر به، وفات العمل أو نقص ولم يكن محكماً. ومن هنا لا يقرن أهل الإتقان من أهل الحرث بين ثور وأضعف منه؛ لأنَّ الضعيف يقصر عن القوي فيتعبه ويوهِنه، والقوي يكلف الضعيف مثل حركته ونشاطه فيقتله، فينبغي التعادل بينهما قوةً وضعفاً. ولذلك كانت شركة الأبدان باطلة؛ لأن عمل الشريكين لا يكاد أن يتساوى، بل لا يتمحض تساويه، وربما زاد أحدهما في العمل على رفيقه، أو قصر عنه، فيؤدي ذلك للجهل بمقدار استحقاق كل منهما مما يكتسبانه. ومن وجوه الاعتبار ما أشار إليه أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه أنَّ الأعمال المشتركة إن كانت من أعمال الخير كالتحابِّ في الله، والسلام، والمصافحة، والزيارة، والعيادة، والنصيحة، ومعاونة الضعفاء في أعمالهم، وحضور الجمعة والجماعة، كان الاجتماع لتحصيلها لازماً للعبد الصالح. ¬
وإن كانت من أعمال الشر كالغيبة، والنميمة، والرياء، كان الاعتزال والانفراد عن أهلها متعيَّناً للعبد الصالح لدفعها عنه، وسلامته منها كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. فالتعاون لا يحصل إلا بالاجتماع، فالتعاون المأمور به مأمور بالاجتماع له، والتعاون المنهي عنه منهي عن الاجتماع له لتلازمهما. ومن ذلك الاجتماع بأهل السنة يؤدي إلى الموافقة فيها، والاجتماع بأهل البدعة يؤدي إلى الموافقة فيها. ومن هنا يتعين الابتعاد عن أهل الضلالة والاعتزال عنهم خشية من الإضلال؛ فإنَّ من قاده أعمى فانقاد له من غير تحرز مما عسى أن يقع فيه يوشك أن يسقط، فيسقط وراءه وهو لا يشعر. ولقد أنشد الأستاذ أبو القاسم القشيري في "إشاراته": [من السريع] لَوِ الْتَقَى فِي حَدبٍ واحِدٍ ... سَبْعُونَ أَعْمَى بِمَقادِيرِ وَصَيَّرُوا بَعْضَهُمْ قائِداً ... فَكُلُّهُمْ يَسْقُطُ فِي البِيْرِ ولقد اتفق لي تحقيق ذلك كنت مرة في طريق منحدب وإليه طريق آخر، فخرج من الطريق الآخذ إليه أعمى يقود عمياناً نحو عشرين حتى صاروا على رصيف الطريق، ثم خرج وراءهم أعمى آخر يقود عمياناً آخرين نحو عشرين، فوالله لقد عشر الأعمى الأول من
الطائفة الأولى في الحدب، فوقع المقتادون كلهم حتى ملوا الطريق وهم متلازمون لا يفلت أحدهم يده عن رفيقه، ثم عشر القائد الثاني بالواقعين في الطريق فسقط، فسقط المقتادون به كلهم وهم متلازمون كذلك، وكان ذلك بعد وقوفي على البيتين اللذين أنشدهما القشيري رضي الله تعالى عنه، وتعجبي منهما حتى رأيت ذلك عياناً، وكان ذلك في حدود سنة تسع وتسعين وتسع مئة. وروى الدينوري في "المجالسة" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: لو أنَّ الوحش طعمت طعم الإسلام لما تركته أبداً (¬1). ونظيره الحديث المتقدم: "لَوْ تَعْلَمُ البَهَائِمُ مَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْمَوْتِ مَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا لَحْمًا سَمِيْناً" (¬2). وقال بعض أهل العربية: [من البسيط] لَوْ يَعْلَمُ الطَّيْرُ ما فِي النَّحْوِ مِنْ أَدَبٍ ... سَعَتْ إِلَيْهِ وَدقَّتْ بِالْمَناقِيرِ وقال آخر: [من مخلَّع البسيط] لَوْ ذاقَ طَعْمَ الإِيْمانِ رَضْوى ... لَكانَ مِنْ أُنْسِهِ يَمِيدُ وقال ابن عبد ربه في "العقد": قال الأصمعي: سمعت أعرابياً ¬
يقول: كان سنان بن أبي حارثة أحلم من فرخ طائر. قلت: وما حلم فرخ طائر؟ قال: إنه يخرج من بيضته في رأس نيق، فلا يتحرك حتى ينبت ريشه ويقوى على الطيران (¬1). والنيق - بالكسر -: أرفع موضع في الجبل. قال الشاعر: شَغْواءُ تَوَطَّنَ بَيْنَ الشيقِ وَالنيقِ (¬2) ويقال: الشيق أصعب موضع في الجبل. وقال البوصيري رحمه الله تعالى: [من البسيط] وَمَنْ تَكُنْ بِرَسُولِ اللهِ نُصْرَتُهُ ... إِنْ تَلْقَهُ الأُسْدُ فِي آجامِها تَجِمِ يقال: وَجَم يَجِم - كوعد يَعِد -: إذا سكت على غيظ. والمعنى: أنها تخضع له وتنزجر عنه. وكأن البوصيري لمح بقصة سفينة رضي الله تعالى عنه مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأسد، وقد ذكرتُها فيما سبق. ومن غريب طرقها: ما رواه ابن عساكر - بسند ليس فيه متهم كما قال السيوطي - عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
سفينة - رضي الله عنه - بكتاب إلى معاذ وهو باليمن، فلمَّا صار بالطريق إذا هو بالسبع رابض في وسط الطريق، فخاف أن يجوز فيقوم إليه، فقال: أيها السبع! إني رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ - رضي الله عنه -، وهذا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ - رضي الله عنه -. قال: فقام السبع فهرول قدامه غلوة، ثم همهم، ثم صرخ، ثم تنحَّى عن الطريق، فمضى بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ، ثم رجع بالجواب، فإذا هو بالسبع، فخاف أن يجوز، فقال: أيها السبع! إني رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ، وهذا جواب كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم - فقام السبع، فصرخ، ثم همهم، ثم تنحَّى عن الطريق، فلمَّا قدم أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتَدْرُوْنَ مَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّة؟ قَالَ: كَيْفَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَأبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ - رضي الله عنه -؟ وأمَّا الثَّانية فقال: أَقْرِئْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثمَانَ، وَعَلِيًّا، وَسَلْمَانَ، وَصُهَيْبًا، وَبِلالاً مِنِّي السَّلامَ" (¬1). وروى الطبراني، والديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَتَدْرُوْنَ مَا يَقُوْلُ الأَسَدُ فِي زَئِيْرهِ؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ لا تُسَلِّطْنِي عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرُوفِ" (¬2). ¬
ويؤيده ما في الحديث: "إِنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوْءِ" (¬1). والزئير صوت الأسد في عدوه؛ يقال: زأر يزأر زئاراً، وزئيراً - بالكسر - وتزارَّ؛ كتعلَّم. وروى الحاكم وصححه، عن أبي عقرب رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا على عتبة بن أبي لهب فقال: "اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلابِكَ"، فافترسه الأسد (¬2). وروى البيهقي في "الدلائل" عن قتادة: أنَّ عتبة بن أبي لهب تسلط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا إِنِّي أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ". فخرج في نفر من قريش حتى نزلوا بمكان من الشام يقال له: الزرقاء ليلاً، فأطاف بهم الأسد، فجعل عتبة يقول: يا ويل أمي! هو والله آكلي كما دعا محمدٌ عَلَيَّ، قتلني وهو بمكة وأنا بالشام، فعدا عليه الأسد فقتله من بين القوم، وأخذ برأسه فضغمه ضغمة، فذبحه (¬3). وفي حديث آخر أخرجه ابن عساكر: كان أبو لهب وابنه عتبة قد ¬
تجهزا إلى الشام، فقال عتبة: والله لأذهبنَّ إلى محمد فلآذينه في ربه، فأتاه وهو في الحجر فقال: هو يكفر بالذي دنا فتدلَّى فكان قاب قوسين أو أدنى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُّمَّ ابْعَثْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلابِكَ". وفيه: أنهم ساروا حتى نزلوا الشراة وهي مَأْسَدة، فجمعوا متاعهم إلى صومعة هناك، وفرشوا لعتبة، وناموا حوله، وبات وهو فوق المتاع وهم حوله، فجاء الأسد فشم وجوههم، فلما لم يجد ما يريده تنفض، ثم وثب فإذا هو فوق المتاع، فشم وجه عتبة، ثم هزمه هزمة، ففضخ رأسه، فانطلق. رواه أبو نعيم، وابن عساكر من حديث أهبان بن الأسود - رضي الله عنه -، وأنه شهد القصة وكان معهم (¬1). ورواه ابن إسحاق، وأبو نعيم من طريقة أخرى - مرسلة - عن محمد بن كعب القرظي، وزاد: أنَّ حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال ذلك: [من السريع] سائِلْ بَنِي الأَشْقَرِ إِنْ جِئْتَهُمْ ... ما كانَ أَنْباءُ أَبِي واسِعِ لا وَسَّعَ اللهُ لَهُ قَبْرَهُ ... بَلْ ضَيَّقَ اللهُ عَلى القاطِعِ رُحْمُ نبيٍّ جَدُّهُ ثابِتٍ ... يَدْعو إِلَى نُورٍ لَهُ ساطِعِ اسالُ بِالْحجرِ لِتكْذِيبِهِ ... دُونَ قُرَيْشٍ نُهزةَ القارعِ فَاسْتَوْجِبِ الدَّعوةَ مِنْهُ بِما ... بُيِّنَ لِلنَّاظِر وَالسَّامعِ ¬
أَنْ سَلَّطَ اللهُ بِها كَلْبَهُ ... يَمْشِي الْهُوَينا مِشْيَةَ الْخادِعِ حَتَّى أَتاهُ وَسْطَ أَصْحابِهِ ... وَقَدْ عَلَتْهُمْ سُنَّةُ الْهاجِعِ فَالْتَقَمَ الرَّأْسَ بِيافُوخِهِ ... وَالنَّحْرَ مِنْهُ فغرةَ الْجائِعِ مَنْ يَرْجِعِ الآنَ إِلَى أَهْلِهِ ... فَما أَكْيَلُ السبعَ بِالرَّاجِعِ (¬1) وهذا وأمثاله يدل على أن السبع إنما يتسلط على أحد بتسليط الله تعالى، وينكف عن أحد بكف الله تعالى، وأنَّ محل تسليطه أهل معصية الله بسخط من الله تعالى، ومحل انكفافه أهل ولاية الله تعالى والمعروف في شريعته لرحمة من الله تعالى ورضا منه. وروى أبو نعيم عن ثور بن يزيد قال: بلغني أنَّ الأسد لا يأكل إلا من أتى مُحرماً (¬2). وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن جعفر بن زيد - أراه العبدي -: أنَّ أباه أخبره قال: خرجنا في غَزَاة إلى كابل، وفي الجيش صلة بن أشيم رحمه الله تعالى، فنزل الناس عند العتمة، ثم اضطجع، فلمَّا هدأت العيون وثب يدخل غيضة قريباً منَّا وبغلته في أثره، فتوضأ ثمَّ قام يصلي، فافتتح وجاء أسد حتى دنا منه، قال: فصعدت في شجرة، قال: فتراه التفت أو عدَّهُ جَرواً حتى سجد، فقلت: الآن يفترسه ¬
حتى سجد فلا شيء، ثمَّ سلَّم، فقال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكان آخر، فولَّى وإنَّ له لزئيراً تصدع الجبال منه. قال: فما زال كذلك حتى لمَّا كان الصبح جلس يحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله، ثمَّ قال: اللهمَّ إني أسألك أن تجيرني من النار، ومثلي يجترئ أن يسألك الجنة؟ قال: ثمَّ رجع فأصبح كأنَّه بات على الحشايا، وأصبحت وبي من القلق ما الله به عليم (¬1). وروى اللالكائي في باب الكرامات من "السنة" عن الحسن بن دعابة قال: رأيت عتبة الغلام رحمه الله تعالى إذا استحسن الطير دعاءه فيجيء حتى يسقط على فخذه، فيمسه، ثم يسيبه فيطير (¬2). وعن عبد الله بن موسى الطُّفَاوي، قال: بلغني أنَّ رابعة - يعني: العدوية - رحمها الله تعالى كانت تطبخ قدراً، فاشتهت بصلاً، فجاء طير في منقاره بصلة، فألقاها إليها (¬3). وروى أبو نعيم عن بكر بن خليفة قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أيها الناس! إنكم والله لو حننتم حنين الوله ¬
العجال، ودعوتم دعاء الحمام، وجأرتم تجؤر المتبتل الرهبان، ثم خرجتم إلى الله تعالى من الأموال والأولاد التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده، أو غفران سيئة أحصاها كتبته، لكان قليلاً فيما أرجو لكم من جزيل ثوابه، وأتخوَّف عليكم من أليم عقابه (¬1). وعن وهب بن منبِّه قال: البلاء للمؤمن كالشكال للدابة (¬2). والمعنى فيه: أنَّ البلاء يحرس المؤمن من الطغيان كما يمنع الشكال الدابة من الرَّمَح والعض ونحو ذلك، إذ المرض حبس للعبد المؤمن عن شهوات النفس التي إذا استرسل فيها فربَّما أدَّت به إلى الطغيان والعدوان. وروى أبو نعيم عن الشعبي قال: حدثني عجلان مولى زياد، قال: كان زياد إذا خرج من منزله مشيت أمامه إلى المسجد، فإذا دخل مشيت أمامه إلى مجلسه ذات يوم، فإذا هو بهر في زاوية البيت، فذهبت أزجره، فقال: دعه يقارب ما له، ثمَّ صلَّى الظهر، فعاد إلى مجلسه، ثم صلى العصر فعاد إلى مجلسه؛ كل ذلك يلاحظ الهر، فلما كان قبل غروب الشمس خرج جرد فوثب إليه فأخذه، فقال زياد: من كانت له حاجة فليواظب عليها مراقبة الهر يظفر بها (¬3). ¬
وحُكِي عن بعض المراقبين أنَّه سُئِل: من أين تعلمت هذه المراقبة؟ قال: من سنور كان عندنا يرقب الفئرة، ويصبر فلا يتحرك حتى يخرج الفأر فيتناوله. وقال القشيري في "رسالته": سُئِل أبو الحسن بن هند: متى يهش الراعي غنمه بعصى الرعاية عن مراعي الهلكة؟ قال: إذا علم أنَّ عليه رقيباً. وروى الدينوري في "المجالسة" عن حمَّاد بن زيد رحمه الله تعالى قال: قيل للحمار: ألا تجتر؟ فقال: أكره مضغ الباطل (¬1). وهذا على طريق ضرب المثال والتكلم بلسان الحال، وله نظائر تقدم منها جملة. وقال القمي في "الأمثال": تقول العرب فيما تضربه من الأمثال: إنَّ الأسد رأى الحمار فرأى شدة حوافره، وعظم أسنانه، وعظم بطنه وأذنيه، فهابه، وقال: إنَّ هذا لمنكر، وإنَّ هذا لخليق أن يغلبني، فلو زرته ونظرت ما عنده، فدنا منه الأسد، فقال: يا حمار! أرأيت حوافرك هذه المنكرة لأي شيء هي؟ قال: للحجارة. فقال الأسد: أَمِنْتُ حوافره. ¬
ثم قال: أفرأيت أسنانك هذه المنكرة لأي شيء هي؟ قال: للحنظل. قال الأسد: قد أمنت أسنانه. قال: أفرأيت أذنيك هاتين المنكرتين لأي شيء؟ قال: للذباب. قال: أفرأيت بطنك لأي شيء هو؟ قال: ضراط أكنزه، وضَرَطَ، فأرسلها مثلاً (¬1)، انتهى. وما أحسن ما قيل: [من الوافر] وَلَوْ لَبِسَ الْحِمارُ ثِيابَ خَزٍّ ... لَقالَ النَّاسُ يا لَكَ مِنْ حِمارِ وقالوا في المثل: الفرس العتيق لا يعيبه خلاقة جله. وروى الشيخان، والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بَيْنَمَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا عَلَيْهَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ فَقَالَ: مَنْ لَها يَومَ السَّبُعِ يَومَ لَيسَ لَها راعٍ غَيْرِي، وَبَيْنَما رَجُلٌ يَسوقُ بَقَرَةً قَدْ حَمَلَ عَلَيْها فَالْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَكَلَّمَتْهُ، فَقالَتْ: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذا وَلَكِنْ خُلِقْتُ لِلْحَرْث". فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم، بقرة تتكلم؟ ¬
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي أُؤْمِنُ بِذَلِكَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا" (¬1). وروى أبو الشيخ في "العظمة" عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: جاءت بقرة إلى بيت كان إلى مجلس داود عليه السلام من ظاهر الباب، فحركته، فقال داود عليه السلام لوصيف عنده: انظر من بالباب فأدخله، فخرج فلم يرَ أحداً، فقال: يا نبي الله! ما بالباب أحد. فعادت البقرة فحركت البيت، فقال: اخرج فما وجدت على الباب من شيء فأدخله. فخرج فوجد البقرة فأدخلها، فخرَّت له ساجدة، ثم قالت: يا نبي الله! قد وضعت عند أهلي كذا وكذا بطناً، وانتفعوا بلبني، وقد ائتمروا أن يذبحوني. فبعث إلى أهلها فذكر لهم الذي قالت، فقالوا: صدقت؛ لحمها علينا حرام (¬2). وروى الخطيب في "الجامع" عن حَمَّاد الرَّاوية قال: كانت العرب تقول: عجبنا من أربعة أشياء: من الغراب، والكلب، والخنزير، والسنور. فأمَّا الغراب فسرعة بكوره وسرعة إيابه قبل الليل. ¬
وأما الكلب فالمعرفة تنفع عنده. وأما الخنزير فإنه إذا احتقر شيئاً لم يدعه حتى يأتي على أصله. وأمَّا السنور فإنَّه يواظب على الشيء فلا يبرح حتى يأخذه. فمن طلب حاجة فليطلبها طلب الهر (¬1). وفي كتاب "العقد" لابن عبد ربه: وقالوا: من أخذ من الديك ثلاثة أشياء، ومن الغراب ثلاثة أشياء، تمَّ بها أدبه ومروءته. من أخذ من الديك سخاءه، وشجاعته، وغيرته. ومن الغراب بكوره في طلب الرزق، وشدة حذره، وستر (¬2) سفاده (¬3). وروى الدينوري في "المجالسة" عن الأصمعي قال: قيل لبزرجمهر الحكيم: بم أدركت ما أدركت؟ قال: ببكور كبكور الغراب، وحرص كحرص الخنزير، وصبر كصبر الحمار (¬4). وعن المدائني قال: كان عظماء الترك يقولون: ينبغي للقائد ¬
العظيم أن يكون فيه خصال من أخلاق الحيوان: شجاعة الديك، وتحنن الدجاجة، وقلب الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وحيل الذئب (¬1). وقال أبو الليث السمرقندي في "تنبيه الغافلين": ويقال: ينبغي للغازي عشر خصال: - أن يكون في قلب الأسد لا يجبن. - وفي كبر النمر لا يتواضع للعدو. - وفي شجاعة الذئب يقاتل بجميع جوارحه. - وفي الخنزير لا يول دبره إذا حمل. - وفي إغارة الذئب إذا أيس من وجه أغار من وجه. - وفي حمل الثقيل كالنملة تحمل أضعاف وزنها. - وفي ثباته كالحجر لا يزول عن مكانه. - وفي صبره كالحمار إذا أثقله حمله صبر يصبر على نضل السهام وضرب السهام. - وفي وفاء الكلب لو دخل سيده النار لاتبع أثره. - وفي التماس الفرصة كالديك. وذكر صاحب "شرعة الإسلام" (¬2) نحو ذلك إلا أنه قال: إنَّ مقدم ¬
العسكر ينبغي أن يتشبه بأصناف من الخلق؛ فيكون له قلب الأسد لا يجبن، وفي كبر النمر إلى آخره. وزاد: في الحراسة كالكركي، وفي التعب كاليعزوب، وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والشقاء. وقال في "حياة الحيوان": حكى المسعودي عن بعض حكماء الفرس قال: أخذت من كل شيء أحسن ما فيه حتى انتهى ذلك بي إلى الكلب، والهرة، والخنزير، والغراب، فقيل له: فما أخذت من الكلب؟ قال: إلفه لأهله، وذبه عن صاحبه. قيل: فما أخذت من الهرة؟ قال: حسن تأنيها وتأنقها عند المسألة. قيل: فما أخذت من الخنزير؟ قال: السكون في حوائجه. قيل: فما أخذت من الغراب؟ قال: شدة حذره. وذكر القشيري في "رسالته" عن سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى أنَّه قال: إن كنت ممن يخشى السباع فلا تصحبني. كأنه أشار إلى من يخاف غير الله تعالى فلا ينبغي أن يصحب لأنه يفارقك إذا خاف عدوك وخشي عتاب صديقك، ويهرب عنك إذا قصدك سبع أو نحوه.
وأيضًا فإنَّ المريد إذا تبع المُربِّي لا يتم اتباعه له حتى لا يجول بينه وبينه هول ولا هوى. قال القشيري - رضي الله عنه -: والمريد لا يفتر آناء الليل والنهار، فهو في الظاهر بنعت المجاهدات، وفي الباطن بوصف المكابدات، فارق الفراش ولازم الانكماش، وتحمل المصاعب وركب المتاعب، وعالج الأخلاق ومارس المشاق، وعاين الأهوال وفارق الأشكال كما قيل: كَمْ قَطَعْتُ اللَّيْلَ فِي مَهْمَهٍ ... لا أَسَداً أَخْشَى وَلا ذيبا يَغْلِبُنِي شَوْقِي فَأَطْوِي السُّرى ... وَلَمْ يَزَلْ ذُو الشَّوْقِ مَغْلُوباً قال: وسُئِل الجنيد رحمه الله تعالى عن المريد والمراد؟ فقال: المريد: تتولاه سياسة العلم، والمراد: رعاية الحق لأنَّ المريد يسير، والمراد يطير، فمتى يلحق السائر الطائر. وعن أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى قال: اختلفت إلى مجلس قاص فأثَّرَ كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي شيء، فعدت ثانياً فبقي أثر كلامه في قلبي، فرجعت إلى منزلي فكسرت آلات المخالفات، ولزمت الطريق. فحكى أبو سليمان هذه الحكاية ليحيي بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى فقال يحيى: عصفور اصطاد كركياً. وقال بعض العلماء: عليك بصحبة أهل الخير؛ فإنَّ كلباً صحب
قوماً صالحين فذكره الله معهم في كتابه العزيز؛ يريد كلب أصحاب الكهف. وروى الدينوري في "المجالسة" عن وهب رحمه الله تعالى: أنَّ الله تعالى قال لشعياء عليه السلام: قم في قومك، أُوحي على لسانك. فلمَّا قام شعياء عليه السلام أنطق الله تعالى لسانه بالوحي، فقال: يا سماء! استمعي، ويا أرض! أنصتي. فاستمعت السماء وأنصتت الأرض، فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول لكم: إني استقبلت بني إسرائيل بالكرامة وهم كالغنم الضائعة لا راعي لها، فأويت شاردتها، وجبرت كسيرها، وداويت مريضها، وأسمنت مهزولها، فبطرت فتناطحت، فقتل بعضها بعضاً حتى لم يبق منها عظم صحيح. إنَّ الحمار ربما يذكر أرِيَّه الذي يشبع عليه فيراجعه، وإنَّ الثور ربما يذكر مرجه الذي سمن فيه فينتابه، وإنَّ البعير ربما يذكر وطنه الذي نيخ فيه فينزع إليه؛ فإنَّ هؤلاء القوم لا يذكرون من أين جاءهم الخير وهم أهل الألباب والعقول، ليسوا بإبل ولا بقر ولا حمير. وإني ضارب لهم مثلاً فاسمعوه؛ قل لهم: كيف ترون في أرض كانت زماناً من زمانها خربة مواتاً، لا زرع فيها ولا حرث، وكان لها رب قوي حليم، فأقبل عليها بالعمارة، وأحاط عليها سياجاً، وشيَّد فيها قصوراً، وأنبط فيها نهراً، وصنَّف فيها غراساً من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار، وولَّى ذلك ذا رأي وهمة حفيظاً قوياً
أميناً، فلما جاء إبان ثمرها أثمرت خروباً، ما كنتم قائلين له ومشيرين عليه؟ قال: كنَّا نقول له: بئس الأرض أرضك، ونشير عليه أن يقلع سياجها، ويهدم قصورها، ويدفن نهرها، ويحرق غرسها حتى تعود خربة مواتاً لا عمران فيها. فقال الله تعالى لهم: إنَّ السياج ذمتي، وإنَّ القصر شريعتي، وإنَّ النهر كتابي، وإنَّ الغراس مثل لهم، والخروب أعمالهم الخبيثة، وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم؛ يتقربون إليَّ بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا آكله، ويدَّعون أن يتقربوا إليَّ بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرَّمتها عليهم، ويزوقون لي المساجد وليس لي إلى تزويقها حاجة، إنما أمرت برفعها لأُذكر فيها وأسبَّح، ويقولون: لو كان يقدر على جمع ألفتنا لجمعها، ولو كان يقدر على فقه قلوبنا لفقهها، فاعمد إلى عودين يابسين فاكتب فيهما كتاباً: إنَّ الله يأمركما أن تعودا عوداً واحداً، فقال لهما ذلك، فاختلطا، فصارا عوداً واحداً، وصار الكتاب في طرفي العود كتاباً واحداً: يا معشر بني إسرائيل! إن الله يقول لكم إني قدرت على أن أفقه العيدان اليابسة، وعلى أن أؤلف بينها، فكيف لا أقدر أن أجمع ألفتكم إن شئت؟ أم كيف لا أفقه قلوبكم؟ ويقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا، وصلينا فلم تنور صلاتنا، وزكينا فلم تزك زكاتنا، ودعونا فلم يستجب لنا.
فائدة جليلة نختم بها هذا الفصل
فقال الله تعالى: سَلْهم لم ذلك؟ وما الذي منعني أن أجيبهم؟ ألست أسمع السامعين وأبصر الباصرين؟ وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين؟ ألأن خزائني قد فنيت ويداي مبسوطتان بالخير أنفق كيف أشاء؟ أم لأنَّ ذات يدي قلَّت؟ كيف ومفاتيح الخير بيدي لا يفتحها ولا يغلقها غيري؟ أم لأنَّ رحمتي ضاقت ورحمتي وسعت كل شيء؟ وإنما يتراحم المتراحمون ببعضها، أم لأن البخل يعتريني؟ كيف وأنا الفتاح بالخيرات أَجْوَد من أعطى، وأكرم من سئل؟ ولكن كيف أرفع صيامهم وهم يَلْبِسونه يقول الزور، ويتقوون عليه بطُعمة الحرام؟ أم كيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاذُّني؟ أم كيف أستجيب دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والعمل من ذلك بعيد؟ أم كيف تزكو صدقاتهم وهي من أموال غيرهم وإنما أجزي عليها المُغْتَصَبِين؟ وإنَّ من علامة رضائي رضا المساكين (¬1). * وهذه فائدة جليلة نختم بها هذا الفصل: روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عبد الكريم ابن رشيد قال: ينتهي أهل الجنة إلى باب الجنة وإنهم يتلاحظون تلاحظ الثيران، فإذا دخلوها نزع الله ما في صدورهم من غِل، فصاروا إخواناً (¬2). ¬
مثل ذلك لا يقال رأياً، وإنَّما حكمه حكم المرفوع. والمعنى في ذلك على وجهين: الأول: أنَّ العبد إذا لم ينته إلى إحدى الدارين الجنة والنار، فإنَّ رُعُونات النفس لا تنقطع عنه - وإن كان من أهل الخير - إلا من عصم الله تعالى منهم، فيبقى عليه بقايا من النفس من غلٍ - أي: حسد -، أو تزكية نفس، وغض من مقام غيره، فإن كان من أهل الخير جرى عليه من أهوال الموقف ما يكفر عنه تلك البقايا التي لم يحصل لها مكفر في الدنيا من فعلِ حسنةٍ، أو اجتناب كبيرة، أو حلول بلية به، أو هم، أو غم، أو مرض أو شدة موت، فلا يدخل الجنة إلا طاهراً مقدساً، حتى إنَّ منهم من يتم تطهيره بالازدحام عند الدخول في باب الجنة، وكفاك دليلاً على ذلك ما رواه الحاكم - وقال: صحيح الإسناد، وأقره على تصحيحه المنذري، وغيره - عن جابر - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَرَجَ مِنْ عِنْدِيْ خَلِيْلِي جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ آنِفًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! وَالَّذِيْ بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّ للهِ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ عَبَدَ اللهَ خَمْسَ مِئَةِ سَنَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَل فِي البَحْرِ عَرْضُهُ وَطُولُهُ ثَلاثُونَ ذِرَاعاً، فِي ثَلاثِيْنَ ذِرَاعاً وَالبَحْرُ مُحِيْطٌ بِهِ أَرْبَعَةُ آلافِ فَرْسَخٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ عَيْناً عَذْبَةً بِعَرْضِ الإِصْبَعِ تَبُضُّ أَسْفَلَ الْجَبَلِ، وَشَجَرَةَ رُمَّانٍ يَخْرُجُ لَهُ فِي كُلِّ [لَيلةٍ] رُمَّانَةٌ يَتَعَبَّدُ يَوْمَهُ، فَإِذَا أَمْسَى نزَلَ فَأَصَابَ مِنَ الوضُوْءِ، وَأَخَذَ تِلْكَ الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا، ثُمَّ قَامَ لِصَلاتِهِ فَسَأَلَ رَبَّهُ عِنْدَ وَقْتِ الأَجَلِ أَنْ يَقْبِضَهُ سَاجِداً، قَالَ: فَفَعَلَ، فَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَيْهِ إِذَا هَبَطْنَا وَإِذَا عَرَجْنَا، فَنَجِدُ لَهُ فِي العِلْمِ
أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامِة فَيُوْقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى فَيَقُوْلُ لَهُ الرَّبُّ - عز وجل -: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُوْلُ: يَا رَبِّ! بَلْ بِعَمَلِي، فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُوْلُ: يَا رَبِّ! بَلْ بِعَمَلِي، فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! بَلْ بِعَمَلِي، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ فتوْجَدُ نِعْمَةُ البَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِ مَئَةِ عَامٍ وَبَقِيَتْ نِعْمَةُ الْجَسَدِ فَضْلَةً عَلَيْهِ فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِيَ النَّارَ، فَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ، فَيُنَادِيْ: رَبِّ! بِرَحْمَتِكَ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رُدُّوْهُ، فَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدِي مَنْ خَلَقَكَ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا ربِّ، فَيَقُولُ: مَنْ قَوَّاكَ لِعِبَادَةِ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ رَبِّ، فَيَقُولُ مَنْ أَنْزَلَكَ فِي الْجَبَلِ وَسَطَ اللُّجَّةِ وَأَخْرَجَ لَكَ الْمَاءَ العَذْبَ مِنَ الْمَاءِ الْمَالِحِ، وَأَخْرَجَ لَكَ كُلَّ يَوْمٍ رُمَّانَةً، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ، وَسَأَلْتَهُ أَنْ يَقْبِضَكَ سَاجِداً فَفَعَلَ؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ، قَالَ: ذَلِكَ بِرَحْمَتِي، وَبِرَحْمَتِي أُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ؛ أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ. قَالَ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: إِنَّ الأَشْيَاءَ بِرَحْمَةِ اللهِ يَا مُحَمَّد" (¬1). ¬
فانظر كيف يُكفِّر الله تعالى عن العبد الصالح ما يبقى عليه من رعونة نفسه، وإدلاله بعمله وتمسكه به في نفس موقفه، فلا يدخله الله الجنة إلا خالصاً طاهراً مقدساً؛ فمن هذا القبيل يُلاحظ أهل الجنة عند باب الجنة تلاحظ الثيران ليُكفر ذلك عنهم ولو بازدحامهم عند الدخول، فإذا دخلوا نزع الله الغِلَّ من صدورهم. هذا الوجه الأول في كلام عبد الكريم بن رشيد. والوجه الثاني: أنَّ أهل الجنة لا تنقطع عنهم أحوال الدنيا وخوف المؤاخذة بها في مواطن القيامة حتى يدخلوا الجنة - كان انتهوا إلى بابها - فإنَّ كل إنسان منهم يخشى أن يكون عليه مؤاخذة، ولا يكاد يخلو أحد منهم من ظُلامة عند بعض أهل الموقف فهو يخاف أن يحتاج إليها ليكفر الله بها ما عسى أن يستدرك عليه من التبعات - وإن انتهى إلى باب الجنة - فإنه لا يأمن أن يقال: قفوه، أو: أرجعوه، فهو ينظر إلى أخيه الذي له عليه الظلامة نظر الطالب، ويلتفت إليه التفات المُسْتَعدى عليه ولو كان أقرب الخلق إليه. روى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّهُ يَكُوْنُ لِلْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهِمَا دَيْنٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يتَعَلَّقَانِ بِهِ فَيَقُوْلُ: أَنَا وَلَدُكُمَا فَيَوَدَّانِ، أَوْ يَتَمَنَّيَانِ لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ" (¬1). ¬
وروى سعيد بن منصور، والحاكم - وقال: صحيح الإسناد - وابن أبي داود في "البعث"، والبيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس إذ ضحك حتَّى بدت ثناياه، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ قال: "رَجُلانِ مِنْ أُمَّتِي جَثَيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ العِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَبِّ! خُذْ لِيْ مَظْلَمَتِي مِنْ أَخِيْ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَصْنعُ بِأَخِيْكَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ. قَالَ: يَا رَبِّ! فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي". وفاضت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبكاء، ثمَّ قال: "إِنَّ ذَلِكَ لَيَوْمٌ عَظِيْمٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُمْ مِنْ أَوْزَارِهِمْ، فَقَالَ اللهُ لِلطَّالِبِ: ارْفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ، فَرَفَعَ فَقَالَ: يَا رَبِّ! أَرَى مَدَائِنَ مِنْ ذَهَبٍ، وَقُصُوْراً مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةً بِاللُّؤْلُؤِ؛ لأَيِّ نَبِيٍّ هَذَا، وَلأَيِّ صِدِّيْقٍ هَذَا، وَلأيِّ شَهِيْدٍ هَذَا؟ قَالَ: لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ. قَالَ: يَا رَبِّ! وَمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنْتَ تَمْلِكُ. قَالَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: بِعَفْوِكَ عَنْ أَخِيْكَ.
قَالَ: يَا رَبِّ! فَإِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَخُذْ بِيَدِ أَخِيْكَ، وَأَدْخِلْهُ مَعَكَ الْجَنَّةَ". فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: "وَاتَّقُوا اللهَ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنَكُمْ؛ فَإنَّ الله يُصْلِحُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِيْنَ" (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: بلغني أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُحْبَسُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْدَمَا يَجُوْزُوْنَ الصِّرَاطَ حَتَّى يُؤْخَذَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ظُلامَاتُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَيْسَ فِي قُلُوْبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ غِلٌ" (¬2). روى البخاري، والإسماعيلي في "مستخرجه" - واللفظ له - عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)} [الحجر: 47]، قال: يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُوْنُ مِنَ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَتَنَقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُوْلِ الْجَنَّةِ؛ فَوَالَّذِيْ ¬
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ أَهْدَى لِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ فِي الدُّنْيَا" (¬1). قال قتادة: كان يقال ما شَبَهٌ لهم إلا أهل الجمعة انصرفوا من جمعتهم (¬2). وقوله: يخلص المؤمنون من النار، أي: ينجون من السقوط فيها بمجاورة الصراط. والمراد: من لم يدخل النار منهم، كما قال القرطبي (¬3)، أمَّا من دخلها ثم أخرج منها فلا يحبس، بل إذا أخرجوا بثوا على أنهار الجنة فغمسوا فيها، وذلك أن ما كان عليهم من التبعات جوزوا عليه بما لقوا في النار. وأحسن ما نختم به هنا: ما رواه البزار بسند صحيح، عن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض مغازيه فبينما هم يسيرون إذ أخذوا فرخ طير، فأقبل أحد أبويه حتى سقط في يد الذي أخذه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "أَلا تَعْجَبُوْنَ لِهَذَا الطَّيْرِ؟ أَخَذَ فَرْخَهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى سَقَطَ فِي أَيْدِيْهِمْ، فَوَاللهِ للهُ أَرْحَمُ بِخَلْقِهِ مِنْ هَذَا الطَّيْرِ بِفَرْخِهِ" (¬4). ¬
واعلم أنَّ الله تبارك وتعالى جعل الإنسان نسخة الوجود ومرآة العوالم، وجعل فيه قابلية لأن يكون صورة لكل شيء، ونسخة من كل مصنوع بحيث يظهر فيه كمال قدرة الله تعالى، كما وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]. وفضَّله الله تعالى على جميع الحيوانات والجمادات بالعقل والمعرفة، وحسن التصرف في مملكة إنسانيته، ومقتضى ذلك أن يظهر بكل صورة جميلة، ويتخلق بكل صفة كريمة - ولو كان لها نظير في أدون المخلوقات وأدناها - مع الاحتراز عن كل خصلة قبيحة، وصورة شنيعة - وإن كان يوجد لها نظير في بعض الأناسي - والعاقل العارف لا يرضى لنفسه أن يكون من الخير إلا في أعلى طبقاته الممكنة له، ولا من الشر إلا أبعد ما يكون منه، ولا يرى أحداً متصفاً بشيء مدحه الشرع والعقل إلا شاركه فيه، أو شيء ذمَّه الشرع والعقل إلَّا كان أشد الناس اجتناباً له وتباعداً عنه كما قيل: [من المتقارب] إِذا أَعْجَبَتْكَ خِصالُ امْرِئٍ ... فَكُنْهُ يَكُنْ فِيكَ ما يُعْجِبُكْ فَلَيْسَ عَلى الْمَجْدِ وَالْمَكْرُماتِ ... إِذا رُمْتَها حاجِبٌ يَحْجُبُكْ (¬1) وأقول: [من السريع] ¬
إِنِّي امْرُؤٌ يُعْجِبُنِي أَنْ أَكُونْ ... فِي حَركاتِي كُلِّها وَالسُّكونْ عَلى كَمالِ الْخَيْرِ ما فاتَنِي ... قَرْنِي بِشَيْءٍ مِنْهُ أنَّى يَكونْ لَوْ أَمْكَنَتْنِي قُوَّتِي لَمْ أَكُنْ ... أَرْضَى عَنِ الغايَةِ فِيهِ بِدُونْ لَمْ أَرْضَ أَنْ يُمْدَحَ غَيْرِي بِما ... لَمْ يكُ لِي خُلْقاً فَلا يَسْبِقُونْ إِنَّ الَّذِي يَرْضَى بِفَضْلٍ يَرَى ... مِنْ غَيْرِهِ لا مِنْهُ فِيهِ جُنونْ ما لَمْ يَكُنْ يَجْهَدُ فِي نَيْلِه ... كَما الوَرى فِي نَيْلِهِ يَجْهَدُونْ ما زِلْتُ بِالْهِمَّةِ أَسْعَى وَقَدْ ... كُنْتُ صَغِيراً وَتَوالَتْ سُنُونْ وَأَنا مَعْ ذَلِكَ لَمْ أَرْضَ ما ... بَلَغْتُ مِنْ فَضْلٍ بِهِ يَمْدَحُونْ
بَلْ إِنَّنَي أَسْأَلُ مِنْ خالِقِي ... زِيادةً قَبْلَ نُزولِ الْمَنُونْ حَتَّى أَراهُ ناظِراً راضِياً ... إِلَيَّ مِنْ حَيْثُ الْمَلا يُخْبِرُونْ حَسَّنْتُ بِاللهِ ظُنونِي وَما ... أَنْفَعَ ما قَدْ كانَ حُسْنَ الظُّنُونْ وهذا الكتاب موضوع لطريق العمل بمقتضى العقل والعلم اللذين بهما يصير الإنسان إنساناً كاملاً، فمن ظَفِر بكتابنا هذا وتمسَّك به، وعمل بما فيه كان إنساناً كاملاً وبشراً سويًّا، ورُجي له زيادة الهداية من الله تعالى كما قال سبحانه وتعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]. ومن خالف في العمل والهدى هذا الكتاب فقد حاد عن جادة الصواب، وصرف قلبه عن فهم آيات الكتاب، وعرَّض نفسه للندامة يوم المآب. وإن شئت فاقرأ في هذا المقام قول الله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)} [الأعراف: 146].
فإيَّاك والغفلةَ عن آيات الله؛ فإنَّ الغفلة عنها تجرُّ إلى التكذيب بها ولو بلسان الحال، وذلك يؤدي إلى ترك العمل بها، وبذلك يهلك الإنسان؛ نعوذ بالله من الخذلان! ثمَّ لما كان الإنسان - وإن كان متصفاً بالعبودية والإيمان - لا يخلو عن زلةٍ ما بمقتضى ما جُبِلَ عليه من الخطأ كما في الحديث: "كُلُّ بَنِيْ آدَمَ خَطَّاءٌ" (¬1) ناسبَ أن نختم الكتاب بما يفيء به من الزلة والخطأ إلى الاستقامة والصواب، وهو التوبة التي كانت طريق الفيئة والتدارك لأبيه آدم عليه السلام ليكون من خير الخطَّائين؛ إذ "خير الخطَّائين التوابون" (¬2) كما في الحديث. وروى الحاكم في "المستدرك" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ مُفْتَّناً تَوَّاباً، نَسِيًّا إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ" (¬3). وحقيقة وصف المؤمن في هذا الحديث التوبة والذكر، وأما الافتتان والنسيان فإنَّهما يشاركه فيها غيره، فالمنافق كذلك مفتن نسي إلا أنَّهُ يُصر، وإذا ذُكِّر لا يذكر، ولأنَّ التوبة أول مقامات البدلية، ولذلك يُبدل الله تعالى سيئات التائبين حسنات كما قال تعالى: ¬
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 70]. ومن ثم قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: التوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة (¬1). وروى أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عنه أنَّه قال: لا يصح للإنسان حقيقة التوبة حتى يترك أربعة أخلاق؛ أخلاق الأبالسة، وأخلاق السحرة، وأخلاق البهائم، وأخلاق الشياطين. أي: مُتصفاً بأضدادها، متخلقاً بخلافها. وهذا الكتاب إنما هو للإرشاد إلى أن يتجرد العبد عن مساوئ الأخلاق والأعمال والأقوال، ويتبدل بها محاسن الأخلاق والأعمال والأقوال، فيكون بدلاً يرحم الله به العباد، ويسقي به البلاد، وينصر به عامَّة الأمة على أعدائها، ويحفظ به الأرض من سائر أرجائها حتى يأتيَ أمرُ الله تعالى. وأيضاً ختمنا بالتوبة الكتاب رجاء أن يختم لنا بالمتاب؛ لأنَّ من خُتِمَ له بالتوبة فقد أمن بالأَوبة من الحَوبة. ¬
خاتمة الكتاب الموعود بذكرها في فضل الإنابة والمتاب
هَذِهِ خَاِتمَة الكِتَابِ المَوْعُود بِذِكْرِهَا في فَضْل الإنَابَةِ والمَتَابِ قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]. روى الحاكم وصححه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: التوبة النصوح تُكفِّر كل سيئة. قال: وهو في القرآن، ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] (¬1). وروى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والمفسرون، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب"، وغيرهم عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه -: أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سُئِلَ عن التوبة النصوح، قال: أن يتوب الرجل من العمل السيء ثمَّ لا يعود إليه أبداً (¬2). ¬
وروي ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود موقوفاً عليهما، وعنهما وعن أبي بن كعب مرفوعاً (¬1). وقال الله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. وقال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]. وفي التوبة آيات أُخر. وروى مسلم، والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيْءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوْبَ مُسِيْءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" (¬2). وروى الشيخان عن الحارث بن سويد عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنِ رَجُلٍ نزَلَ فِي أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَةٌ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، فَطَلَبَهَا حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ ¬
الْحَرُّ وَالعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ الله؛ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِ الَّذِيْ كُنْتُ فِيْهِ فَأَناَمُ حَتَّى أَمُوْتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ عَلَيْهَا زَادُهُ وَشَرَاُبهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ العَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِراحِلَتِهِ" (¬1). ورويا هُما وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِيْنَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَىْ رَاهِبٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِيْنَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لاَ، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِئَةً، ثمَّ سَألَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَىْ رَجُلٍ عَالمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسِ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نعَمْ، مَنْ يَحُوْلُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ اِنْطَلِقْ إِلىْ أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ بِهَا أُناَسًا يَعْبُدُوْنَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلى أَرْضِكَ؛ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيْقُ فَأَتَاهُ المَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيْهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بقَلْبِهِ إِلى اللهِ تَعَالى، وَقَالَتْ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ في صُوْرَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوْهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيْسُوْا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ، قَالَ: أَيَّتُهَمُا كَانَ أَدْنى فَهُوَ لَهَا، فَقَاسُوْا فَوَجَدُوْهُ أَدْنى إِلى الأَرْضِ الَّتيْ أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ" (¬2). ¬
وفي رواية: "فَأَوْحَىْ اللهُ إِلى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِيْ، وَإِلى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِيْ، فَقَالَ: قِيْسُوْا مَا بَيْنَهُمَا، فَوَجَدُوْهُ إِلى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ، فَغُفِرَ لَهُ". وفي رواية: قال قتادة: قال الحسن: ذكر لنا أنَّه لما أتاه ملك الموت ناء بصدره نحوها (¬1)؛ أي: نحو الأرض التي قصدها ليكون مع أهل الطاعة فيها ويتوب. وروى الشيخان، وغيُرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا فَقَالَ: يَا رَبِّ! إِني أَصَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لي، فَقَالَ رَبُّهُ - عز وجل -: عَلِمَ عَبْدِيْ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، فَغَفَرَ لَهُ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ، ثمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ، وَرُبَّمَا قَالَ: ثم أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ! إِني أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ ليْ، فَقَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِيْ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأخُذُ بِهِ، فَغَفَرَ لَهُ، ثمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ، ثمّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ، وَرُبَّمَا قَالَ: ثمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ! إِني أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْ لي، فَقَالَ رَبُّهُ: غَفَرْتُ لِعَبْدِيْ؛ فَلْيَعْمَلْ عَبْدِيْ مَا شَاءَ". وفي لفظ: "عَبْدِيْ! اِعْمَلْ مَا شِئْتَ؛ فَقَدْ غَفَرْتُ" (¬2). أي: ما دمت كلما أذنبت استغفرتني عن علم منك أني أغفر الذنب ¬
وأعاقب عليه، وهذا العلم يدعو إلى التوبة والإقلاع مع الاستغفار. وليس المراد الاستغفار باللسان خالياً عن الإقلاع؛ فإنَّه توبةُ الكذَّابين. وروى البيهقي في كتاب "الزهد" عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: أخذ بيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمشى ميلاً، ثم قال: "يَا مُعَاذُ! أُوْصِيْكَ بِتَقْوَىْ اللهِ، وَصِدْقِ الحَدِيْثِ، وَوَفَاءِ العَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَتَرْكِ الخِيَانَةِ، وَرَحْمَةِ اليَتِيْمِ، وَحِفْظِ الجِوَارِ، وَكَظْمِ الغَيْظِ، وَلِينِ الْكَلاَمِ، وَبَذْلِ السَّلاَمِ، وَلُزُوْمِ الإمَامِ، وَالتَفَقُّهِ في القُرْآنِ، وحُبِّ الآخِرَةِ، وَالجزَعِ مِنَ الحِسَابِ، وَقِصَرِ الأَمَلِ، وَحُسْنِ الْعَمَلِ. وَأَنْهَاكَ أَنْ تَشْتُمَ مُسْلِمًا، أَوْ تُصَدِّقَ كَاذِبًا، أَوْ تُكَذِّبَ صَادِقًا، أَوْ تَعْصِيَ إِمَامًا عَادِلاً، وَأَنْ تُفْسِدَ فيْ الأَرْضِ. يَا مُعَاذُ! اُذْكُرِ اللهَ عِنْدَ كُلِّ حَجَرٍ وَشَجَرٍ، وَأَحْدِثْ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً؛ السِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْعَلاَنِيَةُ بِالْعَلاَنِيَةِ" (¬1). وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "وَاللهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوْبُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَةٍ" (¬2). وروى الإمام أحمد، ومسلم عن الأغر المزني رضي الله تعالى ¬
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! تُوْبُوْا إِلى اللهِ؛ فَإِنِّيْ أَتُوْبُ إِلَيْهِ فيْ الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ" (¬1). ورويا، وأبو داود، والنسائي عن الأغر أيضاً: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَىْ قَلْبيْ، وَإِنِّيْ لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فيْ الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ" (¬2). قال العلماء: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكثر من التوبة والاستغفار تشريعاً، وإرشاداً وإن كان معصوماً، وتويته مما عسى أن يقع منه خلف الأولى. قال أهل المعرفة: إنَّ استغفاره كان عند ترقِّيه في النبوة من مقام إلى مقام أعلى منه، وكان ربما حصلت منه ملاحظة إلى المقام الذي ارتقى منه، وكان يعد تلك الملاحظة منه غَيناً بالإضافة إلى الذي صار إليه، فكان يستغفر من ذلك الغين، ويتوب من المقام الذي قبل مقامه، فيكون بذلك متخلقاً بمقام العبودية. قال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: توبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة، وتوبة الأنبياء من رؤية عجزهم عن بلوغ ما ناله غيرُهم (¬3). قلت: لكن ينبغي أن يكون هذا في حق غير الحبيب - صلى الله عليه وسلم - لتحققه ¬
بالتقدم والعقل على سائر النبيين عليهم السلام. وعندي أنَّ توبة الأنبياء عليهم السلام من رؤية عجزهم عن إدراك أعلى مقامات المعرفة التي هي لأجلها خُلِقَ الخلق كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لاَ أُحْصِيْ ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أثنَيْتَ عَلَىْ نَفْسِكَ" (¬1). والأنبياء فمن دونهم يتعرَّفون فيعبدون على قدر معرفتهم، ثم تنتهي معرفتهم إلى العجز عن معرفتهم إياه سبحانه وتعالى، فلسان حالهم يقول: سبحانك! ما عرفناك حقَّ معرفتك، وإذا كان كذلك فما عبدوه حق عبادته، فلسان حالهم يقول: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك. فهذا الاعتراف منهم يفصِّل العبادات لأنه غاية المعارف، وكان على العبد أن يعرف الله حق معرفته، فيعبده حق عبادته، لكنه عاجز عن ذلك، وقاصر عنه لأنه خلق، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]، وإنَّما كان كذلك ليكون أبداً في مقام الذلة والافتقار، وطلب المغفرة والعفو والتوبة، فلا يتزحزح عن مقام العبودية أبداً، وذلك هو المطلوب. وما أحسن ما قيل: [من المنسرح] ¬
اعْتِصامُ الوَرَى بِمَغْفِرَتكْ ... عَجِزَ الواصِفُونَ عَنْ صِفَتِكْ تُبْ عَلَينا فَإِنَّنا بَشَرٌ (¬1) ... ما عَرَفْناكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكْ ومن هنا تظهر لك الحكمة في طلب التوبة من جميع المؤمنين بقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]؛ إذ لا يخلو المؤمن من تقصير في طاعة الله تعالى وغفلة عن ذكره. ثمَّ هو في طاعته وذكره عاجز عن بلوغ حقه مقصر في طاعته، فكانت التوبة مطلوبة من كل واحد من المؤمنين في كل وقت من أوقاته، وحال من حالاته؛ ليكون تقصيره مستوراً وذنبه مغفوراً؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَه". رواه ابن ماجه، وغيره عن أنس - رضي الله عنه -، والطبراني، والحكيم الترمذي عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، والبيهقي، وابن عساكر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬2). فالتائب من التقصير كمن لم يقصر أصلاً، فلا يتم لمؤمن مقام إلا بالتوبة من تقصيره في ذلك المقام، وبالتوبة ينال العبد تمام المحبة من الله تعالى؛ لأنَّ العبد كلما كان كاملاً في عبادة الله تعالى كان إلى الله أحب، ولا يبلغ كمال العبودية إلا بالتوبة والتطهير من ذنب الغفلة والتقصير، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. ¬
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وكان - صلى الله عليه وسلم - يكثر من التوبة والاستغفار، فمن أراد أن يحبه الله تعالى فليكثر منهما. وروى ابن ماجه بإسناد حسن، عن عبد الله بن بُسْر، وأبو نعيم عن عائشة، والإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الدرداء - موقوفاً عليه - وقال الأوَّلان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طُوْبَىْ لِمَنْ وَجَدَ فيْ صَحِيْفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيْرًا" (¬1). وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَكْثَرَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيْقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبْ" (¬2). وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوْا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ وَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُوْنَ ¬
وَيَسْتَغْفِرُوْنَ فَيَغْفِرَ لَهُمْ" (¬1). ورواه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" من حديث ابن عباس، ولفظه: "لَوْ لَمْ تُذْنِبُوْا لَجَاءَ اللهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُوْنَ فَيَغْفِرَ لَهُمْ" (¬2). والطبراني في "الكبير" من حديث ابن عمرو، ولفظه: "لَوْ لَمْ تُذْنِبُوْا لَخَلَقَ اللهُ خَلْقًا يُذْنِبُوْنَ ثُمَّ يَغْفِرُ لَهُمْ" (¬3). والحكمة في ذلك: أن الإحسان إلى المحسن مكافأة، والإحسان إلى غيره كرم وإفضال، والله سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. وفي الاستغفار والإكثار منه فائدة عظيمة، وهي أنه يؤدي بالعبد آخراً إلى التوبة والإقلاع عن الذنب - وإن كان يقع كثيراً من العبد مع الغفلة - فإنَّه في نفسه حسنة وشكر، وهو يقتضي المزيد، فقد يكون ذلك المزيد التوفيق إلى التوبة: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3]. وقال بعض العارفين: أكثِرْ من ذكر الله ولو مع الغفلة والغَيبة بالقلب عنه، فربما جرَّك الذكر إلى التذكر والحضور. ¬
والعبد له بعد الذنب عملان: أحدهما: قلبي، وهو التوبة. والثاني: لساني، وهو الاستغفار والاعتذار. وهما مشروعان للعبد منذ عهد آدم عليه السلام. قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] أي: فتاب، فتاب الله عليه. وقال تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. وروى الأزرقي في "تاريخ مكة"، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الدعوات"، وابن عساكر عن بريدة رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَمَّا أَهْبَطَ اللهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلى الأَرْضِ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَينِ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرِّيَ وَعَلانِيَتي فَاقْبَلْ مَعْذِرَتيْ، وَتَعْلَمُ حَاجَتيْ فَأَعْطِنيْ سُؤْليْ، وَتَعْلَمُ مَا عِنْدِيْ - وفي رواية: وَمَا فيْ نَفْسِيْ - فَاغْفِرْ ليْ ذُنُوْبيْ، أَسْألكَ إِيمَاناً يُبَاشِرُ قَلْبيْ، وَيَقِيْنًا صَادِقًا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لاَ يُصِيْبُنيْ إِلاَّ مَا كَتَبْتَ ليْ، وَرِضًا بِقَضَائِكَ؛ فَأَوْحَىْ اللهُ تَعَالىْ إِلَيْهِ: يَا آدَمُ! إِنَّهُ قَدْ دَعَوْتَنيْ بِدُعَاءٍ اسْتَجَبْتُ لَكَ فِيْهِ، وَغَفَرْتُ ذُنُوْبَكَ، وَفَرَّجْتُ هُمُوْمَكَ وَغُمُوْمَكَ، وَلَنْ يَدْعُوَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَتِكَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ إِلاَّ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِهِ، وَنَزَعْتُ فَقْرَهُ مِنْ بَينِ عَيْنَيْهِ، وَاتَّجَرْتُ لَهُ وَرَاءَ كُلِّ تَاجِرٍ، وَأتتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَة وَإِنْ
لَمْ يُرِدهَا" (¬1). فانظر توبة آدم عليه السلام واستغفاره واعتذاره كيف كانت سبباً لبقائه في دنياه ممتَّعاً بما أوتيه فيها، منعَّماً بطاعة ربه حتى لحق به، سالماً من العجب، فالذنب الذي آخره توبة وندم وإقلاع واستغفار واعتذار خير من العبادة المقرونة بإعجاب وإدلال واعتزاز. ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ لَمْ تُذْنِبُوْا لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ: الْعُجْبَ الْعُجْبَ". رواه البيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬2). وأخرجه الديلمي بنحوه من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه (¬3). ¬
وللتوبة فوائد
ومتى علم العبد أنه وإن جاء بكل طاعة فلا يقوم بما يستحقه الله عليه، وأن ما قدر عليه من ذلك لا حول له فيه ولا قوة إلا بالله تعالى تخلَّص من العجب، وسلم منه؛ لأنه حينئذ ينكسر بالتقصير، ويلزم الذلة والافتقار، وبذلك سعادته وفلاحه، وخيره ونجاحه. وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد" عن طَلْق بن حبيب - رضي الله عنه - أنه كان يقول: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، وإنَّ نِعَم الله أكثر من أن يحصيها العدد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين، وفي لفظ: توابين (¬1). [من المتقارب] عَلى بابِ عِزِّك يا رَبِّ قُمْنا ... بِذُلٍّ وَعَجْزٍ لَنا وَافْتِقارِ فَلا زالَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِنا ... لِنَسْلَمَ مِنْ خالةٍ وَاغْتِرارِ فَنَلْقاكَ يا رَبَّنا فِي حُبورٍ ... مُجارَيْنَ مِنْكَ بِأحْمى جِوارِ دِيارُ الرِّضى حَبَّذا مِنْ دِيارٍ ... وَأَنْتَ لَنا الْجارُ يا خَيْرَ جارِ مَنَنْتَ ابْتِداءً بِخَلْقٍ وَرِزْقٍ ... فَأَتْمِمْ لَنا خَيْرَ دارِ القَرارِ وللتوبة فَوائِدُ: * الفائدة الأولى: أن العبد ينالُ بها كمال العبودية. ¬
الفائدة الثانية
* الفائدة الثَّانِيَةُ: أنه ينال بها محبة الله تعالى للآية المتقدمة. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد، وأبو يعلى بسند ضعيف، عن علي رضي الله تعالى عنه: أنَّه قال: [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]: "إنَ اللهَ يُحِبُّ العبدَ المؤمنَ المُفتَّنَ التَّوَّاب" (¬1). وروى أبو نعيم عن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى: أنَّ قصَّاباً أُولِعَ بجارية لبعض جيرانه، فأرسلها أهلها إلى حاجةٍ لهم في قريةٍ أخرى، فتبعها فراودها عن نفسها، فقالت: لا تفعل؛ لأنا أشدُّ حباً لك منك لي، ولكني أخاف الله - عز وجل -. قال: فأنت تخافينه وأنا لا أخاف؟ فرجع تائباً، فأصابه العطش حتى كاد ينقطع عنقه، فإذا هو برسول لبعض أنبياء بني إسرائيل، فسأله قال: مالك؟ قال: العطش. قال: تعال ندعو حتى تُظلنا سحابة حتى ندخل القرية. قال: ما لى من عمل فأدعو. قال: أنا أدعو، وأَمِّن أنت. ¬
الفائدة الثالثة
قال: فدعا الرسول وأمَّن هو، فأظلَّتهما سحابة حتى انتهيا إلى القرية، فأخذ القصاب إلى مكانه، ومالت السحابة معه، فقال له: زعمت أنَّه ليس لك عمل وأنا الذي دعوت وأنت الذي أمَّنت، فأظلتنا سحابة ثم تبعتك؛ لتخبرني بأمرك. فأخبره، فقال: إنَّ التائب من الله بمكان ليس أحد من الناس بمكانه (¬1). * الفائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن التائب ينال بالتوبة رضا الله المعبَّر عنه بالفرح فيما رواه الشيخان عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدهِ حِينَ يَتُوْبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَىْ رَاحِلَتِهِ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأتىْ شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فيْ ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُم قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِيْ وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شدَّةِ الْفَرَحِ" (¬2). وتقدم الحديث من طريق آخر. * الفائِدَة الرَّابِعَةُ: أنه ينال المغفرة ومحو الذنوب، قال الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82]. ¬
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ" (¬1). وروى الترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فيْ قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ مِنْهَا، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يَغْلِفَ بِهَا الْقَلْبُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِيْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالى في كِتَابِهِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14] " (¬2). وروى أبو أحمد الحاكم في "المواعظ" عن الحسن: أنَّه كان يقول: يا ابن آدم! لا تتمنى المغفرة بغير التوبة، ولا الثواب بغير العمل، ولا تغتر بالله؛ فإن الغرة بالله أن تتمادى في سخطه وتترك العمل فيما يرضيه، وتتمنى عليه مع ذلك مغفرته، فتغرك الأماني حتى يحل بك أمره؛ أما سمعته يقول: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14]؟ يا ابن آدم! اعلم أنَّ مغفرة الله لمن أطاعه واجتنب سخطه، وتاب إليه من الخطايا، أما سمعته يقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه: 82]؟ اهتدى والله للسبيل الأقوم، واتَّبع آثار المسلمين، ¬
وسلك سبيل الصالحين. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "التوبة" عن أبي هريرة قال: بينما المسيح عليه السلام في رهط من الحواريين عند نهر جار وحمئة منتنة، أقبل طائر حسن اللون يتلون كما هو الذهب، فوقع قريباً فانتفض، فسلخ عنه مسكه، فإذا هو أقبح شيء حتى سلخ عنه مسكه أقيرع أحيبش، فانطلق يدب إلى الحمئة المنتنة، فتمعَّك فيها وتلطَّخ بنتنها، فازداد قبوحاً إلى قبوحه ونتناً إلى نتنه، ثمَّ انطلق يدب حتى أتى إلى نهر إلى جنبه ضَحْضَاح صافٍ، فاغتسل فيه حتى رجع كأنَّه بيضة مقشَّرة، ثمَّ انطلق يَدبُ إلى مسكه فتدرعه كما كان أول مرَّة. قال: فكذلك مثل عامل الخطيئة حتى يكون في الخطايا، وكذلك مثل التوبة كمثل اغتساله من النتن في النهر الضحضاح، ثم راجع دينه حتَّى تدرع مسكه (¬1). وروى أبو نعيم عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: إنَّ الشيطان ليُزين للعبد الذنب حتى يكسبه، فإذا كسبه تبرَّأ منه، فلا يزال العبد يبكي ويتضرع إلى ربِّه ويستكين حتى يُغفر له ذلك الذنب وما قبله، فيندم الشيطان على ذلك الذنب حيث أكسبه إيَّاه فغفر له الذنب وما قبله (¬2). ¬
الفائدة الخامسة
* الفائِدَةُ الْخامِسَةُ: أنه ينال بالتوبة الرحمة؛ لأن التوبة إحسان، ورحمة الله قريب من المحسنين. وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "النَّادِمُ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ الرَّحْمَةَ وَالمُعْجَبُ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ المَقْتَ. وَاعْلَمُوا عِبادَ اللهِ! أَنَّ كُلَّ عامِلٍ سَيَقْدُمُ عَلى عَمَلِهِ، وَلا يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيا حَتَّى يُرى حُسْنَ عَمَلِهِ وَسُوءَ عَمَلِهِ، وَإِنَّما الأَعْمالُ بِخَواتِيمِها، وَاللَّيْلُ وَالنَّهارُ مَطِيَّتانِ؛ فَأَحْسِنُوا السَّيْرَ عَلَيْهِما إِلَى الآخِرَةِ، وَاحْذَرُوا التَّسْوِيفَ؛ فَإنَّ الْمَوْتَ يَأتِي بَغْتَةً، وَلا يَغْتَرَّنَ أَحَدُكُمْ بِحِلْمِ اللهِ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِراكِ نَعْلِهِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8] " (¬1). * الفائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنه ينال ما رواه ابن عساكر، والأصبهاني في "الترغيب" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا تَابَ الْعَبْدُ مِنْ ذُنُوْبِهِ ¬
الفائدة السابعة
أَنْسَى اللهُ حَفَظَتَهُ ذُنُوْبَهُ، وَأَنْسَىْ ذَلِكَ جَوَارِحَهُ وَمَعَامِلَهُ مِنَ الأَرْضِ حَتَّى يَلْقَىْ اللهَ تَعَالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ بِذَنْبٍ". وروى ابن أبي الدنيا في "التوبة" عن يزيد الرقاشي رحمه الله تعالى قال: بلغني أنَّ من بكى على ذنب من ذنوبه نسي حافظاه ذلك الذنب (¬1). وعن الخليل بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: بلغني أنَّ الله تعالى إذا رَضيَ عن العبد أنسى الحفظةَ ذنوبه، وأمر جوارحه والأرض فقال: اكتمْنَ عن عبدي. قال: وبلغني أنَّه ما سبب لعبد خير إلا وهو يريد أن يتقبله، ولا نزع بعبد عن ذنب إلا وهو يريد أن يغفر له (¬2). * الفائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنَّه ينال العزَّ بعد الذل، ولا ذل أشد من ذل المعصية، ولا عز أعظم من عز الطاعة، ولذلك كان عامَّة دعاء إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك. رواه ابن أبي الدنيا (¬3). وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. ¬
الفائدة الثامنة
والتوبة من الإيمان فهي سبب للعز كما أنَّ المعصية سبب للذل. وروى ابن أبي الدنيا عن المعتمر بن سليمان رحمه الله تعالى، عن أبيه قال: إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مَذلَّتُه (¬1). وروى أبو نعيم عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال: ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله تعالى، ولا أهانت أنفسها بمثل معصية الله تعالى (¬2). وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: والله لئن تدقدقت بهم الهماليج، ووطئ الرجال أعقابهم؛ إنَّ ذل المعصية في قلوبهم، ولقد أبى الله أن يعصيضه عبدٌ إلا أذلَّه (¬3). * الفائِدَةُ الثَّامِنَةُ: إنَّ التائب ينور قلبه، ويقوي جسده لأنَّها طاعة، وهذا حكمها. قال الله تعالى حكاية عن هود عليه السلام: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]. وروى ابن أبي الدنيا في "التوبة" عن الحسن قال: إنَّ الرجل ليعمل الحسنة فتكون نوراً في قلبه، وقوةً في بدنه، وإنَّ الرجل ليعمل ¬
السيئة فتكون ظلمة في قلبه، ووهَناً في بدنه (¬1). ورواه أبو نعيم عن الحسن، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَجَدْتُ الحَسَنَةَ نوْرًا في الْقَلْبِ، وَزَيْنًا في الْوَجْهِ، وَقُوَّةً في الْعَمَلِ، وَوَجَدْتُ الخَطِيْئَةَ سَوَادًا فيْ الْقَلْبِ، وَشَيْنًا في الْوَجْهِ، وَوَهَنًا في الْعَمَلِ" (¬2). وقلت ملمحاً بالحديث: [من الرمل] أَطِعِ اللهَ وَإِنْ تَعْصِي فَتُبْ ... إِنَّ بِالتَّوْبَةِ يُمْحَى كُلُّ رَيْن طاعَةُ اللهِ تُرى فِي عَمَلٍ ... نُورُ قَلْبٍ وَلِوَجْهِ العَبْدِ زَيْنْ وَمعاصِي اللهِ وَهْنٌ وَسَوا ... دٌ لِقَلْبٍ وَهْيِ فِي الأَوْجُهِ شَيْنْ هَكَذا نَرْوِيهِ عَنْ خَيْرِ الوَرى ... أَحْمَدَ الْمَبْعُوثِ يَدْعُو الأُمَّتَيْنْ فَعَلَيْهِ صَلواتٌ دائِماً ... ما اهْتَدى النَّاسُ بِنُورِ الثَّيِّرَيْنْ ¬
قلت: ولا يرد على ذلك ما نشاهده من الظلمة وشدة بأسهم؛ فإنَّ المراد أنَّ بدن التائب والطائع يقوى بطاعةٍ لله تعالى أخرى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَقُوَّةً في الْعَمَلِ" يعني: الصالح لأنَّه المراد عند الإطلاق غالباً، والعاصي المصر يهين بدنه عن الطاعات. وأمَّا قوة بدنه في شهواته وأغراضه فإنَّ الوهن خير له منها لأنَّها ابتلاء واستدراج. وكذلك القول في حديث علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اتَّقَىْ اللهَ عَاشَ قَوِيًّا وَسَارَ في بِلاَدِهِ آمِنًا". رواه أبو نعيم (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "التوبة" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: جزاء المعصية: الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والنغص في اللذة. قيل: وما النغص في اللذة؟ قال: لا ينال شهوة حلالاً إلا جاءه ما ينغصه إياها (¬2). وقال: حدثني أحمد بن الحارث بن المبارك عن شيخ من قريش قال: كتب بعض الحكماء إلى رجل من إخوانه: أما بعد! فإنَّ العصمة ثمرة التوبة، والله ولي عصمتك، فإيَّاه فاحمد عليها يزدك من طاعته، ¬
الفائدة التاسعة
وإياك والعُجْب؛ فإنه أخوف ما أخاف عليك، والمعجب كالممتنِّ على الله تعالى، فالله أولى بالمنَّة فيه (¬1). وأمَّا سواد القلب وظلمته، وشين الوجه وتشوهه بسبب المعصية فذلك مما لا يشهده من الناس في وجوه أهل المعصية إلا الخواصُّ من المؤمنين الذين ينظرون بنور الله تعالى، ووظيفة عوام المسلمين في ذلك التصديق بما جاء في الحديث مما يدل عليه والإيمان به؛ فإنَّ الإيمان به يجلو بصر العبد وبصيرته حتى يرى ذلك عياناً. وأما الزين والنضرة في وجوه أهل الطاعة؛ فإنَّ عوام الناس يشاهدون ذلك غالباً إمَّا زيادة في إيمانهم بحال ذلك الطائع، وإمَّا ليؤيد ذلك الطائع عندهم ويُصان عن ابتذالهم. وزين وجوه أهل الطاعة أكثر ما يخفى على الحاسدين. ومن هنا يرى الناس العالم العامل مَهيباً كاملاً يتبركون به، ويأخذون عنه، ويراه قِرْنه في العلم نازلاً عن ذلك، وليس على العلماء شيء أشد ضرراً من الحسد ورؤية الكمال لأنفسهم، والنقص لغيرهم. * الفائِدَةُ التَّاسِعَةُ: رقة قلب التائب، وحياؤه وتوقعه لرحمة الله تعالى، وقبول التوبة منه. ¬
روى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: جالسوا التوابين؛ فإنهم أرق شيءِ أفئدة (¬1). وروى ابن أبي الدنيا عن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: داروا الذنوب بالتوبة، ولرُبَّ تائب دعته التوبة إلى الجنة حتى أوفدته عليها. وقال: قلب المؤمن التائب بمنزلة الزجاجة يُؤثِّر فيها جميع ما أصابها، فالموعظة إلى قلوبهم سريعة وهم إلى الرقة أقرب. وقال: جالسوا التوابين؛ فإنَّ الرحمة إلى قلوبهم أقرب (¬2). قلت: وقد يستدل لذلك بقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]؛ فإنَّ التائب محسن. وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن واسع رحمه الله تعالى قال: الذنب على الذنب يميت القلب (¬3). وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى كما رواه ابن أبي الدنيا: [من المتقارب] ¬
الفائدة العاشرة
رُكوبُ الذُّنوبِ يُمِيتُ القُلُوبَ ... ويوْرِثُها الذُّلَّ إِدْمانُها وَتَرْكُ الذُّنوبِ حَياةُ القُلُوبِ ... وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيانُها (¬1) وروى ابن أبي الدنيا عن عقبة بن الوليد، عن مسروق بن سفيان قال: أوحى الله إلى موسى عليه السلام: إنَّ أول من مات إبليس، وذلك أنَّه أول من عصاني، وإنَّما أعد من عصاني من الموتى (¬2). قلت: وأول من حيى بالتوبة آدم عليه السلام. * الفائِدَةُ العاشِرَةُ: إنَّ التائب يأمن بتوبته من شر النوائب، ويعطِفُ الله عليه قلوبَ الملوك والجبابرة. روى ابن أبي الدنيا، والأصبهاني عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: قرأت في الحكمة: إنَّ الله تعالى يقول: أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي؛ فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك، ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم (¬3). وقال الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ¬
الفائدة الحادية عشرة
لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [يونس: 98]. روى المفسرون؛ ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أنَّ قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل، فلما فقدوا نبيهم؛ أي: حين دعاهم إلى الإيمان فلم يجيبوه، وتوعَّدهم بالعذاب بعد ثلاث، وذهب عنهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، فلبسوا المُسوح، وأخرجوا المواشي، وفرَّقوا بين كل بهيمة وولدها، فعجُّوا إلى الله أربعين صباحاً، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف عنهم العذاب بعد ما تدلَّى عليهم حتى لم يكن بينهم وبينه ميل (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن علي - رضي الله عنه - قال: تيبَ على قوم يونس يوم عاشوراء (¬2). * الفائِدَةُ الْحادِيَةَ عَشْرَةَ: التوسعة في الرزق، وحسن المعيشة. قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 1 - 3]. ¬
قوله: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا}؛ يعني: في الدنيا بتوسعة الرزق، ونعمته من غير تكدير ولا سوء، بخلاف المصرين الذين لم يستغفروا, ولم يتوبوا إليه؛ فإنهم -وإن مُتِّعُوا في الدنيا- فإنَّ متاعهم مكدر حالًا أو مآلاً؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126]؟ وفي الحديث: "مَنْ أكثَرَ مِنْ الاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيْقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ" (¬1). وقال تعالى حكايته عن نوح عليه السلام: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12]. وقوله تعالي: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [هود: 3]؛ يعني: الموت. وهذه غاية تدل على أن المتقلِّب في الدنيا بين التوبة والاستغفار لا ينكب في دنياه ونعمته حتى يستوفي أجله؛ وان حصل له في أثناء ذلك محنة فإنما هي لتمام التقصير، أو للترقية في المقام لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُصب مِنْهُ" (¬2). وفي الآية دليل على أن حفظ النعمة على العبد - خصوصاً عند موته - صالحة عظيمة، ولذلك جعلها الله تعالى ثواباً للعبد على التوبة ¬
والاستغفار، ولما كان أكثر أصحاب الأموال يغفلون في نعمهم ونعيمها ورغدها عن الله تعالى وعن طاعته، وينهمكون في معاصيه لو لم يكن إلا منع الزكوات والحقوق كان من عقاب أكثرهم ابتلاؤهم بالفقر والحاجة خصوصا عند الموت، وفي أواخر العمر عند الهرم والضعف، فأعظم نعمة في الدنيا سبوغ النعمة في أواخر العمر، ولذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: "اللهُمَّ اجْعَلْ أَوْسعَ رِزْقِكَ عَلَيَّ عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي وَانْقِطَاعِ عُمُرِيْ". رواه الحاكم وصححه، من حديث عائشة رضي الله عنها (¬1). ولا يتنعم العبد بسعة رزقه إلا إذا قنع به ولم تتشوف نفسه إلى الزيادة؛ فإنه متى لم يقنع وتشوَّف إلى الزيادة انفتح عليه باب الطمع، فلا يتلذذ بما هو فيه، بل يتعذب بالتطلع إلى غيره، ومن هنا كانت القناعة كنزاً لا يَفنى، وكان القنع غنى. وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: "اللهُمَّ قَنِّعْنيْ بما رَزَقْتَنيْ، وَبَارِكْ ليْ فِيْهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ بخَيرٍ" (¬2). ¬
واعلم أنَّ العبد ما دام في نعمته ناظراً إلى أنها من الله تعالى بمحض الفضل ليس له فيها حول ولا قوة مستعيذاً بالله أن يَكِلَه بها إلى نفسه كان في أمْنٍ من زوالها. وعندي أن الأحسن أن يكون هاء الضمير في قوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]، عائدًا إلى ربكم في الآية؛ فإنَّ الثواب في نفسه فضل من الله تعالى. وإن أعدنا الضمير على كل أو ذي كان المعنى ثواب فضله، والعبد إنَّما وصفه الله تعالى بذي فضل كرمًا منه وفضلاً، وإلا فإنَّ ذلك الفضل الذي جاء به العبد من فضل الله وتوفيقه. ويرجع معنى الآية على الوجه الأول إلى معنى قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، فالعبد فيما تفضَّل الله به عليه من النعم يحتاج إلى دوام فضل الله فيه، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: "اللهُمَّ لاَ تَكِلْنيْ إِلىْ نَفْسِيْ طَرْفَةَ عَينٍ، وَلاَ تَنْزِعْ مِنِّيْ صالح مَا آتَيْتَنِيْ". رواه البزار من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬1). وروى مسلم، وأبو داود من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أيضًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيتكَ، وَفَجْأةِ نقمَتِكَ، وَجَمِيع سَخَطِكَ" (¬2). ¬
الفائدة الثانية عشرة
وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: "اللهُمَّ ارْزُقْنَا مِنْ فَضْلِكَ، وَلاَ تَحْرِمْنَا رِزْقَكَ، وَبَارِكْ لَنَا فِيْمَا رَزَقْتَنَا، وَاجْعَلْ غِنَانَا فيْ أَنْفُسِنَا، وَاجْعَلْ رَغْبَتَنَا فِيْمَا عِنْدَكَ" (¬1). وقال أكثر المفسرين في قوله تعالى: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]؛ يعني: في الآخرة (¬2). وعندي: أنه أعم من ذلك في الدنيا وفي الآخرة؛ فإن الله تعالى قد يثيبُ على الفضل، والمراد به الطاعة في الدنيا بأن يوسع رزقه عليه، ويدفع عنه الآفات والبلايا، وتوفيقه إلى طاعة أخرى، ويُصلح له أهله وولده ورفيقه ودابته إلى غير ذلك، وذلك كله من فوائد التوبة والاستغفار المأمول بهما في الآية الكريمة، فافهم. * الفائِدَةُ الثَّانِيةَ عَشْرَةَ: أنَّ التوبة ترقِّع ما خرَّقته الذنوب من الأستار. روى ابن أبي الدنيا عن أبي رافع رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِل: كم للمؤمن من ستر؟ قال: "هِيَ أكثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَىْ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا عَمِلَ خَطِيْئَة هَتَكَ مِنْهَا سِتْراً، فَإِذَا تَابَ رَجَعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ السِّتْرُ وَتسْعَةٌ مَعَهُ، وَإِذَا لَمْ ¬
يَتُبْ هُتِكَ مِنْهَا سِتْرًا وَاحِدًا حَتَّى إِذا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ قَالَ اللهُ تَعَالى لِمَنْ شَاءَ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ: إِنَّ بَنيْ آدَمَ يُعيرُوْنَ وَلاَ يُغيرُوْنَ، فَحُفُّوْهُ بِأَجْنِحَتِكُمْ، فَيَفْعَلُوْنَ بِهِ ذَلِكَ، فَإِنْ تَابَ رَجَعَتْ إِلَيْهِ تِلْكَ الأَسْتَارُ كُلُّهَا، وَإِذا لَمْ يَتُبْ عَجِبَتْ مِنْهُ الملائِكَةُ، فَيَقُوْلُ اللهُ تَعَالى: أَسْلِمُوْهُ, فَيُسْلِمُوْنهُ حَتَّى لاَ يُسْتَرُ مِنْهُ عَوْرَةٌ" (¬1). وسبق حديث جُبير بن نُفير في معناه في التشبه بالملائكة عليهم السلام. وكان ابن السماك يتمثل كما رواه ابن أبي الدنيا: [من السريع] يا مُذنِبَ الذَّنْبِ أَما تَسْتَحِي ... وَاللهُ في الْخَلْوَةِ ثانِيكا غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهالُهُ ... وَسَتْرُهُ طُولَ مَساوِيكا (¬2) وروى ابن جهضم عن أحمد بن الفتح قال: قال لي بشر -يعني: الحافي- رحمه الله تعالى: يا أحمد! إن قومًا غرَّهم ستر الله، وفتنهم حسن ثناء الناس عليهم، فلا يغلبنَّ جهل غيرك لك على علمك بنفسك، أعاذنا الله وإيّاك من الاغترار بالستر والاتكال على حسن الذكر (¬3). * فائِدَةٌ: قال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: الناس يعملون أعمالهم ¬
من تحت كَنَف الله، فإذا أراد الله تعالى بعبد فضيحة أخرجه من تحت كنفه، فبدت منه عورته (¬1). وقال أبو إدريس الخولاني رحمه الله تعالى: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَهْتِكُ اللهُ عَبْداً وَفِيْهِ مِثْقَالُ حبةٍ مِنْ خَيْرٍ" (¬2). رواهما ابن أبي الدنيا في "التوبة"، والثاني حديث مرسل. ورواه ابن أبي شيبة، وأبو نعيم من قول أبي إدريس، ولفظه: لا يَهتكُ اللهُ سِتر عبدٍ وفِيهِ مِثقَال حَبَّةٍ مِن خَيرٍ (¬3). وفي معناه ما رواه البيهقي في "سننه" عن أنس - رضي الله عنه - قال: أُتِي عمر بن الخطاب بسارق، فقال: والله ما سرقت قط قبلها. فقال له عمر: كذبت وربِّ عمر؛ ما أخذ الله عبدًا عند أول ذنب، فَقَطَعَه (¬4). قال ابن حجر في "أطرافه": رواه ابن وهب في جامعه، وهو موقوف حكمه حكم الرفع، كتبته لصحة سنده. ¬
وروي معناه عن ابن شهاب، عن أبي بكر، وهو منقطع. وروى ابن جهضم عن معروف الكرخي رحمه الله تعالى قال: يقول الله تعالى في بعض الكتب: ابن آدم! ما أجسرك! تسألني فأمنعك لعلمي بما يصلحك، ثم تلح عليَّ في المسألة، فأجود برحمتي وكرمي عليك، فأعطيك ما سألتني، فتستعين بما أعطيك على معصيتي، فأهم بهتك سترك، فتسألني فأستر عليك، ثم تعاود المعصية فأستر عليك، فكم من جميل أصنعه بك، وكم من قبيح تعمله معي، يوشك أن أغضب عليك غضبة لا أرضى بعدها أبدًا. وقال ابن مفلح الحنبلي في "آدابه": هل يفضح الله عاصيًا بأول مرَّة أم بعد التكرار؟ قولان للعلماء. والثاني: مروي عن عمر، وغيره من الصحابة. واختار ابن عقيل في "الفنون" الأول، واعترض على من قال بالثاني: ترى آدم عليه السلام كان عصى قبل أكل الشجرة بماذا؟ فسكت، انتهى (¬1). وهذا الاعتراض غير وارد؛ لأنَّ معصية آدم كانت من باب اللَّمم والزلة، لا على سبيل القصد لمخالفة أمر الله تعالى، فلم يكن ذنبا يقتضي العقوبة والفضيحة. ¬
وأيضًا فإنَّ إهباط آدم عليه السلام من الجنة لم يكن من باب رفع الستر عنه والعقوبة له، بل من باب التأديب والتكميل، ومثل ذلك إذا كان في أول مرة من الذنب كان أمنع للعبد من الذنب، وأنفع له من الانتهاك، وعادة الله تعالى كثيرًا ما تجري بالستر مراراً على العاصي الذي يراد إمهاله، ثم أَخْذُه آخِرًا لإقامة الحجة عليه والإعذار فيه كما أمهل الله تعالى فرعون وغيرَه، ثم أخذهم، أو على الذي جرى عليه في القضاء والقدر أمور من المعاصي لا بد له من استيفائها، ثم يعود الله عليه بالتوبة، أو يُجْرِي عليه العقوبة في الذنب تمحيصاً وتكفيراً كما في قصة السارق الذي قطعه عمر رضي الله تعالى عنه. * فائِدَةٌ أُخْرَى: من أراد أن يستر الله تعالى عليه فليستتر إذا ابتلي بالمعصية، وليستر على أخيه المؤمن ما عسى أن يطلع عليه من عورته؛ فإنَّ ذلك من مقتضيات الستر من الله، كما أنَّ الامتهان بالذنب، وفضيحة المسلمين من مقتضيات فضيحة العبد العاصي. روى مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم: أنَّ رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوط؛ وذكر الحديث، وفيه: ثم قال: "أيها النَّاسُ! قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوْا عَنْ حُدُوْدِ اللهِ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ القَاذُوْرَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَبْدَىْ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ" (¬1). ¬
وروى الحاكم وصححه، والبيهقي في "السنن" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجْتَنِبُوْا هَذِهِ القَاذُوْرَاتِ الَّتيْ نهَىْ اللهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلمَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ وَلْيتبْ إِلى اللهِ، فَإِنَّهُ مِنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ الله" (¬1). وروى الإِمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن العلاء بن بدر قال: لا يُعذِّبُ الله قومًا وهم يستترون بالذنوب (¬2). وروى مسلم، وأبو داود، والترمذي -واللفظ له - والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَىْ مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا في الدُّنْيَا سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ فيْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فيْ عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فيْ عَوْنِ أَخِيْهِ" (¬3). وروى الإِمام أحمد، وأبو داود عن أبي برزة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلمْ يَدْخُلِ الإيمَانُ ¬
الفائدة الثالثة عشرة
قَلْبَهُ! لاَ تَغْتَابُوْا المُسْلِمِيْنَ، وَلاَ تَتَّبِعُوْا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَةَ أَخِيْهِ المُسْلِمِ تتَبعَ اللهُ عَوْرتَهُ، وَمَنْ تتَبعَ اللهُ عَوْرتهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فيْ جَوْفِ بَيْتِهِ" (¬1). * الفائِدَةُ الثالِثة عَشْرَةَ: من فوائد التوبة أنَّ حملة العرش والطائفين به -وهم الكروبيون عليهم السلام - يدعون للتائبين، ويستغفرون لهم. قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7 - 9]. * الفائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أنَّ التائب يُبدل الله سيئاته حسنات. قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]. وهل هذا التبديل في الدنيا أو في الآخرة؟ قولان. ¬
قال بالأول: قتادة، والحسن. وبالثاني: مكحول، وعلي بن الحسن. روى ذلك عنهم عبد بن حميد (¬1). والثاني أوفق للحديث الصحيح، ولا مانع أن يحصل التبديل لبعض الناس في الدنيا، وفي الآخرة جميعًا. وروى الإِمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وغيرهم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُؤْتَىْ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: اعْرِضُوْا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوْبِهِ، فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُهَا وَيُنَحَّى كِبَارُهَا، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذا كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ يُقِرُّ لَيْسَ يُنْكِرُ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنَ الْكبَارِ أَنْ تَجِيْءَ، فَيُقَالُ: أَعْطُوْهُ مَكَانَ كُلِّ سَيئةٍ عَمِلَهَا حَسَنَةً، فَيَقُوْلُ: إِنَّ ليْ ذُنُوْبًا لاَ أَرَاهَا هُنَا". قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجده (¬2). يعني: تعجبًا من إشفاق هذا أولًا من كبار ذنوبه أن تذكر له، ثم صار بعد ذلك يذكرها طمعًا في تبديلها حسنات كالصغائر. وقد يُفهم من الحديث أن الكبائر لا تُبدَّل حسنات. والآية تدل على أنها تُبدل لأنها جاءت بعد ذكر عظائم السيئات ¬
من الشرك، والقتل، والزنا. والألف والسلام في (الرجل) في الحديث للعهد؛ أي: للرجل المؤمن التائب العامل الصالحات، وهو المعهود في الآية الكريمة. وروى عبد بن حميد، وابن المنذر عن أبي عثمان النهدي رحمه الله تعالى قال: إنَّ المؤمن يُعطى كتابه في ستر من الله فيقرأ سيئاته، فإذا رآها تغير لها لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها، فيرجع إليه لونه، ثم ينظر فإذا سيئاته قد بُدّلت حسنات، فعند ذلك يقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] (¬1). وروى البزار، والطبراني -واللفظ له - قال المنذري: وإسناده جيد قوي -قلت: وله شواهد - عن أبي طَويل شَطَبٍ الممدودِ رضي الله تعالى عنه: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجَّة إلا أتاها، فهل له من توبة؟ قال: "فَهَلْ أَسْلَمْتَ؟ ". قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنَّك رسول الله. قال: "تَفْعَلُ الخَيرَاتِ وَتَتْرُكَ السيئاتِ، فَيَجْعَلُهُنَّ اللهُ لَكَ خَيرَاتٍ كُلهُنَّ". قال: وغدراتي، وفجراتي؟ ¬
قال: "نعَمْ". قال: الله أكبر، فما زال يُكبر حتى توارى (¬1). وشطب -بالفتح- قد ذكره غير واحد في الصحابة، إلَّا أن البغوي ذكر في "معجمه": أن الصواب عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير -مُرسلاً-: أنَّ رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - شطبًا، فقال الحديث. والشطب في اللغة: الممدود، فصحفه بعض الرواة، فظنه اسم رجل (¬2). وقوله: لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها؛ فالداجة فيه من الدَّج، وهو الإسراع والدبيب في السير. قال ابن السكيت: ولا يقال: يدجون حتى يكونوا جماعة، ولا يقال ذلك للواحد، وهم الداجة، والدج. قال: الداج، والداج: الأعوان والمُكَارون (¬3). وفي الحديث: "هَؤُلاءِ الداجُّ، وَلَيْسُوا بِالْحاجِّ"، [وأمَّا الحديث: "ما تركتُ من حاجَةٍ ولا داجَةٍ إلا أَتيْتُ"] (¬4) فكان حق الداجة في الحديث ¬
الفائدة الخامسة عشرة
أن يكون مشددًا إلا أنه خُفِّف إتباعاً لحاجة، كما ذكره الجوهري في "الصحاح" (¬1). وقال في "القاموس" في مادة: دوج: داج دوجاً: خدم، والداجة: تباع العسكر، وما صغر من الحوائج، واتباع للحاجة، انتهى (¬2). ومعنى الحديث أنه لم يترك كثيرًا ولا قليلاً، ولا كبيرًا ولا صغيراً إلا عمله، وتلبَّس به. والحديث دال على أنَّ التبديل يقع في كبائر الذنوب وصغائرها؛ ألا ترى إلى قوله: "فَيَجْعَلُهُنَّ اللهُ لَكَ خَيرَاتٍ كُلهُنَّ". * الفائِدَةُ الْخامِسَةَ عَشْرَةَ: قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. والفلاح: دخول الجنة. وروى ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى، والطبراني بإسناد جيد، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيةُ أَبْوَابٍ: سَبْعَةٌ مُغْلَقَةٌ، وَبَابٌ مَفْتُوْحٌ لِلْتَّوْبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا مِنْ نَحْوه" (¬3)؛ أي: من جهة ذلك الباب. ¬
وروى العسكري في "المواعظ" عن الحسن -مرسلاً- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ". قالوا: يا نبي الله! كيف يدخله الجنة؟ قال: "يَكُوْنُ نُصْبَ عَينيه تَائِبًا مِنْهُ مُسْتَغْفِرًا حَتىَّ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ" (¬1). في الحديث أنَّ دخول الجنة سبب التوبة، والتوبة إنما تكون من بعد الذنب. وفي المثل: لا توبة إلا من بعد معصية، فهو سببها. والذنب يتسبب عنه أمران: التوبة: وهي من أبواب السعادة. والإصرار: وهو من أبواب الشقاوة. والتوبة طريق آدم عليه السلام، والإصرار طريق الشيطان. ومما يناسب ما تقرَّر أن الذنب قد يكون سببًا لدخول الجنة، وللسعادة والخير: ما رواه أبو نعيم عن سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى أنَّه قال: لا يذنب المؤمن ذنباً حتى يكتسب معه خمسين حسنة. فقيل له: يا أبا محمَّد! وكيف هذا؟ ¬
قال: نعم يا دوست! إنَّ المؤمن لا يكتسب سيئة إلا وهو يخاف العقوبة عليها, ولو لم يكن هكذا لم يكن مؤمنًا. قال: وخوف العقاب عليها حسنة، ويرجو غفران الله لها، ورجاؤه لغفرانه حسنة، وهو يرى التوبة منها, ولو لم يرها لم يكن مؤمناً، ورؤية التوبة منها حسنة، ويكره الدلالة عليها, ولو لم يكره الدلالة عليها لم يكن مؤمنًا، وكراهية الدلالة عليها حسنة. - كأنَّه أراد بالدلالة اطلاع الناس عليه وهو مقيم على الذنب، أو أن يدل عليه وهو كذلك -. قال: ويكره الموت عليها, ولو لم يكره الموت عليها لم يكن مؤمناً، وكراهية الموت عليها حسنة. وهذه خمس حسنات، وهي بخمسين حسنة؛ الحسنة بعشر أمثالها. قال: فهذه خمسون حسنة؛ فما ظنكُم بسيئة يعتورها خمسون حسنة، ويحيط بها، والله يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]؟ وما ظنكم بثعلب بين خمسين كلباً، أليس يمزقونه؟ ثم بكى سهل، وقال: لا تحدثوا بهذا الجهال من الناس يتكلوا ويغتروا؛ فإنَّ هذه السيئة هي شيء عليه، وحسناته هي أشياء له، وما عليه فلله أن يأخذه به ويكون عادلاً بعقوبته عليه، وما له لا يظلمه الله عز وجل إيَّاه،
بل يوفيه ثوابه ولو بعد حين، ومن يصبر على نار جهنم ساعة واحدة؟ ولكن بادروا بالتوبة من هذه السيئة حتى تأمَنُوا العقوبة عليها، وتصيروا أحبَّاء الله؛ فإنَّ الله يحبُّ التوابين (¬1). قلت: وهذه المعرفة التي أُلهمها سهل - رضي الله عنه - منتزعها من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنتهُ وَسَاءَتْهُ سَيئتهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ". أخرجه الطبراني في "الكبير" من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه (¬2). بل أبلغ من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: "اللهُمَّ اجْعَلْنيْ مِن الَّذِيْنَ إِذَا أَحْسَنُوْا اسْتَبْشَرُوْا، وإذَا أَسَاؤُوْا اسْتَغْفَرُوْا". رواه الإِمام أحمد، وابن ماجه، والبيهقي في "الشعب" (¬3). وذلك أنَّ الاستبشار بالحسنة، والاستغفار من المعصية مبنيٌّ على الرَّجاء من الله تعالى، وهو من نتائج الإيمان به وبقدرته، وجوده وسعة رحمته، بل والاستغفار قد يكون مستخْرَجًا بالخوف من الله تعالى، وهو من نتائج الإيمان, وقد أشار إلى ذلك الحديث المتقدم الذي يقول الله تعالى فيه: "إِذا أَذْنبَ الْعَبْدُ ذَنْبًا فَقَالَ: يَا رَبِّ! عَمِلْتُ ¬
ذَنْبًا فَاغْفِرْ ليْ، أَذْنَبَ عَبْدِيْ ذَنْبًا فَعَلِمَ عَبْدِيْ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذّنْبَ وَيأخُذُ بِهِ" (¬1). وهذا الذي جمعته هنا من فوائد التوبة مما أنعم الله عليَّ به من الاستنباط، ولم أره مجموعًا لغيري، وأرجو من كرم الله تعالى أن لا يحرمني التوبة ولا فوائدها بفضله وكرمه؛ إن الله على كل شيء قدير. وقلت: [من الرجز] نالَ العُبُودِيَّةَ بِالتوْبَةِ مَنْ ... قَدْ تابَ وَحَبَّ الله وَالغُفْرانا (¬2) وَرَحْمَةَ اللهِ وَإِنَّ اللهَ يُنـ ... ـسِي ذَنْبَهُ الْحُفَّاظَ وَالْمَكانا وَالعِزَّ وَالقُوةَ وَالنُّورَ وَأَنْ ... يَرِق قَلْبُهُ الَّذِي اسْتكانا وَالأَمْنَ مِنْ نَوائِبِ الدَّهْرِ وَأَنْ ... يُوَسَّعَ الرزْقَ لَهُ إِحْسانًا وَيرْقَعَ ما خَرَّقَهُ الذنْبُ مِنَ الـ ... أَسْتارِ حَيْثُ اكْتَسَبَ العِصْيانا وَأَنَّ أَمْلاكَ الإِلَهِ تَسْأَلُ الـ ... ـلَهُ كُفْرانَ ما قَدْ كانا وَأَنَّ سيِّئاتِهِ يُبْدِلُها الـ ... ـلهُ وَأَنْ يُدْخِلَهُ الْجِنانا وَأَنَّ رَبَّ العالَمِينَ يَمْنَحُ الـ ... ـتَّائِبَ مِنْ أَفْضالِهِ الرِّضْوانا فَتُبْ إِلَيْهِ إنَّهُ الرَّحْمَنُ ما ... خابَ الذِي [قد] قَصَدَ الرَّحْمانا واعلم أن التوبة فرض واجب من كل ذنب فعله المكلف، أو ¬
عزم عليه كبيرًا كان أو صغيراً. وقيل: لا تجب عن الصغائر لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. وقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. ولحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: "الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ مُكَفِّرَات لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ". رواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي (¬1). فلو لم يتب عن الصغيرة، بل اجتنبَ الكبائرَ كُفِّرت الصغيرة، فلا يخاطب بعد ذلك بوجوب التوبة قطعًا. ومهما وجبت التوبة فوجوبها على الفور؛ فإنها كما قال الغزالي: جزء من الإيمان, والإيمان واجب على الفور (¬2). وأيضًا فإنَّ ترك التوبة إصرار على الذنب، وقد مدح الله المؤمنين بعدم الإصرار، فقال: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]. وروى اللالكائي، وغيره عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويل لِلَّذِيْنَ يُصِرُّوْنَ عَلَىْ مَا فَعَلُوْا ¬
وَهُمْ يَعْلَمُوْنَ" (¬1). وأيضًا فإنَّ الله تعالى يقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133]. وليس للمؤمن طريق إلى المغفرة من حيث كسبه الذي يمكن تكليفه به إلا التوبة، فيجب عليه المسارعة بها. وأيضًا فإنَّ الله تعالى لما خاطب جميع المؤمنين بالتوبة في قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] لم يوقِّت التوبة كما وقَّت الصلاة والصَّوم والصدقة، فوجب عليهم أن يُبادروا إلى امتثال أمره بالتوبة عقب كل ذنب لأنَّها طاعة لم توقَّت، وأمكن فعلها في الوقت، فتعيَّن صرفه لها. قلت: والظاهر أنَّ فورية وجوب التوبة شريعة قديمة من عهد آدم عليه السلام، ألا ترى إلى قوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 36، 37]؛ أي: فتاب بتلك الكلمات، فتاب الله عليه؟ أتى بالفاء التعقيبية عقب الزلة، فدل على أن آدم عليه السلام بادر بالتوبة. وأمَّا قوله تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] فهذا ¬
التراخي -إن سلم أنَّ ثمَّ للتراخي والترتيب - ليس بين توبة آدم وزلته، وإنما هو بين زلته وبين ظهور اجتباء الله له وتوبته عليه؛ فإنَّ آدم لما أُهبط إلى الأرض، وبادر إلى التوبة بكى زماناً طويلاً كما في الأثر حتى أوحى الله إليه بقبول توبته. ويحتمل أنَّ ثم ترتيب الإخبار بالتوبة عليه، والاجتباء والهداية بعد الإخبار بالزلة، وعليه فلا يدل ذلك على تراخي التوبة عن الزلة؛ إذ لا يتحقق التراخي إلا بعد تحقق الترتيب. وروى ابن أبي الدنيا، وعبد الله ابن الإِمام أحمد، واللالكائي عن عثمان بن زائدة رحمه الله تعالى قال: قال لقمان عليه السلام لابنه: يا بني! لا تؤخر التوبة؛ فإنَّ الموت قد يأتي بغتة (¬1). ومن عجيب الاتفاق أنَّ من شعر البخاري أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل صاحب "الصحيح" رضي الله تعالى عنه كما رواه ابن حجر في ترجمته، وغيره: [من الخفيف] اغْتَنِمْ في الفَراغ فَضْلَ رُكُوعٍ ... فَعَسى أَنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْتَةْ كَمْ صَحِيحٍ رَأَيْتَ غَيْرَ سَقِيمٍ ... ذهبَتْ نَفْسُهُ الصَّحِيحَةُ فَلْتةْ (¬2) وكذلك كان موته بغتة، وذهبت روحه الكريمة فلتة، فقد قال ¬
ورَّاقه محمَّد بن أبي حاتم: سمعت أبا منصور غالب بن جبريل -وهو الذي نزل عليه أبو عبد الله البخاري بِخَرْتَنك- يقول: إنَّ البخاري أقام أياماً، واشتدَّ به المرض حتى وجَّه إليه رسول من سمرقند ليخرج كأنه إليهم، فلما وافى تهيَّأ للركوب، ولبس خُفه وتعمَّم، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها وأنا آخذ بعضده ورجل آخر معي يقوده إلى الدَّابة ليركبها، فقال رحمه الله تعالى: أرسلوني فقد ضعفت، فدعا بدعوات، ثم اضطجع فقضى. وخرتنك -بفتح الخاء المعجمة، وإسكان الراء، وفتح التاء المثناة من فوق، وإسكان النون، وبعدها كاف كما ضبطه ابن حجر-: قرية من قرى سمرقند مات بها البخاري رحمه الله تعالى ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومئتين عن إحدى وستين سنة - رضي الله عنه - (¬1). وفي كلام لقمان المتقدم آنفًا إشارة إلى أنَّ من البواعث على التوبة التحقق بالموت، وأنه لا بُدَّ منه، وأنه قد يبغت العبد، وهذا أمر مشاهد في غيرك متواتر رؤية وسمعًا. وكان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يتمثل كما رواه ابن أبي شيبة، وغيره: [من مجزوء الكامل المرفل] تنفَكُّ تَسْمَعُ ما حَيِيـ ... ـتَ بهالكِ حَتَّى تَكُونَهْ ¬
وَالْمَرْءُ قَدْ يَرْجُو الرَّجاءَ ... وَالْمَوْتُ دُونَهُ (¬1) والعاقل إذا طالع هذه الحقيقة لم يتأخر عن التوبة طرفة عين. وروى ابن ماجه في كتاب الزهد من "سننه" بإسناد حسن، عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: كُنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فجلس على شفير القبر يبكي حتى بلَّ الثرى، ثمَّ قال: "يَا إِخْوَانيْ! لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوْا" (¬2). أي: لمثل هذا المصرع فأعدوا؛ أي: تأهَّبوا وخذوا له عُدَّة، وهي ما يُعدَّ للحوادث. وروى الخطيب عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: وجدت جمجمة في الجاهلية مكتوب عليها: [من مجزوء الخفيف] أُذْنَ حَيٍّ تَسَمَّعِي ... اسْمَعِي ثُمَّ عِي وَعِي أَنا رَهِينٌ بِمَصْرَعِي ... فَاحْذَرِي مِثْلَ مَصْرَعِي (¬3) وروى العسكري في "المواعظ" عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد قال: حدثني شيخ لنا قال: مررت بقبر فإذا على جانبه: أُذْنَ حَيٍّ تَسَمَّعِي ... البيتين. ¬
وبعدها عِشْتُ تِسْعِينَ حَجَّةً ... أَسْلَمَتْنِي لِمَضْجَعِي كَمْ تَرى الْحَيَّ ثابِتاً ... في دِيارِ التَّزَعْزُعِ لَيْسَ زادٌ سِوى التُّقى ... فَخُذِي مِنْهُ أَوْ دَعِي قال: ثم درت من الجانب الآخر فإذا عليه: [من الوافر] إِذا ما كُنْتَ مُتَّخِذاً وَصِيًّا ... فَكُنْ فِيما مَلَكْتَ وَصِيَّ نَفْسِكْ سَتَحْصُدُ ما زَرَعْتَ غَدًا وَتَجْنِي ... إِذا وضعَ الْحِسابُ ثِمارَ غَرْسِك قال: فسألت عن القبر، فقيل لي: قبر أبي العتاهية (¬1). فمن أعظم المعونات على التوبة: قصر الأمل، وتوقع الأجل، والاستعداد للموت قبل حصول الفوت. ¬
وروى ابن جهضم عن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى قال: الذي جبب الناس عن التوبة: طول الأمل. قال: وعلامة التائب إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس عند كل همة (¬1). وروى الدينوري في "المجالسة" عن الحسن في قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] قال: هو التوبة (¬2). وأخرجه البيهقي في "الشعب" عن السدي (¬3). وقلت: [من مجزوء الرمل] يا ضَعِيفَ الرَّأْيِ لا يَصْـ ... ـلُحُ شَيْءٌ مِنْ مَماتِكْ ضاعَتِ الأَوْقاتُ مِنْ عُمْـ ... ـركَ في فَرْطِ سِناتِكْ لَوْ عَلِمْتَ العِلْمَ لاسْتَوْ ... حَشْتَ مِنْ قُبْحِ صِفاتِكْ تَسْحَبُ الأَذْيالَ في زَيِّ ... أَخِي كِبْرٍ وَفاتِكْ ما الَّذي أَعْدَدْتَهُ يُجْـ ... ـديكَ مِنْ بَعْدِ وَفاتِكْ كَمْ إِلَى كَمْ تَلْتَهِي في ... ما أَرى مِنْ تُرَّهاتِكْ تُبْ إِلَى رَبِّكَ يا مِسْـ ... ـكِينُ مِنْ قَبْلِ مَماتِكْ ¬
لَيْسَ كَالتَّوْبَةِ وَالإِحْـ ... ـسانِ في تَطْهِيرِ ذاتِكْ إِنَّها أَحْسَنُ ما قَدَّ ... مْتَ يَوماً لِحَياتِكْ ولمحت بالبيت الأخير إلى قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 23، 24]. روى ابن أبي حاتم عن الضحاك رحمه الله تعالى في قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ}؛ قال: يريد التوبة، يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}؛ عملت في الدنيا لحياتي في الآخرة (¬1). ولنا في التسويف: [من مجزوء الرمل] لا تَقُلْ سَوْفَ أتوبُ ... فَعَسى خَطْبٌ يَنُوبُ إِنَّ تَسْوِيفَكَ هَذا ... يا أَخِي إِثْمٌ وَحُوبُ *** ¬
فصل
فَصْلٌ ثمَّ الأصح أن نقض التوبة لا يبطلها بأن يتوب عن ذنب توبة عزم وإقلاع، ثم يعاود الذنب بعينه، بل معاودته ذنب آخر يحتاج إلى توبة أخرى. وقال بعضهم: تبطل التوبة السابقة، إذا عاود الذنب. ورُدَّ بأنَّ التوبة عبادة، وإذا وقع بعد العبادة ما يوجب الإتيان بمثلها لم يكن ذلك مبطلاً لها, ولا حجَّة له فيما رواه الطبراني بإسناد حسن، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحْسَنَ فِيْمَا بَقِيَ غُفِرَ لَهُ مَا مَضَىْ، وَمَنْ أَسَاءَ فِيْمَا بَقِيَ أُخِذَ بِمَا مَضَىْ وَمَا بَقِيَ" (¬1)؛ إذ يمكن حمله على ما لو لم يتب مما مضى؛ فإنَّ التوبة إحسان، وقد قال في الحديث المذكور: "مَنْ أَحْسَنَ فِيْمَا بَقِيَ غُفِرَ لَهُ مَا مَضَىْ". فقوله: "وَمَنْ أَسَاءَ فِيْمَا بَقِيَ أُخِذَ بِمَا مَضَىْ"؛ أي: من الذنب ¬
الذي لم يغفر بإحسان. ثم التوبة مقبولة لله تعالى كما قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] ما لم يغرغر العاصي بالروح بأن تبلغ حلقومه كالشيء الذي يتغرغر به، أو تأتي بعض آيات الله تعالى الكبرى المُنذرة بقيام الساعة على أثرها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لم يُغَرْغِرْ". رواه الإِمام أحمد، وابن ماجه، [والترمذي] وحسَّنه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬1). وقال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17، 18]. والحديث تفسير لهذه الآية. ¬
وروى ابن أبي شيبة عن أبي قلابة رحمه الله تعالى قال: إنَّ الله تعالى لمَّا لعن إبليس سأله النَّظِرة، فأنظره إلى يوم الدين. فقال: وعزتك لا أخرج من جوف أو قلب بن آدم ما دام فيه الروح. قال: وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح (¬1). وحدَّث به أبو قلابة بحضرة أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وأقرَّه عليه كما رواه ابن جرير، والبيهقي في "الشعب" (¬2). وقال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]. والمراد بالآيات آيات الساعة الكبيرة المذكورة في حديث حذيفة بن أسيد رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غرفة ونحن أسفل منه قال: فاطَّلع علينا، فقال: "ما تَذْكُرونَ؟ ". قلنا: الساعة. قال: "السَّاعَةُ لاَ تَقُوْمُ حَتَّى يَكُوْنَ عَشْرُ آيَاتٍ؛ الدُّخَانُ، وَالدَّجَّالُ، وَالدَّابَّةُ، وَطُلُوْعُ الشَّمْس مِنْ مَغْرِبِهَا، وَثَلاَثَةُ خُسُوْفٍ؛ خَسْفٌ بِالمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيْرَةِ الْعَرَبِ، وَنزوْلُ عِيْسَىْ، وَفَتْحُ يَأْجُوْجَ وَمَأْجُوْجَ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ تَسُوْقُ النَّاسَ إِلىْ ¬
الْمَحْشَرِ تَبِيْتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوْا وَتُقِيْلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوْا". رواه الإِمام أحمد، وابن أبي شيبة، ومسلم، والأربعة (¬1). وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاَثٌ إِذَا خَرَجْنَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]: طُلُوْعُ الشَّمسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجالُ، وَدَابَّةُ الأَرْضِ" (¬2). وروى الإِمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً لم أنسه بعد، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ أَوَّلَ الآيَاتِ خُرُوْجًا طُلُوْعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوْجُ الدَّابَّةِ عَلَىْ النَّاسِ، وَأيَّتُهُمَا كَانَتْ قَبْلُ صَاحَبَتْهَا، فَالآخِرَةُ عَلَىْ أثرِهَا تَقْرِيْبًا" (¬3). قلت: وهذا الحديث يدل على أن طلوع الشمس من مغربها والدابة يكونان قبل الخسوفات الثلاثة المذكورة في حديث حذيفة بن أسيد؛ إذ الألف واللام للعهد؛ أي: أول الآيات المعهودة، وهي العشرة. ¬
فما ذكره ابن الجوزي، وأقره عليه القرطبي من أن بعض الخسوفات وقعت بعراق العجم والمغرب حتى هلك بسببها خلق لا يتطابق مع هذا الحديث (¬1). والذي أقول: إنَّ الخسوفات المذكورة في الحديث خسوفات أخرى مهولة تقع بعد طلوع الشمس من المغرب وخروج الدابة، وهي أبلغ وأعظم من الخسوفات التي أشار إليها ابن الجوزي. وقد نظمت الآيات العشر التي في حديث حذيفة قديماً فقلت: [من الرمل] عَشْرُ آياتٍ إِذا ما اسْتُوْفيَتْ ... لَمْ يَكُنْ إِيْمانُ نَفْسٍ يَنْفَعُ لا وَلا تَوْبَتُها مَقْبولَةٌ ... وَبِها حَبْلُ الرَّجا يَنْقَطِعُ فَدُخانٌ دابَّةٌ خَسْفٌ لَدى الـ ... ـشَّرقِ وَالغَرْبِ جَمِيعاً مُفْظِعُ ثُمَّ خَسْفٌ بِالْحِجازِ وَكَذا الـ ... ـشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها إِذْ تَطْلُعُ ثُمَّ دَجَّالٌ وَعِيسى ثُمَّ يَأْ ... جوجُ مَأْجُوجٍ وَسَدٌّ يُصْدَع ثُمَّ نارٌ خَرَجَتْ مِنْ عَدَنٍ ... تُلْجِئُ النَّاسَ وَلا تَرْتَفِعُ ساقَتِ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ ... فَيُدانوا بِالَّذِي قَدْ صَنَعُوا هَذه الآياتُ إِنْ تَخْرُجْ فَلا ... يَنْفَعُ الإِيْمانُ مِمَّنْ يُقْلِعُ فَاعْجَلُوا بِالْخَيْرِ مِنْ قَبْلِ النَّوى ... وَأَنِيبُوا قَبْلَ هَذا وَارْجِعُوا ¬
واعلم أنَّ بعض الآيات المذكورة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] الآية هو طلوع الشمس من مغربها بعينه كما روى الإِمام أحمد، والترمذي، وأبو يعلى عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، والطبراني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] "طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِها" (¬1). وروى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والطبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} قال: طلوع الشمس والقمر من مغربهما مقترنين كالبعيرين القرينين، ثم قرأ: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9] (¬2). وروى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، [والحاكم] وصححه، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: مضت الآيات غير أربعة: الدجال، والدابة، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها. قال: والآية التي يختم الله تعالى بها الأعمال: طلوع الشمس من ¬
مغربها، ثم قرأ: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، فقال: هو طلوع الشمس من مغربها (¬1). ولذلك اقتصر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى السابق: "إِنَّ اللهَ لَيَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيتُوْبَ مُسِيْءُ النَّهَارِ وَيبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيتُوْبَ مُسِيْءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" (¬2). وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبَهَا تَابَ اللهُ عَلَيْهِ" (¬3). وروى الترمذي وصححه، والدارمي، والدارقطني، والبيهقي -واللفظ له- عن زر بن حبيش عن صفوان بن عَسَّال رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مِنْ قِبَلِ المَغْرِبِ لَبَابًا مَسِيْرَةَ عَرْضِهِ أَرْبَعُوْنَ عَامًا، أَوْ سَبْعُوْنَ سَنَةً فتحَهُ اللهُ تَعَالى لِلتَّوْبَةِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فَلاَ يُغْلِقُهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ" (¬4). ¬
وفي رواية للترمذي -وقال: صحيح-: قال زر: فما برح يحدثني حتى حدّثني أن الله جعل بالمغرب بابًا عرضه مسيرة سبعين عامًا للتوبة لا يُغلق ما لم تطلع الشمس من قبله؛ وذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] الآية (¬1). وروى الإِمام أحمد، وأبو داود، والنسائي عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التوْبَةُ، وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغرِبِهَا" (¬2). وروى الإِمام أحمد، والبيهقي في "شعب، الإيمان" عن عبد الرحمن -يعني: ابن عوف - ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الهِجْرَةُ خَصْلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنْ تَهْجُرَ السَّيئَاتِ، وَالثَّانِيَةَ أَنْ تُهَاجِرَ إِلَىْ اللهِ وَرَسُوْلهِ، وَلاَ تنقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإذَا طَلَعَتْ طُبعَ عَلَىْ كُل قَلْبٍ بِمَا فِيْهِ وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَلَ" (¬3). وذكر القرطبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إذا ¬
طلعت الشمس من مغربها لا يُقبل من كافر إيمانه ولا توبته ولا عمله إذا أسلم حتى يراها إلا من كان صغيرًا يومئذ؛ فإنه لو أسلم بعد ذلك قُبِل ذلك منه؛ قال: ومن كان مؤمناً مذنباً فتاب من الذنب قبل منه (¬1). وهذا أخذه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من ظاهر الآية؛ إذ اقتصر فيها على الإيمان, وهو خلاف ما عليه الجمهور من أنَّه لا فرق في عدم قبول التوبة بعد طلوع الشمس من المغرب وبين الكافر والمسلم، والأحاديث المذكورة ناطقة نص فيها فيجب المصير إليها. أمَّا الصغير إذا بلغ بعد طلوع الشمس من مغربها، فأسلم، قبل إسلامه قطعًا؛ فإنَّه مفطور على الإِسلام، وقد استصحب الفطرة، وأمَّا إذا كفر بعد البلوغ أو أذنب، فلا يُقبل منه الإِسلام ولا التوبة كغيره. قال أهل العلم: وإنَّما لا ينفع نفسًا إيمانها ولا توبتها وقت طلوع الشمس من المغرب لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما يخمد منه كل شهوة، ويفتر منه كل قوة، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بقرب الساعة كحال من حضره الموت، وغرغر بالروح في انقطاع الدَّواعي إلى المعصية بكل أنواعها وبطلانها من أبدانهم، ومن مات في مثل هذه الحالة لم تقبل توبته. ثم إنَّ من عاين الآية المذكورة قبل الإيمان والتوبة لمَّا كان علمه بالله ورسوله ووعيده قد صار ضرورياً لم يقبل إيمانه وتوبته وإن امتدت ¬
حياته بعد ذلك؛ إذ رُوي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها مئة وعشرين سنة حتى يغرس النخل. وهذا ذكره القرطبي، وإنما يُروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص كما أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر (¬1). قال القرطبي: وإن امتدت أيام الدنيا إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان ولا يتحدثوا عنه إلا قليلاً، فيصير الخبر عنه خاصًّا، وينقطع التواتر عنه، فمن أسلم بعد ذلك، أو تاب قُبِل منه؛ والله أعلم (¬2). قلت: لكنَّ الظاهر أن هذا لا يكون؛ إذ ورد أن باب التوبة يغلق لطلوعها من مغربها, ولم يرد أنه يفتح بعد ذلك. قال أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَبِيْحَةَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا يَصِيْرُ فِيْ هَذِهِ الأُمَّةِ قِرَدَةٌ وَخَنَازيرُ، وَتُطْوَىْ الدَّوَاوِيْنُ، وَتَجُفُّ الأَقْلاَمُ، لاَ يُزَادُ فِيْ حَسَنَةٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ سَيئةٍ، وَلاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيْمَانها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَت فِيْ إِيْمَانِهَا خَيْرًا". وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إن الناس بعد الآية -يعني: ¬
طلوع الشمس من المغرب- يصلُّون، ويصومون، ويحجُّون، فيتقبل ممن كان يتقبل منه قبل الآية. رواهما أبو الشيخ (¬1). وما ذكره القرطبي من انقطاع التواتر بعد الآية يبعده أن الدنيا - وإن بقيت بعد الآية المدة التي ذكرت عن ابن عمرو - فإنَّ الآيات تتتابع في هذه المدة كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الآيَاتُ خَرَزَاتٌ مَنْظُوْمَاتٌ فِيْ سِلْكٍ، فَانْقَطَعَ السِّلْكُ فَيتبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا". رواه الإِمام أحمد، وغيره عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (¬2). فلا يقدم عن التواتر خبر بطلوع الشمس من مغربها, ولا ينقطع حتى تخرج الدابة، ثم يكون الخسوف واحدًا بعد واحد قبل الدجال أو بعده، ثم يخرج عيسى عليه السلام بعد الدجال، فيقتل الدجال، ويمكُث في الأرض أربعين سنة، ثم يخرج يأجوج ومأجوج في زمن عيسى عليه السلام حتى ينحاز هو والمؤمنون إلى جبل الطور، ثمَّ يكون الدخان بعد ذلك أو قبله، ثم تخرج النار من قعر عدن، فالناس في كل آية من هذه الآيات مع ما يتبعها من الأهوال والحوادث العظيمة بين مشاهد لها ومتواتر إليه خبرها، ومنهم من شاهد بعضها وتواتر إليه خبر بعضها، وهذا يحدث في قلوب الناس علوماً ضرورية بوقوع الساعة وحلول القيامة، فلا يقبل من أحد منهم خير إلا من كان عليه ¬
أن يقلع عن الذنب في الحال
أولًا فيبقى عليه بتوفيق الله تعالى؛ نسأل الله تعالى أن يعيذنا من الفتن والمِحَن، وأن يقبضنا على توبة مقبولة. ثمَّ التوبة لها أركان: أحدها: أن يقلع عن الذنب في الحال. روى البزار، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ، وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيم عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ" (¬1). قال الفضيل بن عياض، وذو النون المصري رحمهما الله تعالى: استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين (¬2). واعلم أنَّ الأقلاع عن الذنب إنما ينشأ من مطالعة زواجر الشرع، فينقدح من ذلك زِناد العقل، فيتولَّد منه نار الخوف من الله تعالى، فيحترق غُثاء الشهوة من النفس، ويذهب منه زَبَدُ الغفلة عن القلب، فيرتاع القلب ويتنبه، وينزجر بزاجر الإيمان, وزاجر العقل، وزاجر الشيب، وزاجر الموت، وغير ذلك، ويرجع إلى الله تعالى ويقلع عن الذنب، ولذلك قال بعضهم: اليقظة حرقة من جهة المولى لقلوب ¬
الخائفين تدلهم على طريق التوبة. وروى أبو نعيم عن أبي بكر الكتاني رحمه الله تعالى أنه قال: روعة عبد انتباه من غفلة؛ وانقطاع عن حظ النفس، وارتعاد من خوف القطيعة أعود على المريدين من عبادة الثقلين (¬1). وقد يسَّر الله تعالى لمن أراد به الخير طريق التوبة بالدواعي الداعية إليها، وهي فوائد التوبة التي عوَّلنا سابقاً عليها، وبالزواجر له عن الذنوب كزاجر الإيمان وزاجر الإِسلام. قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمَ تَنْهَهُ صَلاَتُهُ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلاَّ بُعْدًا". رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (¬2). وأخرجه الإِمام أحمد في "الزهد"، وغيره عن ابن مسعود موقوفًا عليه (¬3). وروى المفسرون عن ابن عباس قال في الآية: في الصلاة منتهى ¬
ومُزْدجر عن معاصي الله تعالى (¬1). ولا شك أنَّ من آمن بالله وبما جاء به رسله من وعيده في كتبه، وصدق بذلك أدى به تصديقه بذلك إلى أن يطيعه ولا يعصيه، وأن يقلع عن عصيانه إن كان متلبَّساً به، وإلا لم يكن تصديقه كاملًا ولا يقينه خالصاً, ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا آمَنَ بِالقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ". رواه الترمذي من حديث صهيب الرومي رضي الله تعالى عنه (¬2). وزاجر العلم: قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. فبيَّن سبحانه وتعالى أن الخشية إنما تنبعث من العلم والمعرفة؛ وإن العارف بالله تعالى يعلم ما لا يعلمه غيره من اطلاع الله تعالى عليه في أحواله كلها في سره وعلانيته، وذلك يزجره عن المعصية وعن الإقامة عليها. قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيته بينك وبين معصيتك، فتلك خشيته. رواه ابن أبي حاتم (¬3). ¬
فائدة
وقال الشافعي - رضي الله عنه -: [من مجزوء الكامل] وَالعِلْمُ يَنْهَى أَهْلَهُ ... أَنْ يَمْنَعُوه أَهْلَهُ (¬1) وقال أيضًا: [من مجزوء الرجز] حَسْبِي بِعِلْمِي إِنْ نَفَعْ ... ما الذُّلُّ إِلاَّ فِي الطَّمَعْ مَنْ راقَبَ اللهَ نَزَعْ ... عَنْ سُوءِ ما كانَ صَنَعْ ما طارَ طَيْرٌ وَارْتَفَع ... إِلاَّ كَما طارَ وَقَع * فائِدَةٌ: روى الخطيب عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال: وضع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه للناس ثماني عشرة كلمة، حِكَمٌ كلُّها؛ قال: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك منه ما يغلبك. ولا تظنَّنَّ بكلمة خرجت من مسلم شرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً. ومن عَرَّضَ نفسه للتهمة فلا يلومنَّ من أساء به الظنْ. ومن كتم سرَّه كانت الخيرة في يده. وعليك بإخوان الصدق تعِشْ في أكنافهم؛ فإنهم زينة في الوفاء، وعُدَّة في البلاء. ¬
وعليك بالصدق وإن قتلك. ولا تعرض فيما لا يعني. ولا تسأل عما لم يكن؛ فإنَّ فيما كان شغلاً عما لم يكن. ولا تطلبن حاجتك إلى من لا يحب نجاحها. ولا تهاون بالحلف الكاذب فيهلكك الله. ولا تصحب الفجَّار تتعلم من فجورهم. واعتزل عدوَّك. واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله. وتخشع عند القبور. وذُلَّ عند الطاعة. واستعصم عند المعصية. واستشر في أمرك الذين يخشون الله؛ فإنَّ الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] (¬1). وزاجر الشيب: قال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]. ¬
قال عكرمة: النذير: الشيب. رواه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (¬1). وقال الشاعر: [من الطويل] كَفى الشَّيْبُ وَالإِسْلامُ لِلْمَرْءِ ناهِياً (¬2) وقال الإِمام أبو القاسم الرافعي رحمه الله تعالى: [من الطويل] تَنبَّهْ فَحَقٌّ أَنْ يَطُولَ بِحَسْرَةٍ ... تلهُّفُ مَنْ يَسْتَغْرِقُ العُمْرَ نَومُهُ وَقَدْ نِمْتَ في عَصْرِ الشَّبِيبَةِ غافِلًا ... فَهُبَّ فَصُبْحُ الشَّيْبِ قَدْ جاءَ يَومُه (¬3) وقلت: [من الخفيف] ناحَ إِذا لاحَ الْمَشِيبُ صباحُ ... بَعْدَ لَيْلِ الْهَوى وَطِيبِ الغرارِ لا تَلُمْهُ إِذا بَكَى لِمَشِيبٍ ... ضَحِكَ الرَّوْضُ مِنْهُ بالأَزْهارِ بانَ مِنْهُ الشَّبابُ فَاغْتاظَ مِمَّا ... بانَ مِنْ شَيْبِ رَأْسِهِ وَالعِذارِ ¬
لَيْسَ يَشْفِيهِ مِنْ أَسى الشَّيْبِ إلَّا ... أَنْ يَراهُ مُهَيِّجاً لاعْتذارِ وَرُجُوعٍ إِلَى التُّقَى بِمَتابٍ ... منْ قَبيحِ الذُّنوبِ وَالأَوْزارِ مَنْ يتُبْ وَالْمَشِيبُ ثَوبُ وقارٍ ... ثُمَّ يَعْصِ أَحالَ ثَوْبَ الوقارِ إِنَّ مَنْ دَنَّسَ الْمَشِيبَ بِعَيْبٍ ... مِثْلُ مَنْ شَوَّهَ البَياضَ بِقارِ زاجِرُ الشَّيْبِ قَدْ أَتاكَ نَذِيراً ... فتيَقَّظْ لِذَلِكَ الإِنْذارِ وَكَفى بِالْمَشِيبِ ناهِيَ نَفْسٍ ... عَنْ هَواها فِي اللَّيْلِ أَوْ فِي النَّهارِ ما لِما فاتَ مِنْ شَبابِكَ عَوْدٌ ... أَبْعَدَ الشَّيْبُ مِنْهُ قُرْبَ الْمَزارِ إِنَّ شُغْلاً بِما أَمامَكَ أَوْلَى ... مِنْ تَمَنِّيكَ فائِتَ الأَعْمارِ دع وَراءَ فَلا رُجوعَ إِلَيْهِ ... وَتَهَيَّأ لِما أَمامَكَ جارِي وَابْتَعِ الْجارَ قَبْلَ أَنْ تتَبوَّا ... الدَّارَ وَاللهُ ذُو العُلى خَيْرُ جارِ إِنَّ شَيْئاً دَعا لأَبْهى سِبابٍ ... في نَعِيمٍ لَخَيْرُ شَيْءٍ وَدارِي إِنَّ دارَ النَّعِيمِ دارُ رِضَى اللـ ... ـه تَعالَى وَفَضْلِهِ خَيْرُ دارِ وزاجر الدهر، وهو ما فيه من النوائب والصُّروف: روى ابن السني في "عمل يوم وليلة" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَفَىْ بِالدَّهرِ وَاعِظًا، وَالْمَوْتِ مُفَرِّقًا" (¬1). وينسب للخطابي: [من الوافر] ¬
أَنِسْتُ بِوَحْدَتِي وَلَزِمْتُ بَيْتِي ... فَطابَ الأُنْسُ لِي وَنَما السّرورُ وَأَدَّبَنِي الزَّمانُ فَلا أُبالِي ... هُجِرْتُ فَلا أُزارُ وَلا أَزُورُ وَلَسْتُ بِسائلٍ ما دُمْتُ حَيًّا ... أَسارَ الْجُنْدُ أَمْ رَكِبَ الأَمِيرُ (¬1) وقلت: [من الوافر] كَفَى بِالدَّهرِ أَنْ يَعِظَ الأَناسِي ... وَيزْجُرَ كُلَّ مَغْرُورٍ وَناسِي تَرى عِبَرًا وَلَمَّا تَعْتَبِرْها ... عَذِيرَكَ مِنْ فُؤادٍ مِنْكَ قاسِي فَكَمْ كاسٍ بِهِ أَمْسى عَرِيًّا ... وَعارٍ فِيهِ أَصْبَحَ وَهْوَ كاسِي ومن ألطف ما قيل في الاتعاظ من الزمان قول أبي العتاهية: [من السريع] ماذا يُرِيكَ الزَّمانُ مِنْ غِيَرِهْ ... وَمِنْ تَصارِيفِهِ وَمِنْ عِبَرِهْ طُوبَى لِعَبْدٍ ماتَتْ وَساوِسُه ... وَاقْتَصَرَتْ نَفْسُهُ عَلى فِكَرِهْ طُوبَى لِمَنْ هَمُّهُ الْمَعادُ وَما ... أَخْبَرَهُ اللهُ عَنْهُ مِنْ خَبَرِهْ ¬
وزاجر الموت
طُوبَى لِمَنْ لَمْ يَعْصِ الإلَهَ وَلا ... حالَ وَلَمْ يَتَهِمْهُ في قَدَرِهْ طُوبَى لِمَنْ لا يَزِيدُ إِلا تُقًى ... لله فِيما يَزْدادُ مِنْ كِبَرِهْ قَدْ يَنْبَغِي لامْرِئٍ يَرى نكَبا ... تِ الدَّهرِ أَنْ لا يَنامَ مِنْ حَذَرِهْ بِقَدْرِ ما ذاقَ ذائِقٌ لِصَفاءِ ... العَيْشِ يَوماً يَذُوقُ مِنْ كَدَرِهْ كَمْ مِنْ عَظِيمْ مُسْتَوْدعٍ جَدَثاً ... قَدْ أَوْقَرَتْهُ الأكفُّ مِنْ مَدَرِهْ أَخْرَجَهُ الْمَوْتُ عَنْ دساكِرِه ... وَعَنْ فَساطِيطِهِ وَعَنْ حُجَرِهْ ما أَسْرعَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلى الـ ... إِنْسانِ في سَمْعِهِ وَفِي بَصَرِهْ وَفِي خُطاهُ وَفِي مَفاصِلِه ... نَعَمْ وَفِي شَعْرِهِ وَفِي بشرِهْ الوَقْتُ آتٍ لاشَكَّ فِيهِ وَلا ... تَنْظُرْ إِلَى طُولهِ وَلا قِصْرِه لَمْ يَمْضِ مِنَّا قُدَّامَنا أَحَدٌ ... إِلا وَمَنْ خَلْفَهُ عَلى أثَرِهْ فَلا كَبِيْرٌ يَبْقَى لِكَبْرتهِ ... وَلا صَغِيْرٌ يَبْقَى على صِغَرِهْ وزاجر الموت: روى الطبراني في "الكبير" عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا، وَبِاليَقِيْنِ غِنًى" (¬1). وروى سعيد بن منصور عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: أنه قال موعظة بليغة وغفلة سريعة: كفى بالموت واعظاً، وكفى بالدهر ¬
مفرقاً، اليوم في الدُّور، وغداً في القبور (¬1). ولجدي شيخ العارفين الشيخ رضي الدين ملمحاً بحديث: [من مجزوء الرجز] قالَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ ... اللهِ قَوْلا صادِقاً تَرَكْتُ فِيكُمْ واعِظَيـ ... ـنِ صامِتًا وَناطِقاً الْمَوْتُ وَالقُرْآنُ كَيْ ... يَصْدُقَ هذا واثِقاً وذكر السيوطي عن بعضهم قال: مَنْ أكثر ذكر الموت كُرِمَ بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن إبراهيم التيمي قال: شيئان قطعا عني لذاذةَ الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله تعالى (¬3). وروى ابن الجوزي في كتاب "ذم الهوى": أنَّ عبد الله بن حسن ابن الحسين كان يطوف بالبيت، فلقي امرأة جميلة، فلما نظرت إليه وإلى جماله مالت نحوه، وطمعت فيه، فأقبل عليها وقال: [من البسيط] أَهْوى هَوَى الدِّينِ وَاللَّذَّاتُ تُعْجِبُنِي ... فَكَيْفَ لِي بِهَوى اللَّذَّاتِ وَالدِّينِ ¬
وزاجر العقل
نَفْسِي تُزَيِّنُ لِيَ الدُّنْيا وَلَذَّتَها ... وَزاجِري مِنْ حِذارِ الْمَوْتِ يثْنِيْني (¬1) وزاجر العقل (¬2): وجميع الزواجر ترجع إليه كما بينته في "منبر التوحيد". ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَاعِظًا مِنْ نَفْسِهِ يَأمُرُهُ وَيَنْهَاه". رواه الديلمي -بإسناد جيد- من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها (¬3). وروى الإِمام أحمد، والحاكم -وصححه- عن النوَّاس بن سمعان رضي الله تعالى عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيْمًا، وَعَلَىْ جَنَبَتَيْ الصَّرَاطِ سُوْرَانِ فِيْهِمَا أَبْوَابٌ مُفتَّحَةٌ، وَعلى الأَبْوابِ سُتورٌ مُرْخاةٌ، وَعلى بابِ الصِّراطِ داع يَقولُ: يا أيُّها النَّاسُ! ادْخُلوا الصّراطَ جَمِيعًا، وَلا تُعَرِّجوا، وَداعٍ يَدْعو مِنْ فَوْقِ الصِّراطِ، فَإِذا أَرادَ الإِنْسانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوابِ قالَ: وَيْحَكَ! لا تَفْتَحْهُ. فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ. فَالصّراطُ: الإِسْلامُ، وَالسُّتورُ: حُدودُ اللهِ، وَالأَبْوابُ الْمُفتَّحَةُ: ¬
تنبيه
مَحارِمُ اللهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلى رَأْسِ الصِّراطِ: كِتابُ اللهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فوْق: واعِظُ اللهِ في قَلْبِ كُلِّ مَسْلِمٍ"؛ يَعْنِي: العَقْل (¬1). * تَنْبِيهٌ: عَلِمَ مما تقدم بأنَّ من ترك الذنوب لا للخوف من الله تعالى، بل لأمر آخر كالإفلاس والخوف من عقوبة السلطان وتعزيره، فليس بتائب لأنه غير مقلع عن الذنب؛ لأنَّ الإقلاع ينشأ عن الخوف من الله، أو الإقلاع المعتد به هو الذي ينشأ عن الخوف من الله تعالى. ولطف بعض الشعراء في قوله: [من الوافر] يَقولُ أَبو سَعِيدٍ إِذْ رآنِي ... عَفِيفاً مُنْذُ عامٍ ما شَرِبْتُ عَلى يَدِ أَيِّ شَيْخٍ تُبْتَ قُلْ لِي ... فَقُلْتُ عَلى يَدِ الإِفْلاسِ تُبْتُ (¬2) الركن الثاني من أركان التوبة: الندم على فعل الذنب من حيث إنه ذنب؛ بأن يستحضر جرأته على الله تعالى، وتعرضه لمقته بارتكاب الذنب مع علمه بأنَّ الله تعالى يعلم ظواهره وبواطنه، لا يخفى عليه من أحواله شيء. ولما كان الندم معظم أركان التوبة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "النَّدَمُ ¬
تَوْبَةٌ". رواه الإِمام أحمد، وابن ماجه، والحاكم -وصححه- عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، والحاكم، والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه (¬1). وروى الدينوري في "المجالسة" عن وهب قال: قرأت في مزامير داود عليه السلام: هل تدري من أغفر له من عبادي؟ الذي إذا أذنب ذنبا ارتعدت فرائصه وأعضاؤه، فذلك الذي آمر ملائكتي أن لا تكتب عليه ذلك الذنب (¬2). وقولنا: (من حيث إنه ذنب) احتراز عما لو ندم على الذنب لمعنًى آخر؛ كان يندم على شرب الخمر لإضرارها ببدنه أو ماله، أو على الزنا لحيائه من الناس وهتك ستره عليهم، وفضيحته عندهم، لا للخوف من الله تعالى ومن عقوبته؛ فإن ذلك الندم لا ينفعه. ولو ترك الذنب، وعزم أن لا يعود إليه، ولم يندم على ارتكابه فيما سلف لم يكن تائبًا لأنَّ عدم ندمه على ذنبه دليل على قلة حيائه من الله تعالى، وعدم مبالاته بوعيده، وجرأته على الله تعالى. وقد روى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ¬
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَذْنَبَ وَهُوَ يَضْحَكُ دَخَلَ النَّارَ وَهُوَ يَبْكِيْ" (¬1). وروى الطبراني، وأبو نعيم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضًا، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَوْحَىْ اللهُ تَعَالَىْ إِلَىْ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّكَ لَنْ تتَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشَيْءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الرّضَا بِقَضَائِيْ، وَلَنْ تَعْمَلَ عَمَلاً أَحْبَطُ لِحَسَنَاتِكَ مِنَ الكِبْرِ: يَا مُوْسَىْ! لاَ تَضْرع لأَهْلِ الدُّنْيَا فَأَسْخَطُ عَلَيْكَ، وَلا تَخَفْ بِدِيْنكَ لِدُنْيَاهُمْ فَأُغْلِقَ عَلَيْكَ أَبْوَابَ رَحْمَتِيْ، يَا مُوْسَى! قُلْ لِلْمُذْنِبِيْنَ النَّادمِيْنَ: أَبْشِرُوْا، وَقُلْ لِلْعَامِلِيْنَ الْمُعْجَبِيْنَ: اخْسَرُوْا" (¬2). وتقدم من حديثه: "النَّادِمُ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ الرَّحْمَةَ، والْمُعْجَبُ يَنْتَظِرُ الْمَقْتَ" (¬3). وقال سَرِي السَّقَطي، وسهل التستري رحمهما الله تعالى: التوبة أن لا تنسى ذنبك (¬4). وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: التوبة النصوح أن ¬
يكون الذنب بين عينيه ولا يزال كأنه ينظر إليه (¬1). وهذا من هؤلاء الشيوخ إشارة إلى الندم. وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه - ولم يفصح عن رفعه - ورواه البيهقي مرفوعًا، وموقوفاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمُؤْمِنُ يَرَىْ ذَنْبَهُ كَالْجَبَلِ فَوْقَهُ، وَالْمُنَافِقُ يَرَىْ ذَنْبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَأَطَارَه" (¬2). وقال ابن أبي الدنيا في "التوبة": قال الحسن بن عبد الرحمن: أنشدني أبو عثمان المؤدب: [من البسيط] لا تَنْسَ ذَنْبَكَ إِنَّ اللهَ ساتِرُهُ ... وَاسْتَغْفِرِ الله مِنْ ذَنْبٍ تُباشِرُهُ خَفْ غِبَّ ذَنْبِكَ وَارْجُ اللهَ مُزْدَجَراً ... لَعَلَّ رَبَّكَ بَعْدَ الْخَوْفِ غافِرُهُ كَمْ مِنْ هَوَى لَكَ مَقْرونٍ بِمَعْصِيَةٍ ... أَصْبَحْتَ تَرْكَبُهُ وَاللهُ ساتِرُهُ بَرَّقْتَ ظاهِرَكَ الْمَدْخُولَ باطِنُه ... إِنْ صَحَّ باطِنُ عَبْدٍ صَحَّ ظاهِرُهُ ¬
تنبيه
أَسِرَّ ما شِئْتَ إِنَّ الله يَعْلَمُ ما ... يُخْفِيهِ قَلْبُكَ لا تَخْفى سَرائِرُهُ اعْمَلْ فَإِنَّكَ تُجْزَى ما عَمِلْتَ بِهِ ... مَهْما عَمِلْتَ فَإِنَّ الله خَابِرُهُ لا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْ شَيْءٍ تُقَدّمُهُ ... ما كانَ مِنْ حَسَنٍ فَاللهُ شاكِرُهُ لا يَبْرَحُ العَبْدُ أَعْمالًا يُقَلَّدُها ... أليْسَ في عُنُقِ الإِنْسانِ طائِرُهُ البِرُّ أَكْرَمُ زادٍ وَالتُّقى شَرَفٌ ... وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ لا تُبلَى ذَخائِرُهُ (¬1) * تنبِيهٌ: وردت أخبار تدل على الاكتفاء في التوبة بالندم، فروى الإِمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن المبارك بن فضالة عن الحسن -مرسلاً- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ العَبْدَ لَيُذْنِبُ بِهِ الذَّنْبَ فَيَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ". قيل: كيف ذلك يا رسول الله؟ ¬
قال: "يَكُوْنُ نَصْبَ عَيْنَيْهِ تَائِبًا ناَدِمًا حَتَّىْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ" (¬1). وروى أبو نعيم بسند ضعيف، عن أبي هريرة مرفوعًا: "إِنَّ العَبْدَ ليُذْنِبُ الذَّنْبَ فَإذَا ذَكَرَهُ أَحْزَنه، فَإذَا نظرَ اللهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَحْزَنه غَفَرَ لَه" (¬2). ولابن أبي الدنيا نحوه في "التوبة" من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (¬3). روى الإِمام أحمد، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَفَّارَةُ الذَّنْبِ النَّدَامَةُ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوْا لأَتَىْ اللهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُوْنَ لِيَغْفِرَ لَهُمْ". وإسناده ضعيف (¬4). ¬
وروى العسكري في "المواعظ" عن علي - رضي الله عنه - قال: إني لأرجو أن يكون كفَّارة للعبد من ذنبه ندامته عليه (¬1). وروى الدينوري في "المجالسة" عن صالح المُرِّي رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود! اسمع مني والحقَّ أقول: إنَّه من ذكر ذنوبه في الخلاء فاستحيى عند ذكرها، سترتُها عن الحفظة وغفرت له. يا داود! اسمع مني والحقَّ أقول: إنه من عمل من الذنوب حشو الأرض من شرقها إلى غربها، ثم ندم عليها حلب شاة، سترتها عن الحفظة وغفرتها له. يا داود! اسمع مني والحقَّ أقول: إنَّه من عمل حسنة واحدة أدخلته جنتي. قال داود: إلهي! وما تلك الحسنة؟ قال: يكشف عن مكروب كربة ولو بشق تمرة (¬2). ومن هنا: ذهب جمع إلى أنَّ التوبة الندم فقط، ومنهم من قال: الندم هو التوبة، وما أوجبوه من الإقلاع والعزم أن لا يعود من لازمه، ونقله الأستاذ أبو القاسم القشيري عن بعض أهل التحقيق. ¬
العزم على أن لا يعاود الذنب
الركن الثالث من أركان التوبة: العزم على أن لا يعاود الذنب: فلو عزم على معاودة الذنب في وقت التوبة لم تصح توبته لمناقضة حاله للتوبة؛ فإنَّ عزمه على الذنب دليل تعلق قلبه به وعدم إقلاعه عنه، فلو عزم في وقت التوبة أن لا يعود، ثمَّ خطر له بعد مدة أن يعاود الذنب وعزم عليه، فتوبته صحيحة، وهذا العزم ذنب آخر، فإن همَّ بالمعاودة ولم يعزم لم يؤاخذ به. ونقل الثعلبي، وغيره عن مجاهد، والحسن، وعكرمة، والسدي في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة: 3 - 5]: يقول الله تعالى: ما يجهل ابن آدم أنَّ ربه قادر على جمع عظامه بعد الموت، ولكنه يريد أن يَفْجُرَ أمامَه؛ أي: يمضي قدمًا في معاصي الله تعالى راكباً رأسه لا ينزع عنه ولا يتوب (¬1). وروى ابن أبي الدنيا في "الأمل"، والبيهقي في "الشعب" عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة: 5]؛ قال: يُقدم الذنب ويؤخر التوبة (¬2). وروى ابن جرير عنه أنه قال: يعني: الأمل؛ يقول: أعمل ثم أتوب (¬3). ¬
وروى المفسرون، والحاكم وصححه، والبيهقي عنه: أنَّهُ قال في الآية: يقول: سوف أتوب. {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 6]؛ قال: يقول: متى يوم القيامة؟ قال: فبيَّن له بقوله: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} [القيامة: 7] (¬1). وقوله تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} أي: يسأل بلسان قاله، أو بلسان حاله سؤال استبعاد، كأنه يجعل الاعتذار عن فجوره وعزمه على ركوب آثامه أنَّ يوم القيامة بعيد، فيطيل أمله، ويسيء عمله، وينسى أجله، فلا يُصْلح خلله. وأنشد ابن أبي الدنيا في "كتاب الموت" لبعضهم: [من البسيط] قُلْ لِلْمُؤَمِّلِ إِنَّ الْمَوْتَ فِي أَثَرِكْ ... وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكَ الأَمْرُ مِنْ نَظَرِكْ فِيما مَضَى لَكَ إِنْ فَكَّرْتَ مُعْتَبَرٌ ... وَمَنْ يَمُتْ كُلَّ يَوْمٍ فَهْوَ مِنْ نُذُرِكْ دَارٌ تُسافِرُ عَنْها فِي غَدٍ سَفراً ... فَلا تَؤُوبُ إِذا سافَرْتَ مِنْ سَفَرِكْ ¬
رد المظالم إلى أهلها، أو الاستحلال منهم حتى يسامحوه ويعفو عنه
تُضْحِي غَداً سَمرًا لِلذاكِرينَ كَما ... صارَ الذينَ مَضَوا بِالأَمْسِ مِنْ سَمَرِكْ (¬1) واعلم أنَّ ما ذكرناه من أركان التوبة الثلاثة لا بُد منه في كل توبة من كل ذنب. ويزاد في التوبة من مظالم العباد ركن رابع، وهو رد المظالم إلى أهلها، أو الاستحلال منهم حتى يسامحوه ويعفو عنه، وذلك كالقتل، والسرقة، والغصب، والرشوة، والربا، وأكل مال اليتيم، والضرب، والشتم، والقذف، والغيبة، والنميمة، والسعاية، وخيانة الرجل في فراشه. فإن تعذَّر عليه ذلك كان مات صاحب المظلمة ولم يكن له ورثة تستوفي ما له قبل التائب من الحقوق، أو يعفو عنه، أو غاب عنه المطلوب وتعذر عليه الوصول إليه، أو خشي من ذكر المظلمة للمظلوم أن يتعدَّى عليه زائدًا عن حقه في نفس أو مال أو عرض كأن يكون قذف مُتَجَوِّهاً يخشى سطوته، فطريقه أن يستغفر للمظلوم، ويستكثر من الحسنات ليوفي يوم القيامة من حسناته، ويكثر من الاستغفار، والتضرع، والحزن، والأسف على ما صدر منه؛ فعسى أن يكون ذلك كافياً له. وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: ¬
عجبت لمن يهلك والنجاة معه. قيل: ما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: الاستغفار (¬1). وقد حدثنا والدي رحمه الله تعالى في السنة التي مات فيها، وهي سنة أربع وثمانين وتسع مئة عن مشايخه قضاة القضاة: أبي يحيى زكريا الأنصاري، والبرهانين القلقشندي، وابن أبي شريف، عن الحافظ [أبي] الفضل بن حجر العسقلاني قال: قرأت على أحمد بن بلغاق، وأخبرنا عبد الرحمن بن محمَّد الذهبي قالا: أخبرنا إسحاق بن يحيى، أنا يوسف بن خليل الحافظ، أنا مسعود بن أبي منصور وخليل بن أبي الرَّجاء قالا: أنا أبو علي المقري، أنا أبو نعيم، ثنا أبو بكر عن أبي الهيثم، ثنا محمَّد بن أبي العوام، ثنا يزيد بن هارون، ثنا صدقة بن موسى، ثنا أبو عمران المقري، عن يزيد بن بابنوس، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدَّوَاوِيْنُ عِنْدَ اللهِ ثَلاَثةٌ: دِيْوَانٌ لاَ يَغْفِرُهُ اللهُ، وَدِيْوَانٌ أَمْرُهُ إِلَىْ اللهِ، وَدِيْوَانٌ لا يتْرُكُهُ الله؛ فَأَمَّا الدِّيْوَانُ الَّذِيْ لاَ يَغْفِرُهُ اللهُ فَالشّرْكُ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72]، وَأَمَّا الدِّيْوَانُ الَّذِيْ أَمْرُهُ إِلَىْ اللهِ فَظُلْمُ العَبْدِ لِنَفْسِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَىْ يَتَجَاوَزُ اللهُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ، وَأَمَّا الدّيْوَانُ الَّذِيْ لاَ يَتْرُكُهُ اللهُ فَظُلْمُ العِبَادِ بَعْضِهمْ بَعْضًا القِصاصُ لاَ مَحالَةَ". ¬
قال الحافظ أبو الفضل: هذا حديث غريب أخرجه أحمد بن يزيد ابن هارون، فوافقناه بعلو، وصححه الحاكم (¬1). وأخرجه من وجه آخر عن يزيد، وفيه نظر؛ لأنَّ صدقة بن موسى ليس من شرط "الصحيح"، انتهى. قلت: ولا ينزل الحديث عن درجة الحسن لأنَّ رجاله ثقات، وغاية ما فيه أنَّ صدقة مختلف فيه. وقلت عاقداً للحديث: [من الطويل] رَوَينا دَواوِينَ العُصاةِ ثَلاثَة ... عَنِ الْمُصْطَفى الْمُخْتارِ قُطْبِ الرِّسالَةِ وَدِيوانُ شِركٍ لَيْسَ يُغْفَرُ بَلْ لِمَنْ ... أَتاه خُلودٌ في عَذابِ النِّكايَة وَدِيوانُ ظُلْمِ النَّفْسِ مَغْفِرَةُ الكَرِيـ ... ـم إِنْ شاءَ فَضْلاً مِنْهُ يَومَ القِيامَةِ وَديوانُ ظُلْمِ النَّاسِ بَعْضٍ لِبَعْضِهِمْ ... فَلَيْسَ بِمَتْروكٍ لِعَظَمِ الجِنايَة وقد أكثر الناس من الكلام على التوبة، وما ذكرناه هو ما عليه ¬
جماهير العلماء. وقد ذكرنا من أحوال الصوفية وغيرهم في التوبة جملة صالحة في كتاب "منبر التوحيد"، وأشرنا فيه إلى لطائف رقيقة ومسائل دقيقة، فراجعه إن شئت موفقاً بتوفيق الله، ونسأل الله تعالى حسن الخاتمة، وأن يقبضنا على أكمل حالة تقربنا إليه وتزلفنا لديه، وفي أفضل زمان نتلبس فيه بأفضل طاعاته وأعظم عباداته التي تظفر العبد بمرضاته، وتُسكنه روضاتِ جنَّاته، مُطالِعاً لجمال وجهه الكريم، ممنونًا عليه بنظرة التكريم ونضرة النعيم. روى الحافظ أبو القاسم بن عساكر عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: "اللهُمَّ عَافِنِيْ بِقُدْرَتِكَ، وَأَدْخِلْنِيْ فِيْ رَحْمَتِكَ، وَاقْضِ أَجَلِيْ فِيْ طَاعَتِكَ، وَاخْتِمْ لِيْ بِخَيْرِ عَمَلِيْ، وَاجْعَلْ ثَوَابَهُ الجَنَّةَ" (¬1). وروى الطبراني عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: "اللهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ فَوَاتِحَ الخَيْرِ وَخَوَاتِمَهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ، وَالدَّرَجَاتِ العُلَى مِنَ الجَنَّة" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "المنامات" عن الهيثم بن معاوية، قال: حدثني فلان قد سماه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقلت: ¬
يا رسول الله! ادع لي. فحَسَر عن ذراعيه، فدعا وقال: "لِيَكُنْ كُلَّ ما تَدْعو: اللهُمَّ اخْتِمْ لَنا بِخَيْرٍ" (¬1). وأنشد والدي عن بعض مشايخه، عن الحافظ أبي الفضل بن حجر رحمهم الله تعالى: [من الطويل] ثَلاثٌ مِنَ الدُّنْيا إِذا هِيَ حُصِّلَتْ ... لِشَخْصٍ فَلا يَخْشَى مِنَ الضَّرِّ وَالضَّيْرِ غِنًى عَنْ بنيها وَالسَّلامَةُ مِنْهُمُ ... وَصِحَّةُ جِسْمٍ ثُمَّ خاتِمَةُ الْخَيْرِ (¬2) وروى الحاكم -وقال: صحيح الإسناد- عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مِنْ سَعَادةِ الْمَرْءِ أَنْ يَطُوْلَ عُمُرُهُ وَيرْزُقَة اللهُ الإنابةَ" (¬3). وروى هو وشيخه ابن حبان في "صحيحه" عن عمرو بن الحمق رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَّلَهُ". ¬
قالوا: وما عَسَّله؟ قال: "يُوَفِّقُ لَهُ عَملاً صالِحًا بَيْنَ يَدَيْ رِحْلَتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ جِيْراته؛ أو قال: مَنْ حَوْلَه" (¬1). ورواه الإِمام أحمد -وسنده حسن- والطبراني من حديث أبي عنبة رضي الله تعالى عنه وقال: "يُوَفِّقُ لَهُ عَملاً صالِحا قَبْلَ مَوْتهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ" (¬2). والعَسْل -بمهملتين، وسينه ساكنة-: حسن الثناء. وروى الإِمام أحمد -بسند صحيح، واللفظ له- والترمذي، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَعْجَبُوْا بِأَحَدٍ حَتَّىْ تَنْظُرُوْا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ؛ فَإِنَّ العَامِلَ يَعْمَلُ زَمَاناً مِنْ عُمُره أَوْ بُرْهَةً مِنَ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ لَوْ مَاتَ عَنْهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلاً سَيئًا، وإنَّ العَبَدَ لَيَعْمَلُ البُرْهَةَ مِنْ دَهْرِه بِعَمَلٍ سَيئٍ لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلاً صَالِحَا، وإذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا ¬
اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتهِ". قيل: كيف يستعمله؟ قال: "يُوَفِّقُهُ لِعَمَلِ صالحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ اللهُ عَلَيْهِ" (¬1). وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا طَهَّرَهُ قَبْلَ مَوْتهِ". قالوا: وما طهور العبد؟ قال: "عَمَلٌ صَالحٌ يُلْهَمُهُ حَتَّىْ يَقْبِضَهُ عَلَيْهِ" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدهِ خَيْرًا بَعَثَ لَهُ قَبْلَ مَوْتهِ بِعَامٍ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ ويوفِّقُهُ حَتَّى يَمُوْتَ عَلَىْ خَيْرِ أَحَايِيْنهِ، فَيَقُوْلَ النَّاسُ: قَدْ مَاتَ فُلاَنٌ عَلَىْ خَيْرِ أَحَايِيْنهِ، فَإِذَا حَضَرَ وَرَأَىْ مَا أَعَدَّ لَهُ جَعَلَ تتَهَوَّعُ نفسُهُ مِنَ الحِرْصِ عَلَىْ أَنْ تَخْرُجَ هُنَاكَ حِيْنَ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدهِ ¬
شَرًّا قَيَّضَ اللهُ لَهُ قَبْلَ مَوْتهِ بِعَامٍ شَيْطَانًا يُضِلُّهُ ويغْوِيهِ حَتَّى يَمُوْتَ عَلَىْ شَرِّ أَحَايِيْنهِ، فَإِذَا حَضَرَ وَرَأَىْ مَا أُعِدَّ لَهُ جَعَلَ يَبْتَلِعُ نَفْسَهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَخْرُجَ، فَهُنَاكَ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَه" (¬1). وهذا الحديث تقدم من طريق آخر. وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: انظروا الناس عند مضاجعهم؛ فإذا رأيتم العبد يموت على خير ما ترونه فارجوا له الخير، وإذا رأيتموه يموت على شر ما ترونه خافوا عليه، فإذا كان شقياً -وإن أعجب الناس بعض عمله- قيَّض له شيطانًا فأرداه وأهلكه حتى يدركه الشقاء الذي كتب عليه، وإذا كان سعيداً -وإن كان الناس يكرهون بعض عمله- قيَّض له ملك فأرشده وسدده حتى تدركه السعادة التي كتبت له (¬2). وقلت ملماً بهذا المعنى: [من الرجز] إِذا أَرادَ اللهُ خَيْراً بِامْرِئٍ ... لِكَوْنهِ مِنْ صَفْوَةِ الأَنامِ يَبْعَثُ مَنْ يَهْدِيهِ مِنْ أَمْلاكِهِ ... إِلَيْهِ قَبْلَ مَوْتهِ بِعامِ حَتَّى يَقولَ النَّاسُ إِنَّهُ قَضى ... مِنْ عُمْرِهِ فِي أَفْضَلِ الأيَّامِ يا رَبِّ فارْحَمْنا وَسَدِّدْ أَمْرَنا ... في مَبْدَأِ الأُمورِ وَالْخِتامِ ¬
وَامْنُنْ عَلَيْنا عِنْدَما تُمِيتُنا ... بِالصِّدْقِ وَالإيْمانِ وَالإِسْلامِ وَاجْعَلْ إِلَهِي كِلْمَةَ التوْحِيدِ في ... وَقْتِ الْحِمامِ آخِرَ الكَلامِ ومن هنا كان السلف يستحبون أن يكون موتهم عقب عمل صالح؛ إمَّا جهاد، وإمَّا حج، وإما صيام رمضان، وإمَّا غير ذلك من الأعمال الصالحات. وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى أنه كان يقول: لا يزال أحد حديث عهد بعمل صالح؛ فإنه أهون عليه حين ينزل به الموت أن يتذكر عملًا صالحا قد قدَّمه (¬1). وروى الإِمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه، عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ: لا إِلَهَ إلا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير" عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أتاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَهُوَ عَلَىْ وضُوْءِ أُعْطِيَ الشَّهَادَةَ" (¬3). ¬
وروى أبو نعيم عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: قال [لي] ابن عباس - رضي الله عنهما -: لا تنامن إلا على وضوء؛ فإنَّ الأرواح تبعث على ما قبضت عليه (¬1). وروى الإِمام أحمد، وأبو يعلى، والحاكم وصححه، والضياء في "المختارة" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ مَاتَ عَلَىْ شَيْءٍ بَعَثَهُ اللهُ عَلَيْهِ" (¬2). وروى الطبراني في "الكبير"، والحاكم وصححه، عن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ مَاتَ عَلَىْ مَرْتَبةٍ مِنْ هَذِهِ المِرَاتِبِ بُعِثَ (¬3) عَلَيْهَا: رِبَاطٌ، أَوْ حَجٌّ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ" (¬4). وروى مسلم، وابن ماجه، وغيرهما عن جابر رضي الله تعالى عنه، والدارقطني في "الأفراد" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والطبراني في "الكبير"، والحاكم في "الكنى" عن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه؛ كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يُبْعَثُ كُلُّ عبدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيهِ" (¬5). ¬
وروى الإِمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُبْعَثُ النَّاسُ عَلَىْ نِيَّاتِهِمْ" (¬1). وروى ابن ماجه، والضياء في "المختارة" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَىْ نِيَّاتِهِمْ" (¬2). وكان أخي ولي الله العارف به أبو عبد الله شهاب الدين أحمد الغزي رحمه الله تعالى لا يجلس مجلسًا فيه من يتوسم فيه الصلاح والخير إلا قال: يا إخواني! رَقُّوني رَقوني؛ أي: اسألوا الله لي أن يرقيني في طاعته، ويقربني إليه؛ فإن المرء يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، وأنا لا أحب أن أُبعث على هذه الحالة التي أنا عليها، وكان يبكي ويستغيث كلما كان في مجلس رضي الله تعالى عنه، واتفق له أنه مات في الحمام، وكان مكبوداً بعد تمام الطهارة، فترجى له الشهادة للحديث المتقدم. وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: لا خير في الدنيا إلا لرجلين، رجل تائب، أو رجل يعمل في الدرجات (¬3). ¬
وروى أبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب" عن علي رضي الله تعالى عنه أنَّه قال: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكنَّ الخير أن يكثر عملك ويعظم حلمك، وتباهي الناس في عبادة ربك؛ إن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله تعالى. [و] لا خير في الدنيا إلا لرجلين: رجل أذنب ذنوباً فهو يتدارك ذلك بتوبة، ورجل يسارع في دار الآخرة (¬1). وقلت: [من السريع] لا خَيْرَ في الدُّنْيا لِعَبْدٍ سِوى ... مُسارِعٍ في الْخَيْرِ أَوْ تائِبِ كَما رَويناهُ عَنِ الْمُرْتَضَى ... بابِ العُلُومِ ابْنِ أَبِي طالِبِ ويوضح معنى بعض كلامه ما رواه الإِمام أحمد، وابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهُمَّ اجْعَلْنِيْ مِنْ الَّذِيْنَ إِذَا أَحْسَنُوْا اسْتَبْشَرُوْا، وإِذَا أَسَاؤُوْا اسْتَغْفَرُوْا" (¬2). وروى الحفاظ عبد الرزاق, وسعيد بن منصور في كتاب "الصلاة"، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1] كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: "سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِيْ؛ ¬
إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيْمُ" (¬1). وروى الحاكم وصححه، عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: "سُبْحانَكَ رَبَّنا وَبِحَمْدِك"، فلما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] قال: "سُبْحانَكَ اللهُمَّ رَبَّنا وَبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي؛ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوِّابُ الرحِيمُ" (¬2). وروى مسلم، وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثر من قول: سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقال: "خَيَّرَنيْ رَبِّي أَنِّي سَأَرَىْ عَلاَمَةَ فِيْ أُمَّتِيْ، فَإِذَا رَأَيْتُهَا أكثَرْتُ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدهِ، وَأَسْتَغْفِرُ الله وَأتوْبُ إِلَيْهِ، فَقَدْ رَأَيْتُهَا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (¬3). وروى الشيخان، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، عنهما (¬4) رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِيْ"؛ يتأوَّل ¬
القرآن: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (¬1). وروى ابن جرير عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: "سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأتوْبُ إِلَيْكَ"، فقلت له، فقال: "إِنِّي أُمِرْتُ بِها"، وقرأ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخر السورة (¬2). وروينا في كتاب "التوبة" لابن أبي الدنيا قال: حدثني عوف بن إبراهيم قال: حدثني أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني رحمه الله تعالى قال: إذا ذكرت الخطيئة لم أشته أموت؛ أقول: أبقى لعلِّي أتوب (¬3). وقلت في المعنى: [من البسيط] إِذا ذَكَرْتُ ذُنوبِي مَعْ خَطِيئاتِي ... لَمْ أَشْتَهِ الْمَوتَ في حالِ الْمُجافاةِ وَقُلْتُ أَبْقى عَسَى أَنِّي أتوبُ إِلَى ... رَبِّي وَألبَسُ أثوابَ الْمُصافاةِ ¬
وَإِنْ ذَكَرْتُ نَدى رَبِّي وَرَحْمَتَه ... أَحْبَبْتُ إِذْ قُمْتُ مَوتي كُلَّ أَوْقاتِي أقولُ عَلِّي أَرى رَبيِّ بِرَحْمَتِه ... تُمْحَى ذُنوبِي وَتُعْفَى كُل زَلَّاتِي يا رَبِّ لا بُدَّ لِي أَنِّي أَمُوتُ وَأَنْ ... يَعُدَّنِي الدَّهْرُ في دِيوانِ أَمْواتِ فَلا تُمِتْنِيَ إِلاَّ حِينَ تُزْلفُنِي ... إِلَيْكَ بِاللُّطْفِ يا رَبَّ البَرِيَّاتِ وَقَدْ لَبِسْتُ مِنَ الأَحْوالِ أَشْرَفَها ... في خَيْرِ وَقْتٍ وَفِي أَسْمى الْمَقاماتِ فَلِي عَوائِدُ مِنْ جَدْواكَ تُطْمِعُنِي ... فَوْقَ الَّذِي رُمْتُ مِنْ تِلْكَ العَطِيَّاتِ يا رَبِّ كَلأَة محفوفٌ بِعَوْنكَ يا ... مَلاَذِيَ خُذْ بِيَدِي في وَقْتِ عَثَراتِي وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي وَلا أَحَدٍ ... سِواكَ يا رَب يا أَنْهَى الإِراداتِ وقلت في المناجاة والتوسل والمناداة: [من مجزوء الرمل]
[خاتمة الكتاب]
رَبِّ مَتِّعْنِي بِقُرْبٍ ... مِنْكَ يا أَقْصى مَرامِي وَأَبِحْنِي مِنْكَ لُطْفًا ... في حياتِي وَحِمامِي جُدْ بِعِرْفانٍ لِسِرِّي ... وَلِرُوحِي بِالغَرامِ وَلِقَلْبِي بِيَقِينٍ ... يَرْتَقِي أَعْلى مَقامِ وإذا حَلَّتْ وَفاةٌ ... أَعْطِنِي حُسْنَ الْخِتامِ سُقْ إِلَى لُقْياكَ رُوحِي ... بَيْنَ أَمْلاكٍ كِرامِ تتَلَقَّانِيْ بِلُطْفٍ ... وَتُحَيِّي بِالسَّلامِ فَبِمَحْضِ الفَضْلِ جُدْ لِي ... أَوْ بِذُلِّي في الْمقامِ لا بِأَعْمالِي فَما لِي ... غَيْرُ أَعْمالي ذِمامِ يا إِلَهِي بِالْتِّهامِي ... خاتَمِ الرُّسْلِ الكِرامِ وَعَلَيْهِ كُلَّ حِينٍ ... صَلواتِي وَسلامِي [خاتمة الكتاب] وإني لأرجو ممن يسَّر لي جمع هذا الكتاب وتأليفه كما يسَّر لي تقسيمه وتصنيفه أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم نافعاً لمن شاء الله تعالى من عباده، هادياً لهم إلى الصراط المستقيم، وأن يجعلني به وسائر ما ألفته وأمليته من معلِّمي الخير أستنير به قبري، وأنتفع به يوم حشري. فقد روى الإِمام أحمد في "الزهد" عن كعب رحمه الله تعالى قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام أن علِّم الخير وتعلمه؛ فإني منور
لمعلِّم الخير ومتعلِّمه في قبورهم حتى لا يستوحشوا لمكانهم (¬1). وأنا العبد الفقير إلى الرب الغني الكبير الماثل بين يديه الضارع إليه، داعياً بما رواه ابن أبي شيبة، والنسائي، والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بهؤلاء الدعوات: "اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الغَيْبَ وَقُدْرتكَ عَلَىْ الخَلْقِ: أَحْيِنيْ مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي. اللهُمَّ أَسْأَلكَ خَشْيتكَ في الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْألكَ كَلِمَةَ الحقِّ في الرِّضَى وَالغَضَبِ، وَأَسْألكَ القصْدَ فِيْ الفَقْرِ وَالغِنَى، وَأَسْألكَ نَعِيْمًا لاَ يَبِيْدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تنقَطِعُ، وَأَسْألكَ الرِّضَا بَعْدَ القضَاءِ، وَأَسْألكَ بَرْدَ العَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْألكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَىْ وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلىْ لِقَائِكَ فِيْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. اللَّهُمَّ زَيِّنَا بِزِيْنَةِ الإيْمَانِ، وَاجْعَلْنَا هَادِيْنَ مُهْتَدِيْنَ" (¬2). وروى البخاري -وهو آخر حديث في "صحيحه"- وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَلِمَتَانِ ¬
حَبِيْبَتَانِ إِلَىْ الرَّحْمَنِ، خَفِيْفَتَانِ عَلَىْ اللّسَانِ، ثَقِيْلَتَانِ فِيْ المِيْزَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْد، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيْمِ" (¬1). وروى النسائي، والطبراني -ورجالهما رجال "الصحيح" (¬2) - والحاكم -وقال: صحيح الإسناد- والضياء في "المختارة" عن جبير ابن مطعم رضي الله تعالى عنه: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدهِ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأتوْبُ إِلَيْكَ، فَقَالَهَا فِيْ مَجْلِسِ ذِكْرِ كَانَتْ كَالطَّابَعِ يُطْبَعُ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَهَا فِيْ مَجْلَسِ لَهْوٍ كَانَت كَفَّارَةً لَه" (¬3). وروى أبو داود، وابن حبان في "صحيحه" عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما - موقوفًا عليه -وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -مرفوعًا- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَلِمَاتٌ لا يَتَكَلَّمُ بِهِنَّ أَحَدٌ فِيْ مَجْلِسِ لَهْو، أَوْ مَجْلِسِ بَاطِلٍ عِنْدَ قِيَامِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهِنَّ عَنْهُ، وَلاَ يَقُوْلُهُنَّ فِيْ مَجْلِسِ خَيْرٍ وَمَجْلِسِ ذِكْرِ إِلاَ خَتَمَ اللهُ لَهُ بِهِنَّ كَمَا يَخْتِمُ بالخَاتَمِ عَلَىْ الصَّحِيْفَةِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وَأتوْبُ إِلَيْكَ" (¬4). ¬
وروى أبو نعيم، ومحي السنة البغوي في "تفسيره" عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: من أحبَّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن الشعبي رحمه الله تعالى -مرسلاً- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالمِكْيَالِ الأَوْفَى مِنَ الأَجْرِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَلْيَقُلْ فِيْ آخِرِ مَجْلِسِهِ حِيْنَ يُرِيْدُ أَنْ يَقُوْمَ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} " (¬2). وروى سعيد بن منصور في "الصلاة"، وأبو يعلى عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان إذا أراد يسلم من صلاته قال: " {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} " (¬3). ¬
ورواه الخطيب من حديثه، ولفظه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بعد أن يسلم من صلاته: " {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] " (¬1). قال مؤلفه العبد الفقير إلى عفو ربه القدير: هذا آخر كتاب "حُسْنُ التَّنبُّهِ لِما وَرَدَ في التَّشَبُّهِ"؛ مَنَّ الله تعالى بإتمامه، ولم آلُ جهدًا في جمعه وإحكامه، صحبني فيه من الله تعالى التوفيق، فسلكت فيه من الطريق أوضح طريق، واللهَ المسؤول أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، موجبًا للفوز بجنات النعيم. وقد شرعت في تأليفه على رأس الألف، وكمل تبييضه قبل العشر، إلا أني زدت فيه بعد ذلك أشياء مهمة، وجَرَّدتُ لتحريره مَطيَّة العزم والهمَّة، فتمَّ في هذه النسخة المباركة في سحر الليلة التي يُسْفِر صباحها عن يوم الأربعاء سادس عشري جمادى الآخرة، سنة ثمان وثلاثين وألف، أحسن الله ختامها بمنِّه (¬2). • • • ¬