حسن البنا الرجل والفكرة

محمد عبد الله السمان

حسن البنا، الرجل والفكرة: الطبعة الأولى 1398 هـ - 1978 م دار الاعتصام

مقدمة

مقدمة: فى أوائل فبراير سنة 1950 جلست مع الأخ حسن عاشور نفكر في أمر, لم نظن معا أنه كان يخطر علي بال أحد .. فالذين يتوقع منهم أن يفكروا في مثل هذا الأمر بعضهم لهم ما يشغلهم خلف الأسوار الوهمية في طور سيناء , أن خلف الأسوار الحقيقية في معظم سجون مصر , والبعض الآخر لهم ما يشغلهم خارج الأسوار من الضغوط الإرهابية عليهم تلك التي كان يباشرها القلم السياسي من أروقة السفارة البريطانية بالقاهرة ولم تدع لإنسان أن يفكر،

كما لم تدع لأعصابه أن تحتمل مجرد التفكير في أى من الأمور .... ولو كان أمر معاشه فما بالك بأمر سوف يجر كثيرا من المتاعب التي قد لا يحتملها بشر ... قال الأخ حسن عاشور: بقيت أيام معدودة على الذكري الأولي للإمام الشهيد. فهل ستمر في صمت؟ أو على الأكثر سوف تختفي بها مشاعرنا وأحاسيسنا ليس أكثر؟ وقلت له: عجيب أن تفكر فيما يشغل تفكيري منذ أيام ولكن ما الحيلة؟ إ الذين هم الآن خلف االأسلاك في الطور أو في " الهايكستب " والذين هم خلف

الأسوار في بعض سجون مصر لابد أن يحتفلوا بالذكري بوسائلهم الخاصة ولن يعدموا وسيلة أو أكثر , إنهم لن يخشوا شيئا ولن تستطيع دولة القلم السياسي أن تفعل بهم أكثر مما فعلت .. نحن لم ننس بعد أنهم أحسن منا حالا .. فهم خلف الأسلاك أو الأسوار يملكون حرية الكلمة فيما بينهما وإن كانوا لا يملكون حرية الحركة إلا في أضيق الحدود ... أما نحن فلا نملك حرية الكلمة , ولا حرية الحركة ألسنتنا معقودة وخطواتنا مرصودة بالرغم من أننا خارج الأسلاك والأسوار .. !! وقال الأخ حسن عاشور: المهم ... لا بد من عمل .. صحيح أن الأحكام العرفية

قائمة على قدم وساق .. والإرهاب مسلط - لا علي الألسنة والأبدان فحسب - بل على القلوب والعقول والمدارك ... وأعجب من هذا كله , أن الحراسة المشددة على قبر الإمام الشهيد لم ترفع ولم تخفف .. وقلت: أنت تعلم أنني لا أملك إلا إيماني وقلمي .. إيماني يشجعني على أن أكتب شيئا ولا أحسب قلمي إلا مستعدا لأن يستجيب لإيماني .. وقال الأخ حسن عاشور: دع الباقي على الله ثم على .. وفي يوم الذكري كان باعة الصحف يوزعون على الناس صورة للإمام الشهيد كتب عليها بضعة سطور،

قيل فيها كل شئ وقد حرصت على أن أوقع بإسمي لا رغبة في حب الظهور ولا إرضاء لشهوة غرور ولكن لعاملين اقتنعت بهما: العامل الأول: الحيلولة دون أن ينشط القلم السياسي ويلقي الشبهات على عدد من الإخوان إلا تتجه أنظاره إلا إلى شخصي ... وفي التحقيق معي أستطيع أن أنفي عن نفسي أي صلة بالصورة إذ ليس من المعقول أن أوقع على كلام , فيه اتهام صريح للقصر بأنه هو الذي دبر اغتيال الإمام الشهيد .. لعامل الآخر: التوقع من أن تأثير الكلام الممهور بالتوقيع أكثر تأثيرا لدي الناس من الكلام المجهول التوقيع وإن كان هذا التوقع لا ينتج ثماره في كل الأحوال ..

وهذا بالإضافة إلى أننا كنا حريصين على أن توزع النشرة على جمهور الناس, عن طريق باعة الصحف والمكتبات بسعر زهيد للغاية ولو أن النشرة جاءت بلا توقيع لأحجم معظم الموزعين عن عرضها وبيعها .. * * * هذه الخواطر ... مضي عليها أكثر من ثمانية وعشرين عاما وقد قفزت إلى الذاكرة منذ أسابيع معدودة عندما بدأت مجلة الاعتصام في نشر سلسلة أحاديث الثلاثاء للإمام الشهيد من إعداد شيخنا العالم الجليل الوفي , فضيلة الشيخ أحمد عيسى عاشور , والذي كان قد سجلها بقلمه درسا درسا من فم الإمام الشهيد ..

وهذا ما جعلني أتحمس لتأليف كتاب موجز تحية لذكري الرجل والفكرة الرجل الذي ضحي بدمائه من أجل الفكرة .. والفكرة التي استولت على مشاعر الألوف المؤلفة من شباب المسلمين وكهولهم والبراعم المسلمة التي تفتحت عليها .. وصمدت أمام هذه السنوات الطوال العجاف بكل ما حملت من مخططات الاستعمار وأداوته من الأنظمة الوطنية شكلا العميلة حقيقة والمسلمة لفظا والمتمردة على الإسلام جوهرا ومعني .. ولم يكن عجيبًا ان يقول الأخ الكريم حسن عاشور , عندما أبلغته ما أزمت عليه:" إن هذه الفكرة " راودتني - علم الله - منذ أيام حتى

لقد تحدثت بشأنها مع بعض الإخوة الأفاضل .. فعلى بركة الله .. " وقلت: أجل على بركة الله .. وبعون الله .. وبتوفيق من الله عزوجل .. * * * وبعد: فليس هذا الكتيب الصغير الحجم تاريخا للإمام الشهيد ولا تقويما لفكرة " الإخوان المسلمون " التي قامت على عاتقه منذ لحظتها الأولي وعلى عواتق الخلصاء من المسهمين في تأسيسها وإرساء قواعدها الذين منهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ... وإنما هو - أى هذا الكتيب - بمثابة قبص

من الخواطر ليسلط بصيصا مشعا من الضوء على أفكار الشباب المسلم الذي لم يشأ له حظه أن يري الرجل أو يلتقي به أو يستمع إليه ولا أن يعيش مع الفكرة التي دعا إليها الرجل يوم كانت ملء السمع والبصر في الآفاق الإسلامية القريبة والبعيدة وإنما قدر لهذا الشباب المسلم أن يعايش الفكرة بوجدانه وأحاسيسه ومشاعره بعد أن تلقت أفدح الضربات وأصبحت لا جزءا من المحنة ... وإنما المحنة مجسدة فيها - بل بعد أن أصبحت - ولا تزال - قذي في أعين الأنظمة في ديار المسلمين قاطبة تخافها وتخوف منها وترهبها وترهب بها وبعد أصبحت - ولا تزال - مصدر فزع في نفوس الاستعمار بشتي ألوانه .. ومصدر

قلق في أدمغة القوي المعادية للإسلام بكل مذاهبها واتجاهاتها ... إذن .. حسبنا من هذه العجالة أن يعرف شباب الإسلام اليوم شيئا عن الرجل والفكرة والرجل هو الإمام الشهيد الأعزل " حسن البنا " والفكرة هي " الإخوان المسلمون ". محمد عبد الله السمان

الرجل والفكرة

الرَّجُلُ وَالفِكْرَةُ: يقول فضيلة الشيخ أحمد عيسى عاشور في تقديمه لحديث الثلاثاء الذي بدأت " الاعتصام " بنشره منذ قريب: « .. كان الناس يرون حسن البنا غريبًا في محيط الناس .. بل وفي محيط الزعماء .. بطابعه وطبيعته .. فقد صنع تاريخ وحول مجرى الطريق .. فلما مات ... كان غريبًا غاية الغرابة في موته ... فلم يُصَلِّ عليه في المسجد غير والده ... ولم يمش خلف نعشه أحد من هؤلاء الأتباع الذين كانوا يملأون الدنيا .. لسبب بسيط .. هو أنهم كانوا في هذا الوقت يملأون السجون. وإذا كان الإمام الشهيد حسن البنا قد مات .. فإن فكره لن يموت .. وتأثيره باق وممتد .. يتمثل في أجيال صنعها على مائدة الإسلام بأسلوب العصر .. ويتمثل في هذا المد العالمي للحركة الإسلامية التي وضع - رَحِمَهُ اللهُ - بذورها الأولى .. وحسن البنا بعد كل هذا ... هو مجدد الإسلام في القرن العشرين .. ».

أمام هذه الكلمات الطيبات التي تبعث على الإحساس بصدقها وإخلاصها فقد عبرت عن الرجل والفكرة في إيجاز بليغ حتي لا يكاد الإنسان يجد بعدها استجابة من القلم في أن يكتب أكثر منها ... ليس هناك أدني شك في أن الإمام الشهيد حسن البنا عاش غريبا في محيط الناس هؤلاء الناس ألفوا حياة الدعوة , والاستسلام للواقع مع مهانته ومرارته وأنسوا إلى السلبية المطلقة واطمأنوا بها وركنوا إليها ولم يعودوا يهتمون إلا بمشكلاتهم الخاصة ولم يكن في استطاعتهم أن يتحملوا إلا تبعات تخصهم وحدهم دون سواهم .. أما الإسلام فلا شأن لهم به إلا في إطار أداء شعائره الخمس ما استطاعوا إليها سبيلا .. وبالنسبة لمن كان فيه بقية من دين .. أو رمق من إيمان .. وأما قضايا المسلمين .. فلا يكاد يحس بها أحد من هؤلاء الناس .. الأقليات المسلمة المضطهدة الضائعة .. والأكثريات المسلمة المضيعة المغلوبة على أمرها .. هؤلاء وأولئك على أرفف النسيان , وفي زوايا الإهمال .. الأقليات المضطهدة الضائعة تكافح اليائس وتناضل نضال المتبرم متواضعة في سلاحها المادي .. ضحلة في سلاحها الروحي .. والأكثريات المضيعة المغلوبة على أمرها فليس لديها أدني تفكير في النضال ولا شروي نقير من العزم على الكفاح .. أصبحت فلسفتها في الحياة فلسفة العاجز ليس في الإمكان أبدع مما كان ..

وأيضا لقد عاش الإمام الشهيد حسن البنا غريبا في محيط الزعماء ... فهو من ناحية أبت نفسه هذه الزعامات التقليدية التي هي أوهن من بيت العنكبوت ون ناحية أخري أبي عليه هؤلاء الزعماء أن يكون واحدا منهم لأنه سيكون بمثابة كاشف لعوراتهم وسوءاتهم .. إن الزعامة عندهم فن واحتراف ومضاربة في " بورصة " الأوراق السياسية .. والزعامة عنده تقوم مقام المربي الذي يربي الروح والعقل ويصقل الوجدان والنفس .. لهذا وذاك: عاش الإمام الشهيد حسن البنا غريبا في محيط الناس .. الذين كانوا يغطون في سبات عميق لا يكادون يفيقون منه ويستمرئون غفلة عميقة لا يكادون ينتهبون منها وفي سلبية مطلقة اطمأنوا بها وركنوا إليها واستسلموا لها .. فإذا بالرجل يصيح فيهم في فمه نفير وفي يده مصباح وفي صدره كتاب الله , وفي وجدانه الإسلام في صبغته الأصيلة .. لقد هتف بكلمات موجزة سهلة إلى قلوب الناس ووجدانهم: الله غايتنا .. والرسول زعيمنا .. والقرآن دستورنا .. والجهاد طريقنا ... الموت في سبيل الله أسمي أمانينا .. الله أكبر ولله الحمد وهتف بكلمات موجزة سهلة إلى عقول الناس وأذهانهم: الإسلام: دين ودولة ... مصحف وسيف ..

وعاش الإمام الشهيد حسن البنا غريبا في محيط الزعماء .. الذين كانوا يجيدون احتراف المثيل ولا يبالون صدق الزعامة .. ويعتزون باسم الزعامة ولا يكترثون لجوهرها لأن جوهر الزعامة الأصيلة أن يعطي الزعيم الناس أضعاف ما يأخذ منهم وأن يضفي عليهم من عقله ووجدانه أضعاف ما يضفون عليه من الثقة به .. فالزعيم الحق هو الذي يضع للناس مبادئ ويصوغ لهذه المبادئ مناهج ثم يحول هذه المناهج إلى خطة عمل يقودها بنفسه في مواقع العمل .. وليس الذي كل ما يقدمه للناس خطبة عصماء ,وشعارات جوفاء ويتلقي منهم هتافات عالية تشق عنان السماء وتصفيق يخترق أجواز الفضاء ... لذلك رفض الإمام الشهيد حسن البنا أن يكون زعيما على هذه الشاكلة ... رفض أن يهتف به أو يصفق له ... رفض أن يكون قديسا يضطلع بأعباء الكهنوت السياسي .. وآثر أن يعيش غريبا في محيط الزعماء .. !! * * * كان حسن البنا عبقرية فذة , وبصيرة نافذة ... تمثلت فيه شجاعة نادرة , وحكمة بالغة أيقظ الناس وأضاء لهم الطريق إلى الإسلام الصحيح .. الذى رد إليه اعتباره بعد أن صحح مفاهيمه .. كان كالباحث عن

الحقيقة في وضح النهار ومعه مصباحه .. لم تعيه الحيلة .. ولم يضق بخصوم فكرته من المسلمين شكلا أو من أعداء الإسلام حقيقة ... وإنما هم الذين ضاقوا به وبفكرته وتعاونوا معا على إنهاء حياته وتوهموا أنهم سوف يضعون نهاية لفكرته .. كانوا واثقين من أن الرجل لا يخشي مواجهة الموت , ومن أنهم هم الذين يخشون أن يواجهوه بالموت .. لذلك قرروا أن يغتالوه ليلا , وهم يعلمون أنه أعزل من السلاح .. ولقي الرجل ربه شهيدًا .. وخاب ظنهم فى اغتيال فكرته .. جهلوا أن الفكرة لا تغتال بسلاح مادي لأنها أقوي من المادة .. .. ولا بسلاح إرهابي .. لأنها فوق مستوي الإرهاب .. كل ما يستطيع أن يفعله السلاح بنوعية: المادي والإرهابي .. كل ما يستطيع أن يفعله السلاح بنوعية: المادي والإرهابي , أن يشل حركة أتباعها ويعقد ألسنتهم .. ولكن لا يستطيع - مهما تفنن في أساليبه - أن يتمكن من القلوب والوجدانات والمشاعر التي هي المكان الطبيعي للفكرة القائمة على الإيمان بالله والثقة فيه , والاطمئنان إليه .. كان بدهيا أن يستجيب الشباب المسلم المثقف للرجل والفكرة الشباب الذي لديه استعداد لأن يكون مسلما: حقيقة وجوهرا ومعني ولديه استعداد أكبر لأن يتحمل تبعات ما هو مقدم عليه وأن يحمل

على عواتقه أعباء المواجهة للفكرة , من مخططات القوي الصليبية والصهيونية والماركسية وأدواتها وعملائها من الأنظمة الداخلية الحاكمة بأمرها والقابضة بأيد من فولاذ على نواصي الأمور ومقاليد الأشياء , ومكونات وسائل الإعلام الهابط .. التي تملكها لا تقدس الكلمة ولا تعرف معني لقداستها .. ومقومات الغوغاء التي تعدهم للمناسبات تحت أسماء مسميات لها إلا في أذهان الأنظمة وتحمل بأفواهها شعارات لا مدلول لها إلا في أدمغة الأنظمة .. وكل مؤهلات هؤلاء الغوغاء: حناجر قوية مستعدة للهتاف في أى وقت ... وأكف فتية مؤهلة للتصفيق .. وقذف الحجارة والطوب وأن تكون رهن الإشارة في أية لحظة من ليل أو نهار .. وكان بدهيا أن يعتبر نفسه - وسط هذا الضجيج من الاحتراف السياسي وتجارة الزعامات - كالفيلسوف الباحث عن الحقيقة في وضح النهار وفي يده مصباح .. وحتي الحقيقة ذاتها لها خصوم وأعداء ... لها مناوشون ومناوئون ... صحيح أن الحقيقة لابد أن يكون لها أتباع يعتقدونها ويعتنقون مبادئها , يذبون عنها ويبذلون دماءهم من أجلها .. إلا أن هؤلاء الإتباع لابد أن يكونوا من القلة بمكان .. هم كالشعرة البيضاء في جلد الثورة الأسود .. هم كالبصير وسط جمع وحشود متلاطمة من العمي بصائر وأبصارا ..

وهذه سنة الله في الكون تعامل على أساسها أنبياء الله ورسله والمصلحون بعدهم .. وبالرغم من هذا فإن سنة الله في الكون قد اقتضت بعدهم .. وبالرغم من هذا فإن سنة الله في الكون قد اقتضت أيضا: أن الحقيقة خالدة لا يدركها الموت ولا يمسها الوهن ولا يلحقها الهرم .. وبمقتضي هذه السنة الإلهية أدي الرسل والأنبياء والهداة والمصلحون رسالاتهم لم يصبهم يأس ولم يخالطهم ملل .. * * * وبعد .. فما أكثر ما هوجم الرجل والفكرة معا .. لكن هذا الهجوم انبثق ممن لهم مصلحة في ألا تقوم للفكرة قائمة , وألا تعيش للرجل ذكري .. ونحن نلتمس بعض العذر لمن ظلوا يهاجمون ويناوئن .. والفكرة قائمة لها ألسنة وأقلام يملكون وسائل الدفاع عنها .. أما الين دأوبا على الهجوم والمناوءة والفكرة تعيش محنتها في أعصب الظروف وأقساها فأجدر بنا أن نسقطهم من الحساب , وأجدر بهم أن يعتبروا أنفسهم من سقط المتاع ,وأما الذين الذين يكتبون التاريخ من عل ... لأنهم هم القوة .. والقوة هم .. يقولن فلا يناقش لهم قول , ويفترون فيصفق لافترائهم , ويدعون فيهتف لادعائهم .. ولا مجال لأحد أن يناقش ما يقولون .. ولا أن يجادل فيما يفترون .. ولا أن يشكك فيما يدعون .. فهؤلاء ندعهم وحسابهم على الله .. لأنك لا نملك إزاء من

تخلي على الضمير وأعطي ظهره لأخلاق الرجال .. معتزا بقوته فخورا بسلطانه وسلطاته .. إلا أن تدعه وشأنه , وحسابه على الله .. ليفرح الذين لا يزالون يغمزون الرجل والفكرة ما شاء لهم أن يفرحوا .. فالرجل لم ينته باغتياله والفكرة لم تمت باعتقالها وقد اندثر كل افتراء عليهما .. وسيظل يندثر كل تجن عليهما وسوف يبقي الرجل وتبقي الفكرة .. ما بقيت السموات والأرض .. ! * * *

الرجل في الميزان

الرَّجُلُ فِي المِيزَانِ: • عبقرية فذة .. وبصيرة نافذة. • شجاعة عَلِيٍّ .. وحكمة معاوية. • مؤذن .. ومصباح

عبقرية فذة .. وبصيرة نافذة

عَبْقَرِيَّةٌ فَذَّةٌ .. وَبَصِيرَةٌ نَافِذَةٌ: العبقرية وحدها لا تكفي ولو كانت فذة .. هذا لمن يتصدون للإصلاح .. بل لابد من البصيرة النافذة .. فالعبقرية نتائج عقل ناضج , وفكر ثاقب , وذهن صاف, وأفق واسع ثم قدرة على الصياغة والتعبير .. ولكن أية قيمة لهذا النتاج إذ هو لم يقدم العطاء للناس؟ أعني إذا هم لم يتحول إلى منهج وخطة عمل ليعايش الناس ويتجاوب الناس معه .. وعندئذ لابد من البصيرة النفاذة لتقود المسار .. كان كل من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب عبقريا في سياسة الأمة وكل من عمرو بن العاص , وخالد بن الوليد وأبي عبيدة ابن الجراح وسعيد بن ابي وقاص .. عبقريا في سياسة المعارك .. ولكن نجاح هؤلاء جميعا في سياستهم - رضي الله عنهم - لم يقم على العبقرية الفذة وحدها بل لقد رافقتها البصيرة النافذة .. إنه لمن قبيل تحصيل الحاصل أن تقول: إن حسن البنا كان يجمع بين العبقرية الفذة والبصيرة النافذة. والعبقرية والبصيرة إنما

تقدران العقل والسلوك والثمرة والعمل الذي قام به حسن البنا يشهد له بعبقرية فذة وبصيرة نافذة ,ومع شئ من التواضع ... وأقول: مع شئ من التواضع ... لأن ألفاظ اللغة لا تسعفنا بصفات أكبر وأجل وأعمق من صفتي: العبقرية الفذة والبصيرة النافذة .. وقد يتوهم متوهم: أن حسن البنا لم يفعل أكثر من أنه دعا الناس إلى الخير فاستجاب له البعض فكون من هذا البعض جماعة , وما أكثر الدعاة إلى اله الذين ألفوا جماعات دينية كانت ملء السمع والبصر ووضعوا لها مبادئ وشعارات وصاغوا لها أفكارا ولوائح سلوك .. مثل هذا المتوهم يجب أن نفسح صدورنا لما يقول وحسبنا منه أن نعتبره متوهما وحسبه منا أن يكون كذلك في نظرنا وهذا أو ذاك لا يحول دون أن نناقش هذا التوهم في هدوء .. نحن نعترف - بادئ ذي بدء - بأنه على مسار التاريخ القديم والمعاصر. ظهر زعماء دينيون وجماعات دينية لا حصر لها. ولكن يجب أن يكون في الحسبان أن هناك فرقا شاسعا بين الرجل حسن البنا والفكرة: جماعة الإخوان من جانب وبين الزعماء الدينيين وجماعاتهم من جانب آخر.

فأولئك الزعماء الدينيون - إلا أقل القليل منهم - لا يتمتعوا بما كان يتمتع به الرجل من عبقرية فذة وبصيرة نافذة بل حتي هذا القليل منهم كانت له مواهب محدودة وعزائم متواضعة وأهداف أكثر تواضعا .. أما الجماعات الدينية فلم يكن الهدف منها إلا أن تشغل حَيِّزًا من الفراغ .. بل إن معظمها قام من فراغ واستقر أيضًا في فراغ كان كل ما تسعي إليه: هو أن يعود الناس إلى الإسلام .. لكنه الإسلام: الشكل لا الحقيقة والغرض لا الجوهر واللفظ لا المعنى وبمعنى آخر أدق: هو خلق جيل متدين من الناس .. لكن ما هو مفهوم التدين في نظر هؤلاء الناس؟ إنه أداء الشعائر ما استطاعوا إلى أدائها سبيلاً والتخلق الذاتي بالأخلاق الإسلامية جهد استطاعتهم. أما العمل على بعث الوجود الإسلامي حتى يسترد الإسلام اعتباره .. أما العمل على تقديم الفكر الإسلامي في صياغة جديدة مقنعة .. أما العمل على إثارة قضايا الإسلام وقضايا الشعوب المسلمة ... أما مواجهة التحديات التي تتحدى الإسلام: عقيدة وفكرًا , ونظامًا وتراثا سواء من داخلنا أم من خارجنا .. أم التصدي للأنظمة التي تسعي جاهدة على تقليص ظل الإسلام وحصره في أضيق الحدود ..

كل هذه المسائل لم تكن تشغل تفكير تلك الجماعات , إلا أقل القليل منها .. واقل القليل من هذه المعاني أيضا .. ولنعد القليل من هذه المعاني أيضا .. * * * ولنعد من حيث بدأنا: لقد تجلت عبقرية حسن البنا في أنه استطاع أن يعرض الإسلام في صياغة جديدة جذابة مرنة سهلة مقنعة أعانه على ذلك في مجال الصياغة عقلية ناضجة وفكر ثاقب وأفق واسع وأعانه على ذلك أيضا في مجال الإقناع قدرته الفائقة على التعبير .. وقدرته الفائقة على التأثير .. ثم قدرته الفائقة على العطاء الإسلامي السخي .. الذي ينفذ إلى القلوب والمشاعر الوجدانات .. قبل أن يستولي على الألباب والأذهان .. يقول العلامة أبو الحسن الندوي في رسالته: " أريد أن أتحدث إلى الإخوان " وهو بصدد حديثه عن شخصية حسن البنا: «كانت شخصية فريدة يظهر من حياة صاحبها ونشأته أنها قد أعدت لهذا الأمر العظيم إعدادًا كان يجمع بين الفهم الواسع للإسلام والغيرة الملتهبة عليه والنشاط الدائم والعمل المتواصل لإعلائه والخطابة الساحرة والشخصية الجذابة والنفوذ العميق في نفوس أصحابه وإخوانه أو بلفظه هو نفسه» الفهم الدقيق والإيمان

العميق والحب الوثيق .. «ولا بد لزعيم المسلم وقائد الدعوة الدينية أن يجمع بين هذه الصفات .. ». كذلك تجلت بصيرة حسن البنا النافذة في أنه استطاع أن يقيم بناء جديد للدعوة الإسلامية وأن يقدم صياغة جديدة للفكر الإسلامي واستطاع أن يرد للمفاهيم الإسلامية الصحيحة اعتبارها بعد أن ظلت آمادا طوالا غائبة عن أذهان المسلمين البسطاء قابعة في أدمغة القلة من المسلمين المثقفين , لا تكاد تغادرها إلى ألسنتهم حتي تعود إليها كذلك استطاع أن يحول المعاني الإسلامية إلى أفعال بعد أن ظلت آمادا طويلة مجرد ألفاظ تقال من فوق المنابر , أو حروف تدون في الصحف أو الكتب .. وتستطيع أن نقول في إيجاز: إن حسن البنا بعث الحياة والحركة في الإسلام من جديد .. بعد أن ظل آمادا طوالا متواريا عن الشعوب المسلمة والشعوب المسلمة نيام عنه ..

وفي قوة أعصابه، ورباطة جأشه، وثبات جنانه، وفى طاقة احتماله في أحلك الأوقات .. صدر قرار حل الإخوان في الثامن من ديسمبر عام 1948، أصدر القرار الإنجليز، ونفذه النقراشى رئيس الوزراء ووزير الداخلية، ومصر يومئذٍ في معركة مع اليهود في فلسطين. وشباب الإخوان ألوف يحملون السلاح ويحاربون جنبًا إلى جنب مع الجيوش العربية ومن بينها جيش مصر .. وذهب بعض الشباب الذين لم يصدر قرار باعتقالهم إلى المرشد العام حسن البنا، ليستأذنوه في المقاومة حسب الطاقة .. فماذا كان منه؟ لقد حذرهم مغبة هذا الأمر، وأوضح لهم ببصيرته النافذة: أن الإنجليز هم أصحاب القرار بحل جماعة الإخوان، وما النقراشى إلا أداة طيعة في يد الإنجليز، الذين لم يصدروا قرار الحل إلا على أمل أن تحدث مواجهة بين الإخوان والحكومة، ويغتنم الإنجليز الفرصة للتدخل المباشر في شؤون البلاد، وتتجدد مأساة حركة عرابي .. وذكرهم المرشد بالقصة المشهورة عن نبي الله سليمان الحكيم، حين اختصمت إليه امرأتان على طفل وليد .. وادعت كلتاهما بنوته. . فحكم بشطره نصفين بينهما، وبينما وافقت المرأة التي لم

تلد على قسمته، عز ذلك على الأم الحقيقية، وآلمها قتل فلذة كبدها، فتنازلت عن نصيبها فيه، لقاء أن يظل الطفل متمتعًا بحياته .. ثم قال لهم المرشد العام: «إننا نمثل نفس الدور مع هؤلاء الحكام .. ونحن أحرص منهم على مستقبل هذا الوطن وحرمته .. فتحملوا المحنة ومصائبها .. وأسلموا أكتافهم للسعديين ليقتلوا ويشردوا كيف شاءوا، حرصًا على مستقبل وطنكم، وإبقاء على وحدته واستقلاله .. ». أية بصيرة أنفذ من هذه البصيرة؟ أكانت هذه البصيرة النافذة تسمح للمسلم أن يقاتل أخاه المسلم؟ لو أن جنود الإنجليز كانوا هم الذين يتولون الرد على مقاومة الإخوان، لتغير الوضع، ولما شجعهم على الاستسلام .. لكن أن يقاتل المسلم أخاه المسلم .. فلا .. وألف لا .. أليس أفراد قوات البوليس مسلمين ومصريين معًا؟ والمجال لا يسمح على الإطلاق بالمقارنة: أذكر أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر خطب إثر حركة الانفصال - انفصال سوريا عن مصر - عام 1961، وكان مما جاء على لسانه: «كان في استطاعتي أن أبعث بقوات إلى سوريا لتأديب الانفصاليين .. لكنني قلت: لن أسمح للعربي أن يشهر السلاح في وجه العربي» وظل التصفيق لهذه الكلمات - تصفيق السذج المستعمين -

دقائق عديدة، ودوت الهتافات بحياة الزعيم العربي الأصيل .. وبغض النظر عما حدث - حيث كان الزعيم " الوطني الصادق " أرسل مئات من جنود المظلات هبطوا في حلب، وقبضت على جميعهم قوات الجيش السوري .. بغض النظر عن هذا، فلم تمض شهور معدودة حتى كان الزعيم " الوطني الصادق " يبعث بجيش مصري عربي إلى دولة اليمن ليقاتل شعبًا عربيًا هناك، أعزل من السلاح، دون ذنب جناه، ويفعل به ما هو شبيه بما فعله اليهود بعرب فلسطين في اللد والرملة ودير ياسين .. الحق أن الإنسان يقف مدهوشًا أمام بصيرة الرجل النافذة .. هذه البصيرة التي هيأته للفهم العميق للأمور .. عندما صدر قرار الحل كان شباب الإخوان - كما سبق أن قلت - في أرض المعركة بفلسطين .. وقدر الرجل أن قرار الحل قد يثير ثائرة المجاهدين .. وليس في استطاعته أن يكتم الأمر عنهم، وإذاعات الدنيا قد أذاعت الخبر في شماتة، ولا سيما إذاعات الغرب الصليبي، وإذاعات الشرق الشيوعي .. وبالرغم من اطمئنان الرجل إلى إيمان الشباب المجاهد، الذي طالما هتف في أعماقه: الجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا .. فهذا الشباب سوف يكون فوق مستوى المحنة .. وهذه المحنة مهما بلغت ضراوتها، لن تفت في عزائمهم، ولن تشغلهم.

عن المهمة التي جاءوا من أجلها، وهي أشرف مهمة .. بالرغم من هذا كله، بعث برسالة إلى المجاهدين في فلسطين يقول فيها: «إِنَّهُ لاَ شَأْنَ لِلْمُتَطَوِّعِينَ بِالحَوَادِثِ التِي تَجْرِي فِي مِصْرَ .. مَا دَامَ فِي فِلِسْطِينَ يَهُودِيٌّ وَاحِدٌ يُقَاتِلُ .. فَإِنَّ مُهِمَّتَهُمْ لَمْ تَنْتَهِ». * * * إن المقام لا يتسع لضرب الأمثلة .. وما أكثرها في حياة الرجل. والتي تجلت فيها عبقريته الفذة، وبصيرته النافذة، والتي لا يسع الإنسان حيالها إلا أن ينحني إجلالاً وتقديرًا لها .. وتبدو هذه العبقرية الفذة أكثر ما تبدو من خلال الشدائد التي تنوء بحملها الجبال الرواسي، والتي لا تطيقها إلا أعصاب من فولاذ .. بعد مصرع النقراشي في أواخر ديمسبر عام 1948، عرض الإمام الشهيد على حكومة إبراهيم عبد الهادي خليفة النقراشي في الحكم والإرهاب مَعًا، أن تعتقله، والحق أنه جدد العرض الذي سبق أن عرضه إثر حل الإخوان ليشارك في المحنة، ورفض عرضه في المرتين، وأيقن الرجل في المرة الأخيرة أن هناك أمرًا يدبر له، لا سيما وأن الغوغائيين هتفوا في تشييع جنازة النقراشي: رأس البنا برأس النقراشي .. وكذلك أيقن الرجل أن حكومة السعديين وعلى رأسها إبراهيم عبد الهادي لا تمت إلى المدنية بصلة، إن عقليتها تحولت

إلى عقلية تحت مستوى عقليات العصبيات الأسرية في أعماق الصعيد الأقصى، التي لا تقيم وزنًا - في مجال الثأر - للقانون، وإنما تقيم كل وزن لشريعة الغاب التي تعتقدها وتعتز باعتناقها لها .. في مثل هذه الظروف التي تتهدد حياته، وتتوعد دماءه، لم ينس الرجل مستقبل الدعوة، وفي ثبات إيمانه بقضاء الله وقدره، كتب وصيته إلى أحد أعضاء مكتب الإرشاد الذي استثنى وحده من الاعتقال دون سائر أعضاء المكتب، بل ولن يتوقع اعتقاله في المستقبل، فصهره العالم الأزهري الكبير عضو الهيئة السعدية الحاكمة، وعضو في نفس الوقت في البرلمان السعدي، هذه الوصية تلقى على عاتق العضو في مكتب الإرشاد مسؤولية الدعوة إذا نفذ قضاء الله في المرشد .. وسيظل مسؤولاً إلى أن يخرج الإخوان من المعتقلات ويختاروا مرشدًا لهم .. لا أظن أننا بحاجة إلى التعليق أو التعقيب .. * * * وبعد .. فلعل أحدًا يظن أننا نكتب عن الرجل من خلال عواطفنا .. والحق أننا لا نكتب إلا ونحن مجردون من هذه العواطف .. إن الرجل في ذمة التاريخ .. وليس في حاجة إلى إطرائه فضلاً عن الغلو فيه،

ثم إن ما عمله في حياته القصيرة يشهد له مما يغنيه عن الإطراء والغلو، بل يغنيه عن العواطف، وأمامنا رجل ليس مسلمًا وليس عربيًا ولا مصريًا، إنه الكاتب الأمريكي «روبير جاكسون» يقول في كتابه " حسن البنا .. الرجل القرآني ": «لفت نظري إلى هذا الرجل سمته البسيط، ومظهره العادي، وثقته التي لا حد لها بنفسه، وإيمانه العجيب بفكرته .. كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل علي الزعامة الشعبية، لا في مصر وحدها، بل في الشرق كله .. وسافرت من مصر بعد أن حصلت على تقارير وافية ضافية عن الرجل وتاريخه، وأهدافه وحياته، وقد قرأتها جميعًا وأخذت أقارن بينه وبين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد أحمد المهدي، والسيد السنوسي، ومحمد بن عبد الوهاب. فوصل بي البحث إلى أن الرجل قد أفاد من تجارب هؤلاء جميعًا، وأخذ خير ما عندهم، وأمكنه أن يتفادى ما وقعوا فيه من أخطاء .. ومن أمثلة ذلك أنه جمع بين وسيلتين متعارضتين، جرى على إحداهما الأفغاني وارتضي الأخرى محمد عبده. .. كان الأفغاني يرى الإصلاح عن طريق الحكم، ويراه محمد عبده عن طريق التربية .. وقد استطاع حسن البنا أن يدمج الوسيلتين مَعًا، وأن يأخذ بهما جميعًا، كما أنه وصل إلى ما لم يصلا إليه، وهو جمع

صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة إلى مذهب موحد، وهدف محدد». يقول هذا رجل أجنبي عن حسن البنا، وليس مما نقول نحن، وكل ما يمكن أن نعقب به، هو أن فكرة الإخوان لم تقتصر على المثقفين، بل استوعبت العامل البسيط والفلاح البسيط أيضًا. ووجد كلاهما في رحابها مجالاً للثقافة الإسلامية الأصيلة. إن كلمات الكاتب الأمريكي «روبير جاكسون» تؤكد أن حسن البنا كان ذا عبقرية فذة، وبصيرة نافذة، فإذا أضفنا إلى هاتين الخصيصتين، إيمانه وشجاعته وثقته في ربه، وجدنا أنفسنا أمام فلتة من فلتات التاريخ، قَلَّ أن يجود الزمان بمثلها. * * *

شجاعة علي .. وحكمة معاوية

شَجَاعَةُ عَلِيٍّ .. وَحِكْمَةُ مُعَاوِيَةَ: حدثنا الأخ الأستاذ محمد عبد الحميد من رجال التربية والتعليم، ومن الدعاة الأوائل في جماعة الإخوان، قال: «عندما التحقت بكلية الآداب جامعة القاهرة، فكرت في الانضمام إلى إحدى الجمعيات الدينية، ورأيت أن أستشير عالمًا جليلاً، ومفكرًا كبيرًا، وصديقًا لوالدي، إنه الشيخ طنطاوي جوهري، فقال لي: " عليك بالشيخ حسن البنا، فإنه فيه شجاعة علي، وحكمة معاوية "». إن الشيخ طنطاوي جوهري بفلسفته، قَوَّمَ الرجلَ بكلمتين موجزتين سهلتين: الشجاعة والحكمة، وكا مُوَفَّقًا كل التوفيق في تعبيره، وحين ربط بين الشجاعة والحكمة، فهما صفتان متلازمتان، وخصيصتان مترابطتان، لا غنى لكلتيهما عن الأخرى، وإلا فقدت أي منهما قيمتها، فالشجاعة بلا حكمة مثلاً قد تتحول إلى طيش أو تهور لا تحمد عقباه، والحكمة بلا شجاعة هي أيضًا بلا وجود يذكر، ولا يمكن أن تقوم لها قائمة، ما لم تكن هناك شجاعة تدفع بها إلى الوجود .. إلى الحياة.

وشجاعة حسن البنا ليست شجاعة جسدية، مما يحتاج إلى سواعد مفتولة وعضلات قوية، بل هي شجاعة من طراز آخر، شجاعة مقوماتها: الإقدام، والقدرة على إعلان الحق وتعرية الباطل، ورفض المساومة على حساب المبدأ، ورفض التراجع عن معنى من المعاني آمن به، واطمأن قلبه إليه، وشجاعة حسن البنا مكانها الطبيعي هو القلب، والقلب هو محل الإيمان بالله، والثقة فيه، والاعتزاز به، والاطمئنان إليه. وحكمة حسن البنا كذلك من طراز آخر، ليست كحكمة الفلاسفة، لأن حكمة الفلاسفة مصدرها العقل وحده، فإذا نطق بها الفيلسوف انفصلت عنه، وتركها لتلامذته، يتأثرون بها، وينشرونها، وقد تعيش حكمة الفيلسوف آمادًا طوالاً، يحفظها البعض عن ظهر قلب، أما حكمة حسن البنا، فليس مصدرها العقل وحده، بل أيضًا الإيمان والوجدان، ولا يمكن أن تنفصل عنه، لأنها ليست - فحسب - جزءًا من إيمانه ووجدانه، بل جزءًا من كيانه كله، إنها حكمة ليست للتأمل، وليست مجرد كلمات تسحر الألباب، وتجتذب الانتباه، وإنما هي سلوك يطابق المنهج، وخطة عمل لتطبيق المبدأ، وفي إيجاز كانت حكمة حسن البنا حكمة تدب فيها الحركة والحياة. * * *

لسنا في حاجة إلى ضرب الأمثلة عن المواقف التي تشهد بشجاعة حسن البنا الأدبية، حسبنا أن نشير إلى أقل القليل من هذه المواقف. في بداية الربع الثاني من هذا القرن بدأت فكرة الإخوان تشق طريقها إلى حياة الناس، مُنْشِئُهَا ومؤسسها، ومفكرها، وواضع حجر الأساس في بنائها، هو حسن البنا. لكن كيف كانت ظروف مصر التي نبتت على أرضها فكرة الإخوان؟ الاحتلال الإنجليزي جاثم على صدر البلاد، ومنطقة القنال التي بدأت منطلقًا لفكرة الإخوان يتمركز في أرضها جنود الاحتلال، أي أن القاعدة البريطانية ألقت بكل ثقلها في منطقة الإسماعيلية، وفي نفس مدينة الإسماعيلية نبتت الفكرة، لكن من كان يحكم مصر على الحقيقة؟. نحن لم ننس أنه كان في مصر حكومة ينتمي أعضاؤها إلى مصر بحكم شهادات الميلاد، وأنه كان في مصر أحزاب سياسية تسعى إلى الحكم، وتتزلف إلى السفارة البريطانية «الحاكم الحقيقي لمصر» كي تحظى بالقرب من كراسي الحكم. أما الشعب المصري، فقد كانت الغالبية الساحقة منه تعيش في سلبية مطلقة، لا تدري عن السياسة شيئًا، ولا تباليها إِنْ شَرَّقَتْ أَوْ غَرَّبَتْ. أما القلة القليلة من الشعب فهي التي كانت تشتغل بالسياسة بمفهومها الحزبي وليس بمفهومها الوطني، لأن مصالحها ارتبطت بالأحزاب لا بالوطن.

ونحن لم ننس أن هذه الأحزاب السياسية كانت لعبة السفارة البريطانية، ولعبة القصر أيضًا، بل كان القصر نفسه لعبة السياسة البريطانية في مستوياتها العليا، وكذلك لم ننس أنه كان في مصر المخابرات البريطانية، وربيبها القلم السياسي، يعد على الناس أنفاسهم، فضلاً عن حركاتهم وسكناتهم. وفي إيجاز يمكن أن نقول: إن الشعب المصري كان يفتقد القيادة الصادقة وطنيتها، فالحزب الوطني - وهو يكاد يكون الحزب اليتيم المخلص لمصر - فقد ظله، لقد ألزم نفسه بشعار مثالي لا يصلح لدنيا السياسة، ولا سيما إذا كانت بريطانيا طرفًا فيها، هذا الشعار هو: «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء» وتماثل الحزب الوطني للاندثار دون أن يتحقق شعاره الذي كانت الحكمة تنقصه. والأزهر، هل كان في حالة تؤهله لقيادة الشعب المصري؟. الأزهر أدى دوره المشرف في الحملة الفرنسية على مصر، وهذا دوره يحسب له في تاريخه، ولم يظهر له وجود يذكر بعد ذلك إلا في ثورة عام 1919، وهي ثورة - مهما قيل فيها - مرتجلة لعبت الغوغائية فيها دورًا رئيسيًا، والفرق بين الموقفين للأزهر، هو أن الأزهر في مواجهة الحملة الفرنسية كان مستقل الإرادة، ودافعه العقيدة الدينية، بينما كان موقفه في ثورة عام 1919 بلا إرادة مستقلة له،

حركته السياسية لا العقيدة، بل إن الحزبية كان لها دور رئيسي في الحركة، ولم يكن عجيبًا في غوغائية هذه الثورة التي أسهم الاستعمار نفسه في التخطيط لها، أن يعانق الصليب الهلال، أو يعانق الهلال الصليب، وأن يغني لهذه التقدمية شاعر القطرين خليل مطران: الشَّيْخُ وَالقِسِّيسُ قِسِّيسَانِ * ... * ... * وَإِنْ تَشَأْ فَقُلْ هُمَا شَيْخَانِ وليس الوضع في مصر أحسن حالاً من الأوضاع في سائر بلاد المسلمين، وليس مثلي أن يصور هذه الأوضاع في دقة كما صورها داعية إسلامي كبير، ورحالة واسع الاطلاع والخبرة بأوضاع الإسلام والمسلمين، إنه العلامة أبو الحسن الندوي، ففي رسالته الموجزة " أريد أن أتحدث إلى الإخوان " يقول: «إن العالم الإسلامي حائر اليوم بين دين لا يسهل عليه العمل به، والقيام بمطالبه لعادات نشأ عليها، وحكومات أفسدته، وتعليم أزاغه، وشهوات لا تتفق مع عقيدته ورسالته، وبين جاهلية لا ينشرح لها صدره لإيمان لا تزال له بقية فيه، وقومية عجنت مع الاسلام وحضارة تخمرت مع الدين. إن العالم الاسلامي حائر بين شعوب مسلمة بسيطة في عقليتها ودينها، وحكومات داهية لم تنشرح صدور رجالها لهذا الدين ولم تطاوعهم

نفوسهم على العمل به، ولكنهم يصرون على أن يحكموا هذه الشعوب التى تؤمن بهذا الدين، ولا يرون حياتهم وشرفهم إلا في البقاء في الحكومة ولا يرون لهم محلاً في الحياة إلا الزعامة والحكومة ولا موضعًا في العالم إلا المجتمع الإسلامي الذي ولدوا ونشأوا فيه فالشعوب في تعب منهم وهم منها في بلاء وعناء. إن العالم الإسلامي حائر بين فطرته التي تنزعه إلى الدين وتاريخه الذي يدفعه إلى الإيمان والجهاد والكتاب الذي يقبل به إلى الآخرة ويبعث فى نفسه الثورة على المجتمع الفاسد، والحياة الزائفة، وبين التربية العصرية التى تزين له المادية وتطبعه على الجبن والضعف، والزعامة التي تفرض عليه الاتكال على الغير، والاعتماد على العدو والفرار من الزحف. إن العالم الإسلامي حائر بين شباب ثائر ودم فائر وذهن متوقد وأزهار تريد أن تتفتح وبين قيادة شائخة شائبة قد أفلست فى العقلية والحياة وحرمت الابتكار والإبداع والشجاعة والمغامرة!.» هذا ما قاله العلامة الندوي أواسط عام 1370 هـ أي منذ أكثر من ربع قرن، عن أوضاع العالم الإسلامي، ولا يمكن لإنسان - كائنًا من كان هذا الإنسان - أن يضطلع بأعباء فكرة جريئة تتصدى لكل هذه الأوضاع الغارقة إلى آذانها في الجاهلية الأولى التي يجب أن يحسب ألف حساب لا لقدراتها المادية فحسب، بل

أيضًا لمساندة الاستعمار والأنظمة الوطنية لها، لا سيما إذا كان يراد لهذه الفكرة أن تكون عالمية، وليست محلية قاصرة على مصر، وحتى لو قدر لها أن تكون محلية قاصرة على مصر، فإنها لا بد أن تنعكس على العالم الإسلامي لمركز مصر ذي الأهمية الخاصة. ومصر في ظروفها لم تكن أحسن حالاً من مكة إبان ظهور الدعوة الإسلامية. لا جدال في أن هذه الخواطر كلها وأكثر منها قد مرت بذهن حسن البنا، درسها وتعمق في دراستها، وأجهد فكره وذهنه وتقصى كل ذرة من أبعادها. ومع ذلك فقد أقدم على إبراز الفكرة إلى حيز الوجود، وهذه هي الشجاعة الأدبية ومصدرها الإيمان، ودافعها الاستعداد لكل تضحية. بعد مصرع النقراشي رئيس الحكومة، كانت كل الدلائل تشير إلى أن هناك أمورًا تدبر لحسن البنا، سحبت منه رخصة مسدسه، وانتزع منه المسدس، ورفض للمرة الثانية طلبه إلى الحكومة باعتقاله، وتركت له حرية التنقل بلا أدنى حراسة، ولمحته ظهر أحد الأيام في سيارة قريبًا من «قصر العيني» وتقدمت إلى السيارة لأحييه. ثم التقيت بشقيقه الضابط المرحوم عبد الباسط البنا في أحد الاجتماعات التي كنا نعقدها بعيدًا عن أعين الرقباء، وسلمته وريقة صغيرة ليحملها إلى الإمام الشهيد، قلت له فيها: «نرجو الإقلال جهد الاستطاعة

من الحركة والتنقل، ليست حياتكم ملكًا خاصًا بفضيلتكم». وكان رده السريع آية من كتاب الله بلا تعليق: «{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]». وكدت أخجل من نفسي، فإيمان الرجل كان أكبر من التهديد بالموت ومن الموت ذاته، إن القائد الذي يغرس في قلوب جنوده مثل هذا المعنى: «المَوْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَسْمَى أَمَانِينَا». لا يمكن أن يخشى الموت بحال من الأحوال.!! * * * لم يكن في مقدور أحد في مصر أن يمس من قريب أو بعيد القصر، فضلاً عن الجالس على العرش، لكن حسن البنا في إحدى محاضرات الثلاثاء، وكان يتحدث عن العدل الاجتماعي، قال بصوت جهوري خرق أسماع ذوي الجلابيب من أعين القلم السياسي: «نُرِيدُ أَنْ نَتَسَاءَلَ: كَمْ تَمْلِكُ الأُسْرَةُ المَالِكَةُ فِي مِصْرَ؟؟». صراحة وشجاعة لم تكونا لتتوافر إلا في شخصية كشخصية حسن البنا. وفي الوقت كان زعماء مصر يتبارون في التزلف إلى القصر وإلى الجالس على العرش. كان الرجل واثقًا من ربه. واثقًا من إيمانه، ثم واثقًا من نفسه، فهو لا يطلب رزقًا عند أحد، ولا يسعى إلى جاه أو منصب لدى

ذي جاه أو صاحب سلطان، كان فقيرًا زاهدًا، لكن زهده لم ينشأ عن فاقة، وإنما نشأ عن قناعة، على الرغم من الظروف الصعبة التي كانت تصادفه، وهذه هي الشجاعة في أرفع مستوياتها. * * * قلتُ: إن الشجاعة والحكمة شيئان متلازمان، أو صنوان من أصل واحد، فإذا كانت الشجاعة تعني الشجاعة الأدبية: إقدامًا وثباتًا على المبدأ، ومساندة للحق، ومواجهة للباطل، فإن الحكمة هي ضوابط هذه الشجاعة، هي بمثابة قياس الضغط الجوي. كان معاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يقول: «لَوْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ شَعْرَةً مَا انْقَطَعَتْ، إِنْ شَدُّوهَا أَرْخَيْتُهَا، وَإِنْ أَرْخَوْهَا شَدَدْتُهَا». وكان يقول: «وَإِنِّي لاَ أَضَعُ سَيْفِي حَيْثُ تَصْلُحُ العَصَا ... ». وهذه هي الحكمة في أجلى معانيها. في رجب عام 1366 بعث الإمام الشهيد بخطاب مفتوح إلى ملك مصر، ورئيس حكومتها مصطفى النحاس، إلى ملوك العالم الإسلامي، وأمرائه وحكامه ورجالاته المبرزين من ذوي المكانة الدينية والدنيوية، ونحن إذ نقتطف من هذا الخطاب المسهب عبارات سريعة، إنما

ليقف القارئ على بعض ما كانت تتمتع به شخصية حسن البنا من شجاعة وحكمة مَعًا: «إِنَّ اللهَ وَكَّلَ إِلَيْكُمْ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَجَعَلَ مَصَالِحَهَا وَشُؤُونَهَا، وَحَاضِرَهَا وَمُسْتَقْبَلَهَا أَمَانَةً لَدَيْكُمْ، وَوَدِيعَةً عِنْدَكُمْ، وَأَنْتُمْ مَسْؤُولُونَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بَيْنَ يَدَيْ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَئِنْ كَانَ الجِيلُ الحاضِرُ عِدَّتَكُمْ، فَإِنَّ الجِيلَ الآتي مِنْ غِرْسِكُمْ، وَمَا أَعْظَمَهَا أَمَانَةً، وَأَكْبَرَهَا تَبِعَةً أَنْ يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَنْ أُمَّةٍ: وَكُلُّكُمْ رَاعٍ .. وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ... إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ أَمَامَكُمْ طَرِيقَيْنِ: كُلٌّ مِنْهُمَا يَهِيبُ بِكُمْ أَنْ تُوَجِّهُوا الأُمَّةَ وِجْهَتَهُ، وَتَسْلُكُوا بِهَا سَبِيلَهُ، فَأَمَّا الأَوَّلُ فَطَرِيقُ " الإِسْلاَمِ " وَأُصُولَهُ وَقَوَاعِدَهُ وَحَضَارَتَهُ وَمَدَنِيَّتَهُ، وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي فَطَرِيقُ " الغَرْبِ " وَمَظَاهِرَ حَيَاتِهِ وَنَظْمِهَا وَمَنَاهِجِهَا، وَعَقِيدَتُنَا أَنَّ الطَّرِيقَ الأَوَّلَ، طَرِيقُ " الإِسْلاَمِ " وَقَوَاعِدَهُ وَأُصُولَهُ هُوَ الطَّرِيقُ الوَحِيدُ الذِي يَجِبُ أَنْ يَسْلُكَ، وَأَنْ تُوَجُّهَ إِلَيْهِ الأُمَّةُ الحَاضِرَةُ وَالمُسْتَقْبِلَةُ ... هَا هُوَ الغَرْبُ يَظْلِمُ وَيَجُورُ، وَيَطْغَى وَيُحَارُ وَيَتَخَبَّطُ، فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ أَنْ تَمْتَدَّ يَدٌ " شَرْقِيَّةٌ " قَوِيَّةٌ، يُظَلِّلُهَا لِوَاءُ اللهِ، وَتَخْفِقُ عَلَى رَأَّسِهَا رَايَةُ القُرْآنِ، وَيُمِدُّهَا جُنْدُ الإِيمَانِ القَوِيُّ المَتِينُ، فَإذَا بِالدُّنْيَا

مُسَلَّمَةُ هَانِئَةٌ، وَإذَا العَوَالِمُ كُلُّهَا هَاتِفَةٌ: الحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانَا لِهَذَا، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ. وَمِنَ المُبَرِّرَاتِ التِي اِتَّخَذَهَا بَعْضُ الذِينَ سَلَكُوا سَبِيلَ الغَرْبِ: أَنَّهُمْ أَخَذُوا يُشَهِّرُونَ بِرِجَالِ الدِّينِ المُسْلِمِينَ، مِنْ حَيْثُ مَوْقِفِهِمْ المُنَاوِئِ لِلْنَّهْضَةِ الوَطَنِيَّةِ، وَتَجَنِّيهِمْ عَلَى الوَطَنِيِّينَ، وَمُمَالأَتِهِمْ لِلْغَاصِبِينَ، وَإِيثَارَهُمْ المَنَافِعَ الخَاصَّةِ، وَالمَطَامِعَ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى مَصْلَحَةِ البَلَدِ وَالأُمَّةِ. وَذَلِكَ - إِنْ صَحَّ - فَهُوَ ضُعْفٌ مِنْ رِجَالِ الدِّينِ أَنَفْسُهُمْ، لاَ فِي الدِّينِ ذَاتِهِ، وَهَلْ يَأْمُرُ الدِّينُ بِهَذَا؟ وَهَلْ تُمْلِيهِ سيرَةُ الأَجِلاَّءِ وَالأَفَاضِلِ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ الإِسْلاَمِيَّةِ، الذِينَ كَانُوا يَقْتَحِمُونَ عَلَى المُلُوكِ وَالأُمَرَاءِ أَبْوَابَهُمْ وَسُدُودَهُمْ، فَيُقْرِعُونَهُمْ وَيَأْمُرُونَهُمْ وَيَنْهَوْنَهُمْ وَيَرْفُضُونَ أَعَطِيَّاتِهِمْ، بَلْ وَيَحْمِلُونَ السِّلاَحَ فِي وُجُوهِ الجَوْرِ وَالظُّلْمِ». هذه مقتطفات سريعة، والرسالة مطولة فيها برنامج إصلاحي على أسس إسلامية قويمة، بعث بها الإمام الشهيد إلى المسؤولين في إباء وشجاعة. وبالرغم من ثقته أنه إنما يخاطب قلوبًا غُلْفًا، وآذانًا صُمًّا، إلا أن الحكمة اقتضت أن يبلغ، وقد أعذر من أنذر!. * * *

مؤذن .. ومصباح

مُؤَذِّنٌ .. وَمِصْبَاحٌ: من الخصائص التي تميز بها حسن البنا، قدراته الخارقة على احتمال الجهد الشاق المضني الذي كان يبذله، كانت تعلو رأسه في مكتبه المتواضع بالمركز العام، لافتة صغيرة معلقة على الجدار تقول: «الأَعْمَالُ أَكْبَرُ مِنَ الأَوْقَاتِ»، لعله كان يهدف من وضعها، لتكون في مواجهة زائريه، بمثابة لفت أنظارهم إلى ضرورة الإيجاز في الوقت والقول مَعًا، بطريقة مهذبة، إلا أنه من المدهش حقًا أن يستطيع الرجل وحده، أن يقوم بوظيفة المؤذن وفي يده مصباح، وفي وقت واحد، وربما تصور البعض أنه ليس في هذا ما يثير الدهشة. إذ أن أبسط الناس يستطيع القيام بهذا العمل، هذا المتصور يأخذ بأقرب مدلولات الألفاظ إلى الأذهان، أو بمعنى آخر يأخذ بظواهر الألفاظ لا بجوهر معانيها. إن وظيفة المؤذن بالنسبة لرجل مثل حسن البنا، لا تعني إعلام الناس بأوقات الصلاة، وإنما تعني إيقاظهم من سباتهم الذي طال أمده ليلتفوا حول الداعية الذي يدعوهم إلى الخير، ولم يكن اختيار الرجل لألفاظ الهتاف الذي يحسن أن يردده الإخوان، عَرَضًا،

بل بناء على تفكير وتأمل، لقد اختارت الأحزاب السياسية المحترفة للتهريج، التصفيق والهتاف للزعماء، وهي بذلك قد ارتدت إلى عصور الجاهلية، لكن حسن البنا استبدل عادة الجاهلية بكلمات من القلب يهتز لها الوجدان، فيها ذكر الله، وليس فيها ذكر زعيم ولا غير زعيم من الناس، واختيار حسن البنا لعبارة «اللهُ أَكْبَرُ» ليبدأ بها هتافات الإخوان كان له مغزاه في نفسه، ومغزاه لدى الأتباع أيضًا، بالنسبة له، فهو يؤدي وظيفة المؤذن، والمؤذن إنما يبدأ الأذان الشرعي بعبارة «اللهُ أَكْبَرُ» وبالنسبة للأتباع، فإنهم حين يبدأون الهتاف باسم الله تعالى، لن يجدوا في أنفسهم استعدادًا للهتاف باسم واحد من البشر. قلتُ: إن وظيفة المؤذن كانت تعني بالنسبة للرجل إيقاظ الناس من سبات طال أمده، وهنا تبدو المهمة الشاقة، فإن إيقاظ قوم نيام، استعذبوا النوم، واسترخوا له، عمل يحتاج إلى مؤهلات خاصة قد لا تتوافر في كثير من الدعاة، الصبر والمصابرة، الاحتمال والتحمل، المرونة وسعة الأفق، الحكمة والسياسة، الدراسة المتأنية للظروف، حسن اختيار الزمان والمكان الناسبين، القدرة على كسب القلوب والعقول معًا. إن كسب القلوب وحدها هو

مجال التصوف، وكسب العقول وحدها - هو مجال الفلسفة - والفكرة الإسلامية، أكبر من المجالين. إذن، فمهمة الإيقاظ مهمة شاقة، وما بعدها أشق منها. فالمستسلمون لسبات عميق، أكثر استسلامًا للواقع، إذا هم استيقظوا. إن فكرة رفض الواقع المرير لا تخطر ببال أحد منهم. وإن التفكير في التغيير أمر لا تقبله عقولهم، ولا تستقبله أذهانهم، لأن فلسفتهم التي اقتنعوا بها هي: ليس في الإمكان أبدع مما كان. لقد أقنعهم سلوك الزعماء السياسيين، بالاطمئنان إلى الحاضر، واليأس من المستقبل. مع أن الحاضر مزيج من الهوان والضياع. وقبل أن يبدأ حسن البنا مهمته - مارس 1928 - كمؤذن بين الناس - وقد عرفنا أوضاعهم - لم يغب عن ذهنه ثقل المهمة، ومع ذك أقدم ومعه في يده مصباحه، وفي داخله إيمانه بالله، وثقته المطلقة به، كان الإيمان والثقة مصدرًا لعزيمة صادقة لا تقبل التردد وترفض اليأس. كان التفكير أن تبدأ المهمة - مهمة الدعوة إلى الله - من المسجد، لكن حسن البنا رأى المساجد وحدها لا تكفي لإيصال تعاليم

الإسلام إلى الناس. . لماذا لا يتجه إلى رجل الشارع، فليس الإسلام قاصرًا على رواد المساجد دون رجل الشارع ... كان مثار دهشة حين اقترح حسن البنا أن تبلغ الدعوة إلى رواد المقاهي، قيل: إن أصحاب المقاهي من جهة - لا يسمحون بذلك ويعارضون فيه لأنه يعطل أشغالهم، ومن جهة أخرى - فإن جمهور الجالسين على المقاهي قومن منصرفون إلى ما هم فيه، وليس أثقل على نفوسهم من الوعظ، فكيف نتحدث في الدين والأخلاق لقوم لا يفكرون إلا في هذا اللهو الذي انصرفوا إليه؟. يقول الإمام الشهيد في " مذكرات الدعوة والداعية ": «وَكُنْتُ أُخَالِفُهُمْ فِي هَذِهِ النَّظْرَةِ، وَأَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الجُمْهُورَ أَكْثَرُ اِسْتِعْدَادًا لِسَمَاعِ العِظَاتِ مِنْ أَيِّ جُمْهُورٍ آخَرَ حَتَّى جُمْهُورَ المَسْجِدِ نَفْسُهُ، لأَنْ هَذَا شَيْءٌ طَرِيفٌ وَجَدِيدٌ عَلَيْهِ، وَالعِبْرَةَ بِحُسْنِ اِخْتِيَارِ المَوْضُوعِ، فَلاَ نَتَعَرَّضُ لِمًا يَجْرَحُ شُعُورَهُمْ، وَبِطَرِيقَةِ العَرْضِ، فَنَعْرِضُ بِأُسْلُوبٍ شَائِقٍ جَذَّابٍ، وَبِالْوَقْتِ، فَلاَ نُطِيلُ عَلَيْهِمْ القَوْلَ ... ». وكان أن نجحت التجربة، وكان لا بد أن تنجح. شيء طبيعي أن الداعي حين يؤذن في الناس وينتبهون له، لا بد أن يتساءلوا: ماذا يريد؟ إلا أن حسن البنا كان أذكى من أن يمكنهم

من هذا التساؤ. وكان هو البادئ: ماذا نريد، وفرق بين أن ينتظر الداعي حتى يُسْأَلَ، وبين أن يتولى هو عرض السؤال ثم الإجابة عنه. لا أقل من توفير الوقت، والحيلولة دون أن تتشعب التساؤلات. رافقتُ الإمام الشهيد في رحلة الصعيد، واستمعت إليه في عدة محاضرات، فما رأيته كرر كلامًا بلفظه، كان يتصرف في التعبير ولا يتصرف في المعاني، يصوغ الشكل في القالب المناسب، مع المحافظة التامة على الجوهر، كان يستمع إليه - في وق واحد - المثقف ثقافة عالية، والمثقف ثقافة متوسطة، والعامل، والصانع، والفلاح، والمتحضر، والريفي، وكانت له قدرة عجيبة على أن يبلغ كلامه هؤلاء جميعًا، ويصل إلى عقولهم وقلوبهم جميعًا. وهبطنا إلى بلدة «مشطا» مسقط رأس الأستاذ مختار عبد العليم المحامي بالإسكندرية. وكان لا بد أن يحاضر في فلاحي هذه القرية الكبيرة، الذين سمعوا بالرجل ولم يروه. وهرعوا من حقولهم وأكواخهم، والرغبة في مشاهدة الرجل أكبر من الرغبة في الاستماع إليه، وسرحت لحظات أفكر: ماذا يقول الرجل لهؤلاء الناس؟ إنهم بسطاء تعودوا - في سهرات رمضان - أن يصغوا إلى حامل الربابة يقص عليهم قصص سيف بن ذي يزن، وأبي زيد الهلالي، والزناتي خليفة، وسرعان ما زالت حيرتي، استطاع الرجل أن يسيطر

بأسلوبه الشيق، وكلماته الجذابة البسيطة على مسامع القوم. ضرب لهم الأمثلة لفكرته من واقع بيئتهم وأعمالهم، وأصغوا إليه إصغاؤهم لقصص الأبطال والفاتحين. * * * كانت مهمة حسن البنا تختلف عن مهمة الواعظ أو المصلح، فالواعظ يستطيع أن يوقظ النيام، والمصلح يستطيع أن يرسم الطريق، لكن مهمة حسن البنا - وإن كانت تجمع بين الاثنين، مهمة الواعظ ومهمة المصلح - إلا أن لها شأنًا آخر، هو عملية البناء ذاتها، لقد اضطلع الأفغاني بمهمة الواعظ الذي يوقظ الشعوب، ولقد اضطلع الإمام محمد عبده وغيره بمهمة المصلح الذي يرسم الطريق، والحق أن الجميع قد أدوا رسالة لا يمكن أن يتجاهلها التاريخ، لكنهم لم تسمح ظروفهم بأن يقيموا بناء كالذي أقامه حسن البنا: صَنَعَ لَبِنَاتَهُ بِنَفْسِهِ، وقام بدور المقاول والمهندس وصانع الأثاث، رَبَّى جيلاً من الناس غير متجانس، تتفاوت ثقافاته، وتتفاوت معارفه، ولكنه استطاع أن يوحد بين هذا الجيل غير المتجانس في الفكر والتفكير والعزائم والقدرات، أرسى فيه أولاً قواعد الفكر الإسلامي النظري، ثم هيأه للانتقال إلى مرحلة دروه العملي والتطبيقي. كان للمصباح الذي حمله حسن البنا مهمته إرسال الأشعة إلى

العقول لتضيء، وإلى البصائر لتنتج، وإلى القلوب لتستجيب، وكان أن قامت رابطة بين الداعي الرائد، وبين الأتباع المريدين، أساسها العقل والبصيرة والقلب، وحدة في الفكر والنظر والشعور، ثم الثقة المتبادلة، والرأي المتبادل أيضًا، ولم يكن من أسس هذه الرابطة أو الوحدة، القداسة التي يضفيها المريدون على شيخهم في الطريق، أو الطاعة العمياء التي تتطوع بها الأحزاب السياسية لزعمائها، بل إن حسن البنا كان حتى آخر لحظة يعتبر نفسه مريدًا، والفكرة هي الرائد، وجنديًا والفكرة هي القائد. وبذلك كسب قلوب الجميع، واكتسب الجميع قلبه. والذين يحلو لهم أحيانًا أن يلقوا على الرجل ظلاً من القداسة، أو بمعنى أصح - ظلاً من التقديس، لما كان أتباعه يحوطونه بالإجلال والتقدير. هؤلاء يتجاهلون قيمة الرجل في الزهد والتواضع، وإنكار الذات. أذكر أنني كنت معه في إحدى الرحلات، وفي مدينة طما بالصعيد، كان السرادق يغص بأعيان البلد، ورجال الأحزاب، لم يكن في البرنامج أن أتكلم، ولكني فوجئت به عندما قام للحديث، يأخذ بيدي إلى المنصة، وكان مما قلته: إننا آمنا بدعوة الإخوان، وإيماننا بها مرتبط بالمبادئ وليس بالأشخاص، ولقد حببنا في هذه الدعوة

أننا لا نسمع هتافًا باسم شخص، كما يفعل أتباع الأحزاب السياسية، لأننا نعتقد أن هذه الدعوة ليست دعوة حسن البنا، وإنما هي دعوة الله في السماء، ودعوة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأرض. وما أن انتهيت حتى وقف الرجل يربت على كتفي، ويقول: «بَارَكَ اللهُ فِيكَ يَا فُلاَنُ». وبعد انتهاء الحفلة، تنازع الأعيان كل يريد أن يستضيف الرجل في داره، ولكنه اعتذر للجميع، ووقف بنفسه يوزع الضيوف على منازل الإخوان، أما هو فقد اختار الزاوية، ليقرأ ورده من كتاب الله - عَزَّ وَجَلَّ -. وأصر على ذلك، ورفض أي فراش يؤتى به إلى المصلى، وكان صيفًا. نام على الحصير وتوسد عباءته!. * * *

الفكرة تحت المجهر

الفِكْرَةُ تَحْتَ المِجْهَرِ: • الفكرة نحو بعث جديد. • المبادئ في صياغة جديدة. • بين النظر .. والتطبيق.

الفكرة نحو بعث جديد

الفِكْرَةُ نَحْوَ بَعْثٍ جَدِيدٍ: جاء في رسالة المؤتمر الخامس " للإخوان المسلمون" تحت عنوان " إسلام الإخوان ": «وَاسْمَحُوا لِي أَنْ أَسْتَخْدِمَ هَذَا التَّعْبِيرَ وَلَسْتُ أَعَنِي بِهِ أَنْ لِلإِخْوَانِ المُسْلِمِينَ إِسْلاَمًا جَدِيدًا غَيْرَ الإِسْلاَمِ الذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - عَنْ رَبِّهِ وَإِنَّمَا أَعَنِي أَنْ كَثِيرًا مِنْ المُسْلِمِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ العُصُورِ خَلَعُوا عَلَى الإِسْلاَمِ نُعُوتًا وَأَوْصَافًا وَحُدُودًا وَرُسُومًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَاسْتَخْدَمُوا مُرُونَتَهُ وَسَعَتِهِ اِسْتِخْدامًا ضَارًّا مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إلاَّ لِلْحِكْمَةِ السَّامِيَةِ فَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الإِسْلاَمِ اِخْتِلاَفًا عَظِيمًا , وَانْطَبَعَتْ لِلإِسْلاَمِ فِي نُفُوسِ أَبْنَائِهِ صُوَرٌ عِدَّةٌ تُقَرِّبُ أَوْ تُبْعِدُ، أَوْ تَنْطَبِقُ عَلَى الإِسْلاَمِ الأَوَّلِ الذِي مَثَّلَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - وَأَصْحَابُهُ خَيْرَ تَمْثِيلِ .. هَذِهِ الصَّوَرُ المُتَعَدِّدَةُ لِلإِسْلاَمِ الوَاحِدِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ. جَعَلَتْهُمْ يَخْتَلِفُونَ اِخْتِلاَفًا بَيِّنًا فِي فَهْمِ الإِخْوَانِ المُسْلِمِينَ وَتَصَوُّرِ فِكْرَتِهِمْ، فَمِنَ النَّاسَ مِنْ يَتَصَوَّرُ الإِخْوَانَ المُسْلِمِينَ جَمَاعَةً وَعْظِيَّةً إِرْشَادِيَّةً

كُلُّ هِمَّهَا أَنْ تُقَدِّمَ لِلْنَاسِ العِظَاتِ فَتُزَهِّدَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَتُذَكِّرَهُمْ بِالآخِرَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَوَّرُ الإِخْوَانَ المُسْلِمِينَ طَرِيقَةً صُوفِيَّةً تُعْنَى بِتَعْلِيمِ النَّاسِ ضُرُوبَ الذِّكْرِ , وَفُنُونَ العِبَادَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ تَجَرُّدٍ وَزَهَادَةٍ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَظُنُّهُمْ جَمَاعَةً نَظَرِيَّةً فِقْهِيَّةً، كُلُّ هِمِّهَا أَنْ تَقِفَ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الأَحْكَامِ تُجَادِلُ فِيهَا وَتُنَاضِلُ عَنْهَا وَتَحْمِلُ النَّاسَ عَلَيْهَا .. وَقَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ خَالَطُوا الإِخْوَانَ المُسْلِمِينَ وَاِمْتَزَجُوا بِهِمْ وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِ السُّمَاعِ وَلَمْ يَخْلَعُوا إِسلاَمًا يَتَصَوَّرْنَهُ هُمْ، فَعَرَفُوا حَقِيقَتَهُمْ وَأَدْرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ عَنْ دَعْوَتِهِمْ عِلْمًا وَعَمَلاً ... » وكان أن لخص الإمام الشهيد معنى الإسلام وصورته الماثلة في نفوس الإخوان حتى يكون الأساس الذي يدعون إليه ويعتزون بالانتساب له، والاستمداد منه واضحًا جَلِيًّا: أولاً: إن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة , تنتظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة .. ثانيًا: إن أساس التعاليم الإسلامية ومعينها هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ -. ثالثًا: إن الإسلام - كدين عام - انتظم كل شؤون الحياة في كل الشعوب والأمم، لكل العصور والأزمان.

إذن فالإخوان المسلمون لم يأتوا بإسلام جديد، وإنما اعتبر ما جاءوا به جديدًا في نظر البعض لأنهم لا يسمعوا عنه من قبل، ولقد رسخ في أذهانهم أن الإسلام كل الإسلام يتركز في العبادة، والسلوك الذاتي ليس أكثر. الفكر الإسلامي الأصيل قد توقف مدة منذ بضعة قرون، حتى أسدل عليه الستار منذ بداية عهد الاستعمار الأجنبي، ومع أن الإسلام هو الإسلام منذ طلوع شمسه وسيظل هو حتى يرث اللهُ الأرضَ ومن عليها، إلا أن المسلمين هم الذين لديهم القابلية للتغيير والتبديل , والجمود والتطور , والسلب والإنجاب والتردد والإقدام، لذلك لم يكن مثيرًا للدهشة أن يستقبل البعض دعوة الإخوان بكثير من الغرابة. الإسلام: دين ودولة , ومصحف وسيف. كلمات غريبة على الأذهان والأسماع مَعًا , لقد تعود الناس أن يسمعوا أو يقرأوا أن الإسلام دين فحسب ,وهذا لا يعني - على الإطلاق - أن بقية المبادئ لا تمت إلى الإسلام بصلة , وأنها من ابتكار الإخوان المسلمين. فهذه المبادئ الأربعة تشكل الفكرة الإسلامية الأصيلة وكان دور الإخوان هو بعث الحياة من جديد فيها وإزالة الغشاوة عن أعين المسلمين، تلك الغشاوة التي ظلت قابعة أَمَدًا طَوِيلاً .. وكانت محاولة البعث وإزالة الغشاوة، مبعث إثارة، لدى الاستعمار وأدواته.

وهما مَعًا أرباب المصلحة في أن يظل الفكر الإسلامي الأصيل بمعزل عن الحياة، عن حياة الشعوب المسلمة. لقد فزع المستعمر , وفزعت معه أدواته: الزعماء المتربعون على كراسي الحكم، والزعماء الذين ينتظرون دورهم ليتربعوا على كراسي الحكم لأنهم جميعًا اعتبروا أن فكرة الإخوان تخفي من ورائها انقلابًا يقلب الحياة رأس على عقب، والحق أن لهذا الفزع ما يبرره فالإسلام الذي يدعو إليه الإخوان هو الإسلام الذي رضيه الله لعباده دينا، وهذا الإسلام يرفض الاستعمار شكلاً وموضوعًا ليس هذا فحسب - بل يعتبر جهاده فرض عين لا فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين. وهذا الإسلام نفسه , يرفض الحكم الجاهلي شكلاً وموضوعًا أيضًا لا لأنه تخلى - فحسب - عن شريعة الله - عَزَّ وَجَلَّ - , بل لأنه أيضًا يقف عقبة كَأْدَاءَ في طريق الإسلام هي بمثابة صَدٍّ عن سبيل الله , وجهاد هذا الحكم الجاهلي باللسان والقلم فرض كفاية إذا لم يقم به البعض أثم المسلمون جميعا. لقد تراءى للمرجفين من الاستعمار وأعوانه أن حركة الإخوان إنما تهدف إلى إحداث انقلاب ضد الأنظمة الحاكمة كذلك انساق البعض وراء إرجاف الاستعمار وأعوانه ونسي هؤلاء

أن فكرة الإخوان تهدف أول ما تهدف إلى تصحيح مفاهيم الإسلام لدى المسلمين التي تعرضت للكثير من الضباب لأسباب عديدة وعوامل شتى أقربها إلى الأذهان عامل الاستعمار، وفقدان الدعاة الإسلاميين الفقهاء والخلصاء مَعًا. يقول العالم الرحالة السيد أبو الحسن الندوي في رسالته " أريد أن أتحدث إلى الإخوان ": «إِنَّ العَالَمَ الإِسْلاَمِيَّ حَائِرٌ بَيْنَ مَوَادَّ خَامٍ مِنْ أَقْوَى المَوَادِّ وَأَفْضَلِهَا فِي الإِيمَانِ وَالقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ , وَبَيْنَ مُوَجِّهِينَ وَصِنَاعِيَّينَ لاَ يَعْرِفُونَ قِيمَةَ هَذِهِ المَوَادَّ , وَلاَ يَعْرِفُونَ أَيْنَ يَضَعُونَهَا وَمَاذَا يَصْنَعُونَ مِنْهَا». إذن فقد كان الإخوان هم الصناع والخبراء المهرة الذين عرفوا قيمة هذه المادة الخام وعرفوا كيف يصنعونها وماذا يصنعون فيها وقد جاءوا في وقت حرج بلغ فيه السيل الزبى يواجه العالم الإسلامي فيه عالمًا لا يجد فيه غناءه ولا يجد فيه غَوْثًا ومعقلاً عن لصوص العالم المنظمين، أضعف أعضاء جسم العالم الإسلامي وقد كان واجبًا أن يكون أقواها وأصحها وأن يكون في العالم الإسلامي بمنزلة الرأس أو القلب في البدن وقد تضافرت عليه عوامل الإفساد والضعف فأحدثت فيه عِلَلاً كثيرة أورثته سقوط الهمة والجهل المطبق , وجاء الاستعمار الأوروبي فأورثه التفسخ في الأخلاق.

والانحلال في الدين، وقامت الحكومات الشخصية فأورثته التملق والنفاق والخنوع للقوة والمادة، ثم كان أن خفت في العالم العربي صوت الدعوة الدينية , وانقرض الرجال الذين كانوا يكافحون المادية ويكبحون جماحها، واستسلم العلماء ورجال الدين أمام تيار الغرب ... فوضعوا أوزارهم للمدنية الغربية .. حتى أصبح هذا العالم منحلاً منهارًا متداعيًا، لا يمسكه الإيمان، ولا تحفظه القوة المعنوية ولا تقف في طريق اندفاعه دعوة قوية .. !! لذلك وأمام هذا كله، كان لابد أن توجد الدعوة الإسلامية القوية، والدعاة الأقوياء، وأن يكون داعيتها الأول من طراز فريد، يتوافر في شخصية عبقرية فذة، وبصيرة نافذة، وَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ وَحِكْمَةِ مُعَاوِيَةَ وَجُرْأَةَ أَبِي ذَرٍّ وَذَكَاءَ إِيَاسٍ , وَزُهْدَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ خامس الخلفاء الراشدين.

المبادئ في صياغة جديدة

المَبَادِئُ فِي صِيَاغَةٍ جَدِيدَةٍ: كتب المفكر الفرنسي «أرنست رينان» أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بالسوربون - باريس , وهو حفيد الكاتب الفرنسي الكبير الذي دخل معه الأستاذ الإمام محمد عبده في حوار نشرته الصحف وسجل في كتاب، حول بعض المعاني الإسلامية كتب تعليقًا على عقيدة الإخوان المسلمين يقول: «إن هذه الكلمات عميقة البحث والقصد وهي لا شك مستمدة من نفس المنهج الذي رسمه محمد - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - ونجح في تنفيذه فأسس به أمة ودولة وَدِينًا وقد زيد فيها بما يناسب روح العصر مع التقيد بروح الإسلام .. وفي عقيدتي: أنه لا نجاح للمسلمين اليوم إلا باتباع نفس السبيل التي سلكها محمد وصحبه غير أن تحقيق هذا على الحال التي عليها المسلمون بعيد .. وليس معنى هذا، القنوط والقعود عن العمل». ويعلق الإمام الشهيد حسن البنا على كلمة المفكر الفرنسي: «أعرب الأستاذ عن رأيه في (عقيدتنا) بجلاء ووضوح , وقد كان

صريحًا في إبداء رأيه بقدر ما كان موفقًا في هذه الدقة أيضًا ويمكنك أن تخرج من هذا الرأي الدقيق الذي ألقي من وراء البحار في عقيدة الإخوان المسلمين بعدة نقاط. أولاً: عقيدة الإخوان المسلمين مستمدة من نفس المنهج الذي وضعه محمد - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - هذا هو التعبير الفرنسي الذي استطاع الأستاذ الذي لا يتصل بالإسلام إلا بصلة العلم أن يعرب به عن رأيه .. ومعني هذا أن الأستاذ " أرنست رينان " يري أن عقيدة الإخوان المسلمين إسلامية بحتة , لم تخرج عن الإسلام قيد شعرة لقد استطاع بدقة بحثه وصفاء فكرته أن يصور الإخوان المسلمين وأن يفهمهم ويفهم أنهم للإسلام .. وللإسلام وحده على بعد الشقة وانقطاع الصلة فيما بيننا وبينه .. على حين يظن الناس الظنون بالإخوان المسلمين ويتساءلون عن ماهية مناهجهم وكنة مقاصدهم , ويتشككون في عقيدتهم ومسالكهم .. ثانيًا: هذا المنهج قد استطاع به محمد صلي الله عليه وسلم أن يكون دينًا وأمة ودولة .. والعبرة في هذا أن يسمع زعماء الشعوب الشرقية الذين أرادوا أو يريدون أن يتلمسوا

لأممهم منهجًا أوفى من الإسلام ليشيدوا عليه النهضة، ويكونوا به الدين والأمة والدولة .. ثالثًا: لا نجاح للمسلمين اليوم إلا بإتباع نفس السبيل التي سلكها محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحبه ذلك رأي الفيلسوف - رينان- وهو ما سبقه به ذلك الإمام الإسلامي الكبير الذي قال من قبل:"إنه لا يصلح آخر هذه الأمة , إلا بما صلح به أولها " وقد أيدت ذلك التجارب وأكدته الحوادث .. رابعًا: تحقيق هذا المنهج على الحالة التي عليها المسلمون اليوم يراه الفيلسوف الفرنسي بعيدًا لأنه يعلم الهوة السحيقة التي أوجدتها الحوادث السياسية والاجتماعية بين المسلمين ودينهم، ويعلم الوسائل الذاتية الفعالة التي استخدمها خصوم الإسلام في إبعاد المسلمين عن الإسلام في العصر الحديث، ويعلم بأن المسلمين أنفسهم صاروا الآن حربًا على دينهم يكسرون سيفهم بيدهم ويسلمون المدية لمن يريد أن يذبحهم بها باختيارهم ويتصدعون بالهدم مع من يهدمون دينهم، وهو معقد أنظمتهم , وأساس دينهم ..

ماذا يريد الإخوان المسلمون؟

خامسًا: ليس معني هذا القعود عن العمل " أجل .. أجل " فلن تزيدنا العقبات إلا همة , ولن تزيدنا المصاعب إلا مُضِيًّا في سبيل الجهاد ونحن نقرأ قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. أردت بهذه المقدمة السريعة , أن أوضح أن مبادئ الإسلام هي ذاتها مبادئ الإخوان المسلمين ولكن في صياغة جديدة وأن منهج الإسلام هو نفسه منهج الإخوان المسلمين ولكن في تطوير يناسب روح العصر .. فالإسلام - كما يقول الإمام الشهيد: تنتظم روحه العصور أجمع , وتشمل الدنيا وما فيها .. وهكذا الإخوان المسلمون .. فقد استطاعوا أن يستمدوا من روح الإسلام ما يوافق روح العصر ويصور عقيدتهم للناس كاملة يبدو فيها الروحان جميعًا .. ولكم نتمني أن يكون فينا من ينظر إلى عقيدتنا تلك النظرة الفاحصة - يعني المفكر الفرنسي - ليخرج بعدها بمثل هذا الحكم السديد .. مَاذَا يُرِيدُ الإِخْوَانُ المُسْلِمُونَ؟: لقد قالوها صريحة دون أدنى مواربة أو التواء: نريد تحقيق مطالب القرآن .. !

إلى أي شيء ندعو الناس؟

ومطالب القرآن في إيجاز: أن يصبح الإسلام - كما أراده الله دينًا ودولة ومصحفًا وسيفًا .. ! هل يرفض مسلم مثل هذه المطالب؟ يقول الإمام الشهيد: «إننا لا نرى مسوغًا للتشكك في الإخوان المسلمين بعد وضوح أمرهم ونصاعة عقيدتهم إلا أمرين لا ثالث لهما: إما ان هذا المتشكك لم يدرس الإسلام دراسة صحيحة. تمكنه من تشرب روحه وإدراك مراميه ومقاصده فهو يري في مقاصد الإخوان ما يخرج من روح الإسلام لأنه لم يعرف من هذا الروح إلا دائرة ضيقة لا تسمن ولا تغني من جوع. وإما أن يكون هذا المتشكك مريض القلب وسيء الظن غير سليم القلب , فهو يطغى ويتجنى ويتلمس للبرآء العيب .. وكلا الأمرين وبال على صاحبه , وهلاك للمتصف به.!!» إِلَى أَيِّ شَيْءٍ نَدْعُو النَّاسَ؟: إنما ندعوهم إلى الإيمان أولاً وبالعمل ثانيًا .. الإيمان بأن الإسلام وضع للعالم النظم التي تكفل له الانتفاع بما فيها من محاسن وتجنب ما تستتبعه من خطر وويلات ...

والعمل على أن تكون قواعد الإسلام هي الأصول الني نبني عليها نهضة الشرق الحديث في كل شأن من شؤون الحياة. والإخوان المسلمون - كما يقول الإمام الشهيد - لا يختصون بهذه الدعوة قُطْرًا دون قطر من الأقطار الإسلامية ولكنهم يرسلونها صيحة يرجون لها أن تصل إلى آذان القادة والزعماء في كل قطر يدين أبناؤه بدين الإسلام .. إذن .. نحن ندعو الناس إلى مبدأ .. مبدأ واضح محدود مسلم به منهم جميعًا .. هم جميعًا يعرفونه ويؤمنون به ويدينون بأحقيته ويعلمون أن فيه خلاصهم وإسعادهم وراحتهم .. مبدأ أثبتت التجربة وحكم التاريخ صلاحيته للخلود , وأهليته لإصلاح الوجود .. والفرق بيننا وبين قومنا بعد اتفاقنا في الإيمان بهذا المبدأ: إنه عندهم إيمان مخدر .. نائم في نفوسهم .. لا يريدون أن ينزلوا على حكمه ولا أن يعملوا بمقتضاه. على حين أنه إيمان ملتهب مشتعل قوي يقظ في نفوس الإخوان المسلمين .. إنها ظاهرة نفسية عجيبة - كما يقول الإمام الشهيد - نلمسها ويلمسها غيرنا في نفوسنا - نحن الشرقيين - أن نؤمن بالفكرة إيمانًا يخيل للناس - حين نتحدث إليهم عنها , أنها ستحملنا على نسف الجبال وبذل النفس والمال , واحتمال المصاعب، ومقارعة

لكن ما هي الوسائل؟

الخطوب حتي ننتصر بها أو تنتصر بنا .. حتى إذا هدأت ثائرة الكلام لا يفكر في العمل لها ولا يحدث نفسه بأن يجاهد أضعف الجهاد في سبيلها .. بل إنه يبالغ في هذه الغفلة وهذا النسيان حتى يعمل على ضدها وهو يشعر أو لا يشعر. ألست تضحك عجبًا حين ترى رجلاً من رجال الفكر والعمل والثقافة في ساعتين اثنتين متجاورتين من ساعات النهار ملحدًا مع الملحدين وعابدًا مع العابدين .. ؟ هذا الخور أو النسيان , أو الغفلة أو النوم , أو قل فيه ما شئت هو الذي جعلنا نحاول أن نوقظ مبدأنا ... وهو هو المبدأ المُسَلَّمُ به من قومنا في نفوس هؤلاء القوم المحبوبين .. * * * لَكِنْ مَا هِيَ الوَسَائِلُ؟: لقد حددها الإمام الشهيد بثلاث: أولاً: المنهاج الصحيح وقد وجده الإخوان في كتاب الله وسنة رسوله وأحكام الإسلام حين يفهمها المسلمون على وجهها غضة نقية بعيدة عن الدخائل والمفتريات فعكفوا على دراسة الإسلام - على هذا الأساس - دراسة سهلة واسعة مستوعبة ..

ثانيًا: العاملون المؤمنون: ولهذا أخذ الإخوان أنفسهم بتطبيق ما فهموه من دين الله تطبيقًا لا هوداة فيه ولا لين .. وهم بحمد الله مؤمنون بفكرتهم، مطمئنون إلى غايتهم، واثقون بتأييد الله إياهم ما داموا له، وعلى هدى رسول الله يسيرون. ثالثًا: القيادة الحازمة الموثوق بها .. وقد وجدها الإخوان المسلمون كذلك .. فهم لها مطيعون وتحت لوائها يعملون .. ! * * *

بين النظر ... والتطبيق

بَيْنَ النَّظَرِ ... وَالتَّطْبِيقِ: ظل الإخوان المسلمون عشر سنين يتكلمون، يعرضون الإسلام مبادئ وأفكارًا , وعقيدة ونظامًا .. يناقشون من حسنت نياتهم في هدوء , ويجادلون بالتي هي أحسن , من في قلوبهم دخن , وفي ضمائرهم دخل، لا يتعالون على أحد , ولا يستخفون بأحد ولا يسخرون من أحد، ويفسحون صدورهم للجميع , ويفتحون عقولهم للمعارض قبل المؤيد وللمعادي قبل المسالم .. والحق أن الإخوان لم يقطعوا السنوات العشر في الكلام، مجرد الكلام، بل كان للعمل دور وإن كان متواضعًا , ويمكن أن تعتبر هذه المرحلة بمثابة التجهيز الذي يسبق التأسيس , أو الإعداد الذي يسبق التنفيذ .. كان الإمام الشهيد حسن البنا يقول: نحن نريد تحقيق مطالب القرآن ... ومطالب القرآن ذات هدفين: هدف قريب , وهدف بعيد لكنه غير محال , كان يضرب المثل من عمل الفلاح الذي يزرع زرعًا ينتج ثمرًا في أيام قلائل كأنواع الخضراوات ويزرع زرعًا

آخر لا ينتج إلا بعد شهور كالقطن مثلاً، وهكذا الإخوان في استطاعتهم أن يحققوا ثمرًا قريبًا ينضوي تحت أعمال البر، نشر المبادئ، تربية الشباب، إنشاء المؤسسات ذات الخدمات الاجتماعية والإنسانية، أما الثمرة البعيدة والرئيسية، فقد لا تتحقق على أيدي هذا الجيل أو الجيل الذي يليه , والمهم أن نبدأ البناء ونواصل حتى يكتمل .. كان الإمام الشهيد يعني بالثمرة الرئيسية: أن يصبح الإسلام نظام حياة بأسرها في مجال التشريع , وفي مجال الحكم , وفي مجال السياسة المحلية والدولية على السواء .. أطلق الإمام الشهيد على المرحلة الأولى ,مرحلة الدعوة العامة كما أطلق على المرحلة التي تليها الدعوة الخاصة وقد كتب مقالة في هذا الصدد تحت عنوان: «أيها الإخوان تجهزوا» نشرت بالعدد الأول من جريدة " النذير " , جاء فيها: الإسلام: عبادة وقيادة , دين ودولة , روحانية وعمل، صلاة وجهاد , طاعة وحكم، مصحف وسيف، لا ينفك واحد من هذين عن الآخر، وكانت مصر يوم أن نبتت هذه الدعوة المجددة لا تملك من أمر نفسها قليلاً ولا كثيرًا .. ولم يخل الجو من منازعات حزبية وحزازت سياسية تذكيها مآرب شخصية، ولم يشأ الإخوان المسلمون أن يزجوا بأنفسهم في هذه الميادين فيلوثوا

ولكن ما هي الخطوة الثانية في إيضاح؟

دعوتهم وهي في مهدها بلون غير لونها وبظهورها في صورة غير صورتها، فتقلب الحكومات وتغيرت الدويلات، والإخوان يجاهدون مع المجاهدين ويعملون مع العاملين، منصرفين إلى ميدان مثمر منتج هو ميدان تربية الأمة وتنبيه الشعب , وتغيير العرف العام، وإذاعة مبادئ الجهاد , والعمل والفضيلة بين الناس .. هذه مرحلة من مراحل الإخوان التي اجتزناها بسلام , وفق الخطة الموضوعة لها وطبق التصميم الذي رسمه توفيق الله .. والآن أيها الإخوان - وقد حان وقت العمل وَآنَ أَوَانُ الجِدِّ , ولم يعد هناك مجال للإبطاء .. فإن الخطط توضح والمناهج تطبق، وكلها لا يؤدي إلى غاية , ولا ينتج ثمرة والزعماء حائرون والقادة مذبذبون متأرجحون .. وَلَكِنْ مَا هِي الخُطْوَةُ الثَّانِيَةُ فِي إِيضَاحٍ؟ يقول الإمام الشهيد: هي الانتقال من خير دعوة العامة , إلى خير دعوة الخاصة من دعوة لكلام وحده إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال .. والتوجه بالدعوة إلى المسؤولين من قادة البلد وزعمائه .. سندعوهم إلى مناهجنا ونضع بين أيديهم برنامجنا , وسنطالبهم بأن يسيروا بهذا البلد المسلم - بل زعيم الأقطار الإسلامية -

في طريق الإسلام في جرأة لا تردد معها وفي وضوح لا لبس فيه ومن غير مواربة أو مداورة، فالوقت لا يتسع لمناورات فإن أجابوا الدعوة وسلكوا السبيل إلى الغاية آزرناهم، وإن لجأوا إلى المواربة والزوغان وتستروا بالأعذار الواهية والحجج المردودة فنحن حرب على كل زعيم، أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام ولا تسير في الطريق لاستعادة حكم الإسلام ونجدة الإسلام سنعلنها خصومة لا سلم فيها , ولا هوادة معها حتى يفتح بيننا وبين قومنا بالحق , وهو خير الفاتحين .. أيها الإخوان: إلى الآن لم تخاصموا حزبًا ولا هيئة كما أنكم لم تنضموا إليهم كذلك، ولقد تقول الناس عليكم فمن قائل: إنكم وفديون تحاسبون، ومن قائل: إنكم سعديون ماهريون ... ومن ... ومن ... والله يعلم - والعارفون بكم - أنكم من كل ذلك بريئون .. فما اتبعتم غير رسوله زعيمًا وما ارتضيتم غير كتابه منهاجًا وما اتخذتم سوى الإسلام غاية .. فدعوا كلام الناس جانبًا , وخذوا في الجد , والزمن كفيل بكشف الحقائق .. {كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]. إذن فقد كانت المرحلة السابقة مرحلة انتقالية وكان لا بد منها .. بل لقد اعتبرها الإمام الشهيد مرحلة سلبية أما بعد هذه المرحلة،

فالموقف - كما يقول: إيجابي واضح لا يعرف التردد, ولا يتوسط بين الحب والبغض فإما ولاء وإما عداء , ولسنا في ذلك نخالف خطتنا أو ننحرف عن طريقتنا أو نغير مسلكنا بالتدخل في «السياسة» كما يقول الذين لا يعلمون ولكنا بذلك ننتقل خطوة ثانية في طريقتنا الإسلامية وخطتنا المحمدية ومنهاجنا القرآني ولا ذنب لنا أن تكون السياسة جزءًا من الدين وأن يشمل الإسلام الحاكمين والمحكومين فليس في تعاليمه أعط ما لقيصر لقيصر .. وما لله لله .. ولكن في تعاليمه: قيصر وما لقيصر لله الواحد القهار .. لم تقم دعوة الإخوان المسلمين لتكون جمعية دينية بحتة لأنها دعوة قامت على فكرة ومبدأ ومنهج وخطة عمل فما أكثر الجمعيات الدينية في جميع الدول الإسلامية بلا استثناء ولكن معظم هذه الجمعيات تدور في حلقة مفرغة , وأقل القليل منها استطاع أن يترك أثرًا متواضعًا في المحيط الذي يعيشه وهو في حد ذاته مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإقليمية .. لكن دعوة الإخوان دعوة شاملة وإن اتخذت مصر مركزًا رئيسيًا لها , لكي تكون المنطلق إلى العالم الإسلامي والعجيب أن المدخل الوحيد إلى الهجوم على دعوة الإخوان

كانت السياسة أو اشتغال الإخوان بالسياسة كأن المفروض في الإخوان أن تظل دعوتهم قابعة في المساجد والزوايا لا يتجاوزها إلى المجتمع .. ومعنى هذا أن تترك سياسة الدولة المسلمة من حق القوى الاستعمارية تخطط , ومن حق أدواتها في الداخل تنفذ، ويظل الإسلام في معزل عن سياسة دولته يعيش - فحسب - في وجدان الشعوب المسلمة نظريًا في حدود أذهانهم وعمليًا في حدود أداء الشعائر .. كان لزامًا على الإخوان المسلمين أن يعلنوها صراحة أن السياسة جزء لا يتجزأ من الإسلام تابعة له وليس هو جزءًا منها ولا تابعًا لها وتحت عنوان: «نحن والسياسة» يقول الإمام الشهيد في رسالته إلى أي شيء ندعو الناس: ويقول قوم آخرون: إن الإخوان المسلمين قوم سياسيون ودعوتهم دعوة سياسية ولهم من وراء ذلك مآرب أخرى ولا ندري إلى متى تتقارض أمتنا التهم , وتتبادل الظنون , وتتنابز بالألقاب وتترك يقينًا يؤيده الواقع في سبيل ظن توحيه الشكوك؟؟ يا قومنا: إننا نناديكم .. والقرآن في يميننا والسنة في شمالنا وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا .. وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام وهدي الإسلام.

فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا وإن كان من يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسيًا فنحن أعرق الناس - والحمد لله - في السياسة .. إن شئتم أن تُسَمُّوا ذلك سياسة فقولوا ما شئتم، فلن تضرنا الأسماء متى وضحت المسميات، وانكشفت الغايات ... إن للإسلام لسياسة في طيها سعادة الدنيا وصلاح الآخرة .. وتلك هي سياستنا لا نبغي بها بديلاً فسوسوا بها أنفسكم, واحملوا عليها غيركم تظفروا بالعزة الأخروية ولتعلمن نبأه بعد حين .. ! * * *

القاعدة والشواذ

القَاعِدَةُ وَالشَّوَاذُّ: • في مجال الابتلاء. • أحقاد الصغار. • الناكثون والناكصون.

في مجال الابتلاء

فِي مَجَالِ الاِبْتِلاَءِ: لقد اقتضت سنة الله في الحياة أن يكون لكل دعوة إلى الخير قاعدة وشواذ ولقد شملت هذه السنة أول ما شملت رسالات الرسل والأنبياء ثم من بعدهم دعوات المصلحين في كل زمان ومكان .. واقتضاء هذه السنة مرتبط بوجود الخير والشر في الحياة وعلى خطين متوازيين لا يلتقيان .. ولم يكن مثيرًا للدهشة أن وُوجِهَتْ فكرة الإخوان المسلمين بالشواذ، بل ألا تواجه بهؤلاء الشواذ من داخلها من وخارجها على السواء، ولم يكن ليغيب عن ذهن الإمام الشهيد مثل هذا المعنى وفي رسالته: «دعوتنا» صنف الناس وموقفهم من الفكرة وموقف الفكرة منهم أصنافًا أربعة قال: كل الذي نريده من الناس أن يكونوا أمامنا واحدًا من أربعة: مؤمن: شخص آمن بدعوتنا، وصدق بقولنا، وأعجب بمبادئنا، ورأى فيها خيرًا اطمأنت إليه نفسه، وسكن له فؤاده .. فهذا ندعوه إلى الانضمام إلينا , والعمل معنا , حتى يكثر به عدد المجاهدين ,

ويعلو بصوته صوت الداعين .. ولا معنى لإيمان لا يتبعه عمل , ولا فائدة في عقيدة لا تدفع صاحبها إلى تحقيقها، والتضحية في سبيلها .. متردد: شخص لم يستبن له وجه الحق , ولم يتعرف في قولنا على معنى الإخلاص والفائدة، فهو متوقف متردد .. فهذا نتركه لتردده ونوصيه بأن يتصل بنا عن كثب ويقرأ عنا من قريب أو بعيد ويطالع كتاباتنا ويزور أنديتنا .. ويتعرف على إخواننا .. فسيطمئن بعد ذلك لنا - إن شاء الله .. نفعي: شخص لا يريد أن يبذل معونته إلا إذا عرف ما يعود عليه من فائدة وما يجره هذا البذل له من مغنم .. فنقول له: حنانيك .. ! ليس عندنا من جزاء إلا ثواب الله - إن أخلصت، والجنة إن علم فيك خيرًا .. أما نحن فمغمورون جَاهًا، فقراء مَالاً .. شأننا التضحية بما معنا , وبذل ما في أيدينا، ورجاؤنا رضوان الله ... فإن كشف الله الغشاوة عن قلبه , وأزاح كابوس الطمع عن فؤاده فسيعلم أن ما عند الله خير وأبقي وسينضم إلى كتيبة الله ليجود بما معه من عرض هذه الحياة الدنيا لينال ثواب الله في العقبى ... وإن كانت الأخرى، فالله غني عمن لا يرى لله الحق الأول في نفسه وماله، ودنياه وآخرته، وموته وحياته ..

متحامل: شخص ساء فينا ظنه , وأحاطت بنا شكوكه وريبه. فهو لا يرانا إلا بالمنظار الأسود القاتم، ولا يتحدث عنا إلا بلسان المتحرج المتشكك، ويأبي إلا أن يلج في غروره، ويسدر في شكوكه، ويظل في أوهامه .. فهذا ندعو الله لنا وله، أن يرينا الحق حَقًّا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يلهمنا وإياه الرشد .. وهذا سنظل نحبه، ونرجو فيئه إلينا، واقتناعه بدعوتنا، وإنما شعارنا معه، ما أرشدنا إليه محمد - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - من قبل «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ... » * * * بالرغم من أن فكرة الإخوان المسلمين كانت واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار .. لا تعادي إلا من عادى الإسلام أو عاداه الإسلام، ولا تسالم إلا سالم الإسلام أو سالمه الإسلام، إلا أنها عانت الكثير من بعض الناس , عن قصد وعن غير قصد، وبسبب وبغير سبب، لذلك كان لا بد أن يحدد الإخوان المسلمين موقف فكرتهم من مسائل عديدة، هذا الموقف مؤسس بادئ ذي بدء على الإسلام، كما يقول رائدها: «دعوتنا إسلامية بكل ما تحتمل الكلمة من معان ... فافهم فيها

ما شئت بعد ذلك , وأنت في فهمك هذا مقيد بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف الصالحين من المسلمين .. فأما كتاب الله , فهو أساس الإسلام ودعامته .. وأما سنة رسوله , فهي مبينة الكتاب وشارحته .. وأما سيرة السلف الصالح فهم - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - منفذو أوامره، الآخذون بتعاليمه، وهم المثل العملية , والصورة الماثلة لهذه الأوامر والتعاليم .. ». إن «الوطنية» هي الشغل الشاغل، فدعاة الوطنية يعتبرون حدود الوطنية بالتخوم الأرضية , والمعالم الجغرافية، بينما تعتبرها فكرة الإخوان بالعقيدة، فكل بقعة فيها مسلم يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله , وطن عندنا، له حرمته وقداسته، وحبه والإخلاص له، والجهاد في سبيل نصره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا، نهتم لهم، ونشعر بشعورهم، وَنُحِسُّ بإحساسهم، أما دعاة الوطنية المجردة - كما يقول الإمام الشهيد - فليسوا كذلك، لا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملي، فيما لو أرادت أمة أن تقوي نفسها على حساب غيرها، فنحن لا نرضى ذلك على حساب أى قطر إسلامي، وإنما نطلب القوة لنا جميعًا، ودعاة الوطنية المجردة لا يرون بذلك بأسًا، ومن هنا تتفكك الروابط، وتضعف القوى، ويضرب العدو بعضهم ببعض ..

ولدينا اليوم مَثَلٌ بل أمثلة للفارق العملي، بيننا وبين دعاة الوطنية المجردة: قضايا الأقليات المسلمة المضطهدة التي تشن عليها حروب الإبادة العملية والمعنوية، في الدول الشيوعية، وفي الدول الصليبية، وحتى في الدول البوذية، بمفهوم دعاة الوطنية المجردة لا شأن لنا في مصر، ولا شأن للمسلمين في الدول المسلمة، بمحنة هذه الأقليات المسلمة، وبمفهوم فكرة الإخوان، يقع على عاتق الشعوب المسلمة في كل مكان، نصرة هذه الأقليات المعذبة، بل ما هو أفدح وأخس، أن الدول المسلمة تعامل أعداء الإسلام الذين يذيقون الأقليات المسلمة في بلادهم الأَمَرَّيْنِ .. معاملة الأصدقاء، وتقف من قضايا هذه الأقليات المسلمة موقفًا سلبيًا مخزيًا. ويتفرع عن هذه المسألة مسألة جانبية، وإن بدت في الآونة الأخيرة مسألة جوهرية، إنها مسألة الوحدة الوطنية، وقد أشار إليها الإمام المرشد الشهيد: «وأحب أن أنبهك إلى سقوط ذلك الزعم القائل: إن الجري على هذا المبدأ - مبدأ الوطنية في مفهوم فكر الإخوان - يمزق وحده الأمة التي تتألف من عناصر دينية مختلفة .. فإن الإسلام , وهو دين

الوحدة والمساواة، كفل هذه الروابط بين الجميع، ما داموا متعاونين على الخير .. ». وقد تراءى للسذج أن مفهوم الوطنية لدى فكرة الإخوان، يعني عدم الاهتمام بقضايا مصر والاشتغال بقضايا غيرها من الدول المسلمة، وحسبنا في الرد على هؤلاء أن الإخوان المسلمين كانوا أسبق الناس إلى العمل الفدائي ضد الاحتلال الانجليزي في القنال، وضد العدوان اليهودي مع المقاومة الوطنية في أزمة مدينة السويس .. وثانية المسائل: مسألة القومية .. لقد حدد فكر الإخوان المسلمين موقفهم من هذه المسألة على لسان مرشدهم الإمام الشهيد، فهو يرى أن القومية التي تهدف إلى أسمى المعاني لا يأباها الإسلام - وهو مقياس فكرة الإخوان - بل ينفسخ صدور الإخوان لها ويحضون عليها، ولكن الذي يرفضه فكر الإخوان، إنما هي قومية الجاهلية التي تهدف إلى التحلل من عقدة الإسلام ورباطه، بدعوى الاعتزاز بالجنس: «فالإخوان المسلمون لا يؤمنون بهذه القومية الجاهلية، ولا بأشباهها ولا يقولون: فرعونية، وعربية، وفينيقية، وسورية، ولا شيئًا من هذه الألقاب والأسماء التي يتنابز بها الناس، لأنهم يؤمنون بما قاله

رسول الله .. الإنسان الكامل، بل أكمل معلم علم الإنسان الخير: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَتَعَظُّمَهَا بالآبَاءِ .. النَّاسُ لآدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ .. لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلاَّ بِالتَّقْوَى " .. ولسنا مع ذلك ننكر خواص الأمم ومميزاتها الخلقية .. ونعتقد أن العروبة لها من ذلك النصيب الأوفى والأوفر .. ليس معنى هذا أن تتخذ الشعوب هذه المزايا ذريعة إلى العدوان». ومما لا جدال فيه - بعد هذا - أن رابطة العقيدة في مفهوم فكر الإخوان , هي أقدس الروابط , هي أقدس من رابطة الدم , ورابطة الأرض .. وثالثة المسائل مسألة الخلافات الدينية .. إن دعوة الإخوان - كما يقول الإمام الشهيد - دعوة عامة تنتسب إلى طائفة خاصة، ولا تنحاز إلى أي رأي عرف عند الناس بلون خاص .. وهي تتوجه إلى صميم الدين ولبه , ونود أن تتوحد وجهة الأنظار والهمم, حتى يكون العمل أجدى , والإنتاج أعظم وأكبر .. فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية , غير ملوثة بلون، وهي مع الحق أينما كان .. تحب الإجماع , وتكره الشذوذ، وإن أعظم ما مني به المسلمون الفرقة والخلاف , وأساس ما انتصروا

به الحب والوحدة .. هذه قاعدة أساسية، وهدف معلوم لكل أخ مسلم , وعقيدة راسخة في نفوسنا , نصدر عنها , وندعوا إليها .. ! ومع هذا الوضوح والجلاء والبيان لكل ذي بصرر وبصيرة مَعًا، لم تسلم فكرة الإخوان المسلمين من مناوئين ومنغصين لها، ومتحاملين وحاقدين عليها، بل ولم تسلم من التآمر عليها والتربص بها شَرًّا .. * * *

أحقاد الصغار

أَحْقَادُ الصِّغَارِ: أيها الإخوان: «أعلن لكم هذه الخطوة .. أدعوكم إلى الجهاد العملي بعد الدعوة القولية ... والجهاد بثمن , وفيه تضحيات ... وسيكون من نتائج جهادكم هذا في سبيل الله والإسلام , أن يتعرض الموظفون منكم للاضطهاد, وما فوق الاضطهاد .. وأن يتعرض الأحرار منكم للمعاكسة وأكثر من المعاكسة .. وأن يدعى المترفون والمترفهون منكم إلى السجون , وما هو أشق من السجن .. ولتبلون في أموالكم وأنفسكم .. فمن كان معنا في هذه الخطوة فليتجهز وليستعد لها ومن قعدت به ظروفه أو صعب عليه تكاليف الجهاد سواء أكان شعبة من شعب الإخوان , أم فَرْدًا من أعضاء الجماعة .. فليبتعد عن الصف قليلاً .. وليدع كتيبة الله تسير .. ثم فليلقنا بعد ذلك في ميدان النصر - إن شاء الله .. ولا أقول لكم إلا كما قال إبراهيم من قبل: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] .. ».

أردتُ أن أبدأ بكلمات الإمام الشهيد هذه ليسأل أي إنسان نفسه هل كان حسن البنا يعرف اللف والدوران .. أو المواربة والالتواء؟ إن خصوم الفكرة الإسلامية لم يكن يؤرقهم شيء كما كانت تؤرقهم صراحة الرجل ولو كان حسن البنا «لَوْلَبِيًّا» أو سياسيًا محترفًا، لما ابتليت دعوته بطوفان من الابتلاء والمحن الفاشية، ولما سالت قطرة من دمائه في سبيل الحق الصريح الذي طالما جهر به .. ليعد هؤلاء الخصوم قراءة أقوال الرجل .. ويعيدوا النظر في سلوك الرجل، ونحن واثقون من أنهم سوف يقتنعون بأن صراحة الرجل فوق الشبهات .. إذا هم تجردوا من الهوى والغرض .. * * * ما أكثر الذين نالوا من الرجل والفكر إبان حياته .. وهؤلاء لا نجادلهم اليوم وقد تكفل الرجل بالرد عليهم .. وأيضًا ما أكثر الذين نالوا - ولا يزالون - من الرجل والفكرة بعد أن قضى الرجل نحبه شهيدًا في سبيل الله والحق .. وهؤلاء: فالذين يكتبون التاريخ بلسان القوة مِنْ عَلٍ, ومن مراكز السلطة وهم واثقون من أن إنسانًا - كائنًا من كان - لا يملك إلا تجاهلهم فضلاً عن التعقيب عليهم، وشأن هؤلاء شأن أولئك الذين نالوا من الرجل والفكرة ,

والجماعة تعيش محنتها .. لا تملك حرية الحركة فضلاً عن حرية الكلمة، هؤلاء ذوو مروءة ساقطة ... وهم أهون لدينا من أن نناقشهم الحساب .. سنترك وسائل الإعلام جانبًا .. ولا لوم عليها إذا كانت آزرت السلطة في عدوانها بالتشنيع على الرجل والفكرة والجماعة .. لأنها أداة للسلطة لا تملك إلا الطاعة ... ولنترك جانبًا أيضًا الخصوم الصغار من الأقزام الحمر وغيرهم .. لكن المثير للأسى أن يقف إلى جانب السلطة، من هم أحق الناس بالوقوف إلى جانب الحق .. أو على الأقل أن لا يقفوا إلى جانب الباطل .. ولو بالصمت .. إثر المحنة التي ألمت بالجماعة أواخر عام 1965 م أصدر السيد توفيق عويضة الملازم سابقًا، والأمين العام حاليًا للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة أصدر ملحقًا بمجلة " منبر الإسلام " في زهاء 150 صفحة يوزع مجانًا أسماه: " رأي الدين في إخوان الشياطين " كتب معظم مادته بعض علماء الأزهر وكتب افتتاحيته شيخ الأزهر الراحل الشيخ حسن مأمون , وبالرغم من أن التهمة التي اتهم بها الإخوان من تلفيق أجهزة الأمن واستجابة لأوامر موسكو وبالرغم

من أن التحقيق مع الإخوان، والذي لم تعرفه محاكم التفتيش لم يسجل إلا بأحط أساليب الإرهاب أن الإخوان كانوا ينوون التآمر على عبد الناصر ودكتاتورية نظامه ... بل لم يضبط مع الإخوان قطعة سلاح واحدة , إلا أن المقالات التي كتبت في ملحق " منبر الإسلام " .. كان جميعها يدين الجماعة بالإرهاب ولقد تطوع بعض مشايخ الأزهر فحكم على الإخوان بالخروج على الإسلام .. والمجال هنا لا يتسع لذكر الأسماء وقد عز علينا أن يلوثوا سمعتهم وضمائرهم من كنا نحسن الظن بهم وبرجولتهم واضطرونا إلى أن نسقطهم من أعيننا .. ولا يستطيع الإنسان أن يجيب حتى اليوم عن هذا السؤال: لماذا يقف بعض علماء الأزهر هذا الموقف من الإخوان؟ إن أول مكتب للإرشاد العام للإخوان المسلمين كان نصف أعضائه من أفاضل علماء الأزهر , ثم إن فكرة الإخوان فكرة إسلامية محضة بلا أدنى جدال .. إذن لماذا تصدر جماعة كبار العلماء بالأزهر البيانات إثر كل محنة تلم بالإخوان، وفيها اتهام لهم بأنهم مارقون من الإسلام ومحاربون لله ورسوله وساعون في الأرض فسادا؟؟ يوم تنفيذ

حكم الإعدام ظلمًا في الشهيد المجاهد الشيخ محمد فرغلي الذي كان واعظًا، كتب مفتش عام للوعظ في القاهرة متطوعًا في جريدة " الأهرام " يقول: «إن هيئة الوعظ والإرشاد بالأزهر تتبرأ من المدعو " محمد فرغلي "». وإذا كان هذا المفتش العام بالوعظ يجهل قيمة الشيخ محمد فرغلي الفدائي بالقنال , الذي أقض على الاحتلال الانجليزي مضاجعه حتى لقد كانت إذاعته تعلن عن مكافأة سخية «آلاف الجنيهات» لمن يأتي برأس الشيخ فرغلي أو رأس يوسف طلعت. أو حتى لمن يقبض على كليهما حَيًّا .. أقول: إذا كان مفتش الوعظ العام يجهل قدر الشيخ محمد فرغلي , أفلم يكن من باب اللياقة أن يراعي حق الزمالة على الأقل .. وخلال محنة عام 1948 في عهد الحكم السعدي قرر صاحب الفضيلة مدير المساجد بوزارة الأوقاف إجراء مسابقة بين خطباء المساجد موضوعها: الآية الكريمة: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 93] وليس المعنى - هنا - في بطن الشاعر - إذ كان الهدف من السابقة هو إعطاء فرصة للأئمة لكي ينالوا من جماعة الإخوان ما شاء لهم أن ينالوا .. وفي الجعبة الكثير ... ولكن .. وما أمر لكن هذه .. ! * * *

إن ما لقيته فكرة الإخوان من ابتلاء واضطهاد وإرهاب , باشرت كل هذه وأكثر منها الأنظمة الحاكمة بأجهزة أمنها ووسائل إعلامها هو أكثر مما يستوعبه كتاب مهما بلغ من الضخامة لم تكد الدعوة تسترد أنفاسها في الآونة الأخيرة .. حتى انبرى لها البعض في محاولة لإثارة الشكوك حولها , والمخاوف منها والتهجم على ماضيها وشيء طبيعي أن يخطط لهذه المحاولة الفكر اليساري في وضوح والفكر الصليبي من وراء حجاب وشيء طبيعي أيضًا أن يفزع هؤلاء وأولئك من وراء حجاب وشيء طبيعي أيضًا أن يفزع هؤلاء وأولئك لمجرد التقاط الدعوة لشيء من أنفساها لأن جميعهم قد توهموا أن الدعوة التي تلقت أعنف الضربات المتوالية على مسار زهاء ثلاثين عَامًا لا يمكن أن تقوم لها قائمة أو يثبت لها وجود بعد ذلك ومثل هذه النظرة لا تصدر إلا عن أناس قصيري النظر وذوي رؤية محدودة لمنطق الدعوات ذات المبادئ لا الشعارات .. فالمبادئ لا يقضي عليها ما دام لها جذور في أعماق الإيمان بها وإنما قد يضيق عليها , أو يتربص بها , أو تعلن الحرب الباردة حِينًا والمسخنة أحيانًا على أتباعها وعليها ذاتها ... ومع ذلك تظل المبادئ مستقرة كالطود لا تفتها العواصف بل العواصف هي التي تتفتت عليها. لقد أصدر - أخيرًا - الكاتب اليساري الدكتور رفعت السعيد،

كتابا عنوانه:" حسن البنا، متى، وكيف، ولماذا؟ " ونحن لا يسعنا إلا أن نقدر في الكاتب شجاعته فهو لم يخف على القارئ يساريته هذه ناحية والأخرى أنه نشر كتابه والإخوان قادرون على مناقشة كتابه، والرد على ما فيه، ولو قدر لكتابه هذا أن يصدر منذ سنوات حين كان الإخوان يعيشون محنتهم وهم عاجزون عن الرد، لأسقطناه من أعيننا، وسمونا بأقلامنا أن نناقشه أو نرد عليه، وبالطبع لا يسمح المجال هنا بتعقب كل ما في الكتاب. وإنما هي مجرد لقطات سريعة، ولعل الظروف تسمح في القريب بمناقشة كتابه ولك ما يمكن أن أقوله: إن الإخوان وهم أصحاب فكر لا تضيق صدورهم بالنقد ,حتى ولو اعتمد على أهواء مغرضة وخلفيات حاقدة , وهم يحفظون عن ظهر قلب قول الحق تبارك وتعالي: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]. في مقدمة الكتاب يقول الكاتب عن حسن البنا: " الرجل الذي استمتع بأكبر قدر من الإجلال .. وربما التقديس من مئات الآلاف من الأتباع والمريدين .. «والأمر يصعب تصويره .. فالولاء الصوفي للإمام أو الشيخ ...

يصعب حجمه ومغزاه كتابة , مهما استطالت الأسطر ومهما " استعارت" كل المترادفات البلاغية .. ويصبح الأمر أكثر تعقيدًا عندما يختلط خضوع المريد لشيخه , التزامه بقسم البيعة بالطاعة الصماء التي تهدد الناكص عنها بالخروج - ليس فقط من ثياب الجماعة أو المريد بل ومن ثياب المسلم أيضًا .. ». ونحن نأسف لأن الكاتب لم يوفق في ابتكار الصفات التي أضفاها على الرجل مثل القداسة والولاء الصوفي والطاعة الصماء. وربما كان للكاتب عذره فهو لم ير الرجل ولم يعايشه أو يحتك به .. وفي الصفحات الماضية رَدَدْتُ على مثل هذا التحامل الذي رَدَّدَهُ البعض من قبل وكان في هيئة الإخوان مكتب للإرشاد، وهيئة تأسيسية، ولم يحدث الرجل بقرار ملزم لأحد، أما أن يعتمد الكاتب - فيما بعد - على أقوال جاءت على لسان المرحوم محمود عبد اللطيف أو على لسان المرحوم هنداوي دوير , يستشهد بها على «ديكتاتورية» الرجل فهذا ما لا يحسن بالكاتب الأريب، وهو يعلم ما اتخذ ضد الأخوين من أساليب الإرهاب التي استوردت عام 1954 من النازية بل وهو يعلم أن الأخوين كَانَا مُهَدَّدَيْنِ بِالمَوْتِ .. وتم ذلك بعد أسابيع معدودة .. وللقارئ أن يدهش: من أين للكاتب أن الناكص عن البيعة لدى

الإخوان مهدد بالخروج من الإسلام؟ وهل في استطاعة الكاتب أن يأتي لنا بمثال واحد يثبت فيه أن الإخوان حكموا على أي إنسان فاصل الدعوة أو فاصلته الدعوة - بالخروج من الإسلام؟ لقد اعتزلت مجموعة ثم انشقت بعد ذلك مجموعة أخرى وقالوا في الإخوان والمرشد ما لم يقله مَالِكٌ في الخمر ,وبعد الثورة بأقل من عامين انشق أيضًا كان لهم مكانتهم ولا يزالون على قيد الحياة , فهل حدث أن حكمت الجماعة على أي من هؤلاء بالخروج من الإسلام؟؟ وآمل أن يكون من حقنا أن نسأل الكاتب: ماذا يفعل بإنسان إذا هو خرج على النظام الشيوعي؟ أي التهم توجه إليه إذا استطاع أن يفر ويهرب بجلده وعنقه؟ وأي العقوبات توقع عليه إذا قبضت عليه السلطات في أية دولة شيوعية؟ والإجابة ليست مشكلة من ناحية، ومن ناحية أخرى لا تقبل المغالطة .. وليت الكاتب قرأ كتاب:" مذكرات الدعوة والداعية " قراءة مُتَأَنٍّ ليرى أسلوب المرشد في معاملة المنشقين بل المتآمرين على الدعوة وهي في سنواتها الأولى بمدينة الإسماعيلية ... ونحن نزوده

أيضًا بكلمات للرجل ويرجع إليها الكاتب في رسالة:" دعوتنا " إن شاء , قال: «نلمتس العذر كل العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبدًا حائلاً دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير .. وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده وأوسع مشتملاته: ألسنا مسلمين وهم كذلك؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالاً للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم؟». ويقول الكاتب في المقدمة أيضًا: «امتدادات الفكر الذي اجتهد الشيخ البنا في غرسه تتجدد الآن بصورة ملحة , ولعلها أيضًا تتشعب بصورة تقلق أصدقاء الدعوة وأعداءها مَعًا، فهي مع تشعبها تتخذ مسارات متطرفة، بل وهو جاء في أحيان كثيرة، ومن ثم، فإن أية محاولة جادة لتفهم الامتدادات الحالية بتشعباتها وشظاياها، تصبح مستحيلة بغير إلقاء نظرة فاحصة إلى البئر التي انزاحت من مياهه كل هذه الموجات جميعا». واضح أن الكاتب يحاول أَنْ يُحَمِّلَ فكر حسن البنا مسؤولية ما حدث

أخيرًا من موجات متطرفة باسم الدين ويعني - بالطبع - (جماعة التكفير والهجرة)، بالرغم من أن هذه الجماعة أثناء المحاكمة هاجمت فكر الإخوان وأعلنت رفضه على لسان كبيرها، وبالرغم من أن فكر الإخوان هو فكر الإسلام ذاته، ولم يسجل مثل هذا الفكر المتطرف الذي يقصده الكاتب على تاريخ الإخوان، وتقولات أجهزة الأمن وأذنابها من وسائل الإعلام وغيرها تقولات ساقطة من أساسها .. والذي يقتضيه الإنصاف من الكاتب المتجرد - وشاء الكاتب ألا يفعله - وهو أن هذه الموجات المتطرفة - على حد تعبيره - ليست إلا رد فعل لمجتمع الجاهلية الذي تعيشه الدول المسلمة اليوم، وللفراغ الديني الذي يعايشه الشباب المسلم، وإذا كان الكاتب يعترف أن هذه الموجات تقلق أصدقاء الدعوة وأعداءها فكيف يلقي تبعتها على فكر حسن البنا؟ حاول الكاتب في أماكن متفرقة من كتابه أن يغمز فكر الإخوان ويجعله مناوئًا للتجديد مغلقًا في وجه التقدم الحضاري الذي يتميز به الغرب .. ويعجب الإنسان لمحاولة الكاتب هذه، فما عرف فكر الإخوان الجمود ولا التزمت , ولا يعتبر اعتداد الإخوان بتراثهم وأصول دينهم أو إيمانهم بأن في معطيات الإسلام ما هو كفيل بالتقدم في

مجالات الإصلاح لا يعتبر هذا أو ذاك جمودًا وبلا أدنى عاطفة أو تعاطف، يعتبر فكر الإخوان هو الذي بعث الحياة والحركة من جديد في المفاهيم الإسلامية التي ظلت راكدة رَدْحًا كَبِيرًا من الزمن .. ولا أظن اليساريين يرضون أن يتهموا بالجمود والرجعية لأنهم ملتزمون بفكر ماركس أو إنجلز أو لينين .. ثم من أين للكاتب أن فكر الإخوان قد رفض الحضارة الغربية رفضًا مطلقًا؟ إن فكر الإخوان يُقَوِّمُ أي فكر حضاري بمقياس الإسلام فهل يطلب منهم أن يقبلوا أو يتقبلوا حضارة مزعومة مناقضة للإسلام؟ إن الفكر الحضاري الذي يمكن أن يعيد الإنسانية هو في نظر الفكر الإسلامي فكر مقبول شكلاً وموضوعًا وأعجب من هذا أن الكاتب نقل من جريدة " الأهرام " خبرًا هو في حد ذاته دليل عليه لا له والعجيب أن تاريخ نشر الخبر هو يناير عام 1930 أي بعد إنشاء دعوة الإخوان بأقل من عامين يقول الخبر: «إن الإخوان يقدمون للبيئة المصرية معهدًا علميًا متكاملاً بإنشائها قسمًا ليليًا للغات الحية، وآخر للفنون الجميلة، نذكر منها: الموسيقى الشرقية وفن التمثيل من الناحية الأخلاقية، وأنشأت قسمًا للحفر - بالإضافة إلى القسم الرياضي - وبجانب هذه الأقسام اهتمت الجماعة

بتكوين مكتبة عامرة بالمؤلفات النفيسة والمطبوعات مما جعلها مرجعًا وافيًا بحاجة الأعضاء». لقد نشر الكاتب ما نشرته جريدة " الأهرام " من زاوية خاصة به فقد لاحظ أن جريدة " الأهرام " المحافظة تتابع - بصورة غريبة - نشاط الجماعة مقرظة، ومؤيدة، ولست أدري ماذا يقصد الكاتب بهذا الكلام .. ؟ هنا يمكن أن نقول: إن المعنى في بطن الشاعر .. وبعد .. فقد حاول الكاتب ألا يكون كاتبًا متجردًا، فإن الاتهامات التي وجهها إلى الرجل والفكرة، وإلى سلوك الجماعة .. وإن التحليلات التي اتسمت بالهوى، والتي خرج منها الكاتب بمجموعة من الهجوم والتهجم، والسخرية والتهكم، ليشوه صورة الفكر والرجل والجماعة، هذه أو تلك لا تجعلنا ننكر حق الكاتب في إبداء رأيه حُرًّا .. أو نحمله فوق طاقته كي يكون مؤرخًا متجردًا وخلاصة ما نود أن نقوله: ليس مثيرًا للدهشة أن يصدر هذا الكتاب عن كاتب يساري ملتزم .. وإنما المثير حَقًّا ألا يصدر عنه مثل هذا الكتاب .. ورحم الله الشاعر العربي: وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ * ... * ... * وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاوِيَا ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه .. ! * * *

الناكثون والناكصون

النَّاكِثُونَ وَالنَّاكِصُونَ: على مائدة الأستاذ مختار عبد العليم المحامي بالإسكندرية، وفي دارهم ببلدة مشطا محافظة سوهاج، جلست على يمين الإمام الشهيد .. وكان في ذهني شيء طالما تمنيت أن تتاح فرصة للإدلاء به إليه هَمْسًا دون أن يسمعه أحد - لا لأني كنت أخشى الجهر به على ملأ - ولكن لأن تصوري لهذا الشيء لم يكن مستقرًا في ذهني .. قلت للإمام الشهيد هَمْسًا: «إن الدعوات لا تقاس بمقياس الكم وإنما بمقياس الكيف .. وأرى أن الانضمام إلى الإخوان بلا قيود أو شروط، أعطى الفرصة لكل من هب ودب لكي يعلن انتسابه، وربما كان فيهم من بهرته أضواء الجماعة، وربما كان فيهم من طلاب المنافع .. وربما .. فماذا لو وضعنا ضوابط للذين يريدون الانتساب .. كأن نحدد لهم قدرًا من الثقافة الإسلامية يحملونه ويظلون زمنًا في إطار الانتساب وتحت الاختبار، ثم ينقل الصالح منهم إلى العضوية العاملة وابتسم الإمام الشهيد , وقال:

يا فلان .. هل تريد مني ما لم يرده الله من أنبيائه ورسله وهم صفوة خلقه؟ إن هؤلاء - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ - لم يكلفوا البحث عن نوايا الناس، أو التنقيب في قلوبهم وصدورهم، ونحن مقتدون بأنبياء الله ورسله .. نحكم على الناس بظواهرهم، والله وحده هو الذي يتولى نواياهم وسرائرهم ... يا فلان .. إن الابتلاء سنة من سنن الحق - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - جعلها لازمة للدعوات، ومن يدري فلعل هذه الدعوة تواجه مِحَنًا عَاتِيَةً، تعدون فيها الرجال على الأصابع .. !». والتزمت الصمت في اقتناع .. وواجهت الدعوة من المحن ما واجهت .. ولم أنس خلالها وحتى اليوم كلمات الرجل التي لا يزال رنينها في ذهني، وكنت أكثر تذكارًا لها حين كانت تشتد المحن وتتفاقم في القسوة والعنف، وكنت أحاول أن أتلمس عذرًا للناكثين الذين لم تسعفهم ظروفهم المعيشية أو ظروفهم الصحية، أو طاقات احتمالهم، كي يواجهوا المحنة أو يتذرعوا بالثبات على مبادئهم، بالرغم من أن دعوة الإخوان كانت صريحة معهم حين عرضت عليهم أو حين عرضوا هم أنفسهم عليها، وكانت صريحة معهم حين عايشوها وعايشتهم .. إنها لم تخدع

أحدًا ولم تغرر بأحد، ولم ينخدع إليها أحد، ولم يغرر بها أحد، كل شيء فيها واضح لا لبس فيه ولا غموض .. أجل: كل شيء كان واضحًا للعيان، فالذين قبلوا الانضمام إليها عن رضى وطواعية قبلوا كل مبدأ من مبادئها قبلوا: أن الجهاد سبيلهم، وأن الموت في سبيل الله أسمى أمانيهم، ولم يدر بخلدهم إلا أن هذا المبدأ جاد لا هزل فيه .. ليس شعار تهتف الحناجر به، وليس مفهوم الجهاد - فحسب - أن نحمل سلاحنا لقتال الغاصب والمحتل، بل أيضًا أن نحمل إيماننا ونضع أرواحنا فوق أكفنا لنواجه الباطل والجور فاعتداء الغاصب والمحتل على الأرض، ليس أفدح خطرًا من اعتداء الطاغية والمستبد على الدين .. لذلك كله كان الإمام الشهيد يقول: «ومن قعدت به ظروفه .. أو صعبت عليه تكاليف الجهاد سواء أكان شعبة من شعب الإخوان، أم فردًا من أعضاء الجماعة - فليبتعد عن الصف قليلاً .. وليدع كتيبة الله تسير. ثم فليلقنا بعد ذلك في ميدان النصر إن شاء الله .. ». ولذلك كله كان الإمام الشهيد يخاطب الشباب ويقول: «على هذه القواعد الثابتة .. وإلى هذه التعاليم ندعوكم جميعا، فإن آمنتم بفكرتنا واتبعتم خطواتنا .. وسلكتم معنا سبيل الإسلام

الحنيف وتجردتم من كل فكرة سوى ذلك .. ووقفتم لعقيدتكم كل جهودكم .. فهو الخير لكم .. وسيحقق الله بكم - إن شاء الله - ما حقق بأسلافكم في العصر الأول .. وسيجدد كل عامل صادق منكم في ميدان الإخوان ما يرضي همته , ويستغرق مدى نشاطه إن كان من الصادقين .. وإن أبيتم إلا التذبذب والاضطراب والتردد بين الدعوات الحائرة والمناهج الفاشلة فإن كتيبة الله ستسير غير عابئة بقلة ولا بكثرة .. وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم .. » * * * وحاولت جاهدًا أن التمس عذرًا - دون جدوى - للذين نكصوا .. أعني بهم الذين خذلوا الدعوة إبان محنتها أو أسلموها لأعدائها أو طعنوها من الخلف .. وقد كانوا في الدعوة إبان أمنها ملء أسماع الإخوان وأبصارهم وأحاسيسهم ومشاعرهم .. وقد أفادوا من الدعوة وأفادت الدعوة منهم - وهذا حق - وحق أيضًا. أنه لولا هذه الدعوة لظل معظمهم مغمورًا .. وقد تربع البعض منهم على كرسي الوزارة - وهذا حظه من الدنيا - إما لأنه أسهم في إيجاد الشرخ في جدار الدعوة وإما لأنه لديه استعداد لمساندة قوة الباطل على الدعوة ..

لم يكن منشأ هذا النكوص خلافًا في الرأي مع القيادة الجديدة للجماعة .. فقد اختلف الأستاذ مصطفى مؤمن مع الإمام الشهيد كما اختلف غيره لكن هذا الخلاف الذي أدى إلى اعتزال مصطفى مؤمن الجماعة لم يؤد به إلى إطلاق العنان لقلمه أو لسانه على الدعوة وقائد الجماعة والمقربين منه كما فعل هؤلاء الناكصون الذين أعنيهم .. صحيح أن الأستاذ السكري وغيره حين اختلفوا مع الإمام الشهيد قد فقدوا أعصابهم وقبلوا على أنفسهم أن يسخروا أقلامهم لصحف الوفد - وهو يومئذ خصم للجماعة - لينالوا من الجماعة وقائدها .. لكن الفرق بين هؤلاء وأولئك أن السكري وفرقته فعلوا ما فعلوه والجماعة قائمة لها أقلامها وألسنتها التي كانت كفيلة بالتصدي لأي هجوم ثم إن خصومة الوفد القائمة على التنافس بينه وبين الجماعة كانت خصومة شخصية لم يكن هدف الوفد الدعوة الإسلامية ذاتها .. أما الناكصون فقد نكصوا والدعوة مقبلة على محنة وتفاقم نكوصهم والدعوة في أتون المحنة، والجماعة لا تملك ألسنة ولا أقلامًا تدافع بها عن نفسها، ثم إن الخصومة مع الدعوة لم تكن خصومة شريفة بل خصومة ضارية، دافعها، وهدفها الحركة الإسلامية ذاتها .. بل إن النفوذ الأمريكي كان عام 1954 هو المخطط

لضرب الحركة الإسلامية ومن خلفه وسائل الإعلام في الغرب الصليبي .. بقي الذين شغلتهم أموالهم وأهلوهم ومناصبهم عن الدعوة .. وهؤلاء نسأل الله أن يهيدهم، ويعيدهم إلى الصواب، ويعيد الصواب إليهم .. فالحياة ليست أموالاً وأعمالاً ومناصب وأمجادًا - فحسب - بل هي عقيدة ومبدأ والإنسان لا يحيا بالمال والأهل والمجد وإنما بالعقيدة والمبدأ والعمل لهما والثبات عليهما .. ! * * *

كلمات أخيرة

كَلِمَاتٌ أَخِيرَةٌ: كان لا بد أن يموت هذا الرجل .. الذي صنع التاريخ وحول مجرى الطريق شهيدًا .. كما مات عمر وعلي والحسين .. فقد كان الرجل يقتفي خطواتهم .. مات في عمر الزهر النضير وفي نفس السن التي مات فيها كثير من العباقرة ورجال الفكر وقضى وهو يسطع ويتألق .. وعاش الرجل كل لحظة من حياته، بعد أن عجزت كل وسائل الإغراء في تحويله عن نقاء الفكرة وسلامة الهدف .. لم يحن رأسه .. ولم يتراجع .. ولم يتردد أمام المثبطات ولا المهددات .. وكان الرجل قذى في عيون بعض الناس .. وحاول الكثيرون أن يفيدوا من القوة التي يسيطر عليها، فقال لهم: إن أنصاره ليسوا عَصًا في يد أحد .. إنهم لله وحده .. وحاول البعض أن يضموه إليهم أو يطوره فكان أصلب عُودًا من أن يخدع أو ينطوي .. ماذا يمكن أن يضيفه الكاتب - أي كاتب - إلى هذه الكلمات التي سجلها كاتب أمريكي له مقامه ومكانته بين كتاب العالم؟ ..

لم يكن مسلمًا فضلاً عن أن يكون منتميًا لجماعة الإخوان المسلمين إنه الكاتب الأمريكي .. روبير جاكسون .. في رسالة عن " حسن البنا .. الرجل القرآني " .. * * * أيها الشباب: يخطئ من يظن: أن الإخوان المسلمين .. " دراويش" قد حصروا أنفسهم في دارة ضيقة من العبادات الإسلامية. ويخطئ من يظن: أن الإخوان المسلمين يتبرمون بالوطن .. فالإخوان المسلمون أشد الناس إخلاصًا لأوطانهم , وتفانيًا في خدمة هذه الأوطان واحترامًا لكل من يعمل لها مخلصًا .. ويخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين دعاة كسل أو إهمال فالإخوان يعلنون في كل أوقاتهم أن المسلم لا بد أن يكون إمامًا في كل شيء ولا يرضون بغير القيادة العمل والجهاد والسبق في كل شيء: في العلم وفي القوة وفي الصحة وفي المال ..

ويخطئ من يظن: أن الإخوان المسلمين دعاة تفريق عنصري بين طبقات الأمة .. فنحن نعلم أن الإسلام عني أدق العناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة بين الإنسان ... وهذه هي دعوة الإخوان في كلمات موجزة جاءت على لسان مؤسسها وداعيتها الأول , الإمام الشهيد .. فماذا يمكن أن يضيف إليها الكاتب - أي كاتب؟ وهل يمكن لإنسان - بعد هذا الوضوح - أن يثير حول الفكرة شبهة من الشبهات أو إرجافا من الأراجيف، إلا إذا كان هذا الإنسان مُجَرَّدًا مِنَ الضَّمِيرِ عَاجِزًا عن أن يكون متجردًا من الشهوة والهوى .. * * * ولكن البلاد لم تستطع أن تقدر هذه النهضة التي قامت بها حركة الإخوان قدرها، كما أن المعدة الضعيفة المريضة لا تستطيع أن تهضم الغذاء الصالح القوي فتتخم في بعض الأحيان .. فكان كل ما يعلمه الجميع - يعني المحنة - وكانت كارثة إسلامية، لم يخسر فيها الإخوان فقط بل خسر فيها الإسلام ورزئ بها العالم الإسلامي. ولكني أعتقد أن الله - سبحانه - قد أراد بهذه الدعوة خيرًا إذ ردها قَسْرًا إلى مرحلة الدعوة الإسلامية الأولى لتزداد هذه الدعوة

نُضْجًا وَلِيَزْدَادَ رجالها تربية وحنكة , ومبادئها رُسُوخًا وقوة وأخذ بنواصي العاملين الدعاة، ليفكروا في مستقبل هذه الدعوة ويرسموا خطتها ويحكموا وضعها وأسلوبها. وهذه كلمات العلامة المسلم الهندي في رسالته " أريد أن أتحدث إلى الإخوان " (*) فماذا يمكن أن يضيفه الكاتب - أي كاتب إليها؟ إنها كلمات نابضة من العقل والقلب مَعًا .. وبعد .... فقد سألني بعض شباب الجامعة في إحدى المحاضرات الإسلامية هل هناك أمل في أن تعود دعوة الإخوان المسلمين إلى الحياة؟ وقلت: أولاً: متى كانت دعوة الإخوان غائبة عن الحياة حتى تعود إليها .. إن المبادئ الحية لا تموت ولا تخضع لأسوار سجن أو معتقل. ثانيًا: لا أتمني على الله أن تعود إلى الوجود الشكلي بقرار .. لأن الذي يملك أن يمنح الوجود لشيء يملك أيضًا أن يسلبه إياه بل أتمنى على الله أن تفرض مبادئ الدعوة نفسها على المجتمع الذي لا بد أن يحس بها إن قريبًا .. وإن بعيدًا وما ذلك على الله ببعيد .. ! ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) هو الداعية أبو الحسن علي الحسني الندوي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وكتابه " منذ خمسين عامًا أريد أن أتحدث إلى الإخوان ".

§1/1