حركة التجديد والإصلاح في نجد

عبد الله العجلان

مقدمة

مقدمة ... حركة التجديد والإصلاح في نجد في العصر الحديث تأليف:الدكتور عبد الله بن محمد العجلان وكيل الرئيس العام لتعليم البنات للتعليم العالي الرياض 1409هـ /1989م

مقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه 00 وبعد00 فإني كنت عضو اللجنة التحضيرية في مكتب التربية العربي لدول الخليج لندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر التي عقدت في دولة البحرين في الفترة من 3-6/6/1405هـ، والتي دعي لها عدد من رجال الفكر الإسلامي على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم, ولما كانت حركة الإصلاح والتجديد في العصر الحديث على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله واحدة من الحركات المهمة التي تحقق لها قدر كبير من النجاح فقد ظل لها حضور مستمر في الأوساط العلمية وقد استكتبت اللجنة بعضا من الشخصيات المهتمة بهذه الحركة والواعية لمبادئها وأفكارها ومنهجها الإصلاحي وكنت واحدا منهم فلبيت الدعوة حينما طلبت مني اللجنة التحضيرية أن ألتزم بالكتابة عن هذا الموضوع فكتبت بحثا لهذه الندوة عن هذه الحركة في حدود خمسين صفحة. ولما طبعت وقائع هذه الندوة وبحوثها واطلع عليها بعض معارفي أثنوا على البحث وطلبوا مني توسيعه وإخراجه في كتاب مستقل, وألحوا في ذلك, فاستخرت الله ثم قبلت الفكرة فرجعت للبحث وعدلت بعض موضوعاته وأعدت تنظيمه وزدت على بعض فصوله وحذفت من بعض مباحثه ما كان من باب الاستطراد أو الخلفيات العامة وأعدت كتابة بعض فصوله حتى جعلته في الصورة التي ظهر بها. ولم أجعل مهمتي هي التأريخ لهذه الحركة الإصلاحية الأصلية وضبط وقائعها وتسجيل حوادثها بقدر ما ركزت اهتمامي على الفكرة ذاتها والمبادئ التي قامت عليها

ومنهاجها التربوي لإعداد الفرد الصالح والمجتمع النظيف والقيادة السياسية الرشيدة وما ذكرته في السياق التاريخي كان الهدف منه توضيح الظروف والأحوال التي مهدت لهذه الحركة وتصوير الحياة العامة في بيئة الدعوة للتعرف على الأرضية التي نبتت فيها. وقد خرج البحث في صورته النهائية في مقدمة وستة فصول تحدثت في المقدمة عن أوضاع المسلمين عامة في القرن الثاني عشر الهجري من النواحي السياسية والدينية وخصصت الفصل الأول عن أوضاع نجد قبيل الدعوة الإصلاحية في الجوانب السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية وما كان فيها من فرقة واختلاف وتفكك وضيق وتخلف وانحراف عن مبادئ الإسلام السمحة. وجعلت الفصل الثاني عن حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب نسبه وولادته ونشأته ورحلاته العلمية وروافد فكره وبيان أسلوبه في الدعوة. أما الفصل الثالث وهو أهم فصول الرسالة فقد خصصته لبيان حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأنها عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم بإحسان في القرون المفضلة وما تلاها وأنه لم يشذ عنهم في أي أصل من أصولها أو جزئية من جزئياتها. كما تحدثت في هذا الفصل عن دعوة الشيخ الإصلاحية في أسسها ومنطلقاتها وفلسفتها والغاية منها وطريقته في معالجة الأمور وفقهه فيها، واعتمدت في هذا كله على كتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه كما استعنت عند الحاجة بكتابات تلامذة هذه المدرسة الإصلاحية. كما تناولت في هذا الفصل قضايا ذات صلة وثيقة بالعقيدة والدعوة ومنشأ الخلاف تتمثل في تجلية بعض المفاهيم والمعاني الشرعية لكثير من مبادئ الدين الحنيف، كما أوضحت في هذا الفصل كذلك مذهبه في الفقه وموقفه من الأئمة الأربعة في العالم الإسلامي.

أما الفصل الرابع فقد تناولت فيه المنهاج التربوي لهذه الحركة وهو بحث لم أطلع على أن أحدا قد تناوله ممن كتبوا عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مع أنه معلم بارز في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهو يمثل فصلا مهما في هذا البحث المتواضع تحدثت فيه عن الهدف من الدعوة ووسائل تحقيق هذه الأهداف وعن منهاجه التربوي في خطواته المحددة، كما ذكرت خصائص التربية في منهاجه وعن أثر المنهاج التربوي في تنشيط هذه الحركة. أما الفصل الخامس فقد تناولت فيه موقف المعارضة في الداخل والخارج والجهود التي بذلت في مقاومة حركة الإصلاح والشبهات التي أثيرت حول الدعوة ومناقشة هذه الشبهات من كتابات الشيخ محمد – رحمه الله – وغيره وتبين أن معظم هذه الشبهات ليس لها أصل البتة ومنها ما له أصل صحيح وزاد عليه الخصوم فدافع الشيخ عنها وأبان وجه الحق فيها وأقام الدليل عليها. أما الفصل السادس فقد تناولت فيه نتائج حركة التجديد السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية وآثارها على العالم الإسلامي باعتبارها حركة الإصلاح الرائدة والفاتحة لكل حركات الإصلاح في العصر الحديث. وقد بذلت في جمع مادة هذا البحث ما استطعت واعتمدت على كتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه، وركزت على رسائله الشخصية ومؤلفاته في العقيدة، كما استعنت بالمصادر التاريخية لهذه الفترة. وإذا كان كثير من الكتابات التي تناولت هذه الحركة ركز على النواحي التاريخية والسياسية فإن هذا البحث قد ركز على جوانب العقيدة والدعوة ومنشأ الخلاف مع المعارضة لها في نجد وعلى المنهاج التربوي لهذه الحركة وأسلوب الدعوة وعلى مناقشة الشبهات التي أثيرت ضدها. ومع كل ما بذل في هذا البحث من جهد ووقت فإنني أعتقد أنه محاولة يعتريها النقص والقصور كأي عمل بشري آخر، ولكنها تمثل خطوة في طريق مهم وصعب

في شرح حقيقة هذه الحركة الإصلاحية الأصيلة وفقه الدعوة فيها والوقوف على معالم منهاجها التربوي المعطاء أملا في الاستفادة من هذه التجربة الناجحة في مستقبل هذه الأمة المسلمة التي هي في حاجة دائمة إلى الإصلاح والتجديد كلما اندرست المعالم أو انحرفت المجتمعات البشرية المسلمة عن جادة الحق أو ضلت السبل مع إضافة ما تحتاج إليه الحياة المعاصرة من أساليب وطرق تقتضيها مستجدات الحياة ووسائل العصر وأنماط الممارسات. ورجائي في الله كبير بأن أكون قد وفقت فيما أقدمه اليوم للمكتبة الإسلامية وأملي في إخواني القراء أن يغفروا الزلات وأن يعينوني بملاحظاتهم وتوجيهاتهم في كل ما كتبت لملاحظة ذلك في الطبعة القادمة أملا في الوصول إلى الأفضل والأكمل راجيا من الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به المهتمين بالإصلاح. والله هوالموفق والهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل. المؤلف دكتور عبد الله بن محمد العجلان الرياض شهر جمادى الثانية 1409هـ الموافق شهر يناير 1989م

تمهيد

تمهيد ... نبذة تاريخية بعد انبلاج فجر الإسلام وبزوغ شمسه وظهوره على الدين كله وإتمام الرسالة الخاتمة وإقامة مجتمع إسلامي فريد في التاريخ يمثل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في أكمل صورة في جوانب الحياة كلها وانطلاق الأمة المسلمة بهذا الدين الخالد والرسالة الخاتمة، داعية له ومبشرة به ومجاهدة في سبيل نشره وإعلاء كلمة الله في الأرض ومعطية من نفسها القدوة الحسنة والمثال الكريم يتقدمها نبي الهدي عليه الصلاة والسلام، ولم ينتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى تركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، حمل الأمانة من بعده أفضل هذه الأمة بعد نبيها وهم صحابته الكرام عليهم من الله الرحمة والرضوان لهم جميعا منا الحبة والولاء والاحترام والدعوات المخلصة بأن يجزيهم الله عن هذه الأمة ونبيها ودينها خير الجزاء. فقام بالأمر والإمامة في هذه الأمة بعد نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم وأرضاهم فقادوا الأمة إلى الخير وأقاموا فيها العدل وقاموا بواجب الدعوة ونشر الإسلام وحراسة الدين ورفع لواء الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله وسارت الجيوش الإسلامية في البلاد مشرقة ومغربة لنشر الهدي ورفع الظلم وتحقيق العدل ورد الناس إلى الله، ثم جاءت بعد الخلافة الراشدة الدولة الإسلامية المجاهدة "الدولة الأموية" التي نذرت نفسها في سبيل الله ورفعت راية الإسلام عالية خفاقة حتى أخذت راية التوحيد أبعد مدى لها في الأرض واحتلت ثلاثة أرباع المعمورة المعروفة حينذاك ثم قامت على أنقاضها الدولة العباسية وفي صدر هذه الدولة الإسلامية العظيمة وطدت أركان الخلافة الإسلامية ومصرت الأمصار وتكونت حواضر العالم الإسلامي، وإذا كانت الفتوحات الإسلامية قد توقفت في هذه الفترة التاريخية عن طريق الجهاد المعلن والجيوش الفاتحة، فإنه لم

يتوقف فيها نشر الدعوة الإسلامية عن طريق الصلات العلمية وبالقدوة الحسنة التي يتحلى بها المسلم في هذه الخلافة الإسلامية وما سبقها من تاريخ الأمة المسلمة من صفات عظيمة وأسوة حسنة وتعامل نظيف وأمانة في القول والعمل ومثالية في الأخذ والعطاءة وعالمية النظرة وإنسانية حضارية في كل نشاطات الحياة. وفي صدر هذه الخلافة الإسلامية ازدهرت حواضر العالم الإسلامي بالعلوم والمعارف واستثمرت الجهود التي بذلت ووضعت بذورها الجيدة في عهد النبوة وما تلاها من عهدي الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، فدونت العلوم وقامت المدارس الإسلامية وأصلت المذاهب الفقهية وترجمت كثير من العلوم عن الفرس والروم والهنود وأقيمت المكتبات العامة ووضعت لها المخصصات المالية الكفيلة بنموها وازدهارها واستمر الأمر على ذلك ما شاء الله في أزمان متطاولة. ولما تطاول الزمن وبعد الناس عن عهد النبوة والخلافة الراشدة ودول الفتوحات الإسلامية وكثرت النعم وتيسرت أسباب العيش الناعم وتحقق من الأمن والسلام ما لم تشهد البشرية له مثيلا في ظل أي نظام قبل الإسلام ونشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، ودخل الترف إلى دور الخلافة وانشغل بعض قادة المسلمين وذوي الرأي والسلطان فيهم بالمتع الزائلة وشهوات النفس ووكلت بعض الأمور المهمة في الخلافة الإسلامية إلى غير الأكفاء أو إلى الكفاءات المترفة المشغولة بملذاتها، وتسربت بعض العناصر الشعوبية المعادية للإسلام وقيادته العربية المسلمة إلى بعض المراكز القيادية المهمة التي مكنتها من إفساح المجال للأفكار التي لا تتفق مع الإسلام ومبادئه العامة وأصوله الثابتة وظل التحول في الحياة السياسية والاجتماعية والدينية في تدهور مستمر تدريجيا حتى وصل الأمر بها في عهودها المتأخرة إلى أن صار للخليفة العباسي الاسم فقط والقيادة العملية في يد غير هـ ممن ليس لهم اهتمام كبير بالدين في تصرفاتهم ولا في حياتهم الدينية، مما جعل الخلافة الإسلامية في المشرق تفقد قوتها ويقل احترامها في صفوف المسلمين مما سهل الخروج عليها وقيام الثورات الداخلية ضدها، حتى تعددت الدول وتكاثرت الممالك وظلت الأمة المسلمة تبتعد شيئا فشيئا عن دينها في المجال السياسي والاجتماعي وظلت تفقد من قوتها واحترامها

بقدر ما تفرط فيه من أمر دينها حتى وصلت إلى حالة من الضعف الذي أطمع فيها الأعداء. فقد بدأت الدولة الإسلامية الأموية في الأندلس التي عاصرت الدولة العباسية في المشرق بدولة إسلامية خالصة موحدة ومضت في هذا الاتجاه فترة طويلة حتى دب إليها داء الأمم قبلها ووصلت إلى ما يعرف بدويلات ملوك الطوائف ثم انتهت بغروب شمس الإسلام في الأندلس. وظلت الشعوب الإسلامية في المشرق الإسلامي معتزة بدينها ومحافظة على تراثها عاملة قدر مستطاعها على الأخذ بمبادئ الإسلام في مختلف شئون حياتها، إلا أنها ظلت تفتقر إلى القيادة السياسية الموحدة التي تجمع كلمتها وتوحد صفوفها وترص بناءها وتعمل على نشر دينها ودحر أعدائها والوقوف القوي في وجه أطماع الغرب المسيحي والشرق المغولي بعده، ووجد أعداء هذا الدين الفرصة سانحة للانقضاض على هذه الأمة بضعف عقيدتها في النفوس واحتلال مقدساتها، ولهذا فقد تعرضت هذه الأمة لموجتين متتاليتين من الغزو هما: 1- الغزو الصليبي من الغرب الأوروبي. 2- الغزو المغولي من الشرق الآسيوي. وإذا كانت الحملة الصليبية الأولى التي قامت بها الدول الأوروبية المسيحية لم تنجح في تحقيق أهدافها العدوانية على العالم الإسلامي وردت على أعقابها خاسرة، فإنها لم تيأس من تحقيق النصر لا سيما مع ما ظهر من ترد في أحوال المسلمين عاما بعد عام، مما جعلها تعد العدة وتستنفر الناس كافة للجهاد المقدس لاسترداد بيت المقدس وقد تحقق لها بعض مرادها في احتلال القدس والبقاء في فلسطين ما يقارب مائة عام، مع ما ترك هذا الغزو الصليبي المسلح في نفس كل مسلم من ألم وحرقة على ضياع إحدى مقدساته ومسرى رسوله واحتلال جزء من أرضه. وكان لهذه الحملات الصليبية آثارها المتبادلة بين عالمين هما العالم الإسلامي والعالم المسيحي الأوروبي، وكانت الرابحة في هذا التبادل هي الدول الغربية التي

كانت تعيش في جهل وظلام وكان العالم الإسلامي مع ما وصل إليه من ضعف سياسي واجتماعي على أثارة من علم لا عهد لأوروبا به، فأخذت هذه العلوم وطوعتها لصالحها ونمتها وفتحت بها لنفسها آفاقا جديدة أعطت ثمارها فيما بعد مما نشاهده في الحضارة الغربية اليوم، ولكنه كان أخذا غير رشيد إذ أخذت الجانب المادي التجريبي وأهملت الجانب الروحي والأخلاقي السلوكي مما جعلها حضارة عرجاء مع ما لديها من إنجاز ضخم. أما العالم الإسلامي فكان نصيبه من هذا الاحتكاك أخذ بعض المظاهر الحياتية والعادات السيئة والأفكار المنحرفة من الحملات الصليبية وإذا كانت الأمة المسلمة قد استعادت بيت المقدس بعد مضي ما يقارب ثلاثة أجيال من احتلاله من الصليبين فإنها لم تستطع أن تستعيد سيرتها الأولى في ظل الحياة الإسلامية الكاملة، بل تعرف فيها وتنكر إذ تتنازعها الأهواء وتتقاسمها المطامع ويمزقها الاختلاف حتى صارت أحزابا وشيعا من داخلها. ثم جاءت موجة المغول من الشرق بكل ما تحمله من حقد وهمجية وشراسة ووحشية وفتك بالعالم الإسلامي لكل المظاهر الحضارية القائمة فيه فهبوا هبوب الريح على العالم الإسلامي قتلا وفتكا وتدميرا حتى سقطت عاصمة الخلافة الإسلامية في بغداد على يد هولاكو التتري عام 656هـ ودمر مركز الحضارة الإسلامية شر تدمير إذ كان القتل والفتك يفوق كل تصور، بل إنهم أحرقوا الكتب ورموا بالمخطوطات والمؤلفات في مختلف العلوم والمعارف في نهر دجلة حتى غير مداد الكتب والمخطوطات ماء النهر على سعته وكثرة مياهه. والمصادر التاريخية تتحدث عن هذه الهمجية الشرسة والموجة المغولية المدمرة فتقول: "وكان الشرق الإسلامي مازال يشقى وتتوالى عليه فجائع المغول وأهوالهم وأمامنا الآن آخر داهية من دواهيهم وهي زحف تيمورلنك في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي. ففي هذا العهد كان المغول الأول الغربيون قد صاروا مسلمين غير أن الإسلام لم يذهب بالكثير من وحشيتهم وبربريتهم واقتفي تيمورلنك آثار جنكيز

العالم الإسلامي يعاني من سوء الأحوال ويتلمس الخلاص من نظام الخلافة التركية في عهودها المتأخرة. وفي القرن الثاني عشر الهجري كان العالم الإسلامي وقعا تحت نفوذ ثلاث دول إسلامية هي: 1- الخلافة العثمانية السنية: في آسيا الصغرى وأجزاء مهمة من أوروبا ودول البلقان وشمال أفريقيا وكل البلاد العربية حتى بلاد فارس، وقد بلغت هذه الخلافة ذروة مجدها في القرن العاشر الهجري ثم أدركها الهرم ودب فيها الضعف ولم يأت القرن الثاني عشر الهجري حتى وصلت هذه الخلافة إلى مستوى متدن في القيادة السياسة والإدارة والأحوال الدينية والاجتماعية وظهر الظلم من الولاة للرعية والإهمال لأمور الدين والدنيا معا، وظهر الاستبداد في الحكم والتعسف في الأحكام، والضعف في الموارد المالية والعجز عن الإنفاق في مرافق الدولة المهمة وتأخر رواتب الجند وترك إدارة الأقاليم الإسلامية لولاتها حتى صارت الولايات مغانم تفرض بواسطتها الأتاوات والضرائب الجائزة وصارت الحياة فيها تسير بصورة غير مقبولة وغير صالحة للاستمرار بل ممهدة لحركات انفصالية بالأقاليم الإسلامية. 2- الدولة الصفوية: في بلاد فارس حتى حدود الهند شرقا وإلى بحر قزوين شمالا وهي دولة شيعية ذات عداء متأصل مع الخلافة العثمانية التي تعتبر نفسها حاملة لواء المذهب السني وظلت على تلك الأراضي الشاسعة من العالم الإسلامي أكثر من مائة عام ثم انتهت على يد أمراء الأفغان الذين في أيديهم ما يزيد على خمسين عاما حتى قامت على أنقاضها الدولة الفاجارية سنة 1203هـ، وقد مرت بفترات قوة عظيمة مكنتها من الصمود أمام الخلافة العثمانية في غرب العالم الإسلامي والدولة المغولية في الشرق ثم دب إليها الضعف كغيرها. 3- الدولة المغولية: في شبه القارة الهندية بداء من عام 909هـ وتعاقب عليها ملوك عظام أصحاب قوة عسكرية ضاربة ونفوذ سياسي بالغ الأهمية ومرت بفترة الفتوة

والشباب والكهولة وفي القرن الثاني عشر الهجري أدركها الشيخوخة والهرم فاضطربت الأحوال فيها وقامت فيها الفتن والثورات وتعددت فيها الدول والإمارات حتى مهدت هذه الحالة الطريق أمام الطامعين من الهندوس والمستعمرين الإنجليز للإجهاز عليها وإزالة دولتها. ومن هذا العرض السريع للحالة السياسية في العالم الإسلامي على امتداد تاريخه الطويل وللخلافة العثمانية على وجه الخصوص تتضح حالة العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر الهجري في ظل الخلافة العثمانية وهو العصر الذي مهدت أحداثه لقيام الحركة الإصلاحية التجديدية في نجد على يد الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود رحمهما الله.

موجز الحالة السياسية في اليمامة "منذ فجر الإسلام حتى القرن الثاني عشر الهجري " عند طلوع شمس الإسلام كانت زعامة اليمامة وما حولها في يد هوذة بن على الحنفي وثمامة بن أثال الحنفي أيضا0 وحين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثيه إلى الملوك يدعونهم إلى الإسلام كان مبعوثه صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو أحد بني عامر1 إلى ثمامة بن أثال وهوذة بن علي وكانا من أشد الملوك معارضة للإسلام في أول الأمر وتوفى هوذة على الكفر أما ثمامة بن أثال رضي الله عنه فقد أسلم وحسن إسلامه 0 وفي عام الوفود قدم وفد بني حنيفة وأسلموا وأعلنوا الطاعة لله والمتابعة لرسوله صلى الله وسلم وحملوا الإسلام إلى قومهم فكانوا بذلك قوة للإسلام وأهله بالرجال والمال وكانت اليمامة وحاضرتها مشهورة بإنتاج الحبوب التي يمون الفائض عن حاجة أهلها أهل الحجاز. غير أن مسيلمة الكذاب بما يحمله من طموحات في السيادة والملك وبما تمثله هذه المنطقة من قوة القبائل ومنعتها ووفرة المال والزاد أراد أن يستقل بها عن غيره فارتد عن الإسلام وادعي النبوة لنفسه وقاد فتنة عظيمة فجهز له الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه الجيوش وعقد الألوية لقتال المرتدين في مختلف أنحاء جزيرة العرب. وكانت نهاية هذا المرتد وأنصاره على يد جيش بقيادة خالد بن الوليد، في معركة فاصلة استحر فيها القتل بقراء الصحابة رضي الله عنهم وقتل فيها خلق كثير من أتباعه حتى عرفت حديقة مسيلمة بحديقة الموت لكثرة من قتل فيها. وبالقضاء على هذه الفتنة بسطت الخلافة الإسلامية يدها الرحيمة على قلب جزيرة العرب وعنيت عناية خاصة بنشر الإسلام وتعليم الناس مبادئه وإقامة معالمه

_ 1 السيرة النبوية لابن هشام ج 4ص 607.

وصهر الناس في بوتقة حتى سلم قيادتهم عن اقتناع بهذا الدين وإيمان صادق به واستمرت التغذية التامة والرعاية الدائمة لهذا الأمر في عهد الخلفاء الراشدين وفترة الخلافة الأموية وصدر الخلافة العباسية. وقد أسهمت هذه المنطقة مع غيرها من أقاليم العالم الإسلامي في نشر الدين والدعوة إليه والذود عنه والجهاد في سبيله وتوسيع مده في مختلف أرجاء الأرض وفي تعلمه وتعليمه. ولما بدأ الضعف في الخلافة الإسلامية في آخر العهد العباسي وفقدت سيطرتها الكاملة على الجزيرة العربية وبعض الأقاليم الأخرى وقامت الثورات والحركات المحلية الانفصالية عن دولة الخلافة الأم التي أدركها الهرم وانشب الموت فيها أنيابه استقل باليمامة محمد بن يوسف بن إبراهيم واستمرت إمارتها في ذريته ما يقارب سبعين عاما حتى قامت فتنة القرامطة في القرن الرابع الهجري وقضى على هذه الإمارة وكان ذلك على يد دولة القرامطة وعلى وجه التحديد في عام 317هـ ضمن حملة هائلة قاموا بها انطلاقا من قرداحة في الشام ومرورا بالعراق والبحرين ونجد والحجاز وجاسوا فيها خلال الديار وقتل على أيديهم خلق كثير في مختلف الأقاليم الإسلامية حتى سالت الدماء الغزيرة في الحرم المكي وساحة المطاف ونزعوا الحجر الأسود عنوة جهارا. ولم تقم بعد هذه الحملة إمارة موحدة في قلب جزيرة العرب غير الدولة الاخيضرية التي استمرت حتى منتصف القرن الخامس الهجري ثم سقطت ولم تبق سوى إمارات صغيرة فاستقل كل أمير ببلدة وكل زعيم عشيرة بقومه حتى صار في الوادي الواحد عدة إمارات مثل إمارة العيينة لآل معمر وإمارة الدرعية لآل سعود وإمارة الرياض لآل دواس وبذلك تقطعت أوصال الأمة المسلمة في هذا الجزء العزيز من العالم الإسلامي وقامت الخلافات والثارات وتأججت نار الفتن بين كل أهل بلد ومن جاورهم وبين القبائل العربية بل امتدت الأحقاد والمنافسات في داخل البلد

الواحد والقبيلة الواحدة حتى عمت البلاد وفقدت القيادة السياسة الراشدة والرأي الموحد والهدف المشترك. أما الدولة العثمانية فقد اكتفت ببسط نفوذها على الحرمين الشريفين والاحساء وأطراف الجزيرة العربية ولم تكن لهم حاجات في نجد بل ترك أمرها لأهلها مما ساعد على الفوضى السياسة في منطقة نجد.

الفصل الأول: أوضاع العالم الإسلام في القرن الثاني عشر الهجري في ظل الخلافة العثمانية

الفصل الأول:أوضاع العالم الإسلام في القرن الثاني عشر الهجري في ظل الخلافة العثمانية 1- الأوضاع السياسية: يمثل القرن الثاني عشر الهجري في عمر الخلافة العثمانية مرحلة الشيخوخة والهرم وظهور عوامل الضعف والتدهور في مختلف مجالات الحياة العامة , ففي مجال القيادة السياسية ظهر ضعف السلاطين العثمانيين وتسلط وزراء الدولة وقادة الجيش الانكشاري عليهم والاستبداد بأمور الدولة والتصرف في الشئون العامة وكانوا لا يملكون الخبرة الكافية ولا ينطلقون من رعاية المصلحة العامة، وظهر الترف والسعي وراء شهوات النفس وحظوظها في دور الخلافة وسلاطين آل عثمان ولم يعد لديهم وقت يستطيعون فيه رعاية شئون الخلافة وحماية مصالح الدولة وتنمية الحياة في مختلف جوانبها في مركز الخلافة وأقاليمها المتعددة ,مما أتاح للولاة في الأقاليم التصرف المطلق في إدارة جميع الأمور في أقاليمهم , فساءت الإدارة وتفشى الظلم وضاقت موارد الرزق وأهمل التعليم وتفشى الجهل وصار أكبر هم الولاة جمع الأموال وأخذ الأتاوات واحتكار الأقوات وعدم تطوير وسائل الإنتاج وترك الأمن وتدهورت القوة العسكرية وانكمشت الزراعة والتجارة واندثرت كثير من الصناعات والحرف وساءت الأحوال وتفشى السلب والنهب وقطع الطريق وتوافرت أسباب الخروج على الخلافة العثمانية. وفي هذه المرحلة من عمر الخلافة العثمانية التي تراجعت فيها في مختلف جوانب الحياة بدأت في أوروبا المسيحية بوادر النهضة الحديثة وتطورت وسائلها الحربية

ومواردها المالية وأساليبها في الإدارة والإنتاج وتطلعت إلى الإجهاز على هذه الخلافة التي وصلت إلى حالة من السوء والتدهور ما يكفي لإعطاء الفرصة لأعدائها للنيل منها وتقطيع أوصالها، وبدأت الدول الغربية المسيحية في الدخول مع الخلافة العثمانية في حروب متعددة مما زاد حالتها سوء ولأقاليمها المختلفة إهمالا لانشغالها بالحروب في أوروبا التي أظهرت من خلالها عجزا في قدرتها وتخلفا في معداتها الحربية وانهزاما في بعض المواقف العسكرية مع أوروبا. وقد نقل صورة الخلافة العثمانية في هذه المرحلة من عمرها المؤرخ الأمريكي لوثروب ستودارد في كتابه حاضر العالم الإسلامي جـ2 ص259 فقال: " في القرن الثامن عشر كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ ومن التدني والانحطاط أعظم دركة فاربد جوه وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجا من أرجائه وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب وتلاشى ما كان باقيا من آثار التهذيب العربي واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات وماتت الفضيلة في الناس وساد الجهل وانطفأت قبسات العلم الضئيلة وانقلب الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال , فكثر السلب والنهب وفقد الأمن وصارت السماء تمطر ظلما وجورا" إلى أن قال: "وبارت التجارة بوارا شديدا أهملت الزراعة أيما إهمال. وهذه الأحوال كلها جعلت أقاليم الخلافة العثمانية في حالة من السوء والتدهور السياسي الذي ينذر بانفجار شديد وظهور حركات استقلال عن الخلافة العثمانية التي أدركها الهرم. ولما كانت نجد وهي قلب شبه جزيرة العرب أقل أقاليم الخلافة العثمانية رعاية إذ أن العثمانيين لم يعيروا هذه المنطقة أي اهتمام ولم تحظ منهم بأي رعاية بل اكتفوا ببسط نفوذهم على الحرمين الشريفين والساحل الغربي من شبه الجزيرة العربية وساحل الخليج العربي وتركوا وسط شبه الجزيرة العربية فلم يكن لهم فيه وجود مما جعله في عزلة شديدة عن العالم الإسلامي. لما كانت نجد كذلك اضطرب فيها حبل

الأمن وقطعت فيها السبل وسادت فيها الفوضى والسلب والنهب والأخذ بالثأر وماجت فيها الفتن وعم الجهل ودرست معالم الحضارة الإسلامية في مختلف جوانب الحياة. لذلك كانت أول قبسة من نور انطلقت من هذه المنطقة- في ذلك الظلام الحالك- هي الحركة الإصلاحية في نجد على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود وهي الحركة التي طالبت بالعودة إلى الإسلام في منابعه الصافية والنصوص الشرعية الثابتة وشقت بذلك الطريق للشعوب الإسلامية الأخرى في المطالبة بالعودة إلى الإسلام والعيش في ظلاله الوارفة وأمنه السابغ فظهرت حركات الإصلاح الإسلامي بعد ذلك تباعا في آسيا وشبه القارة الهندية وفي أفريقيا وسيأتي الحديث عن هذه الحركات الإصلاحية في موقعه من هذا البحث إن شاء الله.

الأوضاع الدينية في العالم الإسلامي

2- الأوضاع الدينية في العالم الإسلامي: بدا الانحراف في المسار العام للأمة المسلمة في أصل عقيدة التوحيد مع قيام الدولة العباسية بعمليات النقل عن الأمم السابقة في العلوم والآداب مثل الفرس والروم والهنود وترجمة بعض المعارف العامة التي كتبت في ظل مفاهيم غير إسلامية واصطبغت بها حتى صار من الصعب تجريدها من الفلسفات التي قامت عليها بإفساح المجال لأهل الكلام في التحدث عن التوحيد والألوهية وفق مصطلحات تقوم على علوم المنطق اليوناني والفلسفة الاغريقية وإقامة المناظرات في المساجد والمنتديات في البصرة والكوفة وبغداد وغيرها من حواضر العالم الإسلامي وتقسيم المدارس الإسلامية إلى مدارس عقلية وأخرى نقلية وثالثة تجمع بينهما وتقوم كل مدرسة بالانتصار لمذهبها لا في فروع الدين وفق الشريعة بل في أصول إسلامية وعلم التوحيد ومسائل العقيدة، ومن ثم ظهور الكذب في الحديث النبوي الشريف ووجود الوضاعين لأسباب متعددة منها نصرة المذهب والقبيل والإقليم ثم دخول الإسرائيليات في علم التفسير والحديث وأخبار الأمم وتاريخ الإسلام والمسلمين

ووجود القصاصين الذين عرفوا بالكذب ومحاولة جذب العامة بالقصص والحكايات التي يأتون فيها بالغرائب والأخبار المتقدمة وغيرها مما جعل شوائب الانحراف تدخل في تاريخ ومصادر العلوم الإسلامية. وعلى الرغم من الجهود العظيمة التي بذلت من جم غفير من العلماء في حفظ الكتاب والسنة وتوثيق الأخبار ونقد الأسانيد في الحديث والأخبار التاريخية وأحكام علم الجرح والتعديل وكتب الأطراف وتمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها والأخبار الثابتة من المختلقة فإن تلك الجهود المضاد لصفاء عقيدة التوحيد قد تركت آثارا ضارة عانت منها الأمة الإسلامية في عصورها التالية. ولقد زاد من معاناة الأمة الإسلامية بعد ذلك فيما يتصل بصفاء عقيدة التوحيد العناصر الأعجمية التي دخلت في الإسلام مع ما كان عندها من لوثة في العقيدة وما لديها من جهل بحقيقة هذا الدين وعقيدته الصافية وما تعانيه من صعوبة في فهم الإسلام لا سيما بعد أن انحسر ظل اللسان العربي على كثير من أقاليم العالم الإسلامي. وتمثل الحملتان الصليبيتان الغربيتان الأولى والثانية لونا من ألوان التأثير الطارئ على حياة المسلمين في بعض التصورات والعادات والأخلاق والرياح الشديدة العاتية التي حملتها الموجة المغولية التترية على العالم الإسلامي بما تحمله من عقائد وثنية وما بقي لدى من أسلم منها من لوثة في أصل التوحيد وفهم الإسلام مع تبوئهم المراكز المهمة في البلاد الإسلامية ذات التأثير البالغ على الحياة العامة في فترة خفت فيها صوت الحق الناصع والتوحيد الخالص. كان لهذا كله أثره البالغ في الحياة في العالم الإسلامي والانحدار بها إلى مستوى متدن في الفهم والممارسة ومظاهر الحياة. وإذا كان الأتراك في دولة الخلافة العثمانية قد حاولوا العودة بالأمة الإسلامية إلى الدين الخالص والعقيدة الصافية، إلا أنهم لم يلبثوا أن أسرع إليهم الهرم وساءت في دولتهم الحالة الدينية والاجتماعية، فأسيء فهم الدين وظهرت البدع والخرافات والمذاهب المنحرفة وتعظيم الأموات وأقيمت البنايات والقباب فوق قبور الأولياء

والصالحين وقصدها الناس لطلب النفع ودفع الضر وقضاء الحاجات، فظهر الشرك يعلن عن نفسه بين أظهر المسلمين في كثير من ديارهم وشب على ذلك الصغير وهرم عليه الكبير. وقامت بدعة الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف وما يكون فيها من اختلاط الرجال بالنساء وممارسة بعض الأعمال البدعية مثل الغناء وضرب الدفوف والحركات الصوفية. وتبوأ أصحاب الطرق الصوفية مكانة كبيرة في نفوس العامة حتى صار لهم من التأثير على الناس ما ليس لغيرهم، كل ذلك كان على حساب مذهب السلف الذي كانت عليه هذه الأمة من عهد النبوة حتى عصور الجمود المتأخرة في النصف الثاني من عهد الخلافة العثمانية والتي بلغت من السوء غايته في القرن الثاني عشر الهجري , وما تلاه من عهود حتى سقوط الدولة العثمانية بل استمرت آثارها ماثلة إلى يومنا هذا في كثير من ديار المسلمين. وظهور الشرك والبدع والخرافات والجمود في الفقه وسوء حالة الخلافة الإسلامية العثمانية بعد هرمها كان أهم حافز لقيام الدعوة الإصلاحية التجديدية في نجد على يد المصلح محمد ين عبد الوهاب – رحمه الله – لرد الناس إلى الله وتحقيق توحيده وإقامة دينه واستعادة عز المسلمين. وعن هذه الفترة قال صاحب كتاب حاضر العالم الإسلامي: ج 1ص 259: "وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سجفا من الخرافات وقشور الصوفية وخلت المساجد من أرباب الصلوات وكثر عدد الأدعياء الجهلاء وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات ويوهمون الناس بالباطل والشبهات ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء". ومن هذا العرض السريع يتضح أن الحالة الدينية في العالم الإسلامي قد بلعت غاية التدني في القرن الثاني عشر الهجري على يد الأعاجم من الخلفاء والسلاطين والوزراء والكتاب وقواد الجيوش الإسلامية عن علم في بعض الأحيان

وعن جهل في الأعم الأغلب ولكن نتيجة الجهل باللغة العربية وصعوبة فهم النص الشرعي وارتباط هؤلاء الأعاجم بتاريخ وموروثات وممارسات ولوثات في الدين واستمرار القيادة فيهم من العهد العباسي إلى نهاية العهد العثماني مرورا بالدول الشيعية التي قامت في شمال أفريقيا كالدولة الفاطمية وفي بلاد فارس والدولة الصفوية ودولة المغول في الهند وكلها بقيادات أعجمية اختلط فيها التوحيد عند كثير من الناس بلوثات الوثنية والبدع المحدثة في الدين بلا علم وألف ذلك حتى صار أخذ ذلك كله من الدين، ومنكره خارج على الدين، يناصب العداء وتصدر ضده الفتاوى الشرعية. وقد زادت العزلة التي فرضتها الخلافة العثمانية على قلب شبه جزيرة العرب من سوء الحالة الدينية وبسبب الجهل المطبق والتخلف السياسي الاجتماعي وانقطاع السبل وانعدام التغذية العلمية والدينية عن هذه المنطقة وفصلها عن حواضر العالم الإسلامي ظهر فيها من التخلف الديني ما لم يظهر مثله في غيرها من أقاليم العالم الإسلامي مثل: 1- تقلص مراكز التعليم الديني وانحصاره في بعض حلقات الدروس على بعض الشيوخ في بعض المساجد وعدم الإقبال عليها وعدم الاستمرار من طلاب العلم على قلتهم في طلب العلم حتى بلوغ الغاية المطلوبة وعدم وجود فرص ميسرة للعلم والتعليم وتوظيف هذا العلم في خدمة الحياة والأحياء وعدم وجود ناصر للعلم وطلابه وللحق وأهله. 2- ظهور البدع المحدثة في الدين مثل بدعة حفلات المولد النبوي الشريف وما تكون فيه من ممارسة المنكرات من الاختلاط وضرب الدفوف وبعض المظاهر الصوفية التي لم تعرف في الدين إلا في العصور المتأخرة وعلى يد الأعاجم. 3- بروز مظاهر الشرك المتمثل في زيارة قبور الأولياء والصالحين والطواف عليها والعكوف عندها وقصدها في طلب النفع ودفع الضر وتجاوز ذلك إلى التبرك ببعض الأشجار والأحجار والاعتقاد بأنها تنفع وتضر وطلب الحاجات عندها

وغيرها من مظاهر الشرك التي ظهرت في حياة المسلمين على يد الروافض في الدولة الفاطمية وغيرها. 4- تعطيل بعض الشعائر الإسلامية وفرائض الدين مثل الصلاة والصوم والزكاة ومستلزمات هذه الفرائص. 5- إنكار بعض الناس للبعث والحساب وغير ذلك من أركان الإيمان. 6- التحاكم إلى غير شرع الله فيما يكون بين الناس من خلافات في الحقوق والأموال والدماء ونصب حكماء وعرافين يتولون ذلك دون علم أو بينة. 7- استحلال بعض المحرمات كالسلب والنهب وقطع الطريق وإخافة الناس وفي مسائل النكاح والطلاق والميراث وغيرها. حصل ذلك وغيره في غياب العلم ونشوء الجهل وإهمال الناس لأمور الدين وعدم وجود سلطة سياسية أو دينية تقوم على ذلك حتى عاد الناس إلى ما يشبه حياة الجاهلية الأولى. فإن التركيبة السكانية في العالم الإسلامي عامة وفي شبه جزيرة العرب خاصة تتكون من حاضرة هم سكان المدن والقرى وغالبا مما يكون لديهم تعليم ديني على يد طلاب العلم الشرعي وأئمة المساجد، ويحافظون على الصلوات في الجماعة ويعرفون الحلال والحرام ولديهم مخالفات في أصل العقيدة ومظاهر السلوك وغيرها. أما البادية فهم القبائل العربية التي ليس لها مستقر دائم ولكنهم يتجولون في الصحراء طلبا للماء والكلأ لمواشيهم والتعليم لديهم يكاد يكون معدوما والجهل فيهم أظهر، ويوجد فيهم من ينكر البعث بعد الموت والمحاسبة على الأعمال ويظهر في بعضهم ترك فرائض الإسلام كالصلاة والزكاة والصوم والتحاكم إلى الأعراف والحكماء والمعالجة بالحرام والوقوع في المخالفات في مسائل النكاح والطلاق والميراث وغيرها.

هناك مظاهر دينية يشترك في ارتكاب المخالفات فيها الحاضرة والبادية على السواء مثل تعظيم القبور وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله والتبرك بالأشجار والأحجار وغيرها. يقول الشيخ عثمان بن بشر- رحمه الله – في وصف حالة نجد قبل دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب: "وكان الشرك إذ ذاك قد فشا في نجد وغيرها وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك بها والنذر لها والاستعاذة بالجن والذبح لهم ووضع الطعام وجعله لهم في زوايا البيوت لشفاء مرضاهم ونفعهم والحلف بغير الله وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر " 1 وقال في وصف حالة نجد عند وصول الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية "ولما استوطن الشيخ الدرعية كانوا في غاية الجهالة وما وقعوا فيه من الشرك الأكبر والأصغر والتهاون بالصلاة والزكاة ورفض شعائر الإسلام"2 فهذا وصف مجمل للحالة الدينية في القرن الثاني عشر الهجري، وسيأتي تفصيل لهذا المجمل في الصفحات التالية إن شاء الله.

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1ص6. 2 المرجع السابق ج1ص14.

الأوضاع الاجتماعية

3- الأوضاع الاجتماعية: لقد كانت بصمات سوء الأوضاع السياسية والثقافية واضحة على الحياة الاجتماعية في نجد، قد كانت في عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية وصدر الخلافة العباسية حياة اجتماعية كريمة تتمثل فيها روابط الإسلام السمح تفيض بالبر والعطاء والخير والهناء والسعادة في كل الميادين في الروابط الأسرية الرحيمة وفي العلاقات الاجتماعية العامة وفي شبكة الاتصالات القائمة في المجتمع فكانت الحياة

تفيض بالأخوة الإسلامية الرحيمة والتعاون على البر والتقوى والسعي الحثيث لخير الأمة والجماعة والأفراد في آن واحد وكانت مبادئ الإسلام تمارس في محيط الأسرة وفي العلاقات الزوجية في مختلف أوجه التعامل وفي تبادل المنافع على كل الأصعدة وكان الولاء فيها والنصح لله ولرسوله لأئمة السلمين وعامتهم والنصيحة قائمة بين المسلمين والتعاون شعار الجميع والروابط في كل المجالات تمثل التلاحم الشديد والتماسك القوى وفق ما أراده الله من عباده وما شرعه لخلقه. ثم لما ضعف الوازع الديني وتقلص النفوذ السياسي وانحسر المد الثقافي عن هذا الإقليم من أقاليم العالم الإسلامي أصاب الحياة الاجتماعية من الضعف والفتور بقد ما فقدت من سلطان الدين على النفوس وأثر السلطة السياسية على الأفراد، وحظها من الثقافة الواعية والعلم النافع وحلت محلها أوضاع مغايرة تختلف قربا وبعدا عن الدين، فضلت الأسرة على ترابطها والقبيلة على تماسكها وتراحمها وقامت مفاهيم جديدة ومواضعات محدثة خرجت فيها الأمة عن مسارها القديم وأصالتها الإسلامية الخالصة. فظهر في الناس التعصب للبلد والقبيلة وحلت الفردية محل الجماعية والفرقة بدلا من الاتحاد وظهر الجهل وعم سلطانه وقل العلم ورواده ووهنت عرى الدين في النفوس وعظمت المادة في أنظارهم وجعلوها مصدر التفاضل وحلت العداوة والبغضاء محل التعاون والإخاء وفقدت الغاية الواحدة والهدف المشترك. وبذلك كثرت الفتن وتأججت نار الحمية للبلد والعشيرة وانتشرت المنكرات وقل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقدت حراسة الدين وضعفت الأمة وقطعت أواصر المودة والتراحم وانتشر الضلال والباطل وأعجب كل فرد برأيه وقومه فصارت الحياة الاجتماعية في قلب جزيرة العرب جحيما لا يطاق قلت فيها موارد الرزق وفقد في ظلها الأمن وجفت فيها منابع البر والإحسان والتراحم أو كادت.

الخلاصة إن الفترة الواقعة من القرن العاشر إلى منتصف القرن الثاني عشر الهجري من الفترات الحالكة في تاريخ الأمة الإسلامية عامة وفي منطقة نجد وقلب جزيرة العرب خاصة وذلك لعدة أسباب منها: 1- التمزق السياسي الذي حاق بالأمة الإسلامية وذهب بريحها. 2- الركود الفكري والثقافي إذ توقف مد الثقافة الإسلامية وأقفرت مرابعها. 3- جمود الفقه الإسلامي وعدم قدرة علمائه على مواجهة المشكلات بحلول إسلامية. 4- ضعف الصلات السياسية والعلمية والثقافية بين حواضر العالم الإسلامي. 5- ضياع الأهداف العليا للأمة الإسلامية وعدم وضوحها في أذهان قادة الأمة وأفرادها. 6- كثرة الاختلافات السياسية والفكرية المذهبية وقيام التعصب الأعمى للمذهب والقبيلة والبلد. 7- تعدد القيادات السياسية وقيام المشاحنات بينها وكثرة الفتن. 8- تركيز الخلافة العثمانية في عهدها الأخير على جمع الجبايات وتجميع المغانم من الأقاليم الإسلامية وإهمال الجوانب الإصلاحية في أمور الدين والدنيا معا. 9- قلة العلم وانتشار الجهل وانحصار الفقه في مختصرات قليلة غير كافية. 10- اعتبار المناصب الدينية والرئاسية مغانم والسعي إلى كسب الوجاهات. 11- ظهور الابتداع في الدين والانحراف في العقيدة والخروج عن جادة الحق في كثير من مظاهر الحياة. وإذا كانت هذه الأسباب وغيرها قد أحاطت بالمسلمين في معظم ديارهم قد ظهرت بصورة أوضح في نجد وقلب جزيرة العرب لعدة اعتبارات خاصة بالمنطقة إلى جانب الأسباب المشتركة الأخرى. فقد كانت بلاد نجد في هذه القرون من أضيق المناطق والأقاليم في موارد الرزق وأصعبها وطرقا وهي بلاد اضطرب فيها

حبل الأمن وانتشرت فيها الفوضى وكثر قطاع الطرق بل صار قطع الطريق والغارات من أهم موارد رزق المقيمين فيها لا سيما من البوادي والأعراب. كل ذلك زاد من عزلتها وغربة الإسلام فيها وندرة العلم والعلماء ببن سكانها حتى كثر فيها الجهل وقل العلم وانتشرت البدعة والخرافة وقلت السنة وضاعت الحقيقة واندثرت معالم الدين فصار في بلاد نجد مثل ما في البلاد الإسلامية الأخرى من التخلف والانحراف وزيادة. والمتتبع لتاريخ نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – لمعرفة حقيقة ما كانت عليه الحالة الدينية والاعتقادية في نجد قبيل الدعوة الإصلاحية فيها يجد أن المصادر التاريخية على قلتها تختلف في نقل الصورة القائمة فيها. فمن جهة نجد المصادر التي كتبت بأقلام أئمة الدعوة الإصلاحية وتلامذتهم تصور الحياة في نجد بأنها حياة غير إسلامية وأن الناس كانوا على جهل تام وضلال كامل وانحراف واضح في أصل العقيدة وقواعد الإيمان وفي العبادات والأخلاق والسلوك والعادات، وأن الشرك قد طبق البلاد طولا وعرضا وأن الحياة عادت جاهلية صرفة. يقول ابن بشر – رحمه الله – "وكان الشرك إذ ذاك – عند بدء الدعوة الإصلاحية في نجد قد فشا في نجد وغيرها وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك بها والنذر والاستعاذة بالجن والذبح لهم ووضع الطعام لهم وجعله في زوايا البيوت لشفاء مرضاهم ونفعهم وضرهم والحلف بغير الله وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر"1 ويصف الشيخ سليمان بن سحمان – رحمه الله – حالة أهل نجد في هذه الفترة فيقول: قد خلع الناس ربقة التوحيد والدين وجدوا واجتهدوا في الاستعانة والتعلق بغير الله تعالى من الأولياء والصالحين والأصنام والأوثان والشياطين وكثير منهم يعتقد النفع في الأحجار والجمادات ويتبركون بالآثار ويرجون منها القبول في جميع الأوقات " 2

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد – للعلامة عثمان بن بشر ج1ص6. 2 الضياء الشارق للشيخ سليمان بن سحمان ص70.

ويقول ابن غنام – رحمه الله – "وكان عندهم رجل من الأولياء اسمه "تاج" سلكوا فيه سبيل الطواغيت فصرفوا إليه النذور وتوجهوا إليه بالدعاء واعتقدوا فيه النفع والضر وكانوا يأتونه أفواجا لقضاء شئونهم وكان هو يأتي إليهم من بلدة الخرج إلى الدرعية لتحصيل ما تجمع من النذور والخراج وكان أهل البلاد المجاورة جميعهم يعتقدون فيه اعتقادا عظيما فخافه الحكام وهاب الناس أعوانه وحاشيته فلا يتعرضون لهم بما يكرهون ويدعون فيهم دعاوى فبعضهم ينسبون إليهم حكايات قبيحة وكانوا لكثرة ما تناقلوها وأذاعوها يصدقون ما فيها من مين وزور فزعموا أنه أعمى وأنه يأتي من بلدة الخرج من غير قائد يقوده وغير ذلك من الحكايات والاعتقادات التي ضلوا بسببها عن الصراط المستقيم "1 ويقول الشيخ عبد اللطيف في كتاب "منهاج التأسيس" عن تلك الفترة الزمنية: "وعبدت الكواكب والنجوم وصنف في ذلك مثل أبي معشر وصاحب السر المكتوم وعظمت القبور وبنيت عليها المساجد وعبدت تلك الضرائح والمشاهد وجعلت لها الأعياد الزمانية والمكانية وصرفت لها العبادات المالية والبدنية ونحرت لها النحائر والقرابين وطاف بها الفوج بعد الفوج من الزائرين والسائلين وحلقت لأربابها رؤوس الوافدين واستبيح فيها ما اتفقت على تحريمه جميع الشرائع والنبوات وكثر المكاء والتصدية بتلك الفجاج والعرصات وبارزوا بتلك القبائح العظام رب الأرض والسموات وصنف في استحبابه بعض شيوخهم كابن المفيد وظنه الأكثر من دين الإسلام والتوحيد "2 كما أن المصادر التاريخية لهذه الفترة الزمنية عن هذه المنطقة تدل على وجود علماء فضلاء على عقيدة السلف الصالح ينكرون هذه البدع والخرافات ويبينون للناس ما

_ 1 تاريخ نجد للشيخ حسين بن غنام ص11، 12 بنوع من التصرف. 2 منهج التأسيس للشيخ عبد اللطيف - نقلا عن بحث الدكتور عبد الرحمن عميرة عن الشبهات التي أثيرت حول دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب المقدم لأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – ج2 ص 32 عام 1403هـ

يجب اعتقاده وهؤلاء لن تكون دعوتهم بلا صدى ولا أتباع ولن يكون الناس كلهم في منطقة نجد على ما سبق وصفه ولكن هذه الأمور كانت موجودة وكان إلى جانبها حق قائم وإن كان الشر في عامة أظهر. فإن كان أئمة الدعوة الإصلاحية ي نجد وتلامذتهم حين يتحدثون عن شيوخ الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – يذكرون عددا من العلماء الفضلاء في نجد وأطراف الجزيرة العربية. ومعلوم أن في علماء نجد عددا غير قليل من هذه العينة التي ظلت محافظة على عقيدة السلف ولها مريدون ومحبوبون بين عامة الناس. فالمؤرخ ابن بشر – رحمه الله – ذكر في تاريخه أنه لما جهر الشيخ محمد ين عبد الوهاب بدعوته الإصلاحية في نجد استحسنها الناس فقال: "فلما تحقق الشيخ معرفة التوحيد ومعرفة نواقضه وما كان وقع فيه كثير من الناس من هذه البدع المضلة صار ينكر هذه الأشياء واستحسن الناس ما يقول لكن لم ينهوا عما فعل الجاهلون ولم يزيلوا ما أحدث المبتدعون"1 ولما زار الإمام محمد بن عبد الوهاب المدينة المنورة في رحلة إليها بعد الحج وجد فيها أحد علماء نجد الأفاضل المؤمنون بعقيدة السلف الصالح المدافعين عنها فأخذ عنه تعاليم التوحيد 2 يقول المؤرخ ابن بشر نقلا عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – قال: "كنت عنده يوما فقال لي: تريد أن أريك سلاحا أعددته للمجمعة، قلت نعم، فأدخلني منزلا عنده فيه كتب كثيرة، وقال: هذا الذي أعددنا لها ثم أنه مضى به إلى الشيخ العلامة محمد حياة السندي المدني فأخبره الشيخ محمد وعرفه به

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للعلامة ابن بشر ج 1ص 7. 2 هو الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف الشمري من أهل المجمعة.

وبأهله فأقام عنده الشيخ وأخذ عنه"1 ولما رحل إمام الدعوة – رحمه الله – في طلب العلم إلى البصرة اجتمع بالشيخ محمد المجموعي وهو عالم جليل الموحد معروف قال ابن بشر – رحمه الله – "فلما وصلها – أي البصرة – جلس يقرأ عند عالم جليل من أهل المجموعة – قرية من قرى البصرة – في مدرسة فيها ذكر لي أن اسمه – محمد المجموعي، فأقام مدة يقرأ فيها وينكر أشياء من الشركيات والبدع وأعلن بالإنكار واستحسن شيخه قوله وقرر له التوحيد وانتفع به" 2 ولما عاد رحمه الله من البصرة إلى الاحساء نزل على الشيخ العالم الجليل عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي الاحسائي وهو ممن يرى رأيه فيها وقع فيه كثير من الناس في أمور العقيدة. فهؤلاء العلماء وغيرهم من علماء النجد مثل والد الإمام وجده وكثير من معاصريهم كانوا على جانب كبير من الفضل والصلاح والعلم بالحق والدعوة إليه. وليس من المعقول أن يكون هؤلاء الذين ذكرهم المؤرخون هم كل أهل العلم، والفضل الذين ضلوا على الحق علما وعملا وتعليما في النجد وأطراف الجزيرة، وليس من المسلم بأن هؤلاء وأمثالهم لم يكن لهم أثر في إيضاح الحق ومعرفته وتزامنه في كثير من جوانب الحياة ولم يكن لهم تلامذة وأتباع حتى يصح أن تنعت هذه الفترة في النجد بالكفر والخروج عن الذين وإطلاق الكلام الذي يصح على البعض ولا يشمل الكل. وليست الحالة التي وصفها المؤرخون في نجد وأئمة الدعوة الإصلاحية فيه وما كان عليه جمهرة من الناس بحالة خاصة بنجد بل هو وضع يشبه إلى حد كبير ما عليه حالة المسلمين في مختلف ديارهم وأمصارهم في ذلك العهد. ومن تتبع تاريخ العالم الإسلامي في تلك الفترة علم أنها حالة متشابهة إلى حد كبير وإنما أراد الله لهذه البقعة المباركة من البلاد الإسلامية أن تصفو عقيدة أهلها وأن يختار الله لها مجددا عظيما، وعالما عاملا مخلصا شخََّص داءها وعالج أدواءها حتى رد ضال أهلها إلى جادت الحق والصواب وكانت حركته الإصلاحية هي أولى ومضات الإصلاح الديني الاجتماعي

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للعلامة ابن بشر ج 1ص 7. 2 المرجع نفسه ص 7، 8.

في العالم الإسلامي في العصر الحديث ثم تتابعت بعدها حركات الإصلاح في فترات مختلفة قربا وبعدا. ومما يدل على أن حالة العالم الإسلامي في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين متشابهة ما ذكره الدكتور عبد الرحمن عميرة في البحث الذي قدمه لأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي أقامته جامعة الإمام محمد بن مسعود الإسلامية عام 1403هـ، بعد أن ذكر كلام الشيخ سليمان بن سحمان عن حالة نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قال: "وهذه الصورة التي قدمها لنا الشيخ سليمان بن سحمان لم تكن قاصرة على مصر دون مصر أو على سهل دون نجد وكلها تكاد تكون شاملة عامة في كثير من بلاد المسلمين إلا من عصم ربي"1 ثم ذكر صورا كثيرة كانت موجودة في مصر والعراق وغيرهما مشابهة لما كان موجودا في نجد ونقل عن المصادر التي التاريخية ما يؤكد ذلك ثم إن واقع العالم الإسلامي لا يزال به شبه مما كان عليه أهل نجد فيها يتصل بالقبور والطواف حولها ودعوة أصحابها مما يعد شركا في العبادة من الخوف والرجاء وغيرها. والذي يظهر لي في هذا أن منطقة نجد وما حولها فشا فيها الجهل أكثر من غيرها لبعدها عن مراكز العلم ووعورة مسالكها واضطراب حبل الأمن فيها، وأن تركيبة السكان فيها تكونت من بادية رحل وحاضرة مقيمين في القرى والمدن، وأن حالة البادية دخل عليها تغيير كبير في أمور الدين، وأن فرائض الإسلام قد حصل فيها تفريط وخلل كاد أن يعمهم وأن ما لدى البادية من عادات ومعتقدات باطلة بدأت تتسرب إلى الحاضرة بدرجات متفاوتة من بلد لآخر. وأن حاضرة كانوا مقيمين لفرائض الدين محافظين على أصوله وفروعه في غالب أمور حياتهم وأن ما دخل عليهم

_ 1 بحوث الأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج 2ص 24 ط1 وطبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

من خلل في أمور الدين كان عن طريق البادية أثناء إقامتهم على موارد المياه في أيام الصيف وأن بعض الناس في نجد ظلوا على الحق منكرين لمظاهر الشرك، منهم العلماء ممن ذكرنا ومن لم نذكر. وأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إنما نشأ في بيئة علم وهو نبتة من غراسها وما كان لها أن تثمر هذا المصلح لو كان الظلام فيها حالكا والجهل فيها عاما والانحراف شاملا ولكن الواقع أن الحق والخير موجودان وأن الشر منتشر وأن الصراع بينهما قائم في المنطقة وأن الشركان أظهر. ومما يدل على التفريق بين ما عليه بادية نجد وحاضرتها قول المؤرخ ابن بشر رحمه الله تعالى بعد أن ذكر وقوع الشرك الأكبر والأصغر "والسبب الذي أحدث ذلك في نجد – والله أعلم – أن الأعراب إذا نزلوا في البلدان وقت الثمار صار معهم رجال ونساء يتطببون ويداوون فإذا كان في أحد من أهل البلد مرض أو في بعض أعضائه أوتي أهله إلى متطببه ذلك القطين من البادية فيسألونهم عن دواء علته فيقول لهم اذبحوا له في الموضع الفلاني كذا وكذا، إما خروفا بهيما أسود وإما تيسا أصمع وذلك ليحققوا معرفتهم عند هؤلاء الجهلة ثم يقولون لا تسموا الله على ذبحه وأعطوا المريض منه كذا وكذا وكلوا منه كذا وكذا واتركوا كذا وكذا، فربما يشفي الله مريضهم فتنة لهم واستدراجا وربما يوفق وقت الشفاء حتى كثر ذلك في الناس طال عليهم الأمد فوقعوا بهذا السبب في عظائم وليس للناس من ينهاهم عن ذلك"01 كما أن كلام عالم نجد الفاضل الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف الشمري من أهل المجمعة وإمام الدعوة الإصلاحية في نجد حينما أقام عنده الشيخ في المدينة وأخذ عنه فقال: "تريد أن نريك سلاحا أعددته للمجمعة قلت نعم فأدخلني منزلا عنده فيه كتب كثيرة وقال هدا الذي أعددنا لها"2، فهذا النص يدل على أن هذا العالم على علم بما يجري في المجمعة قاعدة إقليم سدير من نجد وأنه سبق أن حصل له مع المنحرفين فيها مناوشات وأخذ وعطاء في مسائل العقيدة وأنه إنما جاء للمدينة

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للعلامة عثمان بن بشر ج1 ص 7. 2 المرجع السابق نفسه.

المنورة للتزود بالعلم النافع والكتب الموثوقة وأنه عازم على العودة إليهم لإقامة الحجة عليهم وبيان الحق لهم وهو في الوقت نفسه يدل على أن في بلاد نجد من كانوا على الحق عن علم وبصيرة وأنهم يقومون بواجب الدعوة إلى الله وتصحيح العقيدة وأنه كان يوجد بها من يدعي العلم ويؤيد ما عليه الناس من بعض الانحرافات. وعندما تحدث ابن بشر- رحمه الله- عن الدعوة الإصلاحية في تجدفي بدء أمرها لما قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالدعوة إلى الله وإنكار ما وقع فيه كثير من الناس من هذه البدع قال:"واستحسن الناس ما يقول لكن لم ينهوا عما فعل الجاهلون ولم يزيلوا ما أحدث المبتدعون"1. وهذا النص التاريخي يدل على أن ما قام به إمام الدعوة الإصلاحية في نجد كان معروفا معتقدا صحته ومؤيدا من الناس في نجد. أما لماذا لم ينهوا عما فعل الجاهلون ولم يزيلوا ما أحدث المبتدعون فإن هذه مرحلة أخرى تحتاج إلى قوة وعزيمة وتضحية وهي محفوفة بكثير من المخاطر لاسيما أن هذه المنكرات قد تكون مصدر رزق لبعض الرؤساء والوجهاء والأعيان ومشغلة للدهماء عن أمور السياسة والزعامات والسوء الأحوال التي يعيشها الناس في حياتهم في مختلف وجوهها ومناشطها مع أن هؤلاء الزعماء والرؤساء أهل ظلم وجور. اسمع كلام المؤرخ ابن بشر في وصف حالهم إذ يقول: "رؤساء البلدان وظلمتهم لا يعرفون إلا ظلم الرعايا والجور والقتال لبعضهم بعضا" 2، ثم إن أي حركة إصلاحية عملية لابد أن يسبقها ويواكبها حركة إصلاحية فكرية نظرية اجتهادية تمهد الطريق إلى الحركة العملية وتنميها وتهيئ لها أرضية النجاح وتعطيها البعد الفكري النظري.

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للعلامة عثمان بن بشر ج 1 ص 7. 2 المرجع السابق نفسه.

الفصل الثاني: الشيخ محمد بن عبد الوهاب

الفصل الثاني:الشيخ محمد بن عبد الوهاب نسبه: اختار الله سبحانه وتعالى لمهمة الإصلاح والتجديد في نجد وقلب جزيرة العرب رجلا من أبنائها جمع الله له بين أصالة النسب وكرم المحتد وبيت الفضل. ووهبه من علوم الهمة وثبات العقيدة وقوة العزيمة وإخلاص العمل ما جعله مؤهلا ومقبولا للقيام بهذه المهمة العظيمة والتجديد في الدين بعد اندرست معالمه وطويت أعلام الجهاد في سبيله. والمعروف عن نسبه رحمه الله أنه عربي وهيبي تميمي عدناني وقد ذكر ابن بشر رحمه الله نسبه على وجه التحديد والتسلسل فقال: هو " الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي ين حمد بن أحمد ين راشد بن بريد بن مشرف بن عمر بن معضاد بن ريس بن زاخر بن محمد بن علوي بن وهيب"1.

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر ج 1ص 89.

ولادته ونشأته

ولادته ونشأته: أصح ما ذكره المؤرخون عن تاريخ ولادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه ولد عام 1115هجرية في بلدة العيينة من وادي حنيفة وعاش في كنف والده الشيخ عبد الوهاب بن مفتي الديار النجدية سليمان بن علي وقد تنقل في شبابه مع والده

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر ج 1ص 89.

الذي كان قاضيا في سدير ثم في العيينة ثم في حريملاء وكان والده وجده وأعمامه أهل علم وفضل ومكانة مرموقة في نجد، إذ كان والده عبد الوهاب عالما بالحديث والفقه والعربية مرجعا لأهل بلده في الدين والقضاء والفتوى وكان جده سليمان بن علي عالم نجد في زمانه. قال ابن بشر رحمه الله: " له اليد الطولى في العلم وانتهت إليه الرئاسة في نجد وضربت إليه آباط الإبل صنف ودرس وأفتى ".1 وهكذا أعمام الشيخ وبنوا أعمامه أهل علم ودين وفضل تقلبوا في مناسب التدريس والقضاء والإفتاء وكانت لهم مكانة علمية واجتماعية ودينية. فنشأ الإمام المصلح رحمه الله في بيت علم ودين حفظ القرآن وأخذ مبادئ العلوم الإسلامية والعربية على والده رحمه الله وقد عرف بين أقرانه بقوة الحفظ وسرعة الكتابة ودقة الملاحظة وشدة الفهم مما جعله محط أنظار شيوخه وأقرانه ظهرت عليه علامات النجابة والشغف بالعلم ونزعة الاستقلال في تناول المسائل وأخذ العلوم.

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر ج 1ص 90.

رحلاته

رحلاته: بعد أن حفظ كتاب الله وتفقهه في الدين في مذهب الإمام أحمد بن حنبل على والده عبد الوهاب وشيوخ بلده وأخذ حظا من العلم في الفقه والتوحيد وعلوم العربية والحديث تطلع إلى السفر والترحال في طلب العلم والالتقاء بالعلماء في مختلف حواضر العالم الإسلامي للإفادة من علومهم وتزود بما قد ينقصه من العلم ويطلع على حال العالم الإسلام بما فيها من استقامة وعوج ومناقشة هذه الموضوعات على ضوء الكتاب وسنة وبيان وجه الحق فيها فبدأ بحج بيت الله الحرام والالتقاء بعلماء مكة المكرمة ثم رحل إلى المدينة وأخذ عن علمائها ومنهم الشيخان عبد الله بن سيف ومحمد حياة السندي وغيرهما. ثم رحل إلى البصرة والعراق ثم إلى الاحساء ثم عاد إلى مقر إقامة والده في حريملاء , وعاد يتعلم ويعلم ويعلن دعوته بين الناس

فاستحسنوها ولكن بعض الموالي في حريملاء ولا سيما آل حميان منهم نقموا عليه وأذوه وكادوا يقتلونه فرأى نقل دعوته من حريملاء إلى العيينة وهي اكبر بلدا وأكثر سكانا وإمارتها أعظم نفوذا فتلقاه أميرها بالبشر والترحاب وأتاح له فرصة إظهار دعوته والجلوس لطلاب العلم وإنكار المنكر والأمر بالمعروف وإقامة بعض الحدود وهدم قبة قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة. ثم إن أمير العيينة آنذاك - عثمان بن حمد بن معمر- تلقى تهديدا من أمير الاحساء المدعو/ سليمان بن محمد بن غرير الحميدي قائد الاحساء والقطيف وما حولها بقطع خراج ابن معمر الذي له في الاحساء وقدره ألف ومائتا أحمر وما يتبعها من طعام وكسوة وأمر أمير الاحساء ابن معمر بقتل الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولما ورد إلى ابن معمر كتاب قائد الاحساء ما وسعه مخالفته وأخبر الشيخ بما ورده فأراد الشيخ إقناعه وطمأنته بأن الله سينصره ويمكن له في الأرض إذا استمر في نصرة الدعوة وتأييدها فأخرج الشيخ ووكل إلى فارس له يدعى الفريد مع خيالة منهم طواله الحمراني قتله وهو في طريقه إلى الدرعية إذا وصل إلى قبر أخيه يعقوب وكان يعقوب رجلا صالحا قتل ظلما بين الدرعية والعيينة. ثم إن الشيخ رحمه الله أن جاه الله من كيد أمير العيينة ووصل إلى الدرعية وقصد بيت محمد بن سويلم العريني، فلما وصل إليه ضاقت عليه داره وخاف على نفسه من محمد بن سعود فوعظه الشيخ وسكن جأشه وقال سيجعل الله لنا ولك فرجا ومخرجا قال ابن بشر رحمه الله "لما وصل إلى الدرعية فعلم به خصائصه من أهل الدرعية فزاروه خفية، فقرر لهم التوحيد واستقر في قلوبهم فأرادوا أن يخبروا محمد بن سعود ويشيروا عليه بنصرته فهابوه فأتوا إلى زوجته موضى وكانت ذات عقل ومعرفة فأخبروها بمكان الشيخ وصفة ما يأمره به وينهي عنه فوقر في قلبها معرفة التوحيد وقذف الله في قلبها محبة الشيخ فلما دخل عليها زوجها محمد أخبرته بمكانه وقالت إن هذا الرجل أتى إليك وهو غنيمة ساقها الله لك فأكرمه وعظمه واغتنم نصرته. فقبل قولها وألقى الله سبحانه في قلبه للشيخ المحبة فأراد أن يرسل إليه فقالوا سر إليه برجلك في مكانه وأظهر تعظيمه والاحتفال به لعل الناس أن يكرموه ويعظموه فسار إليه محمد فدخل

عليه في بيت ابن سويلم ورحب به وقال أبشر ببلاد خير من بلادك وأبشر بالعز والمنعة, فقال الشيخ وأنا أبشرك بالعز والتمكن وهذه الكلمة "لا إله إلا الله" من تمسك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعباد وهي كلمة التوحيد وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم" 1 وبهذا بدأت الدعوة تدخل في طور عملي جديد توافرت له مقومات النجاح لوجود قيادة دينية راشدة وقيادة سياسية مؤمنة وتلاحم إيماني عميق ظهرت آثاره فيما بعد ذلك واستمرت هذبه المدرسة في عطائها عبر الأجيال في هذه المنطقة.

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر ج 1ص11, 12.

روافد فكره

روافد فكره والعوامل التي أثرت في نزعته الإصلاحية: إن الحالة الاجتماعية والدينية التي كان عليها سكان نجد وقلب جزيرة العرب خاصة وحالة العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر بما فيها من تفكك وانقسام واضطراب وفقد الأمن وغياب الوحدة العقيدية والفكرية والثقافية، والضبابية التي اتسمت بها كثير من المفاهيم الإسلامية في نفوس كثير من الناس، وسوء الأحوال الدينية والاجتماعية بوجه عام، وقيام معالم الشرك بين أظهر المسلمين في مختلف ديارهم، قد حفز كثيرا من علماء المسلمين في نجد وفي غيرها إلى التسلح بالعلم الصحيح النافع لمحاربة البدع والخرافات والمنكرات في مختلف صورها وأشكالها مما سبقت الإشارة إليه وقامت صيحات تنادي بالإصلاح هنا وهناك إلا أنه لم يكتب لها من النجاح ما كتب لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. ومع هذا فإن سوء الأحوال وظهور المنكرات والبدع ومظاهر الشرك في نجد وإنكار ذلك من بعض العلماء السلفيين قد فتح الطريق أمام هذا المصلح العظيم لدخول تاريخ الإسلامي التجديدي من أوسع أبوابه. وكان لاتصاله بالأئمة الفضلاء والأعلام مثل عبد الله بن إبراهيم بن سيف

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر ج 1ص11, 12.

النجدي في المدينة المنورة وبالإمام محمد حياة السندي وبعض علماء السنة في الحرمين الشريفين واتصاله بالشيخ محمد المجموعي في البصرة وغيرهم من علماء السلف في الاحساء ونجد، وغيرهم ومعاصرته لهؤلاء العلماء الأجلاء الذين كان لهم باع في نشر العلم الصحيح وإنكار البدع والخرافات ومظاهر الشرك في البلاد الإسلامية ومعرفة ما يتم بينهم وبين خصومهم من منازعات واختلافات الأثر الذي حفز التلميذ النجيب على القيام بدور قيادي في هذه الميدان بين أهله وذويه وفي مسقط رأسه ومرابع صباه. وكان لكثرة مطالعته لكتب التفسير وسيرة السلف الصالح وتاريخ المصلحين ومعرفة الحق بدليله على أيدي شيوخ فضلاء أثر في جعل رؤيته للحق واضحة ونزعته إلى الإصلاح على أصول ثابتة مقررة في الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح وكان لقوته في التمسك بالحق وصلابته في الدعوة وصموده في أيام الشدة وتحديده للسلطة السياسية في عصره لما حدث عن الحق في بعض أمور العقيدة وما ناله منها من الأذى والمحنة ما ثبته على قول الحق صابرا محتسبا مهما كلفه ذلك من أذى وعنت ومشقة حتى كتب الله النصر المؤزر على خصومه الأقوياء في نهاية الأمر، وبقي للناس مثلا حيا في الثبات على الحق والصبر على الأذى فيه فكان مثالا شاخصا حيا لكل مصلح وقائم لله بالحجة على الخلق. ثم إن نشأته في مدرسة آبائه وأجداده من الحنابلة قد أتاحت له فرصة الاطلاع على سيرة الدعاة والعلماء من الحنابلة وقوتهم في الحق وقيامهم بواجبهم في بغداد ودمشق وفلسطين وغيرهما وصراحتهم في إنكار المنكر والدعوة إلى الله. كما أتاحت له مدرسة فقه الحنابلة الاطلاع على كتابات إمامين عظيمين من أئمة الحنابلة هما شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله بما يمثلانه من تيار الإسلامي دافق ونزعة إصلاحية. فهذه الروافد السالفة الذكر من أهم العوامل التي أثرت في فكر الإمام محمد بن عبد الوهاب والتي حددت له معالم طريق الإصلاح الديني والاجتماعي

والسياسي في نجد وهي واضحة الأثر في فقهه ومنحاه في الاجتهاد وطريقه في الإصلاح ومأخذه من الأدلة وكلها تدل على أن هذه المؤثرات كلها قد أسهمت بمقادير مختلفة في تكوين فكره وشخصيته وعمله وقد أثمرت هذه كلها نتائج مهمة متمثلة في: 1- اقتناعه التام بوجوب العمل على إنكار المنكر ومحاربة البدع القائمة في نجد وغيرها بكل الوسائل الممكنة ومواجهة كل الظروف المحتملة لهذه المواقف بكل عزم وإصرار وتحد بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البيان والدليل بالقول والعمل والاعتقاد على السواء 2- محاربة التقليد والتعصب الأعمى للبلد والقبيل والمذهب والشيخ والطائفة ووزن الناس بميزان الكتاب والسنة ودعوته إلى الاجتهاد لمن توافرت له أسبابه وقامت به أوصافه. 3- جعل المقام الأول للكتاب العزيز والسنة المطهرة وجعل الحاكم لهما على كل شخص أو رأي أو مذهب أو شيخ ومحاولة ربط الحياة بهما في مختلف جوانبها قدر المستطاع. 4- الاقتناع التام ممن قام على تحقيق كلمة لا إله إلا الله في واقع حياة وفي حياة من يقوم على أمرهم بأن العاقبة له وأنه سيمكن له في الأرض وينصره الله على أعدائه ويظهره على من عاداه كما قالها صريحة لأمير العيينة حينما هدده قائد الاحساء بقطع خراجه. 5- مواجهة الخصوم بالشجاعة الكاملة والمواقف المعلنة والبدء بالبيان والحجة والدليل والبرهان والقدوة الحسنة والسيرة العلمية الموافقة للحق ثم بالقوة المادية متى دعت إليها الضرورة أو قامت إليها حاجة. التركيز على تصحيح العقيدة وإخلاص العمل لله، والبراءة من الشرك وأهله وبيان ما يناقض العقيدة الصحيحة، وتحذير الناس منه وتحقيق معنى قول "لا

1- إله إلا الله" قولا واعتقادا وعملا وبيان ما يناقضها من الأقوال والأقوال والاعتقادات، ورد الناس ٍإلى ما كان عليه السلف الصالح في ذلك كله بفهم ووعي وممارسة مدللا على ذلك بالأدلة الواضحة من الكتاب والسنة وأقوال وسيرة السلف الصالح من هذه الأمة. 2- بيان معنى التوحيد بأقسامه الثلاثة وإيضاح الشرك ظاهره وخفيه وبيان فضل التوحيد وتكفيره للذنوب والتنبه على أن أعظم ذنب يعصى الله به هو الشرك، وأن الشرك محبط للعمل وموجب دخول النار. 3- تحديده لمعنى العبادة وأنها لا تكون إلا لله وحده وأن من صرف شيئا منها لغير الله فإنه يكفر بذلك. 4- تشديده في النكير على بعض ما يفعله العوام في نجد والعالم الإسلامي مما يتنافى مع مقتضى عقيدة التوحيد أو ينقص من كماله. 5- اهتمامه بفرائض الإسلام وتعليمها للناس وإلزام الناس بالقيام بها قدر المستطاع وبيان فضلها ومكانتها من الدين وبيان حكم من ترك شيئا منها وجعل علم الضروري منها علما مشاعا في الناس لا يعذر أحد بالجهل به حتى صار تدريسه واجبا يوميا يؤدى في المساجد العامة بين أفراد وعوام المسلمين في نجد. 6- تحقيق معنى الإسلام وبيان أركانه وذكر كل حكم بدليله من الكتاب أو السنة أوبهما معا مع إيضاح نواقض الإسلام وكبائر الذنوب. 7- احترام لأئمة الأربعة المتبوعة مذاهبهم حتى اليوم وبقية أئمة الإسلام من غير تفريق بين إمام وغيره وبين مذهب وآخر، وجعل الدليل من الكتاب والسنة هما الحاكم على المذاهب وأقوال الرجال في كل العصور لمن قدر على الوصول إلى الحكم بدليله وتوفرت له آلة الاجتهاد المطلق أو المقيد في الحكم على المسائل. ولهذا فإنه يقرر أنه في الفقه على مذهب الإمام أحمد ومتى ظهر له الدليل مع

غيره في مسألة أخذ بما يؤيده الدليل وترك المذهب وأما العوام فمذهبهم مذهب من يفتيهم من أهل العلم والدين. 1- إنفاق وقته وجهده وماله ونفسه في سبيل الدعوة إلى الله وتصحيح العقيدة وإقامة شرائع الدين وحراسة الشر ع بواسطة قوة سياسية مؤمنة بهذا الدين. وإحياء الشعور الإسلامي الواحد والأمة المحمدية الواحدة والهدف الواحد والغاية المشتركة وتجلية بعض المفاهيم الإسلامية التي انحرف بها الناس عن حقيقتها. 2- العمل على إقامة قوة السياسية قادرة على نشرة الدعوة الإصلاحية وحراسة الدين والدفع عنه إلى جانب الأخذ بأسباب نجاح الدعوة بواسطة الدعة والوعظ والإرشاد والتعليم وبعث البعوث والرسائل وإقامة الحدود وترسيخ المفاهيم الصحيحة في نفوس الناس بكل وسائل الممكنة. 3- رفع راية الجهاد الإسلامي لنصرة دين الله ودحر أعدائه وتأمين دعاته ملتزما في ذلك قواعد الجهاد الإسلامي ومتطلباته وآدابه. 4- التمييز بين حزب الله وأوليائه وبين حزب الشيطان وأتباعه وغرس روح الولاء لله ولرسوله وللمسلمين ومعاداة أعداء الله ووجوب جهادهم بكل وسيلة حتى يعودوا للحق. 5- بيان الحق في الولايات والشفاعات وما دخل بسببها على المسلمين في عقائدهم من انحراف وفساد وما يجب في ذلك كله مع بيان الدليل عليه من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح. 6- رد الناس إلى الله في أمور العقيدة ومسائل العبادات ومظاهر السلوك في الحكم والقضاء والإفتاء في التعليم والعمل والاعتقاد وتعظيم نصوص الشرع في نفوس الناس وجعل الحكم لهما في كل الأمور وإقامة القوة سياسية حارسة للدين حامية للشرع مقيمة للعدل.

1- إقامة الحياة إسلامية نظيفة متمثلة في مجتمع إسلامي قائم على حراسة الدين وحماية جناب التوحيد ساد لأبواب الشرك ومداخله قد تحقق فيه وضوح الهدف والغاية وتجلت له المفاهيم الإسلامية كما أرادها الله منه صافي العقيدة مقيم لفرائض الدين عارف بالحلال والحرام والجائز والممنوع في المطاعم والمشارب والملابس وغيرها موحد الفكر محدد الهدف مرصوص الصفوف متماسك البناء يأخذ بوعي ويترك بفهم ويقاتل لهدف ويتعامل بأدب الإسلام في مختلف علاقاته العامة والخاصة. موافقاته للرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته: الشيخ محمد بن عبد الوهاب عالم مجدد وداعية إلى الله مصلح يترسم في دعوته الإصلاحية أعمال وخطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته، فإن كتاب الله العزيز محفوظ والسنة النبوية المطهرة والسيرة العطرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدونة وموثقة، ومن وفقه الله للفقه في الدين والوعي لهذه النصوص من السيرة النبوية الكريمة استطاع أن يعرف فقه الرسالة المحمدية وأعمال وتصرفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته. ومن تتبع خطوات دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقارن كثيرا من أعماله وتصرفاته بما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد له موافقات كثيرة لأعمال وتصرفات نبي الرحمة وذلك بتوفيق من الله سبحانه وتعالى ثم بالمحاولة الصادقة من إمام الدعوة رحمه الله في تحقيقه المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في أعماله وتصرفاته وأقواله وكانت هذه موافقات من أسباب نجاح هذه الدعوة والحمد لله. وموافقات هذه الدعوة الإصلاحية وتصرفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته كثيرة وليس من مقصودنا في هذه المقام إجراء تتبع واستقراء تام لموافقات دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، ولكن غايتنا الإشارة الموجزة لبعض هذه الموافقات التي تمت في هذه الحركة الإصلاحية التجديدية لبيان صدق الانتماء وقصد المتابعة وترسمها لسيرة النبي العظيم عليه الصلاة والسلام

* فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدأ دعوته بالدعوة إلى التوحيد والإخلاص لله وأول ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم في الرسالة قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} .. الآيات. فإن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدأت بهذا الأصل العظيم دعت إلى تحقيق التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك والبدع والانحرافات وكانت الخصومة بينه وبين قومه في هذا الأصل لاسيما توحيد الألوهية كما كانت خصومة النبي صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش في مكة حول هذا الأصل كما قال تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} . * وإذا كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم قامت في أول أمرها في مسقط رأسه وبين أهله وأقربائه وسكان بلده وأنه وجد منهم في بدء الرسالة الإعراض والأذى ومحاولة قتله حتى اضطر إلى الهجرة إلى المدينة. فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد جهر بدعوته في بلده حريملاء ووجد من أقرب الناس إليه صدودا وإعراضا وأذى حتى اضطر إلى ترك بلده حريملاء والانتقال منها إلى العيينة ثم إلى الدرعية مطرودا خائفا. * وإذا كان رسول صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على القبائل العربية في مواسم الحج يطلب النصرة والتأييد لرسالته ويعد بالنصر والتأييد من الله لمن أيده حتى وجد من يقبل دعوته ويعقد معه البيعة وكان هذا الشرف العظيم لأهل المدينة المنورة من الأوس والخزرج وتم ذلك في بيعتي العقبة الأولى والثانية ثم تلتها الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة في كنف الأنصار رضي الله عنهم، فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب اقتدى بنبي الهدى عليه الصلاة والسلام في ذلك فكان يعرض نفسه ودعوته على أمراء بلدان نجد ويعد من يقبلها ويؤازرها بالنصر والتأييد فعرض نفسه ودعوته على أمير العيينة فقبلها في أول الأمر ثم أدرك ضخامة تبعاتها وأحسن من نفسه العجز عن القيام بواجبها وتحمل مسئولياتها ثم أخرج إمامها وحاول قتله فأنجاه الله ثم عرض نفسه على أمير الدرعية الإمام محمد بن سعود فقبلها. وتمت بينهما بيعة شبيهة ببيعة العقبة انتقلت بها الدعوة من طور إلى طور من دعوة فردية إلى مجتمع مسلم بقمته وقاعدته. * بدأت أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

والترحيب بالمهاجرين وإيوائهم وتعليمهم وتوحيد غاية المسلمين وصفوفهم واعتماد الجهاد طريقا للدفاع عن المجتمع المسلم الوليد. وكذلك حركة الإصلاح والتجديد آخت بين أتباعها واستقبلت أنصارها وأتباعها الوافدون إليها، ويسرت لهم سبل العلم الشرعي وأعانتهم على تكاليف الحياة. ودمجت الوافدون إلى الدرعية مع أهلها الأصليين ووحدت بينهم عقيدة التوحيد ونصرة الدعوة، ورفعت راية الجهاد في سبيل الله لحماية الدعوة وتأمين دعاتها والانتصاف من خصومها. * بعد قيام دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة على يد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية المجتمع المسلم في المدينة على أحكام الدين وآداب الإسلام وتطبيق أحكام الشريعة في كل شئون الحياة كما أراد الله. وكذلك دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد أن توافر لها المجتمع المسلم المؤمن بها في الدرعية بدأت تطبيق أحكام الإسلام على الناس , وبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود وتحكيم الشريعة في شئون الحياة المختلفة. * كان انتماء العرب في جاهليتهم للقبيلة والأقربين في النسب وللبلد والعشيرة والمناصرة على أسس جاهلية , فلما جاءت الرسالة الخاتمة أبدل الله بهذه الروابط الجاهلية رابطة الدين وأخوة الإسلام وجعل الإيمان بهذه الرسالة أساس الانتماء، وعليه تقوم المودة والإخاء والعداوة والبغضاء حتى انقسم البيت الواحد على نفسه لا سيما في مجتمع مكة قبل وبعد الهجرة , وصار الأخ في النسب يعادي أخاه في النسب على الدين , ويناصر عليه من لا تربطه رابطة النسب بل رابطة الدين فقط. بل وقف الأخ في وجه أخيه بالسلاح , وقتل الابن أباه في بدر وأحد وغيرهما من معارك الإسلام الفاصلة. وكذلك دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي أقامت روابطها على الدين وحده واختلف فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع أخيه سليمان، وانقسم مجتمع كل

من حريملاء والعيينة بين مؤيد له ومعارض لدعوته. وقامت الرابطة في الدرعية على الأخوة في الدين والنصرة على تحقيق التوحيد، وأكدت هذه الحركة على مبدأ عظيم هو مبدأ الولاء والبراء, الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من خصوم الدعوة والمعارضين لها من القبوريين وعلماء السوء والأمراء الظلمة. وعلى هذا الأساس قامت الروابط وتحددت الموفق وصهرت عصبيات الجاهلية التي كانت مستحكمة في مجتمع نجد الذي ولدت فيه هذه الدعوة. * بدأت الرسالة المحمدية بنواة المجتمع المسلم في المدينة المنورة ثم ظلت في صراع مع خصوم هذه الرسالة من قريش وقبائل العرب وغيرهم واستمر هذا المجتمع في جهاده يتوسع ويكسب المواقع لنشر هذا الدين واحدا بعد الآخر حتى جاء نصر الله والفتح. وخضعت قبائل العرب لهذا الدين ودخلوا في دين الله أفواجا، وتمكنت هذه الرسالة من تحقيق مراد الله في خلقه، وإبلاغ دعوته إلى الناس كافة، وظلت في توسيع مستمر حتى اختلت أكثر من نصف الكرة الأرضية. ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدأت بمجتمع محدود في عزلة شديدة عن العالم، تكالبت عليه المعارضة وتلاقت على حربه من كل حدب وصوب وظل يصارع هذه المعارضة سنين طويلة حتى أظهره الله عليه، وتحقق لأئمة هذه الدعوة من القوة والسلطان والنفوذ مالم يتوقعه حتى دخل معظم أقاليم الجزيرة تحت نفوذ هذه الدعوة واستطاعت أن تعلن عن نفسها ومبادئ دعوتها في مواسم الحج ومجامع الناس. وهكذا نجد كثيرا من أعمال إمام هذه الدعوة قد تحققت فيه الموافقة والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من أعماله وتصرفاته. وقد أشار فضيلة أستاذنا الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي في كتابته عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى كثير من هذه الموافقات مما لم يسبق لي أن رأيت أحدا أشار إليه. ومع الأسف أنني وأنا أخط هذه الأحرف لم يكن ذلك المؤلف الممتاز

لاقتبس من كلامه وانقل من صور الموافقات. ولكن ما أشرت إليه هنا يعطى مفتاحا لهذا الموفقات والله هو الموفق. مقام الشيخ رحمه الله في الدرعية: لم يكن مقام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الدرعية مقام المسلم الواعظ فحسب ولكنه كان معلما وواعظا وقدوة حسنة في حياة وسيرته الذاتية، وكان مع ذلك كله في دفة القيادة جنبا إلى جنب مع الإمام محمد بن سعود في رسم السياسة، وإيواء الوافدين إلى الدرعية من الأنصار والمؤيدين ومواساتهم، ورفع كثير من المعاناة التي عانوها في بداية حياتهم فيها. وهو مع هذا يجهز الجيوش ويقود الحملات ويتولى جباية الأموال وتقسيم الغنائم ومكاتبة البلدان وأمرائها وعلمائها ويقابل الوفود ويتولى بيت المال فلا يصرف شيء من المال إلا بتدبيره وإشارته وتوجيهه. وكان تفاهمه مع الإمام محمد بن سعود تاما على كل هذه القضايا بلا أي حساسيات. وهو لم يكن طامعا في حكم ولا راغبا في إمارة ولا ساعيا وراء شهرة أو مجد شخصي، ولكنه رجل دعوة وقائد حركة إصلاح وحامل عقيدة ومؤدي وظيفة في المجتمع. وكل همه نشر عقيدة التوحيد ولم شعث هذه الأمة وإعادة الحياة الإسلامية في مختلف جوانب الحياة إلى الأمة التي ولد فيها وتربى في أحضانها وملأ حبها كل جوانحه وملك عليه كل مشاعره ليخرجها بهذا الدين من ظلمات الجهل إلى نور العلم والإيمان. يقول المؤرخ الشيخ عثمان بن بشر في وصف سخائه على ضيوفه الوافدين إليه وخفض جناحه لطلاب العلم "وكان عطاؤه عطاء من وثق بالله لا يخشى الفقر بحيث إنه يهب الزكاة والغنيمة في موضع واحد لا يقوم ومعه منها شيء، ويتحمل الدين الكثير لأضافه وسائر الوافدين إليه، وعليه الهيبة العظيمة التي ما سمعنا بها اتفقت لغيره من العلماء والرؤساء وغيرهم. وهذا شيء وضعه الله في القلوب، وإلا فما علمنا أحدا ألين ولا أخفض جنابا منه لطالب علم أو سائل أو ذي حاجة أو مقتبس

فائدة"1 وأما عن إسهامه في بناء الدولة السعودية في الدرعية فقد قال الشيخ عثمان بن بشر في تاريخه: "وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – هو الذي يجهز الجيوش ويبعث السرايا ويكاتب أهل البلدان ويكاتبونه والوفود إليه والضيوف عنده والداخل والخارج من عنده. فلم يزل مجاهدا حتى أذعن أهل نجد وتابعوا وعمل فيها بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبايعوا, فعمرت نجد بعد خرابها وصلحت بعد فسادها ونال الفخر والملك من آواه وصروا ملوكا بعد الذل والتفرق والقتال , وهكذا كل من نصر الشريعة من قديم الزمان وحديثه فالله يظهر على أعدائه ويجعله مالكا لمن عاداه"2 وفي وصف أثر الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحركته الإصلاحية يقول ابن بشر رحمه الله: "وكفى بفضله شرفا ما حصل بسببه من إزالة البدع واجتماع المسلمين وتقويم الجماعات والجمع وتجديد الدين بعد دروسه وقطع أصول الشرك بعد غروسه"3 ولهذا فإن مقام الشيخ من الدعوة ودولتها في الدرعية مقام الرائد الأمين والسياسي المجرب والمصلح الذي يحمل هم أمته وإصلاح مجتمعه والقائد العسكري الشجاع إلى جانب قيادته الفكرية والعملية الإصلاحية التي قامت على التعليم والعمل والحركة والنشاط والممارسة رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص.89 2 المرجع السابق ج1ص91. 3 المرجع السابق ج 1ص91.

الفصل الثالث: الاعتقاد والدعوة ومنشأ الاختلاف

الفصل الثالث: الاعتقاد والدعوة ومنشأ الاختلاف أولا – حقيقة اعتقاده: مع تتبعي لكتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورسائله الشخصية على كثرتها لم أجد سؤالا وجه إليه من علماء " العارض " الذين نشأت الدعوة بينهم وقامت الخصومات الشديدة بينهم وبينه في دعوته يسألونه عن حقيقة عقيدته لأنه معروف الأصل والنسب والشيوخ وبيت العلم الذي نشأ فيه وتربى في أحضانه وإنما وجهت له الأسئلة من أهل المناطق النائية التي لم يكن معروفا فيها قبل دعوته، فلما قامت الخصومات ودار الجدل حول دعوته الإصلاحية وأثيرت في وجهها الشبهات احتاج علماء المسلمين في أنحاء الجزيرة العربية إلى معرفة حقيقة اعتقاده في أصول الدين وأصل خلافه مع علماء أهل العارض. وممن سأله عن حقيقة عقيدته أهالي القصيم والشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السويدي من علماء العراق، والشيخ أحمد بن محمد العديلي البكلي من علماء اليمن والشيخ عبد الله بن عبد الله الصنعاني عالم اليمن وإمامها في العلم والدين كما شرح حقيقة اعتقاده في الرسالة العامة التي بعث بها إلى عامة المسلمين ولم يذكر في هذه الرسائل الجليلة تاريخ كتابة أي منها وكلها تشرح وتؤكد حقيقة اعتقاده والأصول التي تستند إليها دعوته وهي تختلف في طولها وقصرها من رسالة إلى أخرى مراعيا فيها حال المخاطب وما يحتاج إلى إيضاحه له من حقيقة هذه العقيدة وسبب اختلافه مع علماء العارض وغيرهم. وهذه الرسائل المحددة في شرح عقيدته تدل على محدودية الخلاف معه في أصل العقيدة التي تركزت حول توحيد الأسماء والصفات وبعض القضايا

الجزئية إذا ما قورنت بالخلاف معه في دعوته التي تمركزت حول توحيد الألوهية وتحقيق معنى لا إله إلا الله في صورتها الكاملة كما أرادها الله وكما فهمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب من نصوص الكتاب والسنة ومنهاج السلف الصالح وفقهاء المسلمين المحققين في مختلف المذاهب ويمكن تلخيص حقيقة اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب من خلال رسائله التي سلف ذكرها في النقاط التالية: 1- في مجال الإيمان – قال رحمه الله: أ - أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية: أهل السنة والجماعة من: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره 1 ب - وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية 2قال تعالى {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} 3 وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق4. ج - الإيمان بأسماء الله وصفاته: وهو الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تشبيه ولا تمثيل، بل الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . قال الشيخ: فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه ولا ألحد في أسمائه وآياته ولا أكيف ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كفؤ له ولا ند له ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره

_ 1 القسم الخامس الرسائل الشخصية، الشيخ محمد بن عبد الوهاب رسالة رقم 1 ص8. 2 القسم الخامس الرسائل الشخصية، الشيخ محمد بن عبد الوهاب رسالة رقم 1ص 11. 3 سورة المدثر الآية رقم 31. 4 القسم الخامس الرسائل الشخصية، الشيخ محمد بن عبد الوهاب رسالة رقم 1ص 11.

وأصدق قيلا وأسن حديثا فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل 1 فقال الله تعالى {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2 1- في باب أفعال الله سبحانه ووعده ووعيده وفي الإيمان والدين: يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب إنه يعتقد ما تعتقده الفرقة الناجية 3 في ذلك كله وهو أنهم وسط في باب أفعال الله تعالى بين القدرية 4 والجبرية 5 وهم في باب وعيد الله بين المرجئة 6 والوعيدية 7 وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية 8 والمعتزلة 9 وبين المرجئة والجهمية 10 "الرسالة رقم 1-8".

_ 1 القسم الخامس الرسائل الشخصية، الشيخ محمد بن عبد الوهاب رسالة رقم 1 ص8. 2 سورة الصافات الآيات 180، 181، 182. 3 الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة لأنهم وحدهم الناجون من النار من بين الفرق الإسلامية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلى واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي " 4 القدرية نفاة القدر يجعلون العباد خالقين مع الله ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة والحق في باب أفعال الله أن العبد غير مجبور على أفعاله وأقواله وإنها ليست حركات اضطرارية وليست مخلوقة للعباد بل هي فعل العبد وكسبه وخلق الله تعالى. 5 هم طائفة من الطوائف وزعيمهم الجهم بن صفوان السمرقندي ومذهبهم الغلو في إثبات القدر يزعمون أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى وهي كلها اضطرارية فنفوا فعل العبد. 6 المرجئة هم أصناف منهم من يقولون لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. 7 هم الذين غلوا في الوعيد حتى خلدوا بعض المؤمنين في النار. 8 هم الخوارج الذين خرجوا على الخليفة علي بن أبي طالب بسبب التحكيم في حروراء. 9 المعتزلة هم الذين اعتزلوا مجلس الحسن البصري ورئيسهم واصل بن عطاء وعندهم أن مرتكب الكبيرة يخرج من النار ولا يدخل في الكفر بل يكون في منزلة بين منزلتين. 10 الجهمية هم المنتسبون إلى جهم بن صفوان السمرقندي ومن مذهبهم أن الإيمان هو المعرفة فقط.

وأن الله فعال لما يريد ولا يكون شيء إلا بإرادته ولا يخرج شيء عن مشيئته وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره ولا محيد عن القدر المحدد ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور. " الرسالة نفسها ص9". 1- عقيدته في القرآن: يقول الشيخ محمد رحمه الله اعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده نبينا حمد صلى الله عليه وسلم. 2- الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت: مثل أ - الإيمان بفتنة القبر ونعيمه وعذابه. ب - إعادة الأرواح إلى الأجساد فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا. ج - دنو الشمس من الناس في الموقف يوم الحساب. د - نصب الموازين لتوزن بها أعمال العباد {مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} هـ- نشر الدواوين فآخذ كتابه بشماله وآخذه بيمينه. 3- اعتقاده في الجنة والنار: أ - الإيمان بأن الجنة والنار مخلوقتان. ب - الإيمان بأنهما اليوم موجودتان. ج - الإيمان بأنهما لا يفنيان. د- الإيمان بالصراط وأنه منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم.

1- اعتقاده في رؤية المؤمنين لله يوم القيامة: ويؤمن بأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته. 2- اعتقاده في رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: وعقيدة الشيخ في هذا المقام تتلخص فيما يلي: أ - إيمانه بأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين 1 ب - أنه لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته 2 ج - الإيمان بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة وأن ماءه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وآنيته عدد نجوم السماء وأن من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا3 د- الإيمان شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع وأنه لا ينكر شفاعة صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضا4 كما قال تعالى {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 5 وقال تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 6 وقال تعالى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 7 وهو لا يرضى إلا التوحيد ولا يأذن إلا لأهله وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب كما قال تعالى {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 8

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية رسالة رقم 1ص 10. 2 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية رسالة رقم 1ص 10. 3 المرجع السابق ص9 4 المرجع السابق ص9 5 سورة الأنبياء الآية رقم 28. 6 سورة البقر الآية رقم 255. 7 سورة النجم الآية رقم 26. 8 سورة المدثر الآية رقم 48.

هـ- وجوب المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقادات والأقوال والأفعال كما قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ 00الآية} 1. وأن الأقوال والأفعال توزن بأقواله وأفعاله فما وقفها قبل وما خالفها رد على فاعله كائنا من كان إذ أن شهادة أن محمدا رسول الله تتضمن تصديقه كما أخبر به وطاعته ومتابعته في كل ما أمر به 2 1- اعتقاده في الصحابة رضي الله عنهم: أ - أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام عملا بقوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3 وأن أفضل الصحابة رضي الله عنهم أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، ثم أهل بدر ثم أهل الشجر أهل البيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. ب - الإيمان بوجوب تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر محاسنهم والترضى عنهم والاستغفار لهم. ج- الكف عن مساوئهم والسكوت عما شجر بينهم.

_ 1 سورة آل عمران الآية رقم 31. 2 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية رسالة رقم 16ص 106. 3 سورة الحشر آية رقم 10.

1- اعتقاده في الأولياء: الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقر بكرامات الأولياء ومالهم من المكاشفات وهو يعتقد أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا ولا يجوز أن يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. 2- عقيدته في أهل الإسلام: وتتلخص في الآتي: أ - أنه لا يشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه يرجو للمحسن ويخاف على المسيء. ب - أنه لا يكفر أحدا من المسلمين بذنب ولا يخرجه من الإسلام. ج - يرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا ويحكم عليهم بالظاهر من أعمالهم ويكل سرائرهم إلى الله. د - أن كل محدثة في الدين بدعة. 3- اعتقاده في الإمامة والجهاد: ويرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله وأن من ولى الخلافة أو اجتمع عليه الناس ورضوا به أو غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وجبت طاعته وحرم الخروج عليه ويرى أن الجهاد ماض مع كل إمام برا كان أو فاجرا وصلاة الجماعة خلفهم جائزة وأن الجهاد ماض منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل. 4- اعتقاده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والولاء والبراء في الدين: أ - يرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة. ب - يرى أن الموالاة في الله والمعاداة فيه والحب لأوليائه والبغض لأعدائه واجب من

واجبات الدين لا يصير للرجل دين إلا بها لقوله تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 1 وقوله تعالى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} 00إلى قوله تعالى {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 2 الآية وقال إنه يجب على الرجل أن يعلم أولاده وأهل بيته ذلك وأن ذلك أعظم من وجوب تعليم الوضوء والصلاة.

_ 1 سورة المائدة الآية رقم 51. 2 سورة الممتحنة الآية رقم 4.

ثانيا: "أصول دعوته"

ثانيا- "أصول دعوته": تعتمد حركة الإصلاح والتجديد في نجد على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوتها وأصولها وأحكامها على الأدلة الشرعية الثابتة والمفيدة عند الأصوليين في مختلف المذاهب الإسلامية, وهي: 1- الكتاب العزيز. 2- السنة النبوية. 3- الإجماع. 4- الاجتهاد والقياس. وما تفرع عن هذه الأصول الأربعة من أصول فرعية معتبرة عند جمهور الأصوليين كما تنطلق من أرضية الواقع الذي ولدت فيه وشاهد إمامها أحداثها وعايش أحوال الناس فيها وهو المجتمع القائم وقت قيام هذه الدعوة في نجد وبقية أجزاء شبه جزيرة العرب وكثير من أقطار العالم الإسلامي وما طرأ على هذه المجتمعات من تخلف وانحراف في العصور المتأخرة من حياة المسلمين في مجالات مختلفة بسبب قلة العلماء وفقد المجتهدين اجتهادا مطلقا ومقيدا وفشوا الجهل وانتشار التقليد والتعصب وفقد القيادة الراشدة والإمامة العادلة التي تقوم على الحق وتحرس

الدين وتأخذ بالناس إلى الهدي والرشد. بل حصلت بفقدها الفوضى والاضطراب واختلاف حبل الأمن وقطع الطريق وإخافة السالكين وظهر بسبب ذلك كله الانحراف في العقيدة والشريعة والسلوك والخروج على بعض مبادئ الإسلام وإهمال بعضها الآخر إلى غير ذلك مما سبق ذكره في العرض التاريخي للحياة الدينية والسياسية في صدر هذا البحث قبل هذه الدعوة المباركة. ولما قامت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثاني عشر الهجري في نجد كان مولدها في هذه البيئة التي وصفناها. وعايش إمامها واقعها المؤسف وشاهد أحداثها المؤلمة وكانت نشأته في بيت علم مكنه من دراسة الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة والاطلاع على فقه الأئمة الأربعة وسير الصالحين وكتابات الإمامين الجليلين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وراعه الفارق الكبير القائم بين مقتضى الأدلة الشرعية في مصادر التشريع الإسلامي التي أسلفنا ذكرها وبين الواقع المعاش في نجد وأجزاء كثيرة من شبه جزيرة العرب وكثير من بلاد الإسلامي في ظل الخلافة العثمانية في عهودها المتأخرة. وقد وفقه الله سبحانه وتعالى لإدراك مراد الله في نصوص شرعه ومعرفة الواقع المعاش في حياة الناس في وقته وإجراء الموازنة الصحيحة بين ما أراده الله من عبادة وما يقوم الناس به من أعمال وممارسات مخالفة لمراد الله في نصوص شرعه في بعض جوانب الحياة. كما وفقه سبحانه وتعالى للقيام بواجب الإصلاح والتجديد والاضطلاع بهذه المهمة العظيمة والخطيرة في الوقت نفسه. فأخذ يعد نفسه بسلاح العلم والبصيرة في الدين على شيوخ بلاده وغيرهم ممن رحل إليهم في طلب العلم والاستزادة منه , فلما أحسن من نفسه القدوة على مباشرة الدعوة وتحمل مسئوليتها باشر الدعوة بتعليم الناس الخير وتنبيههم إلى مخاطر الانحراف في المجتمع وحدد مظاهره ومن ثم بدأ في الإصلاح والدعوة بالأهم فالمهم في خطوات متتابعة ومستمرة أملا في هداية الناس وقياما بواجب العلم وطلبا للثواب من الله، وقد تركزت هذه الدعوة وتمحورت حول أصول أساسية في الدين طرأ الانحراف عليها في حياة المسلمين فجاءت هذه الدعوة

الإصلاحية لتصحيح مسار الناس فيها ورد الخلق إلى الحق وتحقيق مراد الله في نصوص شرعه ومقاصد دينه وأعمال عباده وكان أهم هذه الأصول ما يلي: 1- تحقيق التوحيد: التوحيد هو إفراد الله بالعبادة وتوحيده في المعرفة والإثبات وتوحيده في الطلب والقصد وتحقيقه هو تنقيته من شوائب الشرك والبدع والإلحاد, وينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام هي: 1 - توحيد الربوبية: وهو توحيد الله بأفعاله واعتقاد أن الله سبحانه هو المتفرد بالخلق والرزق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم وأن هذا حق لابد منه لكن ذلك لا يدخل الإنسان في الإسلام وأن أكثر الناس مقرون به1 قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 2 وأكثر الكفار يؤمنون بهذا النوع من التوحيد ولم يدخلهم في الإسلام. 2- توحيد الألوهية: وهو توحيد الله بأفعال العباد فلا يجوز أن يسجد إلا لله ولا يركع إلا له ولا يدعى في الرخاء والشدة إلا هو ولا يذبح إلا له ولا يعبد بأي نوع من العبادات إلا هو سبحانه وتعالى وحده لا شريك له وأن من صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله من الأنبياء أو الأولياء أو الصالحين أو غيرهم من الأحياء والأموات فقد أشرك. وتعريفه لهذا النوع من التوحيد يخالف تعريف المتكلمة والصوفية وغيرهم من أن المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية وأنهم إذا أثبتوا ذلك فقد غاية التوحيد وأن من أقر لله بما يستحقه من الصفات

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية رسالة رقم 22ص 150، 151. 2 سورة يونس الآية رقم 31.

ونزهه عن كل ما تنزه عنه وأقر أنه سبحانه خالق كل شيء فهو الموحد. ج- توحيد الأسماء والصفات: وهو الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تشبيه ولا تمثيل واعتقاده أنه سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقد سبق بيان ذلك في عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب , وقد تمحورت وتمركزت بشكل رئيسي في توحيد الألوهية والعبادة كما تناولت بالتحقيق والإيضاح عقيدة السلف الصالح توحيد الأسماء والصفات والأول على جانب علمي عملي عبادي والثاني إيماني معرفي ولهذا فإننا نجد الشيخ رحمه الله نكرر في رسائله وكتبه بأنه إنما يدعوا إلى تحقيق معنى لا إله إلا الله وما تضمنته من نفي وإثبات وقال:"إن التوحيد الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم إفراد الله بالعبادة كلها ليس فيها حق لملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهم فلا يدعى إلا إياه" كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1 فمن عبد الله ليلا ونهارا ثم دعا نبيا عند قبره فقد اتخذ إلهين اثنين ولم يشهد أن لا إله إلا الله لأن الإله هو المدعو كما يفعل المشركون اليوم عند قبر الزبير أو عبد القادر أو غيرهما وكما يفعل هذا عند قبر زيد وغيره ومن ذبح لله ألف ضحية ثم ذبح لنبي أو غيره فقد جعل إلهين اثنين2 بل أكد في أكثر من موضع في كتبه ورسائله بأن هذا النوع من أنواع التوحيد هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الرسل وأممهم وأن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قاتلهم على توحيد الألوهية. فإن كفار قريش كانوا يعرفون الله ويعظمونه ويحجون ويعتمرون ويزعمون أنهم على دين إبراهيم الخليل وأنهم يشهدون أن الله

_ 1 سورة الجن الآية رقم 18. 2 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسالة رقم 24ص 166. وانظر الرسالة رقم 22 الموجه لعموم المسلمين ص 145.

هو الخالق الرازق المدبر للأمور وحده ولكنهم يدعون مع الله غيره ويقولون هؤلاء شفعاءنا عيد الله ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى 1 1- حقيقة التوحيد: وتوحيد الألوهية هو ما عبر عنه بمعرفة معنى لا إله إلا الله ويرى أن لكلمة لا إله إلا الله ركنين هما: 1- نفي الألوهية عما سوى الله. 2- إثبات الألوهية لله وحده لا شريك له وإخلاص العبادة له وحده. ويرى أن أكثر من يقولها في زمنه لا يعرف معناها ولا يعرف الإخلاص ولا اليقين أو يقولها تقليدا أو عادة ويستدل على ذلك بأن الشيخ عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن وهو من أجل علماء أهل نجد قال في رسالته العامة التي وجهها إلى عامة المسلمين يحثهم فيها على التوحيد ومعرفة شهادة ألا إله إلا الله وقد جاء فيها "فالله الله عباد الله لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم فلله الحمد على ما علمنا من دينه"2 وقال الشيخ محمد رحمه الله في الرسالة التي بعث بها إلى أهل الرياض ومنفوحة "فمن زعم من علماء العارض أنه عرف معنى لا إله إلا الله أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت أو زعم عن مشايخه أن أحدا عرف ذلك فقد كذب وافترى ولبس على الناس ومدح نفسه بما ليس فيه وشاهد هذا أن عبد الله بن عيسى ما نعرف في علماء نجد ولا علماء العارض ولا غيره أجل منه وهذا كلامه واصل إليكم "3 ويرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن لكلمة لا إله الله سبعة شروط لا

_ 1 انظر الرسالة رقم 19الموجه إلى عامة المسلمين وبعض علماء عصره ص 124،ص 125. 2 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم بدون ص 193 3 المرجع السابق الرسالة رقم 28 ص 187.

تنفع قائلها إلا باجتماعها: الأول: العلم المنافي للجهل. الثاني: اليقين المنافي للشك. الثالث: القبول المنافي للرد. الرابع: الانقياد المنافي للترك. الخامس: الإخلاص المنافي للشرك. السادس: الصدق المنافي للكذب. السابع: المحبة المنافية لضدها. ويرى الشيخ محمد رحمه الله أن الإسلام له نواقض عشرة ذكرها بقوله: اعلم أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة: الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1 ومنه الذبح لغير الله كمن ذبح للجن أو القباب. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة كفر إجماعا. الثالث: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر إجماعا. الربع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه فهو كافر. الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفر إجماعا والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 2 السادس: من استهزأ بشيء من دين الله أو ثوابه أو عقابه كفر والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 3

_ 1 سورة النساء الآية رقم 48, 116. 2 سورة محمد الآية رقم 9. 3 سورة التوبة، الآيتان رقم 65 , 66.

السابع: السحر – ومنه الصرف والعطف فمن فعله أو رضى به كفر والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 1 الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 2 التاسع: من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباعه صلى الله عليه وسلم وأنه يسعه الخروج من شريعته كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام فهو كافر. العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} 3 ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره وكلها من أعظم ما يكون خطرا ومن أكثر ما يكون وقوعا فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه وصلى الله على محمد 4 وهذا هو الفهم الدقيق والواسع لمعنى لا إله إلا الله بأركانها وشروطها ومقتضياتها ونواقضها ومحاولة تحقيق التوحيد وتنقيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي وشرح هذه الأمور للعامة والخاصة ودعوة الناس إلى الالتزام الكامل بها ومطالبة معاصريه بترك بعض المظاهر السائدة في المنطقة التي يمارسها العامة دون نكير من أحد مما يدخل في باب الشرك بالله شركا أكبر أو أصغر أو خفيا كدعوة الناس للأحياء أو الأموات والبناء على القبور والطواف حولها وطلب النفع والضر من أربابها أو الذبح لها أو العكوف عليها وطلب المدد والعون من أصحابها أو اتخاذ وسائط بين الله وبين عباده الاعتماد أو التوكل على غير الله أو الحلف بغيره سبحانه أو طلب

_ 1 سورة البقرة الآية رقم 102. 2 سورة المائدة الآية رقم 51. 3 سورة السجدة الآية رقم 22. 4 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة 32ص 212-214.

الرياء والسمعة بأعمال الخير وفعل الطاعات وكذلك التبرك بالأشجار والأحجار والجمادات وغيرها أو لبس الحلقة والخيط ونحوها لرفع البلاء أو دفعه بل وعدم مشابهة المشركين في أي فعل من أفعالهم وسد الذرائع الموصلة إليه مثل الذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله أو عبادة الله عند قبر رجل صالح إلى غير ذلك من الشرك وذرائعه التي كانت موجودة في عصره أو ما يدخل في باب البدع والخروج على صدق المتابعة لرسول الله صلى الله فيما جاء به من الدين مثل بدعة الاحتفالات بمولد النبي صلى الله عليه وسلم والذكر في ليلة الجمعة والطرق الصوفية وغيرها من البدع التي كانت موجودة في عهده وما يدخل في باب المعاصي كقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر والزنى والغيبة والنميمة وظلم الناس والاعتداء عليهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم أو ما يدخل في باب ترك الواجبات مثل ترك الصلاة أو عدم أداء الزكاة أو عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو إنكار معلوم من الدين بالضرورة أو ما يدخل في باب نواقض الإسلام العشرة التي مر ذكرها آنفا. 1- التحذير من الشرك: وسد الذرائع الموصلة إليه: الشرك هو دعوة الله ودعوة غيره أو هو إشراك المخلوق مع الخالق فيما هو من خصائص الألوهية أو جاءت النصوص الشرعية بتسميته بالشرك ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر وهو أعظم ذنب عصي الله على وجه الأرض وهو من الذنوب التي لا يغفرها الله كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وهو من محبطات العمل كما قال تعالى عن المشركين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} فلا ينفع مع الشرك صلاة ولا صوم ولا حج ولا عبادة ولا التقرب بأي نوع من أنواع القربات. والشيخ محمد بن عبد الوهاب يقسم الشرك إلى ثلاثة أقسام هي: 1_ الشرك الأكبر: وهو إشراك المخلوق مع الخالق في أي نوع من أنواع العبادة أو جعل أحد من الخلق ندا لله أو شريكا له يتوجه إليه بالقصد والطلب فيما لا يجوز إلا لله. وهو شرك يخرج عن الملة لا يصح معه طاعة.

2- شرك أصغر وهو كل فعل أو عمل وصفته النصوص الشرعية بالشرك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال: الرياء يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء, وهذا النوع من أنواع الشرك لا يغفر الله لصاحبه إلا بالتوبة لعموم الأدلة الشرعية وأنه يحبط العمل الذي قارنه ولا يوجب التخليد في النار ولا ينقل من الملة. 3- الشرك الخفي: وهو حالة تقوم بالنفس أو عثرة باللسان وغيرها ويسمى بشرك السرائر وهو كيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله ومثل قول ما شاء الله وشئت أو مالي إلا الله وأنت وأمثالها مما يدل على المشاركة من الألفاظ أو النوايا المضمرة. فعن أبي سعيد رضى الله عنه مرفوعا: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال قالوا بلى يا رسول الله قال الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل". رواه احمد. ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قائمة على تحقيق التوحيد والبراءة من الشرك بجميع أقسامه وصوره وحالاته بل وتسعى إلى سد كل الذرائع الموصلة إلى الشرك. وهي دعوة تعطي الوسائل حكم الغايات فكل وسيلة تفضي إلى محرم أو محذور فإن الوسيلة تعطي حكم الغاية, ولهذا فإن الشيخ رحمه الله ذكر في كتابه التوحيد الذي هو حق الله على العبيد أبوابا في وجوب سد الذرائع الموصلة إلى الشرك مثل قوله"باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله "1 وقوله "باب ما جاء في أن سبب كفر بنى آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين "2 وقوله "باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده "3 ومثل قوله " باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك"4وهذا باب

_ 1 ,حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 103, 146, 153، 169. 2 حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 103, 146, 153، 169. 3 حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 103, 146, 153، 169. 4 حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 103, 146, 153، 169.

عظيم واسع وقد رتب الشيخ محمد رحمه الله كثيرا من الأحكام والتطبيقات في واقع الحياة مما جعله يختلف في بعضه مع علماء عصره كذلك. 1- وجوب المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به: ومن أصول دعوة الشيخ محمد بن عبد الله الوهاب رحمه الله دعوة الناس إلى الناس وجوب المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به ونهى عنه وفيما جاء به من فرائض الدين وعدم إهمال شيء منها أو إنكارها أو جحدها أو التهاون فيها ووجوب الوقوف عند ما جاء به من غير زيادة عليه ولا نقص منه والابتداع في الدين بما لم يأذن به الله سبحانه وأن الأصل في العبادات التوقف والاتباع ولا يجوز لأحد أن يستحسن ويفعل شيئا لم يرد بها الشرع وفي تقرير هذا الأصل يقول الشيخ رحمه الله في الرسالة التي بعث بها إلى أهل الرياض ومنفوحة مستنكرا عليهم الاختلاف في وجوب المتابعة فيقول: "وأنتم الآن إذا جاءكم من يخبركم بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أنكم فريقان تختصمون أفلا تخافون أن يصيبكم من العذاب ما أصابهم"1 وفي الرسالة التي بعث بها إلى عبد الله الصنعاني في اليمن جوابا على خطاب وصل منه يسأله عما هو عليه , قال فيه رحمه الله: "وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته متابعته في الاعتقادات والأقوال والأفعال قال الله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ 000الآية} 2 وقال صلى الله عليه وسلم "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما وافق منها قبل وما خالف رد على فاعله كائنا من كان فإن شهادة أن محمدا رسول الله تتضمن تصديقه فيما اخبر به وطاعته ومتابعته في كل ما أمر به 3 وقد شرح هذا الأصل وأبدأ فيه وأعاد في مؤلفاته ودلل على صحته وبنى عليه أحكاما على المبتدعين مثل أهل المولد الذين يقيمون احتفالات سنوية بمولد

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة 28,ص 189. 2 سورة آل عمران، الآية رقم 31. 3 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 16ص106.

النبي صلى الله عليه وسلم ويكون فيها بعض المنكرات فإن هذه الاحتفالات لم تكن موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد خلفائه من بعده ولا في القرون المفضلة وإنما هي من البدع التي أحدثت في الدين على يد الأعاجم ظنا منهم أنها بدعة حسنة وقد قام الشيخ محمد رحمه الله بحملة شديدة على أهلها وشدد النكير فيها في الرسالة التي بعث بها إلى سليمان بن سحيم في الرياض قال قيها: "انك تقول إني أعرف التوحيد وتقر أن من جعل الصالحين وسائط فهو كافر والناس يشهدون عليك أنك تروح للمولد وتقرؤه لهم وتحضرهم وهم ينخون ويندبون مشايخهم ويطلبون منهم الغوث والمدد وتأكل اللقم من الطعام المعد لذلك فإذا كنت تعرف أن هذا كفر فكيف تروح لهم وتعاونهم عليه وتحضر كفرهم" 1 ويقول الشيخ عبد الله بن عيسى وهو من أجل علماء العارض وهو من أتباع الشيخ رحمه الله: "وأما الاتحادي بن عربي صاحب الفصوص المخالف للنصوص وابن الفارض الذي لدين الله محارب وبالباطل للحق معارض فمن تمذهب بمذهبهما فقد اتخذ مع غير الرسول سبيلا وانتحل طريق المغضوب عليهم والضالين المخالفين لشريعة سيد المرسلين فإن ابن عربي وابن الفارض ينتحلان نحلا تكفرهما قد كفرهم كثير من العلماء العاملين فهؤلاء يقولون كلاما أخشى المقت من الله في ذكره فضلا عمن انتحله فإن لم يتب إلى الله من انتحل مذهبهما وجب هجره وعزله عن الولاية إذا كان ذا ولاية من إمامة أو غيرها فإن صلاته غير صحيحة لا لنفسه ولا لغيره "2 وقد كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤيدا للشيخ عبد الله بن عيسى "وكذلك أيضا من أعظم الناس ضلالا متصوفة في معكال وغيره مثل ولد موسى بن جوعان وسلامة بن مانع وغيرهما يتبعون مذهب ابن عربي وابن فارض وقد ذكر أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية وهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى فكل من لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ويتبرأ من دين الاتحادية فهو كافر بريء منه الإسلام ولا تصح الصلاة خلفه ولا تقبل شهادته"3

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 34ص 227. 2 المرجع السابق الرسالة رقم 28ص 193. 3 المرجع السابق الرسالة رقم 28 ص 189.

ويدخل في باب الخروج على المتابعة للرسول صلى الله عليه سلم إقامة الأذكار في ليلة الجمعة خاصة من كل أسبوع على هيئة مخصوصة وذكر مخصوص وفي وقت مخصوص والتقرب إلى الله بذلك مع أن ذلك لم يعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عهد خلفائه الراشدين ولا في الدولتين الأموية والعباسية ولا في القرون المفضلة وإنما هي بدعة جدت على حياة المسلمين في عصور الانحطاط والتخلف في ظل حكم الأعاجم. وفي رد هذه البدعة يقول الشيخ محمد رحمه الله:"وأما مسألة التذكير فكلامك فيها من أعجب العجائب أنت تقول بدعة حسنة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" ولم يستثن شيئاً تشير علينا به فنصدقك أنت وأبوك لأنكما علماء ونكذب رسول الله" ونقل عن السيوطي في كتاب "الأوائل" أن أول ما حدث التذكير يوم الجمعة لتهيؤ الناس لصلاتها بعد سبعمائة في زمن الناصر بن قلاوون ثم قال "فأرنا كلام واحد من العلماء رخص فيه وجعله بدعة حسنة فليس عندك إلا الجهل المركب والبهتان والكذب ". 5- وجوب الحكم بما أنز الله والرضاء به: يعتبر الشيخ محمد رحمه الله أن الحكم من أخص خصائص الألوهية وأنه لا يجوز العدول عن حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى حكم الطواغيت وأعراف الجاهلية ولهذا فقد أكد على وجوب التحاكم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ورد الحكم إليهما عند التنازع وشدد النكير على من خرج عن ذلك إلى حكم الطواغيت المعاصرين له وأعراف الجاهلية ومواضعات البشر التي كان معمولا بها عند قيام دعوته وفي ذلك يقول الشيخ رحمه الله: "من أنكر البعث أو شك فيه أو سب الشرع أو سب الأذان إذا سمعه أو فضل فراضة الطاغوت على حكم الله" حتى قال: "إنه كافر مرتد"1 واعتبر أن من حكم بغير ما أنزل الله فإنه واحد من رؤوس الشياطين الخمسة.

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 34ص 234، ص 235, ص 236.

ورتب على هذا الأصل أحكاما يكفر من عرف هذا الحكم بدليله وقامت الحجة عليه بالبيان والدعوة ثم أصر على التحاكم إلى غير ما أنزل الله وفضل حكم البشر على حكم خالقهم واعتدى على الألوهية في أخص خصائصها وجعل له إلها في الحكم غير الله وحكم على من أنكر هذا الأصل أو دافع عن مرتكبيه بالباطل أو شايعهم وظاهرهم على المسلمين أنه كافر. 6- وجوب الكفر بالطاغوت: ومن أصل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجوب الإيمان بالله والكفر بالطاغوت وعرف الطاغوت بأنه ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع وقال إن مصدر الضلالات التي وقعت في زمانه وتقع في الأزمنة المختلفة إنما ترجع إلى الطواغيت وذكر أن الطواغيت كثيرة ولكن رؤوسهم خمسة هم: 1- إبليس لعنه الله 2- من عبد وهو راض. 3- من دعا الناس إلى عبادة نفسه. 4- من ادعى شيئا من علم الغيب. 5- من حكم بغير ما أنزل الله. وقد سمى هؤلاء الخمسة بالطواغيت لتجاوزهم حدودهم كمخلوقين إلى السطو على خاصية من خصائص الألوهية أو أكثر وتجاوزهم مقام المخلوق إلى مقام الخالق سبحانه. وقبول الناس في أي عصر لهذا التجاوزات من المخلوقين يعد انحرافا منهم عن الحق وإيغالا في الضلال وسببا من أسباب الهلاك والخضوع لأهواء البشر ونزوات الإنسان وهو انتكاس في الفطرة وعدول عن الحق إلى الباطل. والإسلام إنما جاء لتحرير الإنسان من رق أخيه الإنسان له وتسلطه عليه. ولا تستقيم الحياة على الجادة إلا بالإيمان بالله وحده والكفر بكل الطواغيت مصادر الضلال والانحراف. والشيخ

رحمه الله تعالى لم يكن بهذا يضع فروضا الأمور لم تقع ولكنه يعالج انحرافات كانت قائمة في وقت دعوته ويرى أن هذه الطواغيت هي السبب في انحراف الناس في عهده. ولهذا أكد على وجوب الكفر بالطاغوت‘ووصف مصادر الانحراف بهذا الوصف الشنيع لتنفير الناس منها وتأمل مواقفها. وعلى هذا الأصل من أصول الدعوة فرع الشيخ فروعا وأصدر فتاوى بحق بعض معاصريه ممن ينصبون أنفسهم طواغيت في أي نوع من أنواع العبادة أو الاتباع في الباطل أو الطاعة في المعاصي ولهذا قال رحمه الله: "ومسألة سادسه: وهي: افتائي بكفر شمسان وأولاده ومن شابههم وسميتهم طواغيت وذلك أنهم يدعون الناس إلى عبادتهم من دون الله عبادة أعظم من عبادة اللات والعزى بأضعاف وليس في كلامي مجازفة بل هو الحق"1. 7- الدعوة إلى تعظيم الكتاب والسنة: ومن أصول هذه الحركة الدعوة إلى أخذ الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية كتابا وسنة, وتقديمهما على أقوال الرجال وأن يرد الحكم إليهما عند التنازع‘ ذلك أن هذه الدعوة المباركة قامت في فترة زمنية فشا فيها الجهل بالنصوص الشرعية وجمد فيها الفقهاء على مختصرات في الفقه خالية في الغالب من الدليل أو التعليل وبالغ الناس في تعظيم هذه المختصرات وتقليد مؤلفيها من المتأخرين في كل مذهب حتى صار لا يؤخذ الحكم الشرعي إلا منها، ولا يقبل إلا ما وافقها. وماعداه فيرفض ويرد على صاحبه. ويقول علماء عصره إننا غير مؤهلين للأخذ المباشر للأحكام الشرعية من الكتاب والسنة, وأئمتنا أعلم منا بذلك, وقد اختاروا لنا هذه الكتب المؤلفة في المذهب فلا نتعداها إلى غيرها ولو كان الدليل الشرعي

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 11ص 75.

فكان من أصول هذه الدعوة الإصلاحية تعظيم الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة, ورفع مقامهما في نفوس الناس, وجعل الرد إليهما عند التنازع أمر مقررا, مع الاحتفاظ بمقام فقهاء الإسلام في كل مذهب وتقدير جهودهم واحترام أعمالهم إلا أنهم بشر يصيبون ويخطئون ولكل واحد منهم أعذاره الكثيرة في القول أحيانا على خلاف مقتضي الدليل, وهم مأجورون على اجتهادهم في حالة خطئهم أجرا واحدا, وأجرين إذا وافقوا الحق وأخذوا بالدليل. ومع أن الشيخ محمد بن العبد الوهاب لا يدعي الاجتهاد ويقرر في كثير من رسائله بأنه في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حبل رحمه الله إلا أنه يؤكد أنه مع الدليل الشرعي إذا ظهر له ولو خالف المذهب, وأنه يدعو الناس إلى الاجتهاد في الفقه واستكمال أدواته, وأنه يرى أن الزمان لا يخلو من مجتهد قائم لله بحجته على الخلق كما هو معروف عند الحنابلة رحمه الله, ويرى أن على طالب العلم أن يطلع على كلام العلماء وأدلة كل فيما ذهب إليه وأن يحتاط لنفسه, ولا يعدل عن الدليل الشرعي لأي مذهب, ويأخذ بالمذهب متى كان الدليل معه أولم يظهر مخالفته للدليل. ولهذا فإن هذه الدعوة قد أعادت للنصوص في نفوس أتباعها مكانتها واحترامها وتقديمها وجعلها الحاكمة على كل الأقوال المعصومة وحدها من الخطأ وأن الناس مهما علت منازلهم فإنهم بشر عرضة للخطأ والجهل والزلل. 8- إقامة دولة إسلامية: ومن أصول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إيجاد دولة إسلامية, تقوم بوظيفتها في الحياة في نشر العلوم الشرعية وإعداد الدعاة والقضاة وإقامة الحدود وحراسة الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورفع راية الجهاد في سبيل الله وتحقيق الأمن وإقامة العدل وتأمين السبيل وإلزام الناس بالحق في أمور الذين والدنيا ورعاية, مصالح الأمة, والمحافظة على الضروريات الخمس التي عرف من الشرع

القصد إليها وهي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ المال وحفظ العقل والعرض. ولهذا فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب منذ فجر قيام دعوته كان يعرض نفسه على الأمراء في نجد, ويبشر من يقوم بهذا الواجب الديني بالعز والتمكين والنصر على الأعداء متى أخذها بصبر واحتساب وعمل وجاهد وانطلق في دعوته من سلطة سياسية تحمي بيضة الدعوة وتجمع أنصارها وتدافع عدوها. ولما فشل رحمه الله مع أمير العيينة عثمان بن معمر كرر المحاولة مع غيره من أمراء عصره. فساق الله الخير إلى الأمير محمد بن سعود أمير الدرعية بمقدم الشيخ محمد إليه ونزوله عنده وقبوله دعوته والاتفاق معا على القيام بهذا الواجب طاعة لله ونصرة لدينه. فكان هذا التوجيه الصحيح من إمام هذه الدعوة ثمرة فقه في الدعوة وتوفيق في الإصلاح أعز الله به هذه الدعوة ورفع به شأن إمارة الدرعية، ودخلت به الأسرة السعودية وجودها الحضاري من أوسع أبوابه، وحقق الله للمخلصين من أبنائها العز والتمكين في الدنيا والأجر العظيم والمثوبة الحسنة إن شاء الله في الآخرة. وتحقق لحركة الإصلاح بهذه الدولة المسلمة كثير مما تهدف إليه وقامت بوظائفها خير قيام، وحقق الله بها في هذه المنطقة أفضل الثمار وتفيأ الناس في ظلها الأمن والسلام والرخاء ورفعت فيها راية الجهاد في سبيل الله وتحقق فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتأمين الخائف وأمن السبيل وتحقيق العدل وإظهار سلطان الدين في كل جانب من جوانب الحياة، وحصنوا هذه المنطقة من النفوذ الاستعماري وظل أهلها سادة الموقف في بلادهم. هذه هي الأصول العامة للدعوة أو المجالات التي قامت الدعوة الإصلاحية في نجد لتحقيقها ورد الناس فيها إلى جادة الحق ومنهج الصواب طاعة لله وابتغاء لمرضاته وهداية للناس إلى صراط الله المستقيم.

ولا يمكن أن تتم في الحياة بمجرد الأماني أو بلا جهد بشري ونزول لميدان العمل والجهاد المتواصل. بل أن تحقيق ذلك يتطلب تحديد الغاية واتخاذ الوسائل وإعداد العدة لمواجهة كل موقف من الموقف بما يناسبه من العدة وفهم طبيعة الدعوة ووظيفة الداعية وحدود مسئوليته وشروط الدعوة الناجحة وصفات من يتصدى لهذه المهمة الخطيرة، وكلها أمور مهمة. والشيخ محمد بن عبد الوهاب بما وهبه الله من صفات شخصية وبما أعطاه الله من فقه في الدعوة وعلم بالشريعة وخبرة في الحياة، وبما وفقه الله إليه من منهج سديد في الإصلاح مهتديا فيه بالنصوص الشريعة الغراء والسيرة النبوية الشريفة، وضع إطارا عاما ونظرة شاملة لهذه المهمة الإصلاحية يمكن بواسطتها نقل الحياة العامة مما انحدرت فيه من انحراف في المجالات وغيرها. ويمكن إجمال هذه الأسس العامة والإطار النظري الشامل في النقاط التالية: 1-إن االدعوة إلى الله ينبغي أن تكون على بصيرة , والبصيرة هي العلم الشرعي المبني على الدليل الثابت والفهم الصحيح لمراد الله في نصوص شرعه. وأعلى درجات الفهم لهذه النصوص ومقاصد الشريعة هو فهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضهم ثم التابعين لهم بإحسان من التابعين وأتباعهم في القرون المفضلة وأئمة الهدى من بعدهم المشهود لهم بالعلم والفضل والاستقامة. ومن أجل التطبيق هذا المبتدأ الأول طلب العلم على شيوخه وقام برحلات متعددة للأخذ من كل علم على شيوخه الموثوقين في نجد والحرمين الشريفين والعراق والأحساء وغيرهما. وحين بدأ دعوته ألف في موضوع دعوته كراسا صغيرا في موضوع هذه الدعوة وأصولها للعامة مما لا يسع الناس جهله وهو المعروف" بثلاثة الأصول"و" القواعد الأربعة"وكتب كتابا تخصيصا أيضا في صميم الدعوة

للخاصة من طلاب العلم في مدرسته هو كتاب التو حيد الذي هو "حق الله على العبد. 2-أن الداعية لا بدأن يعمل بعلمه ويمثل دعوته في سيرته وحياته مم رسالته, فلا يأتي من الأعمال أو التصرفات الظاهرة أو الباطنة ما يخالف ما علمه واستيقن صوابه. وترى هذه المدرسة الإصلاحية أن العمل هو الثمرة الصحيحة للعلم، وأن العلم الذي لا يقود إلى العمل ولا يوظف في الحياة هو علم غير نافع، وفي صاحبه شبه من إبليس لعنه الله، وفيه شبه أيضا من اليهود الذي سماهم الله بالمغضوب عليهم لأن لديهم علما ولم يعملوا به ووصفهم الله في حملهم للعلم وعدم الانتفاع به كمثل الحمار يحمل أسفارا ثم قال سبحانه {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} . من أجل تحقيق مبدأ البصيرة في الدعوة الممثلة في العلم والعمل بدأ الشيخ محمد رحمه الله كتابه الأساسي الذي خصصه لبيان تحقيق التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك والبدع والمعاصي بدأ هذا الكتاب بأبواب "التوحيد" وبيان فضله وبيان تكفيره لذنوب , وأن تحقيق التوحيد من أسباب دخول الجنة بغير حساب وبيان الخوف من الشرك بأنواعه وعظيم خطره وإحباطه للعمل ودقة بعض أنواعه وخطره وخفاء كثير من صوره وأنها أخفى من دبيب النملة السوداء على صخرة الصماء في ليلة الظلماء ومقصوده رحمه الله تعليم تفاصيل هذا النوع من التوحيد وما يضاده وهو ما كان يقصده في رسائله وكتاباته بالنفي والإثبات في معنى لا إله إلا الله حتى يكون الإنسان على بصيرة في علمه وأن يكون عمله تطبيقا وواقعا لعمله ثم أردف ذلك بالحديث عن الدعوة إلى الله في باب أسماه باب "الدعاء إلى الشهادة أن لا إله إلا الله". قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله: "نبه بهذه الترجمة على أن لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه فإ الرجل إذا علم وجب عليه العمل فإذا علم وعمل وجبت عليه الدعوة إلى الله حتى يكون من ورثة الأنبياء وعلى

طريقهم وطريق أتباعهم1. 3-أن الدعوة هي وظيفة من أهم وظائف الإنسان في الحياة وهي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم من المصلحين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 2 وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 3الآية. وإن من لوازمها العلم والعمل بمقتضاه وإعطاء القدوة الحسنة والسيرة الحميدة وأخذ الناس بالرفق واللين وقد ذكر الشيخ رحمه الله في مجال الحث على الدعوة إلى الله وبيان فضلها إلى جانب الآيات الدالة على أنها منهاج الرسل ووظيفة الأخيار في كل أمة بل كل جيل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح خيبر وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبن طالب "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " وذلك للترغيب في القيام بواجب الدعوة وبيان فضلها عند الله وعظيم أجرها فإذا كانت هداية رجل واحد هذا فضلها فكيف بمن يهدي الله على يده الخلق الكثير كما حصل على أيدي المصلحين في مختلف العصور والباب مفتوح للدعاة إلى الله في كل عصر وجيل ما دام إبليس وجنده لا يفترون في إغواء الناس وصدهم عن سبيل الله ويجلبون عليهم بخيلهم ورجلهم. 4- التدرج في الدعوة إلى الله من الأهم إلى المهم وأصول الذين أهم من فرعرعه والفروع بعضها أهم من بعض, وما تعم به البلوى أهم مما يندر وقوعه الظاهر أهم من الخفي. واستدل الشيخ رحمه الله على هذا المبدأ بحديث ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وفي رواية إلى أن يوحدوا الله, فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة, فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن

_ 1 نظر حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص54 2 سورة فاطر الآية رقم 24. 3سورة يوسف الآية 108.

الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنياهم فترد على فقرائهم فإن أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب. فاستدل بهذا الحديث الشريف على التدرج في الدعوة والبدء بالأهم ثم المهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يبدأ بالدعوة إلى توحيد العبادة الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، ومستلزم لأنواع التوحيد الأخرى، وبعد قبول التوحيد والدخول به في الإسلام يدعوا إلى الشرائع الإسلام ويبدأ هذه الشرائع بأهمها وهي الصلاة وهكذا. 5- إن الدعوة على ثلاثة مراتب حسب حال المدعوين فإن المدعو إما أن يكون طالبا للحق محبا له مؤثرا له على غيره إذا عرفه فهذا تستعمل معه الدعوة بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة ولا إلى الجدال. وإما أن يكون: مشتغلا بضد الحق ولكن لو عرفه آثره واتبعه فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب. وإما أن يكون: معاندا معارضا فيجادل بالتي هي أحسن فإن رجع وإلا انتقل معه إلى المواجهة. 1- شروط الدعوة: ترى مدرسة الإصلاح والتجديد عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن للدعوة شروطا ينبغي أن تتوافر في الداعي إلى الله وهي: أ- أن تكون الدعوة خالصة لوجه الله مبتغي بها مرضاته وحده دون أي غرض آخر. فإذا لم تكن خالصة لوجه الله كان صاحبها مشتركا به في الدعوة. ولهذا قال الشيخ رحمه الله: إن كثيرا من الناس لو دعي إلى الله فهو يدعو إلى نفسه لبيان خطر فقد عنصر الإخلاص في الدعوة ووجوب الحذر من ذلك حتى لا يحبط العمل بمثل الدعوة لطلب الوجاهة أو ليقال عالم أو لطلب رئاسة أو غيرها. ب- أن تتحقق في الدعوة المتابعة الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وما ثبت عنه

من أقواله وأفعاله وإقراره وأن الأعمال الظاهرة توزن بميزان الشرع وتحقيق المتابعة لرسول الله صلى عليه وسلم وإلا كان العمل باطلا ويعد صاحبه من أهل الابتداع في الدين وذلك لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ولقوله صلى الله عليه وسلم "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" أي مردود على صاحبه. ج- أن يكون الداعي إلى الله عالما بما يدعو إليه عارفا بما ينهي عنه مدركا لنتائج عمله متوخيا لمقاصد الشرع في أمره ونهيه ودعوته لقوله تعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فإن لم يكن عالما بما يدعو إليه عد جاهلا والبصيرة في الدين من فرائض الإسلام ومن أخص الصفات المطلوبة في الداعي إلى الله. 7- وظيفة الداعي إلى الله وحدود مهمته: ويرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ومدرسته الإصلاحية أن وظيفة الداعي إلى الله هي البلاغ وإقامة الحج ونشر الدعوة بالقول والفعل والعمل بصدق وإخلاص وإزالة العوائق عن طريق الدعوة حتى تبلغ العامة والكافة وتأمين الدعاة إلى الله وأما قبول الدعوة أو رفضها فهو أمر ليس إليه بل هو من خصائص الألوهية. ويقسمون الهداية إلى قسمين: 1-هداية إرشاد ودلالة وبيان وهي مهمة الداعي إلي الله والدليل على ذلك قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} وتتمثل في عرض الحق بدليله ودعوة الناس إليه وإقامة الحجة والبرهان على صدقه ووجوب الأخذ به وبيان مغبة رفضه في الدنيا والآخرة. ومن قصر في القيام بهذا الواجب تعرض لعقاب الله ومقته. 2- هداية توفيق وإلهام وقبول: وهذه لا يملك الداعي إلى الله من أمرها شيئا ولا يضره من لم يوافق عليها من المدعوين لأن هذا من خصائص الألوهية التي لا يملكها إلى الله وحده، فهو الذي يهدي من يشاء بحكمته ويضل من يشاء بعدله، والدليل على هذا النوع من أنواع الهداية وأنها خاصة بالله وحده قوله

تعالى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقوله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . وقد عقد الشيخ محمد في كتابه الموسوم: بكتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد بابا خاصا بهذين القسمين لبيان الفرق بين الهدايتين أسماه: باب قول الله تعالى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وسبب نز ول هذه الآية الكريمة أنه صلى الله عليه وسلم حينما حاول مع عمه أبي طالب عند موته أن يقول لا إله إلا الله فقال صلى الله عليه وسلم يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله وكان عنده عبد الله بن أمية وأبو جهل فقالا له أترغب عن ملة عبد المطلب فأعاد صلى الله عليه وسلم قوله لعمه فأعادا حتى قال أبو طالب هو على ملة عبد المطلب. فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لقربه منه ودفاعه عنه وعن دعوته وهو على دين قومه فأنزل الله هذه الآية الكريمة التي بين الله فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم أن هداية التوفيق إلى الإسلام والإيمان ليست من وظيفته، وأن وظيفته تنحصر في هداية الإرشاد والبلاغ والدلالة فقط. 8- الأصل في الحكم على الناس: والدعوة الإصلاحية في نجد ترى أن الحكم على الناس بالكفر أو الإسلام وبالفسوق والعدالة أو غيرها إنما يكون على الظاهر من أعمالهم أما سرائر الناس وضمائرهم فإنها موكولة إلى الله وحده لا يعرفها سواه وأن الأحكام لا تطلق إلا بعد الدعوة والبلاغ والبيان ومعرفة الحكم الشرعي في كل عمل من الأعمال التي يحكم عليها. 9- المخاطب بالدعوة: اهتمت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب منذ فجر تاريخها بمخاطبة علماء عصره الأدنى فالأدنى كما اهتمت بمخاطبة الأفراد ووجهاء الناس وقياداتهم ولم تهمل العامة. ولهذا فإن الرسائل التي كتبها الشيخ محمد بن عبد الوهاب خاطب بها العلماء والمطاوعة بشكل رئيسي كما خاطب بها الأمراء والعامة بشكل أقل.

وهو يرى أن فئتين من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس هما العلماء، والأمراء ولهذا ركز عليهم في توجيه الخطاب والرسائل والبعوث. 10- غاية الدعوة: غاية هذه الحركة الإصلاحية في العصر الحديث نشر العلم ومحاربة الجهل، وتصحيح العقيدة وإحياء الشرعة، وتحقيق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحاربة الشرك والابتداع في الدين، وإقامة دولة إسلامية عادلة تقوم بوظيفتها في الحياة في نشر الأمن وإقامة العدل وحفظ الضروريات الخمس التي عرف من الشرع القصد إليها، ورفع راية الجهاد في سبيل الله وأحياء مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحراسة الدين والحكم بما أنزل الله، والنهوض بهذه الأمة من كبوتها والعودة بها إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مجتمع المدينة في مختلف جوانب الحياة على هدى من كتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح رضى الله عنهم أجمعين.

ثالثا: أسلوبه في الدعوة

ثالثا: أسلوبه في الدعوة: إن شخصا مثل الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على سعة علمه وكثرة إطلاعه وأخذه العلم على شيوخ كبار وترحاله بين مراكز العلم في الحرمين الشريفين والعراق والاحساء ونجد وغيرها وإعداد نفسه لأمر عظيم مع شدة المعارضين له من العامة والعلماء والقادة محتاج أن يكون على مستوى رفيع في الكتابة وحسن الصياغة وفي اللين واللطافة ومراعاة مقتضى الحال وتوخي نجاح الدعوة في كتابته أسلوبا ولفظا ومعنى. وقد كان له من حصافة رأيه وبعد نظره معين على معرفة الوسط العلمي القائم في نجد إبان قيام الدعوة وهو وسط تغلبت عليه البساطة والقرب إلى الفطرة وكثرة الجهل وقلة العلم وانخفاض المستوى العلمي بوجه عام وإن كان الجميع يعظمون الدليل من الكتاب والسنة وأقوال السلف رحمهم الله، ولهذا كله فإن كتابة الشيخ رحمه الله المتمثلة في كتبه ورسائله ومؤلفاته تمتاز بما يلي: 1- من حيث الصياغة واللفظ والمحتوى بسيطة في كثير منها، معتمدة على

الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال السلف مع تعليقات لطيفة واستنباطات دقيقة تحقق الغرض الذي ألفت من أجله، ويشترك في فهمها الخاصة والعامة على السواء وهي في جملتها تتناول شرح العقيدة السلفية وتبسيطها للناس وإقامة الدليل على كل مسألة من مسائلها وبيان الشرك وعظيم خطره وإحباطه للأعمال. كما تناول بيان فرائض الإسلام وشرائع الدين بالتعريف وتحديد الأركان والواجبات والشروط والسنن وغيرها على وجه تفصيلي ومختصر مع ذكر الدليل أو التعليل من الكتاب أو السنة وأقوال السلف وإيضاح ما ينبغي للمسلم أن يعلمه ويقوله أو ما يكف عنه ولا يفعله. وهو حين يكتب لعلماء نجد وأمرائهم ومطاوعتهم يكتب بلغة بسيطة وربما استعمل الألفاظ الدارجة والعبارات العامية المؤثرة التي يشترك في فهمها العامة والعلماء على السواء. أما حين يكتب إلى علماء الحرمين الشريفين أو علماء العراق والشام واليمن فإنه يكتب بمستوى رفيع وعبارات جزلة وألفاظ عربية وأسلوب مؤثر، يدل على قدرته الفائقة في الكتابة وتمكنه من اللغة العربية وأنه يراعي في كتاباته في الداخل والخارج مقتضى الحال. ورسالته إلى السويدي في العراق والعديلي في اليمن أمثلة قائمة على ذلك. 2- أما من حيث الشدة واللين فإن المتتبع لرسائل الإمام الشخصية يدرك بجلاء أن الأمام في أول دعوته ولمن يظن به الخير أو يضمر له المحبة أو يطمع في قبوله لدعوته يكتب له بأسلوب رقيق وعبارات لينة، وبموضوعية فيما يعرضه من حق وما يطلب منه قبوله وعمله ورسالته إلى مطوع أهل رغبة أحمد بن أحمد تكشف عن التبسط في الكتابة واستعمال العامية واللين في القول والموضوعية في العرض كما يتضح ذلك من نصها التالي:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن يحيى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد ما ذكرت من طرف مراسلة سليمان فلا ينبغي أنها تزعلك: الأولى: أنه لو خالف فمثلك يحلم ولا يأتي بغايته هذا ولا أكثر منه 000 ثانيا: أنك إذا عرفت أن كلامه ما له فيه قصد إلا الجهدة في الدين ولو صار مخطئا فالأعمال بالنيات والذي هذا مقصده يغتفر له ولو جهل عليك، ونحن ملزمون عليك لزمة جيدة، وربك ونبيك ودينك لزمتهم لزمة تتلاشى فيها كل لزمة هذه الفتنة الواقعة ليست في مسائل الفروع التي ما زال أهل العلم يختلفون فيها من غير نكير، ولكن هذه في شهادة أن لا إله إلا الله والكفر بالطاغوت، ولا يخفاك أن الذي عادانا في هذا الأمر هم الخاصة الذين ليسوا بالعامة، هذا ابن إسماعيل والموايس وابن عبيد جاءتنا خطوطهم في إنكار دين الإسلام الذي حكى في "الإقناع" في باب حكم المرتد لإجماع من كل المذاهب أن من لم يدن به فهو كافر. وكاتبناهم ونقلنا لهم العبارات وخاطبناهم بالتي هي أحسن ما زادهم ذلك إلا نفورا , وزعموا أن أهل العارض ارتدوا لما عرفوا شيئا من التوحيد وأنت تفهم أن هذا لا يسعك التكفي عنه فالواجب عليك نصر أخيك ظالما ومظلوما، وأن تفضل الله عليك بفهم ومعرفة فلا تعذر لا عند الله ولا خلقه من الدخول في هذا الأمر، فإن كان الصواب معنا فالواجب عليك الدعوة إلى الله وعداوة من صرح بسب دين الله ورسوله، وإن كان الصواب معهم أو معنا شيء من الحق وشيء من الباطل أو معنا غلو في بعض الأمور فالواجب منك مذاكرتنا ونصيحتنا وتورينا عبارات أهل العلم لعل الله أن يردنا بك إلى الحق، وإن كان إذا حررت المسألة إذ أنها من مسائل الاختلاف, وإن فيها خلافا عند الحنفية أو الشافعية أو المالكية فتلك مسألة أخرى. وبالجملة فالأمر عظيم ولا نعذرك من تأمل كلامنا وكلام ثم تعرضه على كلام أهل العلم ثم تبين في الدعوة إلى الحق وعداوة من حاد الله ورسوله منا أو من

غيرنا والسلام.1 أما حين يكتب لمن سبق أن شرح له دعوته وعرفه بالحق ثم رفضه وعاند بعد معرفة الحقيقة ويأسه من هدايته فإن رسائله تأتي غاضبة شديدة اللهجة غليظة العبارة يرميه فيها بما يعتقده فيه دينا ويجعله عبرة لغيره وينفر الناس عنه، وهذا اللون يتمثل في رسالته التي أرسلها إلي سليمان بن سحيم مطوع أهل الرياض وهي طويلة نجتزئ منها بمقدمتها إذ هي كافية في بيان المطلوب: بسم الله الرحمن الرحيم الذي يعلم به سليمان بن سحيم أنك زعجت قرطاسة فيها عجائب، فإن كان قدر فهمك فهذا من أفسد الافهام، وأن كنت تلبس به على الجهال فما أنت برابح وقبل الجواب نذكر لك أنك أنت وأباك مصرحون بالكفر والشرك والنفاق، ولكن صائر لكم عند جماعة في معكال قصاصيب2 وأشباههم يعتقدون أنكم علماء، ونداريكم ودنا أن الله يهديكم ويهديهم وأنت إلى الآن أنت وأبوك لا تفهمون شهادة أن لا إله إلا الله أنا أشهد بهذا شهادة يسألني الله عنها يوم القيامة أنك لا تعرفها إلى الآن ولا أبوك ونكشف لك هذا كشفا بينا لعلك تتوب إلى الله وتد خل في دين الإسلام إن هداك الله، وإلا تبين لكل من يؤمن بالله واليوم الآجر حالكما، والصلاة وراءكما وقبول شهادتكما وخطكما ووجوب عداوتكما كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 3

_ 1 مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب القسم الخامس الرسائل الشخصية الرسالة رقم 45 ص 300، 301. 2 قصاصيب: جزارون. 3 مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب القسم الخامس الرسائل الشخصية الرسالة رقم 34ص 226.

3- أما عن فهم الدعوة وأسلوب عرضها وفقه دقائقها فإن الرسالة الشخصية التي بعث بها الإمام إلى إخوانه في سدير على أثر ما جرى بين أهل حوطة سدير تمثل نموذجا صالحا للتدليل على فقه الرجل وحكمته واختياره لكل مرحلة من مراحل العمل وكل موقف من المواقف ما يناسبه ولذا نورد نصها فيما يلي: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان. سلام عليكم وحمة الله وبركاته. وبعد فيجري عندكم أمور تجري عندنا من سابق وننصح إخواننا إذا جرى منها شيء حتى فهموها , وسببها أن تعض أهل الدين ينكر منكرا وهو مصيب لكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوجب الفرقة بين الأخوان، وقد قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" وأهل العلم يقولون الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج إلى ثلاث أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه ويكون رفيقا فيما يأمر به وينهى عنه صابرا على ما جاء من الأذى وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين من قلة العمل بهذا أو قلة فهمه، وأيضا يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره فالله الله في العمل بما ذكرت لكم والتفقه فيه فإنكم إن لم تفعلوا صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم ما يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه، وسبب هذه المقالة التي وقعت بين أهل الحوطة لو صار أهل الدين واجبا عليهم إنكار المنكر فلما غلطوا الكلام صار فيه اختلاف بين أهل الدين فصار فيه مضرة على الدين والدنيا، وهذا الكلام وإن كان قصيرا فمعناه طويل فلازم تأملوه وتفقهوا فيه واعملوا به فإن عملتم به صار نصرا للدين واستقام الأمر إن شاء الله والجامع لهذا كله أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره أن ينصح برفق ما يشترف أحد فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلا يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا إلا إن كان على أمير ونصحه ولا وافق

واستلحق عليه ولا وافق فيرفع الأمر يمنا خفية، وهذا الكتاب كل أهل البلد ينسخون منه نسخة ويجعلونها عندهم ثم يرسلونه لحرمة والمجمعة ثم للغاط والزلفى والله أعلم1. 1- أما من حيث الأطول والقصر في الرسائل فإن الشيخ محمد رحمه الله يراعي في ذلك حال المخاطب وموضوع الرسالة فإذا كانت حالة المخاطب تستدعي الشرح والاقناع وإقامة الدليل وبيان التعليل وكان الموضوع في صميم الدعوة ومجالاتها الأساسية فإن يطيل في رسالته وذلك مثل رسالته التي بعث بها إلى شيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف وكان من المترددين في قبول الدعوة وهو من أجل علماء عصره وكسبه في وصف الدعوة أمر مهم للشيخ وهو يحاول إقناعه بكل وسيلة ممكنة وتثبيته على الحق لا سيما بعد أن وصل إلى شيخ منه مكاتبات ينكر فيها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويغلظ فيها عليه وكان له معه قبل ذلك مناقشات أظهر فيها الشيخ ابن عبد اللطيف موافقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيها وتأييده لدعوته. فهذا الموقف المتردد من عالم كبير له وزنه في الأوساط العلمية في المنطقة استدعى من الشيخ الاطالة في رسالته إليه حتى بلغ عدد صفحات الرسالة 18صفحة وذلك في الرسالة رقم 37 من ص 250- 267. أما حين يكتب لأنصاره ومحبيه أو في أمور ليست من أساسيات الدعوة أو لمن لا يحتاج الإطالة فإنه كان يكتب بكل إيجاز. ورسالته رقم 10ص 60 الموجهة إلى محبه الشيخ أحمد التويجري جوابا على رسالة بعث بها أحمد التويجري إلى الشيخ ومعها رسالة من رجل ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد وفيها ذم للشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته واتهامات له فندها الشيخ بكل إيجاز وكتبها في نصف صفحة فقط.

_ 1 مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب القسم الخامس الرسائل الشخصية الرسالة رقم 44ص 297، 296.

وهذا يدل على أن الشيخ رحمه الله تعالى يرعى في طول الرسائل وقصرها حال المخاطب وموضوع الرسالة والوفاء بالغرض المطلوب ولهذا جاءت رسائله رحمه الله متفاوتة في الطول والقصر في الإيجاز والإطالة محققة لغرض المطلوب. وهو في رسائله وفي كتاباته أعطى كل مقام ما يناسبه وما يكون انتهاجه أنجح للدعوة وأبلغ في البيان وهو بذلك أشبه بالطبيب الماهر الذي يجعل لكل داء دواء يناسبه ويستجيب له محققا بذلك نجاحا عظيما في بيان الحق ودحض الباطل وإقامة الحجة على المعارضين رحمه الله رحمة واسعة. هذه البنود التي ذكرتها في حقيقة عقيدة محمد بن عبد الوهاب التي لخصتها من رسائله الشخصية ومن كتاباته في التوحيد مثل ثلاثة الأصول وكتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد والقواعد الأربعة وغيرها من كتابات الشيخ رحمه الله في عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أئمة المذاهب الأربعة المتبوعة اليوم وأئمة المذاهب الإسلامية التي لم يعد لها أتباع وإنما حفظت كتب التفسير وشروح الأحاديث النبوية وكتب الخلاف آرائهم والذين جاءوا من بعدهم من أئمة الهدى مثل ابن تيمية وابن قيم وابن رجب والطحاوي وابن قدامة وغيرهم وهي تشبه ما كتبه من قبله شيخ الإسلام أبو محمد موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي: لمعة الاعتقاد ومتن الطحاوية وملخص شديد التلخيص لمؤلفات ابن تيمية في العقيدة مثل الحموية والتدمرية وكتاب الإيمان وغيرها. والحق أنه لا يطلب من مصلح أتى أو يأتي إلى يوم القيامة أن يأتي بجديد في هذه الأصول إنما الجديد هو أخذ هذه الأصول استنادا إلى أدلتها الشرعية عن فهم دقيق لأدلتها ووعي كامل بمنهج السلف الصالح فيها وإقتناع تام وقدرة على التفريع عليها والتمييز الكامل بين منهج السلف في ذلك كله وبين مناهج الخلف من أهل الكلام الذين ضلوا في هذه المسائل بين الإفراط والتفريط والتقصير والغلو. ومن تتبع كتب الشيخ محمد رحمه الله ورسائله وكتابات تلاميذه عرف أن هذه المدرسة كانت على جانب كبير من الفهم الدقيق لحقيقة هذه العقيدة، ومعرفة ما

يناقضها أو يناقض كمالها، وقدرتهم الفائقة على تقدير كل أصل والتفريع على كل مسألة، وأنهم قد ساهموا بجهد كبير في المحافظة على عقيدة السلف الصالح لهذه الأمة والذب عنها بما ترجوا أن يكون في ميزان حسناتهم حتى جاز أن يقال إنها مدرسة تحقيق وتنقية في مسائل أصول الدين كما يسمى أمثالهم في مسائل الفروع مجتهدين. وهذه الأصول التي ذكرناها آنفا يحتاج شرحها وتفصيلها وبيان اختلاف الناس حولها وضلال الفرق فيها ودليل كل فيما ذهب إليه مناقشة ذلك وإيضاح مذهب السلف بدليله وتعليله إلى مجلدات تغني بها كتب العقائد والتوحيد. وهو ليس من مهمتنا في هذا البحث إذ مهمتنا هنا بيان حقيقة عقيدته كما حددها هو في كتاباته وبقلمه بنفسه. ورسالته رحمه الله لأهالي القصيم في بيان حقيقة عقيدته ملحق أساسي لهذه الدراسة ليطلع القارئ على نص الشيخ في ذلك.

الفصل الرابع: منهاجه التربوي في دعوته

الفصل الرابع:منهاجه التربوي في دعوته أولا- الهدف: تهدف دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى محاربة الشرك في مختلف صوره ومظاهره الظاهرة منه والخفية وتحقيق التوحيد وبيان فضله ودعوة الناس إلى محاربة البدع والخرافات وتنفير الناس منها وتطهير الاعتقاد وما شابه من أوضاع الجاهلية وتجلية المفاهيم الإسلامية مما أحاط بها من غموض أو نقص أو ميل أو تحريف وإقامة فرائض الإسلام وشرائع الدين والاحتكام إليها في مختلف شئون الحياة وبيان الجائز والممنوع في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والدماء وبيان الحلال والحرام وإقامة الناس على جادة الحق ومنهج الصواب في مختلف مناحي الاجتماع وشئون الحياة ورفع راية الجهاد في سبيل الله لتأمين الدعوة والدفاع عن النفس وقمع المعارضين وتعظيم الكتاب والسنة والرجوع بالمجتمع في نجد إلى الحياة الإسلامية في العقيدة والعبادة والمعاملات والسياسة ونظام الحكم والقضاء والإفتاء وغيرها وإلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مجتمع المدينة المنورة وإقامة مجتمع مسلم تحت قيادة واحدة تسعى لهدف واحد وفق خطة موحدة وفكر منتظم يحقق التلاحم بين أفراد المجتمع في القاعدة والقمة على السواء والأخذ بكل الوسائل الممكنة لتحقيق ذلك في واقع الحياة. ولهذا فإن هدف التربية في منهج هذه الدعوة الإصلاحية يمكن تحديده في العناصر التالية:

1- بناء القرد المسلم في مختلف جوانب شخصيته. 2- تكوين المجتمع المسلم. 3- إحياء روح الجهاد في سبيل الله. 4- إقامة قيادة سياسية موحدة تؤمن بالإصلاح وتعمل على تحقيقه والحكم بما أنزل الله. 1- العناية بتأكيد الرابطة بين شئون الدين وأمور الدنيا معا. 2- تنمية مبدأ الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين. 3- إحياء مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- العمل على تحقيق التوحيد وبيان فضله ودعوة الناس إلى تطهير الاعتقاد. 5- محاربة البدع والانحرافات في الدين. 6- تجلية المفاهيم الإسلامية مما أحاط بها من غموض أو نقص أو تحريف. 7- التأكيد على المحافظة على فرائض الدين وتعلم المسلم مالا تتم هذه الفرائض إلا به. 8- تعظيم الكتاب العزيز والسنة النبوية الشريفة والاعتماد عليها في أخذ الأحكام الشرعية. 9- نشر العلوم الإسلامية والعربية وتوسيع آثارها في الحياة. 10- نشر الدعوة للإسلام في صورته النقية البسيطة.

المبدأ الأول- العلم: وقد حدد المراد بالعلم في ثلاثة مجالات للخروج من عموم العلم وهي: 1- معرفة الله تعالى. 2- معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم. 3- معرفة دين الإسلام بالأدلة الشرعية. وقد استدل على صحة هذا المنهج وصواب الخطة بسورة من كتاب الله وهي سورة العصر قال الله تعال: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . ثم إنه بهذا المنهج التربوي النظري العملي التطبيقي المتساند قد حدد طريقة البدء فيه وهو أن يكون العلم النظري سابقا للعمل التطبيقي ليكون العلم هاديا إلى حسن العمل ومسددا للخطى في طريقه ولهذا نقل رحمه الله عنوان باب عند الإمام البخاري في صحيحه مؤيدا له ومختارا له في طريقة العمل والبدء بالعلم قبل القول والعمل فقال رحمه الله:"قال البخاري رحمه الله باب العلم فبل القول والعمل واستدل على هذا الترتيب بقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} قال رحمه الله فبدأ بالعلم قبل القول والعمل وبهذا حدد منهجه بالبدء بالعلم والتزود به في مجالاته الثلاثة الآنفة الذكر. وبعد أن قرر البدء بالعلم قبل أي قول أو عمل حدد مجالات هذا العلم في ثلاث مسائل وثلاثة أصول هي: 1- المسائل الثلاث الواجب على كل مسلم ومسلمة تعلمها هي: أ - أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملا بل أرسل إلينا رسولا من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار. ب - أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.

ج- أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب. واستدل على صحة كل مسألة بآية من القرآن الكريم. أما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها فهي: الأصل الأول – معرفة العبد ربه. الأصل الثاني – معرفة العبد دين الإسلام. الأصل الثالث- معرفة العبد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ثم عرف الأصل الأول وهو معرفة العبد ربه بقوله فإذا قيل لك من ربك فقل ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه وهو معبودي ليس لي معبود سواه. وقال إن كل من سوى الله عالم. ولفت الأنظار إلى ما يعرف به الرب وأنه يعرف بآياته ومخلوقاته فقال رحمه الله فإذا قيل لك بم عرفت ربك فقل بآياته ومخلوقاته، ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، ومن مخلوقاته السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهما. ثم ذكر الأدلة على كل هذه الآيات والمخلوقات من الكتاب العزيز. ثم عرف العبادة وبين المستحق لها وأنواعها، وأنها تشمل الإسلام والإيمان والإحسان جميعا , وأن منها الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعادة والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادات التي أمر الله بها , وأنها كلها يجب أن تكون لله وحده دون سواه وذكر الدليل من النصوص الشرعية على نوع منها. كما شرح " الأصل الثاني وهو معرفة دين الإسلام – فعرف الإسلام بأنه الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.

ثم ذكر مراتب الدين وهي: 1- الإسلام بأركانه الخمسة. 2- الإيمان بأركانه الستة. 3- الإحسان وأن له ركنا واحدا فقط. وعرف كلا منها. واستدل على كل ركن من هذه الأركان في مراتب الدين بأدلة من نصوص الشرع. أما "الأصل الثالث" وهو معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد ذكر نسبه الشريف وسنوات عمره وما كان منها قبل النبوة أو بعد الرسالة وبيان قصة نزول الوحي إليه وفرض الصلاة ثم هجرته. وعرف الهجرة بأنها الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام وأنها فريضة على هذه الأمة باقية إلى قيام الساعة، واستدل على ذلك كله من الكتاب والسنة، وأنه لما استقر في المدينة أمره الله ببقية شرائع الإسلام مثل الزكاة والصوم والحج والجهاد والآذان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شرائع الإسلام , وأن الله أرسله إلى الناس كافة وجميع الثقلين الجن والإنس , وأن الله أكمل به الدين وأتم به النعمة، ثم ذكر التحاقه بالرفيع الأعلى وموته والدليل على ذلك كله، وأكد أن من العلم الواجب أن الناس سيبعثون ويحاسبون ويجزون على أعمالهم، وأقام الدليل على ذلك من القرآن الكريم. ومما افترضه الله على العبادة كافة الإيمان بالله وكفر بالطاغوت ثم عرف الطاغوت وبين رؤوس الطواغيت دون محاولة عدهم وحصرهم. هذا هو المبدأ الأول الذي حدده رحمه الله في منهج دعوته الإصلاحية النظرية، وتتفرع عنه كل المعارف المتعلقة بالله وبدين الإسلام ونبيه وتصوير البينة، وهذا يشمل علم الشريعة كلها أصولا وفروعا قدر المستطاع. وقد أخذ رحمه الله نفسه بهذا المبدأ فطلب العلم على والده وشيوخ بلده ثم

رحل في طلب العلم على علماء المسلمين في الحرمين الشريفين وفي العراق والاحساء وغيرها من بلاد الله. فأخذ وناقش وعرف أحوال المسلمين في مختلف ديارهم ثم عاد حاملا من زاد العلم ما كان له أثر في فهم ما يدعوا إليه ورد ما يثار حولها من أباطيل وشبه. المبدأ الثاني – العمل: أما تطبيقه للمبتدأ الثاني في منهج دعوته وهو العمل بما علم فقد كان رحمه الله اتقى الناس في حياته وأكثرهم إيمانا بربه وأخلصهم لدينهم وأحبهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. يقول ابن بشر رحمه الله: "كان الشيخ – يعني محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى – كثير الذكر لله قل ما يفتر لسانه من قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وكان إذا جلس الناس ينتظرونه يعلمون إقباله إليهم قبل أن يروه من كثرة لهجته بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. وكان عطاؤه عطاء من وثق بالله لا يخشى الفقر بحيث إنه يهب الزكاة والغنيمة في موضع واحد لا يقوم ومعه منها شيء ويتحمل الدين الكثير لأضيافه وسائر الوافدين إليه وعليه الهيبة والعظمة التي ما سمعنا بها اتفقت لغيره من العلماء والرؤساء وغيرهم وهذا شيء وضعه الله في القلوب وإلا فما علمنا أحدا ألين ولا أخفض جنابا منه لطالب علم أو سائل أو ذي حاجة أو مقتبس فائدة، وكان له مجالس عديدة في التدريس كل يوم وكل وقت في التوحيد والتفسير والفقه وغيرها " 1 ثم قال: "وبالجملة فمحاسنه وفضائله أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر ولو بسط القول فيها لا تسع الأسفار ولكن هذه قطرة من بحر فضائله على وجه الاختصار وكفى بفضله شرفا ما حصل بسببه من إزالة البدع واجتماع المسلمين وتقويم الجماعات والجمع وتجديد الدين بعد دروسه وقطع أصول الشرك بعد غروسه"2

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر ص 89. 2 المرجع السابق ص 91.

وبهذا وغيره من الأعمال الجليلة وظف الإمام محمد بن عبد الوهاب علمه في خدمة دعوته وإصلاح مجتمعه وحول العلم النظري إلى سلوك عملي واقعي يأخذ به ويعطي ويتناول ويدع وفق ما تقتضيه حقيقة هذا العلم فكان عاملا به في خاصة نفسه، وفي تربية أهل بيته وأولاده وفي مجتمعه الذي يعيش فيه حتى أعطى من نفسه قدوة صالحة ومثالا حسنا في صفاء العقيدة ومظهر السلوك وممارسة اليومية وعلاقاته بالأفراد والجماعات بالأمراء والعلماء والعامة على السواء فأدى فرائض الدين وعمل بما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في أصول العقيدة وأداء الفرائض وإقامة شرائع الإسلام ومحاربة البدع وتعليم الناس الخير وبادر بإنكار المنكر بيده فهدم قبة زيد بن الخطاب في الجبيلة ورمى من اعترفت بالزنى في العيينة وإقامته لحد من حدود الله وصبر على ما أصابه في هذا السبيل من المحنة والأذى حتى أظهره الله دينه وأعز جنده وخذل أعدائه رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته. المبدأ الثالث – الدعوة إليه: أما المبدأ الثالث من مبادئ منهج دعوته الإصلاحية في نجد وهو الدعوة إلى الله بالعلم الذي حدد مجالاته في معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة فقد طبق هذا المبدأ تطبيقا جيدا في محيط مجتمعه بوجوه تربوية متعددة منها: 1- التربية بالقدوة الطيبة. 1- التربية بالموعظة الحسنة. 2- التربية بالتاريخ والأخبار والعبر. 3- التربية بالقصة. 4- التربية بتكوين العادة الخيرية. 5- التربية بالدليل العقلي. 6- التربية بالتدرج في التعليم.

* أما التربية بالقدوة الطيبة: فإنه واضح جلي في تعريف الناس بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفة تاريخه وأخباره وما حصل له من قومه من أذى وإعراض وما كان منه من صمود وإصرار على الحق. وما ضربه للناس من مثال حي في الإيمان بربه والصدق في إيمانه والطاعة لربه وإقامته لشرائع الدين وحراسة الشراع ورفع راية الجهاد وتعليم الناس الخير وصبره على ما أصابه في سبيل دعوته إلى الله. وجعل هذه الشخصية العظيمة هي القدوة الحسنة والمثال الشاخص لمن أتى أو يأتي من المسلمين إلى يوم القيامة ثم الاقتداء بالخلفاء الراشدين والأئمة المهديين في العصور المفضلة وما تلاها في كل العصور الإسلامية، وجعل الإمام محمد بن عبد الوهاب من شخصيته وتصرفاته وممارساته أقرب ما تكون إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العقيدة والعبادة والشريعة والتصرفات عامة في الصدق والأمانة والوفاء بالعهد وملازمته المساجد ومحبه الخير لأولياء الله ومعاداته لأعدائه وبذل ما يستطيع لتوظيف عمله في خدمة مجتمعه وإعطاء المثل الأعلى لمعاصريه. فكان بهذه القدوة الحسنة والسيرة الحميدة من أكبر المربين في القرن الثاني عشر الهجري اقتداء بقوله تعالى عن شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . فكان لهذا النوع من التربوية أثره في حياة طلابه وتلاميذه وأهل بلده ومحبيه بل في المنطقة كلها. فما عرف عنه إلا الصدق والإخلاص والمداومة على الطاعة وإرادة الخير للناس ودعوتهم إلى الحق قولا وعملا واعتقادا وجهادا فنجح بهذه الوسيلة نجاحا عظيما تمثل في تبني طلابه وتلاميذه ومحبيه لهذا السلوك العلمي الواقعي في حياتهم أينما كانوا وحيثما حلوا. فكان من أبرز صفاتهم الالتزام السلوكي بما يدعون إليه ويؤمنون به حتى صارت مدرسة متميزة عن غيرها بهذه الخاصية المؤثرة وظلت سمة بارزة في رواد مدرسته في حياته وبعد موته. وكانت دعوتهم الإصلاحية هي شغلهم الشاغل وهمهم الدائم حتى أظهرها الله وأعلى قدرها وخذل أعدائها رحمهم الله رحمة واسعة. * أما تربيته رحمه الله بالموعظة الحسنة: فإن النفوس في حاجة إلى الموعظة الحسنة بين وقت وآخر كحاجة الأرض

المجدبة إلى ماء المزن. وإذا كان تأثير الموعظة مؤقتا فإنها أيضا من أسرع المداخل إلى النفس البشرية. والتأثير المؤقت يعالج بالتكرار والإعادة في الأوقات المناسبة وبالقدر المناسب وفي الموضوعات الملحة القائمة. وكان الإمام رحمه الله يعظ الناس ويذكرهم بالله ويبين لهم الفرق بين مراد الله من خلقه في كتابه العزيز وبين ما عليه الناس من حق وباطل. وكان بين الحين والآخر يذكر الناس بالله وأيامه ويبين لهم موجبات رضوانه ومغفرته وأسباب غضبه وسخطه ويحثهم على توحيد الله وطاعته ويبين فضل ذلك وجزاءه عند الله ويحذرهم من الشرك والمعاصي والبدع وسوء عاقبة أهلها ويذكرهم بالجنة وما أعد الله لأهلها من النعيم المقيم ويخوفهم من النار وما أعد الله لأهلها من العذاب الدائم الذي لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. ويقرر هذه المعا ني وغيرها بوسائل مختلفة غاية في البراعة والنفوذ إلى القلوب وقد أعطاه الله من القدرة والبيان والتأثير بمواعظه وأحاديثه ما تشهد له به آثاره الباقية في خطبه المنبرية ورسائله الشخصية ومؤلفاته الوعظية، وهو بذلك يقتفي أثر القدوة الحسنة في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كان يتخول أصحابه بالموعظة وكما قال العرباض بن سارية وعظنا رسول الله صلى عليه وسلم موعظة وجلت لها القلوب وذرفت منها الدموع. ومواعظ الإمام محمد بن عبد الوهاب تفيض بالإخلاص ومحض النصيحة وتلمس أدواء المجتمع النجدي ومعالجة مشكلاته، وتأثيره في الناس بها تأثير عظيم حتى وصف من بعض خصومه بأنه ساحر لشدة تأثيره على السامعين له. وقد منحه الله صدقا في الدعوة وبلاغة في البيان وبعد نظر في التناول وحسن تقديره للأمور واختيار الموضوعات، وقد حقق بهذه الوسيلة التربوية نجاحا عظيما في المجتمع النجدي رحمه الله رحمة واسعة. * التربية بالأخبار والعبر التاريخية: ومن الوجوه التربوية في دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية في نجد نقل الأخبار التاريخية الصحيحة المثبتة في الكتاب العزيز والسنة النبوية الشريفة وتاريخ السيرة النبوية المطهرة وسير الأنبياء والمصلحين والأئمة المهديين وما فيها من

العظات والعبر والنهايات السارة للمتقين والعاقبة السيئة للمكذبين والضالين وجعل الأمثل شاخصة في ذلك كله أمام السامعين ليختاروا لأنفسهم وضع أنفسهم مع هذا الفريق أو ذاك. ولذلك فقد أورد رحمه الله في صدر كتابه"ثلاثة الأصول" قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} والمخاطب بهذه الآية أهل مكة والرسول الأول هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والرسول الثاني هو موسى عليه السلام أرسل إلى فرعون فكذبه فكانت النتيجة بعد صراع مرير أن أخذه الله أخذا وبيلا. وهذا فيه إشعار لكفار قريش بأنهم إن فعلوا مع نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ما فعل فرعون مع موسى أخذهم الله كما أخذ فرعون وكانت نهايتهم نهاية مؤلمة، وعليهم أن يختاروا لأنفسهم، وهكذا صار رحمه الله عليه يورد في دروسه ومواعظه ومؤلفاته قصص الأنبياء مع أممهم من آمن منهم أو كذب ونهاية كل من آمن أو كفر لما فيها من العبر والعظات للسامع وإدخال العبر من أو سع أبوابها. ثم إنه رحمه الله كتب مؤلفا قيما في السيرة النبوية يعد من أنفس الكتب في بابه ضمنه من اللفتات والعظات والعبر ما ينسجم مع دعوته الإصلاحية ويحقق تربية إسلامية رفيعة لطلابه وقراء كتبه إلى جانب نقله لسير الأئمة الأعلام في التاريخ الإسلامي والمحن التي تعرضوا لها والنهايات السعيدة التي انتهوا إليها مثل محنة الإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن تيمية وغيرهم من أعلام الإسلام فحقق بهذه الطريقة قدرا كبيرا من النجاح لدعوته الإصلاحية في نجد. * التربية بالقصة: ومن أنماط التربية في المنهج التربوي في دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب الإسلامية في نجد التربية بذكر القصص في القرآن والسنة وأخذ العبرة النافعة لدعوته والتأثير بها على الناس في اختيار طريق الحق الذي سلكه للإصلاح ومن قرأ كتب ومؤلفات الإمام يعرف اهتمامه بإيراد القصة الحقيقية الثابتة في القرآن والسنة النبوية. من ذلك قصة نوح مع قومه وقصة إبراهيم مع قومه وقصة موسى وغيرهم من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. وأورد قصصا ثابتة في السنة النبوية المطهرة مثل قصة الثلاثة من بني إسرائيل الأبرص والأقرع والأعمى، وهي قصة طويلة ثابتة في

الصحيحين، أردها بكاملها في الباب الثامن والأربعين من كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، ثم ذكر المسائل المتعلقة بهذا الباب فقال المسألة الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة1 وفي الباب التاسع من كتاب التوحيد والذي عقده عما جاء في الذبح لغير الله أورد قصة الرجلين اللذين دخل أحدهما الجنة في ذباب ودخل الآخر النار في ذباب.2 وفي الباب 38 للكتاب نفسه ذكر قصة عمر رضى الله عنه مع المنافق في التحاكم3. وهو بإيراد القصص الثابتة في نصوص الشرع يأخذ بوسيلة ناجحة في شرح مراده ولفت أنظار السامعين والقارئين إلى ما تضمنه من العبر والعظات وهي وسيلة ناجحة للتأثير والتأثر ولها عائد كبير في نفوس الناس وعليها تتم تربية الرواد في مدرسة الإصلاح في نجد رحمهم الله. * التربية بتكوين العادة الحسنة: من العادات ما يكون حسنا ومنها ما هو سيئ. فالكذب وإخلاف الوعد والغدر والخيانة ومظاهر البدع والخرافات والاستماع إلى لهو الحديث والاجتماع بالدجالين والسحرة وحضور الاجتماعات التي تظهر فيها المنكرات مع أنها مخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، تمثل عادات سيئة وأفعالا جاهلية. وتكوين العادة الحسنه من مهامها الأساسية محاولة إزالة هذه العادات السيئة ثم إحلال عادات حسنة محلها يتمثل فيها أدب الإسلام وأخلاقه وحسن الأدب في المعاملة. وتكوين العادة الحسنة هو مجال عملي تطبيقي يؤخذ بالممارسة والتدرج والالتزام

_ 1 كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبد الباب 84ص131 من مجموع مؤلفات الإمام طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في أسبوع الإمام. 2 المرجع السابق الباب 9ص35. 3 المرجع السابق الباب 38ص 5.1.

المستمر حتى يصير مع مرور الزمن سهلا ميسورا أداؤه على الأفراد دون كلفة أو مشقة. فيكون فيه إتباع السنة وترك البدعة وسهولة الأداء والطواعية. وقد عمل إمام الدعوة رحمه الله على تشخيص أمراض مجتمعه في نجد وأخذ بكل الوسائل الممكنة لرفض كل عادة ضارة وإحلال محلها عادة حسنة وسلوكا إسلاميا صرفا. فأبطل مظاهر الشرك وأحل محلها التوحيد الخالص. وحارب البدع وأقام مقامها السنن. وحث الناس على التزام فرائض الدين وأدائها كما أراد الله من خلقه والاستمرار في ذلك حتى خرج بهم في ذلك من كلفه الواجب والشعور بالمعاناة في أدائها إلى الاعتياد الطواعي الكامل الذي يتلاشى فيه الشعور بالمشقة والحرج والمعاناة. وبهذه الوسيلة التربوية سهل على الأفراد والجماعات في نجد أداء الواجبات وترك المحرمات، وأصبح الناس يؤدون هذه الطاعات في يسر وسهولة صارت مع التكرار ألفا وعادة لا مشقة فيها ولا عنت، وبذلك طبع هذا المجتمع بالطابع الإسلامي الطواعي الكريم. * التربية بتحرير العقل واستثماره: قامت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في نجد وأهلها على حالة من الجهل وجمود الفكر واستحكام التقليد وإلف ما كان الناس عليه بغض النظر عن صحته أو فساده وموافقته للشرع أو مخالفته وتعظيم الموروثات. فكانت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ثورة فكرية واجتماعية ودينية حررت العقل من أسر التقليد وغل العادات وعملت على إطلاق العقل وتنشيط الفكر وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى. وعملت على غرس روح تعظيم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة في النفوس الناس وجعل ما تضمنته هو الحاكم على تصرفات الناس وأعمالهم وأن يزن الناس الأعمال والأقوال بميزانها، ورفعت من قدر العقل الذي هو مناط التكليف وإليه يتجه دليل السمع.

وقد ركز الإمام في دعوته على استثمار العقل في معرفة النصوص الشرعية ودلالاتها ومراد الله منها في خلقه بوسائل مختلفة في المشافهة والتدريس وفي الدروس والمواعظ وفي مقابلته للوفود فأحدث حركة فكرية عظيمة في نجد ذات أصول شرعية ثابتة. فأثمرت هذه الوسيلة التربوية في إعداد جيل من الدعاة والعلماء والوعاظ فنهجوا منهجه واقتفوا أثره فكان لهم أثرهم البالغ في استكمال مقومات الثورة الفكرية الدينية الأصيلة في نجد شملت الخاصة والعامة وأثمرت في التمكين للشرع والتحرير للعقل والتوحيد للفكر فأتت أكلها طيبا بأذن ربها. * التربية بتجلية بعض المفاهيم الإسلامية: بمرور الزمن والبعد عن عهد النبوية ومضي القرون المفضلة وفشو الجهل في الناس وجمود الفقهاء والعلماء وانحسار كثير من مد الإسلام، أخذت بعض المفاهيم الإسلامية على غير وجهها أو على نقص كبير من دلالتها. ولهذا فإن مفهوم الناس لمعنى الإسلام أنه من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولو لم يعمل بمقتضاهما كان مسلما وأن الإحسان هو المواساة وحسن الأدب وغير ذلك كثير. ولهذا فإن من الأوجه التربوية التي اتخذها الإمام في تربية أتباعه تجلية هذه المفاهيم وبيان دلالتها وما تضمنته على وجه التحديد وما يناقضها. فعرف الإسلام بأنه الاستسلام لله بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله وأن المسلم لا يكون مسلما إلا إذا كانت نفسه منقادة لله ظاهرا وباطنا في عقيدته وعبادته وشريعته وآداب تعامله وفي مختلف شئون حياته. وأن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وهذا نوع من الصفاء والخصوصية والشفافية التي لا تأتي إلا بعد ارتفاع المسلم بنفسه عن كثير من أوضار المادة وجواذب الأرض وصغائر الذنوب. ولهذا عني رحمه الله بتجلية معان كثيرة من المفاهيم الإسلامية الأساسية مثل:

معني العبادة وأنواعها وحكم صرف أي شيء منها لغير الله وأقسام الشفاعة ولمن تكون ومعني التوحيد وأنواعه ومعني الشرك وأقسامه وكيف تكون محبة الصالحين ومعني الولاء والبراء، كما عنى بإيضاح أقسام وأنواع هذه المفاهيم وما يدخل فيها وما يخرج عنها وما يناقضها أو يناقض كمالها وبيان أحكامها وأحكام ما كان له ظهور وشيوع في منطقة نجد مثل: 1- الغلو في الصالحين. 2- التبرك بالشجر والحجر ونحوه. 3- الذبح لغير الله. 4- تعليق التمائم. 5- لبس الحلقة لرفع البلاء أو دفعه. 6- الرقي والتمائم 7- البناء على القبور. 8- السحر. 9- النشرة. 10-التطير. 11-التنجيم. 1- إرادة الإنسان بعمله الدنيا. وغيرها مما كان له وجود في منطقة نجد أو في العالم الإسلامي. وذلك بقصد تعريف الناس بخطرها وتنفيرهم منها وبيان ضررها تمهيدا لا حلال عقيدة التوحيد الخالصة محلها وقد نجح بهذه الوسيلة في قلع بذور الشر من مجتمعه وإشاعة الخير بواسطة هذه التربية الفردية والجماعية لأتباعه رحمهم الله. المبدأ الرابع- الإخلاص للدعوة والصبر على الأذى: تعرضت الدعوة الإصلاحية في نجد لما تتعرض له كل دعوة إصلاحية قامت أو تقوم على وجه الأرض حتى دعوات الرسل ولكن الله يجعل العاقبة في هذا الصراع

للمتقين والخزي والعار للمعارضين. تعرض الإمام محمد بن عبد الوهاب للسب والشتم والأذى في ترحاله في طلب العلم في الحرمين الشريفين وفي البصرة والاحساء، وتعرض لما هو شد منه لما جهر بدعوته في حريملاء بل تجاوز الأمر ذلك إلي محاولة اغتياله من أوباش الناس ومواليهم في حريملاء، تسلقوا عليه بيته ليقتلوه صبرا، وتعرض للطرد والقتل من أمير العيينة عثمان بن معمر بعد أن تلقى تهديدا من قائد الاحساء بشأنه ودخل الدرعية خائفا على نفسه مجازفا بحياته ثم إنه تعرض لهجمة شرسة من علماء الرياض وبعض مدن وقرى نجد ورمي بعظائم الأمور. وقيل إنه مارق من الدين وخارج عن الجماعة ومفرق للأمة ومكفر لأهل الإسلام ومعاد للأولياء الصالحين ولا يجب النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الاتهامات الباطلة، وقد أصابت أهل الدرعية عند مجيئه شدة في العيش وضيق في الرزق فصبروا على ذلك ومضوا في دعوته. ثم إنه تألب عليهم أهل نجد فغزوهم وحاربوهم بالسلاح، فصبروا على ذلك وقاموا برد العدوان وقدموا خيرة رجال الدرعية من آل سعود وآل الشيخ وبقية أسر الدرعية وغيرهم من أهل التو حيد. ولم يثن ذلك لهم عزما حتى أظهر الله دينه في نجد وكبح جماح أعدائه. ثم كان في حملة الأتراك بقيادة إبراهيم باشا من البلاء والاختبار لهذه الدعوة ما لا مزيد عليه، فصبروا وصابروا وقدموا في ذلك أثمن ما يملكون نفوسهم وأموالهم وبلادهم ولم يترددوا في شيء من ذلك مع ما كان في هذه الحملة من بطش ونكاية وظلم وغدر يعجز القلم عن وصفه. وهذا الابتلاء والامتحان لم يكن أمرا غير متوقع بل إن برنامج الإمام التربوي يقضي بالاستعداد لمواجهة الأذى وتوطين النفس على الصبر عليه ومواجهة الأذى بالشجاعة والصبر والاحتساب. وفي كتاب الإمام إلى أحد علماء المدينة المنورة قال رحمه الله:"فإن سألت عن سبب الاختلاف الذي هو بيننا وبين الناس فما اختلفنا في شيء من شرائع الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك ولا في شيء من المحرمات"..إلى أن قال

رحمه الله " والذي قلب الناس علينا الذي قلبهم على سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وقلبهم على الرسل من قبله كلما جاء أمة رسولها كذبوه ومثل ما قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم والله ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي فرأس الأمر عندنا وأساسه إخلاص الدين لله."1 وعن القائد السياسي للدعوة الإمام محمد بن سعود يقول المؤرخ ابن بشر رحمه الله: "فأواه-أي الشيخ- من جعل عز الإسلام على يديه وجاد بنفسه وما لديه ولم يخش لوم اللائمين ولا كيد الأعداء المحاربين "محمد بن سعود" وبنوه ومن ساعدهم على ذلك وذووه خلد الله ملكهم مدي الزمان وأبقاه في صالح عقبهم ما بقي الثقلان فشمر في نصرة الإسلام بالجهاد وبذل الجد والاجتهاد فقام في عداوته الأصاغر والأكابر وجروا عليه المدافع والقنابر فلم يثن عزمه ما فعل المبطلون وجاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون 2 ويقول المؤرخ ابن بشر عن حال الدرعية في أول أمر الدعوة وحال من هاجر إليها من المسلمين:"ولما هاجر من هاجر إلى الدرعية واستوطنوها كانوا في أضيق عيش وأشد حاجة وابتلوا ابتلاء شديدا فكانوا في الليل يأخذون الأجرة ويحترفون في النهار ويجلسون عند الشيخ في درس الحديث والمذاكرة وأهل الدرعية يومئذ في غاية الضعف وضيق المؤنة ولكن كما قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس" واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا 3 وعن ردود الفعل لدى المدعوين في نجد قال ابن بشر رحمه الله: "ثم إن الشيخ كاتب أهلا البلدان بذلك ورؤساءهم وقضاتهم ومدعي العلم منهم من قبل واتبع الحق ومنهم من اتخذه سخريا واستهزأوا به ونسبوه إلى الجهل وعدم المعرفة ومنهم من نسبه إلى السحر ومنهم من رماه بأشياء وهو بريء منها حاشاه عما يقوله الكاذبون.4

_ 1 مؤلفات محمد بن عبد الوهاب القسم الخامس الرسائل الشخصية "الرسالة رقم7" طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ص 44. 2 عنوان المجد في تاريخ نجد للعلامة عثمان بن بشر ج1 ص 3. 3 عنوان المجد في تاريخ نجد للعلامة عثمان بن بشر ج 1 ص13. 4 المرجع السابق ج1 ص 14.

وقد تولى الإمام محمد بن عبد الوهاب بنفسه إيضاح مبررات قتالهم لأعدائهم في الرسالة القيمة التي بعث بها رحمه الله إلى عالم العراق عبد الرحمن بن عبد الله السويدي الذي كان قد سأله عما يقول الناس فيه فكان في آخر جوابه حيثيات قتال أهل الدرعية لخصومهم فقال: "وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه والسلام1 ويوضح مدى صبر الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه على الأذى الذي أصابهم في سبيل الدعوة الإصلاحية في نجد ما سجله المؤرخون عن المعارك التي قامت بين أنصار الدعوة وخصومها وما قدم فيها من التضحية بخيرة الرجال ونفائس الأموال دون أن يثني ذلك من عزيمتهم أو يفت في سواعدهم بل ظلوا على ذلك صامدين حتى أظهرهم الله على خصومهم وأعز الله بهم الدين. ومع أن الحملة المدمرة التي قادها إبراهيم باشا القائد التركي والجيوش الهائلة التي جرها على هذه المنطقة وسكانها مع ما حملته معها من وسائل الدمار والغدر والظلم والقسوة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا قد حققت نصرا سياسيا على هذه الدولة ما لبثت الدعوة الإصلاحية في نجد بعد عودة الجيوش العثمانية أن استعادت مكانتها وقامت بما أوجب الله عليها وأعادت لنفسها قوتها السياسية والروحية والجهادية، وظل أثر الخير في منطقة نجد باقيا إلى يومنا هذا والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

_ 1 مؤلفات محمد بن عبد الوهاب القسم الخامس – الرسائل الشخصية الرسالة الخامة ص 8 3.

ثانيا: المنهج

ثانيا- المنهج: أما المنهج الذي اتخذه لتحقيق هدفه فهو المنهج التربوي النظري والعملي والتطبيقي المتساند الذي حدده برنامجا لدعوته الإصلاحية في نجد والتزم به في مراحل عمله واستقامت عليه مدرسته من بعده والذي يتضمن أربعة مبادئ: 1- العلم. 2- والعمل به. 3- والدعوة إليه. 4- الصبر على الأذى فيه.

ثالثا: الوسائل

ثالثا: الوسائل ... ثالثا- وسائل التربية في هذا المنهج: يتطلب تحقيق أهداف المناهج التربوي لهذه الحركة الإصلاحية الأخذ بالوسائل التي تمكن من تحقيق هذه الأهداف بصور جيدة في حياة الناس ونقل حالهم مما هم

_ 1 مؤلفات محمد بن عبد الوهاب القسم الخامس – الرسائل الشخصية الرسالة الخامة ص 8 3.

فيه إلى الوضع المطلوب. وبتتبع تاريخ هذه الحركة في مراحل نموها في المصادر التاريخية يتضح للباحث أن أهم الوسائل التربوية التي استخدمتها لبلوغ غايتها تتلخص فيما يلي: 1- المشافهة والخطاب المباشر في صور مختلفة ومواقف متعددة مع العلماء والأمراء والمطاوعة وعامة الناس فهو يعرض دعوته في صورة بيان الحق وإنكار المنكر تارة كما حصل منه لما رأى ما يفعله عوام الناس عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب لشيخه الشيخ محمد حياة السندي المدني عندما سأله: ما تقول في هؤلاء قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1 ولما انتقل من المدينة إلى البصرة في طلب العلم وأقام في جهة البصرة عند الشيخ محمد المجموعي بدأ أيضا ينكر على الناس ما يفعلونه من الشركيات والبدع. ولما عاد من رحلته العلمية إلى بلده حريملاء"أخذ يتعلم على والده وينكر ما يفعله الجهال من البدع والشرك في الأقوال والأفعال وكثر منه الإنكار لذلك ولجميع المحظورات حتى وقع بينه وبين أبيه كلام وكذلك وقع بينه وبين الناس في البلد"2 ثم أعلن دعوته بين الناس ابتداء من عام 1153هـ وكانت وسيلته الأولى المشافهة والخطاب المباشر إذ هي الوسيلة الأولى التي يملكها كل داعية للإصلاح في كل عصر. وتأتي المشافهة تارة في صورة عرض الدعوة وأهدافها وبيان الحاجة إليها والغاية من ورائها وطلب مؤازرتها من الأمراء وهذا ما حصل من الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع أمير العيينة عثمان بن معمر ومن بعده مع الأمير محمد بن سعود في الدرعية وقد ذكرت هذه المواقف في كل المصادر التاريخية لهذه الدعوة ونقلت بعد نصوصها في

_ 1 انظر عنوا ن المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1 ص 7. 2 انظر عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1 ص 8.

أكثر من موضوع من هذه الدارسة تأتي أيضا في صورة الدعوة إلى الله وطلب التأييد من العلماء في المنطقة إذ هم يمثلون الريادة العلمية والفكرية في المجتمع وكسبهم في صف الدعوة أمر له أهميته ولا يكون إلا بعرض من صاحب الدعوة. وتأتي المشافهة كذلك في صورة تعليم ومدارسة مع طلاب العلم الذين وفدوا على الشيخ محمد بن عبد الوهاب لتلقي العلم عليه مباشرة والأخذ عنه شفاها. وقد قرر عليهم أصول الدين وبين لهم معنى التوحيد ومقتضى لا إله إلا الله وحذرهم من الشرك وبين لهم صورة. وأقام الدليل الشرعي على كل مسألة من المسائل التي قررها في مبادئ دعوته وبين لهم ما أراده الله من خلقه وما يجري في حياة الناس من مخالفات وما حدث في حياة المسلمين من انحراف عما كان عليه السلف الصالح وما قام عليه الدليل الشرعي مع بيان خطأ من يخالف في الرأي في هذه المسائل من علماء عصره كما استعمل هذه الوسيلة في شرح عقيدته أهداف دعوته وحقيقة ما يدعو إليه لمن يفد إليه من البعوث وعلماء وعامة وأمراء وغيرهم. فكانت هذه الوسيلة من أهم وسائل تحقيق أهداف منهاج هذه الدعوة الإصلاحية وأولها استخداما وأبعدها أثرا. واستمر في استثمارها طيلة حياته رحمه الله حتى التحق بالرفيق الأعلى ثم استعملها شيوخ مدرسة وأنصار دعوته من بعد. وبقيت وسيلة مستخدمة في خدمة هذه الحركة الإصلاحية عبر تاريخها الممتد. 2- الرسائل الشخصية والعامة: إلى جانب الوسيلة الأولى المتمثلة في المشافهة والخطاب المباشر استخدم الأمام محمد بن عبد الوهاب في دعوته الإصلاحية وسيلة ثانية هي المكاتبات التي كتبها إلى العلماء والأمراء والمطاوعة في داخل جزيرة العرب وارجها في شكل رسائل خاصة أو عامة لشرح حقيقة عقيدته وما يدعو الناس إليه وما يختلف مع معاصريه فيه سواء كانوا من العلماء أو الأمراء أو العامة في الداخل أو الخارج على السواء. وبعض هذه السائل كتبها مبادرة منه للدعوة وطلب التأييد والنصرة ممن لم تبلغهم دعوته أو بلغته ولم يتحدد موقفه منها أو لمؤيديه خارج مقر إقامته ممن لا يتيسر له مقابلتهم من أنصاره

ومحبيه لشرح دعوته أو لإزالة ما يثار عليهم من شبهة أو لتفقيههم في أسلوب الدعوة وطريقة إنكار المنكر وبعضها كتبها للتوجيه العام. ومن النمط الأول الرسالة التي بعث بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الشيخ فاضل آل مزيد رئس بادية الشام1ومن النوع الثاني رسالته إلى إخوانه من أهل سدير بسبب أمر جرى بين أهل الحوطة من بلدان سدير.2 ومن الرسائل التي بعث بها بمبادرة منه ابتداء للتوجيه العام الرسالة التي بعث بها إلى عامة السلمين.3والرسالة التي بعث بها إلى أهل المغرب.4ومن الرسائل التي كتبها جوابا على سؤال عن حقيقة دعوته وحقيقة اعقتاده رسالته إلى أهل القصيم.5 وإلى عبد الرحمن بن عبد الله السويدي في العراق.6 كما كتب الإمام محمد بن عبد الوهاب رسائل أيضا لرد شبه ودحض مزاعم وتصحيح فهم، وذلك وارد في كثير من رسائله مثل رسالته إلى عبد الله بن سحيم مطوع أهل المجمعة ردا على رسالة بعث بها ابن سحيم إلى أهل البصرة والاحساء وغيرهم يتهم فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب بتهم كثيرة فأجاب الشيخ محمد عليها "برسالة مطولة فند فيها كل التهم الموجهة إليه وبين موقفه من كل ما تضمنته.7 ومن الرسائل التي أرسلها الإمام ما هو موجه لأتباعه ومناصريه لقصد التثبيت على الحق واستنهاض الهمم في نصر الدعوة وعدم الركون للراحة والتخاذل عن الحق أمام الضغوط العامة ويمثل هذا النمط من الرسائل رسالة الشيخ إلى أهالي شقراء.8

_ 1 الرسائل الشخصية من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب القسم الخامس ص32. 2 المرجع السبق ص296. 3 المرجع السابق ص 8 5. 4 المرجع السابق ص110. 5 المرجع السابق ص 8، 196. 6 المرجع السابق ص 36. 7 انظر الرسالة 11 من القسم الأول الرسائل الشخصية القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب من ص 62 إلى ص 76. 8 القسم الخامس نفسه ص 292.

وهم ممن بادروا بالاستجابة لدعوته ولكنهم يتعرضون لضغوط من مراكز القوى المجاورة لهم. وقد حفظت لنا مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب عددا كبيرا من الرسائل الشخصية في أغراض متعددة مما ذكرنا آنفا وغيرها من الأغراض الأخرى في مناسبات ومواقف وأزمان مختلفة تمثل كتابا متوسط الحجم عرف بين مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالقسم الخامس الرسائل الشخصية وهي تمثل ثروة علمية تعكس الصورة القائمة بين الشيخ محمد وخصومه في المنطقة ومواضع الاتفاق الاختلاف بينهما والصراع وتلاحم القوي الداخلية والخارجية في هذا الصراع وخروج هذه الدعوة من كونها دعوة محلية إلي قضية عامة ومن وصفها دعوة نظرية إلي حركة عملية جهادية. وإذا كانت الوسيلة الأولي في هذا المنهاج التربوي المتمثلة في نشر هذه الدعوة بالخطاب المباشر المشافهة أبلغ في التأثير وأدعى للقبول فإن استعمالها مقصور على المحيط المحلي والناس الذين يمكن مقابلتهم واللقاء بهم أما الوسيلة الثانية وهي الدعوة عن طريق الرسائل المكتوبة فإنها أوسع مدى وأقدر على الانتشار أبقى في الأثر وأحفظ للمضمون. ولهذا فإن لكل من الوسيلتين مجالها المؤثرة فيه وبعدها الذي تحققه ولا تغني وسيلة منهما عن الأخرى بل تتم كل منهما الأخرى وتكمل بناءها وتتساند في تحقيق أهداف الدعوة وبلوغ غايتها. ولهذا فإن هذه الحركة الإصلاحية قد استخدمت هذه الوسيلة التربوية استخداما حسنا حقق لها قدرا من النجاح في الوصول إلى غايتها وبلوغ مراميها. 3- إرسال الوفود: ومن الوسائل التي استخدمتها هذه الحركة في منهاجها التربوي بعث الوفود إلى الأقطار الإسلامية لمقابلة العلماء والأمراء وشرح وجهة نظر الدعوة فيما تدعو إليه وما تنهي عنه وفيما يوجه إليها من التهم وما يثار حولها من الشبه والتباحث مع العلماء سعيا للوصول إلى الحق وإقناع الناس بسلامة المنهج وصدق الدعوة.

ومن هذا ما فعله الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود مع والي مكة عام 1184هـ الشريف أحمد بن الشريف سعيد إذ بعثنا إليه أحد علماء هذه الدعوة وهو الشيخ عبد العزيز الحصين وأرسلا معه كتابا جاء فيه بعد فقرات رقيقة: "ولما طلبتم من ناحيتنا طالب علم امتثلنا الأمر وهو واصل إليكم ويجلس في مجلس الشريف أعزه الله هو وعلماء مكة فإن اجتمعوا فالحمد لله على ذلك وإن اختلفوا أحضر الشريف كتبهم وكتب الحنابلة والواجب على الكل منا ومنكم أنه يقصد بعلمه وجه الله ونصرة رسوله كما قال الله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} الآية".وجاء في آخر الرسالة" وأحق الناس بذلك أولا هم أهل البيت الذين بعث الله منهم وشرفهم على أهل الأرض وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم."1 وفي المقابل كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب على امتداد حياته يقابل الوفود القادمة إلي الدرعية من العلماء والوجهاء وأهل الفكر والرأي المطاعين في أقوامهم بين الحين والآخر فيأخذ منهم ويسمعون منه في مجال الدعوة والإصلاح. فجاءت هذه الوسيلة من وسائل تحقيق المنهاج التربوي بعدا ثالثا له أهميته البالغة وأثره في تحقيق الغاية المرجوة. 4- التعليم: ومن وسائل تحقيق منهاج هذه الحركة الإصلاحية التعليم، والتعليم يتم في مستويين مختلفين هما: 1- وفق المنهاج العام المعد لعموم الناس وعامتهم متعلمين وأميين وغيرهم وهو منهاج بسيط وواضح ومختصر اقتصر فيه على أصول الدين ومستلزمات أداء فريضة الصلاة وأصول العبادات وهو ما أطلق عليه في هذه الدراسة المنهاج التربوي، وبواسطة التعليم لهذه الأصول والمبادئ العامة وتعاهد الناس بها

_ 1 الرسالة 13 من القسم الخامس من الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 312.

تحقق بعد مهم لهذه الدعوة في أوساط الناس عامة ونشر لدعوتها وتشرب لفكرتها وإعطاء قدر عام مشترك من الثقافة الدينية الإلزامية. ب- تعليم متقدم ذو صفة تخصصية يعد طلابه للقيام بالوظائف الدينية مثل القضاء والإفتاء والتوجيه العام وغيرها. وهذا النوع المتخصص من التعليم يتم في المساجد على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكبار تلاميذه كل في مجال تخصصه في دراسة منتظمة يومية على طريقة التعليم في حواضر العالم الإسلامي في زمن هذه الدعوة وما قبلها في مثل جامع الأزهر وغيره من مراكز التعليم الديني في العالم الإسلامي، وهو يتناول التفسير وعلوم القرآن والحديث الشريف والفقه وأصوله والتوحيد واللغة العربية والتاريخ والسير وغيرها من العلوم الإسلامية في الكتب المعتمدة في هذه المجالات. وهو تعليم مبرمج يتدرج الطلبة فيه من البسيط إلى المركب، ومن القليل إلى الكثير، ومن المختصرات إلى المطولات. ويتفاوت الطلبة في التحصيل فيه تبعا لاجتهادهم وقدراتهم. وهو يعتمد في دراسة أصول الدين والتوحيد على كتب السلف من أهل السنة والجماعة، ومنهم أئمة الاجتهاد في القرون المفضلة من الصحابة والتابعين والأئمة الذين اندرست مذاهبهم في الفقه مثل الأوزاعي وابن جرير الطبري وغيرهم ممن حفظت كتب الخلاف مذاهبهم أومن الأئمة الأربعة المتبوعين اليوم وهم الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهم الله جميعا ومن سلك طريقهم والإمامان الجليلان ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والإمام الطحاوي وابن قدامة وغيرهم من أئمة السلف. ويذمون علم الكلام ويرون أنه خلاف مذهب السلف في التوحيد. وفي مجال التفسير تم الاعتماد على مدرسة التفسير بالأثر الذي يقوم على قمته ابن جرير الطبري وابن كثير والشوكاني وغيرهم من علماء التفسير في هذه المدرسة مع انتفاعهم بمناهج التفسير الأخرى.

وفي تعليم فروع الدين يقتصرون على كتب الفقه عند الحنابلة ويعظمون الدليل الشرعي ويرون وجوب الأخذ به وترك المذهب إذا ظهر الدليل على خلاف ما قرره ويدعون إلى الاجتهاد في الفقه للقادر عليه ومن توافرت له آلته ولا يرون بأسا في تقليد العامة أو المتعلمين الذين لم تتوافر فيهم أهليه الاجتهاد للمفتين في بلادهم. والتعليم على مستويات للمبتدئين في كتب تناسبهم وللمتوسطين كذلك ما يناسبهم وللمهتمين دراسة في الكتب المطولة. وهذا التعليم المتخصص من أهم الوسائل التربوية التي حققت لهذه الحركة فهما أعمق. واعتنت هذه الحركة بسد حاجتها من الدعاة والقضاة والمفتين والقيام على الوظائف الدينية وأعطت لهذه الدعوة عمقا علميا راسخا امتدت آثاره في الحياة وتتابع الناس على لأخذ به وتوسيع دائرة الانتفاع به وكان لطريقة التلقي في هذا التعليم وأخلاق شيوخه ومسلك العلماء في ظله ونظرة الناس لطلابه وجعلهم في محل الاقتداء أثره في القبول عند العامة والخاصة بما جعلها محل الاقتداء. 1- الكتب والمؤلفات: لما كانت هذه الحركة الإصلاحية قد أحدثت ضجة في الأوساط العلمية داخل جزيرة العرب وخارجها كانت محتاجة إلى تأليف المؤلفات ونشر الكتب التي تخدم الدعوة في مجالات مختلفة ولأغراض متعددة، فقد كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب عدة كتب علمية في التفسير والحديث والتاريخ والتوحيد والفقه وغيرها. وكل هذه الكتب تتضافر في خدمة الهدف العام للدعوة وهو تحقيق التوحيد ونبذ الشرك ومحاربة البدع والعودة بالأمة الإسلامية إلى ما كان عليه السلف الصالح في صدر الإسلام. ومن هذه الكتب والرسائل والمؤلفات ما كتب لعموم الناس بوجه خاص مثل ثلاثة الأصول وشروط الصلاة وآداب المشي إلى الصلاة والقواعد الأربع. ومنها ما كتب للتعليم في مجال التخصص مثل كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد وكتاب السيرة النبوية ومسائل الجاهلية ومجموعة الحديث ومختصر المقنع وغيرها.

وقصد منها دراسة النصوص الشرعية والتاريخية وأقوال السلف في المسائل التي كانت تمارس في حياة الناس في عهده في مجالات متعددة وقضايا كثيرة وبيان مقتضى هذه الأدلة في هذه الممارسات. وبيان ما ينبغي الأخذ به في كل المواقف اعتقادا وقولا وعملا. ومنها ما كتب كرد مباشر أو غير مباشر على ما يثار حول هذه الدعوة من شبه وما ترمى به من غلو سواء ما كتبه إمام الدعوة في رسائله وبعض موضوعات مؤلفاته أو كتابات كبار تلامذته وهي موجودة في كثير من مؤلفاته. وقد قامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بمناسبة انعقاد مؤتمر أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بجمع مؤلفاته الشيخ محمد ورسائله الشخصية وتحقيقها وإصدارها في مجموعة متكاملة يمكن لكل باحث الاطلاع عليها فهي تمثل ثروة علمية عظيمة ووسيلة ناجحة لشرح أهداف الدعوة وترسيخ مناهجها في أذهان الناس عامة والعلماء في الداخل والخارج وقد حققت هذه الوسيلة التربوية الهادفة بعدا مهما لبلوغ الغاية منها في خدمة هذه الحركة الإصلاحية.

رابعا: الخصائص

رابعا: الخصائص ... رابعا- خصائص التربية في مناهجه: 1- أنها ربانية المصدر: فإن الإمام محمد بن عبد الوهاب لم يأت بشيء من عند نفسه وإنما دعا الناس إلى إفراد الله بالعبادة والخلوص من الشرك وتحقيق مراد الله في نصوص شرعه في أصول العقيدة ومجال العبادة ومظاهر السلوك ونظام الحكم والقضاء وغيره. وهو يعبر بقلمه عن ذلك إذ يقول في الرسالة التي وجهها إلى الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف" أقول ولله الحمد والمنة وبه القوة إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دين قيما ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي

وابن كثير وغيرهم بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم1" وهذا يعطي لهذه الدعوة بعدا عميقا في التأثير وقطع الحجة ووضوح الحجة. 2- أنها تربة شاملة: لم تكن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب مقصورة على الجانب الروحي والديني والاجتماعي ولكنها دعوة إصلاحية شاملة لأصول الدين وفروعه عامة في أمور الدين والدنيا جميعا ليس في فرق بين سياسة الحكم ونظام القضاء وتصحيح العقيدة وأداء العبادة بل هي شاملة لكل جوانب الحياة وتأخذ بهما في خطوط متوازية بلا إفراط ولا تفريط. وتاريخ هذه الحركة ومبادئها المقررة ومؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب كلها شاهدة بذلك يقول الشيخ عثمان بن بشر في تاريخه عن الشيخ محمد:"وكفى بفضله شرفا ما حصل بسببه من إزالة البدع واجتماع المسلمين وتقويم الجماعات والجمع وتجديد الدين بعد دروسه وقطع الشرك بعد غروسه. كان رحمه الله تعالى هو الذي يجهز الجيوش ويبعث السرايا ويكاتب أهل البلدان ويكاتبونه الوفود إليه والضيوف عنده الداخل والخارج من عنده.2 " ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن نفسه في رسالته التي بعث بها إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف"وليست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم" ... إلى أن قال "بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأدعو إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني.3

_ 1 مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجلد الخامس الرسائل الشخصية، الرسالة رقم 73 ص252. 2 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 91. 3 القسم الخامس /الرسائل الشخصية من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص252.

ومبادئ الدعوة الإصلاحية قد تضمنت جوانب الحياة كلها والاهتمام بالفرد ذكرا كان أو أنثى فردا أو جماعة. ومؤلفات الشيخ شملت أصول الدين وفروعه ومسائل متفرقة في العبادة والمعاملات والقضاء وفض المنازعات وغيرها. والقيادة السياسية التي أقامتها هذه الدعوة عنت بجوانب الحياة كلها عقيدة وشريعة وسلوكا ونظام حياة متكاملة مراعى فيها حق الفرد والجماعة وواجب كل منهما ورعاية أمور الدين والدنيا جميعا. 3- أنها تربية متكاملة: فهي لا تعني بتربية الروح على حساب العقل أو بتربية العقل على حساب الوجدان ولكنها تربية متكاملة تتناول جوانب الشخصية من جميع الجهات، فهي تعني بالعقل إذ تغذيه بالعلم وتحركه بدعوتها إلى التفكير والتدبير في آيات الله ومخلوقاته وعظمته، وتعني بالروح وتزودها بالطاعات وتأدية فرائض رب العالمين وتغذي الوجدان بتنمية روح المحبة والتعاون مع المؤمنين في الطاعة والكره للمعاصي وأهلها والبدع والمكبين عليها وهي تهتم بتكوين الفرد الصالح والمجتمع الفاضل والأمة القوية والقيادة الراشدة. فمدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومؤلفاته وآثاره في منهاجه التربوي العام أو التعليم المتخصص عنيت عناية تامة بالنص الشرعي وفهم مراد الله منه على ضوء فهم الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ودلالة اللسان العربي وجعله هو الأصل الذي يقاس به أفعال الناس وتصرفاتهم وتوزن به آراء الرجال وتحرير العقول من التقليد الأعمى والتعصب للمذهب والشيخ والطريقة والرد عند التنازع إلى الكتاب والسنة وفي ذلك يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته إلى إسماعيل الجراعي في اليمن فيما نسب إلى الشيخ محمد بأنه لا يعمل بكتب المتأخرين من الفقهاء فقال: "وأما المتأخرون رحمهم الله فكتبهم عندنا فنعمل بما وافق النص

منها ومالا يوافق النص لا نعمل به.1 وقال في رسالة أخرى بعث بها لعبد الله بن سحيم مطوع أهل المجمعة ما نصه: "إن أهل العلم إذا اختلفوا والجهال إذا تنازعوا ومثلي ومثلكم إذا اختلفنا في مسألة هل الواجب اتباع أمر الله ورسوله وأهل العلم أو الواجب اتباع عادة الزمان التي أدركنا الناس عليها ولو خالفت ما ذكره العلماء".2 وهو استفهام إنكاري لأمر يعد من بديهيات العلم الشرعي. وفي كتاب ثلاثة الأصول للشيخ محمد رحمه الله تعالى: "فإذا قيل لك بم عرفت ربك فقل بآياته ومخلوقاته ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ومن مخلوقاته السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهما"3 ثم ساق الأدلة الشرعية على ذلك. وأخذت هذه الدعوة بمبدأ الولاء والبراء ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعتماد الجهاد والعلم والعمل في هذه الحركة بين كذلك صور مكونات هذا التكامل وكذلك توجيه الدعوة إلى الفرد والجماعة بل مخاطبة الذكر والأنثى في منهاج هذه الحركة الإصلاحية كلها تجسد هذا التكامل الذي يعد إحدى خصائص هذه الحركة. 4- الربط بين العلم والعمل: فإن هذه التربية وإن كان ترى ضرورية البدء بالعلم قبل القول فإنها دعوة عملية في جوهرها وصميمها ترى أن العلم لا يسمى علما حقيقيا حتى يقترن بالعلم المطابق له وإلا كان علما غير نافع. فهي ترى ضرورة توظيفه في الحياة بما يحقق

_ 1 القسم الخامس الرسائل الشخصية من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 101. 2 المرجع السابق، ص 62. 3 ثلاثة أصول بحاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 27، 28.

صلاح الفرد وإصلاح المجتمع وجعلهما متلازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر ولكن العلم يكون موجها وضابطا والعمل يكون تابعا ومحركا فاعلا. ويوضح هذا الترابط بصورة جلية ما صدر به الشيخ محمد بن عبد الوهاب كتابه القيم المعروف بثلاثة أصول حيث صدر هذا المؤلف بما يتفق والمحور الأساسي للدعوة الإصلاحية وهو ما عبرنا عنه بالمناهج التربوي العام في هذا البحث قال رحمه الله: "اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل الأولى العلم وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة، والثانية العمل به، والثالثة الدعوة إليه، والرابعة، الصبر على الأذى فيه. والدليل قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْعَصْرِ إن الإنسان إِنَّ الْإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 1 فهذه المسائل الأربعة التي ذكرها الشيخ في صدر كتابه المعروف بثلاثة الأصول ودليلها هذه السورة التي قال الإمام الشافعي فيها:"لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم"إذ أنها تضمنت الدين كله فدل على مدى الربط الشديد بين العلم والعمل في هذه الحركة الإصلاحية وأنه لا ينفك أحدهما عن الآخر عنده وسيرة الحركة العملية تجسد هذه التلاحم بين العلم والعمل في هذه الدعوة. 5- أنها تربية تعني بالدين والدنيا معا: فهي لا تعرف الانفصام بين أمور الدين وشئون الحياة ونظام الحكم ولا بين المصحف والسيف ولا بين ما لله وما خلقه بل أنها دعوة إصلاحية كاملة قوية التلاحم بين هذه الأمور كلها وتعني بالأمور الدينية والدنيوية وبأمور الحياة والآخرة وبالماديات والمعنويات على السواء تحقيقا لمراد الله من خلقه ورجوعا بالأمة المسلمة إلى حياة سلفها في الصدر الأول دون زيادة أو نقص وبلا تحريف أو تبديل.

_ 1 حاشية الثلاثة الأصول للشيخ محمد بن عبد الوهاب بقلم الشيخ عبد الرحمن بن قاسم ص 9- 13.

فقد ذكر المؤرخ ابن بشر رحمه الله بعض ما دار بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود عند ما قابله لأول مرة في الدرعية قال ابن بشر:"ثم أخبره الشيخ بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دعا إليه وما عليه أصحابه رضي الله عنهم من بعدهم وما أمروا به وما نهوا عنه وأن كل بدعة بعدهم ضلالة "1 ثم قال ابن بشر رحمه الله "فلما تحقق محمد – الأمير – معرفة التوحيد وعلم ما فيه من المصالح الدينية والدنيوية قال له: يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لاشك فيه وأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد" 2 ثم قال ابن بشر:"ثم إن محمدا بسط يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "3 فهذا النص التاريخي بين أن هذه الدعوة لرد الناس إلى الله وتجديد ما أندرس من معالم دينه بشموله وكماله الذي قال الله فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} وقوله سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . والمعروف من حياة الشيخ محمد بن عبد الو هاب وسيرته ودعوته ومؤلفاته أنها دعوة عامة شاملة للإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي وغيرها ومناهجه التربوي العام والخاص يؤكد هذه الحقيقة والواقع العملي الذي تمخض عن هذه الحركة يترجم هذه الحقيقة في صورتها الشاملة. 1- أنها تربية واقعية بصيرة: فهي تنطلق من واقع الحياة الاجتماعية والدينية في نجد تشخص أدواءها وتحدد

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 12. 2 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ص12 ج1. 3 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ص12 ج1.

أمراض مجتمعها تشخيصا دقيقا تتبين منه مواقع الخطأ ومبعث الانحراف ودرجة الخطورة ومن ثم تصف الدواء الناجع لشفاء المجتمع من أمراضه وتعين مواضع الفساد التي يجب أن تعالج وتقدم الدواء بالقدر المناسب بعد اختبار إمكاناتها وقياس درجة قدرتها على تحقيق مرادها في الوقت والمكان المناسبين اسمع صاحب الدعوة وهو يقول: "وأهل العلم يقولون الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج إلى ثلاث: 1- أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه. 2- أن يكون رفيقا فيما يأمر به وينهى عنه. 3- صابرا على ما جاءه من الأذى وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا وعمل به1 ثم بين لأتباعه في حوطة السدير خطوات إنكار المنكر وما ينبغي أن يكون عليه من التدرج فيقول في الرسالة نفسها:"الجامع لهذا كله أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره أن ينصح برفق خفية ما يشترف أحد فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلا يقبل منه بخفية فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا إلا إن كان على أمير ونصحه ولا وافق واستلحق عليه ولا وافق فيرفع الأمر يمنا خفية"2 بل قال في هذه الرسائل نفسها:" وأيضا يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسبب افتراق لم يجز إنكاره3 وقال في الرسالة التي بعث بها إلى عبد الرحمن بن عبد الله السويدي في العراق ما نصه:"وأخبرك أني ولله الحمد متبع ولست بمبتدع عقدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة واتباعهم إلي يوم القيامة لكني بينت للناس إخلاص الدين لله ونهيتهم عن دعوة الأحياء

_ 1 مجموعة الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبد الوهاب ص 296 في الرسالة التي بعث بها إلى أهل سدير. 2 القسم الخامس من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 296, 297, 3 القسم الخامس من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 296, 297,

والأموات من الصالحين وغيرهم"000إلى أن قال: "فأنكر بعض الرؤساء لأنه خالف عادة نشأوا عليها"1

_ 1 مجموعة الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبد الوهاب الرسالة رقم 5 ص 36.

الفصل الخامس: المعارضون وشبهاتهم

الفصل الخامس: المعارضون وشبهاتهم المعارضة على الدعوة ... الفصل الخامس: المعارضون وشبهاتهم أولا- المعارضة للدعوة: لما جهر الإمام محمد بن عبد الوهاب بدعوته أثناء رحلاته بين الحرمين الشريفين والبصرة والاحساء ونجد صار الناس أمام دعوته بين مؤيد ومعارض ولما استقر في حريملاء ثم بدأ دعوته في نجد عام 1153 استحسن بعض الناس دعوته وعارضها آخرون وبدأت المعارضة من أقرب الناس إليه من أخيه لأمه1 وأبيه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب ثم بدأت المعارضة تتسع وتشتد حتى تم السطو على الإمام في بيته ليلا لقتله أملا من الخصوم في الراحة ثم رحل منها مضطرا إلى بلدة العيينة وهي يومئذ من أكبر الإمارات في وادي حنيفة فزاد اتباعه فيها وتوسعت المعارضة ضده حتى جاءت التهديدات الشديدة من قائد الاحساء إلى أمير العيينة لإيوائه الشيخ وسماحه له بالدعوة على ما بين العيينة والاحساء من بعد المسافة وصعوبة الاتصال – حتى اعتبر أن مجرد إيوائه وإبقائه في العيينة جريمة لا تغتفر تعرض نفسه وإمارته للخطر والدمار وأن عليه أن يقتله ويريح الناس منه ولا يكتفي بمجرد إخراجه من بلاده مما أضطر أمير العيينة لمصارحة الإمام وإشعاره بوجوب الخروج من بلده إلى أي جهة يريدها لأنه لا قبل له بأمير الاحساء وضغط المعارضة الشديدة عليه. ومع أن الشيخ رحمه الله حاول تثبيته على الحق ووعده بالنصر إلا أن الخوف قد بلغ بأمير

_ 1 رجع الشيخ عن معارضته للدعوة الإصلاحية وكتب في تأييدها بعد ذلك، انظر: مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام، للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، ص 105.

العيينة مبلغه وضغط المعارضة عليه قد أفقده صوابه فأكد على الشيخ بالخروج من بلاده فخرج الشيخ من العيينة متجها إلى الدرعية عارضا نفسه على أميرها وأهلها. فوجد منه قبولا وتأييدا ومؤازرة وتم بينهما العهد الميمون على إيواء الدعوة الإصلاحية وتأييدها والذود عنها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. فلما استقر مقام الدعوة في الدرعية واشتد ساعدها في مقامها الجديد بتوافد طلاب العلم عليها وكثرة المهاجرين إليها، أعلنت دعوتها وتصميمها على المضي غايتها بلا تردد ولا تأخير ولا مهادنة. وعرفت المعارضة ذلك منها كما عرفت خطورتها على الأوضاع السائدة في المنطقة وقت قيامها. واشتدت المعارضة ضدها وجمعت صفوفها في وجهها ونشرت قالة السوء عنها ونشطت في صد الناس عنها وتكتلوا ضده وتنادوا للقضاء عليها في مهدها حتى دخلت المعارضة مرحلة الهجوم المسلح ضد الدعوة وأنصارها في الدرعية وذلك على يد أمير الرياض وقتها دهام بن دواس وأهل الرياض ومنفوحة والخرج وغيرهم وظلت الحرب بين حركة الإصلاح والتجديد وبين المعارضة في نجد سجالا سنين طويلة. ولم تقف هذه الحرب والصراع بين الدعوة وخصومها في نجد عند قدرتها وإمكاناتها المحلية بل تعدتها إلى مراكز القوي في العالم الإسلامي في الحجاز والعراق واليمن والخليج العربي على يد الخلافة العثمانية التي أخذت على عاتقها القضاء على هذه الدعوة والإجهاز عليها وإطفاء نورها باعتبارها حركة انفصالية تهدد وجود الخلافة العثمانية في شبه جزيرة العرب وتنذر بحركات انفصالية في أجزاء أخرى من الخلافة العثمانية التي بدأ يدب إليها الضعف والوهن في عصورها المتأخرة. ولهذا فإن المعارضة بدأت محلية محدودة ثم توسعت دائرتها حتى شملت قوى خارجية ذات إمكانات هائلة ونفوذ واسع، مما يمكننا معه القول بأن المعارضة كانت على مرحلتين هما المعارضة الداخلية والمعارضة الخارجية.

المعارضة الداخلية

1-المعارضة الداخلية: بدأت المعارضة الداخلية في العارض وقاعدته الرياض ومنفوحة ومعكال ثم امتدت وتوسعت دائرتها في بقية أقاليم نجد تبعا لتوسع قاعدة الدعوة حتى شملت الخرج وضرماء وحريملاء وثرمداء وأقاليم سدير والوشم والقصيم وغيرها من أقاليم نجد، وبالرغم من اشتداد المعارضة وعنف مقاومتها إلا أن ميزان القوى كان يميل في صالح الدعوة وأنصارها يوما بعد يوم والمعارضة تفقد مواقعها واحدا بعد الآخر في حرب أهلية شرسة ومستمرة. وكان يتزعم المعارضة الداخلية بعض الأمراء الظلمة وعلماء السوء في كل من الرياض ومنفوحة وأقاليم الخرج وسدير والوشم والقصيم وغيرها. وقد بدأوا الحملة الإعلامية المضادة للدعوة بما روجوه بين العامة من خروج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن جادة الحق، وبما أشاعوا عنها من أخبار كاذبة ودعايات مغرضة، وبما ألفوا ضدها من كتب، وبما أصدروا من نشرات، وبما كتب لهم بعض علماء البصرة والاحساء والحرمين الشريفين من رسائل تندد بهذه الدعوة ووصفها بكل النقائص، وتحاول تثبيت الناس على ما هم عليه وتصدهم عن قبول الدعوة الإصلاحية الجديدة، وتحثهم على المقاومة بكل الوسائل: تقرأ هذه الرسائل في المساجد بعد الصلوات، وفي المجالس العامة والخاصة. وقد آزر هؤلاء الأمراء والعلماء قائد منطقة الاحساء وكانت من أقوى الإمارات وأغنى المناطق القريبة من نجد وأوفرها خيرا ومادة. ولكن كل هذه الجهود والأعمال التي كانت تقوم بها المعارضة على ضخامتها لم تستطع القضاء على حركة الإصلاح ولم تثن عزمها عن المضي إلى غايتها بكل قوة بل ظلت تعطي من نفسها لهذه الدعوة وتقدم من البدل والتضحيات ما جعلها تتفوق على خصومها- بعد تأييد الله لها وتوفيقه للقائمين عليها- واستمرت الدعوة في مدها المستمر في كل الاتجاهات حتى وصلت سواحل الخليج العربي، وأخضعت كل أقاليم نجد بل دخلت الحرمين الشريفين فاتحة منتصرة تنشر راية التوحيد، وتعلن

مبادئ الدعوة الإصلاحية الجديدة في مواسم الحج وفي كل مكان من شبه جزيرة العرب حتى أدركت الخلافة العثمانية خطرها الشديد عليها وتهديد وجودها في كثير من البلاد المجاورة لها. فأخذت تدرس هذا الأمر بكل عناية وتخطط لمعالجة المستجدات في الحرمين الشريفين وشبه جزيرة العرب. والمعارضة الداخلية هذه كانت تقوم على نظرة دينية وتصور مناقض لحركة الإصلاح والتجديد وتستند في معارضها على اعتبارات متعددة منها السياسي والإقليمي والعلمي والمالي والشخصي وكلها تلتقي على رفض دعوة الإصلاح والوقوف في وجهها والعمل على إجهاضها. وتبذل كل الوسائل للحفاظ على الأوضاع القائمة وقت الدعوة وعدم المساس بها من قريب أو بعيد. وأهم الاعتبارات التي بنت عليها المعارضة الداخلية موقفها من حركة الإصلاح ما يلي: 1- اعتبار سياسي: وهو أن الدعوة لها شيخ وإمام والدعوة تقتضي من المدعوين الطاعة والامتثال لمبادئ الدعوة والدخول تحت طاعة أميرها. وهذا في حد ذاته بسط لنفوذ إمام الدعوة على الإمارات المجاورة له. وهذا يعني سلب هذه الإمارات سيادتها على أرضها وجماعتها وخضوعها لسيادة الدعوة وإمامها. ولهذا فإن بعض المطاوعة في نجد اعتذر من عدم قبول الدعوة لأن أميرها لم يقبل مثل ما ذكر الشيخ رحمه الله في الرسالة التي بعث بها إلى مطوع مرات أحمد بن إبراهيم حيث قال فيها: "وأما قولك أبغي أشاور إبراهيم فلاودي تصير ثالثا لابن عباد وابن عيد، أما ابن عباد فيقول أي شيء أفعل بالعناقر – أمراء ثرمداء – وإلا فالحق واضح ونصحتهم وبينت لهم. وابن عيد أنت خابره حاول إبراهيم في الدخول في الدين وتعذر من الناس أن إبراهيم ممتنع. يا سبحان الله إذا كان أهل الوشم وأهل سدير وغيرهم يقطعون أن كل مطوع في قرية لو ينقاد شيخها ما منهم أحد يتوقف"1

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ الرسائل الشخصية الرسالة رقم 31. ص 207.

فهذا يدل على أن الاعتبارات السياسية كانت أحد أهم العوامل التي دعت إلى الاختلاف مع دعوة الإصلاح ورفض امتدادها ومحاربتها للحد من نفوذها. 1- اعتبارات إقليمية: فإن الناس في المراكز العلمية في الحرمين الشريفين وفي الشام ومصر والعراق والبصرة والاحساء ينظرون إلى إقليم نجد بأنه إقليم متخلف ثقافيا لا يجوز أن ينقاد الناس لأهله ويتلقوا التوجيه منه ويقبلوا منه ما يخالف ما في حياتهم عبر أجيال مضت. وقد أشار الشيخ إلى هذا المعنى في الرسالة التي بعث بها إلى محمد بن سلطان فقال: "لا يخفاك أني أعرض هذا من سنين على أهل الاحساء وغيرهم وأقول كل إنسان أجادله بمذهبه فإن كان شافعيا فبكلام الشافعية وإن كان مالكيا فبكلام المالكية أو حنبليا أو حنفيا فكذلك. فإذا أرسلت إليهم ذلك عدلوا عن الجواب لأنهم يعرفون أني على الحق وهم على الباطل وإنما يمنعهم عن الانقياد التكبر والعناد على أهل نجد" وقال في الرسالة نفسها: "وكن على حذر من أهل الاحساء أن يلبسوا عليك بأشياء لا ترد على المسألة أو يشبهوا عليك بكلام باطل"1 وهذا النص يدل على نظرة عامة عند بعض العلماء في الأمصار إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكونه من أهل نجد ذلك الإقليم الذي انعزل عن العالم الإسلامي منذ القرن الخامس للهجرة النبوية أو كاد. 2- اعتبارات علمية: وذلك أنه لما قامت دعوة الإصلاح في نجد، ودعت إلى إبطال كثير مما كان مألوفا عند الناس في نجد، ووصفت الإصرار عليه بالكفر أو الشرك أو البدعة أو المعصية، صار موقف العلماء حرجا جدا أمام الجمهور الذي يتساءل إذا كان الشيخ على حق فلماذا لم تقولوا ذلك قبله بل تركتم الناس في هذا الضلال، وإن كان ما

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسالة رقم 21، ص 144, 145.

يقوله باطلا فلماذا لا تدحضونه وتفندون أقواله. وهذا الاعتبار عبر عنه الشيخ محمد في عدة رسائل مثل الرسالة التي بعث بها جوابا للشيخ عبد الله بن سحيم في المجمعة في بيان سبب رفض الشيخ سليمان بن سحيم مطوع أهل الرياض الدعوة ومناصبتها العداء قال فيها رحمه الله: "وذلك أن العامة قالوا له وبأمثاله إذا كان هذا هو الحق فلأي شيء لم تنهونا عن عبادة شمسان وأمثاله فتعذروا، إنكم ما سألتمونا قالوا وإن لم نسألكم كيف نشرك بالله عندكم ولا تنصحونا وظنوا أن يأتيهم في هذا غضاضة وأن فيه شرفا لغيره "1 ولما كان السكوت عما عليه الناس قد حصل حتى قامت الدعوة وفات أوان الأخذ به فلم يبق إلا الاعتراض على الدعوة وشيخها وتأليب الناس ضده، وتبرير جواز ما يمارسونه، ووصف الدعوة الإصلاحية بالغلو والمبالغة في وصف الواقع العملي في مقرها وما حوله. 1- اعتبارات تتعلق بعوائد مالية2: فإن شيوخ الطرق والصوفيين الموجودين في المنطقة وسدنة القبور وكتاب الطلاسم التي يستشفى بها الناس والتمائم التي تعلق على الأولاد وغيرها لهم ربح مادي من الأفراد والأوقاف على تلك المرافق باعتبارها أعمال بر في نظر أربابها وفي إبطال هذه البدع والقضاء على هذه المظاهر تأثير مباشر على امتيازات وعوائد مالية تدر ربحا على القائمين بهذه الأعمال ليس من السهل التخلي عنها لمجرد دعوة يقوم بها شيخ حديث العهد بالحياة العلمية والاجتماعية، ولأجل هذه المصالح والخوف عليها اشتدت معارضة أصحابها للدعوة الإصلاحية في نجد ورموا صاحبها بكل داهية واتصلوا بشيوخهم في الأمصار لإعانتهم على الشيخ ودعوته بالكتابة ضده وإصدار الفتوى عليه ومحاولة إيقاف مد دعوته. وقد بذلت جهود عظيمة في هذا

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 11ص 63. 2 انظر ص 27 من هذا الكتاب 0000

السبيل حفاظا على الكانة الاجتماعية لأصحابها هذه البدع والعوائد المادية التي تصلهم عن طريق قيامهم على هذه الأعمال. هذه هي أهم أسباب اختلافهم الناس المعاصرين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع الدعوة ووقوف بعض الأمراء وبعض العلماء وجملة من العامة في وجه الدعوة الإصلاحية إلى جانب أسباب أخرى يجدها الباحث مثبتة في كتابات الشيخ رحمه الله والمعاصرين له. أما مظاهر هذه المعارضة فيمكن تلخيصها في أمور منها: 1- الاستهزاء والسخرية وإغراء العامة بها وبأتباعها. 2- نشر الدعايات الكاذبة المغرضة عن إمامها بين أوساط الناس. 3- كتابة الكتب والرسائل وبعث البعوث للأمراء والعلماء في المدن والقرى والبوادي ضد هذه الدعوة وأتباعها وإمامها. 4- التضييق عليها بقطع الإمدادات والمؤن والمساعدات وحصارها اقتصاديا 5- حمل السلاح ضدها واستحلال دم أتباعها 6- السعي ضدها لدى الخلافة العثمانية ودولة الأشراف في الحجاز والولاة في الشام ومصر والعراق واليمن وغيرها وإثارة الشبه حولها ودعوة الناس إلى حصارها والقضاء عليها. وقد صاحبت هذه المظاهر قيام الدعوة واستمرت معها حتى أظهرها الله:

المعارضة الخارجية

1- المعارضة الخارجية: وتتمثل في الدرجة الأولى في الباب العالي للخلافة العثمانية في تركيا وفي ولايتها في مختلف الأقاليم الإسلامية وفي بعض علماء المسلمين خارج منطقة نجد، ومن المعلوم تاريخيا أن الخلافة العثمانية اكتفت ببسط نفوذها على الحرمين وعلى سواحل البحر الأحمر والخليج العربي والاحساء والعراق والشام ومصر وسواحل البحر العربي. أما وسط شبه جزيرة العرب فإنه فقد السلطة السياسية بعد القرن الخامس

الهجري ولم تعره الخلافة العثمانية أي اهتما يذكر لاعتبارات كثيرة منها قلة موارده المالية، وصعوبة مسالكه، وكلفة السيطرة على سكانه مع التكتلات القبلية القائمة في هذه المنطقة، واضطراب حبل الأمن فيها ونفور سكانها من العناصر الأجنبية عليها إلى جانب اتساع رقعتها وصعوبة ضبطها ولهذا تركت هذه المنطقة مهملة طيلة العهد العثماني لم تمتد إليها يد الإصلاح ولم تصلها رحمة حانية من الولاء بل تركت وشأنها ليكن النفوذ فيها للأقوى من أهلها ولهذا استقل كل أمير ببلده وكل رئيس عشيرة بقبيلته. ولما بدأت حركة الإصلاح والتجديد في نجد لم تعرها الخلافة العثمانية في بدء قيامها أي اهتمام بل تركتها تتصارع مع قوى المعارضة الداخلية دون تدخل يذكر من الخلافة العثمانية وكل ما كان من تدخل من خارج المنطقة إنما كان يتمثل في بعض الرسائل والكتب التي أصدرها وكتبها العلماء في البصرة والشام والحرمين الشريفين واليمن وغيرها ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته. وقد أعطى تأخير تدخل المعارضة الخارجية فرصة جيدة لحركة الإصلاح في نجد للامتداد والتوسع وجمع الأنصار وزيادة الأتباع. ولما وصل مد الدعوة إلى الحرمين الشريفين وسواحل الأحمر والخليج العربي وأطراف الشام والعراق وأعلنت مبادئ الدعوة في مواسم الحج وفي المناسبات الإسلامية وحصل الاحتكاك المباشر مع ولاة الخلافة العثمانية في الخليج والبصرة والحرمين الشريفين والمحمل المصري والشامي وغيرها، وبدأت الخلافة العثمانية تنظر لهذه الحركة نظرة جادة وخطيرة، وبدأت تخطط لمحاصرة هذه الدعوة وتقليص نفوذها وتأييد المعارضين لها في الداخل والخارج، ورسم سياسة إعلامية واستراتيجية وعسكرية لمواجهة هذه الدعوة والإجهاز عليها. واعتبرت هذه الحركة حركة سياسية ودينية انفصالية خطيرة تهدد وجودها في شبه جزيرة العرب وتنذر بقيام حركات انفصالية في أقطار أخرى من العالم، وأن على الخلافة العثمانية أن تحافظ على قوتها وهيبتها أمام جميع القوى المعاصرة لهذه الدعوة ولن يكون إلا بتأديب الخوارج

على سلطانها والرد على هذه الدعوة الوليدة بكل قوة ليتأدب يناله منه كل من تسول نفسه له الخروج وخلع طاعتها. وكانت لهذه المعارضة الخارجية دوافعها الخاصة بها ومبرراتها التي تشترك فيها مع المعارضة الداخلية، ويمكن إيجاز أهم دوافع المعارضة الخارجية في النقاط التالية: 1- اعتبار حركة الإصلاح والتجديد في نجد حركة سياسية دينية انفصالية غير مشروعة في ظل خلافة إسلامية قائمة وأنها استولت على أجزاء مهمة من الخلافة العثمانية مثل الحرمين الشريفين وبعض الثغور المهمة وأن في ذلك انتقاصا للخلافة وانتزاعا لبعض ممالكها بغير وجه حق، وهي خطر يهدد بقية أقاليم الخلافة بالانفصال والخروج، ونذير خطر، بتصدع الخلافة وتقطيع أوصالها، وبادرة خطيرة لا يمكن السكوت عليها أو السماح ببقائها. 2- أن المعلومات التي توافرت للمعارضة الخارجية عن هذه الحركة أنها حركة غلاة متطرفين في الدين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم وتصدهم عن دينهم، وأن واجب الخلافة العثمانية تطويع هذه الحركة وحفظ دماء المسلمين وأموالهم من خطرها، وتأمين رعاياها من أفكار هؤلاء الغلاة الخوارج على الدين ودولة الخلافة. 3- أن واجب الخلافة العثمانية نصرة أتباعها في المنطقة الذين ظلوا على السمع والطاعة وتعرضوا للأذى في سبيل دينهم والسمع والطاعة لدولة الخلافة. 4- أن الدين يقتضي القضاء على الفئات الخارجية عن الطاعة المفرقة لجماعة المسلمين وإمامهم، والمنكرة لما هم عليه من عقائد ومواضعات موروثة مما هو سائد في كثير من الأقاليم الإسلامية من غير نكير. هذا ومع أنني تتبعت رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وقرأتها أكثر من مرة كما اطلعت على معظم كتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الأخرى ومؤلفاته ورغبتي الشديدة في معرفة منهجه السياسي في الحكم ورده على ما أثارته المعارضة الخارجية ضد دعوته من أنها حركة انفصالية غير مشروعة عن خلافة إسلامية قائمة مع ما أعرفه من عقيدة أهل السنة والجماعة من وجوب السمع والطاعة لولاة أمر

المسلمين برهم وفاجرهم ووجوب ما لم يأمروا بمعصية أو يأتوا بكفر بواح ووجوب الصلاة خلفهم والجهاد معهم والصبر على مظالمهم وتحريم الخروج عليهم إلى آخر ما تضمنته عقيدة السلف في ذلك من قيود مشددة في باب الإمامة وقد سبق بيان عقيدة الشيخ محمد رحمه الله، هذا على سبيل الإيجاز في الفصل الثالث، مع كل ذلك لم أعثر على أي كلام للشيخ محمد رحمه الله في هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد يرد فيه على هذه المقولة أو يشرح فيها وجهة نظره في هذا الأمر. وأعتقد أن هذا من كمال فقهه وتمام عقله إذ أن مذهب السلف هو وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية أو يأتوا بكفر بواح عندهم فيه من الله برهان. ومذهب السلف رحمهم الله في الإصلاح هو تربية العلماء العاملين وتكثير عددهم وقيامهم بواجب التعليم والتربية في صفوف المسلمين وتقديم النصيحة الصادقة والخالصة الجريئة لأئمة المسلمين وعامتهم، وربط الفرد بهذا الدين وتربيته على الصراحة وقول الحق ورفض الباطل وتقديم النصيحة في كل الأحوال والمواقف. فإذا صلح الأفراد وصار الشارع مسلما وتوافر العلماء العاملون المجاهرون بالحق المقدمون للنصيحة كان ذلك أكبر ضمان لسلامة الأمة والبعد عن ظلم الحكام وتحقيق استقامة الحياة وعدم إتاحة الفرصة لأهل الأهواء بإحداث الفوضى في الخلافة الإسلامية.1 والمسلمون اليوم مع بالغ الأسف يتخبطون في منهجهم السياسي فيأخذون بمذهب الشيعة تارة وبمذهب الخوارج تارة ويجمعون بينهما تارة أخرى من حيث يشعرون أو لا يشعرون ذلك أن منهج الشيعة السياسي يقوم على المعارضة السياسية للخلافة وإمامها،

_ 1 وأتباع مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب منذ بدء حركة الإصلاح حتى اليوم لم يضعوا أنفسهم في موقف المعارضة بل كان موقفهم الناصح والمشير المساعد على الخير الصريح في الإنكار بأدب وفي سرية.

فلا يفترون في معارضتهم الوضع السياسي وقيامهم في وجه الخليفة على مر العصور. والخوارج يعتمدون في منهجهم السياسي على الثورات المسلحة والهجمات المضادة للخلافة. أما الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فلم يرد على هذه المقولة بشيء ولا نعرف سبب إعراضه عنها. وقد يقال إن هذا الإعراض غير وارد على الدعوة التي قامت في وسط شبه الجزيرة العرب، وهي بقعة من أرض الإسلام لم تمتد إليها يد الخلافة ولم تقم بواجبها نحوها بأي شكل من الإشكال بل تركتها فريسة للفوضى السياسية والاجتماعية والدينية وغيرها. فإذا قام أهلها بما يصلح حياتهم ويصحح عقيدتهم ويؤمن خائفهم ويحفظ بلادهم مما لم تجعل الخلافة العثمانية ذلك كله من مسئولياتها فهل يكون لها حق لاعتراض على أهل أرض متروكة مهملة ومتى اعتبرتهم الخلافة من رعاياها حتى تعترض على خروجهم عنها. أما ما بلغ الخلافة العثمانية عن حركة الإصلاح والتجديد من أنها حركة غلاة وخوارج على الدين يستحلون دماء المسلمين وأمولهم ويصدون عن سبيل الله، فإن هذا المنطق هو منطق المعارضة الداخلية التي رفضت قبول الدعوة لأسباب مشابهة لأسباب المعارضة الخارجية. فإن المعارضة الداخلية من أسباب رفضها للدعوة أن الدخول في الدعوة يعنى الخضوع لأميرها والسمع والطاعة له والمعارضة الخارجية ترفض استمرار قيام هذه الدعوة لأن قيامها يعني الخروج على سلطان الخلافة العثمانية. والمسألة مأخوذة على أنها سياسية وخروج على الخلافة. ولو كانت مسألة دينية لوجب مناقشة كل ما أثير حول هذه الحركة وإجراء جوار علمي يهدف إلى الوصول إلى حقيقة ما أثير حول هذه الدعوة وإمامها. فإن ظهر أنها على الحق وجب الكف عنها، وإن ظهرت أنها حركة خوارج – كما يقال – أمكن القيام ضدها وصار الواجب الرجوع في تحقيق هذه المسألة الدينية إلى نصوص الشريعة كتابا وسنة وإجماعا واجتهادا على يد علماء الشريعة لا على يد السياسيين والعسكريين فقط. ومن أجل هذا وغيره التقت مصالح المعارضة الخارجية والداخلية على الإجهاز على هذه الدعوة والقضاء على قادتها. ومن أجل ذلك أصدرت الفتاوى الشرعية،

وقامت بالحملات الإعلامية، وجهزت الجيوش الضاربة للقضاء على هذه الدعوة في عقر دارها. ولكن هذه الدعوة كانت قد أخذت مكانها في النفوس ومستقرها من القلوب. وإذا كان في تعدد الحملات العسكرية تحقيق النصر السياسي أحيانا فليس في مقدورها القضاء على القضاء على الدعوة كفكر وعقيدة وحق. ومظاهر هذه المعارضة شبيهة بمظاهر المعارضة المحلية التي تتلخص في الأمور التالية: 1- تسخير وسائل الدعاية والإعلام ضد هذه الدعوة وإعطاء المسلمين عنها فكرة سيئة من الوجهة الإسلامية الصرفة. 2- إصدار الفتاوى الشرعية ضد هذه الحركة وأتباعها ورميها بما ليس فيها. 3- محاصرتها اقتصاديا وقطع المعونات عنها. 4- مؤازرة خصومها بالمال والسلاح. 5- تأليف الكتب والرسائل والنشرات من كبار علماء المسلمين في بلاد كثيرة اعتمادا على ما بلغهم عن طريق الخلافة العثمانية وبما كان مجافيا للحقيقة. 6- الحملات العسكرية التدميرية المركزة.

مسائل الخلاف

مسائل الخلاف ... ثالثا- نقاط الاختلاف بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومعارضيه: ولما جهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوته الإصلاحية في نجد عام 1153هـ بعد أن حدد أهدافها ووسائلها ومبادئها وبدأ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويطرح مفاهيم هذه الأصل من الأقوال والأفعال في ممارسات الناس اليومية ورسم طريق الخلاصة بينها وبين ما ينبغي الأخذ به وما ينبغي الكف عنه ووجوب تعليم الجاهل وتذكير الناسي وبيان حقيقة التوحيد وطريق تحقيقه وتعريف ما يناقضه من أنواع الشرك الظاهر والباطن. وأنه بعد تعليم الجاهل وتذكير الناسي وتنبيه الغافل وبيانه أحكام كل

الممارسات القائمة في المجتمع مما يعد مخالفا للنصوص الشرعية ودعوة الناس إلى العدول عن كل مخالفة وإلا جاز أن يطلق على كل فعل من الأفعال الحكم الشرعي المناسب له حسب أدلة النصوص ومقتضياتها في ضوء فهم الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأتباعهم بإحسان إلى يوم دعوة الشيخ، فلما وجد إصرار من بعض العلماء والمطاوعة والأمراء وبعض العامة على معاداة الدعوة ومظاهرة أعدائها عليها، رتب على هذه الأفعال والمواقف والممارسات أحكاما شرعية وأصدر كتبه وفتاواه تنطق بهذه الأحكام فسمى الشرك باسمه والبدعة باسمها وكل قول أو فعل أو ممارسة أو موقف باسمه كذلك، وكانت هذه الأحكام في نظر المعارضين للدعوة أحكاما قاسية تصف بعض الأقوال والأفعال والتصرفات والمواقف بالشرك أو أنه ناقض من نواقض الإسلام، وتسمي بعض الأشخاص بالمشركين لما أظهروا الإصرار على دعوة غير الله مع الله ودعوة الناس إليه وتأييدهم في أفعالهم الشركية، كما وصفت بعض الأقوال والأفعال والتصرفات بالبدعة والمصرين عليها بالمبتدعة. وبدأ الاختلاف مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وخصومها في اتجاهين رأسين هما: 1- مسائل علمية تتصل بالإيمان والتوحيد والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتكفير والاجتهاد والتقليد ومناقشة الأدلة في ذلك كله. 2- ممارسات عملية تتصل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود والجهاد والعدل في الميراث وهدم البناء على القبور وغيرها. أما المسائل العلمية التي اختلف فيها خصوم الدعوة مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب فهي كثيرة وقد حددت لنا مؤلفات الشيخ محمد رحمه الله ورسائله الشخصية تارة وعلى شكل بحوث وقواعد عامة ليست موجهة لأحد بعينه ولكنها تناقش القضايا المختلف عليها بصورة غير مباشرة تارة أخرى ونود هنا قصر نقاط الاختلاف على الأمور التي صارت فيها مكاتبات شخصية في مسائل محدودة ومنها على سبيل المثال ما يلي:

1- الاختلاف حول أول واجب على المكلف: فيرى الشيخ محمد بن عباد مطوع ثرمدا أن أول واجب على كل ذكر وأنثى النظر في الوجود ثم معرفة العقيدة ثم علم التوحيد. ويرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن هذا خطأ وأن هذا من علم الكلام الذي ذمه السلف وإنما الذي أتت به الرسل أن أول واجب هو التوحيد وليس النظر في الوجود ولا معرفة العقيدة 1 2- الاختلاف في تعريف الإيمان: يقول محمد بن عباد: إنه التصديق الجببازم بما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم. ويرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأنه يدخل فيه جميع المأمورات وترك جميع المنهيات وليس مجرد التصديق الجازم بما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم. صلى الله عليه وسلم فأبو طالب عمه جازم بصدقه وكذلك الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن الذين يقولون الإيمان هو التصديق الجازم هم الجهمية واشتد نكير السلف عليهم في هذه المسألة. 3- الاختلاف في تعريف الإيمان بالقدر: يقول محمد بن عباد: إنه الإيمان لا يكون صغيره ولا كبير إلا بمشيئة الله وإرادته وأن يفعل المأمورات ويترك المنهيات. ويرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن هذا غلط لأن الله سبحانه له الخلق والأمر والمشيئة والإرادة وله الشرع والدين، وإذا ثبت هذا ففعل المأمورات وترك المنهيات هو الإيمان بالأمر وهو الإيمان بالشرع والدين ولا يذكر في حد الإيمان بالقدر. والإيمان بالقدر في مدرسة الشيخ هو أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وهو يتضمن أربعة أشياء هي:

_ 1 انظر القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 2 ص 16.

1-الإيمان بعلم الله القديم. ب-الإيمان بأن الله كتب ما علم أنه كائن من العباد. ج- الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله. د- أن الله تعالى أوجد جميع الخلق وما في الكون بتقديره وإيجاده. 4- الاختلاف في معنى لا إله إلا الله: فإن معاصري الشيخ يقولون أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فهم يقرون أن ذلك لله وحده لا شريك له وأن من قال لا إله إلا الله فإنه موحد ولا يجوز أن يوصف بالشرك، ويقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى قول لا إله إلا الله ولم يطالبهم بمعناها. وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا بلاد الأعاجم وقنعوا منهم باللفظ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فمن قالها بصدق وإيمان فهو مسلم موحد لا يجوز أن يوصف بالشرك أو الكفر وهو معصوم الدم والمال "ولو هدم أركان الإسلام الخمس وكفر بأصول الإيمان الستة"1كما ذكر ذلك الشيخ عنهم فقالوا إن عامة المسلين هم السواد الأعظم ولا يجوز تكفيرهم أو نسبة الشرك إليهم لأن فعلهم صار كالإجماع والأمة لا تجمع على الضلالة ... الخ. أما الشيخ رحمه الله فإنه يرى كما أسلفنا أن معظم الناس المعاصرين له لا يعرفون معنى لا إله إلا الله وأن لها ركنين النفي والإثبات نفي الألوهية الحقة عن غيره سبحانه وإثباتها لله وحده لا شريك له في الألوهية والربوبية والعبادة وأن من أشرك به في ربوبيته أو ألوهيته أو صرف شيئا من أنواع العبادة لغيره فهو مشرك كافر، وأن المقصود بالإله عنده هو الذي تؤلهه القلوب محبة وتعظيما تقصده بالمحبة والطاعة والتقرب إليه بأنواع العبادة، وأن كلمة لا إله إلا الله لها شروط سبعة سبق ذكرها فلا تنفع صاحبها إلا باجتماعها انتفاء الموانع، ولابد في قولها من الإخلاص واليقين

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 14, ص 96.

والفهم، ويرى أن تفسير معاصريه لكلمة "لا إله إلا الله" أن الله سبحانه هو الخالق الرازق المدبر، وأن مجرد التلفظ بها يدخل المرء في الإسلام ويجعله معصوم الدم والمال غلط وجهل عظيم بمعنى "لا إله إلا الله" وأن التلفظ بها لا يدخل في الإسلام لأن الكفار من أولهم إلى آخرهم يقرون بتوحيد الربوبية ولم يدخلهم ذلك في الإسلام وأن الخصومة التي قامت بين الرسل وأممهم إنما كانت في توحيد الألوهية والعبادة. يقول الشيخ رحمه الله "والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجردة لفظها والكفار والجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله بالتعلق، والكفر بما يعبد من دونه والبراء منه فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. فإذا عرفت أن الجهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعى الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار بل يظن أن التلفظ بحروقها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر إلا الله"1 ويرى أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرون بتوحيد الربوبية ويتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرا ولكنهم لم يحققوا توحيد الألوهية بل جحدوا توحيد العبادة فقط، ودعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له فلما أصروا على جعل وسائط بينهم وبين الله ليقربوهم إلى الله زلفى قاتلهم صلى الله عليه وسلم ليكون الدين كله لله، وإفراد العبادة لله وحده عن فهم ويقين وإخلاص، وأن هذا التوحيد هو معنى قول لا إله إلا الله. ويرى الشيخ رحمه الله أن أنواع التوحيد الثلاثة متلازمة لا ينفك أحدها عن الآخر، ومن لم تتحقق فيه أنواع التوحيد الثلاثة فإنه لم يحقق التوحيد الكامل في حياته. وأن الأحاديث التي وردت في فضل لا إله إلا الله وتحريم قائلها على النار وأنه

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسالة الشخصية رقم 22ص 154، 155.

معصوم الدم والمال ... الخ. أنها حق، وأن معظمها جاء مقيدا بالإخلاص ونفي الشرك وأمر بأداء حقها وأن ما جاء منها مطلقا وجب فيه حمل المطلق على المقيد بالقيود الواضحة الثقيلة. 1- الاختلاف قي إطلاق الشرك على ما يفعل عند قبور الأنبياء والأولياء والصالحين: لما أطلق الشيخ محمد الوهاب رحمه الله كلمة الشرك على ما يفعله الناس عند قبور الأولياء والصالحين التي كانت موجودة في نجد وفى مصر والشام والعراق وغيرها من بعض البلاد الإسلامية الأخرى، أنكر معاصروه هذا الوصف منه، وقالوا إن زوار القبور هم أهل الإسلام وتوحيد يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويذكرون الله كثيرا، ويعتقدون أن الله هو النافع والضار وحده، وهم في زيادتهم لقبور الصالحين إنما يقصدون العظة والاعتبار وتذكر سيرة صاحب القبر وصلاحه والاعتراف بمقامة الرفيع عند الله وما يفعله بعض العامة من الذبح لهم أو النذر أو الدعاء أو طلب النفع أو الضرر هو نتيجة جهل منهم مع أنه وردت أخبار في جواز الاستسقاء بالصلحاء كما فعل عمر رضي الله عنه مع العباس رضي الله عنه كما كانوا يطلبون ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته. كما ورد جواز التوسل بالأعمال الصالحة. ومع هذا وذاك فإنه لا يجوز أن يطلق الكفر والشرك على ما يفعله العامة عند قبور الصالحين مع أن سلامهم متيقن بإعلان كلمة التوحيد وإقامة فرائض الإسلام وصدق الإيمان بالله والمحبة لرسوله صلى الله عليه وسلم وأن قصدهم الشرك مظنون من ظاهر تصرفاتهم الخاطئة التي وردت أخبار تدل جوازهم وهم لا يطلبون بها أكثر من جاههم عند الله وشفاعتهم عنده 1

_ 1 انظر مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص 173.

ولا يجوز أن يرفع اليقين بالظن كما أنه يلزم أن تحكم على أن كل الأمة على ضلالة لأنهم ما بين فاعل لذلك وما بين مقر به. ويلزم منه كذلك تكفير المسلمين كلهم منذ ستمائة سنة وهذا أمر عظيم لا يجوز للمسلم أن يقوله على نفسه ولا على غيره مع أن النهي الوارد في القرآن الكريم عن الشرك إنما جاء في عبادة الأصنام واتخاذها معبودات من دون الله وليس المقصود بها ما عليه الناس اليوم. والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يرى أن ما يفعله العامة في نجد وما يفعله أمثالهم عند قبور الأولياء الصالحين في العالم الإسلامي من أنواع الشرك الأكثر لما فيه من الشرك بالله في الدعوة والعبادة وأن صرف أي نوع من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله وحده شرك فلا يجوز صرفها إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل وذكر في أكثر من موضع من رسائله وكتبه أن النطق بكلمة لا إله إلا الله لا تنفع صاحبها إلا إذا عرف معناها وعمل بمقتضاها وحقق ما تضمنته من نفي وإثبات وعمل بشروطها، وأن الاعتقاد بأن الله هو النافع الضار الخالق الرازق المدبر وهو يعرف بتوحيد الربوبية لا يكفي للدخول في الإسلام إذ أن الكفار والذين بعثت إليهم الرسل في مختلف العصور كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ولا ينكرون منها شيئا ولكنهم إنما اختصموا مع رسلهم في توحيد العبادة والقصد وهو توحيد الله بأفعال العباد وتوجههم. ومن لم يحقق توحيد الألوهية الذي بعثت به الرسل لم يدخل في الإسلام. والذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار قريش وغيرهم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ولا ينكرون وكذلك المرتدون الذين قاتلهم أبو بكر مثل مسيلمة الكذاب والأسود وغيرهم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وإنما أنكروا بعض فرائض الإسلام والمعلومة من الدين بالضرورة فقاتلهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليله على ذلك. وأما قصد القبور وزيارتها للعظة والاعتبار فليس ما يفعله العامة عند قبر زيد بن الخطاب في نجد ولا عند قبر عبد القادر الجيلاني في العراق ولا عند قبر البدوي في مصر من أهل هذا القبيل بل إنها زيارة وطواف وعكوف عليها وقصد لطلب النفع والضر رفع للبلاء أو دفعه. وهم في زياراتهم ينخون ويندبون ويطلبون المدد والنصرة والعفو والمغفرة، ويسألون بجاههم ويكتبون مطالبهم التي لا يجوز طلبها إلا

من الله سبحانه لأنها لا يقدرون عليها إلا هو سبحانه وتعالى وهم مع هذا يصرحون لها أنواعا من العبادة كالذبح عندها والنذر وغير ذلك من الأعمال الشركية التي تشبه ما كان يفعله الناس في الجاهلية الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وأما أن ما يصدر من العامة عند الأضرحة والقبور من باب الخطأ والجهل ولا يجوز أن يكفروا ويحكم عليهم بالكفر والشرك مع جهلهم فإن الشيخ رحمه الله تعالى ذكر في عدة رسائل أنه لا يكفر إلا بعد التعريف بدين الله وبيان الحكم الشرعي بالدليل من الكتاب والسنة فإذا عرف المدعو الحق بدليله ثم أصر على عمله المخالف أطلق عليه الوصف الذي تقتضيه النصوص الشرعية، يكفر من عرف توحيد الألوهية ومعنى لا إله إلا الله ثم أصر على دعوة الأحياء أو الأموات من دون الله أو جعلهم وسائط بينه وبين الله فقد ذكر في الرسالة التي أجاب فيها على رسالة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السويدي من علماء العراق ما نصه: "وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك "1 وأما طلب الدعوة من الأحياء الصلحاء بأن يشركوا المرء في دعائهم لربهم أو يدعوا لهم أو فعل عمر مع عم النبي صلى الله عليه وسلم فليس من قبيل ما يفعل عند قبور الأولياء والصالحين فإنك تطلب من الحي أن يدعو لك أو يشركك في دعائه بأن تطلب منه أن يدعو الله بأن يغيب عباده فأنت تدعو حيا قادرا على التوجه بدعائه إلى الله. وهذا جائز لدلالة النصوص الشرعية على جوازه وأنه ليس من باب الشرك ولا اتخاذ الوسائط بين الله وبين عباده. أما أصحاب القبور فهم لا يسمعون دعاء من يدعوهم ولا يستطيعون إجابتهم، وهو عمل مشابه لأعمال المشركين في الجاهلية التي وردت النصوص الشرعية بإبطالها وبتسميتها بالشرك. وأما التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 5,ص38. كما ذكر هذا النص في الرسالة رقم 22،ص 158.

كما فعل أصحاب الغار الثلاثة فهذا جائز، وليس فيه دليل على جواز ما يفعل عند الأضرحة من الشرك بالله في الدعاء والعبادة. وغاية ما فيه "أنه التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة من البر والتقوى والأمانة وصلة الأرحام والعفاف وهو أمر مشروع كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} والوسيلة: هي ما شرعه الله ورضيه من الأعمال والأقوال الصالحة، وأين في شرعه أن يسأل العبد ربه بعبد من عبيده مخلوق من خلقه"1 وحق السائلين وما جعله للماشي إلى الصلاة والسائلين من الإجابة والإنابة هو حق أوجبه الله على نفسه لعبده فضلا منه وإحسانا. فجاز التوسل به وليس في ذلك دليل على جواز التوسل بذوات المخلوقين. والشيخ محمد بن عبد الوهاب يرى أن ما يفعله عند الأضرحة من دعوة أربابها وقصدهم لرفع البلاء ودفعه وندبهم وطلب المدد منهم هو الشرك، وأن الواجب أن يبين لهم الحكم الشرعي، ويطلب منهم تصحيح العقيدة والكف عن مظاهر الشرك. ومن أصر بعد العلم على الاستمرار في شركه حكم بكفره وأنه مشرك. ويرى أن الحكم لا يكون على العقيدة المضمرة أو النوايا الخفية وإنما تبنى الأحكام الشرعية على الأفعال الظاهرة. وهذه الأفعال التي تتم عند قبور الصالحين هي إعمال شركية ظاهرة. يعلن الشرك فيها عن نفسه على ألسنتهم وفي تصرفاتهم ولهذا فإنه لا يتردد في الحكم بالكفر على من هذا ظاهر أعماله بعد علمه بالحكم وبيان الواجب عليه. وفرائض الإسلام وأعمال البر والخير لا تكون صحيحة إلا إذا قامت على عقيدة التوحيد الخالص من شوائب الشرك الأكبر. والمشركون كانوا يقومون ببعض الأعمال الخيرة من بر وصلة وتعاون وعدل ولم يمنع ذلك كله من تكفيرهم وقتالهم. قال الله

_ 1 مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص178.

سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ويقول سبحانه {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} يعني المشركين وأعمالهم الصالحة وأن الشرك يبطلها ويذهب الانتفاع بها. والطلب بجاه الأنبياء والصالحين والتوسل بهم إلى الله لمقامهم عنده سبحانه هو في عرف عباد القبور وأنصارهم فصد الصالحين ودعائهم وعبادتهم مع الله ولقد سماه الله ورسوله شركا في العبادة وعده الصحابة والتابعون لهم بإحسان من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام. واختلاف الشيخ رحمه الله مع معاصريه في مدى جواز إطلاق الشرك على ما يفعله المعاصرون له عند قبور الأولياء والصالحين أو عدم جوازه قضية أساسية في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب دار حولها نقاش طويل ولهذا فمن الصعب نقل ما ذكره الشيخ في هذا المجال لأنه لا تكاد رسالة من رسائله تخلو من تناول هذه القضية بإسهاب تارة وباختصار تارة أخرى، ويحسن بنا أن ننقل قطعة موجزة من نصه في هذه القضية، وعلى الباحث أن يرجع إلى رسائل الشيخ الشخصية وكتبه حول هذا الموضوع وما تفرع فإنها حوله تدندن يقول الشيخ رحمه الله في الرسالة العامة التي بعث بها إلى عموم المسلمين عن خصومه مثل أولاد شمسان وأولاد مويس "فلما رأوني آمر الناس بما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أن لا يعبدوا إلا الله وأن من دعا عبد القادر فهو كافر وعبد القادر منه بريء وكذلك من نخا الصالحين أو الأنبياء أو ندبهم أو سجد لهم أو نذر لهم أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة التي هي حق الله على العبيد. وكل إنسان يعرف أمر الله ورسوله ولا ينكر هذا الأمر بل يقر به ويعرفه. وأما الذي ينكره فهو بين أمرين: إن قال إن دعوة الصالحين واستغاثتهم والنذر لهم وصيرورة الإنسان فقيرا إليهم أمر حسن ولو ذكر الله ورسوله أنه كفر فهو مصر بتكذيب الله ورسوله ولا خفاء في كفره فليس لنا معه كلام. وإنما كلامنا مع رجل يؤمن بالله واليوم الآخر ويحب ما أحب الله ورسوله ويبغض ما أبغض الله ورسوله ولكنه جاهل قد لبست عليه الشياطين دينه ويظن أن الاعتقاد في الصالحين حق ولو يدري أنه كفر يدخل صاحبه في النار ما فعله"

ونحن نبين لهذا ما يوضح الأمر فنقول: "الذي يجب على المسلم أن يتبع أمر الله ورسوله ويسأل عنه. والله سبحانه أنزل القرآن وذكر فيه ما يحبه ويبغضه وبين لنا فيه ديننا. وكذلك محمد صلي الله عليه وسلم أفضل الأنبياء. فليس على وجه الأرض أحد أحب إلى أصحابه منه وهم يحبونه على أنفسهم وأولادهم ويعرفون أيضا الشرك والأيمان. فإن كان أحد من المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعاه أو نذر له أو ندبه، أو أحد من أصحابه جاء عند قبره بعد موته يسأله أو يندبه أو يدخل عليه للالتجاء له عند القبر، فاعرف أن هذا الأمر صحيح حسن ولا تطعني ولا غيري وإن كان إذا سألت إذ أنه صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن اعتقد في الأنبياء والصالحين وقتلهم وسباهم وأولادهم وأخذ أموالهم وحكم بكفرهم فاعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، والواجب على كل مؤمن اتباعه فيما جاء به". وبالجملة: فالذي أنكره الاعتقاد في غير الله مما لا يجوز لغيره. فإن كنت قلته من عندي فارم به، أومن كتاب لقيته ليس عليه عمل فارم به كذلك، أو نقلته عن أهل مذهبي فارم به، وإن كنت قلته عن أمر الله ورسوله وعما أجمع عليه العلماء في كل مذهب فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرض عنه لأجل أهل زمانه أو هل بلده، وإن أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه1 وقال في موضع آخر ردا على من زعم أن الذم الوارد في القرآن الكريم في اتخاذ الوسائط بين الله وبين خلقه، وأن الكفار الذين نزل فيهم القرآن كانوا يعتقدون في الأصنام، وهي غير ما عليه القبوريون، إذ هم يعظمون أنبياء وأولياء وصالحين لهم مقام عظيم عند الله، وفرق بين هؤلاء وبين أصنام الجاهلية، يقول رحمه الله: "فإذا تحققت أن العلي الأعلى تبارك وتعالى ذكر في كتابه أنهم يعتقدون في الصالحين، وأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة عند الله والتقرب إليه بالاعتقاد في الصالحين، وعرفت أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين من اعتقد في الأصنام وبين من اعتقد في الصالحين، بل

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم8ص53.

قاتلهم كلهم وحكم بكفرهم، تبين لك حقيقة دين الإسلام، وعرفت الأمر الثاني وهو توحيد الألوهية وهو أنه لا يسجد إلا الله، ولا يركع إلا له، ولا يدعى في الرخاء والشدائد إلا هو، ولا يذبح إلا له، ولا يعبد بجميع العبادات إلا الله وحده لا شريك له، وأن من فعل ذلك في نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء فقد أشرك بالله وذلك النبي أو الرجل الصالح بريء ممن أشرك به كتبرء عيسى من النصارى وموسى من اليهود وعلي من الرافضة وعبد القادر من الفقراء"1 وهذه القضية دار حولها جدال طويل وعليها وعلى ما يتفرع منها أو يشاكلها دارت خصومات ومناوشات ركز عليها الشيخ رحمه الله في كتبه ورسائله وعلى الرغم من أن أكثر معاصريه كانوا لا يرون رأيه إ لا أن الدليل الشرعي والسير العملية في القرون الثلاثة المفضلة كانت معه على خصومه. والحق لا يقاس بكثرة الناس معه أو ضده وإنما يقاس بأدلة الشرع وسيرة السلف وفهم الصحابة وأتباعهم بإحسان، وإلا فإن أكثر الناس على الباطل كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} 6- اختلاف معاصري الشيخ معه في تكفير بعض البوادي في نجد والحجاز وبعض أهل القرى: فإنه قامت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية كان عامة الناس في بعض البوادي وبعض القرى على جهل كبير بالدين حتى وصل بهم الأمر إلى إنكار بعض أصول الإيمان وبعض ما علم من الدين بالضرورة كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها. واحترفوا السلب والنهب وقطع الطريق وإخفاقه السالكين واستحلوا بعض المحرمات وعضلوا النساء ومنع بعضهم النساء من الميراث وتحاكموا إلى غير ما أنزل الله ممن يدعى الحكمة وأعراف القبائل وغيرها.

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 21ص 146-147.

فبدأ الشيخ رحمه الله بدعوة هؤلاء العامة من البوادي وأهل القرى فمنهم من أجاب وصلحت حاله، ومنهم من لم يرفع بهذه الدعوة رأسا ولم يعرها اهتماما، وظل يمارس ما كان عليه من أعمال مخالفة للتوحيد والإسلام. فلما أبان لهم الشيخ طريق الحق وأصروا على رفض الهدى وصف أعمالهم بالكفر، ووصف المعاندين والرافضين منهم بعد دعوته وإقامة الحجة عليهم بأنهم كفار. وأذن في قتالهم حتى يفيئوا إلى الدين ويلتزموا بمبادئه. وقد وجدوا خصومه المعاصرين له في هذه الفتاوى فرصة للتأديب عليه ودعوة العامة ضده لأنه كفرهم واستحل قتالهم. وقالوا إنه لا يجوز تكفير المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويؤدي بعض فرائض الإسلام، ويحب الله ورسوله، ولكنه يجهل بعض الأحكام، وهو في حاجة إلى تعليم وتبصير.وتكفير من هذه حالهم وهم السواد الأعظم من المسلمين هو تكفير لعموم المسلمين وبدعة في الدين أحدثها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس معه عليها دليل ولم يقل بها أحد قبله , ولكن الشيخ رحمه الله أكد في هذا الموضع وفي مواضع أخرى أنه لا يكفر من كان جاهلا بالحكم ولا من تبلغه الدعوة ولم يعرف الإسلام ومستلزماته بل إن تكفير لا يكون إلا بعد التعليم والدعوة وإقامة الحجة فإذا أصر المدعو على أعمال كفرية جاز وصفه بما وصفته به الأدلة الشرعية حتى يعرف مقامه ويرتدع عن غيه وقال إن بعض البوادي وبعض أهل القرى وإن كانوا يؤمنون بالله ويشهدون أن لا إله إلا الله ويؤدون بعض شعائر الإسلام إلا أن لديهم أكثر من ناقض من نواقض الإسلام فجاز تكفيرهم وقتالهم يقول الشيخ رحمه الله: "وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة فهذا بهتان عظيم يريدون به تنقير الناس عن دين الله ورسوله" ويقول رحمه الله: من المعلوم عند الخاص والعام ما عليه البوادي أو أكثرهم فإن كابر معاند لم يقدر على أن يقول إن يقول إن عنزه وآل الظفير وأمثالهم كلهم مشاهيرهم والاتباع أنهم مقرون بالبعث ولا يشكون فيه ولا يقدر أن يقول إنهم يقولون إن كتاب الله عند الحضر وإنهم عايفينه متبعون ما أحدث آباءهم مما يسمونه الحق ويفضلونه على شريعة الله، فإن كان للوضوء ثمانية نواقض

ففيهم من نواقض الإسلام من المائة ناقض. فلما بينت ما صرحت به آيات التنزيل، وعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته، وأجمع عليه العلماء من أن أنكر البعث أو شك فيه أو سب الشرع أو سب الأذان إذا سمعه أو فضل فراضة الطاغوت على حكم الله أو سب من زعم أن المرأة ترث أو أن الإنسان لا يؤخذ في القتل بجريرة أبيه وابنه إنه كافر مرتد قال علمائكم معلوم أن هذا حال البوادي لا ننكره ولكن يقولون لا إله إلا الله وهي تحميهم من الكفر ولو فعلوا كل ذلك. ومعلوم أن هؤلاء أولى وأظهر من يدخل في تقريركم فلما أظهرت تصديق الرسول فيما جاء به سبوني غاية المسبة وزعموا أني أكفر أهل الإسلام واستحل أموالهم. وصرحوا أنه لا يوجد في جزيرتنا رجل واحد كافر"1 ولم تكن هذه الفتاوى مجرد كلمات تلقى في الهواء ولكنها كانت كلمات توضع موضع التنفيذ في صورة تجمع وجهاد بالقلم واللسان والسنان حتى خضع الجميع لسلطان الدعوة وعمم التعليم وقام مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحكيم الكتاب والسنة في شئون الحياة كلها. وكان الشيخ رحمه الله في كتبه ومؤلفاته متفوقا على خصومه فيما يثار ضده وضد دعوته وتتسم مواقفه بوضوح الرؤية والاستعداد العلمي والفهم الدقيق لما يدعو إليه وكان أكبر عون له عليهم أنه على الحق والأدلة الشرعية معه وإن كان واقع الناس ومألوفهم ضده مما جعل خصومه المحليين يطلبون من العلماء في الحرمين الشريفين والعراق والاحساء والشام وغيرهم مساعدتهم عليه والكتابة لهم ضده ولكن كفة الشيخ في هذه المعركة كانت راجحة فهو يخاطبهم بالدليل من الكتاب والسنة فلا يقبلون منه ويقولون لا يجوز لنا العمل بكلام الله ولا رسوله ولا بكلام المتقدمين من أهل المذاهب ولا نطيع إلا كتب المتأخرين من أصحاب المذاهب. فيخاطبهم رحمه الله بأن هذا الأمر مما تتفق عليه الأدلة الشرعية وكلام أهل العلم المتقدمين منهم والمتأخرين وأنا أحاج أصحاب المذاهب الإسلامية بكلام المتأخرين من أصحابهم. اسمعه رحمه الله تعالى يقول بعد أن ذكر لهم الأدلة الشرعية على صحة دعوته "قالوا

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 3 ص 25، 26 وانظر الرسالة رقم 6 ص 41 والرسالة رقم 41 ص 236.

القرآن لا يجوز العمل به لنا ولأمثالنا ولا بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بكلام المتقدمين ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون، قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرون من الحنفية والمالكي والشافعي والحنبلي كل أخاصمه بكتب المتأخرون من علماءهم الذين يعتمدون عليه. فلما أبوا ذلك نقلت لهم كلام العلماء من كل مذهب وذكرت ما قالوا بعد ما حدثت الدعوة عند القبور والنذر لها فعرفوا ذلك وتحققوه ولم يزدهم إلا نفورا"1 وتكرر هذا الكلام في أكثر من رسالة من رسائل الشيخ بل قال رحمه الله تعالى "وتأملوا ما جرى بيننا وبين أعداء الله نطلبهم دائما الرجوع إلى كتبهم التي بأيديهم في مسألة التكفير والقتال فلا يجيبوننا إلا بالشكوى عند الشيوخ وأمثالهم."2 بعد هذه الخصومات العلمية والجدال الذي دار بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب وخصومه على بعض المظاهر القائمة في نجد وإنكار علماء عصره عليه وإصرارهم على التزيين للعامة ما هم عليه كبرا وعنادا، وصف المعاندين منهم بالكفر وبأعداء الدين وأهدر دماءهم، فزادهم دلك غضبا عليه وعنادا لدعوته وتأليبا للعامة على الشيخ ودعوته. يقول الشيخ في حق هؤلاء: "وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره " ثم قال عن القتال:"ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه"3 وهو يقصد المعارضة وفي مقدمتها العلماء المعاصرين له المعارضين لدعوته والمزينين للعامة ما هم عليه هذا من جهة الشيخ ومن جهة المعارضة قالوا هم أيضا بكفر الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما كفر شيخه في التوحيد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، 4 ورسائل الشيخ رحمه الله تصير كل هذه الموافق وأن كلا منهم صار يكفر الآخر ويبدعه،

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 5ص 38. 2 المرجع السابق الرسالة رقم 38ص ص 273. 3 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 22ص 158. 4 المرجع السابق الرسالة رقم 2ص 20.

وعلى أثر ذلك قمت المواجهات المسلحة بين الطرفين في حروب أهلية دامية بين أهل الدرعية وأهل الرياض ومنفوحة وبين أهل حريملاء فيها وبينهم وبين أنصار الدعوة فيها وبين خصومهم من بني عمهم وكذا الحال في ضرماء وصارت الحرب سجالا عدة سنين حتى أظهرا لله الدعوة الإصلاحية على خصومها وخضع الناس لإمامها. 7- لما قامت الدعوة الصلاحية وانحاز أتباعها إليها وتألب خصومها ضدها بقيت فئات في المجتمع على الحياد إما لأنه لا يوجد فيها من مظاهر الشرك الممثلة في السادات والقبور والأشجار والأحجار والتبرك بها مثل منطقة القصيم أو لأنهم ليس لههم من الأمر شيء فهم لا يمارسون زيارة القبور ودعوة أصحابها. ولم ينكروا عليهم لعدم القدرة أو لعدم القناعة بأنها مظاهر شرك أو لأي سبب آخر. صاروا في الحياد أو لم يظهروا التأييد للدعوة بصورة عملية. وهنا بدأ الشيخ يقرر مبدأ مهما في الدين هو مبدأ: الولاء والبراء. فأبان بالأدلة الشرعية بأن هناك حزب الله تمثله حركة الإصلاح والتجديد وأنصارها، وهناك حزب الشيطان وهم جبهة المعارضة المتمثلة في خصومها من العلماء والأمراء والعامة الساعين لوأد الدعوة والقضاء على أهلها، وأن المسلم لا يتم إسلامه حتى يعلن موقفه من هذا الصراع فيعلن ولاؤه للدعوة الإصلاحية قبولا ومحبه ونصرة وتأييدا سرا وعلنا، ويعلن البراءة من الشرك وأهله. وساق الأدلة الشرعية في هذا الموضوع لرص الصفوف المؤمنة في وجه الخصوم وإحياء مبدأ شرعي ثابت. والرسالة التي بعث بها إلى الشيخ عبد بن علي ومحمد بن جماز في القصيم يحثهما فيها على تحقيق هذا المبدأ قال فيها: "وأهل القصيم غارهم أن ما عندهم قبب ولا سادات ولكن أخبرهم أن الحب والبغض والموالاة والمعاداة لا يصير للرجل دين إلا بها ما داموا لا يبغضون أهل فزلفى وأمثالهم فلا ينفعهم ترك الشرك ولا ينفعهم قول "لا إله إلا الله"1وذكر مثل ذلك في الرسالة التي بعث بها الشيخ إلى أهل الرياض ومنفوحة حينما كان في العيينة 2. ولم يسلم له هذا الأمر من جهة

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 51 ص322. 2 المرجع السابغ الرسالة رقم 8 2ص188.

علمية من علماء عصره بل دار حوله نقاش وحصل فيه اختلاف مما اضطر الشيخ إلى أن يبدي فيه ويعيد في رسائله الشخصية وفي ثلاثة الأصول وغيرها. 8- واختلف مع بعض معاصريه في حقيقة المتابعة لرسو ل الله صلى الله عليه وسلم لا سيما أهل التذكير في ليلة الجمعة ومتصوفة معكال في الرياض في احتفالات المولد النبوي وعقيدتهم التي كانت امتدادا لابن عربي وابن الفارض وقولهم بالاتحاد والحلول الذين كفرهم المسلمون قديما وحديثا. فقرر الشيخ رحمه الله أن المتابعة الحقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم طاعته في ما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر "وأنه بها يخلع جميع البدع إلا بدعة لها أصل في الشرع كجمع المصحف في كتاب واحد وجمع عمر رضي الله عنه الصحابة على التراويح جماعة وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كل خميس ونحو ذلك فهذا حسن"1 ولا يخرج الأخذ بها عن الاتباع وقال خصومه من المتصوفة إن احتفالات المولد والاجتماع للأذكار لا تخرج عن الاتباع فهي وإن كانت بدعة لم تكن موجودة في وقت النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه فإنها بدعة حسنة لأنها تربط المسلم بنبيه وتذكره بسيرته العطرة وشمائله الجمة وتثير فيه نوازع المحبة وتدعوه إلى الاقتداء به والاستقامة على منهجه فهي ليست ضد الدين بل هي في خدمته وتتيح بها مواسم للخير وهي تفعل منذ مئات السنين في مختلف الأمصار الإسلامية ولم ينكرها أحد من علماء الإسلام إلا نفر قليل إذا قيس بالجم الغفير من أعلام الإسلام. وقد شدد الشيح النكير على المتصوفة لاسيما من أصحاب طريقة ابن عربي القائل بالاتحاد والحلول وكفرهم في إصرارهم على هذه الطريقة بعد أن وضح لهم الحق بدليله ونقل من الإقناع في باب حكم المرتد قوله: "ومن اعتقد أن لأحد طريقا إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا يجب عليه اتباعه أو أن لغيره خروجا عن اتباعه أو قال أنا محتاج إليه في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم16 ص 107.

الحقيقة أو قال من العلماء من يسعه الخروج عن شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى كفر في هذا كله1 وهذه المقولات التي نقلها الشيخ من كتاب الإقناع في باب حكم المرتد مؤيدا لها في موقفه من الابتداع هي رد على مقولات مقررة في كتب غالبية المتصوفة مثل اتباع ابن عربي ولهذا فإن الشيخ كفرهم بعد أن دعاهم فأصروا على طريقتهم. ويقول إن الخير كل الخير في الاتباع وترك الابتداع وإن الحسن هو ما عرف من الشرع حسنه وقصد الشارع إليه وعمل به السلف الصالح الذين عرفوا بالاتباع وترك الابتداع والنبي صلى الله عليه وسلم قال "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" والمبتدعة يخالفون الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول كل بدعة حسنة فمن أين عرفوا حسنها وهي تعارض قوله صلى الله عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" فمن أين لهم أمر رسول الله عليها حتى تقبل ولا ترد. قال الشيخ في الرسالة التي بعث بها إلى علماء الإسلام: "الثانية وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك البدعة وإن اشتهرت بين أكثر العوام"2 ويظهر أن متصوفة معكال كانوا على صلة بمتصوفة الشام على طريقة ابن عربي إذ يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "ولا يخفاك أني عثرت على أوراق عند ابن عزاز فيها إجازات له من عند مشائخه وشيخ مشائخه رجل يقال له عبد الغني ويثنون عليه في أوراقهم ويسمونه العارف بالله وهذا اشتهر عنه أنه على دين ابن عربي الذي ذكر العلماء أنه أكفر من فرعون حتى قال ابن المقري الشافعي: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر، فإذا كان إمام دين ابن عربي والداعي إليه هو شيخهم ويثنون عليه بأنه العارف بالله فكيف يكون الأمر"3

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 11ص68. 2 المرجع السابق الرسالة رقم 26ص 180. 3 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 11ص 72.

وقال: "ومن أعظم الناس ضلالا متصوفة معكال وغيره مثل ولد موسى بن جدعان وسلامة بن مانع وغيرها. يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض وقد ذكر أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب االاتحادية وهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى فكل من لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ويتبرأ من دين الاتحادية فهو كافر بريء من الإسلام ولا تصح الصلاة خلفه ولا تقبل شهادته"1 كما اختلف رحمه الله مع بعض علماء عصره في بدعة أخرى هي التذكير ليلة الجمعة للتهيء لصلاة الجمعة فقال الشيخ سليما بن سحيم من علماء الرياض إنه لا ينبغي الأمر بترك التذكير في ليلة الجمعة ورد عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقوله: "أما مسألة التذكير فكلامك فيها من أعجب العجاب أنت تقول بدعة حسنه والنبي صلى اله عليه وسلم يقول كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ولم يستثن شيئا تشير علينا به. 2 وهكذا دار النقاش بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومعاصرين من العلماء المناوئين لدعوته في البدعة والسنة وتراشقوا بالتهم حتى ظهرت الدعوة على خصومها. 9- الاختلاف في طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم: فقد أنكر الشيخ رحمه الله على معاصريه دعاء غير الله أو اتخاذ وسائط بين الله وبين عباده فيمالا يقدر عليه إلا الله. وبين عدم جواز صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله لا لملك مقرب ولا إلى نبي مرسل. وقد رد عليه معاصروه بأنه ثبت في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الشافع المشفع. فقد قال الله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} وقال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وقال ابن عباس:"هو الشفاعة لأمته"، وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} ،وفي حديث الفصل

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 11 ص189. 2 المرجع السابق الرسالة رقم43 ص234.

بين الخلائق في المحشر يقول سبحانه:"يا محمد ارفع رأسك واسأل تعط وأشفع تشفع" وقالوا إن الله أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم حق الشفاعة لأمته ونحن نطلب منه مما أعطاه الله،" والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم حال أمته فردا فردا مطيعها وعاصيها مؤمنها وكافرها، وأنه أعطي الشفاعة كما يعطى أحد الناس ما يملكه ويتصرف فيه بمشيئته وإرادته، والنبي الله عليه وسلم يدعى لذلك، ويسأل كما يسأل سائر الملاك وأنه إذا لم يسال فلا كرامة له ولا شفاعة ولا فضل ولا تفضل"1 وقد رد عليهم الشيخ رحمه الله بعد أن ذكر الآيات الدالة على إبطال عمل من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة عنده وأن من فعل ذلك فقد عبدهم من دون الله وأشرك. وذلك أن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} وأنه لا يشفع عنده سبحانه إلا بإذنه كمال قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وساق أدلة الكتاب في ذلك ثم قال رحمه الله: فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى كما قال تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . ثم قال"فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء وصاحب المقام المحمود وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع ابتداء بل يأتي فيخر ساجدا فيحمده بمحامد يعلمه إياها ثم يقال ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع ثم يحد له حدا فيدخلهم الجنة فكيف بغيره من الأنبياء أو الأولياء". إلى أن قال:"وأما ما صدر من سؤال الأنبياء أو الأولياء الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها وإيقاد السرج عليها والصلاة عندها واتخاذها أعيادا وجعل السدنة والنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها صلى الله عليه وسلم".2

_ 1 مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص223، 224. 2 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 17 ص113.

وحقيقة الشفاعة هي طلب التجاوز عن الخطايا والسيئات والمعاصي والذنوب وقد عقد الشيخ محمد رحمه الله لها بابا في كتابه "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العباد"1 سماه "باب الشفاعة"وقد قصد المؤلف من عقد هذا الباب بيان ما أثبته القرآن منها وما نفاها وأن الشرك يدخل على الناس من باب تعلقهم بأذيال الشفاعة مع إقامة الدليل على أن طلب الشفاعة من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله هو عين الشرك. وأن الشفاعة التي يظنها من دعا غير الله أنه يشفع كما يشفع الوزير عند الملك منتفية دنيا وأخرى 2 وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن الشفاعة نوعان هما: *شفاعة منتفية وهي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله قال رحمه الله: "فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده ولا يبدأ بالشفاعة أولا ثم يقال له ارفع رأسك 000الحديث "3 *وشفاعة مثبتة وهي التي تطلب من الله ولا تكون إلا لأهل التوحيد، ومقيدة بأمرين هما: إذن الله للشافع أن يشفع. ورضاه عن المشفوع له. وذكر الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشية كتاب التوحيد أن الناس في الشفاعة ثلاث طوائف طرفان ووسط. فطائفة أنكروها كاليهود والنصارى والخوارج المكفرين بالذنوب، وطائفة أثبتوها وغلوا في إثباتها حتى جوزوا طلبها من الأولياء والصالحين، وأهل السنة والجماعة أثبتوا الشفاعة الشرعية كما ذكر الله في كتابه ولا تطلب إلا من الله كأن تسأل الله تعالى أن يشفع فيك محمدا صلى الله عليه وسلم فإن الشفاعة محض فضل وإحسان 4

_ 1 حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 133. 2 المرجع السابق ص 133. 3 المرجع السابق ص 140. 4 المرجع السابق ص 133.

وقد حاول معاصرو الشيخ رحمه الله إجازة ما يفعله العامة من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في قبره لرفع البلاء أو دفعه ومغفرة الذنوب وتكفير السيئات اعتمادا على الأدلة التي وردت في إثبات الشفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن ربه في الموحدين وفي الفصل في أهل الموقف. إلا أن الشيخ رحمه الله بما أعطاه الله من فقه في النصوص الشرعية قد أثبت للرسول صلى الله عليه وسلم ما أثبت الله له من الشفاعة بالشروط التي حددتها النصوص الشرعية , وبقي الشفاعة التي تعتبر من خصائص الألوهية للتفريق بين الخالق والمخلوق، ولرد النصوص بعضها إلى بعض في بيان الحق في هذه المسألة. ونفى الشفاعة الشركية التي يتعلق بها مجيرو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في قبره وقصد ضريحه فيما لا يقدر عليه إلا الله، ليس فيه تنقيص لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفي لكرامته وفضله ومقامه الرفيع عند الله بل الفضل والتكريم والاحترام في عدم الإشراك بالله وتحقيق التوحيد وإخلاص العبودية لله وحده ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبودية الخاصة في القرآن الكريم وهو تكريم ورفعة لا وصف ذم وملامة. وفي شرح هذه القضية جردت أقلام وقامت خصومات بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومعاصريه تدل عليها المؤلفات العديدة التي تناولت هذا الموضوع في مواقف متعددة حتى وضح الأمر وانجلت الشبهة وطهر الحق والحمد لله. 11- التقليد والاجتهاد: لما قامت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بما قامت به ودعا الناس إلى تحقيق التوحيد ونبذ الشرك وسمى بعض الأفعال والتصرفات بأسمائها الشرعية وعارضه بعض علماء عصره احتاج كل إلى إقامة الدليل على صحة ما ذهب إليه فيما يقول، وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يطالب من الكتاب والسنة وأقوال العلماء من كل مذهب. وكان جواب معاصريه في كثير من المواقف رفض الأخذ من الأدلة الشرعية مباشرة لما يشعرون به من قصورهم عن أخذ الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلة

لأنهم لم يكونوا من أهل الاجتهاد، ولا تتوافر فيهم شروطه المعتبرة وكانوا يعترفون بأنهم مقلدون لعلمائهم في كل مذهب، وأن أخذهم للأحكام ينبغي أن يكون من كتب مذاهبهم بل من المتأخرين منهم لأن ذلك أحوط في الدين وأليق بحالهم، لا سيما أنهم في فترة جمود من الفقهاء وتخلف في الفقه. ولهذا عظم عليهم أن يطالبهم الشيخ بأخذ الأحكام من النصوص الشرعية من أدلتها التفصيلية. واعتبروا أن الشيخ محمد يدعي الاجتهاد المطلق وقالوا إن دعوته مذهب خامس لأنه يستقل في أخذ الأحكام ولهذا شنعوا به عند علماء الأمصار بأنه يدعي الاجتهاد ويرفض التقليد مع اعتقادهم بأن باب الاجتهاد في الفقه قد سد منذ القرن الرابع الهجري، وأن فتح باب الاجتهاد في غياب المجتهدين يعد مخاطرة في الدين وباب من أبواب الزندقة والمروق من الدين. ولهذا وردت إلى الشيخ رسائل شخصية من علماء العراق واليمن والحرمين الشريفين يسألونه فيها عما نسب إليه في هذه القضية من دعواه الاجتهاد ورفضه للمذاهب الأربعة والأئمة المتبوعين في الفقه. وكانت إجابات الشيخ رحمه الله واضحة صريحة بأنه متبع غير مبتدع وأنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وأنه لا ينكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف المذهب نصا ثابتا من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة أو قول جمهور العلماء1 وبين احترامه لأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من علماء المسلمين. وهو فيما يدعوا إليه من توحيد الله ونبذ الشرك يقول لمعاصريه الذين قالوا له لا يجوز لنا العمل بكلام الله ولا رسوله ولا بكلام المتقدمين من أهل المذاهب ولا نستطيع إلا الأخذ من المتأخرين في كل مذهب، كان جوابه رحمه الله في كل مرة من باب التنزل "وأنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية والمالكي والشافعي والحنبلي كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم فلما أبوا

_ 1 انظر القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية رقم 16ص 107.

ذلك نقلت لهم كلام العلماء من كل مذهب وذكرت ما قالوا بعد ما حدثت الدعوة عند القبور والنذر لها فعرفوا ذلك وحققه ولم يزدهم إلا نفورا"1 والشيخ محمد بن عبد الوهاب مع أنه مقلد في الفقه لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله إلا أنه مع ذلك يدعوا إلى اجتهاد بقدر استطاعته، مع الأخذ في الاعتبار برأي من سبقه من علماء المسلمين. فما أجمعوا عليه فلا يجوز له الخروج عليه، وما اختلفوا فيه نظر إلى الدليل الشرعي فما وافق الدليل أخذ به وهو يعلن أنه يخرج على مذهب الحنابلة إذا رأي الدليل في المسألة مع غيره فيأخذ بالدليل متى وجده ولا يعدل عنه إلى قول أحد. فإذا لم يعرف الدليل أولم يظهر له وجه الحق أخذ برأي الحنابلة الذين هم أئمته في الفقه وشيوخه في المذهب. ولم يكن اختلاف معاصري الشيخ معه منحصرا فيما ذكرنا من المواد السابقة بل اختلفوا معه في مسائل أخرى كثيرة مثل اختلافهم في مدح أو ذم علم الكلام، وفي وسائل أخرى من الشرك، وفيما يكفر به الإنسان إذا أصر عليه بعد علمه بالحكم الشرعي، وفي الفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة وفي تكفير بعض الطوائف الإسلامية مثل القدرية وفي الشرك الذي ينقل من الملة وفي أنواع من العبادة وفي العدل في الميراث وغير ذلك من الذرائع الموصلة إلى الشرك التي ذكرت في مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتعالج أمورا كثيرة مخالفة للتوحيد أو ذريعة إلى الشرك أو البدع والمعاصي مما كان سائدا في الوسط الاجتماعي الذي عاشه رحمه الله.

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية ص 38, ص 157.

الممارسات التي لم يوافقه بعض معاصريه عليها

ثالثا- الممارسات التي لم يوافقه بعض معاصريه عليها: وهي أفعال وممارسات وأعمال تعد من لوازم الدعوة ومقتضياتها في تصحيح الحياة العامة وتقويم الناس وإلزامهم بالحق وترجمة مبادئ الدعوة في صورة عملية مشاهدة تقوم المعوج وتصحيح الخطأ وتثبيت الحق وتزيل المنكر في البيت والطريق ومحل

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية ص 38, ص 157.

العبادة وفي الحياة الاجتماعية في كل صورها ومظاهرها العامة والخاصة وهي ممارسات كثيرة تذكر منها على المثال لا الحصر: 1- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وممارسة هذا المبدأ يعتبر ترجمة حسنة لمبادئ الدعوة في صورة عملية. وهذا المبدأ يهدف إلى تصحيح الممارسات الخاطئة في الحياة ودعم الخير والتقليل من الشر وإعلام للجاهل وتنبيه للغافل وقمع للمعاند وهو عام في أصول الدين وفروعه وما علم من الدين بالضرورة في العبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك والنظام وفي مختلف مظاهر الحياة. وقد أنكر عليه معاصروه ممارسة هذا المبدأ لأنه يتعارض مع عادات نشأوا عليها ومواضعات ألفوها ودعوة إلى مبادئ الدعوة التي لم يوافقوا عليها وإلزام بأمور لا يرون أنها لازمة لهم وإظهار لأمر هذه الدعوة على خصومها وفرض لسلطانها على المعارضين. ويرون أن المعروف ما كان حياتهم قائمة عليه، والمنكر ما جاءت به هذه الدعوة من تضليل الأمة ونسبتهم إلى الشرك والبدع وعبادة الصالحين مع أن الأمر في نظرهم ليس كذلك. وممارسة هذا المبدأ منذ فجر الدعوة الإصلاحية سبب لتعميق الخلاف مع المعارضة للدعوة في منطقة العارض وغيرها وقد ذكر الشيخ أن هذا هو سبب رئيسي من أسباب الخلاف مع الناس. اسمعه يقول في رسالته لأحد علماء المدينة المنورة "وإن سألت عن سبب الاختلاف الذي هو بيننا وبين الناس فما اختلفنا في شيء من شرائع الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك ولا في شيء من المحرمات، الشيء الذي عندنا زين هو عند الناس زين، والذي عندهم شين هو عندنا شين إلا أنا نعمل بالزين ونغضب الذي يدنا عليه وننهى عن الشين ونؤدب الناس عليه

والذي قلب الناس علينا الذي قلبهم على سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم1 وذكر مثل ذلك في الرسالة التي بعث بها إلى أهل المغرب 2 وذكر مثل ذلك في جوابه على رسالة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السويدي من علماء العراق. وزاد عليه سببا آخر أن دعوته خالفت عادة نشأوا عليها ثم قال: "فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد وأنهي عنه من الشرك ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس وكبرت الفتنة جدا"3 وفي الرسالة العامة التي بعث بها إلى عامة المسلمين ذكر فيها الأسباب نفسها وزاد عليها شيئا آخر هو قوله "وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله"4 وهذه النصوص من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب تدل على أن ممارسة الدعوة لهذا المبدأ الشرعي كانت سببا من أسباب الاختلاف مع المعارضة سببا من أسباب الاجلاب عليها بالخيل والرجل وإظهار العداء لها ولأتباعها. 1- هدم البناء على القبور: ومن الممارسات العملية التي اختلفت المعارضة فيها مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته هو أنها اتبعت الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك وإنكار ما يفعله العامة عند القبور من دعوة أصحابها وصرف شيء من أنواع العبادة عندها لغير الله، والبناء على القبور وإيقاد السرج عندها، وإغراء العامة بزيارتها لهذه المظاهر التي فيها تزيين الباطل وتوفير الذرائع الموصلة إليه اتبعت هذه الدعوة بإزالة البناء على القبور كما فعلت بقبة زيد بن الخطاب في الجبيلة، ومنع إيقاد السرج عندها أو تجصيصها أو رفعها عما حده رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، فقامت عليهم قيامه الناس زاعمين أن هدم القباب على القبور خروج على ما عليه العمل في مختلف الحواضر الإسلامية في مصر والشام والعراق والحرمين الشريفين وغيرها من غير نكير. ولأن في هذا العمل إهانة للأولياء والصالحين وتقليلا من شأنهم وامتهانا لحرمتهم، وإزالة لمعالم الآثار الكريمة

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسائل رقم ص 44. 2 المرجع السابق الرسالة رقم 17ص 114. 3 المرجع السابق الرسالة رقم 5ص 36. 4 المرجع السابق الرسالة رقم 22ص 150.

ووسيلة لضياعها وعدم الاهتداء إليها في المستقبل مع أنه ليس من لوازم وجودها دعوة أصحابها من دون الله، بل أنه يمكن تحقيق التوحيد مع قيام تلك الآثار يهتدي بها الزائر لها زيارة شرعية، ومن أجل هذه الاعتبارات وغيرها اعترض الناس على الدعوة الإصلاحية في هدمها القباب على القبور ومنعها رفع ترابها أو تجصيصها وحاولوا منع الشيخ وأتباعه من هذا العمل كما ذكر ذلك مؤرخو نجد مثل ابن غنام وابن بشر عند إزالة قبة قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة وغيرها وكان ذلك سببا قويا من أسباب اشتداد المعارضة في وجه الدعوة وأشاعوا عنها قالة السوء. يقول الشيخ رحمه الله في الرسالة التي بعث بها إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام:"جرى علينا من الفتنة ما بلغكم وبلغ غيركم وسببه هدم بنيان في أرضنا في قبور الصالحين فلما كبر هذا على العامة لظنهم أنه تنقيص للصالحين ومع هذا نهيناهم عن دعواهم وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله فلما أظهرنا هذه المسألة مع ما ذكرنا من هدم البنيان على القبور كبر على العامة. وعاضدهم بعض من مدعى العلم لأسباب أخر التي لا تخفى على مثلكم أعظمها اتباع هوى العوام مع أسباب أخر فأشاعوا عنا أنا نسب الصالحين وأنا على غير جادة العلماء ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها1 وذكر في الرسالة التي بعث بها إلى المسلمين ردا على رسالة من سأله عما ينسب إليه قال رحمه الله:"فما ذكر عني أني أنهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو أتي أقول لو أن لي أمرا هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم أو أنني أتكلم في الصالحين أو أنهى عن محبتهم فكل هذا كذب وبهتان"2 وفي الرسالة التي بعث بها الشيخ إلى أهل المغرب قال رحمه الله:"وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد اعظم حماية، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر وأن يبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر، وثبت فيه أيضا أنه بعث علي بن أبي طالب رضى الله عنه وأمره ألا يدع قبرا مشرفا إلا سواه ولا تمثالا إلا طمسه. ولهذا قال غير واحد من العلماء يجب هدم القبب المبنية على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 6ص 40. 2 المرجع السابق الرسالة رقم 8ص 52.

فهذا هو الذي أو جب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم 1 1- إقامة الحدود: ومعروف تاريخيا بأن الشيخ بدأ تطبيق الحدود الشرعية في العيينة في فجر الدعوة فرجم الزانية بها كما ذكر ذلك مؤرخو نجد مثل ابن غنام وابن بشر وغيرهم أنه جاء امرأة تطلب منه إقامة الحد عليها وأرب عنده بالزنا أربع مرات في أربعة أيام ولما تأكد الشيخ من توفر شروط إقامة الحد عليها وانتفاء الموانع أمر بها فرجمت حتى ماتت. وهذا يدل على مدى صدق التدين لديها والإقبال على الله، وعلى أثر الدعوة في الناس التي جعلتهم يقبلون بالحق والتطهير ولو كان في ذلك الموت الزؤام. كما أن إقامة هذا الحد في هذه المنطقة لأول مرة في تاريخ هذه الدعوة الإصلاحية أحدثت هزة عنيفة في صفوف المعارضة بلغت آثارها آفاق الأرض حتى جاءت التهديدات الشديدة من حاكم الاحساء لأمير العيينة ما لم يقتل هذا المطوع أو يخرجه من بلاده على الفور مما جعل الأمير عثمان بن معمر يحجم عن تحمل تبعات هذه الدعوة إذ رأى أن المعارضة بما لها من قوة كبيرة فوق قدرته وطاقته، وأنه إذا استمر في إيواء الشيخ يعرض نفسه وإمارته لأشد الأخطار. وعلى الرغم من أن الشيخ رحمه الله حاول ثنيه وتهدئة روعه ووعده مع الثبات بالنصر المؤزر على خصومه، وأن الدعوة ستتقدم وتصل إلى عقر دار المتكبرين في الأرض بغير الحق فإن عثمان بن معمر كان غير واثق من هذا النصر ولا آمن على نفسه وإمارته ففضل السلامة وأخرج الشيخ وهم بقتله والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 2- قطع الأشجار التي يتبرك بها الناس: وكان من المعروف في تاريخ نجد عند قيام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن هناك أشجارا في نجد يقصدها الناس للتبرك بها مثل "شجرة الذئب" في العيينة

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم17،ص114.

وشجرة "قريوه" في الدرعية ومثل "شجرة الفحال" في عرقة وشجرة الطرفية وغار بيت الأمير وغيرها، والتبرك هو طلب البركة منها ورجاؤها فيما يؤمل واعتقاد النفع فيها والضر وحصول البركة، وهو بهذا المعنى من الشرك الأكبر. وقد عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بابا في كتابه المعروف بكتاب "التوحيد" باب من تبرك بالشجر أو حجر أو نحوهما: وساق تحته أدلة تحريم هذا العمل وأنه من الشرك الذي حكم الله بكفر أصحابه فذكر قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} الآيات فهذه الأوثان الثلاثة من أعظم الأوثان الجاهلية في الحجاز، ولهذا نص الله عليها بأعيانها. واللات صخرة أو قبر، وأما العزى فهي شجرة سمر عليها بناء وأستار بين مكة والطائف، وأما مناة فهو وثن بين مكة والمدينة لأهل المدينة أو غطفان. فلما اعتقد فيها المشركون أنها تنفع وتضر من دون الله وتعلقت بها قلوبهم، صارت أوثانا تعبد من دون الله. فالتبرك بالأشجار والأحجار في عهد الدعوة شبيه بالتبرك باللات والعزى ومناة. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة قد بعث خالدا لقطع الشجرة وهدم الصنم والوثن تحقيقا للتوحيد وحماية لجنابه، وكان ما يفعل في العارض شبيها بما كان يفعل في الجاهلية، فقد قام الشيخ رحمه الله بقطع شجرة "الذئب" في العيينة بنفسه وأمر بقطع "شجرة قريوه" في الدرعية. وهذا العمل من الشيخ في قطع الأشجار، وإزالة معالم كانت محل تعظيم العامة تقصدها في قضاء الحاجات ولها قداسة في نفوس الناس، زاد هذا في الاختلاف بين الدعوة وخصومها لأنه خروج على مألوف الناس وعادتهم، ومخالف لما يجري في معظم الديار الإسلام. ومع هذا مضت الدعوة في طريقها لتحقيق أهدافها لاعتقاد قادتها أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرا، وأن من قام لله حفظه الله ونصره، لاسيما مع اليقين الجازم بأن يقومون به هو مقتضى الشرع وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وأن ما حصل كان سببه الجهل وغربة الإسلام.

1- إبطاله للوقف الذي يراد به تغيير أحكام الله: وجد في بعض الأوساط في نجد عند ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من كان ينظر إلى المرأة نظرة دنيوية في الميراث وتفضيل بعض الورثة على بعض حسب الهوى والمحبة ولهذا يلجأون إلى التحايل على هذه الفئات ليقسموا كل أموالهم بين ورثتهم على هواهم فرارا مما فرضه الله لكل وارث من نصيب مقدر، فيوقفون أوقافا حيلة يتوسلون بها إلى هذه الغرض الخبيث الذي تغير به أحكام الميراث، ووجد في عصرهم من يرى أن هذه الأوقاف التي يتوسل بها إلى حرمان ذي حق من حقه، وإعطاء وارث آخر أكثر من نصيبه المقدر، أن هذه الحيلة صدقة بر تقرب إلى الله. وقد تضمنت الرسالة الثانية عشرة من الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 78-79 مناقشة هذه القضية مناقشة علمية مستفيضة وسمى هذه الحيلة بالبدعة الملعونة ثم قال:"من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر تغيير شرع الله ودينه والتحيل على ذلك بالتقرب إلى الله وذلك مثل أوقافنا هذه إذا أراد أن يحرم من أعطاه الله من امرأة أو امرأة ابن أو نسل بناة أو غير ذلك أو يعطي من حرمه الله أو يزيد أحدا عما فرض الله أو ينقصه من ذلك ويريد التقرب إلى الله بذلك مع كونه مبعدا عن الله فالأدلة على بطلان هذا الوقف وعوده طائعا وقسمة على قسم الله ورسوله أكثر من أن تحصر". فإبطال الشيخ مثل هذه العقود الجائرة التي تحل حرام وتحرم حلالا، وتؤكد حق المرأة والقاصر من الأبناء والضعيف من الورثة، ولاسيما بين العامة والبوادي وأهل القرى الذين تغلب عليهم نزعة الجاهلية، جعلت الناس يشتدون في المعارضة ويختلفون مع قادتها ومبادئها التي صارت تغير بعض ما كان سائدا في حياتهم وتألفه نفوسهم، ولهذا أثره في إلهاب حماس العامة وإثارة نخوة الجاهلية ضد الشيخ ودعوته الإصلاحية. ومن أجل هذا وغيره بدأت المعارضة حملة إعلامية دعائية ضد هذه الدعوة وصاحبها وتشكيك الناس فيها وإعطاء صورة سيئة عن مبادئها وإثارة كثير من الشبهات حولها وحول إمامها نجمل أهمها في الفقرة التالية.

الشبهات التي أثيرت حول الدعوة

رابعا- الشبهات التي أثيرت حول الدعوة: من تتبعي للرسائل الشخصية التي كتبها إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وبعثها إلى علماء نجد وأئمة المساجد المعروفين بالمطاوعة، وللرسالة التي رد عليها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ بكتابه المعروف بمصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ولبحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1403هـ / 1983م، لطلب معرفة الشبهات التي أثارتها المعارضة حول هذه الدعوة الإصلاحية التجديدية وما يأخذون عليها، وأسباب الخلافات الحادة التي بلغت حد النقد وكتابة الفتاوي ضدها وحمل السلاح على أتباعها، وجدت أن أهم الشبهات التي أثيرت حولها كما يلي: أولا- ما ذكره الإمام محمد بن عبد الوهاب في رسالته التي بعث بها إلى أهل القصيم لما سألوه عن عقيدته حيث قال رحمه الله:"ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي فمنها: *أني مبطل كتب المذاهب الأربعة. *وأني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء. *وأني خارج عن التقليد. *وأني أدعي الاجتهاد. *وأني أكفر من توسل بالصالحين. *وأني أقول إن اختلاف العلماء نقمة. *وأني أقول لو أقدر على هدم قبة الرسول صلى الله عليه وسلم لهدمتها. *وأني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق. *وأني أقول لو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب. *وأني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

*وأني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما. *وأني أكفر من حلف بغير الله. *وأني أكفر ابن الفارض وابن العربي. *وأني أحرق دلائل الخيرات وروض الرياحين أسميه روض الشياطين.1 ومثل هذه الرسالة ما جاء في الرسالة التي بعث بها رحمه الله إلى عبد الله بن سحيم مطوع أهل المجمعة حين سأله عن الكتاب الذي أرسله سليمان بن محمد بن سحيم مطوع أهل الرياض، وكانت رسالة أرسلها إلى أهل البصرة والاحساء يشنع فيها على الشيخ ويستنصر بهم على إبطال ما أظهره الشيخ من بيان التوحيد. وقد ذكر الإمام في صدر هذه الرسالة أنها تضمنت 24 مسألة بعضها حق وبعضها بهتان وكذب ثم ذكر في هذه الرسالة الشبهات التي ذكرها في الرسالة السابقة وزاد عليها شبهات أخرى هي قوله: "وأما المسائل الأخرى, وهي: *أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله. *وأني أعرف من يأتيني بمعناها. * وأني أقول الإله هو الذي فيه السر. * وتكفير الناذر إذا أراد به التقرب لغير الله وأخذ النذر كذلك. * وأن الذبح للجن كفر والذبيحة حرام ولو سمى الله عليها إذا ذبحها للجن. فهذه خمس مسائل كلها حق وأنا قائلها" 2 ثم ذكر في موضع آخر من هذه الرسالة مسألة سادسة هي إفتاؤه بكفر شمسان وأولاده ومن شابههم وتسميتهم طواغيت فقال رحمه الله: "وأضيف إليها مسألة سادسة وهي إفتائي بكفر شمسان وأولاده ومن شابههم وسميتهم طواغيت وذلك أنهم يدعون الناس إلى عيادتهم من

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 1 ص12. 2 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 10ص 64.

دون الله عبادة أعظم من عبادة اللات والعزى بأضعاف، وليس في كلامي مجازفة بل هو الحق"1 وأضاف مسألة سابعة وهي أنه يقول بالإله الذي فيه السر، قال رحمه الله: وما قولي إن الإله الذي فيه السر"2ثم أجاب عنها. ولم أستطع أن أعثر على رسائل وكتابات خصوم الدعوة الإصلاحية في نجد لندرتها وضياع الكثير منها بالإهمال سوى ما تضمنته كتب ورسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأحفاده وتلامذة مدرسته، ومن هذه الرسائل الرسالة المسماة "جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة" وقد كتبها أحد معاصري الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ الذي رد عليها في كتابه الذي سماه "مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام" والذي صدره رحمه الله بقوله: وقد رأيت لبعض المعاصرين كتابا يعارض به ما قرره شخنا من أصول الملة والدين إلى أن قال "وسمى كتابه جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة".3 قال صاب الرسالة "قد أبتلى الله أهل نجد بل جزيرة العرب بمن خرج عليهم ولم يخرج على العلماء الأمناء كما صح عندنا وثبت عن مشايخنا الأمجاد العتاد وسعى بالتكفير للأمة خاصا وعامها وقاتلها على ذلك جملة إلا من وافقه على قوله لما وجد من يعنيه على ذلك بجهله".4 وفي موضع آخر من هذه الرسالة قال صاحبها:" ولكن هذا الرجل جعل طاعته ركنا سادسا للأركان الخمسة كما قال ذلك أخوه لأمه وأبيه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب حين خطأه."5

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 11.ص75. 2 المرجع السابق الرسالة رقم 11ص76. 3 مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ص15 –16. 4 المرجع السابق ص16. 5 المرجع السابق ص 101، 146.

ومن ذلك رمى الشيخ محمد عبد الوهاب بإنكار شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية كما جاء في نص الرسالة نفسها قوله:"وعند هذا الكلام محط الرجل فقائلته تنقيص سيد البشر صلى الله عليه وسلم والحط من رتبته وغايته إبطال شفاعته بالكلية"1 وتهمة أخرى ذكرت في هذه الرسالة وهي قوله:"ومن أنكر عليهم من أهل نجد قتلوه ونهبوه والباقي أجلوه"2 ومن التهم التي نسبوها لأئمة هذه الدعوة وجوب الهجرة على من لم يستطع إظهار دينه في موطنه إلى البلاد التي عمتها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية هذه التهمة في أكثر من موضع من الرسالة التي رد عليها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.3 كما وردت في رسالة من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب 4موجهة إلى عموم المسلمين فقال رحمه الله:"وأذكر لكم عني أني أكفر بالعموم فهذا بهتان الأعداء وكذلك قولهم إني أقول من اتبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده انه ما يكفيه حتى يجيء عندي، فهذا أيضا البهتان "5 ومنها شبة ادعاء النبوة. وقد نقل هذه الشبهة الدكتور عبد الرحمن عميرة في بحثه القيم الذي قدمه في أسبوع الشيخ محمد بن الوهاب الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1403هـ / 1983 م، من الضياء الشارق للشيخ سليما بن سحيم بقوله: "يقول الزهادي العراقي: "وكان محمد هذا بادئ بدأته كما ذكره بعض المؤلفين مولعا بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذبا كمسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي وطليحة الأسدي وأضرابهم فكان يضمر في نفسه دعوى النبوية إلا أنه لم يتمكن من إظهارها"6

_ 1 مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ص95. 2 المرجع السابق 241. 3 المر جع السابق ص42، 149، 242. 4 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 9ص 58. 5 المرجع السابق نفسه. 6 بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج اص 4 5.

ونقل هذا الاتهام نفسه الشيخ أحمد زيني دحلان فقال: "والظاهر من حال محمد بن عبد الوهاب أنه يدعى النبوة إلا أنه ما قدر على إظهارها والتصريح بذلك"1 ومما قيل عن الدعوة الإسلامية في نجد أن أهلها خوارج وأنهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم "يخرج أناس من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه سيماهم التحليق" 2 ونسب قول ذلك إلى كل من الشيخ الزهاوي العراقي والشيخ أحمد زيني دحلان في الحجاز والشيخ عبد الرحمن الأهدل مفتي زبيد. ومنها دعوى أن هذه الدعوة الإصلاحية جاءت بمذهب خامس لمذاهب الأئمة الأربعة وقد أوردها الشيخ محمد في رسالته التي بعثها إلى سليمان بن سحيم ورد عليها3 هذه أهم الشبهات التي أثيرت حول الدعوة الإصلاحية وأهلها في نجد. وقد تولى إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تحديد موقفه من هذه الادعاءات والتهم وإبانة وجه الحق فيما نسب إليه، وأوضح في مجمل إجاباته أن بعضها مجرد ادعاء وافتراء عليه وعلى دعوته، وبعضها حقيقة، ولكن الخصوم نقلوها على غير وجهها، وأوضح موقفه منها ودليله عليها، وبعضها الآخر حق وهو قائل به مقيم الدليل على صحته. وإليكم فيما يلي موجز إجابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب على هذه التهم

_ 1 بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج1ص55 وانظر بحث الشيخ محمد يوسف ج1 ص 282 المصدر نفسه 2 المرجع السابق ج 1ص 61. 3 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 34ص 228.

قال في الرسالة التي بعث بها إلى أهل القصيم عما بلغه من أن سليمان بن سحيم قد بعث لهم برسالة وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتهم:"والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي" ثم عددها كما سبقت الإشارة إليها فأوصلها إلى أربعة عشر بندا ثم قال: "وجوابي على هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم "1 وقل مثل ذلك في الرسالة التي بعثها إلى عبد الله بن سحيم مطوع المجمعة بعد أن ذكر التهم الموجهة إليه وعددها كما سبق ذكرها وقال:"فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم" ثم قال وأما المسائل الأخرى وهي: "أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله ومنها أني أعرف من يأتيني بمعناها ومنها أني أقول الإله هو الذي فيه السر ومنه تكفير الناذر إذا أراد به التقرب لغير الله وأخذ النذر كذلك ومنها أن الذبح للجن كفر والذبيحة حرام ولو سمي الله عليها إذا ذبحها للجن فهذه خمس مسائل كلها حق وأنا قائلها "ثم أخذ في شرح أدلة ما يقول به2 كما أجاب الإمام رحمه الله قول بأنه يكفر الناس ويقاتلهم في عدة مواطن فقال الرسالة التي بعث بها إلى عبد الرحمن السويدي في العراق ما نصه:"وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فذا هو الذي أكفره وأكثر الأمة والحمد لله ليسوا على ذلك. وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا. ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا" وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه" 3

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 1ص 12، ومثله في الرسالة رقم 5 ص 37. 2 المرجع السابق الرسالة رقم 11 ص 64. 3 المرجع السابق الرسالة رقم 5 ص 38.

وعن دعوى تحريق رسالة "دلائل الخيرات" فقال الإمام رحمه الله في ذلك:"وأما دلائل الخيرات، فله سبب ذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله، ويظن أن القراءة فيه أجل من قراءة القرآن وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فهذا من البهتان"1 وفي رسالة أخرى للإمام محمد بن عبد الوهاب نفى ما نسب إليه من النهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومن القول برغبته في هدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم أو أنه يبغض الصالحين أو يتكلم فيهم أو ينهى عن محبتهم، وقال "إن هذا كذب وبهتان عظيم"2 ثم قال رحمه الله: "وبالجملة فالذي أنكره الاعتقاد في غير الله مما لا يجوز لغيره"3 ثم شرح ذلك حتى قال في آخر هذه الرسالة:"وأنا أنصحكم لا تظنوا أن الاعتقاد في الصالحين مثل الزنا والسرقة بل هو عبادة الأصنام من فعله كفر وتبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم"4 وعن تهمة القول بوجوب الهجرة إلى مقر الدعوة الإصلاحية في نجد وأنه يكفر بالعموم قال الإمام رحمه الله تعالى في الرسالة العامة التي بعث بها إلى إخوانه المسلمين:"ما ذكر لكم عني أني أكفر بالعموم فهذا من بهتان الأعداء وكذلك قولهم إني أقول من اتبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده أنه ما يكفيه حتى يجيء عندي فهذا أيضا من البهتان إنما المراد اتباع دين الله ورسوله في أي أرض كانت. ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله ثم عاداه وصد الناس عنه، وكذلك من عبد الأوثان بعد ما عرف أنها دين للمشركين وزينه للناس فهذا الذي نكفره. وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء إلا رجلا معاندا وجاهلا "5

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم5 ص 52، 37. 2 المرجع السابق الرسالة رقم 8 ص 53., 3 المرجع السابق الرسالة رقم 8 55. 4 المرجع السابق، الرسالة رقم 9، ص 58. 5 المرجع السابق الرسالة رقم 5 ص 37.

وعما أثير من إنكار الدعوة الإصلاحية في نجد لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم قال إمام الدعوة في الرسالة التي وجهها لأحد علماء المدينة المنورة:"ثم بعد هذا يذكر لنا أن عدوان الإسلام الذين ينفرون الناس عنه يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع صاحب المقام المحمود، نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفعه فينا وأن يحشرنا تحت لوائه. هذا اعتقادنا وهو الذي مشى عليه السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين وتابعي التابعين والأئمة الأربعة رضي الله عنهم وهم أحب الناس بنبيهم وأعظمهم في اتباعه وشرعه. فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبون الشفاعة فإن اجتماعهم حجة والقائل إنه يطلب الشفاعة بعد موته يورد علينا الدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله أو من إجماع الأمة والحق أحق أن يتبع"1 وأما ما أثير من أن الدعوة الإصلاحية في نجد وأئمتها يكفرون الناس بالعموم وأنهم يعدون من الخوارج الذين ورد في ذمهم الحديث النبوي الشريف فقد أجاب عنه الإمام محمد بن عبد الوهاب بنفسه فقال: "فإن قائلهم إنهم يكفرون بالعموم. فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين الرسول وأن دعوة غير الله باطلة ثم بعد ذلك يكفر أهل التوحيد ويسميهم خوارج ويتبين مع أهل الغيب على أهل التوحيد"2 وأما ما قيل من ادعاء الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله للنبوة فإن رسائله وكتبه لم تتعرض لهذه الشبهة مما يدل على أنها إطلاق متأخر بعد عهده رحمه الله. ثم كما اتضح من النصوص التي وردت عن الزهادي ودحلان وغيرهما تدل على أنه لم ينقل عنه لا سماعا ولا كتابة أنه قال ذلك أو ادعاه أو عرف عنه وإنما جاءت عبارتهم:"أنه كان يضمر في نفسه دعوى النبوة إلا أنه لم يتمكن من إظهارها" هذه عبارة

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 7 ص 48، 49. 2 المرجع السابق رسالة رقم 7ص 48.

الزهادي أما عبارة دحلان:"والظاهر من حال محمد بن عبد الوهاب أنه يدعي النبوة إلا أنه ما قدر على إظهار التصريح بذلك "1 وهذه العبارات تدل على أنه لم يظهر من الإمام ما يدل على ذلك. أما الضمائر ومكنوناتها فليس كشفها ومعرفة ما فيها من وظيفة البشر ولا من ممكناتهم. والقول بهذا الإضمار إن هو إلا رجما بالغيب ودعوى بلا برهان بل البرهان قائم من كتابات ومواقف وتاريخ إمام الدعوة على عكس ذلك فهو يعلن في كل مناسبة اعتماده على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم بإحسان وأئمة الهدى في مختلف العصور الإسلامية وأنه يأخذ بالدليل الشرعي أنى وجده ولو خالف مذهبه. فهل يتفق هذا مع ما قيل من إضماره لدعوى النبوة ولكنه الهوى الذي يضل ويعمى ويسهل رمي المسلم بما ليس فيه ولا يليق به. وقد تعمدت أن آخذ الإجابة على كل التهم الموجهة لهذه الدعوة الإصلاحية من رسائل إمامها الشخصية التي بعث بها لمعاصريه وأجاب بها بنفسه صراحة كما قررها وأكدها في كتبه المطولة في علم التوحيد وتقرير مبادئ الدعوة وبيان حقيقتها وأسباب محاربة كثير من الناس لها حتى أظهرها الله لتتحقق بذلك الأمانة العلمية المطلوبة وتظهر الحقيقة حول هذه الدعوة وما جاءت به.

_ 1 بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج 2ص 54 – 55.

الفصل السادس: آثار حركة التجديد ونتائجها

الفصل السادس: آثار حركة التجديد ونتائجها أثرها في شبه الجزيرة العربية ... الفصل السادس:آثار حركة التجديد ونتائجها من المناسب أن نذكر ثأثيرات هذه الدعوة وامتداداتها في العالم الإسلامي في كلمات موجزة للتدليل على هذه الحقيقة التاريخية في الفكر الإسلامي الحديث وأن لها السبق والريادة في الإصلاح داخل جزيرة العرب وخارجها، فنقول: تأثير هذه الدعوة في شبه جزيرة العرب: عند قيام حركة الإصلاح والتجديد في نجد على يد الإمامين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود رحب بها بعض الأئمة الأعلام في نجد وفي غيره من أقاليم الجزيرة العربة من باب الموافقة والتأييد لا من باب التأثير. وذلك مثل بعض علماء اليمن كالإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني شيخ صنعاء اليمن وزبيد وتلميذه الإمام الشوكاني رحمهما الله وبعض علماء المدينة مثل الشيخ محمد حياة السندي والشيخ إبراهيم بن سيف وفي البصرة الشيخ محمد المجموعي ومدرسته السلفية وفي الاحساء مثل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وتلاميذه وبعض معاصريه من علماء نجد الذين لم يستطيعوا أن يقوموا بما قام به. كما واقفه يعض علماء العراق، ووافقه في الشام عدد آخر منهم، ولكن الكل لم يستطيعوا أن يقوموا بواجب الدعوة إلى الحق والخروج على ما تواضع الناس عليه يوضح ذلك ما جاء في رسالة الإمام محمد بن عبد الوهاب التي بعث بها إلى فاضل آل مزيد رئس بادية الشام التي قال فيها رحمه الله، ما يلي:

"والأمر الثاني أن هذا الذي أنكروا علي وأبغضوني وعادوني من أجله إذا سألوا عنه كل عالم في الشام واليمن أو غيرهم يقول: هذا هو الحق وهو دين الله ورسوله ولكن ما أقدر أن أظهره في مكاني لأجل أن الدولة ما يرضون وابن عبد الوهاب أظهره لأن الحاكم في بلده ما أنكره بل لما عرف الحق اتبعه هذا كلام العلماء وأظن أنه وصلك كلامهم"1 ومن التأثيرات المباشرة لهذا الدعوة الإصلاحية في شبه جزيرة العرب ما أقامه من مدرسة علمية سلفية خالصة وضع نواتها في حريملاء وتعاهد غراسها بعد انتقاله إلى العيينة ووسع قاعدتها وعمق جذورها وتعاهد نموها في الدرعية حتى استطاع أن يبعث من المبرزين منها الدعاة والقضاة والموجهين إلى مختلف الأقاليم النجدية. وبتوسع نفوذ الدولة السعودية الأولى في أقطار الجزيرة العربية أتيحت فرص أوسع لنشر هذه الدعوة الإصلاحية في البلاد التي وصل إليها الحكم السعودي أو أقام معها علاقة طيبة وحسن جوار مثل قطر والبحرين والإمارات العربية في الشارقة ورأس الخيمة وبقية الإمارات العربية وأجزاء من عمان. كما أتاح فتح الدولة السعودية لمكة المكرمة والمدينة المنورة وقيادة الحجيج في مواسم الحج والالتقاء بعلماء مكة والمدينة والوافدين إليها في كل عام من علماء العالم الإسلامي عامة وفي جزيرة العرب خاصة فرصا جيدة لنشر هذه الدعوة الإصلاحية وشرح أهدافها وبيان حقيقتها مما جعل لها مكانة مرموقة في أوساط الناس والعلماء والعامة على السواء حتى لم يبق بلد من البلدان في شبه الجزيرة العربية إلا فيها أنصار وأتباع لهذه الدعوة.

_ 1 القسم الخامس من مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 4 ص 32،طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

تأثير هذه الدعوة في أفريقيا

تأثير هذه الدعوة في أفريقيا: لم يقف تأثير هذه الدعوة الإصلاحية على العالم الإسلامي في شبه جزيرة العرب بل تعداه إلى بقية العالم الإسلامي، ففي المغرب العربي الإسلامي ظهرت بوادر يقظة إسلامية في كل دولة تنادي بالإصلاح الديني والسياسي بما يتلاءم مع بيئتها المحلية، ففي مصر قامت حركت الإصلاح على يد الإمام محمد بن عبده وجمال الدين الأفغاني وقامت على أيديهم مدرسة إصلاحية تطالب بالعودة إلى الإسلام في نقائه وصفاء عقيدته ومحاربة البدع وإنكار زيارة القبور والإشراك بالله عندها، والدعوة إلى فتح باب الاجتهاد في الدين واحترام العقل والأخذ بأسباب التقدم في إطار الدين ومقتضياته. وكان من أبرز تلامذته الإمام محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب وغيرهما. وجمعية أنصار السنة المحمدية في مصر هي امتداد لحركة الإصلاح والتجديد في نجد. وقد تأثرت دعوة الإخوان المسلمين في مصر بهذه الدعوة في نزعتها الإصلاحية ونسجها التربوي وتوجيهها العام للعودة بالأمة الإسلامية إلى الكتاب والسنة وما كان عليه السلف هذه الأمة ومحاربة الابتداع في الدين والتحرر من التبعية الذليلة للمستعمرين. وفي غرب السودان قامت دعوة الشيخ عثمان 1بن فودي "دان فوديو" في قبيلة الغلا الذي استطاع أن يجمع قبيلته على الإيمان بدعوته الإصلاحية السلفية في العودة بغرب السودان إلى التوحيد ومحاربة البدع وبقايا الوثنية في بعض قبائل السودان ورفع راية الجهاد في وجه المعارضين عام 1802م من قبائل الحوصة حتى أقام دولة إسلامية تؤمن بهذه الدعوة في سكوتو. واستمرت هذه الدولة المسلمة ما يقارب مائة عام حتى سقطت على يد الاستعمار الغربي الأوروبي. وإذا كانت قد سقطت قيادتها السياسية

_ 1 انظر البحث القيم للدكتور مصطفى سعيد عن أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في حركة عثمان بن فودي الإصلاحية من ج2 ص 432 من بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وبحث الدكتور وهبة الزحيلي في أسبوع الشيخ محمد ج2 ص 929.

فإن إيمانها بمبادئ الإسلام وأصول التوحيد لا يزال قائما في نفوس الناس الذين عاشوا في ظل تلك الدولة الإسلامية. وفي شمال السودان قامت دعوة إصلاحية أخرى هي الدعوة المهدية التي أسسها أحمد بن عبد الله الذي بدأ دعوته سرا في جزيرة أبا ثم جهر بدعوته وأعلن للناس مبادئ دعوته الإصلاحية ودعا علماء المسلمين على اختلاف مشاربهم إلى تأييدها ومناصرتها ومحاربة أعداء الدين تحت لوائها1 وقد نادت هذه الحركة الإصلاحية في شمال السودان بوحدة الأمة المسلمة السودان ونبذ الفرقة والاختلاف وأخذ الدين من أصول الشرعية الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح وحذرت من تعدد المذاهب والطرق الصوفية وأن ذلك كان سببا في اختلافها وذهاب ريحها والعمل على إقامة خلافة إسلامية مهتدية تقوم برفع مستوى الحياة المادية والاجتماعية والسياسية والدينية وتعمل على محاربة الاستعمار وإقامة مجتمع إسلامي نظيف. ورفعت هذه الدعوة لواء الجهاد في سبيل الله في وجه الاستعمار الغربي الإنجليزي. وحققت هذه الراية انتصارات عديدة سعيا وراء استقلال السودان في دولة إسلامية، إلا أنها لم تستطع أن تصل إلى غايتها المرسومة على الصورة المطلوبة. ولكنها ظلت دعوة عامرة في نفوس قطاع واسع في المجتمع السوداني المسلم تكون رابطة إسلامية قوية عرف أتباعها فيما بعد بالأنصار. وأخيرا أطلق على أتباع هذه الدعوة حزب الأمة. وفي ليبيا قامت الدعوة السنوية التي أسسها الإمام محمد بن علي السنوسي 2وهو الذي عاصر دخول الدولة السعودية الأولى للحجاز واختلط بعلمائها وأخذ عنهم ثم عاد إلى ليبيا وقام بدعوته الإصلاحية التي اتخذت الإسلام طريقا لها في العمل

_ 1 انظر بحث الدكتور وهبة الزحيلي في أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ج2 ص 329. 2 المرجع السابق ج 2 ص 327.

فدعت إلى العودة بالمجتمع المسلم الليبي إلى الإسلام واعتماده على الكتاب والسنة واجتهاد فقهاء المسلمين في ضوئهما ومحاربة الاختلاف والتفرق في الدين ومواجهة المبشرين بالنصرانية بسلاح الإيمان والعلم والعمل والاعتماد على ذاتية المجتمع المسلم ومحاربة الاستعمار الإيطالي المتسلط. وقد حققت قدرا كبيرا من النجاح في نشر الإسلام والتعريف بأصوله ومبادئه ومقتضياته وتحقيقه ومحاربة التبشير النصراني وإعادة الثقة في النفوس بصلاحية الإسلام وقدرته على الصمود في وجه المد الاستعماري الغربي المتمثل في الاستعمار الإيطالي في ليبيا، وتكوين دولة إسلامية عزيزة الجناب امتدت آثارها الدينية إلى أفريقيا الغربية. وأقامت مدرسة علمية إسلامية خرجت العلماء والقضاء والدعاة في تتابع مستمر امتدت آثاره إلى العالم الإسلامي والدول المجاورة لليبيا. وبقيت آثار هذه الدعوة بعد زوال سلطتها السياسية. وفي المغرب والجزائر قامت دعوات كل من الأمير عبد القادر الجزائري الذي ناهض الاستعمار الغربي سنوات طويلة تقارب عشرين عاما، وشاركه في جهاده الطويل كل من عبد الكريم الخطابي في مراكش ومحمد بن عبد الكريم الخطابي الذي شارك في الجهاد ومكافحة الاستعمار الغربي الفرنسي والأسباني في كل من المغرب والجزائر معا.1 ثم رفعت راية الجهاد الإسلامي في المغرب العربي بعدهم جمعية العلماء بالجزائر بقيادة الشيخ المصلح عبد الحميد بن باريس والشيخ محمد البشير الإبراهيمي اللذين كان لجهادهما الأثر البالغ في إيقاظ روح الجهاد الإسلامي في مغربنا العربي الإسلامي حتى حصلت الجزائر على استقلالها وطرد المستعمرين منها إلى غير رجعة إن شاء الله.

_ 1 انظر بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج2 ص 323، 486، 479.

تأثير هذه الدعوة في شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا

تأثير هذه الدعوة في شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا:1 ولم تقم في شبه القارة الهندية دعوة إصلاحية واحدة فحسب ولكن قامت فيها عدة دعوات كتب لبعضها النجاح التام وبعضها الآخر تم له نجاح محدود كقوة سياسية ذات نفوذ مستقل. فمن الحركات التي كتب لها نجاح كبير حرك أهل الحديث في الهند وقائدها العظيم صديق حسن خان ملك بهوبال الذي قامت دولته على الدين الخالص وإحياء السنن وإماتة البدع وكان له عناية بعلوم الشريعة أصولا وفروعا فحقق وألف ونشر ودعا الناس إلى التوحيد. وأقام كيانا سياسيا في شبه القارة الهندية على التوحيد وظل ما شاء الله على ذلك. وإن كانت الدولة قد زالت فإن آثار هذه الدولة الفكرية والدينية لا تزال قائمة في نفوس أتباعها ممثلة في جمعية أهل الحديث. ومن أشهر قادة الإصلاح الديني والاجتماعي في الهند أحمد بن عرفان الذي كانت له جهود عظيمة في إيقاظ الروح الإسلامية في القارة الهندية. وكان له تأثير بالغ في صفوف المسلمين في نشر الدعوة السلفية ورعاية أتباعها والحركة الفرائضية التي أسسها عام 1804 م الداعية الإسلامي الهندي شريعة الله وخلفه في تتميم دعوته ابنه البار المسمى "دوذ ميان" الذي أعطى لهذه الحركة بعدا جديدا وقوة ضاغطة ووقف في وجه الاستعمار الإنجليزي في الهند ينافح عن دعوته ويعمل على نشر مبادئها السلفية بكل قوة طيلة حياته. ومن أصحاب الحركات الإصلاحية في الهند كذلك الأمير السيد أحمد أحد أمراء الهند الذي أقام دعوته السلفية في إقليم البنجاب. وأخذت دعوته تتعاظم وتمتد. وأقام دولة إسلامية حملت راية الدعوة الإسلامية والجهاد في سبيل الله في وجه أعداء الإسلام من إنجليز وأعوانهم والعارضين من الهنود لدعوته حتى هدد نفوذه شمال الهند، وبقيت آثار هذه الحركة في نفوس أتباعها حتى اليوم في إقليمي البنجاب والبنغال.

_ 1 انظر مجموعة بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج 2ص 319، 373.

ومن دعاة الإصلاحية في الهند كذلك: السيد أمري علي في كلكته الذي قام بواجب الدعوة الإصلاحية السلمية في الهند وعني بتوعية المسلمين ونشر المؤلفات الإسلامية التي من شأنها بث الروح الإسلامية في نفوس الناس ولفت أنظارهم إلى ما يجب عليهم تجاه ربهم ودينهم وبلادهم. ومن الجمعيات الإسلامية السلفية في شبه القارة الهندية التي أخذت على عاتقها واجب الدعوة إلى الله والعودة بالأمة الهندية المسلمة إلى ما كان عليه السلف الصالح ندوة العلماء في لكنو، والتي لا تزال تقوم بواجبها في توعية المسلمين في الهند وتبصرهم بواجبهم وتوثيق صلتهم بهذا الدين، عن طريق المحاضرات ونشر الكتب وبعث الدعاة وتبني قضايا المسلمين في الهند. ولهم مجلة سيارة توزع على نطاق واسع تحمل راية الدعوة الإسلامية السلفية هي مجلة البعث الإسلامي. وفي أندونيسيا قامت عدة حركات إسلامية إصلاحية تدعو إلى نشر الوعي الإسلامي والدعوة إلى التوحيد والعودة إلى ما كان السلف، ومحاربة البدع والخرافات والانحراف في الدين ومقاومة أعداء الإسلام من المستعمرين وأتباعهم من المواطنين الأندونيسيين. ومن هؤلاء المصلحين الحاج مسكين وأصحابه الذين عرفوا في التاريخ ب"الأسود الثمانية" في سومطرة عام 1802 م والذين سماهم خصومهم بطائفة الرهبان، وهي دعوة سلفية تدعو إلى العودة إلى الدين الخالص ومحاربة الابتداع في الدين وتعمل على جمع كلمة السلمين على الحق ومحاربة أعداء الدين. وقامت بحركة جهادية ضد المستعمرين الهولنديين بذلت فيها كل ما لديها من قوة حتى تغلب عليها الاستعمار بالقوة والقهر فقضوا على نفوذها السياسي وحركتها الجهادية المسلمة. ولكنها ظلت دعوة قائمة في نفوس أتباعها تنتظر الفرصة المناسبة لعودتها. وقد استطاع أتباعها إحياء نشاطها فيها بعد، ثم عادت إلى مسرح الحياة على يد أبناء لها بررة من أمثال: الشيخ محمد عبد الله أحمد 1833- 1878م والشيخ الحاج عبد الكريم أمر الله 1845- 1879 م والدكتور الحاج عبد الملك كريم الله رئس الهيئة المركزية

لمجلس علماء أندونيسيا الحالي وغيرهم. كما قامت دعوة إصلاحية سلفية أخرى في جاوة عرفت بالجمعية "المحمدية" عام 1912م في مدينة جاكرتا. وجمعية الإصلاح والإرشاد عام 1914م في جاكرتا كذلك. وجمعية الوحدة الإسلامية عام 1923م في باندنج قاعدة منطقة جاوة الغربية. أما تايلند فإن الحركة الإسلامية الإصلاحية فيها كانت أقل. ومع ذلك قامت فيها مدرسة أنصار السنة التي تأسست عام 1923 م في دائرة "فاكفجون" في جنوب تايلاند وكانت مدرسة نظامية تدرس العلوم الإسلام لأبناء المسلمين ويقوم أعضاء هيئة التدريس فيها بواجب الدعوة في أنحاء تايلند وإنكار البدع ومظاهر الانحراف في العقيدة والعبادة عند المسلمين التايلنديين واستمرت هذه المدرسة تؤدي رسالتها ما يزيد على اثني عشر عاما، ثم اضطر القائمون عليها إلى إغلاقها لظروف مادية، ثم نقل مركز الدعوة الإسلامية إلى العاصمة بانكوك، كما غيرت أسلوب عملها من مدرسة تعليم منتظم إلى مركز دعوة وتوجيه عام عن طريق الإذاعة والنشرات الإخبارية والتوجيهية وإلقاء المحاضرات والدروس العامة في المساجد. كما أن هناك نشاطا آخر في عاصمة تايلاند بانكوك بدأ عام 1339هـ على يد رجل أندونيسي هو الشيخ أحمد وهاب. وكانت إقامته فيها على صورة سائح ينتقل بين المساجد والجمعيات الإسلامية في بانكوك. ثم بدأ الدعوة بطريقة هادئة وأساليب مناسبة وأخذ يوجه الناس علماء وعامة إلى قراءة كتب السنة المفيدة. ثم أنشأ جمعية الإصلاح، وبدأت دعوته طورا جديدا إذ أنشأ مجلة إسلامية سماها "البداية"تدعو إلى التوحيد وتحارب الشرك والبدع والانحرافات في العقيدة والعبادات والسلوك بصراحة، فقام في وجه هذه الدعوة علماء السوء وأهل البدع والخرافات. وأخذت دعوة الشيخ أحمد وهاب تتعاظم ويرتفع صوتها بين الناس عدة سنوات، وبالتحاق الشيخ أحمد وهاب بالرفيق الأعلى وكبار تلامذته بدأت هذه الدعوة في الانكماش والتراجع،

والجمعية لا تزال قائمة وتمارس نشاطها ولكن بدرجة أقل من ذي قبل، فهي تصدر فقط كتابا وأحدا سنويا بعد أن كانت تصدر في كل عام عدة كتب. ومن هذه العرض السريع لأثر الدعوة الإصلاحية في نجد على الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي في مشرقه ومغربه على السواء فإن من الأمانة العلمية أن يقال بأن هذه الحركات كلها تالية لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومتأخرة عنها تاريخيا. وليس بالضرورة أن كل هده الدعوات الإصلاحية التي مر ذكرها وغيرها قد تأثرت تأثرا مباشرا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأنها صورة عنها إذ أن في هذه الحركات الإصلاحية من تختلف في منهجها وأسلوبها وأنماط سلوك المنضمين تحت لوائها عن منهج حركة الإصلاح في نجد. فإذا كانت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب سلفية النزعة شديدة المفاصلة مع الخصوم على اختلاف مشاربهم من الصوفيين وأصحاب الطرق وسدنة القبور وغيرهم فإن في الدعوات التي مر ذكرها آنفا من يختلف في منهاجه وطريقة عمله مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد. فالمهدية في السودان والسنوسية في ليبيا 00وغيرها من حركات الإصلاح كان لها نزعة صوفية واضحة ولها تعاون وثيق مع أصحاب الطرق والزوايا والتكايا الصوفية. ولكن الجميع يتفقون مع دعوة الإصلاح في نجد في المعانات الشديدة من سوء الأحوال في مختلف البلاد الإسلامية بعد ضعف الخلافة الإسلامية في بداية العصر الحديث، ويتفقون في وجوب الإصلاح واتخاذ الإسلام طريقا في أن يكون الإصلاح دينيا وسياسيا معا. وليس بالضرورة أن هذه الحركات كلها امتداد لتلك الحركة ونقلا مباشرا عنها، وإن كان بعضها الآخر يظهر تأثرها المباشر بالحركة الإصلاحية في نجد واتفاقها معها في الطريقة والمنهج وخاصة ما يعرف بأنصار السنة المحمدية في مصر والسودان

وسوريا ولدى الإمام رشيد رضا وبعض الحركات في الهند وأندونيسيا وتايلند. ومن المؤسف جدا أن هذه الحركات الإصلاحية تعاني الكثير من المشكلات والمتاعب وتجدفي طريقها الكثير من الصعوبات والعقبات بتخطيط محكم من الدول الاستعمارية الغربية والدول العلمانية، المحلية، وفقدان هذه الحركات الإمكانات العلمية والمادية والقيادات الواعية القادرة على قيادتها إلى بر الأمان. ولكن الأمل في الله سبحانه ثم في بوادر النهضة الإسلامية الشعبية التي عمت البلاد الإسلامية وهي تمثل مبشرات جديدة باستئناف العالم الإسلامي حياة جديدة يدفعه إليها سوء أحواله وشدة وطأة الدول الاستعمارية عليه وتمزق الشعوب الإسلامية واستغلال خيراتها وإقامة الفتن الطاحنة بين أبنائها وتأمين مصالحه في أوطان المسلمين بإنهاك الأمة المسلمة في كل ديارها.

النتائج السياسية

نتائج حركة التجديد أولا- النتائج السياسية: 1- الخروج بالمنطقة من محنتها: كان من أهداف هذه الحركة الإصلاحية القضاء على الفرقة والانقسام في منطقة نجد التي كانت سائدة قبل دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فإن يطلع على كتابات المؤرخين الذين كتبوا عن تاريخ نجد قبل هذه الحركة الإصلاحية وفي بدء قيامها مثل ابن غنام وابن بشر الفاخري والمنقور وغيرهم يرى صورة قاتمة للحياة السياسية والاجتماعية في نجد إذ كان أهلها في غاية الفرقة والشتات والتطاحن وسفك الدماء. فالقبائل العربية التي تنتقل حيث الماء والكلأ والمرعى بغير بعضها على بعض في وضح النهار، ويعيشون على السلب والنهب بغزو بعضهم بعضا ويقتلون ويأسرون ويغنمون. والبادية يغزون الحاضرة المقيمين في المدن والقرى، وينهبون مواشيهم وثمار نخيلهم، ويقتلون من يمنعهم من ذلك أو يدافع عن ماله، وأهل القرى والمدن في خصومات مستمرة مع جيرانهم من المدن والقرى المجاورة. بل أن أهل البلد الواحد توجد فيما بينهم الخصومات والمنازعات التي تصل إلى حمل السلاح بعضهم على بعض، وسفك الدماء المحرمة بغير حق عند أمور بسيطة مثل الاختلاف على الماء أو مقاسم السيل والأرض بل الإمارة في البلد الواحد تقوم عليها المنازعات والقتال بين أهل البلد الواحد كل يطلبها، بل يتقاتل عليها القبيلة الواحدة كل يريدها لنفسه، بل يتقاتل عليها أقرباء الرجل وبنو عمه , ولا يمضى الغالب في الإمارة إلا شهورا أو أياما حتى ينقض عليه خصومه سرا أو جهارا فيقتلونه ويتولون الأمر من بعده. وهكذا حتى صارت الحياة مرة وجحيما لا

يطاق العيش في ظلها. والذين كتبوا عن هذه الفترة التاريخية نقلوا لنا صورة مروعة عن بحيرات الدم القاني المراق في ربوع نجد في باديتها وحاضرتها، في شمالها وجنوبها، في شرقها وغربها، بلا فرق. والكلمات التي عبروا بها تقطر دما وتفيض أسى وألما وحزنا على هذه الحالة السياسية السائدة في نجد، والتي تراق فيها دماء زكية في غير سبيلها، بل بما يغضب الله ويوجب مقته ويبعد عن رحمته ويؤجج نار الفتنة ويعمق الخلافات ويثير الأحقاد ويؤصل العداوة ويدعو إلى الأخذ بالثأر من كل طرف. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا بحيث لا تحتاج إلى ذكر لظهور أمرها بين العام والخاص. وكتابات المؤرخين في هذه الفترة لهذه المنطقة فيها ما يشبه الإجماع على ما وصفنا. يقول المؤرخ المحقق الشيخ عثمان بن بشر رحمه الله: "ثم إن هذا الدين الذي من الله به آخر هذا الزمان على أهل نجد- يعني الدعوة الإصلاحية في نجد-بعدما كثر فيهم الجهل والضلال والظلم والجور والقتال، فجمعهم الله تعالى به بعد الفرقة أعزهم بعد الذلة وأغناهم به بعد العيلة وجعلهم إخوانا"1 وقال رحمه الله في سوابقه عن القتال بين القبائل العربية في نجد: "وفيها وقعة السبلة" وهو موضع معروف بين بلد الزلفى والدهناء وهذه الوقعة على الظفير من بني خالد، وذلك أن بني خالد ساروا إليهم وقائدهم عبد الله بن تركي بن محمد بن حسين آل حميد فواقعوهم وصارت على الظفير هزيمة وأخذوا عليهم نعما كثير2 وفي حوادث سنة ثلاثة وستين ومائة وألف قال رحمه الله: "وفيها قتل حمد بن سلطان ودباس رؤساء العودة المعروفة في ناحية سدير قتلهم ابن عمهم علي بن علي"3

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1ص 2،3، 2 المرجع السابق ج1 ص 27. 3 المرجع السابق ج ص 24.

وفي سوابقه رحمه الله الحوادث عام 1199هـ قال "سابقة"وفي سنة اثنين وتسعين وألف وقعة تسمى "دلقة" بين عنزة والظفير، قتل من عنزة مقتلة كثير منهم لاحم بن خشم النبهاني وحصن بن جمعان، وفيها مقتل عدوان بن تميم صاحب "الحصون" البلدة المعروفة في سدير وبنيت منزلته وقتل محمد بن بحر صاحب الداخلة في منزله1 وقد وصف الزعامات السياسية في هذه الفترة المؤرخ الأمريكي لوثروب في حديثه عن اليقظة الإسلامية في هذه الفترة التاريخية فقال: "أما البدو الرجل فالزعامة فيهم لشيوخهم الذين يتولون القيام على أحكامهم وتدبير شئونهم. وأما الحضر في الواحات فالزعامة فيهم على الغائب لشيوخهم الأسر العليا منزلة ومكانة بيد أن مبلغ ما في أيدي هؤلاء الشيوخ من السلطة المطاعة حق الطاعة إنما هي سلطة صورية واهنة لا تقوى على الدوام على الوقوف في وجه تيار العادات القومية والعرف" 2 وكان هذا الانقسام والتفرق والتعدد في القيادات السياسية والإمارات الصغيرة ثمرة طبيعية لانعدام وجود دولة موحدة في نجد منذ النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وبقاء هذه المنطقة الشاسعة من العالم الإسلامي بعيدة عن مركز الخلافة الإسلامية منعزلة عن الحياة العامة في العالم لصعوبة مسالكها وقلة مواردها وقيام التكتلات القبلية التي استطاعت أن تحل بالأمن وتقطع السبل وخيف السالك لدروبها من سكان المنطقة، فضلا عن الوافدين إليها، مما جعلها مرتعا للجهل وفريسة للعصبيات التي مزقت شملها وفرقت صفوف أهلها وضيقت موارد الرزق فيها. وإذا كانت الخلافة العثمانية قد بسطت نفوذها على العالم الإسلامي من حدود فارس شرقا إلى أقصى المغرب، ومن جنوب شبه الجزيرة العربية إلى أوروبا، فإن الخلافة العثمانية تهتم بهذه المنطقة بل اكتفت ببسط نفوذها على الحجاز والساحل الغربي وعلى سواحل الخليج العربي ومنطقة الاحساء فقط. أما نجد فلم يكن

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1ص 80. 2 حاضر العالم الإسلامي، لوثروب استيوارد ج 1 ص 261.

نصيب من الرعاية ولم تتدخل الخلافة العثمانية في شأن من شئونها سوى الحملات العسكرية التدميرية التي قامت بها ضد هذه الحركة الإصلاحية بعد ظهور أمرها، فقد ذكر صاحب تاريخ حاضر العالم الإسلامي جهود الأتراك يقول: "وجل ما استطاع الأتراك إخضاعه من بلاد العرب هو أنهم بسطوا شيئا من سلطانهم على الأماكن المقدسة الحجازية وساحل البحر الأحمر أما نجد والبلاد الداخلية فقد ظلت حرة مستقلة 1" وفي ظل هذه الفوضى السياسية والغارات القبلية ساءت الأحوال الدينية والاجتماعية والاقتصادية في هذه المنطقة مما مهد لهذه الدعوة الإصلاحية السياسية والدينية التي بدأت في مرحلتها الأولى في حريملاء في مدينة محدودة السكان كثيرة الانقسام على الإمارة. ثم في مرحلتها الثانية التي تلتها في مقرها الثاني في العيينة في كنف إمارة آل معمر والتي أظهر فيها الشيخ دعوة وأعلن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأقام بعض الحدود وأزال بعض المنكرات وانتشر أمر الدعوة في أرجاء شبه الجزيرة العربية. وفي المرحلة الثالثة من مراحل الدعوة التي بدأت بانتقال الدعوة من العيينة إلى الدرعية وقيام ذلك الحلف الميمون بين إمام الدعوة الإصلاحية والإمام محمد بن سعود أمير الدرعية وقتها، دخلت الدعوة مرحلتها الجديدة، والتي من أهم مظاهرها استقبال المهاجرين وإعلان الجهاد لتحقيق أهداف هذه الدعوة الإصلاحية ورد العدوان عنها وتأمين دعاتها والقضاء على أسباب الفرقة والانقسام وتحقيق وحدة سياسية ودينية عامة تقوم على رعاية المصلحة العامة وحفظ الأمن وتأمين السبل وإقامة العدل وحراسة الدين وإقامة الحدود ونشر الدعوة الإسلامية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والضرب على يد العابثين والمفسدين. وقد بذلت هذه الدعوة في هذا السبيل كل غال ورخيص وقدمت خيرة رجالها

_ 1 المرجع السابق، ج 1 ص261.

وصفوة شبابها في ساحات القتال لتحقيق هذه الغاية العظيمة عبر سنوات طويلة من الجهاد حتى أظهر الله أمرها ومكن لها في الأرض. فأقامت كيانا سياسيا عظيما يمتد من سواحل البحر الأحمر في الغرب إلى سواحل الخليج في الشرق، ترفرف عليه راية التوحيد، وتتمثل فيه الوحدة السياسية القائمة على الدين الخالص والفكر الموحد والمحبة الصادقة والتطلع إلى مستقبل أفضل في ظل وحدة شاملة للعالم الإسلامي في نهضة الحديثة. وقد تفيأ الناس في ظل هذه الوحدة السياسية وأمنها المستقر ورعايتها المستمرة حياة معاشة في دولة إسلامية منيعة الجانب عزيزة الجناب فكانت هذه الوحدة إحدى ثمار هذه الحركة الإصلاحية. 2- إحياء روح الجهاد في سبيل الله: من يتتبع تاريخ الحركة في نجد يظهر له بجلاء أن هذه الحركة هي حركة دينية سياسية علمية جهادية وأنها لم تأخذ عملا بمبدأ الجهاد في سبيل الله إلا في المرحلة الثالثة من مراحل نموها والتي بدأت بانتقالها بالدعوة إلى الدرعية. ويؤيد ذلك شرح إمام الدعوة أهداف دعوته ووسائلها للإمام محمد بن سعود وقبوله بها، ومن ثم تم الاتفاق على البدء بالجهاد. وبنود الاتفاقية التي تمت بين الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد ين سعود تدل على أن أول بند فيها الأخذ بمبدأ الجهاد في سبيل الله لإقرار التوحيد. وفي ذلك يقول أبن بشر رحمه الله "فدخل عليه – على الإمام محمد بن عبد الوهاب – في بيت ابن سويلم ورحب به وقال: أبشر ببلاد خير من بلادك وأبشر بالعز والنعمة فقال الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين" حتى قال: "ثم أخبره الشيخ بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دعا إليه وما عليه أصحابه رضى الله عنهم من بعده وما أمروا به وما نهوا عنه وأن كل بدعة بعدهم ضلال، وما أعزهم الله به بالجهاد في سبيل الله وأغناهم به وجعلهم إخوانا، ثم أخبره بما عليه أهل نجد اليوم من مخالفتهم بالشرك بالله تعالى والبدع والاختلاف والجور والظلم 1 وبنود الاتفاقية التي تمت بين الإمام محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود جاء

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج1 ص12 للشيخ عثمان بن بشر.

في بندها الأول الاستجابة لدعوة الجهاد في سبيل الله. فقد اشترط الإمام محمد ين سعود على إمام الدعوة شرطين، يقول ابن بشر رحمه الله: "فلما تحقق – محمد بن سعود - معرفة التوحيد وعلم ما فيه من المصالح الدينية والدنيوية قال له يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لاشك فيه وأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به من الجهاد لمن خالف التوحيد. ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين: نحن إذا قمنا في نصرتك والجهاد في سبيل الله وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا. والثانية أن لي على الدرعية قانونا آخذه منهم في وقت الثمار وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئا. فقال الشيخ أما الأولى فأبسط يدك الدم بالدم والهدم بالهدم. وأما الثانية فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها"1 فهذه النصوص التاريخية تدل على أن هذه الدعوة الإسلامية الإصلاحية التجديدية قد اعتمدت مبدأ الجهاد في سبيل الله منذ فجر تاريخها وأنها تبدأ بالدعوة السلمية وتشرح للناس أهدافها ومبادئها وما تنكره من الأفعال الناس وتصرفاتهم مما يتصل بالشرك بالله والابتداع في الدين واستغلال الناس من قبل الأمراء وعلماء السوء وتقرير التوحيد. فمن أجابها ودخل في طاعتها وطاعة أميرها كف عنه ومن عارضها وحرض عليها أو دعا الناس لمحاربتها بعد تعريفه بحقيقتها أعلنت الجهاد عليه. ولم تكن إمارات نجد تعرف الجهاد بهذا المعنى ولا عهد لها به بل كل بلد في الأعم الأغلب تقصر نشاطها على رد العدوان عليها ومدافعة من يعتدي عليها في مالها أو أفرادها ومن هذه الإمارات إمارة الدرعية. كذلك فإنه لا عهد لهم بالمغازي والغارات قبل قيام هذه الدعوة وكانوا في حالة من الضعف وقلة الرجال والعتاد والخبرة القتالية شديدة، يقول ابن بشر في تاريخه: "ثم إن الشيخ كاتب أهل البلدان

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 12.

بذلك ورؤساءهم وقضاتهم ومدعى العلم منهم، فمنهم من قبل واتبع الحق، ومنهم من اتخذه سخريا واستهزأوا به ونسبوه إلى الجهل وعدم المعرفة، ومنهم من نسبه إلى السحر، ومنهم من رماه بأشياء وهو بريء منها حاشاه عما يقوله الكاذبون. ولكن يريدون أن يصدوا بها الناس عنه وقد رمى المشركون سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم بأعظم من ذلك. ثم أمر الشيخ بالجهاد وحضهم عليه فامتثلوا، فأول جيش غزا سبع ركائب فلما ركبوها وأعجلت بهم النجايب في سيرها سقطوا من أكوارها لأنهم لم يعتادوا ركوبها فأغاروا – أظنه على بعض الأعراب- فغنموا ورجعوا سالمين"1 فهذا النص التاريخي الذي ذكر فيه خبر أول غزوة في عهد هذه الدعوة الإصلاحية يدل على أن إمارة الدرعية وغيرها من إمارات نجد في قلة من العدد والعتاد والخبرة فذكره لعدد الركايب في هذه الغزوة وأنها سبع تدل على قلة الإمكانات وضعف الإمارة، وإخباره بسقوط ركابها إذا أسرعت في السير يدل على قلة الخبرة بركوب النجايب وأنهم لم يعتادوا الغزو والغارات التي صارت بعد من أبرز صفاتهم. وظلت هذه الحركة الإصلاحية تمارس هذه الفريضة الإسلامية – الجهاد – طيلة حياتها بادئة بالبوادي ومنتهية بالمعارضين الأذنين وصارت في حروب دائمة ومستمرة مع المعارضة داخل نجد وقدمت في هذا المجال الكثير من التضحيات وأظهرت ألوانا من البطولات الفدة ولم يفت في عضدها كثرة المعارضين في الداخل والخارج وقوة المساندة من الخارج للمعارضين في الداخل بل أصرت على المضي في طريقها لتحقيق النصر حتى النهاية. وظلت الحرب سجالا في كل الاتجاهات. وما توقع اتفاقية صلح مع جهة إلا ينتقض الأمر عليهم في جهة أخرى. واستمرت الحالة على ذلك في داخل نجد طيلة حياة الإمام محمد بن سعود ولما جاء عهد ابنه عبد العزيز رحمه الله ظهرت فيها آثار جهود من سبقه في تأمين قاعدة الدعوة وخروجها من منطقة العارض إلى بقية أنحاء

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 14.

أقاليم نجد، ثم أخذ يمتد نفوذها في كل الاتجاهات حتى بلغت في عهد الإمام سعود الكبير إلى الحرمين الشريفين والخليج العربي وعمان ورأس الخيمة. وبذلك تكونت في العصور الأخيرة أول دولة إسلامية قوية في قلب شبه الجزيرة العرب يحسب لها كل حساب أعز الله بها الدين ووحد بها الأمة وأمن بها الطريق وأقام بها العدل وحراسة الدين فكان ذلك ثمرة من ثمار الجهاد في سبيل الله. 1- توحيد نجد وبعض أجزاء شبه جزيرة العرب في دولة إسلامية مستقلة: بدأت الدعوة الإصلاحية في تطبيق مبدأ الجهاد في سبيل الله على قلة من العدة والعدد والخبرة كما أسلفنا في النص التاريخي السالف ولكن ظلت الدعوة الإصلاحية تستقطب الأنصار وتستقبل المهاجرين من طلاب العلم وأهل الدين وتقدم لهم كل عون ومساعدة حتى التف حولها الناس تباعا وقويت بها شوكة الجهاد وتأيد بها مقر الدعوة وقادها الجهاد من نصر إلى نصر أكبر منه حتى طويت صفحات الإمارات الصغيرة المستقلة المنتشرة في عرض البلاد وطولها في دولة إسلامية سلفية ذات دعوة إصلاحية نامية وجهاد في سبيل الله مستمر، فتوحدت تحت راية هذه الدعوة إمارات العارض ثم تبعها أقاليم نجد إقليم بعد آخر حتى امتد نظر الدعوة إلى الحرمين الشريفين وأطراف الجزيرة العربية وبادية الشام والعراق في تلاحم شديد بين السياسة والدين وبين أمور الدنيا والآخرة على السواء. وقد كان في أخلاق أصحاب هذه الدعوة وأتباعها وإخلاصهم وصدقهم في دعوتهم وإخوانهم في الدين وحرصهم على تحقيق العدل في ظل شريعة الإسلام ما جعل الناس تلتف حولهم وتفتح لهم صدورهم إلى جانب بلادهم وتشاركهم مهمة الإصلاح والجهاد في سبيل الله. يقول صاحب عنوان المجد في تاريخ نجد: "فلما استقر في الدرعية تسلل إليه شيعته الذين في العيينة ومن ينتسب إلى الدين ومعهم أناس من رؤساء المعامرة معاكسين لعثمان بن معمر وهجروا إلى الدرعية أو أناس ممن حولهم من البلدان لما

علموا أن الشيخ استقر ومنع ونصره"1وقال رحمه الله: "وأهل الدرعية يومئذ في غاية الضعف وضيق المؤنة"2 وفي مجال رعاية إمام الدعوة للمهاجرين وتخفيف المعاناة عنهم ومحاولة توفير ما يحتاجونه وما يقدمه من جوائز للوفود كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. يقول ابن بشر رحمه الله: "وكان الشيخ رحمه الله لما هاجر إليه المهاجرون يتحمل الدين الكثير في ذمته لمؤنتهم وما يحتاجون إليه وفي حوائج الناس وجوائز الوفود إليه من أهل البلدان والبوادي ذكر لي أنه حين فتح الرياض وفي ذمته أربعون ألف محمدية فقضاها من غنائمها. وكان لا يمسك على درهم ولا دينار، وما أتى إليه من الأخماس والزكاة يفرقه في أوانه. وكان يعطي العطاء الجزيل بحيث إنه يهب خمس الغنيمة العظيمة لاثنين أو ثلاثة"3 وإذا كان الإمام محمد بن سعود قد توفي رحمه الله عام 1179هـ ونجد لا تزال تغلي فيها حركة الجهاد مع المعارضة في أقاليم نجد، فقد أكمل البناء وأتمه ولي عهده وإمام المسلمين من بعده الإمام عبد العزيز بن محمد رحمه الله بمؤازرة الإمام محمد بن عبد الوهاب وتوجيهه. يقول صاحب عنوان المجد: "وما يجيء إلى الدرعية من دقيق الأشياء. وجليلها تدفع إليه – أي إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب- بيده ويضعها حيث يشاء. ولا يأخذ عبد العزيز ولا غيره من ذلك شيئا إلا عن أمره. بيده الحل والعقد والآخذ والإعطاء والتقديم والتأخير ولا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد وابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه. فلما فتح الله الرياض واتسعت ناحية الإسلام وآمنت السبل وانقاد كل صعب من باد وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز وفوض أمور المسلمين وبيت المال إليه. وانسلخ منها ولزم العبادة وتعليم العلم ولكن

_ 1 الشيخ عثمان بن بشر ج 1 ص 12. 2 المرجع السابق ص 13. 3 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1 ص 15.

ما يقطع عبد العزيز أمرا دونه ولا ينفذه إلا بإذنه"1 ولم ينته عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود وابنه سعود وقد توطدت أركان الدولة الإسلامية التي مدت يدها الرحيمة وظلها الوارف على كل نجد والحجاز وبعض أجزاء شبه جزيرة العرب وأطراف الشام والعراق. وصارت الدرعية مرجع ولاتها وقضاتها وأمرائها وصاحبة الأمر المطاع فيها، يحكم فيها شرع الله وتنفذ أحكامه وتقام حدوده ويؤمر فيها بالمعروف وينهى فيها عن المنكر على بينة. ولمعرفة أجزاء هذه الدولة الإسلامية نسوق نصا تاريخيا عن أمراء الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود قبل استشهاده وهو ساجد أثناء صلاة العصر في العشر الأواخر من رمضان عام 1218هـ على يد رجل عراقي ادعى النسك. يقول ابن بشر رحمه الله: "وكان أميره على تهامة وما يليها من اليمن عبد الوهاب المعروف بكنية – أبو نقظة – وعلى الحجاز وما يليه من النواحي عثمان بن عبد الرحمن المضايفي، وعلى عمان صقر بن راشد رئيس رأس الخيمة، وعلى الاحساء ونواحيها سليمان بن محمد بن ماجد، وعلى القطيف ونواحيه أحمد بن غانم، وعلى الزبارة والبحرين سليمان ين خليفة، وعلى وادي الدواسر ربيع بن زيد الدوسري وعلى ناحية الخرج إبراهيم بن سليمان بن عفيصان، وعلى المحمل ساري بن يحيى بن سويلم، وعلى ناحية الوشم عبد الله ين حمد بن غيهب في بلد شقراء وعلى ناحية سدير عبد الله بن جلاجل وعلى ناحية القصيم حجيلان بن حمد في بريدة وعلى جبل شمر محمد بن عبد المحسن بن فايز بن علي في بلد حايل"2 ويقول صاحب كتاب دليل الخليج عن تاريخ سنة 1810م ما نصه: "فقد كان الوهابيون يسيطرون – بلا منازع – لا على وسط جزيرة العرب فقط بل على أجزاء كثيرة من الحجاز أيضا بما فيها الأماكن المقدسة في مكة والمدينة وكذلك أقسام من اليمن على الأقل. وفي طريق الشام كانوا قد سيطروا – فيما يبدوا- على واحة الجوف

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1 ص 131. 2 المرجع السابق ج 1ص 131.

العامر. كما كانت جيوشهم تقوم من وقت لآخر بتهديد باشوية بغداد بل وبغداد نفسها في بعض الأحيان"ثم قال: "وكان الوهابيون قد عززوا مراكزهم في عمان بأن احتلت قواتهم – من قاعدتهم المتقدمة في البريمي – بعض القالع في إقليم الشمايلية"1وقال صاحب كتاب حاضر العالم الإسلامي عن هذه الدعوة في عام 1814م: "وبينما كان ابن السعود سنة 814م يعد العدة لفتح سوريه وهمته متينة كان يخيل إلى العالم منه أن الوهابيين متدفقون على الشرق تدفقا وصانعون ما شاءه الله من الإصلاح في الإسلام"2 وقال أيضا في موضع آخر: "وخلال جيل تلا اتسعت الدعوة الوهابية بأفقها ومضطربها اتساعا كبيرا وتطورت تطورا عظيما حتى صالت تعرف باليقظة الإسلامية3 ولما اكتمل بناء هذه الدولة الإسلامية وتوطدت أركانه صارت خير مثل لتطبيق ما نادت به من مبادئ وأهداف إسلامية واضحة المعالم، فأخذت تطبع الحياة في كل جوانبها بطابع الإسلام في حدود الإمكانات المتاحة. 1- ربط الحياة بالدين: أهداف الدعوة الإصلاحية في نجد كانت معلنة في بدء قيامها يوم أن كان إمامها يعرض نفسه ودعوته على الأمراء في نجد، وهي أهداف واضحة المعالم محددة الغاية إسلامية الهدف والوسيلة – فقد قال إمام الدعوة للأمير عثمان بن معمر أمير العيينة لما أمره قائد الاحساء سليمان بن محمد بن غرير الحميدي إخراج الشيخ من العيينة قال رحمه الله: "إن هذا الذي أنا قمت به ودعوت إليه كلمة لا إله إلا الله وأركان الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أنت تمسكت به ونصرته فإن

_ 1 دليل الخليج القسم التاريخي، تأليف ج. ج. لوريمر ج 1ص 303. 2 حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروب ستيوارد الأمريكي ج1 ص 262. 3 المرجع السابق ج1 ص 262.

الله سبحانه يظهرك على أعدائك"1 كما أن بيعة الإمام محمد بن سعود للشيخ محمد بن عبد الوهاب قد تضمنت هذه الأهداف الواضحة الجلية. قال ابن بشر بعد حديثه عن عرض الدعوة على الإمام محمد بن سعود وتمام البيعة: "ثم إن محمدا بسط يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"2 وهذه الأهداف تتضمن إقامة الدين كله في التعليم والعمل والسياسة والقضاء وجباية الزكاة وإقامة الحدود ونشر العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم وتأمين السبل وتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع في الأمور المادية والمعنوية على السواء وبناء قوة سياسية وحربية واجتماعية يحسب لها حساب في المنطقة. ولم يدخر قادة هذه الحركة الإصلاحية وسعا في تحقيق المبادئ التي نادوا بها قدر مستطاعهم. فساسوا سياسة راشدة وأقاموا العدل بين الناس بالتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهاد أئمة الهدى في مختلف العصور الإسلامية الزاهرة وفتحوا دور العلم الشرعي للناس وجبوا الزكاة المفروضة في الثمار وبهيمة الأنعام وغيرها بالعدل واجتهدوا في صرفها في مصارفها الشرعية كما أراد الله، بما حقق نوعا من التكافل الاجتماعي المادي إلى جانب إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يحقق تكافلا اجتماعيا أدبيا. وعملوا على إلزام الناس بالحق وحراسة الدين وشرح معنى لا إله إلا الله محمدا رسول الله والعمل بمقتضاها وأقاموا علم الجهاد في سبيل الله وجعلوا الشهادة في سبيل الله من أغلى الأماني لدى أفراد المسلمين. وساروا بالحياة في مختلف مناحيها في ضوء الكتاب والسنة بما يحقق السعادة للفرد والجماعة في الدنيا والآخرة. يقول المؤرخ الأمريكي: "فتكونت على التوالي وحدة دينية سياسية في جميع الصحراء العربية شبيهة بتلك الوحدة التي أنشأها صاحب الرسالة. وفي الواقع فإن

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 10. 2 المرجع السابق ج 12.

المنهج الذي نهجه ابن عبد الوهاب ليشبه شبها كبيرا ذلك الذي نهجه الخلفاء الراشدون كأبي بكر وعمر 1". ومن أجل هذا كله فإن هذه الدولة الإسلامية قامت في نفوس أتباعها قبل أن تقوم ككيان سياسي في واقع الحياة، ولأجل ذلك فإنها لما استؤصلت في الدور الأول على يد إبراهيم باشا ككيان سياسي سارع أتبعها إلى إعادة بنائها تحت قيادة الإمام تركي بن عبد الله. ثم لما انتهى عهدها الثاني أعيد مرة ثالثة على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل رحمه الله، إذ أن الأمة المسلمة في شبه الجزيرة العربية تحن إلى هذه الدعوة المخلصة حنين الأم إلى وليدها كلما فقدته لما تحقق فيها من التلاحم الشديد بين الدين والحياة الأخرى وأمور المعاش وتأمين المعاد. 1- تحقيق الأمن والرخاء: تعطى المصادر التاريخية عن فترة حكم الإمام عبد العزيز بن محمد والإمام سعود وعبد الله في هذا الدور الأول من الحكم السعودي صورة مضيئة عما تحقق في هذه الفترة لكل الأقاليم التي بسطت هذه الدولة نفوذها عليها وأن الناس عاشوا في ظلها حياة هانئة سعيدة ينعمون فيها بالأمن الوارف الظلال والرخاء والرغد في العيش والسعة في موارد الرزق، وأن الله قد أبدل حياة الناس في الدرعية التي كانت في بداية الدعوة في غاية من الضيق والشدة بالرفاه والسعة وكثرة الخيرات. فقد تحدث الشيخ عثمان بن بشر في تاريخه عن سيرة الإمام عبد العزيز بن محمد وما تحقق للناس في ظل حكمه فقال: "وكانت الأقطار والرعية في زمنه مطمئنة في عيشة هنيئة وهو حقيق بأن يلقب مهدي زمانه لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أي وقت شاء شتاء أو صيفا، يمنا أو شاما، شرقا وغربا، في نجد والحجاز واليمن وتهامة وغير ذلك، لا يخشى أحدا إلا الله لا سارقا ولا مكابرا. وكانت جميع بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع

_ 1 حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروب الأمريكي ج1ص261.

يسيبون جميع مواشيهم في البراري والمفالي من الإبل والخيل الجياد والبقر والأغنام وغير ذلك ليس لها راعي ولا مراعي بل إذا عطشت ودت على البلدان ثم تصدر إلى مفالها حتى ينقضى الربيع أو يحتاجون لها أهلها"1 وبعد أن ذكر المؤرخ ابن بشر بعض الأخبار التي تعطي صورة جيدة واضحة عن استتباب الأمن في هذه الدولة وتأمين السبل ورضى الناس بذلك قال رحمه الله تعالى:"ويخرج الراكب وحده من اليمن وتهامة والحجاز والبصرة والبحرين وعمان وأنقرة والشام لا يحمل سلاحا بل سلاحه عصاه لا يخشى كيد عدو ولا أحد يريده بسوء"2 والرخاء وسعة الرزق ترتبطان عادة مع الأمن والعدل واستتبابهما في أي موطن. وقد تحقق لأهل هذه المنطقة في ظل الدولة السعودية الأولى من الرخاء بقدر ما وصفنا من الأمن. وقد سبق أن ذكرنا نصا تاريخيا عن هذه الدعوة المباركة أن أهل الدرعية عند بدء الدعوة الإصلاحية كانوا في أضيق عيش وأشد حاجة وابتلوا ابتلاء شديدا وقد وصف ابن بشر في تاريخه حال الدرعية بعد ذلك وما هي فيه من نعمة وما بها من خيرات تفوق الوصف فقال: "ولقد رأيت الدرعية بعد ذلك في زمن سعود رحمه الله تعالى وما فيه أهلها من الأموال وكثرة الرجال والسلاح المحلى بالذهب والفضة الذي لا يوجد مثله والخيل الجياد والنجايب العمانيات والملابس الفاخرة وغير ذلك من الرفاهيات ما يعجز عن عده اللسان ويكل عن حصره الجنان والبنان. ولقد نظرت إلى مواسمها يوما في مكان مرتفع وهو في الموضع المعروف بالباطن بين منازلها الغربية التي فيها آل سعود المعروفة بالطريف ومنازلها الشرقية المعروفة بالبحيري التي فيها أبناء الشيخ ورأيت موسم الرجال في جانب، وموسم النساء في جانب، وموسم اللحم في جانب وما بين ذلك من الذهب والفضة والسلاح والإبل والأغنام والبيع والشراء

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 126، 127. 2 المرجع السابق ج1 ص 128.

والأخذ والعطاء وغير ذلك هو مد البصر، ولا تسمع فيه إلا كدوي النحل من النجناج وقول بعث وشريت والدكاكين على جانبيه الشرقي والغربي"1 ويقول المؤرخ الأمريكي في تاريخه المعروف بحاضر العالم الإسلامي في وصف الدولة السعودية الأولى: "وكانت حكومته على عنفها مكينة عادلة فانقطع التعدي وأمن الناس السرقات وانتشر الأمن وسادت الطمأنينة والراحة"2 فهذه النقول التاريخية تدل بجلاء على ما وصلت إليه الدولة السعودية الأولى التي قامت على الإصلاح والتجديد الديني من مستوى في الأمن النفسي والاجتماعي وتامين السبل وتحقيق العدل وأفاء الله على أهلها من نعم كثيرة وخيرات وفيرة وسعادة للإنسان في ظلها الوارف وأمنها الممتد والله بالغ أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 1- القدوة الحسنة في القيادة: السير الذاتية لأئمة هذه الدعوة الإصلاحية التجديدية تعكس مدى إيمان قادة هذه الحركة بمبادئها الإسلامية وعملهم من أجلها وصبغ حياتهم بها وتحدد مقدار الربط بين المبادئ النظرية والتطبيق العملي، في واقع الحياة بدءا بالذات وانتهاء بالسير العامة في مختلف جوانب الحياة. وسير قادة هذه الحركة الإصلاحية هي الواقع لوحة مضيئة تنضح بالصدق والإخلاص والإيمان والعمل لمرضاته، وتجسد الحياة الإسلامية في صورة بهية تعطي من ذاتها القدوة الحسنة والسيرة الحميدة، وتقيم المثل الأعلى الشاخص الذي

_ 1 المرجع السابق ج1 ص 13، 14. 2 حاضر العالم الإسلامي تأليف المؤرخ لوتروب ستيودار ترجمة عجاج تويهض تعليق الأمير شكيب رسلان ج 1 ص 262.

يراه الناس في حياتهم قولا وواقعا متحركا يأخذ ويعطي ويترجم الأقوال إلى أفعال وأعمال محسوسة، فكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب مثالا في الزهد والتقى والورع والثقة بما عند الله قواما في الليل ومجاهدا في النهار صادعا بكلمة الحق ومستيقنا بالنصر باذلا للمال في وجهه بذل من لا يخشى الفقر قائما على مصالح الناس وسد حاجاتهم أمينا على ما تحت يده وقد مر النص التاريخي عن رعايته رحمه الله لأتباعه المهاجرين إليه واعتبار طلاب العلم عنده بمنزلة أولاده فعلاقته بالله متصلة ونفعه للناس مستمر وتجرده من الأنانية وحب الذات وإخلاصه في دعوته أمر يفوق الوصف وأثره بحياته العملية وسيرته الذاتية انعكس على أتباعه وكبار شيوخ مدرسته من القادة السياسيين ومن العلماء والقضاة. والإمام محمد بن سعود رحمه الله صورة أخرى عن الشخصيات القيادية الريادية الفذة في هذه المدرسة الإصلاحية بحياته الخاصة في صلته بربه وفي عدله في رعيته وفي إخلاصه في دعوته وصدقه في جهاده وبره برعيته وزهده بما في يده وعطفه على الناس ورعايته للفقراء والمساكين والمستضعفين وغيرته عند ما تنتهك حرمات الله وقوته في الحق. ففي وصف ابن بشر لحياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وسيرته الذاتية قال رحمه الله: "وكان الشيخ رحمه الله تعالى كثير الذكر لله قل ما يفتر لسانه من قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وكان إذا جلس الناس ينتظرونه يعلمون إقباله إليهم قبل أن يروه من كثرة لهجته بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وكان عطاؤه عطاء من وثق بالله لا يخشى الفقر بحيث إنه يهب الزكاة والغنيمة في موضع واحد لا يقوم ومعه منها شيء ويتحمل الدين الكثير لأضيافه وسائر الوافدين إليه وعليه الهيبة العظيمة التي ما سمعنا بها اتفقت لغيره من العلماء والرؤساء وغيرهم"1 والإمام محمد بن سعود رحمه الله كانت حياته مثالا في التقوى والصلاح والصدق للدعوة والإيمان بالجهاد في سبيلها وكانت سيرته الذاتية ناصعة البياض، غير

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 89.

أنه رحمه الله كان عهده عهد حروب ومعارك جهاد ولم يتفرغ فيها للإصلاحات الداخلية ولم تتوافر له الوسائل التي توفرت لأبنائه عبد العزيز وسعود. وهو من أفضل القادة السياسيين في هذه الدعوة الإصلاحية وعن طريقه عبرت الفضائل العديدة والشمائل الكريمة لخلفائه في الأمر من بعده. أما الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود فهو الشخصية الثالثة في هذه السلسلة الوضيئة من قادة الإصلاح في نجد. وفي معرض الحديث عن سيرته الذاتية وأعماله قال المؤرخ عثمان بن بشر رحمه الله: "وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس ويصلي فيه صلاة الضحى. وكان كثير الرأفة والرحمة بالرعية وخصوصا أهل البلدان بإعطائهم الأموال وبث الصدقة لفقرائهم والدعاء لهم والتفحص عن أحوالهم"1 وفي مجال صدقه في دعوته وإخلاصه لأمته يقول ابن بشر رحمه الله: "وقد ذكر لي بعض من أثق به أنه يكثر الدعاء لهم في ورده قال: وسمعته يقول: اللهم ابق فيهم كلمة لا إله إلا الله حتى يستقيموا عليها ولا يحيدوا عنها"2 وفي مجال العدل وتحقيقه في جباية الزكاة، يقول ابن بشر رحمه الله: وكان يوصي عماله بتقوى الله وأخذ الزكاة على الوجه المشروع وإعطاء الضعفاء والمساكين ويزجرهم على الظلم وأخذ كرائم الأموال"3 وفي مجال الزهد في المال يقول ابن بشر رحمه الله: "وأتى إليه يوما خمس وعشرون حمل من الريالات فمر عليها وهي مطروحة فنخسها بسيفه وقال: "اللهم سلطني عليها ولا تسلطها علي ثم بدأ في تفريقها"4 وفي موضع آخر قال عن أئمة هذه الدعوة في نهاية حديثه عن سيرة الإمام عبد العزيز بن محمد: "وبالجملة فمحاسنهم وفضائلهم أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر ولو بسطت القول في وقائعهم وغزواتهم وما مدحوا به من الأشعار وما قصد

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 126. 2 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 126. 3 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص129. 4 المرجع السابق ص 130.

بابهم من الرؤساء العظماء من أقاصي الأقطار وما حمل إليهم من الأموال والسلاح والخيل الجياد التي لا يدركها العد والتذكار لجمعت فيها عدة أسفار ولكنني قصدت الإيجاز بالاختصار"1 أما الشخصية الرابعة في القيادة السياسية الإصلاحية فهو الإمام سعود بن عبد العزيز وهو الذي بلغت الدعوة الإصلاحية في عهده أوجها وأعطت أكبر نتائجها. وهو من الشخصيات الفذة لا يقل عن سابقه في الورع والإخلاص لدينه وأمته والنظافة في تاريخه والعطف على رعيته وسيرته الذاتية صورة مشرقة تمثل حياة المسلم في أتم صورها. وصف ابن بشر وصاياه لرعيته فقال: "وكان أول ما يصدر النصيحة بالوصية بتقوى الله تعالى ومعرفة نعمة الإسلام ومعرفة التوحيد والاجتماع بعد الفرقة ثم الحض على الجهاد في سبيل الله ثم الزجر عن جميع المحظورات من الزنى والغيبة والنميمة وقول الزور والمعاملات الربوية وغير ذلك"2 وختم وصف حياة الإمام سعود المؤرخ ابن بشر بقوله: "وبالجملة فمحاسن هؤلاء الأمجاد وفضائلهم ومحامدهم التي ملأت أقطار البلاد الذي أزال الله بأولهم الجهل عن الناس والمحن وبآخرهم الظلم والجور والبغي والفتن لو جمعت لبلغت أسفارا من الكتب ولرأيت العجاب والعجب وكفى بفضلهم ما تقدم قبل أولهم وآخرهم من المنكرات. فبدلوا جهودهم في زوالها حتى انطمست معالمها وعمل بالطاعات أعني بأولهم محمدا وابنه عبد العزيز وابنه سعود وبآخرهم تركي وابنه فيصل قاتل البغاة ونقاض العهود"3 والإمام عبد الله بن سعود رحمه الله كان من أفضل الناس سيرة وأربطهم جأشا وأشجع آل سعود. وهو لا يقل عن سابقيه في سيرته الذاتية وكفاءته وقدراته وإخلاصه لهذه الدعوة فسار بالناس سيرة حميدة حذا فيها حذو سابقيه واقتفى سننهم فكان كثير الطاعة عفيف اللسان نظيف اليد طاهر الجيب عطوفا على رعيته

_ 1 عنوا ن المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1 ص 130. 2 المرجع السابق ص 167. 3 المرجع السابق ص 176.

آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر باذلا للمال في وجوه الخير. فمضى صدر من إمارته في عز ومنعة وقوة إلا أن الخلافة العثمانية وجدت أنه لا بد من المفاصلة مع هذه الحركة الإصلاحية التي تعدها مقدمة لحركات انفصالية في العالم الإسلامي. فأرادت أن تؤدبها وتؤدب بها كل من تسول له نفسه الخروج على الخلافة العثمانية فندبت لهذه المهمة الخطيرة محمد علي حاكم مصر من قبل الأتراك. فجمع لهذه الحملات التدميرية من الإمكانات المادية والبشرية ووفر لها من أسباب النجاح ما يضمن لها القضاء على هذه الدعوة الإصلاحية الأولى في العالم الإسلامي في العصر الحديث. ووكلت عملية التنفيذ إلى جبار من جبارة القادة العسكريين الأتراك هو إبراهيم باشا. وبدأت سلسلة من المعارك الطاحنة بين الدولة السعودية وبين الجيوش التركية عبر عدة سنوات انتهت بالقضاء التام على القادة السياسية لهذه الحركة الإصلاحية وهدم قاعدتها الدرعية وإجلاء كل سكانها والقضاء على رجالات المنطقة في حملة ظالمة شرسة لا تعرف الرحمة. وبذلك طويت صفحة من صفحات هذه الحركة الإصلاحية. تحدث ابن بشر رحمه الله عن سيرة الإمام عبد الله بن سعود فقال: "وكان عبد الله ذا سيرة حسنة مقيما للشرائع آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر كثير الصمت حسن السمت باذل العطاء ولكن لم يساعده القدر وهذه سنة الله في عباده"1 وقال "وكان صالح التدبير في مغازيه ثبتا في مواطن اللقاء، وهو أثبت من أبيه في مصابرة الأعداء، وكانت سيرته في مغازيه وفي الدرعية في مجالس الدرس وفي قضاء حوائج الناس وغير ذلك على مسيرة أبيه سعود فأغنى عن إعادتها"2 ووصف ابن بشر رحمه الله نجدا بعد أسر الإمام عبد الله بن سعود وهدم الدرعية والقضاء على قادة ورجالات وعلماء الدعوة الإصلاحية في نجد وحالة الناس فيها فقال: "قلت فيها نظام الجماعة والسمع والطاعة وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا يستطيع أحد أن ينهى عن منكر أو يأمر بطاعة وعمل

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 211. 2 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 211.

بالمحرمات والمكروهات جهرا "حتى قال وتعذرت الأسفار بين البلدان وتطاير شرر الفتن في الأوطان وظهرت دعوى الجاهلية بين العباد وتنادوا بها على رؤوس الأشهاد"1 هذا ولما كانت هذه الدعوة الإصلاحية قد حلت محلها العميق من النفوس واستقرت في مقرها من الوعي والشعور لدى الناس فإنه على الرغم من قضاء الأتراك على هذه الحركة كوجود سياسي قضاء مبرما حتى هدمت كل مباني الدرعية وقتلت خيرة الرجال لا في الدرعية فحسب بل وفي كل البلاد الواقعة تحت سلطان هده الدعوة وأوقع بهم من البلاء والمحنة وأعمل فيهم السيف بلا رحمة وبما يعجز القلم عن وصفه من تلك المجازر الجماعية التي لا يفرق فيها بين المقاتل والشيخ الكبير أو المرأة الضعيفة والطفل الصغير حتى بعد استلام الأتراك لمقاليد الأمور في نجد ما أن عادت الجيوش الغازية بما حققته من نصر كبير حتى عادت إلى استئناف حياة إسلامية جديدة على يد ابن بار من أبناء هذه الدعوة هو الإمام تركي بن عبد الله. وبذلك بدأ عهد جديد يعرف في التاريخ الحديث بالدور الثاني للدولة السعودية. وظلت هذه الدولة تتعرض للاندثار كلما قصرت في الالتزام بمبادئ هذه الدعوة الإصلاحية وتعود للظهور كلما صدق قادتها مع الله، والله بالغ أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وتاريخ الإمارة السعودية مع الدعوة عبر التاريخ أكبر شاهد على ظهور الأسرة السعودية على الناس كلما التزمت بواجبها في القيام بحق هذا الدين واستمسكت بحبله وأنها كلما قصرت في قيامها بهذا الواجب أو حصل فيها ميل عنه توقف مدها وسلط عليها أعداؤها حتى تفيء إلى أصول الدعوة التي قامت عليها. وهذا ما يفسر به كثير من مؤرخي المنطقة نهاية الدولة السعودية الأولى والثانية وعودتها إلى منصة القيادة بقيادة كل من الإمام محمد بن سعود في الدور الأولى، والإمام تركي بن عبد الله في الدور الثاني، والملك عبد العزيز في الدور الثالث، وهو أمر لم يفهمه كثير

_ 1 المرجع السابق، ص 212، 213.

ممن كتبوا عن تاريخ الأسرة السعودية عامة والملك عبد العزيز خاصة من خارج المملكة، ولم يعرفوا نفسية هذا الشعب المسلم، وتاريخ هذه الأسرة الكريه وضربها بسهم وافر في خدمة الإسلام وتحقيق العدل حتى جعل النفوس تحن إلى المصلحين من أبنائها كلما فسدت الأحوال أو حصل انحراف عن الدين. وفي مقابل ظهور إمارة الدرعية على غيرها منذ قيام دعوة الإصلاح ماذا يعرف المثقفون فضلا عن عامة الناس في نجد عن إمارة الرياض وأسرة دهام بن دواس وعن غيرها من الإمارات والبيوت التي ناوأت الدعوة وتزعمت المعارضة في الداخل أو الخارج. لقد كان حظهم الإهمال والنسيان والفناء المعنوي وموت الذكر. ولولا تاريخ حركة الإصلاح وذكرهم في أخبارها لما عرف من أخبارهم إلا القليل النادر. وكل هذه عظات وعبر لمن تدبر التاريخ واعتبر بأحداثه وحاول استكشاف كنوزه ووعى سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولكن النعم ولين العيش وطول الأمد ينسي هذه الأمر. وأولى الناس بالتدبر والاعتبار من رفع الله ذكرهم بهذا الدين وأعزهم بهذه الدعوة المباركة وجعلهم بها أئمة وملوكا ليزيدهم ذلك فقها بأصول العز ومصدر التمكين في الأرض، مصداقا لقوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} . وهي سنة الله ماضية في الخلق ضاربة في التاريخ. ولعل في وعي هذه الأصول وفقه التاريخ ما يعصم من الزلل ويمنع من الانحراف ويسدد السالكين على جادة الحق ومنهج الصواب إذ ليس بين الله وبين خلقه حسب ولا نسب وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء بفضله ويصرفه عمن يشاء بحكمه. والناس عيال الله وأحب الخلق أنفعهم لعياله وأعظمهم النفع ما جمع الدنيا والآخرة ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى وعي هذه الحقائق في زمن تكالبت علينا فيه الأمم وراج فيه سوق الباطل وتعددت فيه السبل، والأمة الإسلامية في مسيرتها تقف على مفارق الطرق ولا نجاة لها إلا بهذا الدين، والله غالب على أمره ولكن الناس لا يعلمون.

النتائج الدينية

ثانيا-النتائج الدينية: 1-قيام مدرسة علمية إصلاحية: كان إمام هذه المدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي أخذ العلم عن والده وعلماء بلده ثم رحل في طلب العلم والأخذ عن شيوخه في الحرمين الشريفين وفي البصرة والاحساء وغيرها. ولم يكن كما يقول خصوم الإمام محمد بن عبد الوهاب بأنه أخذ العلم من غير معلم، وأن معلمه كان كتابه فرحلاته العلمية معروفة وأخذه من شيوخه كان ظاهرا وآثاره وفقهه أكبر شاهد على ذلك. فلما أعد نفسه إعدادا راسخا في العلم وتمكن من فهم علوم الدين من تفسير وحديث وعلومهما وفقه وأصول وتوحيد وتاريخ وسيرة ولغة عربية وأدواتها وبرع في علم الفرائض وغيرها، وفهم واقع الناس في الحياة اليومية في مختلف مناحي الحياة في العقيدة والسلوك والآداب والأخلاق والمعاملات، وأدرك الفارق الكبير بين حقيقة التوحيد كما جاءت من عند الله في نصوص شرعه وما كان عليه الناس في زمانه وحدد المسافة بين ما أراده الله من خلقه وشرعه لعباده وما هم عليه وعقد العزم على القيام بحركته الإصلاحية التجديدية منطلقا بها من نجد بل من مقر إقامته وأسرته في بلده حريملاء، كان أول خطوة في حركة الإصلاح الجديدة التأسيس على أصول علمية تستند إلى نصوص الشريعة في الكتاب والسنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح في عصور الإسلام الزاهرة والقرون المفضلة. فجلس لطلاب العلم في المسجد في حريملاء يدرسهم في مختلف علوم الشرعية ويتدرج بهم من البسيط إلى المركب، ومن الواضح إلى الخفي، ومن القليل إلى الكثير، ويبث في هذه المدرسة روح التحرر من قيود الواقع والمألوف إلى معرفة مراد الله في شرعه، والاستقلال في فهم دينه، وإجراء مقارنة لطلاب العلم بين ما أراد الله من خلقه وما يفعله الناس في زمانه وتحديد المسافة بين المطلوب والواقع. ونفث هذه الروح الإصلاحية العلمية المؤصلة في دروسه وبين طلابه وشوقهم إلى تخطي

الحاجز المر المستقبل المشرق لهذه الدين. فوجد نفوسا سوية وعقولا صافية صفاء المرآة فطبع عليها ما معه من حق ونفخ فيها من روحه حتى جاءت إليه طائعة مختارة قابلة للحق مقتنعة به مستعدة للبذل في سبيله. فكان بدء دعوته الزمني عام 1153هـ ومولدها الأول في مسجد حريملاء وأداتها في الإصلاح التعليم والتعلم ومستقرها في داخل النفوس، وغايتها رد الناس إلى الله في أصول العقيدة ومنهج الشريعة وأصول التعامل وقواعد الأخلاق والخروج من ضيق الدنيا إلى سعت الدنيا والآخرة. ثم تزايد عدد طلاب العلم لديه وتوسعت مجالسه، وتعددت العلوم التي يدرسها لطلابه في ساعات طويلة من النهار وأطراف من الليل حتى كثر أنصاره وطلابه ومريدوه. ولما انتقل إلى العيينة سار على الطريقة نفسها فأسس مدرسة علمية فيها وتوافد إليه طلاب العلم من داخل العيينة وخارجها وتبعه من كان معه من طلاب العلم في حريملاء. فتوسعت المدرسة وتعددت حلقاتها وصار كبار طلبته يعقدون حلقات العلم للطلاب المبتدئين. ثم ينتقل الطلاب بعد أخذ المبادئ العامة إلى حلقات الشيخ نفسه. وهكذا تتكرر خطوات التوسع حتى استطاع بهذه المدرسة العلمية والأنصار أن يتقدم بدعوته إلى مرحلة الأمر بالمعروف النهي عن المنكر وإقامة بعض الحدود في العيينة، وأن يتسامع الناس بهذه الدعوة في أرجاء الجزيرة العربية ويدرك الوجهاء في المنطقة خطرها عليهم وآثارها البعيدة في حياتهم مما حملهم على إظهار العداء لها. ولما انتقلت الدعوة إلى الدرعية استمرت في تدعيم وجودها من خلال العلم والتعلم في رحاب المساجد، وترسيخ الفهم الصحيح للإسلام، وتشخيص أدواء المجتمع الذي وجدت فيه هذه الحركة الإصلاحية، وتسليط الضوء عليها وفق رؤية علمية صحيحة تستند إلى النصوص الشرعية الثابتة والفهم العربي السليم حتى أتم الله لها ما أراد على يد هذه المدرسة العلمية وإمامها المجدد محمد بن عبد الوهاب. وقد ذكر المؤرخ الشيخ عثمان بن بشر إقبال طلاب العلم على الشيخ رحمه الله في الدرعية وصبرهم على طلب العلم وتحملهم في سبليه فقال:"ولما هاجر من هاجر إلى الدرعية واستوطنوها كانوا في أضيق عيش وأشد حاجه وابتلوا ابتلاء شديد فكانوا

في الليل يأخذون الأجرة ويحترفون، وفي النهار يجلسون عند الشيخ في درس الحديث والمذاكرة"1 وكان قيام هذه المدرسة العلمية الإصلاحية في نجد في فترة عصيبة قد عم فيها الجهل وفشا المنكر وكثر البلاء واختلط فيها الحق بالباطل واندرست فيه معالم الهدى. فكانت هذه الدعوة في ذلك الوسط العلمي المتخلف كالنور الكاشف في دياجير الظلام. يصف ذلك ابن بشر رحمه الله بقوله: "ولما استوطن الشيخ الدرعية وكانوا في غاية الجهالة وما وقعوا فيه من الشرك الأكبر والأصغر والتهاون بالصلاة والزكاة ورفض شعائر الإسلام فتخولهم الشيخ بالأمر بالمعروف النهي عن المنكر ثم أمرهم بتعلم معني لا إله إلا الله وأنها نفي وإثبات" ومضى في تعديد ما جاء به الإمام ودعا إليه حتى قال: "ثم معرفة البحث وأن من أنكره أو شك فيه فهو كافر"2 ولم تكتف هذه الدراسة العلمية بالتعليم في المسجد وجمع الأنصار حولها بهذه الوسيلة وحدها بل دخلت في الدرعية خاصة وسيلة أخرى وهي بعث الرسائل ودعوة الناس بواسطتها إلى الاستجابة لهذه الدعوة ودعوة طلاب العلم للوفود على الدرعية لمعرفة حقيقة ما تدعو إليه هذه المدرسة العلمية من فهم جديد لنصوص الشرع المطهر وبهذه الوسيلة الجديدة إلى جانب توسيع التعليم وتحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمع الدرعية وما يتبعها انتشر أمر هذه المدرسة وانقسم الناس حولها إلى مؤيدين ومعارضين. وفي هذه المدرسة العلمية الإصلاحية التي قامت بالتعليم في رحاب المساجد أو بالرسائل العلمية والمواعظ الدينية والمقابلات لطلاب العلم والمذاكرة معهم توسع أثر هذه المدرسة حتى خرجت القضاة والمفتين والوعاظ وأئمة المساجد وخطباء الجمع وسدت بهم حاجات الدعوة ولبت مطالب المجتمع، يقول الشيخ ابن بشر رحمه الله:

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 13. 2 المرجع السابق ج 1ص 14.

"وأخذ عنه – أي الإمام- بعد ذكر القضاة- ممن لم يل القضاء من الرؤساء والأعيان ومن دونهم الجم الغفير وكان له رحمه الله تعالى من الرأي والفراسة والتدبير ما ليس لغيره. وكان كثيرا ما يلهج بقوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} " 1 وظلت هذه المدرسة العلمية الدينية الإصلاحية تعطي ثمارها الطيبة في مجتمعها المسلم جيلا بعد جيل حتى يومنا الحاضر وتركت لنا من الآثار العلمية والسيرة العملية المتمثلة في سير الصالحين من أتباع هذه الدعوة الإصلاحية عبر تاريخها الطويل ما يعين على السير على الطريق الصحيح والنهج القويم، رحمهم الله جميعا رحمة واسعة وجزاءهم عن هذه الأمة خير ما يجزي به عباده الصالحين وجعل الله هذا الخير باقيا في عقبهم إلى يوم الدين. 1- تجلية بعض المفاهيم: وكان من نتائج حركة التجديد والإصلاح في العصر الحديث تجلية بعض المفاهيم الإسلامية ومحاربة الانحراف في الدين عما أراد الله به من إصلاح النفوس وتصحيح العقيدة وتقويم السلوك وتحقيق مقاصد الشريعة في الخلق. ولهذا فقد عنيت هذه المدرسة بأصول الدين وفروعه وإزالة ما أصاب هذه المفاهيم من انحراف في فهم المراد بها والعناية بتحديد معانيها وما يدخل فيها وما يخرج منها من انحراف وما يضادها أو ينتقص من كمالها. واستعمل في ذلك وسائل التعليم والتربية المختلفة في تقرير هذه المعاني بالتعليم والتوجيه والتأليف والرسائل وغيرها مما سبقت الإشارة إليه، فألف في أصول الدين الرسالة المعروفة بثلاثة الأصول وهي تدور حول تحقيق أصول الدين الثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية والولاء والبراء وتعريف

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 95.

الإنسان بربه ونبيه ودين الإسلام بالأدلة الثابتة من الكتاب والسنة والإجماع وأقوال أئمة الهدى وتقرير التوحيد والدعوة إليه وإيضاح الشرك ووجوب البراءة منه وأهله، وتحديد واجب المسلم في الموالاة في الله والمعاداة فيه، وتحديد المراد بالحنفية ومعنى العبادة في الشرع وذكر أنواعها، وحكم من صرف شيئا منها لغير الله وتحديد معنى الربوبية ومن هو المستحق لها، وتعريف الإسلام وبيان أركانه ونواقضه وتعريف الإيمان وتحديد أركانه وأنه قول وعمل واعتقاد وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وتعريف الإحسان ومستلزماته إلى جانب شرح معنى لا إله إلا الله وما تتضمنه من النفي والإثبات، ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله وبيان مقتضاها، وشرح معنى الهجرة التي أمر الله بها في كتابه وحكم بقائها أو انقطاعها بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله، إلى جانب بيان عموم الرسالة إلى الجن والإنس كافة، ووجوب الإيمان بالبعث والمحاسبة وأن الدين قد تم وكمل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الأنبياء لا نبي بعده. وبين معنى الطاغوت ووجوب الكفر به والإيمان بالله وأن الطواغيت كثيرون وأن رؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عبد وهو راض، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادعى شيئا من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله، وبين مكانة الصلاة من الدين وأهمية الجهاد في سبيل الله وأقام الدليل على كل مسألة من هذه المسائل من الكتاب والسنة وأقوال السلف رحمهم الله كما بين حكم كثير مما كان يفعل في زمانه من الأفعال والأعمال التي تناقض التوحيد أتنافي كماله. وقد كتب في ذلك أيضا كتابه القيم المعروف بكتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد وعرف فيه التوحيد وأنواعه وفضله وتكفيره للذنوب وبين فيه الشرك وأنواعه وإحباطه للأعمال الصالحة وبين فضل الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وتناول فيه كثيرا من الأعمال والأحوال التي يمارسها أهل زمانه مما ينافي الوحيد أو ينافي كماله مثل التمائم والتوله ولبس الحلقة والخيط والرقي وإرادة الإنسان بعمله الدنيا ومشابهة الكفار وغيرهما من المسائل الكثيرة المهمة التي لا يتسع المقام لذكرها وهي موجودة في هذا الكتاب القيم لمن أراد الوقوف عليها والتعرف على مستوى دقة فهم هذا الإمام وصدق اتباعه للأدلة الشرعية.

يقول المؤرخ ابن بشر رحمه الله: "وأمر جميع أهل البلدان من أهل النواحي يسألون الناس في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح وبين العشائين عن معرفة الأصول وهي معرفة الله ومعرفة دين الإسلام ومعرفة أركانه وما ورد عليها من أدلة من القرآن ومعرفة محمد صلى الله عليه وسلم ونسبه ومبعثه وهجرته وأول ما دعا إليه وهي "لا إله إلا الله" ومعرفة معناها والبعث بعد الموت وشروط الصلاة وأركانها ووجباتها وفروض الوضوء ونواقضه وما يتبع ذلك من تحقيق التوحيد من أنواع العبادة التي لا تنبغي إلا لله كالدعاء والذبح والنذر والخوف والرجاء والخشية والرغبة والرهبة والتوكل والإنابة وغير ذلك 1. وبشرح هذه المفاهيم الشرعية وبيان المعاني المقصودة منها في الشرع وتعميم تعليمها للناس بصورة شبه إجبارية للعامة والأميين إلى جانب التعليم المتقدم الذي يعد به القضاة والمفتين والمدرسين وخطباء المساجد استقرت العقيدة السلفية الصافية في نفوس الناس. وبذلك تحرروا من ذل العبودية لغير الله وأحبوا السنة وكرهوا البدعة وحاربوا الخرافة. وتحول ذلك عندهم إلى حس عام تميز حتى عند العامة. والحمد لله الذي له الأمر من قبل ومن بعد. يقول صاحب كتاب حاضر العالم الإسلامي: "فالدعوة الوهابية إنما هي دعوة إصلاحية خالصة بحتة، غرضها إصلاح الخرق وفسخ الشبهات وإبطال الأوهام ونقض التفاسير المختلفة والتعاليق المتضاربة التي وضعها أربابها في عصور الإسلام الوسطى ودحض البدع وعبادة الأولياء وعلى الجملة هي الرجوع إلى الإسلام والأخذ به على أوله وأصله ولبابه وجوهره"2 فهذا المؤرخ الأجنبي وصف هذه الدعوة وصفا دقيقا فيما جاءت به وما تهدف إليه مع إيجاز في القول وبلاغة في الوصف.

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 90، 91. 2 حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروب ستيوادر الأمريكي ج1 ص 264، ترجمة الأستاذ عجاج نويهض تعليق الأمير شكيب أرسلان

3-إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتميز الدعوة الإصلاحية في العصر الحديث في نجد بأنها دعوة تجمع بين العلم الصحيح الهادي إلى العمل بما يرضى الله في أمور الدين والدنيا وبين العمل اليومي المعاش والعقيدة السليمة. ولهذا فإنها بدأت بالعلم وثنت بالعمل والتطبيق لمقتضى العلم والأخذ بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ممارسة علمية لتوظيف العلم في صالح الجماعة وتكوني رأي عام راشد يعرف المعروف ويؤيده ويعرف المنكر وينفر منه وإيجاد تكافل أدبي في الوسط الاجتماعي يعزز الفضيلة ويضيق على الرذيلة وتنمو في ظله الفضائل وتنكمش الرذائل. ومنذ فجر تاريخ هذه الدعوة الإصلاحية في حريملاء ثم في العيينة وأخبرا في الدرعية كانت الدعوة واضحة في نزوعها إلى هذه الغاية. فما أخرجه أشقياء حريملاء وأمراء العيينة إلا بسبب أخذه بهذه المبدأ وعجز الأولين عن تقبله، وضعف أمير العيينة عن تحمل تبعاته وما نجحت الدعوة في الدرعية إلا بتقبلها لهذا الأمر والقيام بواجبه وتحمل تبعاته مهما كلفها من ثمن. ولهذا فإن اتفاق الإمامين الجليلين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود كان من أهم بنوده إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن لمنكر. يقول المؤرخ ابن بشر رحمه الله بعد ذكره لشروط الإمام محمد بن سعود على الإمام محمد بن عبد الوهاب وأن الإمام محمد بن سعود قال للإمام:"ثم إن محمدا بسط يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "1 والإمام محمد بن عبد الوهاب حينما عرض دعوته على ابن معمر ذكر من أصولها إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد معرفة المعروف وتحديد المنكر.2

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 12. 2 المرجع السابق ج 1ص10.

وبإحياء هذه الفريضة الإسلامية العظيمة صارت معلما شامخا في هذه الدعوة الإصلاحية يؤمن بها أصحاب هذه الدعوة ويمارسونها في الحياة ويستثمرونها في خدمة الدين حتى صار لهم فيها فقه دقيق وممارسة صادقة. ولهذا فإن من أبرز صفات أئمة هذه الدعوة أنهم آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر. ففي ذكر سيرة الإمام سعود بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: يقول ابن بشر رحمه الله: "وكان رحمه الله تعالى آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر كثير الحض على ذلك في مجالسه ومراسلاته للمسلمين ناصرا لأهله محببا إليه أهل العلم وطلبته"1 وعبر تاريخ هذه الحركة فإن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم من أهل العلم بالدين والتمسك به من القضاة والمعلمين والوعاظ وأئمة المساجد والخطباء وأهل الدين والورع والصالحين من الأمراء والولاة، والواقعون في المنكر هم من العامة والجهلة والفساق وذوي الرقة في الدين أو المترفين وأهل النعمة. وهذه الفريضة يعدها بعض العلماء من أركان الإسلام لعظم أمرها وقوة أثرها. وفي الأثر: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " ولهذا فقد مكنت هذه الفريضة للدين في نفوس الناس وكونت حسا مميزا عند الأفراد والعامة والخاصة للتفريق بين المعروف والمنكر واعتبار المعروف فضيلة والمنكر رذيلة. وأقامت واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأصل من أصول الدين وشعيرة من شعائره لا يجوز التخلي عنها بحال من الأحوال. 1- إحياء مبدأ الولاء والبراء في الدين: الإسلام بشعائره المختلفة كالجسد الواحد لا يؤدي وظيفته في الحياة إلا إذا سلمت كل أعضائه الأساسية ووجدت له البيئة الصالحة لنموه والدعوة الإصلاحية في نجد تحقق لها قدر كبير من النجاح لأنها أخذت في الإصلاح بكل شعائر الإسلام وأساسياته، وأوجدت له المناخ الملائم لنمو الفضيلة في ظله.

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 176

فبعد أن تم لهذه الدعوة تحقيق التوحيد وتجلية مفاهيم الإسلام أخذت تمارس تطبيق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل المجتمع فوقف الناس من هذه الدعوة أحد موقفين: موقف المؤيدين لها وموقف المعارضين، وصار على كل فرد في المجتمع أن يحدد موقفه من هذا الصراع بعمل وجداني صرف يتمثل في الحب أو البغض لهذه الدعوة وأهلها أو للمعارضين لها، والحب والبغض هو من لوازم شهادة أن لا إله إلا الله. ويتولد من الحب والبغض أقوال وأفعال وممارسات موالية أو معادية لهذا أو ذاك. وذلك هو ما يعرف في الشريعة بالولاء والبراء، الولاء لأولياء الله من دعاة الخير، والبراء من أعداء الله الصادين عن سبيله. والولاء في صورته الكاملة يتمثل في المحبة وإعلانها للناس والنصرة والتأييد في الأمر والنهي والجهاد والمجالسة والمؤانسة والاختلاط والاعتزاز. والبراء يكون بالبعض لأعداء الله في داخل النفس وإعلانه ذلك في الناس والمظاهرة عليهم باليد واللسان والمال والمجاهدة ومقاطعتهم في المجالس ومقت ما هم عليه. وبذلك ينقسم الناس إلى معسكرين متمايزين عرفا في شرع الله وفي آيات قرآنية بحزب الله وحزب الشيطان أو أولياء الله وأولياء الشيطان والحرب بينهما معلنة حتى يظهر الله الحق ويخذل الباطل. والآيات القرآنية والأحاديث النبوية كثيرة في تقرير صحة هذا المبدأ وأن الأخذ به وسيلة ناجحة لتحقيق الحق وإبطال الباطل. وقد أخذت الدعوة الإصلاحية في نجد بهذا المبدأ في مجال التعليم المباشر في برنامجها العام وفي الرسائل التي يبعث بها إمام هذه الدعوة ويمارسونها عملا يوميا مع الخصوم بلا مداهنة ولا مواربة بل لتحقيق لا زم من لوازم التوحيد هو الولاء والبراء في صورتها العملية. وقد قرر إمام الدعوة في كتابه ثلاثة الأصول هذا المبدأ بقوله "اعلم رحمك الله أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث مسائل والعمل بهن" ثم ذكر المسألة الثالثة بقوله: الثالثة أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب والدليل قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ

بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1 كما قرره في الرسالة التي بعث بها إليه الشيخ محمد بن فارس وذكر فيها نواقض الإسلام العشرة وذكر الناقض الثامن بقوله: "الثامن مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 2 وأكدها في الرسالة التي بعث بها إلى كل من عبد الله بن علي ومحمد بن جماز إذ قال رحمه الله فيها ما نصه: "وأهل القصيم غارهم أن ما عندهم قبب ولا سادات ولكن أخبرهم أن الحب والبغض والموالاة والمعادة لا يصير للرجل دين إلا بها"3 وموالاة أعداء الله على درجات منها ما يوجب الكفر ويوقع في الردة عن الدين ومنها ما يكون أدنى من ذلك ويعتبر من كبائر الذنوب التي يتعرض صاحبها للوعيد الشديد والعقاب الأليم. وقد اهتمت هذه الدعوة الإصلاحية بتقرير هذا المبدأ وإقامة الدليل عليه من الكتاب والسنة ووضعه في موضعه الصحيح من الدين وعملت على إشاعة معرفة حكم هذا بين الناس الخاص منهم والعام، وأنه لا يكمل الإيمان والدين ولا يتحقق التوحيد على الصورة المطلوبة إلا بالأخذ به. كما مارسته في حياتها وأعلنته للناس وأخذت بمقتضاه وتركت أساليب المجاملات والمداهنات في الدين جانبا وحددت سمات كل من حزب الله وحزب الشيطان، وبينت حكم موالاة كل منهما وموقفه من الدين ليختار المرء طريقه في الحياة عن علم وعلى بينة من أمره. وكان هذا المبدأ أكبر معين على استنهاض همم المؤمنين بالدعوة وإعلان مواقفهم منها ومن خصومها، وتطبيق ذلك عملا في كل الميادين التي تتطلبها هذه الحركة

_ 1 سورة المجادلة الآية 19. 2 سورة المائدة الآية 51. 3 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية ص 213.

الإصلاحية في مدها المتسارع ونظرتها الشمولية حتى يحقق لها من النصر بقدر ما قدم لها أتباعها من الصدق والإخلاص والبدل. 1- تحرير العقل من الجهل والخرافة والبدع: سبق أن تحدثنا عن الحالة السياسية والدينية في العالم الإسلامي قبل قيام الحركة الإصلاحية في نجد على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود، وذكرنا أن العنصر الأعجمي قد بدأ في الظهور في المراكز القيادية في الخلافة الإسلامية منذ العهد العباسي بدءا من أبي مسلم الخراساني الذي كان له دور مهم في قيام الدولة العباسية ثم تتابع الأعاجم في المراكز القيادية في شكل وزراء وكتاب وحجاب وندماء وأصهار وأخوال للخلفاء وظل مدهم في ازدياد سواء كانوا من الفرس أو الترك أو غيرهم من العناصر الأعجمية. ثم خطوا خطوة أكبر فقد آل الأمر في الخلافة الإسلامية العباسية في عصورها المتأخرة إلى أن للحاكم العباسي اسم الخلافة ولغيره من الأعاجم تصريف أمورها ورسم سياستها وإدارة شئونها. وكان معظم الجند من الأتراك كما وصف ذلك الشاعر علي بن الجهم بقوله: امامي من له سبعون ألفا ... من الأتراك مشرعة السهام وكان ذلك في عهد المتوكل العباسي في الصدر الأول من الدولة العباسية ثم تجاوز الأمر وجود الأعاجم في المراكز القيادية وتكاثرهم في الوظائف العامة إلى أن آلت إليهم أمور البلاد الإسلامية في صورة دولة كالسلاجقة وغيرهم وأخيرا الخلافة العثمانية التي امتدت حياتها عدة قرون. فإن العنصر الأعجمي مع أننا لا نتهمهم في صدق إخلاصهم لهذا الدين ولا في إرادتهم للخير. إلا أن هذا الدين نزل بلسان عربي مبين يصعب على الأعاجم أخذه أخذا مباشرا من نصوصه كما يفهمه العرب الذين نزل بلسانهم إلى جانب تأثر الأعاجم بثقافات انحدرت إليهم مع أصولهم التاريخية والفكرية والعقيدية. وحتى العرب فإن لسانهم العربي قد خالطته العجمة وفشا اللحن فيهم وأصبحت اللغة العربية الفصيحة لغة الخاصة ومستودع العلم ولم تعد عامة العرب تفهم دلالات النصوص الشرعية كما كان يفهمها آباؤهم.

وإلى جانب ذلك بدأ الخط البياني في تاريخ الاجتهاد في المدارس الإسلامية عامة في الهبوط من الاجتهاد المطلق إلى الاجتهاد المقيد إلى أن قيل بقفل باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي في قرن الرابع الهجري، ثم بدأت مرحلة التقليد في الفقه والتعصب للمذاهب وتقديمها على النصوص الشرعية بحجة القصور عن فهم مراد الله في نصوص شرعه. ومازال الخط البياني في تاريخ الفقه الإسلامي في النزول حتى جمد الفقهاء وتوقف الاجتهاد وعادت المدارس الفقهية تقوم على مدارسة مختصرات في فقه كل مذهب. وعظموا هذه المختصرات حتى غابت عن هذه المدارس أصول المذاهب التي يأخذون عنها واكتفوا بكلام المتأخرين في فقه كل مذهب واعترف العلماء بقصورهم ورضوا بهذا المستوى المتدني في فقه المذاهب، وفي ظل هذه الأوضاع ولأسباب متعددة وصل العالم الإسلامي إلى حالة من جمود الفكر وتكبيل العقل والرضى بالقليل من الفقه وظهرت الانحرافات في الدين في أصول العقيدة ومظاهر العبادة وفض الخصومات وغيرها. وفي نهاية القرن الثامن عشر الميلادي بلغ التأخر والانحراف وتكبيل العقل وجمود الفكر وهبوط الهمم غايته وصارت ظاهر الانحراف في الدين مألوفة شب على مشاهدتها بل ممارستها في الغالب الصغير وهرم عليها الكبير حتى جعلها الألف والعادة من الدين بحيث إن من ينقدها ولو أقام الدليل على ما يقول من نصوص الشريعة يكون في نظر العامة خارجا على الدين ومبتدعا. وفي هذه الفترة هيأ الله لهذه الأمة أحد أبنائها البررة الذين نذروا أنفسهم لخدمة هذا الدين تعلما وتعليما وأمرا ونهيا وممارسة وكان في مقدمة ما اهتم به تحرير العقل من أسر العادات والتقاليد وألف المنكرات وإخضاع كل الأوضاع القائمة في المجتمع المسلم في نجد وفي غيره للدليل الشرعي من الكتاب والسنة، وفهم أئمة الاجتهاد في الدين في القرون المفضلة التي كان فيها سلطان الدين هو الظاهر واللسان العربي الفصيح هو السائد، ومحاولة النهوض بالعقل وإطلاقه من عقال أسر التقليد وإلف العادات وتعظيم النصوص الشرعية واحترام العقل والدعوة إلى الجهاد في الدين لكل من توفرت له أدواته وألا يقبل التقليد إلا من العاجز عن الاجتهاد.

ولهذا فإن هذه الحركة بتعظيمها للنصوص الشرعية واحترامها للعقل ودعوته إلى الاستقلال في الأخذ والعطاء في إطار فهم الدليل الشرعي وأصول الاجتهاد الفقهي المعتبرة وبما يقتضيه اللسان العربي الذي نزل به الشرع ووزن أقوال الرجال وأفعالهم بميزان الدليل الشرعي ومراد الله منها مهما كانت مكانتهم في الدين ومنزلتهم في العلم وأن العصمة لا تكون إلا لصاحب الرسالة صاروا يقولون ويقررون أن القول إذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبارهم أفضل هذه الأمة بعد نبيها وأنهم عاصروا نزول الوحي وعرفوا أسبابه ومناسباته وهم أهل اللسان العربي الفصيح فعلى العين والرأس. أما إذا جاء القول أو الرأي عمن دونهم قالوا هم رجال ونحن رجال مع احترامهم لأئمة الهدى في كل العصور الإسلامية عامة وفي القرون الثلاثة المفضلة على وجه الخصوص. 1- القدوة الحسنة في العلماء: لم تكن حركة الإصلاح والتجديد في نجد مجرد مدرسة علمية نظرية تقرر العلوم الإسلامية وتزيد الناس فهما لها وحصيلة علمية منها لا تأثير لها في واقع الحياة وممارسة الناس، ولكنها كانت حركة علمية وعملية في آن واحد تقرر مبادئ الإسلام كما أرادها الله في نصوص شرعه وتمارسها في الحياة العامة ممارسة عملية محسوسة في حياة شيوخها وتلاميذها وأتباعها. وتوظف معطيات هذا العلم في حياة الناس بدءا بالقدوة الحسنة والمثال الكريم في التقوى والصلاح والعبادة والورع والزهد فيما أيدي الناس والثقة بما عند الله وفي الأخذ والعطاء في البيت والطريق والتعليم والعمل والتعامل واختيار عيش الكفاف وفي تعدية النفع إلى الآخرين في أمور الدين والدنيا جميعا والصبر على الأذى في سبيل الله وأخذهم هذا الدين رسالة إلى الناس وجعل حياتهم في خدمته أينما حلوا. ولا يكون من لمبالغة في شيء إذا قلت إن إمام هذه الدعوة وكبار تلامذته وشيوخ مدرسته قد أعادوا بسيرتهم العطرة سيرة السلف الصالح في صلتهم بالله بتحقيق التوحيد وفهم الإسلام والتبتل في الطاعة والمحافظة على العبادة فرضا ونافلة

وتهجدا وورعا وزهدا، وشجاعتهم في الحق وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وجهادهم في سبيل الله وحملهم لمهمة الدعوة وهداية الناس وتوسيع مد الإصلاح. وحياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وسيرته الذاتية صورة مشرقة لهذه المدرسة في طلبه للعلم ورحلاته في سبيله وفي ممارسته وفي جهاده وصبره وكرمه وحسن أخلاقه وتعريض نفسه للأخطار في سبيل هذه الدعوة. ويقول صاحب حاضر العالم الإسلامي عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته: " وفي الواقع فإن المنهج الذي نهجه ابن عبد الوهاب ليشبه شبها كبيرا ذلك الذي نهجه الخلفاء الراشدون كأبي بكر وعمر" وقال: "واقتفى الوهابيون آثار خلافة الراشدين"1 ويبدوا لمن يقرأ كلام هذا المؤرخ الأمريكي ولا يعرف هذه المدرسة الإصلاحية وتاريخها ومقام شيوخها ومستوى تلاميذها وصدق أتباعها أن هذا الكلام فيه مبالغة غير مقبولة ولكن من عرف تاريخها وسيرة رجالها ومقام علمائها عرف مقام هذه الدعوة ونزعتها الإصلاحية ومقدار القدوة الحسنة التي تمثلت في شيوخها وتلامذتها. فسير إمامها وتلامذته سير مشرقة يمتزج فيها العلم بالعمل ويوظف فيها العلم لصالح الجميع وفق برنامج تربوي في حلقات يأخذ بعضها برقاب بعض، تبدأ بالعلم ثم العمل بمقتضى العلم ثم الدعوة إليه بكل وسيلة ممكنة وفق المقتضيات وينتهي بالصبر على الأذى في سبيل هذه الدعوة. ولقد ضربت هذه المدرسة في كل خطوة من هذه الخطوات بسهم وافر يعد مثلا يحتذى به في مختلف العصور وما تحقق لهذه الحركة من نجاح كان الفضل فيه لله سبحانه وتعالى ثم للإيمان بالله والإخلاص لدينه والأخذ بالأسباب الموصلة إلى النجاح وفق منهاج النبوة وسيرة السلف الصالح. ولقد أدركت في حياتي في النصف الثاني من القرن العشرين نماذج من علماء هذه المدرسة في جيلها العاشر يعدون أمثلة حية في سيرتهم الشخصية، إيمانا وتقوى وصلاحا وعبادة وزهدا وشجاعة وصدقا وصبرا على المكاره بما يذكر بما كان عليه العلماء في صدر الإسلام وعصوره الزاهرة.

_ 1 حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروب ستيودارد الأمريكي ج 1ص 261.

وإذا كان كثير من علماء المسلمين اليوم يشغلون مجالسهم بأمور الدنيا وأخبار المال والعقار والمراتب الوظيفية والتنافس في هذه المجالات، وإذا كلف طالب العلم بالعمل في وظيفة دينية في مدينة أو منطقة ثم قضى فيها سنين طويلة وتركها بقي ارتباطه بها في حدود ما حصل عليه في فترة وجوده فيها من مال وأراض ومزارع وعقار وخصومات عليها، فقد عرفنا من أدركنا في حياتنا من تلاميذ مدرسة هذه الحركة الإصلاحية أنه إذا هبط أي بلد أو أقام فيها في وظيفة دينية أو عمل حر يشغل مجالسه بالقراءة في كتاب الله وتفسيره والحديث وعلومه والسيرة النبوية الشريفة والتاريخ الإسلامي وكتب التوحيد بحيث لا يتركون مجالا في حياتهم لغير ذلك أو للقيام بالواجبات المنوطة بهم أو لكسب كفاف العيش، ثم إن كل واحد منهم يجلس لطلاب العلم الشرعي طيلة النهار وطرفا من الليل ويحصر جهوده في التعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الاعراض التام عن مزاحمة الناس في أرزاقهم وشئون حياتهم وقد يمكث العالم في مدينة أو منطقة عشرات السنين فإذا تركها لأي سبب من الأسباب ترك فيها مدرسة علمية ذات نزعة إصلاحية سلفية يعز عليه مفارقتها. ولم تترك له أخلاقه وسماحته وزهده مالا يلوي إليه أو يحتاج إلى تدبيره بعد رحيله. وكانوا في حياتهم وسيرهم الذاتية مثالا يحتذى ونموذجا فذا يذكر بما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم. فالشيخ عبد الله القرعاوي رحمه الله وصل إلى جازان تاجرا بسيطا ذا علم متواضع ولكنه رجل دعوة أحيا الله به أمة وأزال به غمة. فاسألوا أهالي منطقة جازان وجبال عسير عنه وعن تاريخه وآثاره التي لم تكتب بعد. والشيخ فيصل بن مبارك كلف قاضيا في منطقة الجوف فأسس مدرسة علمية إصلاحية سلفية أوقف حياته عليها حتى أثمرت فخرجت القضاة والدعاة ونشرت العلم في تلك المنطقة. فاسألوا أهل منطقة الجوف عنه وعن برنامجه اليومي ونفعه للناس وعن حياته الشخصية وسيرته الذاتية وعن أحكامه في قضائه وعن سماحته وكرمه وزهده وتواضعه لطلاب العلم ومقاسمته لهم لما في بيته وإخراج ما يفضل عن قوته وقوت عياله في نهاية كل شهر وعن قوته في الحق وصبره على الناس ورحابة صدره على الجاهل. والشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في عنيزة وعن سيرته وحياته وزهده وطلابه وأثاره وتأثيره في الناس ومواقفه الصادقة وإخلاصه الجم ووفرة علمه

هذا وإن أنس فلن أنسى جهود شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ فقيه الديار السعودية في حياته وإخوانه عبد اللطيف بن إبراهيم وعبد الملك بن إبراهيم في نشر العلم الشرعي ورعاية طلابه وإيقاف حياتهم على هذه المهمة العظيمة علما وتعليما ودعوة وعملا بذلك العلم ومرجعا في معرفة شئون الدين والدنيا. وكانت حياة كل واحد منهم منظمة حتى تستطيع أن تعرف حال كل واحد منهم في كل ساعة من ساعات ليله ونهاره فوقتهم مبرمج بين العلم والتعليم والدعوة والقضاء وحل مشكلات الناس في المواريث والأموال وتوثيق المكاتبات والمبايعات وغيرهم. وكان مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم وأربطة طلاب العلم وحلقات الدروس فيه في مستويات مختلفة بين المبتدئين والمتوسطين والمنتهين أشبه بجامعة هم شيوخها تخرج القضاة والدعاة والعلماء من مختلف الأقاليم وذلك قبل التعليم النظامي. ولما بدأ التعليم النظامي في المملكة بادروا إلى تأسيس أول مؤسسة تعليمية تعني بالعلوم الشرعية واللغة العربية في الرياض وكانت نواتها المعاهد العلمية وكليات الشرعية فيما بعد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وقد خرجت هذه المؤسسة الرعيل الأول من العلماء والأدباء ورجال الفكر. وكان لعناية الشيخ محمد رحمه الله بهذه المؤسسة وتعاهدها بالرعاية وحسن اختيار الأساتذة والمناهج ورعاية الخريجين منها أكبر الأثر في نجاح هذه المؤسسة وإغنائها البلاد بحاجتها من الخريجين في هذه المجالات المهمة مما يدل على بعد النظر وحسن الرعاية. وقد عاصرت الدراسة في حلقات الشيخ محمد وأخيه عبد اللطيف في بدء حياتي العلمية ثم انتقلت إلى المعاهد ثم كلية الشريعة وخبرت كل هذه الجهود رحمهم الله رحمة واسعة وجعل مثواهم آمين إذ هم خير الأمثلة على جهود مدرسة الإصلاح والتجديد. والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز هو واحد من الأمثلة الشاخصة الحية لبقايا طلاب المدرسة الإصلاحية. وهو من يعرفه الجميع في جهاده وعلمه وصبره

وسماحته وورعه وسيرته الذاتية سيرة عطرة. وهو يبذل في سبيل الإصلاح كل ما يستطيعه لا يألو في ذلك جهدا ولا يبخل بمال أو جاه أو وقت حتى صار شخصية عالمية في مكانه ونفعه لكل مسلم. ولو ذهبت لأعدد أسماء وأعمال من عرفنا من تلاميذ هذه المدرسة الإصلاحية لطال البحث وتشعب وخرج بنا عما نحن بصدده ولكنها أمثلة قليلة من مدرسة واسعة سعد الناس في ظلها بالعيش في رحاب الإسلام الواسعة ردحا من الزمن. نرجو الله أن لا يتوقف مدها ولا تنقطع نماذجها الفريدة في مستقبل حياتنا وحياة الأجيال القادمة إن شاء الله تعالى. ولهذا فإن من الآثار المهمة التي حققتها هذه الدعوة المباركة المربط بين العلم النافع والعمل الصالح والقدوة الحسنة والمثال الكريم، وتجسيد هذا الدين بتعاليمه السمحة في شخصيات قائمة في كل جيل من أجيالها يمثل كل منها هذا الدين في سيرته الذاتية وتصرفاته الخاصة والعامة وحمل هذا الدين رسالة في عنقه ووظيفة في حياته وثقة بالنصر والتأييد لا يتطرق إليها الشك مهما اشتدت الظروف والأحوال والتحرك بهذا الدين قولا وعملا وممارسة واعتقادا وسلوكا. وبهذا ظل أثر هذه الدعوة مستمرا وعطاؤها متدفقا والحمد لله، لا في جزيرة العرب وحدها ولكن في العالم الإسلامي وبدرجات متفاوتة. 1- ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب على غيره: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من علماء نجد كغيره من العلماء في تحصيل العلم والمكانة الاجتماعية، ولكنه تميز عن العلماء بأنه رجل دعوة إصلاحية تجديدية شاء الله أن تكون هداية الأمة في شبه جزيرة العرب على يده، هيأ نفسه للقيام بهذا الواجب واستثمر مواهبه في هذه المهمة وتحمل في سبيلها ما استطاع تحمله حتى عرض نفسه وحياته للموت. وقام كثير من العلماء والعامة في وجه دعوته وألبوا الناس عليه ورموه بكل داهية ووصفوه بكل نقيصة وأشاعوا عنه مقولات ونسبوا إليه

تصرفات لا تصدر من عاقل فضلا عن صاحب دعوة إصلاح استعدوا عليه كل قوة ولكنه يناضل ويجاهد في صبر وإصرار وصدق في وجه المعارضة مهما كانت قوتها وصلابتها وكثرت أتباعها وسخر لسانه ويده وقلمه وماله في خدمة دينه ونجاح دعوته، فلما علم الله صدقه واحتسابه أظهره على خصومه فصار صاحب القول الفصل في المنطقة والرأي المطاع والسياسة النافذة ومحل التقدير والاحترام من الناس كافة بما فيهم المعارضة وذراريهم فنال بذلك عز الدين وصارت كتبه ومؤلفاته مرجعا للخاص والعام يدعى له عند البدء في قراءتها وتصحح بها العقيدة ويعرف بها الحلال من الحرام ويتربى عليها طلاب العلم وتقام عليها مدرسة إصلاحية راسخة الأصول والفروع. وقد هدى الله به أمة كاملة في أجيال متعاقبة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا هو خير لك من حمر النعم" وحمر النعم هي من نفائس الأموال عند العرب. فإذا كان هذا الأجر كله لمن هدى الله على يده رجلا واحدا فكيف يكون أجر من هدى الله على يده خلقا كثيرا بل أمة كاملة في أجيال متعاقبة وذلك فيه أفضل البشارة لهذا الإمام عند الله في الآخرة وقد أبقى الله له ذكرا حسنا وجعل الدعوة والإصلاح باقية في عقبه والحمد لله. هذا وكان في نجد علماء عاصروا الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيام دعوته كانوا على جانب كبير من العلم ولهم مكانة اجتماعية ودينية شبيهة بما للشيخ محمد أسرته قبل قيام دعوته. ولكنهم وقفوا من الدعوة الإصلاحية موقف المعارض لأسباب متعددة سبقت الإشارة إلى شيء منها ولم يكتب لهم التوفيق في عملهم ولم يستطيعوا أن يحيوا حياة طيبة في الدنيا بل عاشوا في ضيق وتشرد ولم يبق لهم ذكر حسن وطويت صفحة تاريخهم طيا عجيبا ونسوا حتى لا يعرف عنهم إلا القليل القليل مما كان لهم في حياتهم من جهود وأعمال. وهذه تعد إحدى العبر التي ينبغي للبيب أن يتأملها ولا يتجاوزها حتى يأخذ نفسه بالحق ويأطرها عليه ويدعوا الله بالتوفيق والسداد وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين فيتيه أو يضل وهو درس ينبغي أن يعيه أحفاد الإمام محمد بن عبد الوهاب وغيرهم ليأخذوا لأنفسهم العبرة وليغذوا السير في درب الهدى

وإحياء الدعوة إلى الله ليستمر الخير فيهم ولا ينقطع. كما ينبغي أن يعيه كل مسلم يريد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة ويجد من نفسه القدرة على الإسهام في الإصلاح والتوجيه بيده أو لسانه أو قلبه أو ماله فإن الطاعة تورث الشرف والمعصية تورث الذل والإنسان يضع نفسه حيث يشاء والله هو الهادي والموفق.

ثالثا- النتائج الاجتماعية والاقتصادية: 1- القضاء على المنازعات: عند قيام حركة الإصلاح في نجد كانت المنازعات على أشد ما تكون بين الحاضرة والبادية وبين القبائل العربية فيما بينهما وبين كل مدينة أو قرية في الحاضرة مع جارتها بل بين الحمايل داخل كل بلد وأحيانا بين أفراد الأسرة الواحدة. وكانت المنازعات تقوم على أمور مادية صرفة كالمال والأملاك والمسائل والماء والكلأ وبعض الوظائف الاجتماعية والدينية والسياسية. وكانت نجد حمام دم يلمس ذلك من يقرأ تاريخ هذه المنطقة في كتابات مؤرخي تلك الفترة من أهلها. وكانت هذه المنازعات نتيجة ضعف الوازع الديني وكثرة الجهل وقيام العصبيات الجاهلية للقبلية والبلد والإقليم والمذهب والأخذ بالثأر وغيرهما. ولما جاءت هذه الدعوة الإصلاحية التي قامت على الدين أيقظت في الفرد وازع الدين وإحياء الضمير بما نشرته من علم شرعي وفهم سليم لمبادئ الإسلام وبما أوجدته من هدف مشترك للناس في تجديد الدين ودعوة الناس إليه ومحبة أهله ومعاداة أهل الفسق والكفر والفجور، وإحياء مبدأ الولاء والبراء في الدين وتغيير نظرة الناس إلى الحياة والروابط الاجتماعية فيها وإقامتها على أسس إسلامية مبتغى بها وجه الله والدار الآخرة فأوجدت بهذه الأمور كلها ثورة في المجتمع على نفسه في عاداته وروابطه وأهدافه ووجهت كل جهوده إلى ما يعود عليه بالنفع والفائدة في الدين والدنيا معا.

وكان من نتيجة ذلك كله القضاء على منازعات وتخفيف العصبيات الجاهلية ومعرفة الحقوق والواجبات والحلال والحرام ذلك بنشر العلم الشرعي وإقامة سلطة سياسية تقوم على حراسة الدين وإلزام العامة بالحق وإقامة الحدود وفك الحقوق بالطرق الشرعية العادلة والأخذ على يد كل من تسول له نفسه الخروج على ذلك في إطار مقتضى الدين. وبذلك خفت المنازعات وأخذ فك الحقوق طريقا إسلاميا عادلا بدلا من الأخذ بالقوة والعصبيات الجاهلية. وبذلك استقرت النفوس وارتاحت لعدل الإسلام وانقادت لسلطان الدين في داخل النفس وخارجها بما تكون من مجتمع متكافل في النواحي المادية والأدبية آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، وبالسلطة السياسية التي من مهامها فك الحقوق وإقامة الحدود ودرء المظالم. وقد أثمرت هذه الجهود المتبادلة القضاء على المنازعات والخلافات والأخذ بالثارات. وعاش الناس في هذه المنطقة أمنا ورخاء وراحة قل أن يوجد لها مثيل إلا في عصور الإسلام الزاهرة وصدره الأول وقد وصف ابن بشر حال الناس في ظل هذه الدعوة المباركة وما تحقق فيها من عدل وأمان فقال: "فسموها – الفترة – الأعراب بسنين الكمام لأنهم كم عليهم من جميع المظالم الصغار والجسام: فلا يلقى بعضهم بعضا في المفازات المخوفات إلا بالسلام عليكم وعليكم السلام والرجل يأكل ويجلس مع قاتل أبيه وأخيه كالإخوان وزالت سنن الجاهلية وزال البغي والعدوان وسيبت الإبل والخيل الجياد والبقر وجميع المواشي في الفلوات فكانت تلقح وتلد وهي في مواضعها آمنات مطمئنات وليس عندها من يرعاها ويحميها"1 فهذا النص التاريخي وأمثاله كثير في تاريخ هذه الدعوة وما وصلت إليه من تحقيق انقلاب في حياة الفرد والجماعة في هذه المنطقة بفضل الله ثم بفضل هذه الدعوة التي جاءت لرد الناس إلى الله وإعادتهم إليهم في مختلف شئون الحياة وإقامة الروابط الاجتماعية والعلاقات الإنسانية الرحيمة وحراسة الدين وإقامة الحدود وتحقيق العدل بواسطة ما أقامته من سلطة سياسية قادرة على القيام بهذا الواجب بقوتها المادية

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 3، 4.

وتأييدها في عملها من جماهير المسلمة التي أقبلت على هذا الدين إقبال الظمآن على الماء العذب الزلال. وبذلك تم القضاء على المنازعات الحادة التي كانت سائدة قبيل قيام هذه الدعوة في هذه المنطقة من العالم الإسلامي التي فقدت السلطة السياسية العادلة منذ نصف القرن الخامس الهجري وفشا فيها الجهل وانحسر وازع الدين في كثير من الناس فيها لا سيما البوادي فكانت هذه الدعوى هي الشفاء من الله لأدواء هذه الأمة في هذه المناطق الداخلة في شبه الجزيرة العربية والحمد لله أولا وآخرا على فضله. 1- خروج منطقة نجد من عزلتها: إن فقد القيادة السياسية الراشدة في هذه المنطقة من منتصف القرن الخامس الهجري وبعدها عن مراكز الخلافة الإسلامية وحواضر العالم الإسلامي ومراكز العلم فيه واضطراب حبل الأمن فيها وقطع السبل منها وإليها وسوء الحالة الاقتصادية في هذه الفترة من تاريخها وقلة مواردها المالية وما فرضته هذه الأمور مجتمعة على هذه المنطقة من تجتمع القبائل العربية على شيوخها لتأمين سلامتها والاغارة على خصومها واعتمادها السلب والنهب وسيلة للعيش في هذه المنطقة كل ذلك جعل أهل هذه المنطقة في عزلة شديدة عن العالم الإسلامي عامة حرمها من المد الثقافي والوعي السياسي والتفاعل مع العالم الإسلامي في قضاياه المختلفة وجعلها مشغولة بما هي فيه من شدة وضيق واضطراب أحوال كثير في ظلها الجهل وقل العلم وضعف فيها الوازع الديني، لاسيما في صفوف البوادي وأفراد القبائل وانعدم الوعي وقامت في هذا المجتمع مواضعات وأعراف حلت محل السلطة السياسية والقضائية والدينية. وكان من ثمار هذه الدعوة المباركة إعادة ما فقدته من علم الشريعة ووازع الدين والروابط الاجتماعية القائمة على مبادئ الدين والسلطة السياسية التي تحرس الدين وتحقق العدل وتربط هذه المنطقة المهمة من العالم الإسلامي، والخروج بهذا المجتمع من عزلته إلى الانفتاح ومن الجهل إلى العلم ومن الفوضى إلى النظام ومن

الفرقة والشتات إلى التوحيد والتكاتف وحمل هموم الأمة المسلمة في مختلف ديارها والمساهمة في دفع الأخطار عنها وإيقاظ روح العلم والجهاد في سبيل الله في نفوس الناس كافة سواء من كان منهم تحت ظل هذه الدعوة أو خارجها. واندفعت بقوة يمنه ويسره للالتحام بالعالم الإسلام في مشرقه ومغربه. وباستيلائها على سواحل شبه الجزيرة العربية الشرقية والغربية وقيامها على الحرمين وقيادة الحجيج في كل عام استطاعت أن تسمع الناس كافة صوت الحق وداعي النهضة الإسلامية المنبعث من تلك المنطقة التي ضربت عليها العزلة قرونا متطاولة وحملت مسئوليتها مع غيرها من أقطار العالم الإسلامي في إحياء الروح الإسلامية ودفع الأخطار الحدقة في العالم الإسلامي وحمل هم المسلمين وقضاياهم المهمة فكانت هذه ثمرة واحدة من ثمار هذه الدعوة المباركة. 1- إحياء روح الأخوة الإسلامية: كان الناس في وسط شبه الجزيرة العرب قبل هذه الحركة الإصلاحية على حالة سيئة من التقاطع والتدابر والتنابز بالألقاب وكانت روابطهم تقوم على النسب والمصالح والأهواء وتلبية الغرائز وسد الحاجات وتحقيق الوجاهة وروابط الأرض والطين والتراب. ولما جاءت هذه الدعوة الإصلاحية التي عادت بهذا المجتمع المسلم إلى أصوله الإسلامية ودينه القويم فانقاد لها من آمن بها ورفضها من جهل حقيقتها إذ كان في دخوله فيها إزالة لبعض مصالحه أو وجاهته أو متعه. وانقسم المجتمع إلى أنصار لهذه الدعوة وخصوم لها. وكانت المدرسة العلمية التي يقوم عليها الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب تركز على مبدأ الأخوة في الدين والتعاون على البر والتقوى والتجمع لنصرة الحق وحث الناس على الموالاة في الله والمعاداة فيه، ومحاولة إشاعة روح الأخوة الإسلامية بكل مقتضياتها الواسعة بين أفراد أنصار هذه الدعوة. فجعل كلمة الإخوان هو الاسم المميز لطلاب مدرسته وأتباع دعوته كبيرهم

وصغيرهم وهي على طلاب العلم وأهل الرأي والفكر أظهر. وإذا خاطب خصومه أو من يرجو إجابتهم لدعوته ذكرهم بأسمائهم أو وظائفهم وكذا في رسائله، وإذا خاطب أتباعه وتلامذته دعاهم بالإخوان، فهذه طريقته في كتاباته ورسائله. فهو لما كتب للعلماء ومطاوعة نجد والشام والعراق واليمن والحرمين الشريفين لم يعبر لهم بكلمة الإخوان. ولكنه لما كتب إلى أحمد بن محمد بن سويلم وثنيان بن سعود قال: "من محمد بن عبد الوهاب إلى الأخوين أحمد بن محمد وثنيان "1 ثم قال: "فقد ذكر لي أن بعض الأخوان تكلم في عبد المحسن الشريف"2 وقال في الرسالة التي بعث بها إلى إخوانه وأنصاره في سدير: "من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان"3 ثم قال في رسالته وننصح إخواننا"4 وهو إذا كتب لأتباعه عامة عبر بهذه الكلمة "الإخوان" فقد صدر إحدى رسائله العامة يقول: "من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من الإخوان، المؤمنين بآيات الله المصدقين لرسول الله التابعين للسواد الأعظم من أصحاب رسول الله والتابعين لهم بإحسان وأهل العلم والإيمان المتمسكين بالدين القيم عند فساد الزمان الصابرين على الغربة والامتحان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:"5 أما رسالته التي بعث بها إلى إخوانه عبد الله بن علي ومحمد بن جماز من علماء القصيم فقد صدرها باللقب نفسه: "الإخوان" وزاد عليها عبارات في تأكيد معنى المؤاخاة والمعاداة ومكانتها في الدين. وهذا النص في هذه الرسالة من إمام هذه الدعوة يدل على مقام الموالاة

_ 1 الرسائل الشخصية ص 284. 2 الرسائل الشخصية ص 284. 3 الرسائل الشخصية ص 296. 4 الرسائل الشخصية ص 296. 5 المرجع السابق، ص 270.

والمعاداة من الدين في نظره وأهميتها في قيام حركته الإصلاحية والموالاة تقتضي المحبة والتأييد والمناصرة بالقول والفعل والجهاد وإظهار ذلك والعمل على وفقه وقد قرر هذا المعنى في مواضع كثيرة من مؤلفاته ورسائله وكتبه ومنهاجه التربوي. وكان من ثمار هذه الدعوة الإصلاحية إحياء روح الأخوة الإسلامية بما تقتضيه من محبة ونصح وإرادة الخير والتأييد والمناصرة في القول والفعل وإظهار ذلك دينا يتقرب به إلى الله، وفي المقابل معاداة ومقاطعة أعداء الله وبعضهم وإعلان العداوة لهم والمظاهرة عليهم طاعة لله. وبذلك تحقق إيجاد مجتمع متآخ متحاب متعاون رابطته على الحب في الله والبغض فيه في صورة حية فاعلة وبالتالي إقامة مجتمع إسلامي نظيف في ظله الفضيلة وتختفي الرذيلة وتسود فيه المحبة. 1- تنشيط الحركة العلمية: إن العزلة التي عاشتها منطقة نجد ووسط شبه جزيرة العرب قبيل الدعوة الإصلاحية عن العالم الإسلامي كان من إفرازاتها الواضحة تقلص المدارس العلمية في هذه المنطقة شيئا فشيئا وعزوف الطلاب عنها ونقص العلم من أطرافه بموت العلماء وانكماش طلابه وكساد سوقه وعدم تقدير الناس لأهله كما يجب لهم، إلى جانب انعدام المجتهدين اجتهادا مطلقا أو مقيدا وندرة المجتهدين في المذهب بل حتى في المسائل حتى صار يعد في المنطقة الكاملة من مناطق نجد العالم والعالمان فقط. ولما قامت هذه الحركة الإصلاحية كان منطلقها من حلقة العلم في رحاب المساجد. وقد كثر طلاب هذه المدرسة الإصلاحية التي لم تقتصر مهمتها على حفظ ما في الكتب أو فهمه فحسب بل تجاوزته إلى تطبيق العلم في واقع الحياة وإقامته عملا ماثلا في تصرفات المؤمنين بهذه الدعوة. وقد حفزت هذه الحركة الإصلاحية بما صار لها من أنصار وخصوم وما دار بين الفريقين من مناظرات علمية فيما كان محل خلاف بينهما وبانقسام المجتمع في بداية

الدعوة إلى فريقين متمايزين كل منهما يدعوا إلى تأييد موقفه والاستنصار بأتباعه والموافقين له حتى صار في المعركة العلمية أطراف من داخل جزيرة العرب وخارجها حفزت الناس على طلب العلم وفتحت الحركة الإصلاحية في نجد صدرها لطلاب العلم من كل الأقاليم وشجعتهم وآوتهم وخصصت لهم ما يعينهم على طلت العلم ووسعت نطاق هذه المدرسة وعددت حلقاتها وصار لأتباعها رسالة لا يألون جهدا في نشرها بواسطة التعليم والتعلم والمناظرة والرسائل ومجالس العلم وتعليم العامة ما يلزم كل فرد في أداء فرائض دينه. وأول مبادئ دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب العلم بما يتضمنه من تعلم وتعليم قال في أول كتاب "ثلاثة الأصول" "اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل الأولى العلم وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة"1 وقد أكد على البدء في الدعوة بالعلم قبل القول والعمل فأورد إحدى ترجمات الإمام محمد بن إسماعيل رحمه الله صاحب الصحيح بقول: "قال البخاري رحمه الله تعالى "باب العلم قبل القول والعمل" والدليل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} قال فبدأ بالعلم قبل القول والعمل" وذلك لأن تعليم العلم فرض مقدم على القول والعمل وذلك أن صحة العمل تتوقف على العلم الصحيح. والواقع العملي لهذه الدعوة الإصلاحية أن طالب العلم هو محل عنايتها ورعايتها تقدم له المساعدات وتوضع له المخصصات وتسند إليه المهام الدينية والوظائف المهمة وقد ذكر ابن بشر رحمه الله في ترجمته للإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود العناية بالعلماء والقضاة وغيرهم فقال: وكان رحمه الله تعالى مع ذلك كثير العطاء والصدقات للرعية من الوفود والأمراء والقضاة وأهل العلم وطلبته ومعلمة القرآن والمؤذنين وأئمة المساجد حتى أئمة مساجد نخيل البلدان ومؤذنيهم ويرسل قهوة لأهل القيام في رمضان وكان الصبيان من أهل الدرعية إذا خرجوا من عند المعلم

_ 1 حاشية ثلاثة الأصول للشيخ عبد الرحمن بن قاسم ص 9-15.

يصعدون إليه بألواحهم ويعرضون عليه خطوطهم فمن تحاسن خطه منهم أعطاه عطاء جزيلا وأعطى الباقين دونه"1 بل تجاوز الأمر مجرد العطاء المقطوع إلى تخصيص رواتب ومخصصات لطلاب العلم، يقول الشيخ عثمان بن بشر رحمه الله في ترجمته له:"وكان كثيرا ما يكتب لأهل النواحي بالحض على تعلم القراء ة وتعلم العلم وتعليمه ويجعل لهم راتبا في الديوان. ومن كان منهم ضعيفا يأمره بأن يأتي إلى الدرعية ويقوم بجميع نوائبه"2 وبهذه العناية أقبل الناس على طلب العلم تعلما وتعليما وممارسة في وظائف الدولة في القضاء والإفتاء والخطابة والإمامة بالمعروف والنهي عن المنكر وجباية الزكاة وقيادة الجيوش إلى غير ذلك فأغنوا هذه الحركة الإصلاحية بالكفاءات العلمية القادرة على حمل تبعات هذه الدعوة وضمان استمرارها فاعلة. كما تركت لنا هذه المدرسة ثروة مهمة من الكتب في مختلف العلوم الشرعية والعربية مثلت رافدا حيويا في حياة هذه الأمة يعطى صورة واضحة عن هذه المدرسة الإصلاحية وثمارها يعد ثمرة عظيمة من ثمار هذه الحركة الإصلاحية. 1- إحياء روح التكافل الاجتماعي: إذا كان مبدأ التكافل الاجتماعي بشقيه المادي والأدبي قبيل الدعوة الإصلاحية في نجد قد ضعفت إلى درجة شديدة وانحصر في نطاق محدود في ظل الانقسامات والفرقة التي تكرست في تلك المنطقة لانعدام السلطة القادرة على تحقيق الوئام ورعاية المصالح فإن من الثمار العظيمة التي أفرزتها حركة الإصلاح هذه أنها قامت على وجوب معرفة الحق واتباعه ومعرفة الشر تركه والانصراف وتكوين وسط اجتماعي متراحم في أمور الدين والدنيا معا.

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 129. 2 المرجع السابق ج 1ص 130.

وهذه في مجال تحقيق التكافل الاجتماعي والأدبي عملت على نشر العلم الشرعي تعلما وتعليما وإقامته في حياة أتباعها عملا معاشا فما عرف من الشرع حسنه وقصد الشارع إليه عملوا على الأخذ به وتثبيته في واقع الحياة وأمروا به الناس وألزموا العامة به قدر المستطاع. وما عرف من الشرع قبحه والقصد إلى تركه تركوه جملة ونهوا عنه وألزموا الناس بالكف عنه. ولذا كان من أهم ما قامت عليه هذه الحركة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو باب واسع يتحول بالممارسة والاعتياد إلى عرف عام ورباط اجتماعي أدبي تنموا في ظله الفضيلة وتختفي منه الرذيلة ويتكون به مجتمع حي نظيف ينمي الخير ويرفض الشر منازلهم في الحياة بمقدار منزلتهم من الدين علما وعملا واهتمام هذه الحركة الإصلاحية بهذا الأمر أشهر من أن يذكر إذ يكررونه في كل مناسبة من كتبهم ورسائلهم وموقفهم العامة والخاصة وفي مجموعة رسائل الإمام محمد بن عبد الوهاب أكثر من خمس عشرة رسالة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أن رسائله كلها لا تخلو من التنويه بهذا المبدأ ودعوة الناس للأخذ به وإعلانه في مجتمعاتهم. أما في مجال التكافل المادي فإن هذه الدعوة قد اهتم قادتها برعاية المساكين والمحتاجين والفقراء وتقديم المساعدات المتكررة لهذه الفئات الاهتمام بجباية الزكاة في الثمار وبهيمة الأنعام وعروض التجارة وصرفها في مصارفها الثمانية التي حددتها آية التوبة إلى جانب الصدقات العامة وتوفير فرص العمل وتأمين الطرق لتحقيق انتشار الناس في الأرض وسعيهم في طلب الرزق الحلال والضرب في سبيل الله وإلزام القادرين على النفقة على الفقراء من أقاربهم حسبما قرره الفقه الإسلامي وأخذ الحق لهم من الأقوياء بصورة كاملة ودائمة ومنع ظلمهم بقوة السلطان وإحياء وازع الضمير في تحقيق التراحم بين أفراد المجتمع وبيان فضل الإحسان إلى الأيتام والفقراء والمساكين والضعفاء وأبناء السبيل وأصحاب الحمالات وإشعار الأغنياء أن في أموالهم حقا غير الزكاة وأن الزكاة الواجبة هي الحد الأدنى لا يجوز قبول أدنى منه وأن السخاء والكرم والجود ابتغاء مرضاة الله يقتضي بألا يبيت مسلم وجاره جائع.

وبهذه الأمور مجتمعة وغيرها في ظل هذه الدعوة الإصلاحية تكافل اجتماعي مادي وأدبي بعد ثمرة طيبة من ثمار هذه الحركة الإصلاحية امتدت آثارها أزمانا طويلة تحققت في ظلها أخوة الدين وتراحم المجتمع ورفع كثير من معاناة فئات كثيرة من المجتمع وأقامت مجتمعا يقظا البنية يرفض وأخذ بأسباب العافية في الدنيا والآخرة. 1- كان أسباب تدهور الحياة الاقتصادية في منطقة نجد وما حولها قبل الدعوة الإصلاحية فيها انعدام الأمن وانقطاع السبل وغارات الناس بعضهم على بعض وتعرض الثمار للنهب وقطع أصول الأشجار المثمرة كالنخل وغيره وندرة العملة في أيدي الناس بحيث أصبح كل مزارع أو صاحب حرفة يعتمد على مجهوده الشخصي وأولاده فقط إذ لا يستطيع أن يؤجر من يعينه في مزرعته أو حرفته حتى يوسع إنتاجه بل قل من يشتري الإنتاج كذلك زراعيا كان أو صناعيا. ولما قامت هذه الحركة الإصلاحية وضعت نصب عينها إقامة قيادة سياسية مؤمنة قادرة على توطيد الأمن وتأمين السبل وحفظ الأموال في أيد أربابها من غارات الأعراب وهجمات اللصوص وقطاع الطرق، وإقامة مبادئ الدين في مختلف جوانب الحياة الدينية والاجتماعية. وبدأت هذه الدعوة تسعى في تحقيق أهدافها مبتدئة بالأدنى فالأدنى حتى توسعت آثارها فشملت معظم شبه جزيرة العرب من سواحلها الشرقية إلى سواحلها الغربية. وتحقق في ظل تلك الحركة من الأمن وحفظ الحقوق وإيقاظ الوازع الديني المعطاء ما جعل المنطقة في أفضل وضع يمكن من نمو الحياة الاقتصادية في جوانبها المختلفة. ففي مجال الزراعة أمن الناس على محاصيلهم ووسعوا من ناحية مزارعهم واستعانوا بجهود غيرهم في تنشيط زراعتهم وتحقيق عائدات أكبر ووجدت لتصريف ما يزيد على حاجتهم بأقيام مناسبة.

وفي مجال الحرف والصناعات المحلية: نشط الصناع في إنتاج ما يحتاجه الناس في حياتهم اليومية في مجال الزراعة والنسيج وصنع الأواني إذ صارت تدر عليهم أرباحا مناسبة لشدة الحاجة إليها وعدم وجود البدائل المستوردة وتوسعت حاجة المجتمع في كل هذه الحاجات فكانوا يأخذون بهذه الصناعات في كثير من الأحيان عروضا للمزارع من منتجاته والتاجر من بضائعه وصاحب النقد بالنقد. وما لم يستطع بيعه في مقر إقامته صار يبعث به إلى الأسواق المحتاجة ولا يخشى أحدا في طريقه أو محل ترحاله. والتجارة التي توقفت أو كادت إلا في شكل حملات كبيرة جدا في فترات متباعدة وبرفقة أعداد كبيرة من الرجال المسلحين، لما توافر لها الأمن والأمان في السبل والمورد والمصدر وتوافرت الأسواق المفتوحة والتجارات الرابحة بدأت تدب فيها الحياة شيئا فشيئا حتى انفتحت لها آفاق الازدهار بما تحقق من تأمين السبل للأسواق وتوفر أسباب الامتداد الحر للضرب في الأرض وبذلك حيت أسواق التجارة وازدهرت في كبريات مدن البلاد التي أظلتها هذه الحركة الإصلاحية. ولما سدت أبوب الرزق الحرام في هذه البلاد بمنع قطع الطريق والغارات والسطو والنهب والسلب. وفتحت أبواب الزرق الحلال المتمثلة في الزراعة والصناعة والحرث وأنواع التجارة والوظائف العامة والمقررات السنوية أو الشهرية لبعض العاملين في مصالح الناس. كل ذلك تآزر في نمو الحياة الاقتصادية وازدهارها وإيجاد القناعة والغناء بهذه الأبواب الحلال عن الكسب الحرام. فكان ذلك ثمرة من ثمار هذه الحركة الإصلاحية تحقق في ظلها نمو القوى البشرية، وتحقق قدر من السعة للفرد لم يكن متوفرا له من قبل، وصار الناس يبحثون عن مزيد من الرخاء والرفاه للإنسان في ظل دولة إسلامية منيعة الجانب حارسة للدين محققة للعدل. وقد وصف الشيخ ابن بشر الدرعية قبل أن يدخلها الشيخ إبراهيم باشا ويهدمها فقال: "كانت قوة هذا البلد وعظم مبانيها وقوة أهلها وكثرة رجالها وأموالها لا يقدر الواصف صفتها ولا يحيط العارف بمعرفتها فلو ذهبت أعد رجالها وإقبالهم فيها وإدبارهم في كتائب الخيل والنجائب العمانيات وما يدخل على أهلها من أحمال الأموال من سائر الأجناس التي لهم مع المسافرين من أهلها ومن أهل الأقطار لم يسعه

إلا أنه مع كل ما بذلت من جهد وكل ما أملت من نجاح في هذه الدراسة سيوجد فيها القصور والنقص الذي هو من صفات البشر وهي محاولة متواضعة مني في طريق صعب أرجو من القارئ الكريم أن يغفر الزلة وأن ينبه عن مواطن القصور وأن يقدم لي المشورة لتلافي أي نقص أو قصور أو خطأ في الطبعة القادمة إن شاء الله. والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، وأن ينفع الله به كاتبه وقارئه والمساهم في نشره وتوزيعه، والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.

النتائج الاجتماعية والاقتصادية

النتائج الاجتماعية والاقتصادية ... كتاب ولرأيت العجب العجاب وكان الداخل في موسمها لا يفقد أحدا من أهل الآفاق من اليمن وتهامة والحجاز وعمان والبحرين وبادية الشام ومصر وأناس من حاضرتهم إلى غير ذلك من أهل الآفاق ممن يطول عددهم هذا داخل فيها وهذا خارج منها وهذا مستوطن فيها"1 هذه أهم الآثار والنتائج التي أسفرت عنها هذه الدراسة الموجزة عن حركة الإصلاح والتجديد في العصر الحديث على يد الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وهي آثار ونتائج كثيرة وكبيرة ومهمة مع أنها قليل من كثير مما يمكن استخلاصه من هذه الحركة الإسلامية الأصيلة التي تعتبر رائدة حركات الإصلاح الإسلامي في هذا العصر. وهي حركة إسلامية يمكن الاستفادة الواعية من دروسها في تنشيط الدعوة إلى الله في الحاضر والمستقبل وإصلاح الحياة العامة في المجتمعات الإسلامية متى درست دراسة متأنية فاحصة وأخذت منها الدروس والعبر والفقه في الدعوة وجدد في وسائلها وطورت أساليبها وروعي فيها مستجدات العصر ومتغيراته ووسائله. وهي دعوة قادرة على أن تقف في وجه الدعوات المعادية للإسلام والعقيدة السلفية الصافية بكل إباء وشمم متى أخذت على وجهها بكل صدق وإخلاص طاعة لله وابتغاء لمرضاته وحماية لدينه وتحقق في القائمين عليها الصدق والإخلاص والمتابعة. ولقد بذلت في هذه الدراسة كل ما أستطيع من جهد ووقت وحاولت بلوغ الغاية في إبراز أصالة هذه الدعوة وريادتها وصدق توجهها وصفاء مشربها وإخلاص رجالها وشرح ما أمكن من أحوالها ومنهاجها التربوي وموقف المعارضة منها وآثارها ونتائجها.

_ 1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 216.

الخاتمة

الخاتمة ... خاتمة بعد هذه السياحة التي أرجو أن تكون ممتعة في تاريخ وفكر حركة الإصلاح والتجديد في نجد في العصر الحديث على يد المصلحين العظيمين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود رحمهما الله تعالى وحقيقة الدعوة ومنهاجها التربوي والشبهات التي أثيرت حولها والآثار التي تركتها لا في داخل جزيرة العرب وحدها بل في العالم الإسلامي كله وأنها تمثل الومضة الأولى لحركات الإصلاح والتجديد في العصر الحديث وقيامها في بيئة متخلفة من الناحية الثقافية إذا قيست بحواضر العالم الإسلامي وفي منطقة مهملة في عهد الخلافة العثمانية التي كانت باسطة نفوذها على العالم الإسلامي في معظم دياره. وهذا يؤيد صدق نظرة علماء الاجتماع السياسي الإسلامي الذين قالوا إن العرب لا تقوم دولتهم إلا على عصبية أو دعوة دينية وأنها متى توافرت واحدة منهما سهلت قيام الدولة في العرب وأن قيام الدول واستمرارها أو اندثارها يتم وفق سنن ثابتة لا تتغير ومتى تم الأخذ بهذه السنن فإن الله سبحانه يحقق بفضله النتائج على وفقها. وقد توافر لهذه الحركة الإصلاحية عصبية دينية تتمثل في اتباع هذه المدرسة من الأمراء والعلماء والعامة كما توافر لها عنصر مهم آخر هو القوة الممثلة في إمارة الإمام محمد بن سعود في الدرعية، وتوافرت لها الأرض التي تأمن فيها وتنطلق منها وهي مدينة الدرعية وتوافر لها الأفراد المؤمنون بهذا الدين والعاملون على إحيائه والباذلون في سبيله كل ما يملكون وقد تأزرت هذه الأسباب في تحقيق النجاح لهذه الدعوة الإصلاحية.

وإذا كانت هذه الحركة كوجود سياسي تمر بمراحل قوة في مدها كما تتعرض لفترات ضعف أو زوال تحت مختلفة فإنها ظلت راسخة في نفوس الناس عميقة الأثر في البناء الاجتماعي في جزيرة العرب تحوطها القلوب وتحرسها المشاعر ويتطلع إلى ظهورها الناس في كل وقت وهذا يفسر للباحث السر العميق في قيام الدولة السعودية في كل دور من أدوارها الثلاثة بعد زوالها ويسهل فهم سر الانبعاث السريع لقيام الدولة السعودية على يد المجددين من قادتها في كل فترة. كما أن تعرض هذه الحركة الإصلاحية كوجود سياسي إلى الزوال والاندثار في فترات من التاريخ ترجع إلى سوء مغبة الانحراف من منهج الحركة والتساهل في الأخذ بالأسس التي قامت عليها الدعوة الإصلاحية واستقطب الناس بها حولها وأنه متى تخلف عن الأخذ بالسنن الكونية التي جعلتها علامة على الظهور تخلف بإذن الله من النتائج بمثل ما قصرنا به من الأخذ بهذه السنن ولأن الخير أصل وثابت في منبت قيادة هذه الحركة الإصلاحية فإن ما يحصل لها في بعض فترات التاريخ من ضعف وإجهاد إنما هو نوع من التأديب الرباني الذي يمحص الله به الذنوب ويرفع به الدرجات ويذكر بالأصول الثابتة المكينة لهذا الدين وأن العز والتمكين لا يكون إلا بالأخذ بها حتى لا تغيب عن البال ولاتنسى في ضجيج الحياة وصخب الناس وحتى تعود القيادة إلى مقرها وهي أشد ما تكون وعيا واحتراسا وصدقا ولله في خلقه شئون. وهذه الصفحات الملونة في تاريخ هذه الحركة الإصلاحية أكبر دليل على أهمية التزام هذه الدعوة بالأسس التي قامت عليها وأهمية الاعتماد على العناصر المؤمنة بها في كل جيل وتبين خطر التساهل والغفلة عن هذه المعاني في مسيرتنا في الحاضر والمستقبل. والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل. الدكتور/ عبد الله ين محمد العجلان

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... المصادر والمراجع 1- أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، العقيدة الطحاوية – شرح ابن أبي العز الحنفي – ط 4، 1391هـ. 2- حسين بن غنام، تاريخ نجد ط 1 مطبعة الحلبي – القاهرة 1367هـ. 3- ستودارد، لوثروب، حاضر العالم الإسلامي – ترجمة عجاج نويهض – تعليقات شكيب أرسلان – ج 1، الطبعة الرابعة 1394هـ. 4- سليمان بن عبد الله بن الشيخ بن محمد بن عبد الوهاب، التوضيح عن توحيد الخلاف وتذكرة أولى الألباب لطريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 5- الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ مصباح الظلام في رد على من كذب على الشيخ الإمام – تقديم الشيخ إسماعيل بن سعد بن عتيق. 6- عبد الله بن يوسف الشبل، الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب – حياته ودعوته – نشر جامعة الإمام محمد بن سعود 1399هـ. 7- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد ج ي1، 2 نشر مكتبة الرياض الحديثة.

1- لوريمر، ج ج، دليل الخليج – القسم التاريخي. 2- محمد بن سعيد بن سالم القحطاني، الولاء والبراء في الإسلام من مفاهيم عقيدة السلف ط 1، 1402هـ. 3- محمد بن عبد الله السلمان، رشيد رضا ودعوته الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رسالة ماجستير في التاريخ الإسلامي الحديث عام 98- 1399هـ. 4- الشيخ محمد بن عبد الوهاب أ - كتاب التوحيد حاشية الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ط 3، 1408هـ. ب - ثلاثة الأصول – حاشية الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ط5،1407هـ. ج - مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب – نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: 1- كشف الشبهات "القسم الأول من مؤلفاته". 2- القواعد الأربعة "القسم الأول من مؤلفاته". 3- مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وفتاوى ومسائل "القسم الثالث". 4- الرسائل الشخصية "القسم الخامس". 5- ملحق المصنفات. د- بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج1، 2،نشر جامعة الإمام 1403هـ. 5- مكتبة التربية العربي لدول الخليج: ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعقودة في البحرين من 3-6/6/1405هـ.

§1/1