حديث المصراة
ذيب القحطاني
مقدمة
حديث المُصَرَّاة.. رواية ودراية تصنيف الدكتور: ذيب بن مصري بن ناصر القحطاني المقدمة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} 2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 3. أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وبعد ... فإن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والتزام سنته والسير على نهجه وتحكيم شرعه واجب على كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الله تعالى يقول: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً} 4.
فتحكيم النبي صلى الله عليه وسلم لازم في العبادات والمعاملات ولا يجوز الخروج عن حكمه لأن الله قد نفى الإيمان عمن يجد في نفسه ضيقاً من حكم رسوله صلى الله عليه وسلم وهو أرحم بنا من أنفسنا ويشق عليه عنتنا. قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 1 وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2 فمن شفقته على أمته إيضاحه كل ما تحتاج إليه حب معاشها ومعادها سواء أكان في العبادات أو المعاملات فحل المشكلات وبين حلولها بما يشفي ويكفي رأفة بأمته ورحمة بها وكيف لا يحل مشاكل أمته وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما بقي شيء يقرب من لجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم" 3 فهذا البيان وهذا التوضيح لحل كل مشكلة مما جعل العالم يقف حائرا مندهشا مفكرا في هذا الشرع العالمي4 العجيب الذيَ وسمعت تعاليمه كل لا يحتاج إليه البشر حتى أبسط المسائل التي قد يراها بعض الناس نقصان عقله وتفكيره من التوافه وحاشى الإسلام أن يكون فيه توافه أو سواقط وإنما اشتمل هذا الدين السماوي على ما يتصل بالمسلم في نفسه أو أسرته أو مجتمعه بنظام عجيب بلغ ذروة الكمال والتمام {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} 5. فالحمد لله على هذه النعمة التي هي أعظم النعم وأجلها نعمة الإسلام الكامل الشامل الذي وسعت تعاليمه كل حوائج البشر في أحسن حللها وأبهى صورها سواء ما كان منها في العبادات التي فصلها تفصيلا كاملا أو في المعاملات التي شملها هذا البيان الوافي بكل متطلبات البشر فمن هذه المعاملات التي بينها بيانا شافيا ما كان شائعا ومحببا للنفوس من التجارة والحصول على أغلى الأثمان في بيعهم وشرائهم. لهذا ترى بعض أصحاب السلع يحبون أن تظهر سلعهم بأجمل صورة لعلها تلفت نظر المشتري إليها فيحصلون منها على ربح كثير وقيمة كبيرة مقابل هذا المنظر ولو بالمخادعة لحب المال وزيادته ولما كان الغش محرما في الشريعة الإسلامية منع الشارع الحكيم من كل أنول الغش سواء كان في الحيوان أو في الطعام أو في المكيال أو الميزان أولا غير ذلك من جميع أنواع المعاملات ولهذا قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "منْ غشنا فليس منا" 1 وذلك لما في الغش من الضرر على المجتمع ومن أنواع الغش الذي كان شائعا "التصرية" فقد يترك صاحب الإبل أو الغنم أو البقر إبله أو غيرها اليوم واليومين بدون حلب حتى يكثر لبنها ويراها المشتري وقد امتلأ ضرعها باللبن فيظن أن هذا من عادتها فيزيد في ثمنها رغبة في لبنها فإذا حلبها وجدها على خلاف ما ظهر له منها فهنا جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشتري حلا، وخلاصا من هذا الغش الذي وقم فيه وهو أنه إذا حلبها مخير بين إمساكها أو ردها ومعها صاعا من تمر بدل ذلك اللبن الذي استهلكه من هذه الناقة أو البقرة أو الشاة وقد يقول قائل لماذا لا يكون اللبن للمشتري ويرد الشاة بدون عوض صاع تمر مقابل اللبن لأنه وجد فيها عيبا فكان الأولى أن ترد بدون مقابل لذلك اللبن المحلوب لوجود العيب والغش كسائر العيوب. الجواب عن هذا وإن كنت لم أر من قال به من العلماء أنه قد يوجد بعض الخداعين والمكارين وضعاف النفوس يشتري الناقة أو الشاة أو البقرة وهو يريد لبنها الموجود في ضرعها حال البيع ولا رغبة له في اقتنائها فإذا استهلك ما في ضرعها من لبن أدعى بأن فيها عيبا وهو التصرية فيفوت على صاحبها لبنها ويسترد ما دفع فيها كاملا فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا القيد إن كان صادقا بأنها مصراة والتصرية عيب فليدفع بدل اللبن الذي استهلكه صاعا من طعام حتى يرتدع أهل الفسق والتلاعب عن فسقهم وتلاعبهم بالسلع وأهلها وهذا فصلا لهذه القضية حتى لا يكون هناك خلاف بين المتبايعين يؤدي إلى الخصام والنزل فحكم النبي الذي لا ينطق عن الهوى بحكمه العدل حتى لا يدع مجالا للأخذ والإعطاء والخصام والنزاع لأنه لو ترك ذلك للاجتهاد والأخذ والإعطاء لأدى ذلك إلى الخصام الطويل والنزاع المستمر لتفاوت ألبان اِلإبل والغنم والبقر فقد يقول البائع أن اللبن الذي حلب أكثر من صاعين وقد يقول المشتري بأنه أقل من نصف صاع فيحصل من أجل ذلك الشجار والدعاوي الزيادة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بهذا القضاء قطعا للخصام والشجار بقضاء لا يوجد أعدل منه ولا أحسن منه ولم يترك ذلك لقول فلان أو علان فالحمد لله على هذه النعمة نعمة الإسلام التي بينت وكفت وشفت هذا ولما كان حديث المصراة قد ورد بألفاظ مختلفة وفي بعضها زيادة على بعض وبني من أجل هذه الزيادة حكم جمعت كل نوع منها على حدة فقد ورد الحديث بلفظ التمر وبلفظ الطعام وبلفظ خيار ثلاثة أيام فجعلت مباحثه كالآتي: 1- مبحث ألفاظه بالتمر. 2- مبحث ألفاظه بالطعام. 3- مبحث مدة الخيار.
- مبحث خلاف العلماء في المسألة. 5- مبحث هل يتعدى حكم المصراة إلى غير الإبل والغنم. 6- مبحث هل يلزم التمر أو يجوز غيره. علما بأنني قد ذكرت طرق الحديث ومن روي عنه من الصحابة وخرجتها من مصادرها وذكرت ما قيل فيها من تصحيح أو تضعيف. والله أسأل أن ينفع به كاتبه وقارئه ... وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
حديث المصراة رواية ودراية
حديث المصراة رواية ودراية ... حديث المصراة رواية من رواه بلفظ التمر قال الإمام البخاري- رحمه الله تعالى-: 1_حدثنا ابن بكير، حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي فصلى الله عليه وسلم: "لا تصروا1 الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر"، وبذكر عن أبي صالح2
ومجاهد1، والوليد بن رباح2 وموسى بن يسار3 عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وصاع تمر". وقال بعضهم عن ابن سيرين "وصاعا من طعام وهو بالخيار ثلاثا"، وقال بعضهم عن ابن سيرين "وصاعا من تمر "ولم يذكر ثلاثا "والتمر" أكثر4. 2- وقال البخاري أيضاً حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن "أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الركبان ولا يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا ولا يبيع حاضرة لباد، ولا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر" 5. 3- وقال أيضاً حدثنا محمد بن عمرو حدثنا المكي أخبرنا ابن جريج أخبرني زياد أن ثابتا مولى عبد الرحمن بن زيد أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى غنما مصراة فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها
صاع من تمر" 1. 4- وقال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ما أحدكم اشترى لقحة2 مصراة أو شاة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إما هي وإلا فليردها وصاعا من تمر" 3. 5- وقال أيضاً حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى شاة مصراة فهو بخير النظرين إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر لا سمراء" 4. رواية أنس بن مالك لحديث المصراة 6- قال أبو يعلي حدثنا حميد بن مسعدة السامي حدثنا عرعرة بن البرند حدثنا إسماعيل المكي، عن الحسن عن أنس قال صلى الله عليه وسلم: " لا تلامسوا5 ولا تناجشوا6 ولا تبايعوا الغرر7، ولا يبيعنَّ حاضر لباد، ومن اشترى محفلة8 فليحلبها ثلاثة أيام فإن ردها فليردها بصاع من تمر" 9.
رواية ابن عمر 7- قال الدارقطني: ثنا يحي بن صاعد نا سوار بن عبد الله العنبري، نا معتمر بن سليمان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر وأبي هريرة رفعا الحديث قال: "لا يبيع حاضر لباد، ولا تلقوا السلع1 بأفواه الطرق ولا تناجشوا، ولا يسم2 الرجل على سوم أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يرد، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفيء ما في صحفتها فإنما لها ما كتب لها ولا تبيعوا المصراة من الإبل والغنم فمن اشتراها فهو بالخيار إن شاء ردها وصاعا من تمر، والرهن مركوب ومحلوب" 3. رواية عمر بن عوف المزني لحديث المصراة 8- وقال أيضاً حدثنا أبو طالب علي بن محمد بن أحمد بن الجهم، نا علي بن يزيد الفرائضي، نا الحنيني إسحاق بن إبراهيم، نا كثير بن عبد الله على أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا جلب4 ولا جنب5 ولا اعتراض6ولا يبيع حاضر لباد، ولا تصروا
الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو إذا حلبها بخير النظرين، إن رضيها أمسكها وإن سخط ردها وصاعا من تمر" تابعه عاصم بن عبيد الله عن سالم عن ابن عمر في المصراة حدث عنه داود بن عيسى1 وقال الحسن بن عمارة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم2 وقال أبو شيبة عن أبي هريرة3 وقال شعبة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم4. 9- وقال البخاري حدثنا مسدد حدثنا معتمر قال: سمعت أبي يقول حدثنا أبو عثمان عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من اشترى في شاة محفلة فردها فليرد معها صاعا من تمر" 5. رواية حديث المصراة بلفظ الطعام 1- قال مسلم: حدثنا محمد بن عمر بن جبلة ابن أبي روّاد حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا قرد عن محمد عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها صاعا من طعام لا سمراء" 6.
2- وقال أحمد: حدثنا عبد الواحد عن عوف عن خلاس بن عمرو ومحمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى لقحة أو شاة مصراة فحلبها فهو بأحد النظرين بالخيار إلى أن يحوزها أو يردها وإناء من طعام" 1. 3- وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن طلحة قال سمعت ابن أبي ليلى يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتلقى جلب ولا بيع حاضر لباد ومن اشترى شاة مصراة أو ناقة فهو بآخر النظرين إذا هو حلب إن ردها رد معها صاعا من طعام قال الحكم أو صاعا من تمر" 2. 4- وقال أبو داود: حدثنا أبو كامل، حدثنا عبد الواحد حدثنا صدقة ابن سعيد عن جميع بن عمير التيمي، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسوِل الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلى لبنها قمحاَ" 3. أما روايات الخيار بثلاثة أيام 1- ففي صحيح مسلم من رواية أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر" 4 2- وعنده أيضاً عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها صاعا من طعام لا سمراء" 5.
3- وأخرج أبو داود وابن ماجة عن جميع بن عمير التيمي قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلى لبنها قمحاً" 1. 4- وأخرت البخاري في التاريخ الكبير عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شاة لدرتها حلبها ثلاثة أيام فهو بالخيار إن شاء أمسك وإلا رد صاعا من تمر" 2. 5- وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلامسوا ولا تناجشوا ولا تبايعوا الغرر ولا يبيعن حاضر لباد ومن اشترى محفلة فليحلبها ثلاثة أيام فإن ردها فليردها بصاع من تمر" 3. هذه روايات الخيار في الحديث وقال الخطابي وقد أخذ كل واحد من مالك، وأبي حنيفة بطرف من الحديث وترك الطرف الآخر، فقال أبو حنيفة لا خيار أكثر من ثلاث واحتج بهذا الحديث ولم يقل برد الصاع وقال مالك برد الصاع ولم يأخذ بالتوقيف في خيار الثلاث وصار إلى أن يرد متى وقف على العيب كان ذلك بعد الثلاث أو قبلها فكان أصح المذاهب قول من استعمل الحديث على وجهه وقال بجملة ما فيه4. ثم قال: وقاد اختلف الناس في مدة الخيار المشروط في البيعَ فقال أبو حنيفة لا يجوز أكثر من ثلاث وهو قول الشافعي. وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد قليله وكثيره جائز. وقال مالك: هو على قدر الحاجة إليه فخيار الثوب يوم ويومان. وفي الحيوان أسبوع ونحوه، وفي الدور شهر وشهران وفي الضيعة سنة ونحوها5. قال الباجي في الخيار وقوله صلى الله عليه وسلم: " فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها " قال محمد له الرد بعد أن يحلب مرتين فإن حلب ثلاثا لزمته وقال ابن القاسم لما سئل أيردها بعد الثالثة إذا رأىَ من ذلك ما يعلم أنه قد اختبرها قبل ذلك فما حلب بعد ذلك منع الرد، قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه والأظهر عندي إنه يكون الخيار بعد الثلاثة6.
وعند الحنابلة في الخيار قولان: أحدهما: للقاضي وهو أن مدة الخيار مقيدة بثلاثة أيام ليس له الرد قبل مضيها ولا إمساكها بعدها وهذا القول لأحمد وأصحاب الشافعي. القول الثاني: لأبي الخطاب وهو أنه متى ثبتت التصرية جاز له الرد قبل الثلاثة أو بعدها لأنه تدليس يثبت الخيار فملك الرد به إذا تبينه كسائر التدليس ثم قال وهذا قول ابن المنذر، وأبي حامد من أصحاب الشافعي وحكاه عَن الشافعي نصا لظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يقتضي ثبوت الخيار في الأيام الثلاثة كلها وعلى قول القاضي: "لا يثبت الخيار في شيء منها وإنما يثبت عقبها وقول أبي الخطاب يسوي بين الأيام الثلاثة وبين غيرها والعمل بالخبر أولى، والقياس ما قال أبو الخطاب لأن الحكم كذلك في العيوب وسائر التدليس" 1. وقال النووي في الروضة ويثبت به- أي تدليس التصرية- الخيار للمشتري وفي خياره وجهان أصحهما: أنه على الفور، والثاني: يمتد إلى ثلاثة أيام2. ولعل الأرجح ما ذهب إليه القاضي والقول الثاني الذي ذكره النووي لأن صاحب الشاة أو الناقة قد ينكر أنها مصراة ولا يتضح أنها مصراة إلا بعد حلبها ثلاثة أيام كما هو نص الحديث والله تعالى أعلم. "موقف العلماء من حديث المصراة" اختلف العلماء من هذا الحديث في مسائل: الأولى: حكم المصراة، الثانية: مده الخيار، وتقدمت في رواية الخيار بثلاثة أيام، الثالثة: هل يتعدى حكم المصراة إلى غير الإبل والغنم، الرابعة: هل يتعين الصاع من التمر أو تجوز قيمته وهل يجزئ غير التمر من أنواع الأطعمة الأخرى. ** المسألة الأولى: الأقوال في حكم المصراة ** القول الأول: أخذ بظاهر هذا الحديث: جمهور أهل العلم وهو قول: "مالك، والشافعي، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وأبي عبيد، وأبي ثور"3.
وأفتى به ابن مسعود، وأبو هريرة، ولا مخالف لهما من الصحابة رضي الله عنهم وقال به من التابعين ومن بعدهم من لا يحصى عدده ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلا أو كثيرا ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا1. القول الثاني: عدم الأخذ بالحديث وهو رأي الإمام أبي حنيفة وروى عن مالك، وقد اعتذروا عن عدم الأخذ به بأمور منها: 1- ما يرجع إلى راوي الحديث الذي هو أبو هريرة لأنه ليس بفقيه. 2- ما يعود إلى الحديث لأنه مضطرب. 3- معارضته للقرآن الكريم. 4- القول بنسخ الحديث. 5- أنه حديث مخالف لقياس الأصول المعلومة، وما كان كذلك لا يلزم العمل به- ثم قسمه ابن دقيق العيد إلى مقامين: أما الأول: وهو أنه مخالف لقياس الأصول فمن وجوه: أحدها: أن المعلوم من الأصول أن ضمان المثليات بالمثل وضمان المقومات بالقيم من النقدين وهاهنا إن كان اللبن مثليا كان ينبغي ضمانه بمثله لبنا وإن كان متقوما ضمن بمثله من النقدين وقد وقع هاهنا مضمونا بالتمر فهو خارج عن الأصلين جميعا. الثاني: أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف وذلك مختلف فقدر الضمان لكنه قدر هاهنا بمقدار واحد وهو الصاع مطلقا فخرج عن القياس الكلي في اختلاف ضمان المتلفات باختلاف قدرها ووصفها. الثالث: أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرد كما لو ذهب بعض أعضاء المبيع، ثم ظهر على عيب فإنه يمنع الرد وإن كان هذا اللبن حادثا بعد الشراء فقد حدث على ملك المشتري فلا يضمنه وإن كان مختلطا فما كان موجودا منه عند العقد منع الرد وما كان حادثا لم يجب ضمانه. الرابع: إثبات الخيار ثلاثا من غير شرط نحالف للأصول فإن الخيارات الثابتة بأصل الشرع من غير شرط لا تتقدر بالثلاث كخيار العيب وخيار الرؤية عند من يثبته وخيار المجلس عند من يقول به. الخامسة: يلزم من القول بظاهره الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور وهو إذا ما كانت قيمة الشاة صاعا من تمر فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها.
السادس: أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور وهو ما إذا اشترى شاة بصاع فإذا استرد معها صاعا من تمر فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن فيكون قد باع صاعا وشاة بصاع وذلك خلاف قاعدة الربا عندكم فإنكم تمنعون مثل ذلك. السابع: إذا كان اللبن باقيا لم يكلف رده عندكم فإذا أمسكه فالحكم كما لو تلف فيرد الصاع وفي ذلك ضمان الأعيان مع بقائها والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها كالمغصوب وسائر المضمونات. الثامن: قال بعضهم أنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط لأن نقصان اللبن لو كان عيبا لثبت به الرد من غير تصرية ولا يثبت الرد في الشرع إلا بعيب أو شرط. وأما المقام الثاني: وهو أن ما كان من أخبار الآحاد مخالفا لقياس الأصول المعلومة لم يجب العمل به فلأن الأصول المعلومة مقطوع بها من الشرع وخبر الواحد مظنون والظنون لا يعارض المعلوم1. الإجابة وقد أجاب الأئمة عن هذه الاعتراضات بما يأتي: 1- أما الاعتراض بأنه من رواية أبي هريرة وهو ليس بفقيه فلا يؤخذ بما رواه مخالفا للقياس الجلي، فقال الحافظ ابن حجر وهو كلام آذى قائله به نفسه وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه وقد ترك أبو حنيفة القياس الجلي لرواية أبي هريرة وأمثاله كما في الوضوء بنبيذ التمر2 ومن نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة3 وهما خبران ضعيفان عند أهل المعرفة
بالحديث، ثم إن ابن مسعود رضي الله عنه قد أفتى بذلك كما هو ثابت في صحيح البخاري كما تقدم فلو لم يكن خبر أبي هريرة في ذلك ثابت لما خالف ابن مسعود القياس الجلي في ذلك وقال: قال ابن السمعاني: التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله بل هو بدعة وضلالة وقد أختص أبو هريرة رضي الله عنه بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له- يعني المتقدم في كتاب العلم وفي أول البيوع- وفيه قوله: "إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا الحديث"1. ثم مع ذلك لم ينفرد أبو هريرة بهذا الأصل فقد أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر وأخرجه الطبراني من وجه آخر عنه، وأبو يعلى من حديث أنس، وأخرجه البيهقي في الخلافيات عن عمرو ابن عوف المزني وأخرجه أحمد من رواية رجل من الصحابة لم يسم2 ثم قال: قال ابن عبد الله:هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل واعتل من لم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها. 2- وأما قولهم بأنه مضطرب لذكر التمر فيه تارة والقمح أخرى واللبن أخرى واعتباره بالصاع تارة وبالمثل أو المثلين تارة وبالإناء أخرىَ. فالجواب أن الطرق الصحيحة لا اختلاف فيها كما تقدم والضعيف لا يعل به الصحيح. 3- وأما قولهم بأنه معارض لعموم القرآن كقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 3 فأجيب بأنه من ضمان المتلفات لا العقوبات والمتلفات تضمن بالمثل وغير المثل. 4- وأما قولهم بأن الحديث منسوخ وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا دلالة على النسخ مع مدعيه لأنهم اختلفوا في الناسخ: (أ) فقد قال الطحاويَ قال محمد بن شجاع فيما أخبرني عنه ابن أبي عمران، نسخه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فلما قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرقة الخيار ثبت
بذلك أنه لا خيار بعدها إلا لمن استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلا بيع الخيار1 ثم قال وهذا التأويل عندي فاسد لأن الخيار المجعول في المصراة إنما هو خيار عيب وخيار العيب لا يقطعه الفرقة. ألا ترى أن رجلا لو اشترى عبدا فقبضه، وتفرقا، ثم رأى به عيبا بعد ذلك أن له رده على بائعه باتفاق المسلمين لا يقطع ذلك التفرق الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!. فكذلك المبتاع للشاة المصراة فإذا قبضها فاحتلبها، فعلم أنها على غير ما كان ظهر له منها وكان ذلك لا يعلمه في احتلابه مرة ولا مرتين جعلت له في ذلك هذه المدة وهي ثلاثة أيام. حتى يقف على حقيقة ما هي عليه فإن كان باطنها كظاهرها، فقد لزمته واستوفى ما اشترى وإن كان ظاهرها بخلاف باطنها فقد ثبت العيب ووجب له ردها به. (ب) ثم قال: وقال عيسى بن أبان: كان ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم في المصراة، بما في الآثار الأول في وقت ما كانت العقوبات في الذنوب يؤخذ بها المال فمن ذلك ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة أنه من أداها طائعا، فله أجرها وإلا أخذناها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل. ومن ذلك ما روي عنه في حديث عمرو بن شعيب في سارق التمرة التي لم تحرز فإنه يضرب جلدات ويغرم مثليها. قال فلما كان الحكم في أول الإسلام كذلك حتى نسخ الله الربا أفردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كانت لها أمثال وإلى قيمتها إن كانت لا أمثال لها2 رد هذا بأن التصرية من فعل البائع فلو كان من ذلك الباب للزمه التغريم والفرض أن حديث المصراة يقتضي تغريم المشتري فافترقا3. (ج) وقال الطحاوي بعد ما ذكر قول عيسى بن أبان وأني رأيت في ذلك وجها هو أشبه عندي بنسخ هذا من ذلك الوجه الذي ذهب إليه عيسى وذلك أن لبن المصراة الذي احتلبه المشتريَ منها في الثلاثة الأيام التي احتلبها فيها قد كان بعضه في ملك البائع قبل الشراء وحدث بعضه في ملك المشتريَ بعد الشراء إلا أنه احتلبها مرة بعد مرة فكان ما كان في يد البائع من ذلك مبيعا إذا أوجب نقض البيع في الشاة وجب نقض البيع فيه وما حدث في يد المشتري من ذلك فإنما كان ملكه بسبب البيع أيضا وحكمه حكم الشاة لأنه من بدنها
هذا على مذهبنا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل لمشتري المصراة بعد ردها جميع لبنها الذي حلبه منها بالصاع من التمر الذي أوجب عليه رده مع الشاة وذلك اللبن حينئذ قد تلف أو تلف بعضه فكان المشتري قد ملك لبنا دينا بصاع تمر دين فدخل ذلك في بيع الدين بالدين ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين فنسخ ذلك ما كان تقدم منه مما روى عنه في المصراة مما حكمه حكم الدين1. أجاب الحافظ ابن حجر عن هذا بقوله بأن الحديث ضعيف باتفاق المحدثين2 وعلى التنزل فالتمر إنما شرع في مقابل الحلب سواء أكان اللبن موجودا أو غير موجود فلم يتعين في كونه من الدين بالدين3 (3) . (د) وقيل ناسخه حديث الخراج بالضمان قال الطحاوي قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخراج بالضمان" وعملت بذلك العلماء ثم سرد روايات الحديث ثم قال وزعمت أنت أن رجلا لو اشترى شاة فحلبها ثم أصاب بها عيبا غير التحفيل أنه يردها ويكون اللبن له وكذلك لو كان مكان اللبن ولد ولدته ردها على البائع وكان الولد له وكان ذلك عندك، من الخراج بالضمان الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم للمشتري بالضمان4 (4) وقال الحافظ ابن حجر في
الجواب عن هذا وتعقب بأن حديث المصراة أصح منه باتفاق1 (1) فكيف يقدم المرجوح على الراجح. ودعوى كونه بعده لا دليل عليه. وعلى التنزل فالمشتري لم يؤمر بغرامة ما حدث في ملكه بل بغرامة اللبن الذي ورد عليه العقد ولم يدخل في العقد فليس بين الحديثين تعارض2. 5- قال ابن دقيق العيد:وقولهم أنه مخالف للأصول فقد فرق بعضهم بين مخالفة الأصول ومخالفة قياس الأصول وخص الرد لخبر الواحد بالمخالفة في الأصول لا بمخالفة قياس الأصول وهذا الخبر إنما يخالف قياس الأصول وفيه نظر ثم قال وسلك آخرون تجريح جميع هذه الاعتراضات والجواب عنها: أما الاعتراض الأول: فلا نسلم أن جميع الأصول تقتضي الضمان بأحد الأمرين على ما ذكرتموه- يعني أن ضمان المثليات بالمثل وضمان المقومات بالقيم من النقدين- فإن الحر يضمنِ بالإبل وليست بمثل له ولا قيمة: والجنين يضمن بالغرة وليست بمثل له ولا قيمة، وأيضاً فقد يضمن المثل بالقيمة إذا تعذرت المماثلة وهاهنا تعذرت: أما الأول: فمن أتلف شاة لبنونا كان عليه قيمتها مع اللبن ولا يجعل بازاء لبنها لبن آخر لتعذر المماثلة. وأما الثاني: وهو أنه تعذرت المماثلة هاهنا فلأن ما يرده من اللبن عوضاً عن اللبن التالف لا يتحقق مماثلته له في المقدار ويجوز أن يكون أكثر من اللبن الموجود حالة العقد أو أقل. أما الاعتراض الثاني: وهو قولهم أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف وذلك مختلف فقدر الضمان مختلف لكنه قدر هاهنا بمقدار واحد وهو الصاع مطلقا- قيل في جوابه:إن بعض الأصول لا يتقدر بما ذكرتموه كالموضحة فإن أرشها
مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر: والجنين مقدر أرشه ولا يختلف بالذكورة والأنوثة واختلاف الصفات والحر ديته مقدرة وإن اختلف بالصغر والكبر وسائر الصفات والحكمة فيه أن ما يقع فيه من التنازع والتشاجر يقصد قطع النزاع فيه بتقديره بشيء معين وتقدم هذه المصلحة في مثل هذا المكان على تلك القاعدة1. وقال ابن حجر رحمه الله تعالى معللا لما تقدم: "فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط باللبن الموجود وقت العقد فلم يعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري ولو عرف مقداره فوكل إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لأفضى إلى النزاع والخصام فقطع الشارع النزاع والخصام وقدره بحد لا يتعديانه فصلا للخصومة وكان تقديره بالتمر أقرب الأشياء إلى اللبن فإنه كان قوتهم إذ ذلك كاللبن وهو مكيل كاللبن ومقتات، فاشتركا في كون كل واحد مطعوما مقتاتا مكيلا واشتركا أيضاً في أن كلا منهما يقتات به بغير صنعة ولا علاج"2. أما الاعتراض الثالث: وهو أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرد-.. الخ فجوابه أن يقال متى يمتنع الرد بالنقص إذا كان النقص لاستعلام العيب أو إذا لم يكن الأول ممنوعاً والثاني مسلماً وهذا النقص لاستعلام العيب فلا يمتنع الرد. أما الاعتراض الرابع: وهو إثبات الخيار ثلاثا من غير شرط مخالف للأصول.. الخ الجواب عنه: "إنما يكون الشيء مخالفا لغيره إذا كان مماثلا له وخولف في حكمه وهاهنا هذه الصورة انفردت عن غيرها فإن الغالب أن هذه المدة حسي التي يتبين بها لبن الجبلة المجتمع بأصل الخلقة واللبن المجتمع بالتدليس فهي مدة يتوقف علم الغيب عليها غالبا بخلاف خيار الرؤية والعيب فإنه يحصل المقصود من غير هذه المدة فيهما وخيار المجلس ليس لاستعلام عيب"3، وقال الحافظ ابن حجر موضحا لهذا القول: إن حكم المصراة انفرد بأصله عن مماثلة غيره فلا يستغرب أن ينفرد بوصف زائد على غيره"4. أما الاعتراض الخامس: وهو قولهم يلزم من القول بظاهر الحديث الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور ... الخ. والجواب عنه: قيل فيه أن الخبر وارد على العادة والعادة أن لا تباع شاة بصاع وفي هذا ضعف: وقيل أن صاع التمر بدل عن اللبن لا عن الشاة فلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض.
أما الاعتراض السادس: وهو أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور وهو ما إذا اشترى شاة بصاع فإذا استرد معها صاعا من تمر فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن ... الخ. والجواب عنه: أن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يفترقا قبل القبض ولو تقابلا في هذا العقد لجاز أن يفترقا قبل القبض. أما الاعتراض السابع: وهو قوهم إذا كان اللبن باقيا لم يكلف رده عندكم ... الخ. الجواب عنه: إن اللبن الذي كان في الضرع حال العقد يتعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد وأحدهما للباب والآخر للمشتري وتعذر الرد لا يمنع من الضمان مع بقاء العين كما لو غصب عبدا فأبق فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر الرد1. أما الاعتراض الثامن: وهو قولهم أنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط ... الخ. قال الحافظ ابن حجر: "الجواب أن الخيار يثبت بالتدليس كمنِ باع رحى دائرة بما جمعه له بغير علم المشتري فإذا اطلع عليه المشتري كان له الرد، وأيضاً فالمشتري لما رأى ضرعا مملوءا لبنا ظن أنه عادة لها فكأن الباب شرط له ذلك فتبين الأمر بخلافه فثبت له الرد لفقد الشرط المعنوي لأن البائع يظهر صفة المبيع تارة بقوله وتارة بفعله فإذا أظهر المشتري على صفة فبان الأمر بخلافها كان قد دلس عليه فشرع له الخيار وهذا هو مخص القياس ومقتضى العدل فإن المشتري إنما بذل ماله بناء على الصفة التي أظهرها له البائع، وقد أثبت الشارع الخيار للركبان إذا تلقوا واشترىَ منهم قبل أن يهبطوا إلى السوق ويعلموا السعر وليس هناك عيب ولا خلف في شرط ولكن لما فيه من الغش والتدليس"2. قال ابن دقيق العيد: "وأما المقام الثاني وهو النزاع في تقديم قياس الأصول على خبر الواحد فقيل فيه أن خبر الواحد أصل بنفسه يجب اعتباره لأن الذي أوجب اعتبار الأصول نص صاحب الشرع عليها وهو موجود في خبر الواحد فيجب اعتباره وأما تقديم القياس على الأصول باعتبار القطع وكون خبر الواحد مظنونا فتناول الأصل لمحا خبر الواحد غير مقطوع به لجواز استثناء محل الخبر عن ذلك الأصل وعندي إن التمسك بهذا الكلام أقوى من التمسك بالاعتذارات عن المقام الأول"3. وقال الخطابي: "والأصل أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب القول به وصار أصلا في نفسه وعلينا قبول الشريعة المبهمة كما علينا قبول الشريعة المفسرة والأصول إنما
صارت أصولا لمجيء الشريعة بها وخبر المصراة قد جاء به الشرع من طرق جياد أشهرها هذا الطريق فالقول به واجب وليس تركه لسائر الأصول بأولى من تركها له"1. وقال الحافظ: "ابن حجر والأصول الكتاب والسنة والإجماع والقياس والكتاب والسنة في الحقيقة هما الأصل والآخران مردودان إليهما فالسنة أصل والقياس فرع فكيف يرد الأصل بالفرع بل الحديث الصحيح أصل بنفسه فكيف يقال أن الأصل يخالف نفسه وعلى تقدير التسليم يكون قياس الأصول يفيد القطع وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن فتناول الأصل لا يخالف هذا الخبر الواحد غير مقطوع به لجواز استثناء محله عن ذلك الأصل"2. ثم قال: "قال ابن السمعاني: متى ثبت الخبر صار أصلا من الأصول ولا يحتاج إلى عرضه على أصلَ آخر لأنه إن وافقه فذاك وإن خالفه فلا يجوز رد أحدهما لأنه رد للخبر بالقياس وهو مردود باتفاق فإن السنة مقدمة على القياس بلا خلاف إلى أن قال والأولى عندي في هذه المسألة تسليم الأقيسة لكنها ليست لازمة لأن السنة الثابتة مقدمة عليها والله تعالى أعلم"3. وقال ابن القيم:"والحديث موافق لأصول الشريعة وقواعدها ولو خالفها لكان أصلا بنفسه كما أن غيره أصل بنفسه وأصول الشرع لا يضرب بعضها ببعض كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب كتاب الله بعضه ببعض بل يجب اتباعها كلها ويقر كل منها على أصله وموضعه فإنها كلها من عند الله الذي أتقن شرعه وخلقه وما عدا هذا فهو الخطأ الصريح"4. قلت: ولا يخفى ما في هذه الاعتراضات التي اعترض بها على حديث المصراة من التكلف وعسف الأدلة فالواجب على كل منصف أن يقف مع النص ولا يتعداه إلى غديره لأنه جاء عن من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وهو الذي أصل الأصول وبن الحلال من الحرام وقد أمر الله تعالى باتباعه وحذر عن مخالفة أمره عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5 وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 6
فالخير في الاتباع والشر في مخالفة النصوص وضرب بعضها ببعض. أما ما ذكر عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه لم يقل بالحديث فقد ذكر الباجي عن ابن القاسم قال: "قلت لمالك أتأخذ بحديث المصراة قال: نعم ثم قال: وقد روى أن مالكا قال لما سئل عن ذلك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} "1. وقال: "قال ابن المواز ولم يأخذ به أشهب وقال جاء ما يضعفه أن الغلة بالضمان"2 فكأن نسبة عدم الأخذ به إلى مالك غير صحيحة لأن المعروف عن مالك رحمه الله العمل به ولعل الذي نسبه إلى مالك ظن أن قول أشهب عن مالك فأخطأ والله تعالى أعلم. ولعل من حكمة رد الصاع مع المصراة أنه قد يكون من بعض ضعاف النفوس الطمع في لبن المصراة حتى يحلبها ثم يردها بدعوى أنها مصراة فجعل الشارع الحكيم ردعا لمن تسول له نفسه ذلك حتى لا يتلاعب أهل الأهواء بأهل السلع ويفوتون عليهم ألبان المواشي فإذا كان صادقا دفع بدل اللبن صاع تمر ولا يتقدم إلا وهو صادق في دعواه مع أنني لم أجد من قال بهذه العلة. والله تعالى أعلم. هل حكم التصرية يتعدى إلى غير الإبل والغنم قال ابن قدامة:جمهور أهل العلم على أنه لا فرق في التصرية بين الشاة والناقة والبقرة وشذ داود فقال: لا يثبت الخيار بتصرية البقرة لأن الحديث: "لا تصروا الإبل والغنم" فدل على إنما عداهما بخلافهما ولأن الحكم ثبت فيهما بالنص والقياس لا تثبت به الأحكام. ثم قال ولنا عموم قوله: "من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام" وفي حديث ابن عمر: "من ابتاع محفلة"3 ولم يفصل ولأنه تصرية بلبن من بهيمة الأنعام أشبه الإبل والغنم والخبر فيه تنبيه على تصرية البقر لأن لبنها أغزر وأكثر نفعا وقولهم أن الأحكام لا تثبت بالقياس ممنوع ثم هو هاهنا ثبت بالتنبيه وهو حجة عند الجميع4 أما حكم غير بهيمة الأنعام من الآدميات وغيرها فقد اختلفوا في ذلك فقال الخطابي: "أنه يدخل في حكم المصراة من الإبل والغنم والبقر والآدميات فلو اشترى رجل جارية ذات لبن لترضع ولده فوجدها مصراة كان هذا حكمها سواء لا فرق بينها وبين غيرها من الحيوانات في هذا المعنى"5
فكأن الخطابي رحمه الله اقتصر على هذا القول ولم يذكر ما قال غيره من علماء الشافعية علما بأن النووي قد ذكر في ذلك ثلاثة أوجه فقال: "لو اشترى أتانا فوجدها مصراة فأوجه الصحيح أنه يردها ولا يرد للبن شيئا لأنه نجس. والثاني: يردها ويرد بدله، قاله الاصطخري لذهابه إلى أنه طاهر مشروب. والثالث: لا يردها لحقارة لبنها. ولو اشترى جارية فوجدها مصراة فأوجه أصحها يردها ولا يرد بدل اللبن لأنه لا يعتاظ عنه غالبا، والثاني يرد ويرد بدله. والثالث لا يرد بل يأخذ الأرش"1. وعند الحنابلة وجهان: أحدهما: يثبت الخيار اختاره ابن عقيل لعموم قوله: "من اشترى مصراة ومن أشترى محفلة" ولأنه تصرية بما يختلف الثمن به فأثبت الخيار كخيار تصرية بهيمة الأنعام وذلك أن لبن الآدمية يراد للرضاع ويرغب فيها ظئرا ويحسن ثديها ولذلك لو اشترط كثرة لبنها فبان بخلافه ملك الفسخ ولو لم يكن مقصودا لما ثبت باشتراطه وملك الفسخ بعدمه ولأن الأتان والفرس يرادان لولدهما. الوجه الثاني: لا يثبت به الخيار لأن لبنها لا يعتاض عنه في العادة ولا يقصد قصد لبن بهيمة الأنعام والخبر ورد في بهيمة الأنعام ولا يصح القياس عليه لأن قصد لبن بهيمة الأنعام أكثر واللفظ العام أريد به الخاص، بدليل أنه أحمر في ردها بصاع من تمر ولا يجب في لبن غيرها ولأنه ورد عاما وخاصا في قضية واحدة فيحمل العام على الخاص ويكون المراد بالعام في أحد الحديثين الخاص في الحديث الآخر وعلى الوجه الأول: إذا ردها لم يلزم بدل لبنها ولا يرد معها شيئا لأن هذا اللبن لا يباح عادة ولا يعاوض عنه2. هذه الخلافات التي ذكروا فيها ولا شك والله تعالى أعلم أن البقر يلحق بالإبل والغنم لأنه يراد منها ما يراد من الإبل والغنم في اللبن ولذلك قال ابن السبكي: "واتفقوا على إثبات الحكم في البقر إما بالنص وإما بالقياس فإن القياس فيها ظاهر جلي وهي في معنى الإِبل والغنم فلذلك اتفقوا على ثبوت الحكم فيها أما ما عدى ذلك من الحيوانات كالجارية3 والأتان فلا يظهر فيهما أنهما في معنى الأصل المنصوص عليه ... " ثم قال: "والذي تجري أحكام المصراة عليهما فطريقه: إما القياس وإن كان ليس في الجلاء والظهور كالأول- يعني البقر- وإما إدراجها في عموم قول: "من اشترى مصراة" والذي لا تجري عليهما أحكام المصراة
طريقة قطع القياس ويتبين أنهما غير داخلين في عموم قوله مصراة إما بأن الاسم غير صادق عليهما عند الإطلاق وإما بإخراجهما من اللفظ بدليل وقد يقال: إن من جملة ما يدل على إخراج الجارية قوله في الحديث: "بعد أن يحلبها " فإن ذلك يقتضي قصر الحكم على ما يصدق عليه اسم الحلب وفي إطلاق الحلب على الجارية نظر"1 هل يلزم كون المردود صاعا من تمر أو يجور غيره من أقوات البلد اختلف القائلون بالحديث في حكم ذلك فعند الحنابلة وطائفة من الشافعية يلزم صاعا من تمر أخذا بظاهر أكثر روايات الحديث وحملوا لفظ الطعام على التمر لأنه يطلق في بعض الروايات مقيد في الأخرى حب قضية واحدة والمطلق فيما هذا سبيله يحمل على المقيد2 وعند مالك وبعض الشافعية أنه لا يلزم التمر وإنما الواجب غالب قوت البلد لورود الحديث بصاع من طعام جمعا بين ألفاظ الحديث وإنما أطلق التمر لكونه غالب قوت المدينة3. وقد ذكره البهوتي قولا لبعض الحنابلة4. وقال زفر: "يتخير بين صاع من تمر ونصف صاع من بر" وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف بمثل قول زفر إلا أنهما قالا: "لا يتعين صاع التمر بل قيمته"5 قال الطحاوي: "وقد كان أبو يوسف قال بهذا في بعض أماليه غير أنه ليس بالمشهور عنه"6. وقال الذين أوجبوا التمر: لو كان في بلد لا يوجد فيها التمر أنه لا يلزم المشتري قيمته بالبلد الذي وقع فيه البيع وذلك لأنه بمنزلة ما لو أتلفه. ثم قالوا: "ولو كان اللبن باقيا بحاله بعد الحلب لم يتغير بحموضة ولا غيرها رده المشتري ولزم البائع قبوله ولا شيء عليه لأن اللبن هو الأصل والتمر إنما وجب بدلا عنه فإذا رد الأصل أجزأ كسائر الأصول مع مبدلاتها كرد المصراة قبل الحلب إذا علم بالتصرية بإقرار البائع أو شهادة من تقبل شهادته"7.
وقال ابن حزم: "فإن كان اللبن الذي في ضرعها يوم اشتراها حاضرا رده كما هو حليبا أو حامضاً"1 وقد خالف المالكية في رد اللبن وقالوا: "لأن ذلك يدخله بيع الطعام قبل استيفائه"2. وقال ابن قدامه ولنا أنه قدر على رد المبدل فلم يلزمه المبدل كسائر المبدلات مع أبدالها. والحديث المراد به رد التمر حالة عدم اللبن لقوله ففي حلبتها صاع من تمر3. ولعل الصواب والله تعالى أعلم مع من قال برد اللبن إذا كان موجودا ولم يتغير وسبب هذا الاختلاف اختلاف ألفاظ الحديث حيث ورد بذكر التمر وحده كما في رواية الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه وكذلك رواية ابن سيرين ومجاهد والوليد بن رباح وموسى بن يسار وثابت مولى عبد الرحمن بن زيد وهمام بن منبه. 2- وكذلك ورد بلفظ الطعام كما في رواية ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه وخلاس ابن عمرو ورواية ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. 3- كما ورد بلفظ التمر والخيار ثلاثة أيام كما في رواية أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ورواية الحسن عن أنس بن مالك، ورواية سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب. 4- كذلك ورد بلفظ "الطعام" و"الخيار ثلاثة أيام" كما في رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد تقدمت هذه الروايات ومن خرجها قال الحافظ فالجمع بين هذه الروايات والذي يظهر في الجمع بينها أن من زاد الثلاث معه زيادة علم وهو حافظ ويحمل الأمر فيمن لم يذكرها على أنة لم يحفظها أو اختصرها وتحمل الرواية التي فيها الطعام على التمر وقد روى الطحاوي من طريق أيوب عن ابن سيرين أن المراد بالسمراء الحنطة الشامية4. وروى ابن أبي شيبة وأبو عوانة من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين "لا سمراء"- يعنى الحنطة-. وروى ابن المنذر من طريق ابن عون عن ابن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول: "لا سمراء ليس ببر" فهذه الروايات تبين أن المراد بالطعام التمر ولما كان المتبادر إلى الذهن أن المراد بالطعام القمح نفاه بقوله: "لا سمراء" لكن يعكر على هذا الجمع ما رواه البزار من
طريق أشعث بن عبد الملك عن ابن سيرين بلفظ "إن ردها رد ومعها صاع من بر لا سمراء" وهذا يقتضي أن المنفي في قوله "لا سمراء "حنطة مخصوصة وهي الحنطة الشامية فيكون المثبت بقوله:"من طعام" أي من قمح ويحتمل أن يكون راويه رواه بالمعنى الذي ظنه مساويا وذلك أن المتبادر من الطعام البر فظن الراوي أنه البر فعبر به وإنما أطلق لفظ الطعام على التمر لأنه كان غالب قوت أهل المدينة فهذا طريق الجمع بين مختلف الروايات عن ابن سيرين في ذلك لكن يعكر على هذا ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من الصحابة نحو حديث الباب وفيه "فإن ردها رد معها صاعا من طعام أو صاعا من تمر" فإن ظاهره يقتضي التخيير بين التمر والطعام وأن الطعام غير التمر ويحتمل أن تكون "أو" شكا من الراوي لا تخييرا وإذا وقع الاحتمال في هذه الروايات لم ينصح الاستدلال بشيء منها فيرجع إلى الروايات التي لم يختلف فيها وهي التمر فهي الراجحة كما أشار إليه البخاري1. هكذا جمع الحافظ رحمه الله والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنه يحمل على غالب قوت البلد كما هو مذهب الإمام مالك وبعض الشافعية لثبوت لفظ الطعام كما تقدم عن أبي هِريرة وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما وهذا أيضاَ فيه تيسير للأمة والشريعة وردت بذلك. أما قوله: "لا سمراء" فلعل المقصود منها نوع من الحنطة الخاصة كما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: "كنا نعطيها- يعني زكاة الفطر- في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مدا من هذا يعدل مدين"2. وقد وردت الروايات بلفظ الطعام وصحت فالأولى حمله على الأصل وهوِ البر وليس النوع الفاخر من الحنطة ولا الرديء بل المتوسط. ولفظ الطعام عام في كان ما يقتات من الحنطة والشعير والتمر وغير ذلك3 ولهذا رجحت قوت كل بلد كما في زكاة الفطر لأنها تعطى من قوت كل بلد. والله أعلم. وبهذا تم البحث وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
مصادر ومراجع
مصادر ومراجع ... قائمة المراجع ا- القرآن الكريم. 2- الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان للأمير علاء الدين بلبان الفارسي/ الطبعة الأولى عام 1407 هـ. 3- إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: لابن دقيق العيد/ دار الكتب العلمية/ بيروت. 4- إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل: للألباني/ المكتب الإسلامي. 5- إعلام الموقعين: لابن القيم الجوزي/ الناشر مكتبة الكليات الأزهرية. 6- بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني للساعاتي/ ط/ الأولى 1355 هـ. 7- التاريخ الكَبير: للإمام البخاري محمد بن إسماعيل/ ط/ دار الكَتب العلمية بيروت. 8- تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي: للمباركفوري/ المكتبة السلفية بالمدينة. 9- تفسير القرآن العظيم: لابن كثير/ طبع عيسى البابي الحلبي/ مصر. 10- تقريب التهذيب: لابن حجر العسقلاني/ دار المعرفة/ بيروت. 11- التخليص الحبير: لابن حجر العسقلاني/ طبع السيد هاشم اليماني. 12- التمهيد: لابن عبد البر/ طبع وزارة الأوقاف المغربية. 13- تهذيب السنن: لابن القيم مع مختصر السنن للمنذري/ تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي. 14-تهذيب التهذيب: لابن حجر العسقلاني/ دار صادر- بيروت. 15- الثقات: لابن حبان البستي/ دار الفكر- بيروت. 16- الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم/ دار الفكر- بيروت. 17- ديوان الضعفاء والمتروكين: للذهبي تحقيق الشيخ حماد الأنصاري. 18- روضة الطالبين: للنووي المكَتب الإسلامي. 19- سلسلة الأحاديث الصحيحة: للألباني/ طبع المكتب الإسلامي. 20- سلسلة الأحاديث الضعيفة: للألباني/ طبع المكتب الإسلامي. 21- سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي/ طبع المكتبة السلفية بالمدينة.
22- سنن أبي داود/ تحقيق الدعاس. 23- سنن الدارقطني: عن بن عمر الدارقطني/ طبع عبد الله هاشم اليماني 1386هـ. 24- سنن سعيد بن منصور/ دار الكتب العلمية. 25- السنن الكبى للبيهقي/ دار الفكر/ بيروت. 26- سنن ابن ماجة/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. 27- سنن النسائي/ إحياء التراث العربي. 28- شرح مسلم: للنووي/ المطبعة المصرية ومكتبتها/ القاهرة. 29- شرح معاني الآثار: للطحاوي/ مطبعة الأنوار المحمدية/ القاهرة. 30- صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل/ مكتبة النهضة الحديثة بمكة. 31- صحيح مسلم: لمسلم بن الحجاج/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. 32- صحيح الجامع الصغير: للألباني/ المكَتب الإسلامي. 33- ضعيف الجامع الصغير: للألباني/ المكتب الإسلامي. 34- علل الحديث/ لابن أبي حاتم عبد الرحمن الرازي/ دار المعرفة. 35- عمدة القارئ شرح صحيح البخاري: للعيني/ تصوير أمين دمج. 36- عون المعبود شرح سنن أبي داود: لشمس الحق العظيم أبادي/ طبع المكتبة السلفية بالمدينة. 37- فتح الباري شرح صحيح البخاري: للحافظ ابن حجر/ طبع المطبعة السلفية. 38- الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد: للساعاتي/ ط/ االأولى 55 13 هـ. 39- الفردوس: للديلمي/ دار الكتب العلمية. 40- القاموس المحيط: للفيروزبادي/ دار الجيل/ بيروت. 41- قوانين الأحكام: لابن جزي المالكي/ دار العلم للملايين/ بيروت. 42- الكاشف: للذهبي/ تحقيق عزت علي عطية وموسى محمد علي. 43- الكافي لابن عبد البر/ الناشر مكتبة الرياض الحديثة. 44- كشاف القناع: للبهوتي/ مطبعة الحكومة بمكَة. 45- كشف الأستار عن زوائد البزار: للهيثمي/ مؤسسة الرسالة. 46- لسان العرب: لابن منظور/ ط/ دار المعارف. 47- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للهيثمي/ ط/ دار الكتاب العربي/ بيروت.
48_ المجموع التكملة لابن السبكي/ دار الفكر. 49_ المحلي: لابن حزم/ دار الكتب العلمية/ بيروت. 50_ مختصر سنن أبي داود: للمنذري/ ط/ دار المعرفة/ بيروت. 51_ المستدرك: للحاكم/ دار الكتاب العربي. 52_ مسند الإمام أحمد/ المكتب الإسلامي. 53_ مسند أبي يعلي أحمد بن علي/ دار المأمون للتراث/ دمشق. 54_ مصنف ابن أبي شيبة: أبو بكر بن أبي شيبة/ دار القرآن الإسلامية. 55_ مصنف عبد الرزاق/ المكتب الإسلامي. 56_ المطالب العالية بزوائد الثمانية: لابن حجر/ تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. 57_ معالم السنن: للخطابي مع مختصر المنذري/ دار المعرفة. 58_ معجم الطبراني الأوسط: تحقيق الدكتور محمود الطحان. 59_ معجم الطبراني الصغير: دار الكتب العلمية/ بيروت. 60_ معجم الطبراني الكبير: ط/ الأمة/ بغداد. 61_ معجم مقاييس اللغة: لابن فارس/ ط/ مصطفى البابي الحلبي 1391 هـ. 62_ المغني: لابن قدامة/ تحقيق التركي والحلو. 63_ المنتقى شرح الموطأ: للباجي مصور عن الأولى 1332 هـ. 64_ مورد الظمآن بزوائد ابن حبان: للهيثمي/ دار الكتب العربية. 65_ الموطأ: للإمام مالك/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. 66_ نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: للشوكاني مكتبة الكليات الأزهرية. 67_ النهاية في غريب الحديث: لابن الأثير تحقيق الطناحي.