حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار

بَحرَق اليمني

كلمة لابد منها

كلمة لابد منها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الّذي أكرم هذه الأمّة بالخيريّة، فكانت خير أمّة أخرجت للنّاس. والصّلاة والسّلام على سيّد الجنّ والنّاس؛ سيّدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه المطهّرين عن الأدناس. وبعد: فإنّنا- وبين كتابنا هذا- هناك الكثير من الأمور الّتي قابلتنا، والشّؤون والشّجون الّتي اعترضتنا، والّتي تحتّم علينا لزاما التّوضيح والتّبيان. فبعد أن فرغنا من تحقيق هذا الكتاب المبارك، الّذي نقدّمه للقارئ الكريم، والّذي أخذ من الوقت والجهد ما الله به عليم، وأصبح في مراحله النّهائية- البروفة الأخيرة- فوجئنا وعند مراجعتنا لبعض الأحداث الواردة فيه، على كتاب آخر مطبوع تحت اسم «حدائق الأنوار» لابن الدّيبع، حقّقه الشّيخ عبد الله الأنصاريّ- على الجميع رحمة الله- فلاحظنا بعض التّشابه في الكتابة بين الكتابين لنفس الحادثة، فظنّنا أنّه من باب سقوط الحافر على الحافر، فأخذنا جزيئة أخرى من الكتاب، فوجدنا أنّ النّصّ هو هو. عندها كان لا بدّ لنا من زيادة الاهتمام والبحث في الموضوع، فعدنا إلى أوّل الكتاب، فوجدنا أنّ الكتاب هو نفس الكتاب، والفرق فقط هو في اسم المؤلّف، والّذي حقّقه الشّيخ الأنصاريّ- رحمه الله تعالى- معتمدا نسخة خطيّة من مجموع به عدّة كتب أكثرها لابن الدّيبع، وأنّ هذا الكتاب قد نسب في المخطوط المذكور لابن الدّبيع. مع العلم بأنّ الشّيخ الأنصاريّ- رحمه الله تعالى- عندما ترجم لابن الدّبيع واستعرض مؤلّفاته ذكر أنّه لم يجد ممّن ترجم له ذكر كتاب سيرته هذا، وعلّل ذلك بأنّ مترجميه قد أغفلوا هذا الكتاب، أو لم يشتهر أمره. وأضاف قائلا: (ونرجو من الله أن يوفّقنا لجمع معلومات تفيدنا أكثر في توثيق هذه السّيرة وصلتها بابن الدّيبع في المستقبل، ممّا سيجتمع إلينا من آراء القرّاء الكرام الّتي نأمل أن يوافونا بها، وبما سنتوصّل إليه في المستقبل إن شاء الله) . بل إنّ المخطوط الّذي اعتمده الأنصاريّ- رحمه الله- قد اعتراه نقص في بعض الأسطر في بداية الكتاب، والمذكور فيها- أي: في المخطوطين المعتمدين لدينا- اسم الكتاب وأنّه مهدى لأحد ملوك الهند. وقد صرّح- رحمه الله- بذلك- مشيرا إلى مواضع النّقص- قائلا: (فالبياض في الموضع الأوّل أخفى عنّا معرفة الملك الّذي قدّم إليه- المؤلّف- هذا الكتاب ووسمه باسمه

ورسمه برسمه، والبياض في الموضع الثّاني حجب عنّا معرفة اسم الكتاب على وجه التّحقيق والتّأكيد) . ومع هذا كلّه نرى أنّ الأنصاريّ- رحمه الله- قد ذكر أثناء وصفه للمخطوط الّذي اعتمده- والّذي هو ضمن مجموع لكتب أخرى لابن الدّيبع- فقال: (عنوان الكتاب معلّق بخطّ الثّلث الجميل. وأرجّح أنّ هذه العنونة مستحدثة، يعود تاريخ كتابتها إلى زمن متأخّر عن زمن نسخها) . ولعلّ التّشابه في بعض الأمور قد أوصل الأنصاريّ- رحمه الله- إلى ما وصل إليه. وكم كنّا نأمل أن يكون الشّيخ الأنصاريّ بين ظهرانينا ليطّلع على ما توصّلنا إليه من معلومات كانت ستثلج صدره وتقرّبها عينه. عليه رحمة الله «1» . يحسن بنا أن نشير هنا إلى أنّنا قد أطلعنا الأستاذ المحقق عبد الله بن محمّد الحبشي على ما توصّلنا إليه، فتكرّم بكتابة تمهيد لهذا الكتاب المبارك، ساهم في تبيان الحقيقة وإزالة اللّبس. فجزاه الله عنّا خيرا، ووفّقه وسدّد خطاه. وإنّني وكلّي فرح وسرور بهذا الاكتشاف الّذي أعاد الحقوق لأهلها، وأوضح أمرا في غاية الأهمّيّة حول نسبة هذا الكتاب، أتوجّه إلى الله تعالى أن يكلّل أعمالنا ومساعينا وجميع أمورنا بالتّوفيق «2» . ويحسن بي أيضا أن أجري في هذه العجالة مقارنة بين طبعة الأنصاريّ- رحمه الله تعالى- وبين طبعتنا هذه؛ ذاكرا مميّزاتها: 1- اعتمد الأنصاريّ على مخطوط واحد فقط، فقال: (تعرّض المجموع لعمل الأرضة، فأحدثت فيه ثقوبا اخترقت المجموع من الغلاف إلى الغلاف، وأحدثت فيه ضررا بالغا، وأتت على بعض الكلمات فاقتطعتها) . وقد بذل- رحمه الله- جهدا كبيرا بإثبات النّقص الّذي أصاب المخطوط، معارضا الكتاب على أصوله الّتي نهل المؤلّف منها، مجتهدا بتصويب التّصحيف وإصلاح الخلل، وبما أنّه اعتمد على نسخة ناقصة وسقيمة فلم تأت تصويباته كاملة في معظم المواطن. بينما اعتمدنا نحن على مخطوطين كاملين ليس بهما أيّ نقص أو خرم، فجاء الكتاب أكثر ضبطا وأقرب إلى الصّواب.

_ (1) كانت وفاة الشّيخ عبد الله إبراهيم الأنصاريّ نهاية سنة 1410 هـ رحمه الله تعالى. (2) كذلك- وقبل طبع هذا الكتاب المبارك- فإنّنا قد اكتشفنا ما يزيل أيّ شكّ ربّما يطرأ- مع ما توفّر من الأدلّة السّابقة- فقد عثرنا على كتاب «مولد النّبيّ صلى الله عليه وسلم» للعلّامة (بحرق) محفوظا في مكتبة الأسد الوطنيّة بدمشق؛ من خلال ثلاث نسخ خطيّة، ذوات الأرقام: (8571) ، (10799) ، (11372) ؛ وبعد اطلاعنا عليها وجدنا تطابقا في بداية «المولد» مع فصل (خطبة في التّعريف بمولده الشّريف) من هذا الكتاب، ص 53 وهذا التّطابق كلمة بكلمة وحرف بحرف؛ ممّا يؤكد دون أدنى شكّ أنّ هذا الكتاب للعلّامة (بحرق) - رحمه الله تعالى- ولله الحمد على ما أنعم وألهم. اه الناشر.

2- أحال- رحمه الله- نصوص الكتاب على أصولها ما استطاع، وخرّج معظم الأحاديث فيه، وقام بإتمام الأخبار الّتي اختصرها المؤلّف، ذاكرا ذلك في الهامش، ممّا زاد في حجم الكتاب كثيرا- حتّى وصل إلى ثلاث مجلدات. بينما قمنا بإحالة نصوص الكتاب على مصادرها الأصليّة، وتخريج الأحاديث كلّها، وذلك بشكل مفيد ومختصر، فجاءت طبعتنا في مجلد واحد. وقد استفدنا من بعض تعليقاته فأثبتناها بالهامش وميّزناها ب (أنصاريّ) . 3- ربّما وجدنا تناقضا لم يجمع عليه أهل السّير أثناء معارضة الكتاب على مصادره، فلم يعلّق- رحمه الله- عليها بشيء. بينما وجدنا من الأمانة العلميّة أن نشير إلى ذلك بالهامش. 4- مرّ معنا- في أثناء الكتاب- بعض الرّوايات الواهية السّاقطة سندا ومتنا وعقلا ونقلا- كقصّة زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش- والّتي وقعت في بعض كتب القصص والتّفسير والسّير، وقد تذرّع بها أعداء الإسلام في التّهجّم على الإسلام ونبيّه، ونسج المستشرقون والمبشّرون من هذه الرّواية وغيرها أثوابا من الكذب والخيال معتمدين بذلك على هذه الرّوايات المختلقة المدسوسة- عند أئمّة النّقد وعلماء الرواية- فلم يشر الأنصاريّ- رحمه الله- إلى ذلك مطلقا. فقمنا بالرّد على هؤلاء في الأماكن الّتي تتطلّب منّا ذلك. 5- أجهد الأنصاريّ- رحمه الله- نفسه في صنع فهارس للكتاب- بلغت مجلّدا كاملا!! - ممّا زاد في حجمه وثمنه، ونرى أنّ مثل هذه الكتب لا تحتاج إلى هذه الفهارس الكثيرة. وقد أشار إلى ذلك العلامة المحقق (عبد الفتاح أبو غدة) - رحمه الله تعالى- حول عدم جدوى هذه الفهارس مقارنة بالوقت الذي تستهلكه «1» .

_ (1) قال العلّامة المحقّق (عبد الفتّاح أبو غدّة) - رحمه الله تعالى- في كتابه «الانتقاء فى فضل الأئمّة الثّلاثة الفقهاء» ، ص 352؛ تحت عنوان (حول صنع الفهارس للكتب المطبوعة وذهاب الوقت الثمين بها) : جرت العادة في الأيّام الأخيرة أن يصنع للكتاب الكبير أو النّفيس الخطير فهارس عامّة، حتّى يسهل الاتصال بمعلوماته دون عناء طويل وتردّد كثير بين صفحاته للوصول إلى طلبة الباحث، وفي ذلك نفع مشهود وضبط تامّ لأطراف المعلومات فتصاب لراغبها بأقصر الطّرق وأقل الوقت. ولكن هذا العمل فيه بذل جهد كبير، وتحمّل مشقّات كثيرة؛ فقد صار نوعا من أنواع التأليف، والإتقان فيه صعب وعر، ويحتاج إلى حبس النّفس عليه مدّة طويلة، ولذا يتردّد طالب العلم بين الإقدام عليه لتقريبه المطلوب بيسر وسهولة، والإحجام عنه لما يأكل من الذّهن والزّمن في معاناة ضبط الأسماء وتمييزها، وتصنيفها وعدم تعدّدها أو تداخلها سهوا وخطأ. وقد تردّدت كثيرا في صنع فهارس هذا الكتاب نظرا لما يذهب من الوقت في تأليف فهارسه وضبطها وإتقانها..، فقد أخذ منّي صنع هذه الفهارس وضبطها، ومقابلتها بالكتاب أكثر من ثلاثة أشهر مع بعض أعمال صغرى خفيفة، فتمنّيت لو كنت صرفت ذلك الزّمن في خدمة كتاب آخر، ولكن ما كلّ الأماني ترتضى! قال الأخ الفاضل الأستاذ المحقّق محمود الطّناحي، في كتابه النّفيس «مدخل إلى تاريخ نشر التراث» في ص 74، بعد أن أشار إلى فضل الأستاذ الشيخ محمّد محيي الدّين عبد الحميد- رحمه الله تعالى- فيما نشره وحقّقه من الكتب، وبعد ذكره ما انتقد على الشّيخ في إغفاله صنع الفهارس لكتبه النّضرة الميسّرة،

فلم نعمد في عملنا هذا إلى صناعة الفهارس، سيّما وأنّنا فصلنا بين مواضيع الكتاب المتتابعة ووضعناها على هامش الكتاب. ولم ندخلها في نصّ المؤلّف- كما يفعل بعض المحقّقين- كيلا يتوهّم القارئ الكريم أنّها من صنع المؤلّف، وأيضا من باب التّأدّب مع الأئمّة السّابقين بالمحافظة على مصنّفاتهم. وبالتالي أصبح تناول الكتاب سهلا وممتعا. 6- ألحقنا بالكتاب ثبتا ضمّنّاه أهمّ أحداث السّيرة النّبويّة العطرة والتشريعات ونحو ذلك، وأحلناها إلى مكان وجودها في صفحات الكتاب. أمّا الحدث الّذي لم يرد بعده رقم يشير إلى مكان وجوده داخل الكتاب؛ فليعلم أنّ المؤلّف- رحمه الله- لم يذكره. وإنّما ذكرناه إتماما للفائدة والنّفع. كما ألحقنا به أيضا بعض المصوّرات والمخطّطات الملوّنة الّتي تعين على فهم بعض أحداث السّيرة النّبويّة الشّريفة. وفي الختام: نسأل الله أن يجعل نيّاتنا ومقاصدنا له وحده سبحانه، خالصة لوجهه الكريم. وأن يعمّ النّفع بهذا الكتاب الأمّة المحمّديّة في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يجزي القائمين على هذا العمل، وكلّ من شارك أو ساعد في إخراج هذا الكتاب خير الجزاء، إنّه سميع مجيب. وصلى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. الناشر

_ وحدّثني الأستاذ فؤاد سيّد؛ عالم المخطوطات بدار الكتب المصريّة رحمه الله تعالى قال: سألت ذات يوم الشّيخ محيي الدّين عبد الحميد: لماذا لا تهتمّ بفهرسة ما تنشر يا مولانا؟! فأجاب: أمن أجل خمسة عشر مستشرقا أضيّع وقتا هو أولى بأن يصرف إلى تحقيق كتاب جديد؟!! وقد صدق الشيخ فإنّها تذهب بالوقت الثّمين، ولا يشعر به القارئ. ا. هـ.

تمهيد

تمهيد بقلم: عبد الله بن محمّد الحبشى* بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم. أمّا بعد: فأطلعني الأستاذ- الناشر لهذا الكتاب المبارك- على مخطوطتين من هذا الكتاب القيّم. كلاهما تحمل اسم العلّامة المتبحّر الكبير (محمّد بن عمر بحرق الحضرميّ) المتوفّى سنة 930 هـ. وفي كلتيهما ما لا يدع مجالا للشّكّ في نسبة الكتاب للمذكور. ويصدق القول في ذلك الإهداء الّذي صدّر المؤلّف مقدّمته به، وهو إلى سلطان الهند العالم (شمس الدّين مظفّر بن محمود شاه) ؛ ممّا يعطي دليلا آخر إلى نسبة الكتاب إلى (بحرق) ، حيث إنّ المذكور دخل الهند واستوطن بها، وكان ممّا أتحف به هذا الملك كتابنا هذا، لشغف المذكور بالعلم وأهله وتقريب العلماء. وقد أشار إلى صلة المؤلّف بالمذكور صاحب «النّور السّافر» ؛ فقال: (ولمّا عزم إلى الهند، ووفد على السّلطان مظفّر، فقرّبه السّلطان وعظّمه؛ ولمّا خبر علمه وفضله زاد في تعظيمه وتبجيله، وأنزله المنزلة الّتي تليق به) «1» . ويزيدنا إيضاحا حول هذا الموضوع العلّامة (عبد الحيّ اللكنوي) ، صاحب كتاب «نزهة الخواطر» ؛ يقول في أثناء كلامه حول دخول العلّامة (بحرق) الهند: (ووفد على سلطانها (مظفّر بن محمود بيكره) - بايقرا-، فعظّمه وقام به، وقدّمه ووسّع عليه، والتفت إليه وأدناه منه، وأخذ عنه؛ فاشتهر بجاهه، وصنّف له «تبصرة الحضرة الشّاهيّة الأحمديّة بسيرة الحضرة النّبويّة الأحمديّة» «2» . فدلّنا جميع هذا.. على صحّة نسبة الكتاب إلى علّامتنا (بحرق) . وبدليل أنّ جميع

_ * باحث يمني، يعمل حاليا في (المجمّع الثقافي) بأبو ظبي. (1) تاريخ النّور السّافر عن أخبار القرن العاشر، ص 136. (2) نزهة الخواطر، ج 4/ 306.

المخطوطات الموجودة تحمل اسم العلّامة (بحرق) . ولكن يشكّك على ذلك التّواتر، ويجعل هناك في نفس الباحث بعض السّؤال أنّ النّسخة المطبوعة من هذا الكتاب تحمل اسم العلّامة المحدّث (أبي محمّد عبد الرّحمن بن عليّ ابن الدّيبع الزّبيديّ) المتوفّى سنة 944 هـ. وقد قام بنشرها في سنة 1403 هـ العلّامة الفاضل (عبد الله بن إبراهيم الأنصاريّ) ، وقد بذل في تحقيقها جهدا يشكر عليه؛ إلّا أنّه لم يرجع في تحقيق المخطوطة إلّا إلى نسخة واحدة، وأوحى كلامه في المقدّمة إلى الشّكّ في نسبة الكتاب إلى (ابن الدّيبع) المذكور فقال: (ولم أجد أحدا ممّن ترجمه قد ذكر كتاب سيرته «حدائق الأنوار ومطالع الأسرار» ، ولعلّ هذا الكتاب قد غفل عن ذكره مترجموه، أو لم يشتهر أمره) . قلت: والرّجوع في تحقيق كتاب مثل هذا إلى مخطوطة واحدة لا يخلو من بعض المجازفة، إضافة على ذلك سقم النّسخة الّتي رجع إليها علّامتنا (الأنصاريّ) - رحمه الله- وكما أشار إلى ذلك هو بنفسه. ولكن تبقى أمامنا الحقيقة الماثلة، وهي أنّ جميع المخطوطات المتوفّرة لدينا الآن تجمع على نسبة الكتاب إلى العلّامة (بحرق) ، باستثناء تلك النّسخة السّقيمة الّتي رجع إليها (الأنصاريّ) ، والّتي تشير إلى نسبة تأليفها إلى (ابن الدّيبع) . ولا يخلو الأمر من أنّ هناك يدا عابثة أو تعمّدا أدخل تلك النّسبة إلى المخطوطة المذكورة، حيث إنّ هناك أسطر بقيت فارغة، ترك فيها ناسخها عنوان الكتاب واسم المهدى إليه الكتاب المذكور؛ وهو سلطان الهند، الّذي اتّصل به العلّامة (بحرق) واجتمع به، ولا يعرف لابن الدّيبع رحلة إلى الهند، بل بقي أثر من اسم المهدى إليه في الأبيات الّتي أوردها المؤلّف في مدح السّلطان المذكور، وهي قوله: فأحمد أسمى من بنى اسما وكنية ... وفعلا ووصفا ملكه من أساسه شهاب فخذ من علمه واقتباسه ... سنا النّور واخش النّار في وقت باسه إلى قوله: فلا زال محمودا حميدا مظفّرا ... شهابا على أعدائه كأناسه وأيضا بقيّة من اسم الكتاب، حيث جاء في طبعة (الأنصاريّ) قوله: (فوسمت باسمه هذا الكتاب الكريم، ورسمته برسمه ... فسمّيته تبصرة- (في مطبوعة الأنصاريّ بصيرة.. خطأ) - الحضرة، ثمّ تأتي نقط في المطبوعة هي موضع السّقط المتعمّد من قبل النّاسخ أو غيره.

وإذا كان طرأ التشكيك- عند من يرى هذا- في- نسبة الكتاب إلى (بحرق) ، فإنّ العنوان كذلك يختلف عمّا أورده العلّامة (العيدروس) في «النّور السّافر» ، حيث ذكر أنّ عنوانه هو كتاب «تبصرة الحضرة الشّاهيّة الأحمديّة بسيرة الحضرة النّبويّة الأحمديّة» «1» . وأيّد هذا المؤلّف نفسه، حيث نصّ صراحة على هذا العنوان في مقدّمة كتابه فقال: (فوسمت باسمه هذا الكتاب الكريم، ورسمته برسمه، وإنّه بسم الله الرّحمن الرّحيم؛ فسمّيته: «تبصرة الحضرة الأحمديّة الشّاهيّة بسيرة الحضرة الأحمديّة النّبويّة» . ولكنّ المخطوطات الّتي بأيدينا تحمل عنوانا مغايرا للعنوان الّذي ارتضاه المؤلّف، بما فيها تلك المخطوطات الّتي نصّ فيها المؤلّف على عنوانه الأوّل. وهذا يدخل أيضا في باب الاستفهام حول العنوان والمؤلّف، ولكن يقع لبعض المؤلّفين أن يغيّروا في أسماء كتبهم، بل وفي المؤلّفات نفسها؛ إمّا بالزّيادة أو النّقصان، ولا يستبعد أن العلّامة (بحرق) - رحمه الله- لمّا كتب كتابه أوّل مرّة وأهداه إلى السّلطان السّابق ذكره جعله يحمل اسمه، لشرف هذا السّلطان وورعه، حيث عرف عند من ترجم له بالصّلاح وكثرة العبادة، ولكن رأى بعد ذلك تكريما للمقام الشّريف أن يحمل عنوانا آخر يتناسب مع عظيم الموضوع، ومع أذواق طلبة العلم، فأسماه: «حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النّبيّ المختار صلى الله عليه وسلم» . وهو الاسم الّذي تحمله طبعتنا هذه وطبعة الشّيخ (الأنصاريّ) - رحمه الله- وهذا ما أردنا التّنبيه عليه، وفوق كلّ ذي علم عليم ... عبد الله بن محمّد الحبشى أبو ظبي- في 25/ 7/ 1418 هـ 25/ 11/ 1997 م

_ (1) تاريخ النّور السّافر عن أخبار القرن العاشر، ص 136.

مقدمة التحقيق

بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدّمة التحقيق إنّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران 3/ 102] . يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [سورة النّساء 4/ 1] . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) [سورة الأحزاب 33/ 71- 71] . أمّا بعد: فإنّ خير ما يتدارسه النّاشئة وطلّاب العلم، ويعنى به الباحثون والمؤلّفون دراسة السّيرة النّبويّة، إذ هي خير وسيلة للتّعلّم والتّهذيب والتّأديب، وفيها ما يرجوه المؤمن من دين ودنيا، وعلم وعمل، وآداب وأخلاق، ورحمة وعدل، وجهاد واستشهاد في سبيل الله، ثمّ نشر العقيدة والشّريعة، والقيم الإنسانيّة النّبيلة. إنّ السّيرة النّبويّة نور ساطع وهّاج، أفضى إلى ظلمات الجهل والوثنيّة، فانجابت كما ينجاب الغمام، وهدى من الله أرسله إلى الإنسانيّة الضّالّة، فانتشلها من ضياع، وانتاشها من هلاك، وأنقذها ممّا كانت تتخبّط فيه من دياجير الظّلام، وعقابيل الضّلال. وإذا كانت السّيرة في اللّغة بمعنى: الطّريقة والسّنّة، فإنّها يراد بها التّعرّف على حياة الرّسول صلى الله عليه وسلم قرّة العين وريحانة القلب؛ منذ ظهور الإرهاصات الّتي مهّدت لرسالته، وما سبق مولده من ظواهر وأحداث تلقي أضواء رحمانيّة على طريقة الدّعوة المحمّديّة، ثمّ مولده صلى الله عليه وسلم،

تاريخ التأليف في السيرة وأشهر كتبها:

ونشأته حتّى مبعثه، وما جاء بعد ذلك من دعوة النّاس إلى الدّين القيّم، وما لقي صلى الله عليه وسلم في سبيل نشر هذا الدّين من عنت ومعارضة، وما جرى بينه عليه الصّلاة والسّلام وبين من عارضوه من صراع بالبيان والسّنان، وذكر من استجاب له، حتّى علت راية الحقّ، وأضاءت شعلة الإيمان. تاريخ التّأليف في السّيرة وأشهر كتبها: إنّ أوّل ما يلفت الانتباه في سير الأنبياء أنّ السّيرة النّبويّة أصحّ سيرة لتاريخ نبيّ مرسل، ولم نعرف على مدى التّاريخ البشريّ كلّه أمّة من أمم الرّسل عليهم الصّلاة والسّلام، سعدت بمثل ما جاء في القرآن الكريم عن الرّسالة والرّسول، ولا حظيت بمثل تلك المجموعة الثّمينة من الأحاديث النّبويّة، ذلك السّجل الخالد، بل كانت هناك حلقات مفقودة في حياة رسلها، لا يمكن البحث عنها، والاهتداء إليها. أمّا خاتم الرّسل محمّد صلى الله عليه وسلم فهو الرّسول الّذي نعرف عنه كلّ دقيق وجليل، ونعرف عنه من دقائق الأخلاق والصّفات، والميول والرّغبات، والقول والعمل، ما لا نعرفه عن غيره من النّبيّين عليهم الصّلاة والسّلام. ومن رحمة الله تعالى أن كانت هذه الأمّة تملك قوّة الذّاكرة، وسرعة الحفظ والاستظهار، ممّا يسّر لها الجمع والاستحضار، ولا عجب في ذلك فقد بهرهم الوحي بقوّة بيانه، وأخذ عليهم مشاعرهم بسطوة سلطانه، واستأثر بكريم مواهبهم في لفظه ومعناه، فكان الحفظ في الصّدور، والتّدوين في السّطور، وكانت الصّبغة الّتي شاء الله أن تكون. لقد اهتمّ المسلمون الأوائل اهتماما كبيرا بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه الفعليّة والقوليّة، قبل أن تدوّن الأحاديث تدوينا عامّا في آخر القرن الأوّل الهجري- ولم يكن قد دوّن في تاريخ العرب أو السّيرة شيء إلى أن مضت أيّام الخلفاء الرّاشدين- فكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على المدينة أبي بكر بن محمّد بن حزم- وهو من كبار المحدّثين- طالبا منه أن يدوّن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب وزّعه على البلاد الإسلاميّة. وقد قام المحدّثون بعدها بجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتب لا تلتزم منهجا معيّنا في التّرتيب والتّصنيف، ولم تخل كتبهم من ذكر ما يتعلّق بسيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحياته ومغازيه ومناقبه وما إلى ذلك. وقد استمرّ هذا المنهج حتّى بعد انفصال السّيرة عن الأحاديث في التّأليف. ثمّ صنّفت في السّيرة النّبويّة مصنّفات خاصّة بها. وقد كان في مقدّمة المؤلّفين في السّيرة أربعة: 1- عروة بن الزّبير (المتوفّى سنة 93 هـ) ، وكان فقيها، محدّثا، عالما بالحديث، معروفا

بتدوينه العلم والحديث، أسلم قديما، وشهد الغزوات والمشاهد كلّها. ولم يصل كتابه إلينا. 2- أبان بن عثمان بن عفّان (المتوفّى سنة 105 هـ) ، كان فقيها، محدّثا. وقد كتب ما سمع من أخبار السّيرة في مصنّف لم يصل إلينا. 3- وهب بن منبّه (المتوفّى سنة 114 هـ) ، كان مؤرّخا، وكانت له معرفة بأخبار الأوائل، وأحوال الأمم السّابقة. وقد أكثر من الرّواية عن الإسرائيليات. 4- شرحبيل بن سعد الخطمي المدني (المتوفّى سنة 123 هـ) ، كان عالما بالمغازي والبدريّين. ويعدّ هؤلاء الأربعة الطّبقة الأولى الّتي صنّفت في السّيرة النّبويّة. ثمّ جاء بعد هؤلاء طبقة أخرى، عاشت في العصر الأموي، اشتهر منها في كتابة السّيرة النّبويّة ثلاثة: 1- عاصم بن عمر بن قتادة (المتوفّى سنة 120 هـ) ، وهو راوية للعلم، عالم بالمغازي والسّيرة، وقد أمره الخليفة عمر بن عبد العزيز أن يجلس في مسجد دمشق فيحدّث النّاس بالمغازي ومناقب الصّحابة، ففعل. وقد اعتمد ابن إسحاق والواقدي على مصنّفاته، وجعلوها من مراجعهم المهمّة. 2- محمّد بن شهاب الزّهريّ (المتوفّى سنة 124 هـ) ، عالم محدّث، وهو أوّل من دوّن الحديث، وقيل: إنّ سيرته أوّل سيرة صنّفت في الإسلام، وهي من أوثق السّير وأفضلها، وقد اعتمد ابن إسحاق عليها في سيرته. 3- عبد الله بن أبي بكر بن حزم الأنصاريّ (المتوفّى سنة 125 هـ) ، وقد كان عالما، محدّثا، ثبتا، وكان من أهل العلم والبصر، وقد نقلت عنه روايات كثيرة، اعتمدها ابن إسحاق وابن سعد والطّبريّ في كتبهم. ثمّ جاء بعد هؤلاء طبقة أخرى، عاشت في العصر العبّاسيّ الأوّل، وكان من أشهرهم أربعة: 1- موسى بن عقبة (المتوفّى سنة 141 هـ) ، كان عالما بالسّيرة النّبويّة، وقد صنّف كتابا في المغازي، اعتمد عليه ابن سعد والطّبريّ في كتبهم. ولم يصل كتابه إلينا. 2- محمّد بن إسحاق المطلبي (المتوفّى سنة 151 هـ) ، وهو من أصل فارسيّ، صنّف كتابه «المغازي» بناء على طلب الخليفة المنصور، جمع فيه تاريخ الخليقة من آدم عليه السّلام إلى

زمنه، وقد أطال فيه فلم يرضه المنصور وأمره باختصاره فاختصره. وهو أوّل كتاب وصل إلينا. 3- معمر بن راشد (المتوفّى سنة 150 هـ) ، فقيه، حافظ، متقن. صنّف كتابا في المغازي لم يصل إلينا، ما خلا نقولا أوردها الواقديّ وابن سعد في كتبهم. 4- محمّد بن عمر الواقديّ (المتوفّى سنة 207 هـ) ، وقد كان عالما بالمغازي واختلاف النّاس وأحاديثهم. صنّف كتاب «المغازي» ، ونهج فيه منهجا تاريخيا علميّا جغرافيا. وقد كان هذا الكتاب الأساس الّذي بنى عليه المؤلّفون في السّيرة كتبهم. ثمّ جاء بعدهم طبقة أخرى، من أشهرهم: 1- أبو محمّد عبد الملك بن هشام (المتوفّى سنة 218 هـ) ، كان مؤرّخا، عالما بالسّير والأنساب واللّغة وأخبار العرب، روى لنا سيرة ابن إسحاق بعد أن هذّبها، وحذف منها الكثير ممّا ليس فيه صلة بسيرته صلى الله عليه وسلم، فجاء على نحو مخالف تماما لما وضعه ابن إسحاق، لكن دون أن يغيّر منه كلمة واحدة. ولهذا فقد نسي ابن إسحاق، وذكر ابن هشام. ولم يعد الكتاب مقرونا إلّا باسم ابن هشام. ثمّ جاء بعد هؤلاء الأعلام علماء كثيرون صنّفوا في السّيرة، منهم من أطال، ومنهم من اقتصر، ومنهم من اعتنى بذكر الأسانيد، ومنهم من حذفها. ومن أشهر هذه المصنّفات: 1- عيون الأثر في فنون المغازي والشّمائل والسّير، لابن سيّد النّاس الأندلسيّ، (المتوفّى سنة 734 هـ) . 2- جوامع السّيرة، لابن حزم الأندلسي، (المتوفّى سنة 456 هـ) . 3- المواهب اللّدنيّة. للقسطلّانيّ، (المتوفّى سنة 923 هـ) . 4- سبل الهدى والرّشاد في سيرة خير العباد، للصالحي، (المتوفى سنة 942 هـ) . 5- إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون، المعروف بالسيرة الحلبية، للحلبي، (المتوفّى سنة 1044 هـ) . ومن بين هؤلاء الأئمة الأعلام- صاحب هذا الكتاب الّذي بين أيدينا- محمّد بن عمر بن مبارك (بحرق) الحضرمي. حيث نهج في تأليف هذا الكتاب نهج من سبقه من علماء السّير، فصنّفه في وقت كثر فيه التّأليف في السّيرة. وكانت مؤلّفات المحدّثين في السّيرة تحظى بالقبول والتّقدير، لأنّها من أفضل الكتب صحّة، وأروعها تأليفا، وأصدقها لهجة، على حين كانت

نسخ الكتاب:

مؤلّفات المؤرّخين وأصحاب المغازي والملاحم لا تصل إلى تلك الرّفعة الّتي حظيت بها كتب المحدّثين؛ ذلك لأنّ المحدّثين كانوا لا ينقلون في كتبهم إلّا عن الثّقات، ويطرحون ما لم يصحّ عندهم من الرّوايات، ويذكرون الأحاديث الصّحيحة، ويبتعدون عن تدوين الأحاديث الضّعيفة، ويهجرون الرّوايات الموضوعة والمنحولة. لقد كان المؤلّف- رحمه الله تعالى- أحد أولئك المحدّثين، حيث نهج في كتابه هذا منهجهم، فانتقى الأحاديث الصّحيحة، والأخبار الثّابتة، واختار موضوعاته من أمّهات كتب السّيرة النّبويّة الّتي قرأها وتعلّمها. ولا عجب في ذلك، فهو ممّن عرف بطول اليد في علم الحديث وفنونه. فجاء الكتاب جليل النّفع، عظيم الفائدة، عزير المعلومات، واضح الأسلوب، جزل العبارة. نسخ الكتاب: اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على نسختين خطّيتين: الأولى: نسخة (دار الكتب المصريّة) ، برقم (1261) ؛ وهي من كتب المرحوم (جعفر أفندي بناسكجي) ، الّذي آل الكتاب إليه من مكتبة المرحوم المبرور (موسى بن السيد جعفر مبرك) طاب ثراه، تقع في ستّ وثلاثين ومئة ورقة، في كلّ ورقة ثلاثة وعشرون سطرا، خطّها نسخيّ متقدّم، ليس عليها ما يشير إلى اسم ناسخها، الثّانية: نسخة مكتبة الأحقاف بتريم. عدد أوراقها سبع ومئة ورقة، ومتوسّط عدد أسطرها خمسة وعشرون سطرا، خطّها بين الثّلث والنّسخ المعتاد. ذات الرّقم (3010) . لم أجد ما يشير إلى اسم ناسخها، كان الفراغ من نسخها يوم الأربعاء سادس عشر ذي القعدة سنة إحدى وأربعين ومئتين وألف للهجرة. منهج التّحقيق: 1- بعد نسخ المخطوط المعتمد أصلا، قابلته على النّسخة الآخرى، فما كان بين النّسختين أدنى خلاف؛ أثبتّ ما في المخطوط المعتمد أصلا؛ إلا أن يكون خطأ ظاهرا أو زيادات لم ترد في الأصل، فأثبتّ ما في النّسخة الآخرى. 2- أضفت ما كان مناسبا من العبارة ليستقيم المعنى، وميزته ب [] ، وهذه الزّيادة اعتمدتّها لدى رجوعي إلى الأصول الّتي نهل المؤلّف منها. 3- ضبطت النّصّ ضبطا أسأل الله العليّ العظيم أن يكون صحيحا، قريبا إلى الصّواب، كما أراده المؤلّف- رحمه الله-.

4- أثبتّ أرقام صفحات المخطوط المعتمد عند بداية كلّ صفحة، ورمزت لها ب [ق ... ] . 5- خرّجت الآيات الكريمة بذكر اسم السّورة، وترتيبها في القرآن، ورقم الآية. 6- عزوت الأحاديث النّبوية الشّريفة إلى مظانّها من كتب السّنّة المطهّرة. 7- أحلت الموضوعات الرّئيسة إلى مصادرها. 8- وضّحت ما كان مغلقا ومبهما بالشّرح والتّبيان. 9- عنونت فقر الكتاب بعنوانات مناسبة، ووضعتهما على هامش الكتاب، وذلك للفصل بين موضوعات الكتاب المتتابعة، بطريقة تجعله سهلا متناولا في هذا العصر. 10- ربّما أجد تناقضا أو مخالفة لم يجمع عليها علماء السّير أثناء مقابلة المصادر الّتي أخذ عنها المؤلّف مع مصادر السّيرة الآخرى، لذلك وجدت من الواجب والأمانة أن أنبّه على ذلك وأشير إليه في الحاشية، رامزا له ب (قلت) . 11- تعرّضت أثناء الكتاب للرّدّ على بعض المستشرقين وأبواقهم المقلّدين لهم، وذلك في المواضع الّتي تحتاج لذلك. يحسن بي أن أشير إلى أنني عدت إلى معظم كتب المغازي والسّير الّتي كتبت قديما وحديثا لمعارضتها بهذا الكتاب. وإنّي أجد من البرّ والوفاء أن أتوقّف عند أهمّ كتابين كانا لي عونا، فقد استفدت منهما وأفدت. أوّلهما: السّيرة النّبويّة في ضوء القرآن والسّنّة. للدّكتور محمّد بن محمّد أبو شهبة- رحمه الله تعالى- الّذي اعتمد على ذكر الآيات المتعلّقة بحوادث السّيرة ووقائعها. وبذكر الأحاديث الصّحيحة، وترك الأحاديث الموضوعة أو الإسرائيليات المكذوبة. واعتمد أيضا على كتب التّاريخ والسّير قديمها وحديثها، بعد الفحص والتّمحيص والتّحقيق، والموازنة بين الرّوايات، والأخذ بما يصلح للاحتجاج منها، والرّد على أوهام المؤرّخين الّذين بالغوا في مخالفة المحدّثين، وخاصّة إذا عارضت روايتهم ما هو أصحّ منها كرواية صاحبي الصّحيحين. ثمّ تصدّى- رحمه الله تعالى- لأولئك الّذين يحاولون أن يتألكوا بالباطل من المبشّرين والمستشرقين الّذين لا يجدون ثغرة ينفثون منها أحقادهم وسمومهم إلّا نفذوا منها، فكان لهم بالمرصاد. وكذلك فقد تصدّى للكتّاب المسلمين الّذين تأثّروا بالمستشرقين، وراحوا يلوكون أقوالهم دون تثبّت ومعرفة. فجزاه الله عنّا وعن المسلمين كلّ خير.

ثانيهما: الجامع في السّيرة النّبويّة. تأليف الأخت سميرة الزّايد. فقد كان هذا الكتاب- الّذي يقع في ستّة مجلدات من القطع الكبير- عملا فريدا من نوعه، وينمّ عن جلالة هذا العمل ومدى أهميّته، الجهد الكبير الّذي بذل في سبيل إنجازه. أمّا ثمرة هذا الجهد المبارك فتتجلّى في فائدتين لا تقلّ إحداهما عن الآخرى قيمة وأهمّيّة: الأولى: الإحاطة بمعظم أحداث السّيرة النّبويّة، وتسجيلها في كتاب جامع، يطلّ القارىء من خلاله على حياة الرّسول صلى الله عليه وسلم عامّة، بكلّ جوانبها ومراحلها، وسائر ما فيها وما يتّصل بها. الثّانية: ربط سائر مرويات السّيرة النّبويّة بمصادرها الأصليّة المتنوّعة. مع بيان أماكن كلّ منها من تلك المصادر على اختلافها. وهذا الكتاب، من خلال هاتين الفائدتين؛ يعدّ أوّل جهد من نوعه في نطاق الكتابات الحديثة في السّيرة النّبويّة. أرفع للأخت سميرة الشّكر الوفير لجهدها المبارك هذا الّذي قلّما يستطيع أن ينهض به فرد واحد. وإنّي أجد من البرّ والوفاء أيضا- وتحقيقا لقوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يشكر النّاس لم يشكر الله» - أن أقدّم جزيل الشّكر والامتنان لمشايخنا وأساتذتنا وإخواننا من طلبة العلم؛ الّذين أسهموا بمجهود مشكور وعمل مذكور في مراجعة وتدقيق وتصحيح نصّ هذا الكتاب المبارك، وكذلك لما أسدوه من ملاحظات وإيضاحات لحواشى الكتاب؛ ممّا أغنى الكتاب وجعله من الكتب المخدومة بحقّ. ونحن لا نزكّي عملنا هذا؛ وإنّما هو من باب التّحدّث بنعمة الله، ولسوف يلمس القارىء الكريم ذلك عند تصفّحه لهذا الكتاب. نسأل الله أن يقبل ما بذلوه وعملوه، وأن يجزيهم عنّا خير الجزاء. وإليك أيّها القارئ الغالي أقدم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبسّطة، مبوّبة، مرتّبة. بذلت فيها طوقي واستنفدت طاقتي، فإن أصبت فمن الله تعالى، وإن قصّرت عن بلوغ الهدف فمن نفسي، وحسبي بذل الجهد وحسن النّيّة. أسأل الله العليّ القدير أن ينفع بهذا الكتاب الأمّة المحمّديّة، وأن يكرمهم باتباع سيرة الرّسول وسنّته وأقواله وأفعاله وأحواله صلى الله عليه وسلم، إنّه على ما يشاء قدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. وكتبه محمّد غسّان نصوح عزقول

نبذة يسيرة عن حياة الامام بحرق رحمه الله تعالى

نبذة يسيرة عن حياة الامام بحرق رحمه الله تعالى اسمه: هو الشّيخ العلّامة المحدّث، الإمام البارع، اللّغويّ النّحويّ الأديب؛ القاضي: جمال الدّين محمّد بن عمر بن مبارك بن عبد الله بن عليّ. الحميريّ، الحضرميّ، الشّافعي. الشّهير ب (بحرق) . مولده: ولد- رحمه الله تعالى- في ليلة النّصف من شعبان، سنة تسع وستّين وثمان مئة بحضر موت. نشأته وطلبه العلم: نشأ- رحمه الله تعالى- على أحسن الأوصاف والنّعوت بحضر موت؛ المشهود لها بوفرة العلماء ورسوخهم في كثير من فنون العلم، فحفظ القرآن العظيم و «الجزريّة» ومعظم «الحاوي الصّغير» و «الشّاطبيّة» ومنظومة «البرماوي» الأصوليّة و «ألفيّة ابن مالك» النّحويّة. وأخذ عن الفقيه الشّيخ الجليل محمّد بن أحمد باجرفيل الفقه. رحل إلى (الشحر) ، فأخذ عن العلّامة الشّهير عبد الله بن عبد الرّحمن بافضل وقرأ عليه في الفقه وأصوله. ثمّ إلى بندر (عدن) ، فأخذ عن عبد الله بن أحمد بامخرمة الّذي لازمه ملازمة تامّة حتّى تخرّج به، وقرأ عليه الفقه وأصوله والعربيّة، حتّى كان جلّ انتفاعه به، وقرأ عليه «ألفيّة ابن مالك» وجميع «سيرة ابن هشام» وجملة صالحة من «الحاوي الصّغير» في الفقه، وسمع عليه جملة من علوم شتّى. وأخذ عن الشّيخ محمّد بن أحمد بافضل، فقرأ عليه أيضا الفقه وأصوله. ثمّ ارتحل إلى (زبيد) وأخذ عن علمائها. فأخذ علم الحديث عن المحدّث الشّيخ

مكانته وحياته:

زين الدّين محمّد بن عبد اللّطيف الشرجي، وعلم الأصول عن الفقيه جمال الدّين محمّد بن أبي بكر الصّائغ، وأخذ عنه التّفسير والحديث والنّحو، وقرأ عليه «شرح البهجة الورديّة» لأبي زرعة. وأخذ أيضا عن السّيّد الشّريف الحسين بن عبد الرّحمن الأهدل. وصحب الشّيخ أبا بكر العيدروس، وأخذ عنه، وانتفع به، وعادت عليه بركته. ثمّ رحل إلى (الحرمين) سنة أربع وتسعين وثمان مئة، وأدّى النّسكين العظيمين، واجتمع بالحافظ السّخاويّ، وسمع منه، وأخذ عنه علم الحديث والمصطلح. مكانته وحياته: كان- رحمه الله تعالى- ثقة، صالحا، حافظا للأحاديث والآثار، رجّاعا إلى الحقّ، محبّا لأهل العلم، محسنا إلى طلبته، غاية في الكرم، مؤثرا. تولّى القضاء (بالشحر) ، فكان قاضيا عادلا تحمد أحكامه. ثمّ عزل نفسه، وقصد (عدن) فحصل له قبول وجاه عند أميرها مرجان العامريّ. ولمّا توفّي الأمير مرجان سنة سبع وعشرين وتسع مئة قصد (الهند) ، فوفد على سلطانها مظفّر شاه أحمد بن محمود بايقرا (الكجراتي) . فقرّبه السّلطان وأكرمه وعظّمه، وقام به وقدّمه، ووسّع عليه والتفت إليه، وأدناه منه وأخذ عنه، فاشتهر بجاهه. وصنّف للسّلطان كتابنا هذا: «تبصرة الحضرة الشّاهيّة الأحمديّة بسيرة الحضرة النّبويّة الأحمديّة» . قال السّخاويّ في «الضّوء اللّامع» : وصاهر صاحبنا- أي: بحرق- حمزة النّاشريّ على ابنته وأولدها، وتولّع النّظم أيضا ومدح- السّلطان- عامر بن عبد الوهّاب حين شرع في بناء مدارس (زبيد) والنّظر فيها، فكان من أولها فيما أنشدنيه حين لقيته (بمكّة) ، وأخذ عنّي، وكان قدومه لها ليلة الصّعود، فحجّ حجّة الإسلام وأقام قليلا، ثمّ رجع- كان الله له-. فمّما قال- مادحا السّلطان عامر بن عبد الوهّاب-: أبى الله إلّا أن تحوز المفاخرا ... فسمّاك من بين البريّة عامرا عمرت رسوم الدّين بعد دروسها ... وأحييت آثار الإله الدّواثرا فأنت صلاح الدّين لا شكّ هذه ... شواهده تبدو عليك ظواهرا قال- أي: السّخاويّ- وكذا أنشدني ممّا امتدح به المشار إليه بيتا هو عشر كلمات: يا ربّ كن أبدا معينا ناصرا ... شمس الملوك صلاح دينك عامرا وضمّنه في أربعة أبيات يستخرج منها الضّمير من العشر فقال:

أيّدت دينك يا ربّ العلا أبدا ... بناصر لملوك الأرض قد ضهدا أعني به عامرا شمس الملوك فكن ... نصيره أبدا في كلّ ما قصدا وناصرا ومعينا فهو شمس ضحى ... أخفى نجوم ملوك الأرض منذ بدا سمّيته عامرا لمّا أردت به ... صلاح دينك إرغاما لمن جحدا انتهى كلام السّخاويّ «1» . قال عنه العيدروس في «النّور السّافر» : (ما رأيت أحدا من علماء (حضر موت) أحسن ولا أوجز عبارة منه، وله نظم حسن، وهو أحد من جمع بين ديباجتي النّظم والنّثر، فنثره منثور الرّياض جاد بها السّحائب، ونظمه منظوم العقود زانتها النّحور والتّرائب) «2» . وهو الّذي يقول هذه الأبيات مجيبا لبعض الفضلاء الممتحنين له من أهل زمانه: يا من أجاد غداة أنشد مقولا ... وأفاد من إحسانه وتفضّلا إن كنت ممتحني بذاك فإنّني ... لست الهيوبة حيثما قيل انزلا وإذا تبادرت الجياد بحلبة ... يوم النّزال رأيت طرفي أوّلا قسما بايات البديع وما حوى ... من صنعتيه موشّحا ومسلسلا لو كنت مفتخرا بنظم قصيدة ... لبنيت في هام المجرّة منزلا من كلّ قافية يروق سماعها ... ويعيد سحبان الفصاحة باقلا وترى لبيدكم بليدا قلبه ... حصرا وينقلب الفرزدق أخطلا وعلى جرير نجرّ مطرف تيهنا ... ومهلهلا نبديه نسج مهلهلا ولئن تنبّى ابن الحسين فإنّني ... سأكون في تلك الصّناعة مرسلا أظننت أنّ الشّعر يصعب صوغه ... عندي وقد أضحى لديّ مذلّلا أبدي العجائب إن برزت مفاخرا ... أو مادحا للقوم أو متغزّلا لكنّني رجل أصون بضاعتي ... عمّن يساوم بخسها متبذّلا وأرى من الجرم العظيم خريدة ... حسناء تهدى للّئيم وتجتلى ما كنت أحسب عقربا تحتكّ بال ... أفعى ولا جذعا يزاحم بزّلا وأنا الغريب وأنت ذاك وبيننا ... رحم يحقّ لمثلها أن توصلا ولقد أجاد فيها كلّ الإجادة- ولله درّه- ولا يبعد أنّ براعته في الشّعر لمعنى إرثي من إمامه

_ (1) الضوء اللّامع، ج 8/ 2253 ز 0- 254. (2) تاريخ النّور السّافر عن أخبار القرن العاشر، ص 133.

مصنفاته:

الشّافعي رضي الله عنه. انتهى كلام العيدروس «1» . وقد ذكر له كرامات ومرائي صالحات لا نطيل بذكرها. وله مقاطيع شعريّة حسنة، منها: أنا في سلوة على كلّ حال ... إن أباني الحبيب أو إن أتاني أغنم الوصل إن دنا في أمان ... وإذا ما نأى أعش بالأماني وله قصيدة عظيمة سمّاها: «العروة الوثيقة في الجمع بين الشّريعة والحقيقة» ، أجاد فيها إلى الغاية، وشرحها شرحا سمّاه: «الحديقة الأنيقة» . لقد كان- رحمه الله تعالى- العالم الّذي يمشي تحت علم فتياه العلماء الأعلام وحملة الأقلام، وتخضع لفصاحته وبلاغته صيارفة النّثر والنّظام. شيخ اللّغة والنّحو والإعراب، وعمدة الفقهاء في نصوص الشّافعي والأصحاب. مصنّفاته: صنّف- رحمه الله تعالى- مصنّفات عديدة في الأصول والفروع والحديث والسّيرة والعقيدة والنّحو وفي أهل الأحوال. وقد تلقّاها النّاس بالقبول نذكر منها: 1- حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النّبيّ المختار، المسمّى ب «تبصرة الحضرة الشّاهيّة الأحمديّة بسيرة الحضرة النّبوية الأحمديّة» . وهو كتابنا هذا، الّذي نتشرّف بإخراجه إلى الإخوة القرّاء الكرام. 2- أرجوزة في علم الحساب. 3- أرجوزة في علم الطّبّ، وشرحها شرحا مفيدا. 4- الأسرار النّبويّة في اختصار الأذكار النّوويّة. (مطبوع) . 5- البهجة في تقويم اللهجة. 6- ترتيب السّلوك إلى ملك الملوك. 7- تحفة الأحباب في شرح «ملحة الأعراب» ، للحريري. (مطبوع) . 8- الحديقة الأنيقة في شرح العروة الوثيقة. (مطبوع) . 9- الحسام المسلول على منتقصي أصحاب الرّسول صلى الله عليه وسلم. (مطبوع) .

_ (1) تاريخ النّور السّافر عن أخبار القرن العاشر، ص 133- 134.

10- حلية البنات والبنين فيما يحتاج إليه من أمر الدّين. (مطبوع) . 11- الحواشي المفيدة على أبيات اليافعي في العقيدة. وذكر في كتابه «ترتيب السّلوك» أنّ له على أبيات الشّيخ عبد الله بن أسعد اليافعي ثلاثة شروح، بسيط ووسيط ووجيز. 12- ذخيرة الإخوان، (المختصر من كتاب الاستغناء بالقرآن) . (مخطوط) . 13- رسالة في علم الميقات. 14- رسالة في الفلك. 15- شرح الجزريّة. 16- شرح على منظومة الشّيخ أبي الجبيش الأندلسي في العروض. 17- شرحان على لامية ابن مالك في التّصريف، مختصر وكبير. 18- عقد الدّرر في الإيمان بالقضاء والقدر. (مخطوط) . 19- العقد الثّمين في إبطال القول بالتّقبيح والتّحسين. (مخطوط) . 20- فتح الأقفال شرح أبنية الأفعال. 21- فتح الرّؤوف في معاني الحروف. 22- مختصر الخلاصة لابن مالك، في عدّة أهل بدر وشرحه. 23- مختصر نهاية النّاشري في علم القراآت. 24- متعة الأسماع بأحكام السّماع، (المختصر من كتاب الإمتاع) . 25- مختصر التّرغيب والتّرهيب، للمنذريّ. (مخطوط) . 26- مختصر شرح لامية العجم، للصّفدي. (مخطوط) . 27- مختصر المقاصد الحسنة، للسّخاويّ. 28- مواهب القدّوس في مناقب العيدروس. 29- النّبذة المختصرة في معرفة الخصال المكفّرة للذّنوب المقدّمة والمؤخّرة. 30- النّبذة المنتخبة من كتاب الأوائل، للعسكريّ. لعلّ هذه المصنّفات هي الأشهر. وبالجملة: فجميع مؤلّفاته رائقة حسنة، محرّرة منقّبة مستحسنة، ولهذا تداولها أبناء

وفاته:

الزّمان، وتناقلها المشاة والرّكبان، وعقدت عليها الخناصر، وانعطفت عليها الأواصر. وفاته: قال العيدروس في «النّور السافر» «1» : حكي أنّه مات بالسّمّ، وسبب ذلك أنّه حظي عند السّلطان إلى الغاية، فحسده الوزراء على ذلك، فوقع منهم ما أوجب له الشّهادة، وناهيك بها من سعادة. ومن أحسن ما قيل فيه هذا البيت لبعضهم يمدحه: لأيّ المعاني زيدت القاف في اسمكم ... وما غيّرت شيئا إذا هي تذكر لأنّك بحر العلم والبحر شأنه ... إذا زيد فيه الشّيء لا يتغيّر ومثله قول الآخر فيه أيضا: فأنت بحر وقاف ما له طرف ... محمّد إسمك المعروف موصوفا سميّ خير الأنام الطّهر من مضر ... يهناك يهناك هذا الفخر تشريفا عاش- رحمه الله تعالى- إحدى وستّين سنة، وانتقل إلى جوار ربّه ليلة العشرين من شعبان سنة ثلاثين وتسع مئة (بكجرات) ، فشيّعه خلق كثير، ودفن في مدينة (أحمد آباد) . تغمّده الله بالرّحمة والرّضوان، وأسكنه فسيح الجنان.

_ (1) تاريخ النّور السّافر عن أخبار القرن العاشر، ص 140.

ترجمة السّلطان مظفّر بن محمود بايقرا الكجراتي المهدى إليه هذا الكتاب هو السّلطان الفاضل العادل المحدّث الفقيه مظفّر بن محمود بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن المظفّر الكجراتي، أبو النّصر شمس الدّين مظفّر شاه. صاحب الرّئاستين «1» . ولد في العشرين من شوّال سنة خمس وسبعين وثمان مئة في (كجرات) من بلاد الهند. ونشأ في مهد السّلطنة، ورضع من لبان العلم وترعرع. وقرأ على مجد الدّين الإيجي العلّامة، وأخذ الحديث عنه. وعن الشّيخ المحدّث جمال الدّين محمّد بن عمر بن مبارك الحميريّ الحضرميّ الشهير ب (بحرق) ، وتدرّب في الفنون الحربيّة، حتّى فاق أسلافه في العلم والأدب، وفي كثير من الفعال الحميدة. قام بالملك بعد والده في شهر رمضان سنة سبع عشرة وتسع مئة. كان غاية في التّقوى والعزيمة، والعدل والسّخاء، والنّجدة والجهاد، والعفو والتّسامح عن النّاس؛ ولذلك لقّبوه بالسّلطان الحليم. وكان جيّد القريحة، سليم الطّبع، حسن المحاضرة، خطّاطا جيّد الخطّ، كان يكتب النّسخ والثّلث والرّقاع بكمال الجودة، وكان يكتب القرآن الحكيم بيده ثمّ يبعث به إلى الحرمين الشّريفين، وحفظ القرآن في أيّام الشّباب. وكان يقتفي آثار السّنّة السّنيّة في كلّ قول وفعل، ويعمل بنصوص الأحاديث النّبويّة، وكثيرا ما يذكر الموت ويبكي، ويكرم العلماء ويبالغ في تعظيمهم. ولم يزل يحافظ على الوضوء ويصلّي بالجماعة ويصوم رمضان، ولم يقرب الخمر قطّ، ولم يقع في عرض أحد، وكان يعفو ويسامح عن الخطّائين، ويجتنب الإسراف والتّبذير، وبذل الأموال الطّائلة على غير أهلها. وكان كثير التفحّص عن أخبار النّاس، عظيم التحسّس عن أخبار الممالك، وربّما يغيّر زيّه ولباسه ويخرج من قصره آناء اللّيل والنّهار، ويطّلع على الأخبار ويستكشف الأسرار.

_ (1) أي: رئاسة السّيف والقلم.

وله من الأخبار والنّوادر ما لا يسمع بمثله في العدل وإنصاف المظلومين، ممّا يذكّرنا بسير الأوائل من الخلفاء الرّاشدين ومن بعدهم. قال اللكنوي في «نزهة الخواطر» ، أثناء ترجمته لهذا السّلطان العادل: قال الآصفي: وفي سنة إحدى وثلاثين وتسع مئة خرج السّلطان إلى مصلّى العيد للاستسقاء، وتصدّق وتفقّد ذوي الحاجة على طبقاتهم، وسألهم الدّعاء، ثمّ تقدّم للصّلاة، وكان آخر ما دعا به- كما يقال-: (اللهمّ إنّي عبدك ولا أملك لنفسي شيئا، فإن تك ذنوبي حبست القطر عن خلقك فها ناصيتي بيدك! فأغثنا يا أرحم الرّاحمين) ، قال هذا ووضع جبهته على الأرض، واستمرّ ساجدا يكرّر قوله: (يا أرحم الرّاحمين) ، فما رفع رأسه إلّا وهاجت ريح ونشأت بحرية ببرق ورعد ومطر؛ ثمّ سجد لله شكرا، ورجع من صلاته بدعاء الخلق له وهو يتصدّق وينفح بالمال يمينا وشمالا. وبعد الاستسقاء بقليل اعتراه الكسل، ثمّ ضعف المعدة، ومنه شكا ضعف الجسد، وفي خلال ذلك عقد مجلسا حفلا بسادة الأمّة ومشايخ الدّين، واجتمع بهم، وتذاكروا فيما يصلح بلاغا للآخرة، إلى أن تسلسل الحديث في رحمة الله سبحانه وما اقتضاه منّه وإحسانه، فأخذ يشرح ما منّ الله عليه من حسنة ونعمة، ويعترف بعجز شكرها، إلى أن قال: (وما من حديث رويته عن أستاذي المسند العالي مجد الدين بروايته له عن مشايخه إلّا وأحفظه وأسنده، وأعرف لراويه نسبته وثقته، وأوائل حاله إلى وفاته. وما من آية إلّا ومنّ الله عليّ بحفظها وفهم تأويلها وأسباب نزولها وعلم قراءتها. وأمّا الفقه فأستحضر منه ما أرجو به مفهوم: «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين» . ولي مدّة أشهر أصرف وقتي باستعمال ما عليه الزّهّاد، وأشتغل بما سنّه المشايخ لتزكية الأنفاس عملا بما قيل: «من تشبّه بقوم فهو منهم» ؛ وها أنا أطمع في شمول بركاتهم متعلّلا بعسى ولعلّ، وكنت شرعت بقراءة «معالم التّنزيل» ، وقد قاربت إتمامه، إلّا أني أرجو أن أختمه في الجنّة إن شاء الله تعالى، فلا تنسوني من صالح دعائكم، فإنّي أجد أعضائي فقدت قواها، وليس إلّا رحمة الله سبحانه دواها) . فدعا له الحاضرون بالبركة في العمر. قال: وفي سنة اثنتين وثلاثين وتسع مئة على خروجه من (جانپانير) ظهرت منه مخائل المستودع بفراق الأبد لها ولأهلها، وأكثر من أعمال البرّ فيها.

وفي طريقه إلى (أحمد آباد) ، ولمّا نزل بها كان يكثر من التردّد إلى المزارات المتبرّكة، ويكثر من الخير بها، وكان له حسن الظّنّ بالعلّامة (خرم خان) ، فقال له يوما: نظرت فيما أوثر به أولي الاستحقاق من الإنفاق فإذا أنا بين إفراط في صرف بيت المال وتفريط في منع أهله، فلم أدر إذا سئلت عنهما بما أجيب. وفي آخر أيّامه- وكان يوم الجمعة- قام إلى المحل واضطجع إلى أن زالت الشّمس، فاستدعى بالماء وتوضّأ وصلّى ركعتي الوضوء، وقام من مصلّاه إلى بيت الحرم، واجتمعت النّسوة عليه آيسات باكيات يندبن أنفسهن حزنا على فراق لا اجتماع بعده، فأمرهنّ بالصّبر المؤذن بالأجر، وفرّق عليهنّ مالا، ثمّ ودّعهن واستودعهن الله سبحانه، وخرج وجلس ساعة، ثمّ استدنى منه راجه محمّد حسين المخاطب بأشجع الملك وقال له: قد رفع الله قدرك بالعلم وله وهي آخر خدمتك لي، أريدك تحضر وفاتي وتقرأ عليّ سورة يس، وتغسلني بيدك وتسامحني فيه، فامتن بما أهّله به وفدّاه ودعا له، ثمّ وقد سمع أذانا قال: أهو في الوقت؟ فأجاب أسد الملك: هذا أذان الاستدعاء لاستعداد صلاة الجمعة ويكون في العادة قبل الوقت، فقال: أمّا صلاة الظّهر فأصليها عندكم، وأمّا صلاة العصر فعند ربّي في الجنّة إن شاء الله تعالى، ثمّ أذن للحاضرين في صلاة الجمعة واستدعى مصلّاه وصلّى، ودعا الله سبحانه بوجه مقبل عليه وقلب منيب إليه، دعاء من هو مفارق للقصر مشرف على القبر، ثمّ كان آخر دعائه: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وقام من مصلّاه وهو يقول: أستودعك الله- واضطجع على سريره وهو مجتمع الحواس، ووجهه يلتفت إلى القبلة، وقال: (لا إله إلّا الله محمّد رسول الله) ، وفاضت نفسه والخطيب على المنبر يدعو له؛ وفي ذلك عبرة لمن ألقى السّمع وهو شهيد. وكان ذلك في ثاني جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وتسع مئة وحمل تابوته إلى (سركيج) ودفن عند والده. طيّب الله ثراه. «1»

_ (1) نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنّواظر، ج 4/ 355. ملخّصا.

صورة عن المخطوطات المستعان بها في تحقيق هذا الكتاب

راموز ورقة العنوان لمخطوط (دار الكتب المصريّة)

راموز الورقة الأولى لمخطوط (دار الكتب المصريّة) راموز الورقة الأخيرة لمخطوط (دار الكتب المصريّة)

راموز الورقة الأولى لمخطوط (مكتبة الأحقاف بتريم) راموز الورقة الأخيرة لمخطوط (مكتبة الأحقاف بتريم)

راموز ورقة العنوان لمخطوط (الأنصاريّ)

راموز الورقة الأولى لمخطوط (الأنصاريّ)

راموز الورقة الثانية لمخطوط (الأنصاريّ) ، ويبدو فيها البياض الّذي تركه النّاسخ، ممّا فوّت الفرصة على الأنصاريّ- رحمه الله- معرفة اسم السّلطان المهدى إليه الكتاب، ومعرفة اسمه أيضا.

راموز الورقة الأخيرة لمخطوط (الأنصاريّ)

راموز ورقة العنوان لمخطوط (مولد النّبيّ) للإمام بحرق وضعت للفائدة العلمية

راموز الورقة الأولى لمخطوط (مولد النّبيّ صلى الله عليه وسلم) للإمام بحرق وضعت للفائدة العلمية راموز الورقة الأخيرة لمخطوط (مولد النّبيّ صلى الله عليه وسلم) للإمام بحرق وضعت للفائدة العلمية

حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النّبي المختار صلى الله عليه وسلّم، وعلى آله وصحبه المصطفين الأخيار المسمّى تبصرة الحضرة الاحمديّة الشّاهيّة بسيرة الحضرة الأحمديّة النّبويّة للعالم الفقيه القاضي علّامة اليمن محمّد بن عمر بحرق الحضرميّ الشّافعيّ رحمه الله تعالى 869- 930 هـ

[ق 2] بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدّمة المؤلف الحمد لله الّذي كشف عنّا الغمّة «1» ، وجلا غياهب الظّلمة، وأكمل ديننا وأتمّ علينا النّعمة، وأكرمنا بخير نبيّ فكنّا به خير أمّة، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة 62/ 2] . صلّى الله وسلّم عليه، وعلى آله وأصحابه الأئمّة، وأتباعه وأحزابه أولي المناقب الجمّة. أمّا بعد: فإنّ خير الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وخير الأخلاق الحسنة خلقه الأعظم، وخير الطّرق الموصلة إلى الله تعالى طريقه الأقوم. ولهذا قال الله تعالى ترغيبا للأوّل والآخر في اكتساب تلك المحامد والمفاخر: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [سورة الأحزاب 33/ 21] . [وقال تعالى] : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة آل عمران 3/ 31] . [وقال تعالى] : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة النّور 24/ 63] . فرغّب سبحانه في اتّباع سنّته السّنيّة «2» ، ومعرفة سيرته

_ (1) الغمّة: الكرب. (2) السّنيّة: المضيئة الرّفيعة القدر.

السّريّة «1» . وقد صنّف العلماء- رحمهم الله تعالى- في سيرته صلى الله عليه وسلم وفي عاداته وعباداته المختصر والمطوّل، وألّفوا فيها المجمل والمفصّل. فانتقيت من مجموع ما صنّفوه، واصطفيت من محصول ما ألّفوه؛ نبذة كافية شافية، لخّصتها ممّا صحّ من الأخبار، واشتهر بين علماء الحديث والآثار، ممّا أكثره في «الصّحيحين» ، أو في أحدهما، أو في غيرهما من الأصول المعتمدة- كالسّنن الأربعة، لأبي داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه، وكموطأ الإمام مالك، وكسيرة ابن هشام، وشفاء القاضي عياض- رحمة الله عليهم أجمعين. فوقع بحمد الله تعالى كتابا عظيم الوقع، جمّ الفوائد، كثير النّفع، صغير الحجم، كثير العلم، مشتملا على ما يزيد في الإيمان من الكلم الطّيّب العذب، ويحيي القلب إحياء المطر الصّيّب «2» للبلد الجدب «3» . وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ/ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة هود 11/ 120] . مفتتحا بخطبتين، منقسما إلى قسمين، مشتملا على سيرتين، مشمولا إلى حضرتين. فقسم في المبادىء والسّوابق، وقسم في المقاصد واللّواحق. أمّا قسم المبادىء والسّوابق: فافتتحته بخطبة في التّعريف بمولده الشّريف، وقدره العليّ المنيف- وإن كان غنيّا عن التّعريف-

_ (1) السّريّة: الشّريفة. سرو، سروة، وسروا: شرف، فهو سريّ. (2) المطر الصّيّب: المطر بقدر ما ينفع ولا يؤذي. من الصّوب. (3) البلد الجدب: البلد الّذي يبست أرضه لاحتباس الماء عنها.

ينبغي أن يخطب بها في شهر مولده صلى الله عليه وسلم في الجمع على المنابر، ويطرّز بقراءتها المحافل الشّريفة والمحاضر. ثمّ أتبعتها بثمانية أبواب، كلّ باب منها باب من أبواب الجنّة، ووقاية من النّار لمن ألقى إليه السّمع وجنّة. الباب الأوّل: في سرد مضمون الكتاب، ليتذكّر به أولوا الألباب، من لدن مولده صلى الله عليه وسلم إلى وفاته. الباب الثّاني: في شرف بلدي مولده ونشأته ووفاته وهجرته، وشرف قومه ونسبه، وماثر آبائه صلى الله عليه وسلم وحسبه. الباب الثّالث: في ذكر من بشّر به صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وما أسفر قبل بزوغ شمس نبوّته من صبح نوره صلى الله عليه وسلم. الباب الرّابع: في سيرته صلى الله عليه وسلم من حين ولادته إلى بعثته، من تنقّله في أطواره- كرضاعه وشقّ صدره- وبعض أسفاره. الباب الخامس: في نسخ دينه صلى الله عليه وسلم لكلّ دين، وعموم رسالته إلى النّاس أجمعين، وتفضيله على جميع الأنبياء والمرسلين، صلّى الله وسلّم عليه وعليهم أجمعين. الباب السّادس: في بعض ما اشتهر من معجزاته، وظهر من دلالات صدقه صلى الله عليه وسلم وآياته. الباب السّابع: في بعض سيرته صلى الله عليه وسلم؛ ممّا لاقاه من حين بعثه الله إلى أن هاجر إلى الله تعالى. الباب الثّامن: في بعض ما اشتمل عليه حديث الإسراء من العجائب، وانطوى عليه من الأسرار والغرائب، ممّا أكرمه الله به صلى الله عليه وسلّم. وأمّا قسم المقاصد واللّواحق: فافتتحته أيضا بخطبة في الحثّ

على الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال، وإيراد بعض الآيات والأحاديث الدّالّة على أنّه من أفضل/ الأعمال، ليخطب بها حيث تدعو الحاجة إليها، لتحريض المجاهدين، وتذكيرهم برفع درجاتهم يوم الدّين وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الذّاريات 51/ 55] . ثمّ أتبعتها بذكر ما اشتهر من سيرته صلى الله عليه وسلم- من هجرته إلى وفاته- ومن تشريع أحكام دينه وغزواته، وما في أثناء ذلك من علامات نبوّته ومعجزاته، وأسباب نزول سور من القرآن وآياته، مرتّبا لها على سنيّ هجرته صلى الله عليه وسلم العشر، ناشرا لما انطوى من مسكها الطّيّب النّشر. ثمّ ذيّلت ذلك بفصول في وجوب نصب الإمام، وأنّ الإمام الحقّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ عليّ رضي الله عنهم أجمعين، ومدّة خلافة الخلفاء الأربعة، وذكر شيء من فضائل الصّحابة رضي الله عنهم أجمعين؛ الّذين جاهدوا في الله حقّ جهاده، وخلفائه الأربعة، الموضّحين سبل رشاده، مع ذكر ترتيبهم في الفضل، والرّدّ على من قدح في أحد منهم بالقول الفصل. ثمّ ختمت الكتاب بشيء من سيرته صلى الله عليه وسلم في أحواله النّفيسة النّفسيّة، وأقواله المقدّسة القدسيّة، إذ لا ينطق صلى الله عليه وسلم عن الهوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [سورة النّجم 53/ 4] . أمّا أحواله النّفسيّة: ففي حسن خلقه وخلقه، ووفور عقله، وحسن عشرته، وسماحته، وشجاعته، وزهده صلى الله عليه وسلم. وأمّا أقواله القدسيّة: ففي ذكره لربّه في سوابق صلاته، ولواحقها، وفيها، وفي صيامه، وحجّه، وجهاده، وسفره، ومعاشه، ومعاشرته، ومرضه، وعند موته صلى الله عليه وسلم. ناقلا ذلك عن كتب الحديث المعتمدة، ليكون كتابا جامعا

للحضرتين، شافعا للجامع بين السّيرتين، كالملك المظفّر واللّيث الغضنفر: السّلطان أحمد بن السّلطان محمود شاه «1» ، زاده الله ممّا آتاه من الملك والحكمة، وعلّمه ممّا يشاء، وأوزعه «2» أن يشكر نعمته الّتي أنعم عليه، وعلى والديه، وأن يعمل صالحا يرضاه، وأصلح له في ذرّيّته، وأدخله برحمته في عباده الصّالحين، وإيّانا والمسلمين، إنّه جواد كريم/ [قال: من الطّويل] : فأحمد أسمى من بنى اسما وكنية ... وفعلا ووصفا ملكه من أساسه شهاب فخذ من علمه واقتباسه ... سنا النّور واخش النّار في وقت باسه وعن بيضه أو سمره أو قياسه ... سل الخصم عن برهانه أو قياسه فتلك رجوم، قد أعدّت لبأسه ... نجوم هدى في زيّه ولباسه «3» فلا زال محمودا حميدا مظفّرا ... شهابا على أعدائه كأناسه «4» ينكّس جالوت الصّليب صلابه ... بتأييد داود على أمّ راسه «5»

_ (1) ذكرنا نبذة يسيرة عنه في المقدمة، ص 21- 26. (2) أوزعه: ألهمه. (3) الرّجوم: الشّهب والأنوار. مفردها: رجم. (4) المقصود: مثل سهام الرّمي. وإنسي القوس: ما أقبل عليك منها، وقيل: ما ولي الرّامي. (5) الصّليب: القويّ. داود: النّبيّ داود عليه السّلام. أمّ رأسه: أصل رأسه.

ويحظى بما آتاه ملكا وحكمة ... بأجناده أم نفسه أم مراسه «1» فوسمت باسمه هذا الكتاب الكريم، ورسمته برسمه، وو إنّه بسم الله الرّحمن الرّحيم، فسمّيته: (تبصرة الحضرة الأحمديّة الشّاهيّة بسيرة الحضرة الأحمديّة النّبويّة) ؛ متوسّلا إلى الله تعالى بصاحب الحضرة النّبويّة خير الأنام عليه أفضل الصّلاة والسّلام؛ أن يمهّد بصاحب الحضرة الشّاهيّة قواعد الإسلام، وأن يعمر ويغمر بوجوده وجوده البلاد والعباد، وأن يلحق الحضرة بالحضرة، ويحشر الزّمرة في الزّمرة، فالمرء مع من أحبّ «2» ، ومن تشبّه بقوم فهو منهم «3» ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [سورة المائدة 5/ 56] .

_ (1) أجناده: جنوده. المراس: القوّة. أم: حرف عطف بمعنى بل. (2) إشارة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّذي أخرجه البخاريّ، برقم (5816) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «المرء مع من أحبّ» . (3) إشارة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّذي أخرجه أبو داود، برقم (3512) عن ابن عمر رضي الله عنهما: «من تشبّه بقوم فهو منهم» .

القسم الأوّل قسم المبادى والسّوابق

ترجمة السلطان مظفر بن محمود بايقرا الكجراتي

خطبة في التّعريف بمولده الشّريف، وقدره العليّ المنيف الحمد لله بارئ أمشاج النّسم «1» ، وفاتق رتاج الكمم «2» ، ومولج الأنوار في الظّلم، ومخرج الموجودات من العدم، خلق من صلصال «3» كالفخّار آدم، ونجّى نوحا في السفينة من الغرق الّذي عمّ، وقال للنّار: كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [سورة الأنبياء 21/ 69] وهي تضطرم، وسلّم موسى من سطوة فرعون ونجّاه من اليمّ، وأنطق عيسى في المهد ببراءة مريم، وختم الأنبياء بمحمّد صلّى الله عليه وعليهم أجمعين وسلّم، وجعله سيّد ولد آدم، وأمّته خير الأمم. أحمده على ما رزق وأنعم، وأفوّض أمري إليه تعالى فيما قضى وأبرم. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، شهادة من آمن به وأسلم. وأشهد أنّ محمّدا عبده المصطفى المكرّم، ورسوله

_ (1) المشيج: كلّ شيئين مختلطين. النّسم: الخلق والنّاس. (2) الرّتاج: الباب العظيم، (ج) : رتج. الكمّ: برعوم الثّمرة. وأيضا: وعاء الطّلع، (ج) : أكمام. والكمّ: بضمّ الكاف: مدخل اليد ومخرجها من الثّوب، (ج) : أكمام، وكممة. (3) الصّلصال: طين يابس له صلصلة، أي: صوت.

المجتبى المعظّم؛ أرسله/ إلى كافّة العرب والعجم، واختصّه بأحسن الأخلاق والشّيم. اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آله أهل الفضل والكرم، وأصحابه الموفّين بالعهود والذّمم. أمّا بعد: فحقيق بيوم كان فيه وجود المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يتّخذ عيدا، وخليق بوقت أسفرت فيه غرّته أن يعقد طالعا سعيدا، فاتّقوا الله عباد الله، واحذروا عواقب الذّنوب، وتقرّبوا إلى الله تعالى بتعظيم شأن هذا النّبيّ المحبوب، واعرفوا حرمته عند علّام الغيوب، ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [سورة الحج 22/ 32] . واعلموا أنّه ما أكرم أيّام مولده الشّريفة عند من عرف قدرها! وما أعظم بركتها عند من لاحظ سرّها!. ففي شهر ربيع الأوّل انبثقت عن جوهرة الكون بيضة الشّرف. وفي يوم الاثنين منه ظهرت الدّرّة المصونة من باطن الصّدف. وفي ثاني عشره أبرز سابق السّعد من كمون «1» العدم، وب (مكّة) المشرّفة أنجز صادق الوعد بمضمون الكرم. حملت به أمّه في شهر رجب الأصمّ، ومات أبوه وحمله ما استتمّ، ثمّ أدّت ما حملته من الأمانة آمنة، وكانت ممّا تشكوه الحوامل آمنة. فحينئذ أسفر «2» صبح السّعادة وبدا، وبشّرت طلائعه بطلوع

_ (1) الكمون: الاختفاء والكتمان. يقال: كمن في المكان، أي: توارى واختفى. وكمنت النّاقة لقاحها، أي: كتمته. (2) أسفر: انجلى وانكشف.

شمس الهدى، وطوّق جيد الوجود بعقود الإفضال، ودارت أفلاك السّعود بقطب دائرة الكمال، فوضعته صلى الله عليه وسلم واضعا يديه على الأرض، رافعا رأسه إلى السّماء، مقطوع السّرّة، مختونا، منزّها عن قذر النّفاس، مكرّما. فأضاءت له قصور (بصرى) من أرض الشّام. وخمدت نار الفرس الّتي يعبدونها، ولم تخمد منذ ألف عام. وانشقّ لهيبته حين ولد إيوان كسرى. وتواصلت من الرّهبان والكهّان هواتف البشرى، وأشرقت مطالع الأنوار بميمون وفادته، وتعبّقت أرجاء الأقطار بطيب ولادته، وخرّت الأصنام على وجوهها إذعانا لسيادته. فأرضعته ثويبة- مولاة عمّه- أيّاما، ثمّ تولّته حليمة السّعديّة رضاعا وفطاما، فشملتها/ البركات بحضانته، ولم تزل تتعرّف منه الخيرات في مدّته، فدرّ ثديها عليه بعد أن كان عاطلا، وجادت شارفها «1» باللّبن بعد أن كانت لا تروي ناهلا «2» ، وأسرعت أتانها «3» في السّير وقد كانت ثاقلا، وأخصبت بلادها وكانت قبل ذلك ماحلا. ثمّ فصلته بعد أن تمّ له الحولان، وكان يشبّ شبابا «4» لا يشبّه الغلمان، وظهرت لها في صغره مخائل «5» نبوّته، وأخذه الملكان من بين الصّبيان، فشقّا من تحت صدره إلى سرّته، فاستخرجا منه علقة سوداء، وقالا: هذا حظّ الشّيطان، وغسلاه بماء الكوثر، ثمّ ختماه بالحكمة والإيمان.

_ (1) الشّارف: الناقة المسنّة. (2) شاربا واحدا. نهل الشّارب: شرب حتّى روي، فهو ناهل. (3) الأتان: الحمارة. (4) ينمو نموا سريعا. شبّ يشبّ شبابا وشبيبة: الفتاء والحداثة. (5) المخائل: الدّلائل. يقال: أخال فلان للخير، أي: ظهرت دلائله فيه.

قلت: المشهور في الأحاديث الصّحيحة أنّهما غسّلاه بماء زمزم. فلذلك جزم البلقينيّ وغيره من المتأخّرين أنّ ماء زمزم أفضل من الكوثر. ثمّ ماتت لسنّ تمييزه أمّه، وكفله جدّه، ثمّ عمّه، ولم يزل صلى الله عليه وسلم ينشأ وعين العناية ترعاه وتحفظه ممّا يحذره ويخشاه، ومنحه الله تعالى منذ نشأ كلّ خلق جميل، وأحلّه من القلوب بالمحلّ الجليل، وعرف من بين أقرانه بالعفّة والصّيانة، وتميّز عند أهل زمانه بالصّدق والأمانة. ولمّا أخذت مطالع بعثته في أفق سموّها، وآن لشمس نبوّته أن تطلع من علوّها؛ حبّبت إليه الخلوة للأنس بربّه. فكان يخلو في (حراء) ويتنعّم بقربه، وكانت تظهر له الأضواء والأنوار، وتسلّم عليه بالرّسالة الأحجار والأشجار. ثمّ كان وحيه مناما، وتعليمه إلهاما، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح، ولا ينوي أمرا إلّا ظفر بالفوز والنّجح. فلمّا بلغ الأربعين؛ جاءه جبريل الأمين من ربّه ذي الجلالة، بمنشور «1» النّبوّة والرّسالة، فأقرأه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [سورة العلق 96/ 1- 5] . فمكث صلى الله عليه وسلم ب (مكّة) ثلاث عشرة سنة، يدعوهم إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، فامن به من سبقت له السّعادة في دار البقاء، وكذّب به من كتب عليه في الأزل الشّقاء.

_ (1) المنشور: بيان بأمر من الأمور يذاع بين النّاس ليعلموه. (أنصاريّ) .

ولعشر سنين من مبعثه الكريم؛ خصّه الله بالإسراء العظيم، فسار وجبريل مصاحب له إلى أعلى السّماوات العلى، وجاوز سدرة المنتهى، وشرف بالمناجاة في المقام/ الأسنى، ونال من القرب ما ترجم عنه: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [سورة النّجم 53/ 9] . ثمّ هاجر إلى دار هجرته، ومأوى أنصاره وأسرته، فسلّ سيف الحقّ من غمده، وجاهد في سبيل الله غاية جهده، حتّى فتح الله له أقفال البلاد، ومكّنه من نواصي العباد «1» ، وأظهر دينه على الدّين كلّه. ثمّ توفّاه عند حضور أجله، إلى ما أعدّ الله له في جنّات النّعيم، من الكرامة والفوز العظيم. فسبحان من حباه بأنواع الإكرام، وأرسله رحمة لجميع الأنام، وجعله سيّد ولد آدم ومعوّلهم، وخاتم النّبيّين وأوّلهم، ونسخ بشرعه الشّرائع، وملأ بذكره المسامع، وشرّف برسالته المنائر «2» والمنابر، وقرن ذكره بذكره في لسان كلّ ذاكر، وذلّل كلّ صعب لطلّابه، وأمدّه بملائكته الكرام تجاهد في ركابه. نسأل الله تعالى الّذي أكرمنا بظهوره، وأخرجنا من ظلمات الكفر بنوره: أن يجعلنا وإيّاكم ممّن شملته برحمته العناية، ولا حظته في جميع أحواله عين الرّعاية. وأن يشرّفنا في هذه الدّنيا بطاعته، واتّباع سنّته، واغتنام زيارته، ويحشرنا يوم القيامة في شفاعته وزمرته.

_ (1) النّواصي: النّاصية؛ مقدّم الرّأس. (2) المنائر: الماذن. وتجمع المنارة على القياس منارات، وعلى غير قياس: منائر.

اللهمّ إنّا نتوجّه إليك، ونتشفّع إليك بحقّه عليك، فهو أوجه الشّفعاء لديك، وأكرم الخلق عليك: أن لا تدع لنا ذنبا إلّا غفرته، ولا همّا إلّا فرّجته، ولا ضرّا إلّا كشفته، ولا عدوّا إلّا كفيته، ولا شرّا إلّا صرفته، ولا خيرا إلّا يسّرته، ولا واليا إلّا أصلحته، ولا مجاهدا في سبيلك إلّا نصرته، ولا طالبا للخير إلّا أعنته، ولا حاجة هي لك رضى إلّا قضيتها. يا أرحم الرّاحمين.

الباب الأول في سرد مضمون هذا الكتاب

الباب الأوّل في سرد مضمون هذا الكتاب ليتذكّر به أولوا الألباب من ذكر مولده صلى الله عليه وسلم إلى وفاته، وما بينهما من معجزاته وغزواته، بحيث لو اقتصر عليه مقتصر لأغناه عمّا فصّلناه في سائر الكتاب وفرطناه. قال علماء السّير: ولد نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم في ربيع الأوّل، / يوم الاثنين- بلا خلاف-، لثنتي عشرة ليلة خلت منه على الأشهر «1» ، وأرضعته حليمة السّعديّة، وفصلته لحولين كاملين، وقدمت به (مكّة) ، ثمّ رجعت به إلى بلد (بني سعد) لحرصها عليه، وشقّ صدره صلى الله عليه وسلم في العام الخامس وهو عندهم. ثمّ قدمت به بعده لمّا تخوّفت عليه، وكانت مدّة إقامته عندهم نحو خمسة أعوام. وفي السّنة السّادسة من مولده صلى الله عليه وسلم: خرجت به أمّه معها إلى (المدينة) ، فأقامت به شهرا، ثمّ رجعت به فماتت ب (الأبواء) «2»

_ (1) ذكر محمود باشا الفلكي في «التّقويم العربي قبل الإسلام» ، ص 36- 39: أنّ ولادة الرّسول صلى الله عليه وسلم كانت في صبيحة يوم اثنين التّاسع من شهر ربيع الأوّل، الموافق لعشرين من (نيسان) عام الفيل سنة إحدى وسبعين وخمس مئة ميلاديّة. (أنصاريّ) . (2) الأبواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة ممّا يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا. (معجم معالم الحجاز ج 1/ 36) .

- بموحّدة- بين (مكّة والمدينة) . وفي السّنة السّابعة: وفد جدّه عبد المطّلب على سيف بن ذي يزن الحميريّ، فأخبره سيف والكهّان بنبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم. وفي السّنة الثّامنة: توفّي جدّه عبد المطّلب، وكفله عمّه أبو طالب. وفي الثّالثة عشرة: خرج به عمّه أبو طالب إلى (الشّام) ، فلمّا بلغوا (بصرى) ، رآه بحيرا الرّاهب- بفتح الموحّدة وكسر المهملة ممدودا- فتحقّق فيه صفات النّبوّة، فأمر عمّه بردّه، فرجع به. وفي الرّابعة عشرة: كانت حرب الفجار- بكسر الفاء- بين قريش وهوازن، وكانت الدّائرة لهوازن على قريش، فشهدها النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع قومه يوما، فانقلبت الدّائرة لقريش على هوازن. ثمّ عقدت قريش حلف الفضول لنصرة المظلوم، فشهده مع قومه. وفي الخامسة والعشرين: خرج صلى الله عليه وسلم مع ميسرة- غلام خديجة رضي الله عنها- في تجارة لها، فرآه نسطور- بفتح النّون- الرّاهب، فقال: (أشهد أنّ هذا نبيّ، وأنّه آخر الأنبياء) . فلمّا رجعا أخبرها ميسرة بذلك، وبما شاهد منه صلى الله عليه وسلم، فخطبته إلى نفسها، فنكحها. وفي الخامسة والثّلاثين: بنت قريش الكعبة، ووضع صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود في مكانه. وفي الثّامنة والثّلاثين: حبّب الله إليه الخلوة، فكان يخلو بغار (حراء) ، ثمّ كان يرى الأنوار، ويسمع الهواتف، ثمّ كان تسلّم عليه الأحجار/ والأشجار. وقبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بستّة أشهر كان وحيه مناما، وكان لا يرى رؤيا

إلّا جاءت مثل فلق الصّبح- أي: الصّبح المفلوق «1» -. ولمّا بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة: جاءه جبريل عليه السّلام بالوحي من ربّه عزّ وجلّ بسورة: اقرأ، ثمّ [القلم، ثمّ] المدّثّر، ثمّ المزّمّل، فكان في أوّل أمره يدعو النّاس إلى الله عزّ وجلّ سرّا حتّى أنزل الله عليه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [سورة الحجر 15/ 94]- أي: شقّ جموعهم بالتّوحيد- فأظهر الدّعوة. وفي السّنة الخامسة من مبعثه صلى الله عليه وسلم: هاجر جماعة من الصّحابة، منهم: عثمان والزّبير وعبد الرّحمن وجعفر رضي الله عنهم ومن معهم إلى (الحبشة) ، فأقاموا بها عشر سنين. وفي السّنة السّادسة من مبعثه صلى الله عليه وسلم: أسلم حمزة وعمر رضي الله عنهما، فعزّ بإسلامهما الإسلام. وفي السّنة السّابعة لمستهلّ المحرّم منها: تعاهدت قريش على قطيعة بني هاشم، إلّا أن يسلموا إليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويبرؤوا منه، وكتبوا بذلك بينهم صحيفة، وعلّقوها في الكعبة. فاعتزل بنو هاشم بن عبد مناف، وتبعهم إخوانهم بنو المطّلب بن عبد مناف مع أبي طالب إلى شعب أبي طالب، فأقاموا به نحو ثلاث سنين، إلى أن سعى المطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف، وزمعة بن الأسود بن [المطّلب بن] أسد في نقض الصّحيفة، فخرج بنو هاشم وبنو المطّلب من الشّعب في أواخر السّنة التّاسعة. وفي السّنة العاشرة: مات أبو طالب، ثمّ ماتت بعده خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيّام، فحزن صلى الله عليه وسلم لموتهما حزنا شديدا، ونالت

_ (1) رؤيا واضحة. فلق الله الصّبح: أبداه وأوضحه.

قريش منه صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تناله في حياة عمّه أبي طالب. فخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى (الطّائف) ، وأقام بها شهرا يدعو ثقيفا إلى الله تعالى، فردّوا عليه قوله، وأغروا «1» به عند انصرافه سفهاءهم، فرجع إلى (مكّة) فلم يدخلها إلّا بجوار المطعم بن عديّ. وفي السّنة الحادية عشرة/: اجتهد صلى الله عليه وسلم في عرض نفسه على القبائل في الموسم، فامن به ستّة من رؤساء الأنصار، ورجعوا إلى (المدينة) ، ففشا فيها الإسلام. وفي السّنة الثّانية عشرة- في رجب منها أو رمضان-: أسرى به مولاه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثمّ إلى سدرة المنتهى. وفي تلك اللّيلة فرض الله عليه وعلى أمّته الخمس صلوات. وفي آخر تلك السّنة في الموسم: وافاه اثنا عشر رجلا من الأنصار ب (العقبة) ليلا، فبايعوه بيعة النّساء المذكورة في قوله تعالى: عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ الآية [سورة الممتحنة 60/ 12] ، وبعث معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن، فأسلم على يديه السّعدان: سعد بن معاذ سيّد الأوس، وسعد بن عبادة سيّد الخزرج، فأسلم لإسلامهما كثير من قومهما. وفي السّنة الثّالثة عشرة- في آخرها في الموسم-: وافاه سبعون رجلا من مسلمي الأنصار فبايعوه عند (العقبة) أيضا، على أن يمنعوه إن هاجر إليهم ممّا يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، وأخرجوا له اثني عشر نقيبا؛ تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، ثمّ رجعوا إلى (المدينة) . فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم حينئذ أصحابه بالهجرة إلى (المدينة) ، فهاجروا

_ (1) أغرى به: أولع، وحرّض عليه، والمقصود: حرّضوا عليه سفهاءهم.

إليها، وأقام صلى الله عليه وسلم ينتظر الإذن من ربّه تعالى في الهجرة، وحبس معه عليّا وأبا بكر رضي الله عنهما. فاجتمعت قريش في دار النّدوة للمشاورة في أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأجمعوا على قتله، فنزل جبريل عليه الصّلاة والسّلام بالوحي من عند الله تعالى، فأخبره بذلك، وأمره بالهجرة إلى (المدينة) ، فهاجر إليها. وذلك في أواخر صفر من السّنة المذكورة- الرّابعة عشرة- لتمام ثلاث عشرة من مبعثه صلى الله عليه وسلم. ودخل صلى الله عليه وسلم من عوالي (المدينة) ، يوم الاثنين، الثّاني عشر من ربيع الأوّل، فلبث في (قباء) عند بني عمرو بن عوف أربع عشرة/ ليلة، وبنى فيها مسجد (قباء) ، ثمّ انتقل فنزل في بني النّجار، أخوال جدّه عبد المطّلب؛ في منزل أبي أيّوب الأنصاريّ شهرا، إلى أن بنى مسجده الشّريف ومساكنه. وفي تلك السّنة، وهي الأولى من سنيّ الهجرة: شرع الأذان. وفي أوّل السّنة الثّانية أو آخر الأولى؛ نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآيات [سورة الصّف 61/ 10- 11] ؛ فأمر بالجهاد. وفي السّنة الثّانية في رجب، نزل قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [سورة البقرة 2/ 144] ؛ فحوّلت القبلة إلى الكعبة، بعد أن صلّى إلى بيت المقدس نحو ستّة عشر شهرا. وفي شعبان منها-[أي: السّنة الثّانية]-: نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ الآيات [سورة البقرة 2/ 183] ؛ ففرض صوم رمضان، وفرض فيه صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر.

وفيها أيضا-[أي: السّنة الثّانية]- في يوم الجمعة السّابع عشر من رمضان: كانت وقعة (بدر) الكبرى، وهي يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، ونزلت سورة الأنفال في قسمة غنائمها. وفيها-[أي: السّنة الثّانية]- بعد (بدر) : أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل كعب ابن الأشرف الطّائيّ وأمّه من بني النّضير، وهو في حصن من (يثرب) ، فقتله خمسة من الأوس، عليهم محمّد بن مسلمة- بفتح الميم واللّام-. ثمّ أمر [صلى الله عليه وسلم] بقتل أبي رافع بن أبي الحقيق، وهو في حصن ب (خيبر) ، فقتله سبعة من الخزرج، عليهم عبد الله بن عتيك- بتقديم الفوقيّة على التّحتيّة، كعظيم-. وفيها-[أي: السّنة الثّانية]-: نقضت يهود (المدينة) - بنو قينقاع رهط عبد الله بن سلام الحبر الإسرائيليّ- العهد، فحاصرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى نزلوا على حكمه، فاستوهبهم منه عبد الله بن أبيّ ابن سلول «1» ، وكانوا حلفاءه، فوهبهم له. وفي السّنة الثّالثة، في شوّال، في اليوم الخامس عشر منه: كانت وقعة (أحد) ، فأكرم الله تعالى فيها من أكرم بالشّهادة؛ ومنهم: حمزة رضي الله عنه، ونزل قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ/ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ إلى آخر السّورة [سورة آل عمران 3/ 121] . وفيها-[أي: السّنة الثّالثة]- بعد (أحد) : بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت في عشرة عينا «2» ، فلمّا كانوا في بعض الطّريق

_ (1) عبد الله بن أبيّ ابن سلول؛ كتابة (ابن سلول) بالألف، ويعرب بإعراب عبد الله؛ فإنّه وصف ثان له، لأنّه عبد الله بن أبيّ. وهو عبد الله ابن سلول أيضا، فأبيّ أبوه، وسلول أمّه، فنسب إلى أبويه. (أنصاريّ) . (2) في ابن هشام: ستّة نفر. والأصحّ ما أثبته المؤلّف- رحمه الله- وهم ستّة من المهاجرين وأربعة من الأنصار، (أخرجه البخاريّ، برقم (2880) ،

ب (الرّجيع) وهو ماء لهذيل بين (عسفان ومرّ الظّهران) «1» ظفر بهم بنو لحيان بعد أن أعطوهم العهد بالأمان، فقتلوا منهم ستّة، وهرب اثنان، وأسروا اثنين، وهما: خبيب بن عديّ، وزيد بن الدّثنّة، فباعوهما ب (مكّة) لقريش، فاشتروهما وقتلوهما. وفيها أيضا-[أي: السنة الثّالثة]- بعد (أحد) «2» : بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع عامر بن مالك العامريّ ملاعب الأسنّة «3» سبعين رجلا، وهم القرّاء بجواره، فقتلهم قبائل سليم: عصيّة ورعل وذكوان، وأخفروا «4» جوار عامر بن مالك، فقنت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو

_ عن أبي هريرة رضي الله عنه) ، وقد أورد المؤلّف بعث الرّجيع ضمن أحداث السّنة الثّالثة للهجرة. والّذي ترجّح أنّها من أحداث السّنة الرّابعة. والله أعلم. (1) مرّ الظّهران: وهو في معاجم الجغرافية العربيّة (وادي فاطمة) ؛ يقع في الشّمال الشّرقي لمكّة، بعيدا عنها ب 28 كيلومتر منها، وهو أكبر الوديان سعة، وأكثرها خصبا وما آ، وأوفرها قرى وسكّانا ومساكن، يصب فيه تسعون واديا من أودية مكّة الكبار والصّغار، فهو مجمع الأودية، وطوله نحو ثمانين كيلو مترا. ويبتدئ وادي فاطمة من المناعمة شرقا بجنوب، وينتهي بجدّة غرب مكة، وتهبط مياهه من جبل (برد) وهو أعلى فرع له من جهة الجنوب، ويهبط بعض مياهه كذلك من وادي نخلة (اليمانيّة) من البوباة (البهيتة) . وكذلك يصب فيه وادي نخلة (الشامية) من الناحية الغربيّة، ويصبّ فيه وادي (حورة) أيضا، وكذلك وادي (علاف) من ناحية الشّمال، ووادي (العشر) ووادي (سرف) الذي به قبر السّيّدة ميمونة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، كلاهما يفيضان على وادي فاطمة. ولعل لإقامة الأشراف الهاشميين من بني فاطمة رضي الله عنها أثرا في تغليب اسم (وادي فاطمة) على اسم (مرّ الظهران) . (2) أيضا أورد المؤلّف وقعة بئر معونة ضمن أحداث السّنة الثّالثة للهجرة. والّذي ترجّح أنّها من أحداث السّنة الرّابعة. والله أعلم. (3) وسمّي عامر بن مالك ملاعب الأسنّة يوم السّوبان، والأسنّة: جمع سنان، وهو الرّمح، فكان عامر ملاعب الرّماح. (4) أخفروا: نقضوا العهد وغدروا.

عليهم وعلى بني لحيان. وكانوا أطلقوا عمرو بن أميّة الضّمريّ، فلمّا رجع وجد اثنين من بني عامر فقتلهما ومعهما جوار من النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم به، فوداهما «1» النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وفيها أو في الرّابعة «2» : قصد النّبيّ صلى الله عليه وسلم بني النّضير ليستعينهم في دية الرّجلين اللّذين قتلهما عمرو بن أميّة الضّمريّ، فاستند إلى جدار حصن لهم، فهمّوا بطرح حجر عليه، فنزل جبريل عليه السّلام فأخبره بذلك، فقام موهما لهم أنّه غير ذاهب، ثمّ صبّحهم صلى الله عليه وسلم بالجيش فجلاهم «3» إلى (الشّام) . وفيهم نزلت سورة الحشر: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [سورة الحشر 59/ 2] إلى آخرها، فجلوا إلى (الشّام) ، إلّا حييّ بن أخطب فلحق ب (خيبر) . وفي السّنة الرّابعة: خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه في شهر رمضان «4» في موعد [مع] أبي سفيان له يوم (أحد) إلى (بدر) ، فلم يأته أبو سفيان وقومه، فرجع النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وفيها-[أي: السّنة الرّابعة]-: كانت غزوة ذات الرّقاع، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى (نجد) يريد غطفان، فالتقى بهم ولم يكن قتال، فنزلت: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ الآيات [سورة النّساء 4/ 102] .

_ (1) وداهما: دفع ديتهما. (2) والصّواب: الرّابعة، لأنّ غزوة بني النضير كانت بعد أحد بستّة أشهر. والله أعلم. (3) جلاهم: أخرجهم من ديارهم. (4) أجمع أهل السّير على أنّ خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان في شعبان. ويسمّى ب (غزوة بدر الآخرة) . والله أعلم.

فصلّوا صلاة الخوف. ولمّا قفل صلى الله عليه وسلم منها- أي: رجع- نام تحت/ شجرة وقت القيلولة، وتفرّق عنه النّاس، وعلّق سيفه بالشّجرة، فهمّ غورث بن الحارث بقتله به، فعصمه الله منه، ونزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [سورة المائدة 5/ 11] ، في ذلك أو في قصّة بني النّضير «1» . وفي السّنة الرّابعة «2» : بلغه أنّ بني المصطلق من خزاعة أجمعوا لحربه، فخرج صلى الله عليه وسلم إليهم حتّى لقيهم ب: (المريسيع) «3» - مصغّرا بمهملات- وهو ماء لهم من ناحية (قديد) «4» - مصغّرا بقاف ومهملة مكرّرة- وهو مكان بين (مكّة والمدينة) ، فهزمهم، وسبى أموالهم وذراريّهم، واصطفى منهم أمّ المؤمنين جويريّة بنت الحارث المصطلقيّة رضي الله عنها. ولمّا قفل صلى الله عليه وسلم منها ازدحم المهاجرون والأنصار على ماء. وكان من أمر عبد الله بن أبيّ ابن سلول ما كان من قوله: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [سورة المنافقون 63/ 8] ،

_ (1) قال القشيري: وقد تنزل الآية في قصّة، ثمّ ينزل ذكرها مرّة أخرى لادّكار ما سبق. (2) قلت: ترجّح أنّها في السّنة الخامسة. والله أعلم. (3) المريسيع: قرية من قرى وادي القرى وهو من ناحية قديد إلى الشّام، (الزّهر المعطار، ص 532) . (4) قديد: في الجنوب الشّرقي عن رابغ، تبعد عنها بمرحلة وربع (سبعة وعشرون ميلا) . ويسكنها بنو زبيد، وبها عيون ونخيل وبساتين، وبقربها إلى جهة البحر كان صنم (مناة) منصوبا.

فنجم نفاقه- أي: ظهر- ونزلت فيه سورة (المنافقون) . ولمّا دنا صلى الله عليه وسلم من (المدينة) تخلّفت عائشة رضي الله عنها عن الجيش ليلا في قضاء حاجة لها، فرحلوا هودجها ولم يشعروا بها، فقال فيها أهل الإفك ما قالوا، ونزلت عشر الآيات من سورة النّور: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [سورة النّور 24/ 11] . وفيها-[أي: السّنة الخامسة]-: كانت وقعة الخندق- وهي الأحزاب أيضا- في شوّال سنة [خمس] «1» بعد غزوة (بدر) الصّغرى، وكان المشركون فيها أحد عشر ألفا، واشتدّ الحصار على أهل (المدينة) ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [سورة الأحزاب 33/ 10] كما حكى الله عنهم، وكانت مدّة الحصار نحو شهر، ثمّ كشف الله عنهم بما ذكره في قوله: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [سورة الأحزاب 33/ 9] ، ونزلت سورة الأحزاب. ووقع في أيّام (الخندق) ما وقع من معجزاته صلى الله عليه وسلم الباهرة، كحديث الكدية «2» - بضمّ الكاف- الّتي اعترضت، فهدّها النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمعول. وحديث جابر حيث دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم خامس خمسة/ إلى عناق «3» وصاع من شعير، فأشبع من ذلك جيش الخندق كلّه؛ وهم ألف فأكثر. وحديث أبي طلحة حيث بعث أنسا بأقراص تحت إبطه فأشبع منها صلى الله عليه وسلم ثمانين رجلا جياعا.

_ (1) في المخطوط: أربع. (2) الكدية: قطعة صلبة غليظة، لا تعمل فيها الفأس. (النّهاية، ج 4/ 156) . (3) العناق: الأنثى من أولاد الماعز ما لم يتمّ لها سنة. (النّهاية، ج 3/ 311) .

وكانت بنو قريظة معاهدين له صلى الله عليه وسلم فنقضت العهد في مدّة الحصار، وأعانوا المشركين. فلمّا هزم الله الأحزاب وانقضى الحصار، جاء جبريل عليه الصّلاة والسّلام إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقت القيلولة «1» ، فأمره بالخروج إليهم، فخرج صلى الله عليه وسلم فحاصرهم. فأرسلوا إلى أبي لبابة رضي الله عنه يستشيرونه، فكان من أمره رضي الله عنه ما كان، فلمّا اشتدّ بهم الحصار نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكانوا حلفاءه، وكان قد أصيب بسهم يوم (الخندق) ، فحكم فيهم بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريّهم وقسمة أموالهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد وافقت حكم الله تعالى» «2» ثم مات رضي الله عنه، فاهتزّ العرش لموته رضي الله عنه فرحا بقدوم روحه. وفي السّنة الخامسة: زوّجه الله تعالى زينب بنت جحش أمّ المؤمنين رضي الله عنها، كما نطق به القرآن: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ الآيات [سورة الأحزاب 33/ 37] . وفيها: -[أي: السّنة السّادسة]- خرج صلى الله عليه وسلم معتمرا في ذي القعدة، فصدّته قريش عن البيت، فوقعت بيعة الرّضوان. ثمّ صلح الحديبية عشر سنين، وفيه: أنّه لا يأتيه أحد مسلما إلّا ردّه إليهم.

_ (1) القيلولة: الاستراحة نصف النّهار، وإن لم يكن معها نوم. (النّهاية، ج 4/ 133) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3895) ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. بنحوه.

وأنّ بني بكر في صلحهم، وخزاعة في صلحه صلى الله عليه وسلم. وألّا يدخل (مكّة) إلّا من عام قابل. فنحر هديه وحلق ورجع صلى الله عليه وسلم، ونزلت سورة الفتح: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الآيات [سورة الفتح 48/ 18] . وفيها-[أي: السّنة السّادسة]-: انفلت أبو بصير- بموحّدة ومهملة، كعظيم- إلى (المدينة) مسلما، فردّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقتل واحدا من الرّجلين اللّذين رجعا به، وانفلت، فلحق بسيف البحر «1» ، فانفلت إليه أبو جندل- بجيم ونون- ابن سهيل بن عمرو ورجال من المسلمين/ المستضعفين ب (مكّة) ، فاجتمعت منهم عصابة، فقطعوا سبيل قريش إلى (الشّام) ، حتّى سألت قريش من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يضمّهم إليه، ومن جاءه فهو آمن، فضمّهم إليه. وفيها-[أي: السّنة السّابعة]- أسلم جماعة من رؤساء قريش منهم: عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، بعد أن أسلم عمرو ب (الحبشة) على يد النّجاشيّ «2» . وفيها-[أي: السّنة السّابعة]- أرسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رسله بكتبه إلى ملوك الأقاليم.

_ (1) سيف البحر: ساحله. (2) أورد ابن هشام هذا الخبر إثر غزوة بني قريظة، لأنّ ذهاب عمرو بن العاص إلى النّجاشيّ كان بعد غزوة الخندق، وقد ذكر هنا قبل فتح مكّة؛ لأنّ خالد بن الوليد كان في خيل المشركين يوم الحديبية، وقد ذكر البيهقي في «الدّلائل» ، وابن سعد في «الطّبقات» ، والهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، وغيرهم أنّ إسلام هؤلاء الصّحابة كان في أوائل سنة ثمان. والله أعلم.

ومنهم: عبد الله بن حذافة السّهميّ، بعثه بكتابه إلى كسرى فمزّقه، فدعا عليهم أن يمزّقوا كلّ ممزّق «1» . ومنهم: دحية بن خليفة الكلبيّ رضي الله عنه، بعثه بكتابه إلى قيصر [ملك الرّوم] ، فوجد عنده أبا سفيان، فاستدعاه قيصر، فسأله عن صفات النّبيّ صلى الله عليه وسلم وشرائع دينه، فأخبره أبو سفيان بها، فاعترف قيصر بنبوّته صلى الله عليه وسلم، ولم يوفّق للإسلام، لعدم مساعدة جنوده له مع شقاوته، فوقع الإسلام من يومئذ في قلب أبي سفيان. وفي السّنة السّادسة «2» في المحرّم منها: افتتح النّبيّ صلى الله عليه وسلم (خيبر) بعد أن حاصرهم سبع عشرة ليلة، ثمّ قسم أموالهم نصفين، نصفا لنوائبه «3» ونصفا بين المسلمين «4» . وقدم عليه جعفر فيمن بقي من مهاجرة (الحبشة) رضي الله عنهم، فأسهم لهم. وأهدت إليه اليهوديّة «5» الشّاة المصليّة- أي: المشويّة- المسمومة، فأخبره الذّراع بذلك. واصطفى صلى الله عليه وسلم من سبايا (خيبر) أمّ المؤمنين صفيّة بنت حييّ

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (64) ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. (2) قلت: ترجّح أنّها في السّنة السّابعة. والله أعلم. (3) نوائبه: جمع نائبة؛ وهي ما ينوب الإنسان، أي: ما ينزل به من المهمّات والحوادث. (4) أخرج البخاريّ، برقم (2366) ، عن عبد الله رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود، أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها. (5) وهي: زينب بنت الحارث، امرأة سلّام بن مشكم، وابنة أخي مرحب. (أنصاريّ) .

الإسرائيليّة الهارونيّة رضي الله عنها. وفي ذي القعدة منها-[أي: السّنة السّابعة]-: اعتمر صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء، وأقام ب (مكّة) ثلاثا، ثمّ رجع فدخل صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث الهلاليّة، أمّ المؤمنين رضي الله عنها خالة ابن عبّاس، وذلك ليلة منصرفه من (مكّة) ب (سرف) «1» - ككتف، بموحّدة وسين مهملة- وهو بين (التّنعيم «2» ومرّ الظّهران) ، وبذلك المكان كان موتها وقبرها رضي الله عنها. وفي السّنة السّابعة: اتّخذ له المنبر صلى الله عليه وسلم، / وكان من قبل يخطب إلى جذع نخلة، فحنّ إليه الجذع، حتّى مسح عليه وضمّه إليه. وفيها-[أي: السّنة السّابعة]- في رجب: قدم عليه وفد عبد القيس يسألونه عن الإسلام، ورئيسهم الأشجّ «3» - بمعجمة وجيم- فأثنى عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليهم خيرا. وفي السّنة الثّامنة في جمادى الأولى منها: كانت غزوة مؤتة- بفوقيّة مضمومة الميم مهموزة [الواو]- وهي قرية من قرى (البلقاء) من أرض (الشّام) ، فأكرم الله فيها جعفرا وزيدا وابن رواحة وجماعة رضي الله عنهم بالشّهادة، ثمّ أخذ الرّاية خالد بن الوليد رضي الله عنه، ففتح الله على يديه، وانحاز بالمسلمين، وكانوا ثلاثة آلاف، وكان هرقل ملك الرّوم في مئتي ألف.

_ (1) سرف: موضع على ستّة أميال من مكّة شمالا. (2) التّنعيم: واد يقع شمال مكّة بقمّة جبال بشم شرقا وجبل الشهيد جنوبا. وهو ميقات لمن أراد العمرة من المكيين. وفيه مسجد عائشة رضي الله عنها. يقع على مقربة ستّة أميال شمالا من المسجد الحرام على طريق المدينة، (معالم مكّة ص 50- 51) . (3) واسمه: المنذر بن الحارث العبديّ.

وفيها-[أي: السّنة الثامنة]- في رمضان: كان فتح (مكّة) . وسبب انتقاض الصّلح: أنّ قريشا أعانت حلفاءهم (بني بكر) على (خزاعة) حلفاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقدم أبو سفيان (المدينة) يطلب من النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلحا، فلم يجبه إليه، فرجع، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي الكعبيّ يستنصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قريش، فأجابه إلى ذلك، وتجهّز النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى (مكّة) في عشرة آلاف، فلمّا بلغ (الجحفة) «1» - بجيم مضمومة ثمّ حاء مهملة ساكنة- على ثلاث مراحل من (المدينة) لقيه عمّه العبّاس رضي الله عنه مهاجرا بأهله، فردّه معه، وكان قد أسلم بعد (بدر) ، واستأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أن يقيم ب (مكّة) على سقاية الحاجّ، فأذن له. ولقيه أيضا ابن عمّه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب قد أقبل مسلما، معتذرا ممّا كان جرى منه، فردّه معه. وأخذ الله العيون على قريش بدعوته صلى الله عليه وسلم «2» ، فلم يشعر أحد بخروجه صلى الله عليه وسلم إليهم. فلمّا بلغ (مرّ الظّهران) أدركت العبّاس الرّقّة على قومه، فركب بغلة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بإذنه ليخبرهم أن يأخذوا أمانا منه صلى الله عليه وسلم، فلقي أبا سفيان بن حرب في نفر من قريش/ خرجوا يتطلّعون، وذلك في اللّيل، فردّهم إلى (مكّة) ، وأتى بأبي سفيان إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثمّ أصبح صلى الله عليه وسلم فدخل (مكّة) ضحى من أعلاها، وذلك لعشر بقين من رمضان، وأقام بها ثمانية عشر يوما يقصر الصّلاة.

_ (1) الجحفة: وهو واد يبتدىء من شرق رابغ من ناحية الجبال، ويصبّ جنوب رابغ في البحر، ببعد ثلاث ساعات. وهو ميقات حجّاج (مصر والشّام) ؛ إن لم يمرّوا على (المدينة) ، وكانت الجحفة قرية تاريخيّة، وهي الآن خربة، وبها آثار القرية المعمورة، وأطلال قصر أثريّ مبنيّ بالحجارة السوداء؛ اسمه (قصر العلياء) . (2) ودعاؤه صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش» .

ثمّ بلغه أنّ (هوازن) اجتمعت لحربه في أربعة آلاف، عليهم مالك بن عوف النّصريّ «1» ، فخرج صلى الله عليه وسلم إليهم لعشرين [من] شوّال، في عشرة آلاف جيش الفتح، وألفين ممّن أسلم يوم الفتح، فكانوا اثني عشر ألفا، فأعجبتهم كثرتهم، فقالوا: لن نغلب اليوم من قلّة، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئا، ووجدوا المشركين قد كمنوا لهم في شعاب (حنين) وهو واد بين (مكّة والطّائف) ، فلمّا توسّط المسلمون فيه شدّوا عليهم ورشقوهم بالنّبل، وكانوا رماة، فانهزم المسلمون، وثبت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في جماعة، فنزل عن بغلته وأخذ كفّا من الحصى فرمى به في وجوه المشركين فانهزموا، ونصر الله المسلمين، فغنموا ذراريّهم وأموالهم، وكانوا قد جعلوهم معهم ليقاتلوا دونهم، فانهزم منهم طائفة عليهم: دريد بن الصّمّة، وساقوا المال والذّراريّ، فأدركهم أبو عامر الأشعري في سريّة ب (أوطاس) فهزموهم بعد أن قتل أبو عامر رضي الله عنه ولحق أكثرهم ب (الطّائف) ، فتوجّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى (الطّائف) وقاتلهم قتالا شديدا، وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، فلم يظفر بهم، فدعا لهم بالهداية ورجع، فأتوه بعد رجوعه إلى (المدينة) مسلمين على يدي مالك بن عوف. ولمّا قفل صلى الله عليه وسلم من (الطّائف) قسم غنائم (حنين) ب (الجعرانة) «2» - على مرحلتين من (مكّة) -. ثمّ أحرم منها بعمرة، وذلك في ذي القعدة، فدخل (مكّة) فقضى نسكه.

_ (1) في الأصل: عوف بن مالك النّصري، وهو كذلك أينما ورد في الأصل. (2) الجعرانة: قرية صغيرة في صدر وادي (سرف) ، فيها مسجد يعتمر منه أهل مكّة المكرّمة، تقع شمال شرقي مكّة المكرّمة، على قرابة 24 كيلا. وتقع على 11 كيلا شمالا عدلا من طريق اليمانية، (معالم مكّة ص 64- 65) .

ثمّ رجع إلى (المدينة) فدخلها في آخر ذي القعدة، فولد له صلى الله عليه وسلم في ذي الحجّة إبراهيم، وعاش ثلاثة أشهر ثمّ مات، وانكسفت الشّمس يوم موته، وذلك وقت الضّحى في أوّل ربيع من سنة/ [تسع] «1» ، فقال النّاس: انكسفت الشّمس لموت إبراهيم، فجمع [صلى الله عليه وسلم] النّاس وصلّى بهم صلاة الكسوف، ثمّ خطب بهم فقال: «إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته» «2» . وفي السّنة التّاسعة: دخل النّاس في دين الله أفواجا، كما أخبر الله تعالى بذلك، وجعله علما على وفاته صلى الله عليه وسلم. ووفدت عليه الوفود؛ فمنهم: وفد (بني حنيفة) ، في جمع كثير، عليهم: مسيلمة الكذّاب، وأبى أن يسلم إلّا أن يجعل له النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأمر من بعده، ورجع خائبا. ومنهم: وفد (نجران) ، وكانوا نصارى، فحاجّوه في عيسى عليه الصّلاة والسّلام أنّه ابن الله لكونه خلقه من غير أب، فنزلت: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [سورة آل عمران 3/ 59]- أي: من غير أمّ ولا أب-. ونزلت آية المباهلة- أي: الملاعنة-: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ الآية [سورة آل عمران 3/ 61] ، فقال لهم رئيساهم- السّيّد «3» والعاقب «4» -: لاتفعلوا،

_ (1) والراجح أنّها سنة عشر. انظر تعليقنا ص 364. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (1001) . عن أبي بكرة رضي الله عنه. (3) السّيّد: رئيسهم ومفتيهم، واسمه: الأيهم. (4) العاقب: أمير القوم. واسمه: عبد المسيح.

ثمّ صالحوه على الجزية، وقالوا: ابعث معنا رجلا أمينا من أصحابك، فقال: «لأبعثنّ معكم [رجلا] أمينا حقّ أمين» ، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه، وقال: «هذا أمين هذه الأمّة» «1» . ومنهم: وفود (اليمن) ، فأسلموا، فقال: «أتاكم أهل (اليمن) ، هم أرقّ أفئدة، وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية» «2» وبعث معهم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعريّ رضي الله عنهما. وقدم عليه: كعب بن زهير رضي الله عنه، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه لشعر عرّض فيه بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأسلم واعتذر إليه ممّا كان منه، وأنشده في المسجد قصيدته المشهورة: (بانت سعاد) فقبل عذره وكساه بردته صلى الله عليه وسلم. وفيها-[أي: السّنة التّاسعة]-: كانت غزوة (تبوك) إلى (الشام) لقتال الرّوم، فخرج صلى الله عليه وسلم في سبعين ألفا من المسلمين، وخلّف على (المدينة) عليّا رضي الله عنه، فقال: أتخلّفني في الصّبيان والنّساء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» «3» /. فلمّا بلغ (تبوك) وهي أدنى بلاد الرّوم، أقام بها بضع عشرة ليلة، ولم يلق عدوّا، وصالح جملة من أهل تلك النّاحية على الجزية. ثمّ رجع إلى (المدينة) وجاءه المنافقون يعتذرون إليه لتخلّفهم

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4119) . عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4127) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. وتتمّته: «والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسّكينة والوقار في أهل الغنم» . (3) أخرجه مسلم، برقم (2404/ 31) . عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه.

عنه، وقد سمّاه الله: جيش العسرة، وحلفوا له بالكذب، فقبل عذرهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، ففضحهم الله تعالى بما أنزله في سورة براءة، كقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ [سورة التّوبة 9/ 75- 77] وغير ذلك، فسمّيت الفاضحة. وأمّا الثّلاثة الّذين خلّفوا وصدقوه، واعترفوا بأنّهم لا عذر لهم فخلّف أمرهم إلى قضاء الله تعالى فيهم، وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أميّة، ومرارة- بالضّم- ابن الرّبيع، فتاب الله عليهم، فسمّيت سورة التّوبة. وفيها-[أي: السّنة التّاسعة]- في رجب: نعى لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّجاشيّ «1» ، وصلّى عليه في المصلّى جماعة. وفي خاتمة هذه السّنة: [أي: السّنة التّاسعة]- أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يحجّ بالنّاس، فسار بهم، ثمّ بعث بعده عليّا رضي الله عنه ليبرأ من المشركين بصدر سورة براءة يوم الحجّ الأكبر، فنبذ إلى كلّ مشرك عهده. وفي السّنة العاشرة: حجّ صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع، وحجّ بأزواجه كلّهنّ، وبخلق كثير، فحضرها من الصّحابة أربعون ألفا رضي الله عنهم، فودّع [صلى الله عليه وسلم] النّاس وحذّرهم وأنذرهم، وقال: «إنّ الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم، كحرمة يومكم هذا، في

_ (1) واسمه: أصحمة.

شهركم هذا، في بلدكم هذا» ثمّ قال: «ألا هل بلّغت» قالوا: نعم. قال: «اللهمّ اشهد» «1» . ثمّ قفل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى (المدينة) فدخلها في أواخر ذي الحجّة، فلبث بها المحرّم وصفر. ثمّ أمر النّاس في أوّل ربيع بالجهاد إلى (الشّام) ، وأمّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهم، فأخذوا في جهازهم؟ فمرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم وثقل مرضه، فأقاموا ينتظرون أمره، فتوفّي صلى الله عليه وسلم لتمام عشر سنين من هجرته، في السّنة الحادية عشرة، ضحى يوم الاثنين، ثاني عشر من ربيع الأوّل، في الوقت واليوم والشّهر الّذي دخل فيه (المدينة) «2» ، ودفن يوم الثّلاثاء بعد العصر/ صلّى الله وسلّم عليه، وزاده فضلا وشرفا لديه. فهذا جملة ما اشتمل عليه كتابنا هذا ملخّصا من سيرته صلى الله عليه وسلم، من مولده إلى وفاته، وسيأتي ذلك مفصّلا في موضعه إن شاء الله تعالى، مع ذكر ما سبق ذكره ممّا اشتمل عليه الكتاب أيضا، كالخطبة البليغة السّابقة، وخطبة الجهاد اللّاحقة، والأحاديث الواردة في فضل الجهاد، وشرف (مكّة والمدينة) بلدي مولده ووفاته صلى الله عليه وسلم، وشرف نسبه، وماثر آبائه وحسبه، ومن بشّر به قبل ظهوره، إلى ما اشتمل عليه من قواعد الدّين الكلّيّة، كنسخ دينه صلى الله عليه وسلم لكلّ دين، وتفضيله على جميع النّبيّين والمرسلين، وجملة من معجزاته الباهرة، وفضائل الصّحابة رضي الله عنهم، ثمّ ذكر ما اشتمل عليه الكتاب أيضا من عباداته صلى الله عليه وسلم لربّه، وشكره له بلسانه

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1654) . عن أبي بكرة رضي الله عنه. (2) انظر تعليقنا على ذلك، ص 390.

وقلبه، صلّى الله عليه وسلم، وشرّف وكرّم ومجّد وعظّم. ولي من قصيدة مسمّطة «1» هذه الأبيات، [من الوافر] : ألا يا أيّها الحادي إذا ما ... أتيت قباب طيبة والخياما «2» فخيّم واقر ساكنها السّلاما ... وقبّل من منازله العتابا «3» هناك فهنّ نفسك بالوصول ... وقل يا نفس مأمولي وسولي رسول الله يا لك من رسول ... قفي وردي مناهله العذابا «4» ومرّغ حول ذاك القبر خدّا ... وقدّ مرائر الأشواق قدّا «5» ونح ممّا اقترفت أسى ووجدا ... لما اجترحت جوار حك اكتسابا «6»

_ (1) المسمّطّ من الشّعر: أبيات مشطورة تجمعها قافية واحدة. وأشهر أنواعه: المربّع؛ وهو أن يبتدئ الشّاعر قصيدته ببيت مصرّع، ثمّ يأتي بثلاثة أقسام على رويّ واحد، ثمّ يعيد قسما واحدا من مثل ما ابتد. به مقفّى. (2) الحادي: الّذي يسوق الإبل بالحداء. طيبة: اسم لمدينة الرّسول صلى الله عليه وسلم، يقال لها: طيبة وطابة؛ من الطّيب. وهي الرّائحة الحسنة لحسن رائحة تربتها فيما قيل. والطّاب والطّيب لغتان. وقيل: من الشّيء الطّيّب، وهو الطّاهر الخالص بخلوصها من الشّرك وتطهيرها منه. وقيل: لطيبها لساكنيها ولأمنهم ودعتهم فيها. وقيل: من طيب العيش بها، من طاب الشّيء؛ إذا وافق [معجم البلدان 4/ 53 (أنصاريّ) ] . (3) العتبة: خشبة الباب الّتي يوطأ عليها، وكلّ مرقاة. (4) المناهل: مفردها: منهل، وهو الموضع الّذي فيه المشرب. والورد: الإشراف على الماء وغيره. وأيضا: الماء الّذي يؤتى إليه. (5) مرّغ: قلّب ونزّه خدّك كي يكون لوجهك بريق وضياء. المرّة: مؤنث المرّ، ضد الحلوة. (ج) مرائر، على غير قياس. (6) اجترحت: اكتسبت.

وقل يا خير من ركب البراقا «1» ... وأكرم من علا السّبع الطّباقا أتيتك كي تحلّ لي الوثاقا ... ذنوبا قد دهت قلبي المصابا فأنت الشّافع المقبول حقّا ... وكم لك معجزات ليس ترقى قد اتّضحت لنا غربا وشرقا ... وأعيت كلّ ذي فهم حسابا أتتنا في ولادك كلّ بشرى ... غداة تساقط الأصنام قسرا «2» / وزلزل هيبة إيوان كسرى ... وأضحى عرش دولته خرابا وفي بضع السّنين شرحت صدرا ... وظلّلت الغمامة منك حرّا وجاءت معجزات منك تترى ... رأى الرّهبان منهنّ العجابا إلى أن أشرقت شمس اليقين ... تمام الأربعين من السّنين وأزهر كوكب الحقّ المبين ... ونجم الشّرك والبهتان غابا «3» أتاك الحقّ من ربّ العباد ... فقمت مشمّرا ساق الجهاد تبيّن للورى طرق الرّشاد ... وتتلو الوحي فيهم والكتابا بحقّك سل إلهك أن يكونا ... لنا عونا على الأعدا معينا ومن كلّ الأذى حصنا حصينا ... ويكفينا برحمته العذابا

_ (1) البراق: دابّة ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج. (2) قسرا: قهرا. (3) البهتان: كذب يبهت سامعه لفظاعته. (أنصاريّ) .

الباب الثاني في شرف مكة والمدينة بلدي مولده ونشاته ووفاته، وهجرته صلى الله عليه وسلم وشرف قومه ونسبه، وماثر آبائه وحسبه

الباب الثّاني في شرف مكّة والمدينة بلدي مولده ونشاته ووفاته، وهجرته صلى الله عليه وسلم وشرف قومه ونسبه، وماثر آبائه وحسبه أمّا شرف (مكّة والمدينة) اللّتين هما مهبط الوحي والتّنزيل: فأعلم- طهّر الله قلبي وقلبك، ووفر في هذا النّبيّ الكريم حبّي وحبّك- أنّ الله سبحانه وتعالى قد أكرم هذا النّبيّ الكريم بأصناف الكرامة، ووفر من كلّ خير أقسامه، واختار له من كلّ شيء خياره، وأعلى على جميع الأوّلين والآخرين مناره، فجعله خير الأنبياء، وأمّته خير الأمم، ولغته خير اللّغات، وكتابه خير الكتب، وقبيلته خير القبائل، وبلاده أفضل بلاد الله وأكرمها عليه وعلى عباده. [فضل مكة المكرمة] أمّا (مكّة) البلد الحرام، فقال الله تعالى في فضلها: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ. فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً الآية [سورة آل عمران 3/ 96- 97] . ومن الآيات البيّنات فيه: (الحجر الأسود) ، و (الحطيم) «1» ، وانفجار ماء زمزم بعقب جبريل عليه السّلام، وأنّ شربه شفاء للأسقام، وغذاء للأجسام، بحيث يغني عن الماء والطّعام. ومن فضلها: ما ثبت في الحديث الصّحيح؛ أنّ الصّلاة

_ (1) الحطيم: وهو حجر الكعبة؛ سمّي الحطيم بذلك لأنّ البيت ربّع وترك محطوما. ومكانه بين القوس الدّائري وجدار الكعبة من جهة الميزاب.

فائدة في فضل الصلاة في مكة على الصلاة في غيرها

/ الواحدة فيها- بل في سائر الحرم- بمئة ألف صلاة في غيرها سوى (المدينة) «1» . فائدة في فضل الصّلاة في مكّة على الصّلاة في غيرها حسب العلماء ذلك فبلغت صلوات اليوم واللّيلة ب (مكّة) في مدّة ثلاثة أيّام، وهي خمس عشرة صلاة، بألف ألف صلاة، وخمسين ألف ألف صلاة في غيرها، وذلك كصلوات نحو ألف سنة، فمن أقام ب (مكّة) ثلاثة أيّام وهي أقلّ ما يقيمه الحاجّ، يعبد الله، فكأنّه عبد الله في غيرها ألف سنة، وكأنّه عمّر عمر نوح عليه السّلام في طاعة الله تعالى. وهذه إحدى المنافع الّتي في قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ [سورة الحج 22/ 28] بصيغة الجمع، فما ظنّك بالوقوف والطّواف وغير ذلك، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [سورة الحديد 57/ 21] . وقال صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من (مكّة) بعد فتحها: «والله إنّك لخير أرض الله، وأحبّ أرض الله إلى [الله] ، ولولا أنّي أخرجت منك ما خرجت» ، رواه التّرمذيّ، وقال: حديث [حسن غريب] صحيح «2» . وكانت العرب في الجاهليّة تحترم (الحرم) بحيث يمشي القاتل

_ (1) أخرجه ابن ماجه في «سننه» ، برقم (1406) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي أفضل ألف صلاة فيما سواه، إلّا المسجد الحرام. وصلاة في مسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه» . (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3925) . عن عبد الله بن عديّ رضي الله عنه.

فضل المدينة المنورة

فيه مع وليّ المقتول، ويقف السّبع عن الظّبي ونحوه من الصّيد إذا دخل (الحرم) ، وذلك بدعاء إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، إذ قال: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ [سورة البقرة 2/ 126] . ومن فضلها: أنّها مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومسقط رأسه، ومنشأه، وأقام بها ثلاثا وخمسين سنة قبل هجرته. ومن فضلها: تحريمها المشار إليه بقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [سورة العنكبوت 29/ 67] وقوله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة القصص 28/ 57] . وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السّماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفّر صيده» الحديث، متّفق عليه «1» . [فضل المدينة المنوّرة] وأمّا (المدينة) الشّريفة: فهي دار الهجرة، وذات الرّوضة والحجرة. وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الإيمان ليأرز- أي: ينضمّ، بتقديم الرّاء على الزّاي- إلى (المدينة) ، كما تأرز الحيّة إلى جحرها» ، متّفق عليه «2» /. وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: « (المدينة) حرم من كذا إلى كذا- ولمسلم: «من عير إلى ثور» - لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث، من أحدث

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1510) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. لا يعضد شوكه: لا يقطع. لا ينفّر صيده: يزعج من مكانه أو يصاد. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (1777) . ومسلم، برقم (147/ 233) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. ليأرز: ينضمّ أهله ويجتمعون.

فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين» متّفق عليه «1» . وثور: جبل صغير خلف (أحد) من جهة الشّمال. «2» . ولأحمد: «ما بين عير إلى أحد» «3» وعير مقابل لأحد. وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: « (المدينة) تنفي النّاس كما تنفي الكير خبث الحديد» ، متّفق عليه «4» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1768) . عن أنس رضي الله عنه. ورواية مسلم، برقم (1370/ 467) ، عن إبراهيم التّيميّ، عن أبيه. (2) إنّ تعريف المؤلّف- رحمه الله تعالى- جبل ثور على هذا النّحو يتّفق مع الحقيقة الواقعيّة، وهو ما يتّفق مع قول الرّسول صلى الله عليه وسلم في تحديد حرم المدينة في الحديث الّذي أخرجه مسلم: «المدينة حرم ما بين عير وثور» . ولقد وهم أبو عبيد البكري في كتابه «معجم ما استعجم» ، وابن الأثير في كتابه «النّهاية في غريب الحديث» ، وياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان» بنكران وجود جبل بهذا الاسم في المدينة، وتأكيد وجوده في مكّة، وهو الجبل الّذي يحتوي على غار ثور الّذي أوى إليه الرّسول صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته إلى المدينة. والحقيقة الّتي لا لبس فيها؛ أنّ في حدود حرم مكّة جبلا بهذا الاسم، وفي حدود حرم المدينة جبل بالتّسمية ذاتها، ولذلك لا لزوم لكلّ التّأويلات الّتي أخذ بها بعضهم في شرح هذا الحديث. وقد أولى المرحوم محمّد فؤاد عبد الباقي هذا الموضوع كلّ العناية في البحث لدفع هذا الخطأ، وجاء بشتّى الأدلّة والأقوال الّتي تزيل الارتياب وتثبت الحقيقة معتمدا على ما أورده القدامى في هذا الموضوع، وما أخذ به المحدّثون في دراساتهم الطبوغرافيّة لحرمي مكّة والمدينة، ممّا يصحّ الرّجوع إليه. (أنصاريّ) . (3) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (616) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وليس عنده: «إلى أحد» . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (1772) . ومسلم برقم (1382/ 488) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

المفاضلة بين مكة والمدينة

وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يكيد أهل (المدينة) أحد إلّا انماع- أي: انذاب- كما ينماع الملح في الماء» ، متّفق عليه «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطّاعون ولا الدّجّال» ، متّفق عليه «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلّا المسجد الحرام» ، متّفق عليه «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة، ومنبري على حوضي» ، متّفق عليه «4» . [المفاضلة بين مكّة والمدينة] ولا خلاف بين العلماء في أنّ هذين البلدين أفضل بلاد الله على الإطلاق، وإنّما اختلفوا في أيّهما أفضل. والجمهور على تفضيل (مكّة) على (المدينة) ، إلّا موضع قبره الشّريف، فأجمعوا أنّه أفضل تربة في الأرض، لما ورد أنّ كلّا يدفن في تربته الّتي خلق منها «5» ، وهو صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، فتربته أفضل تربة في الأرض.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1778) . ومسلم برقم (1387/ 494) . عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (1781) . ومسلم برقم (1379/ 485) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. أنقاب: (جمع تلّة للنقب) ؛ وهو الطّريق بين الجبلين. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (1133) . ومسلم برقم (1394/ 505) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (1138) . ومسلم برقم (1391/ 502) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (5) والّذي ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما قبض نبي إلّا دفن حيث يقبض» . أخرجه ابن ماجه برقم (1628) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

وأفضل موضع في (مكّة) : (الكعبة) ، ثمّ (المسجد) ، ثمّ (دار خديجة) رضي الله عنها، لأنّه أقام فيها نحو ثمانية وعشرين عاما. وما أحسن قول القاضي عياض- رحمه الله تعالى- في وصف تلك الرّياض- أعني (مكّة والمدينة) -: (وجدير بمواطن عمّرت بالوحي والتّنزيل، وتردّد في عرصاتها «1» جبريل، وعرجت منها الملائكة والرّوح، وضجّت فيها بالتّقديس والتّسبيح، [وانتشر عنها من دين الله وسنّة رسوله ما انتشر] ، مدارس وآيات، ومشاهد الفضل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، ومناسك الدّين، ومواقف سيّد المرسلين، حيث انفجرت النّبوّة/ والرّسالة، وفاض عبابها «2» ، وأوّل أرض مسّ جلد المصطفى ترابها؛ أن تعظّم عرصاتها، وتتنسّم «3» نفحاتها، وتقبّل ربوعها وجدرانها) «4» . وقال القاضي عياض- رحمه الله تعالى- في معنى ذلك شعرا، [من الكامل] «5» : يا دار خير المرسلين ومن به ... هدي الأنام وخصّ بالآيات

_ (1) العرصات: (جمع عرصة) ؛ وهي كلّ موضع واسع لا بناء فيه. (أنصاريّ) . (2) العباب: كثرة الماء والسّيل. (3) تنسّم: طلب النّسيم واستنشقه. (أنصاريّ) . (4) الشّفا، ج 2/ 132- 133. (5) وروي أنّ القاضي عياضا- رحمه الله تعالى- لم يحج ولم يزره صلى الله عليه وسلم، فقال هذه الأبيات متحسّرا.

عندي لأجلك لوعة وصبابة ... وتشوّق متوقّد الجمرات «1» وعليّ عهد إن ملأت محاجري ... من تلكم الجدران والعرصات «2» لأعفّرنّ مصون شيبي بالثّرى ... من كثرة التّقبيل والرّشفات «3» لكن سأهدي من حفيل تحيّتي ... لقطين تلك الدّار والحجرات «4» أذكى من المسك المعنبر نفحة ... تغشاه بالآصال والبكرات «5» وأمّا شرف قومه ونسبه، وماثر آبائه وحسبه صلى الله عليه وسلم فهي دوحة شرف، أصلها ثابت وفرعها في السّماء، وعمود نبوّة يصدع بنوره حجاب الظّلماء. وقد قال الله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة التّوبة 9/ 128] . ومعنى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ- بضم الفاء- أي: منكم، ومِنْ أَنْفُسِكُمْ- بفتحها- أي: من خياركم.

_ (1) اللّوعة: حرقة في القلب، وألم يجده الإنسان من حبّ أو همّ أو حزن. الصّبابة: رقّة الشّوق وحرارته. (2) المحجر: ما أحاط بالعين. (3) التّعفير: التّمريغ بالعين. الرّشفات: جمع رشفة- وهي مصّ الريق. وفسّر هنا بالتّقبيل. (4) الحفيل: بمعنى كثير. (5) في «الشفا» : المفتّق.

النسب الأكبر لنبينا صلى الله عليه وسلم

قال العلماء: لم تكن قبيلة من العرب إلّا ولها وصلة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، إمّا ولادة أو قرابة. وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت من خير قرون بني آدم، قرنا فقرنا، حتّى كنت من القرن الّذي كنت فيه» ، رواه البخاريّ «1» . وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» ، رواه التّرمذيّ، وقال: حديث [حسن] صحيح «2» . [النسب الأكبر لنبينا صلى الله عليه وسلم] قال البخاريّ: (وهو صلى الله عليه وسلم أبو القاسم محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف- أي: بفتح الميم- بن قصيّ- أي: بضمّ القاف مصغّرا- ابن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ- أي: مصغّرا- ابن غالب بن فهر- أي: بكسر الفاء- ابن مالك بن النّضر- أي: بضاد معجمة- ابن كنانة بن خزيمة- أي: مصغّرا بالمعجمتين- ابن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان) «3» /. قلت: وهذا النّسب متّفق عليه بين العلماء، وفيما بعده- من عدنان إلى إسماعيل بن إبراهيم، ثمّ من إبراهيم إلى نوح، ثمّ من نوح إلى آدم عليهم السّلام- اختلاف وزيادة ونقصان.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3364) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3605) . عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. (3) ذكره البخاريّ في «الصّحيح» ، كتاب فضائل الصّحابة، باب: مبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم، (57) .

وروى ابن سعد في «طبقاته» : أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معدّ بن عدنان بن أدد ثمّ يمسك ويقول: «كذب النّسّابون» ويقول: قال الله تعالى وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [سورة الفرقان 25/ 38] «1» . قال العلماء: وبطون قريش هم ولد النّضر بن كنانة، وهم قومه الّذين شرّفهم الله به في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [سورة الزّخرف 43/ 44]- أي: ثناء وشرف- وهم عشيرته الأقربون في قوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [سورة الشّعراء 26/ 214] لما في «صحيحي البخاريّ ومسلم» أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا نزلت هذه صعد على الصّفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عديّ، يا بني عبد مناف- لبطون قريش-: اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا» الحديث «2» . واتّفق أهل الجاهليّة والإسلام على أنّ قريشا أفضل العرب، وأنّ بني عبد مناف أفضل قريش، وأنّ بني هاشم أفضل بني عبد مناف، وأنّه صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم، وفي ذلك يقول عمّه أبو طالب، [من الطّويل] «3» : إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرّها وصميمها «4»

_ (1) ابن سعد، ج 1/ 56. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (2602) . ومسلم برقم (206) . عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه. (3) ابن هشام، ج 1/ 269. (4) سرّها: وسطها. صميمها: خالصها.

صفة عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله ص

وإن حصّلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها وقديمها وإن فخرت يوما فإنّ محمّدا ... هو المصطفى من سرّها وكريمها [صفة عبد الله بن عبد المطّلب والد رسول الله ص] قال علماء السّير: وكان عبد الله بن عبد المطّلب والد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنهد فتى في بني هاشم- أي: أرفعهم وأصبحهم- وجها، وأحسنهم خلقا وخلقا، وكان نور النّبيّ صلى الله عليه وسلم يلوح في وجهه، وهو أوّل من فدي بمئة من الإبل كما سيأتي. [صفة عبد المطّلب جد رسول الله ص] وأمّا عبد المطّلب فاسمه: شيبة الحمد «1» ، وإنّما سمّي عبد المطّلب لأنّ عمّه المطّلب بن عبد مناف أخذه من أمّه سلمى الأنصاريّة النّجاريّة، فقدم به (مكّة) يردفه خلفه، وكان/ أسمر اللّون، فظنّ النّاس أنّه عبد اشتراه المطّلب، فقالوا: قدم المطّلب بعبد، فلزمه ذلك الاسم، وكان شريفا في قومه، مبجّلا عندهم، معظّما، يوضع له بساط في ظلّ (الكعبة) ، لا يجلس عليه غيره، وكانوا يسمّونه: الفيّاض؛ لسماحته وكرمه، وله منقبتان عظيمتان، وهما: حفر بئر زمزم، وإهلاك أصحاب الفيل. [حفر بئر زمزم، ونذر عبد المطّلب بذبح ولده عبد الله] أمّا بئر زمزم: فإنّها كانت قد دفنتها السّيول، واندرس أثرها، فرأى عبد المطّلب في نومه من نبّهه عليها، فلمّا أراد حفرها حسدته بطون قريش، وهمّوا أن يمنعوه، فكفاه الله شرّهم، فنذر لئن رزقه الله عشرة من الولد يمنعونه؛ أن يتقرّب إلى الله تعالى بذبح أحدهم، فلمّا تمّ العدد عشرة أعلمهم بنذره، فقالوا له: اقض فينا أمرك

_ (1) سمّي بذلك لأنه كان في رأسه شيبة. [تاريخ الطّبري 2/ 246. (أنصاريّ) ] .

أصحاب الفيل وما جرى لهم

وأوف بنذرك، فأسهم بينهم، فخرج السّهم على عبد الله، فلمّا أراد أن يذبحه منعته قريش، لئلّا يكون فيهم سنّة، فأفتاه كاهن أن يسهم عليه وعلى عشر من الإبل- وكانت العشر عندهم دية الرّجل- ففعل، فخرج السّهم على عبد الله، فقال له الكاهن: زد عشرا، فإنّ ربّك لم يرض، فزاد عشرا، فخرج السّهم على عبد الله، فقال: زد عشرا، فزاد عشرا، فلم يزل يخرج السّهم على عبد الله، حتّى بلغ العدد مئة، فخرج السّهم على الإبل، فقال له: أعد القرعة، فأعادها، فخرج السّهم على الإبل، ثمّ أعادها فخرج على الإبل، فقال له: قد رضي ربّك، فانحرها فداء عن ابنك، ففعل، فاستمرّت الدّية في قريش مئة من الإبل، ثمّ جاء الشّرع فقرّرها دية لكلّ مسلم من المسلمين. [أصحاب الفيل وما جرى لهم] وأمّا أصحاب الفيل: فإنّ الحبشة لمّا ملكت (اليمن) وعليهم أبرهة الأشرم، وكانوا بنوا كنيسة ب (صنعاء) كالكعبة، وصرفوا حجّاج (الكعبة) إليها، فدخلها ليلا رجال من قريش ولطّخوها بالعذرة «1» وهربوا، فلمّا علم بذلك أبرهة عزم على هدم (الكعبة) ، فتجهّز في جيش عظيم، فلمّا شارف (مكّة) أغار على سرحها «2» ، فاستاق أموال قريش، ونزل ب (عرفة) ، فخرج إليه عبد المطّلب، فلمّا رآه أبرهة نزل له/ عن سرير ملكه إجلالا له، وسأله عن حاجته، فذكر أنّ له نحو مئة من الإبل فردّها عليه، فقيل لعبد المطّلب: هلّا كلمته في الانصراف عن (الكعبة) ؟ فقال: أنا ربّ إبلي، والكعبة لها ربّ يحميها.

_ (1) العذرة: الغائط. (2) السّرح: الماشية من الغنم والإبل.

وامتاز بقريش إلى رؤوس الجبال، وجعل يدعو الله ويقول، [من مجزوء الكامل] «1» : لا همّ إنّ [المرء] يمن ... ع رحله فامنع حلالك «2» لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك «3» محالك، أي: مكرك، ومنه: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ [سورة الرّعد 13/ 13]- ثمّ سار أبرهة إلى (مكّة) ، فلمّا كانوا ب (محسّر) «4» - بمهملات، وهو واد بين (عرفة ومزدلفة) - نكص الفيل على عقبيه، فردّوه فأبى، فأدخلوا الحديد في أنفه حتّى خرموه، فلم يساعدهم على التّوجّه إلى (مكّة) . فبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرا، يحمل كلّ طير منها ثلاثة أحجار صغار؛ حجرين بين رجليه، وحجرا في منقاره، إذا وقعت الحجارة على رأس أحدهم خرجت من دبره، فأهلكهم الله جميعا.

_ (1) ابن هشام، ج 1/ 50. (2) لا همّ: أصلها اللهمّ. حلالك: جمع حلة: وهي جماعة البيوت، والمراد هنا: القوم الحلول. والحلال أيضا: متاع البيت، وجائز أن يكون هذا المعنى الثاني مرادا هنا. (ابن هشام، ج 1/ 51) . (3) غدوا: غدا. وهي اليوم الّذي يأتي بعد يومك، فحذفت لامه، ولم يستعمل تامّا إلّا في الشّعر. (ابن هشام، ج 1/ 51) . (4) محسّر: واد صغير يأتي من الجهة الشرقية لثبير الأعظم من طرف ثقبة، ويذهب إلى وادي عرنة، فإذا مرّ بين منى ومزدلفة كان الحد بينهما. (معالم مكّة ص 248) .

خبر هاشم:

وفي ذلك أنزل الله على نبيّه صلى الله عليه وسلم مذكّرا له بنعمته عليه وعلى قومه، لأنّه كان يومئذ حملا «1» ، وولد بعد الفيل بخمسين ليلة: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ- أي: إبطال- وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ- أي: عصبا عصبا- تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ- أي: من قعر جهنّم، وهو أيضا سجّين- فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ- أي: كزرع أكلته البهائم-[سورة الفيل] . ومن يومئذ احترمت النّاس قريشا، وقالوا: هم جيران الله، يدافع عنهم. [خبر هاشم:] وأمّا هاشم: فاسمه عمرو، وإنّما سمّي هاشما لكثرة إطعامه الثّريد في المجاعة، وفيه يقول الشّاعر، [من الكامل] «2» : عمرو الّذي هشم الثّريد لقومه ... ورجال مكّة مسنتون عجاف «3» وبلغ في الكرم مبلغا عظيما حتّى إنّه كان يطعم الوحش والطّير، فينحر لها في رؤوس الجبال، وكان إذا وقع القحط جمع أهل (مكّة) وأمر الموسرين منهم/ بالإنفاق على فقرائهم، حتّى يأتي الله بالغيث. ثمّ إنّه وفد (الشّام) على قيصر فأخذ منه كتابا بالأمان لقريش، وأرسل أخاه المطّلب إلى (اليمن) ، فأخذ من ملوكهم كتابا أيضا، ثمّ أمر تجّار قريش برحلتي الشّتاء والصّيف، فكانوا يرحلون في

_ (1) أي عندما كان حملا في بطن أمّه. (2) من قول عبد الله بن الزبعرى. (3) المسنتون: الّذين أصابتهم السّنة، وهي الجوع والقحط. العجاف: الضّعف والهزال. (ابن هشام، ج 1/ 136) .

خبر عبد مناف:

الصّيف إلى (الشّام) لشدّة بردها، وفي الشّتاء إلى (اليمن) ، فاتّسعت من يومئذ معيشتهم بالتّجارة، وأنقذهم الله من الخوف والجوع ببركة هاشم. وفي ذلك أيضا أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ- أي: لإنعام الله على قريش بإيلافهم- إِيلافِهِمْ- أي: اعتيادهم- رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ- أي: الكعبة- الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [سورة قريش] . [خبر عبد مناف:] وأمّا عبد مناف: فكان يسمّى قمر البطحاء لصباحته، وهو الّذي قام مقام أبيه قصيّ بالسّيادة وسقاية الحاج، وقام أخوه عبد الدّار بسدانة البيت والرّفادة- أي: إطعام الحجيج في (دار النّدوة) الّتي بناها قصيّ- وأخوه عبد العزّى بالات الحرب من السّلاح والكراع «1» ، بوصيّة إليهم من أبيهم قصي. [خبر قصيّ:] وأمّا قصيّ: فكان يسمّى مجمّعا، لأنّه أوّل من جمع قريشا من البوادي إلى سكنى (مكّة) ، وأخرج خزاعة منها، وفيه يقول الشّاعر، [من الطّويل] «2» : أبوكم قصيّ كان يدعى مجمّعا ... به جمع الله القبائل من فهر وذلك أنّ سيّد خزاعة شرب ليلة مع جماعة فنفد شرابه، فقال: من يشتري منّي سدانة البيت بزقّ خمر «3» ، فاشتراها قصي وأشهد

_ (1) الكراع: اسم يجمع الخيل والسّلاح. (2) هو من قول حذاقة بن جمح. (ابن هشام، ج 1/ 126) . (3) الزّقّ: وعاء من جلد يجزّ شعره ولا ينتف، للشراب وغيره.

صفة آبائه ص

عليه «1» ، وفي ذلك يقول الشّاعر، [من البسيط] : باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت ... بزقّ خمر فبئست صفقة البادي باعت سدانتها للبيت وانتقلت ... عن المقام وظلّ البيت والنّادي [صفة آبائه ص] وآباؤه صلى الله عليه وسلم كلّهم سادات، ما منهم أحد إلّا وهو سيّد قومه في عصره، من أبيه عبد الله إلى آدم عليه السّلام، كما قيل، [من الكامل] «2» : فأولئك السّادات لم تر مثلهم ... عين على متتابع الأحقاب زهر الوجوه كريمة أحسابهم ... يعطون سائلهم بغير حساب / لم يعرفوا ردّ العفاة وطالما ... ردّوا أعاديهم على الأعقاب حلموا إلى أن لا تكاد تراهم ... يوما على ذي هفوة بغضاب وتكرّموا حتّى أبوا أن يجعلوا ... بين العفاة وبينهم من باب كانت تعيش الطّير في أكنافهم ... والوحش حين يشحّ كلّ سحاب وكفاهم أنّ النّبيّ محمّدا ... منهم فمدحهم بكلّ كتاب

_ (1) الرّوض الأنف، ج 2/ 32. (2) سبل الهدى والرّشاد، ج/ 281.

الباب الثالث في ذكر من بشر به قبل ظهوره، وما أسفر قبل بزوغ شمس نبوته من صبح نوره صلى الله عليه وسلم

الباب الثّالث في ذكر من بشّر به قبل ظهوره، وما أسفر قبل بزوغ شمس نبوّته من صبح نوره صلى الله عليه وسلّم قال علماء السّير: وقد بشّر به صلى الله عليه وسلم جميع النّبيين عليهم الصّلاة والسّلام عموما. قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [سورة آل عمران 3/ 81] . روى علماء التّفسير في معناها، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أنّه قال: (الرّسول هو محمّد صلى الله عليه وسلم، ما بعث الله نبيّا من لدن آدم إلّا أخذ له عليه الميثاق لئن بعث محمّد وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه) «1» ؛ إعلاما لهم بعلوّ قدره، مع علمه سبحانه أنّه أخرهم بعثا. وذكر جماعة من علماء التّفسير في قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة 2/ 37] : أنّ آدم توسّل بمحمّد- عليهما الصّلاة والسّلام- إلى ربّه في غفران ذنبه، فغفر له «2» .

_ (1) تفسير الطّبريّ، ج 6/ 555. (2) انظر تفسير الآية في «تفسير القرطبي» .

عيسى عليه الصلاة والسلام يبشر به صلى الله عليه وسلم

[عيسى عليه الصّلاة والسّلام يبشّر به صلى الله عليه وسلم] وبشّر به عيسى عليه الصّلاة والسّلام خصوصا، قال الله تعالى: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصّف 61/ 6] «1» . [كعب بن لؤيّ يبشر به] وممّن بشّر به من غير النّبيّين جدّه كعب بن لؤيّ. قال علماء السّير: كان كعب بن لؤيّ متمسّكا بدين إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، مصدّقا ببعثة محمّد صلى الله عليه وسلم، وهو الّذي سمّى يوم الجمعة جمعة، وكانت تسمّيه العرب: العروبة- بعين وراء مهملتين- لأنّه كان يجمّع النّاس في يومها بعد الزّوال، يخطبهم، ويعظهم، ويبشّرهم ببعثة محمّد صلى الله عليه وسلم فيهم، ويقول: يا أيّها النّاس، الدّار والله أمامكم، والظّنّ خلاف ظنّكم، فزيّنوا حرمكم وعظّموه/، وتمسّكوا به ولا تفارقوه، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبيّ كريم، ثمّ ينشد، [من الطّويل] «2» : نهار وليل واختلاف حوادث ... سواء علينا حلوها ومريرها على غفلة يأتي النّبيّ محمّد ... فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها [تبّع يبشّر به صلى الله عليه وسلم] وممّن بشّر به صلى الله عليه وسلم تبّع أسعد الكامل الملك الحميريّ.

_ (1) أخرج ابن سعد، ج 1/ 363، بسنده عن عائشة رضي الله عنها، قالت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل: (لافظّ ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح) . (2) دلائل النّبوّة، ج 1/ 106.

عبد المطلب يبشر به صلى الله عليه وسلم

قال اهل السّير: كان تبّع أسعد الكامل أراد أهل (المدينة النّبويّة) بسوء، مكيدة كاده بها بعض أعدائه ليهلكه، فأخبره الأحبار أنّها دار هجرة محمّد صلى الله عليه وسلم المبعوث في آخر الزّمان، فانصرف عنهم، ثمّ قرأ التّوراة وتعرّف فيها صفة محمّد صلى الله عليه وسلم، فصدّق بمبعثه، وكان يقول، [من المتقارب] «1» : شهدت على أحمد أنّه ... رسول من الله باري النّسم فلو مدّ عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عمّ [عبد المطّلب يبشّر به صلى الله عليه وسلم] وممّن بشّر به صلى الله عليه وسلم جدّه عبد المطّلب. قال علماء السّير: إنّ عبد المطّلب كان قد اطّلع على عجائب من أمر محمّد صلى الله عليه وسلم، فرآى في المنام أنّ سلسلة من فضّة خرجت من ظهره، لها طرف في السّماء وطرف في الأرض، وطرف بالمشرق وطرف بالمغرب، فبينما هو متعجّب من الأمر المغرب «2» ، إذ بها قد عادت كأنّها شجرة عظيمة مورقة، وعلى كلّ ورقة منها نور مشرق، وقد تعلّق بها أهل المغرب والمشرق، فأوّلت له بمولود يخرج من صلبه يحمده أهل السّماوات في كلّ صنيع، وينقاد له أهل الأرض انقياد مطيع. وذكروا أنّ عبد المطّلب رآه مرّة حبر من الأحبار، فقال له: إنّ في أحد منخريك لملكا، وفي الآخر نبوّة «3» . [حجب الشّياطين عن استراق السّمع عند قرب مبعثه صلى الله عليه وسلم] ومن المبشّرات به صلى الله عليه وسلم ما اتّفق عليه علماء التّفسير: أنّ الشّياطين منعت قبيل مولده من استراق السّمع.

_ (1) البداية والنّهاية، ج 2/ 130. (2) الخبر المغرب: الّذي جاء غريبا حادثا طريفا. (3) دلائل النّبوّة، ج 2/ 780.

ارتجاج إيوان كسرى ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم

[ارتجاج إيوان كسرى ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم] وما ظهر ليلة مولده من ارتجاس «1» إيوان كسرى، وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته، وخمود نار فارس الّتي يعبدونها، وما خمدت منذ ألف عام. ورؤيا الموبذان- بفتح الموحّدة وبذال معجمة- وهو عالم الفرس «2» /: رأى إبلا صعابا «3» تقود خيلا عرابا «4» ، قد قطعت (دجلة) وانتشرت في بلادها، فخاف [كسرى] أن يكون ذلك لفساد دولته وخرابها. فأرسل عبد المسيح إلى خاله سطيح الكاهن ب (الشّام) فوجده قد أشفى على الموت، فلمّا أحسّ به سطيح، قال: عبد المسيح، على جمل مشيح- أي: ضامر، بشين معجمة- أرسلك ملك بني ساسان، ليسأل عن ارتجاس الإيوان، وخمود النّيران، ورؤيا الموبذان؟ يا عبد المسيح: إذا كثرت التّلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي سماوة، فليست (الشّام) لسطيح شاما، ولا مقام (العراق) لكسرى وقومه مقاما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد السّاقط من الشّرفات، وكلّ ما هو آت آت. ثمّ قضى سطيح مكانه، بعد ما أبان من أمر ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبانه «5» .

_ (1) في الأصل: ارتجاج، وهو تصحيف. ارتجس: اضطرب وتحرّك حركة سمع لها صوت. [النّهاية، ج 2/ 201 (أنصاريّ) ] . (2) الموبذان: هو للمجوس كقاضي القضاة للمسلمين. (3) صعابا: شديدة. (4) عرابا: خيل عربية. (5) دلائل النّبوّة، ج 1/ 126.

عيصا يبشر به صلى الله عليه وسلم

[عيصا يبشّر به صلى الله عليه وسلم] وممّن بشّر به ما ذكره علماء السّير: أنّه كان حول (مكّة) راهب يقال له: عيصا- بمهملتين بينهما تحتيّة- وكان قد أحرز علما كثيرا، وأنّه كان يدخل (مكّة) كلّ موسم، فيقوم مبشّرا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (يا معشر قريش، إنّه سيظهر فيكم نبيّ تدين له العجم والعرب، وهذا وقت ظهوره قد اقترب) . فلمّا كان في اللّيلة الّتي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عبد المطّلب طائفا ب (الكعبة) ، فرأى إسافا ونائلة «1» - وهما صنمان عظيمان- قد سقطا، فأذهله ذلك الشّأن، وجعل يمسح عينيه، ويقول: أنائم أنا أم يقظان؟ فلمّا أخبر بالمولود علم أنّ ذلك من أجله، لما كان قد رأى من الدّلائل من قبله، فخرج من الغد، فوقف تحت صومعة عيصا وناداه، فلمّا رآه أكرمه وفدّاه «2» ، وقال له: (كن أباه، كن أباه، قد طلع نجمه البارحة، وظهر سناه، وقد كنت أحبّ أن يكون منكم، وقد كان، وعلامة ذلك أنّه يشتكي من بطنه ثلاثة أيّام، ثمّ يعافى من كلّ الأسقام، فاحفظه من اليهود فإنّهم أعداؤه، وقد تحقّقت عندهم صفاته) «3» . [سيف بن ذي يزن يبشّر به صلى الله عليه وسلم] وممّن بشّر به صلى الله عليه وسلم بعد مولده: سيف بن ذي يزن، الملك الحميريّ، وذلك أنّ عبد المطّلب وفد عليه في السّنة الثّامنة من مولد/ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى (صنعاء) يهنّئه بظفره ب (الحبشة) لمّا أزالهم الله من (اليمن) ، فأكرمه وأجلسه على سرير ملكه، وأعطاه عطايا

_ (1) إساف ونائلة: صنمان كانا لقريش، وضعهما عمرو بن لحيّ على الصّفا والمروة، وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة. (2) أي قال له: جعلت فداك. (3) مختصر تاريخ دمشق، ج 2/ 50- 51.

الراهب بحيرا يبشر به صلى الله عليه وسلم

جزيلة، وأخبره أنّه يجد في الكتب القديمة أنّ هذا أوان وجود النّبيّ الأمّيّ العربيّ القرشيّ الهاشميّ، وأنّ صفته كذا وكذا، فأخبره عبد المطّلب أنّ عنده غلاما بتلك الصّفة، فأوصاه به، وحذّره من كيد اليهود والنّصارى. فمات عبد المطّلب في تلك السّنة. [الرّاهب بحيرا يبشّر به صلى الله عليه وسلم] وممّن بشّر به صلى الله عليه وسلم: بحيرا الرّاهب- بفتح الموحّدة وكسر المهملة ممدودا- وذلك أنّ عمّه أبا طالب خرج به إلى (الشّام) في السّنة الثّانية عشرة من ولادته صلى الله عليه وسلم، فلمّا بلغوا (بصرى) من أرض (الشّام) رآه الرّاهب المذكور معهم، فعرفه بصفاته المذكورة عنده في الإنجيل، فأمر أبا طالب أن يردّه، وناشده الله في ذلك خوفا عليه من كيد اليهود والنّصارى، فرجع به، وزوّده الرّاهب شيئا من الكعك والزّبيب. [ثني بحيرا نفرا من النّصارى عن قتل الرّسول صلى الله عليه وسلم] وروى التّرمذيّ في «جامعه» أنّ نفرا من النّصارى أتوا بحيرا الرّاهب بعد رجوع أبي طالب بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنّا خرجنا في طلب النّبيّ الأمّيّ، وإنّا وجدنا في كتبنا أنّه يمرّ بطريقك هذه في هذا الشّهر، وإنّا نريد قتله، فذكّرهم الله وقال: (أرأيتم أمرا يريد الله أن يقضيه أيقدر أحد أن يردّه؟ قالوا: لا، وانصرفوا عنه) «1» . [الرّاهب نسطور يبشّر به صلى الله عليه وسلم] ثمّ بشّر به صلى الله عليه وسلم: نسطور الرّاهب- بمهملات مع فتح النّون- وذلك أنّه صلى الله عليه وسلم خرج في سنة خمس وعشرين من مولده مع ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها، في تجارة لها، فلمّا نزل الرّكب بقرب صومعة «2» الرّاهب المذكور، نزل إليهم منها، وكان لا ينزل لأحد، وطاف فيهم حتّى رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فعرف فيه علامات

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3620) . عن أبي موسى رضي الله عنه. (2) الصّومعة: بيت للنّصارى، كالصّومع؛ لدقّة في رأسها. (أنصاريّ) .

قس بن ساعدة الإيادي يبشر به صلى الله عليه وسلم

النّبوّة، فأكرمه، وأضافهم لأجله، وعرّفهم أنّه نبيّ هذه الأمّة، وأنّه خاتم النّبيّين، وقال له: احذر على نفسك من كيد اليهود والنّصارى، وأوصى ميسرة به، فقيل له: كيف عرفت أنّه فينا؟ قال: إنّكم لمّا أقبلتم لم يبق شجر ولا حجر إلّا وسجد إلى جهتكم/، وكان ميسرة يقول: (كان إذا اشتدّ الحرّ ظلّلته غمامة، تسير معه أينما سار) . فلمّا رجعا من (الشّام) أخبر ميسرة خديجة بما رآه من كرامته صلى الله عليه وسلم، وصدقه، وأمانته صلى الله عليه وسلم، وما أخبر به الرّاهب، وما رآه من تظليل الغمامة له، وغير ذلك، فرغبت خديجة في نكاحه، فخطبته إلى نفسها، وكان كلّ من أشراف قومها حريصا على ذلك، فتزوّج بها صلى الله عليه وسلم «1» . [قسّ بن ساعدة الإياديّ يبشّر به صلى الله عليه وسلم] ثمّ بشّر به صلى الله عليه وسلم: قسّ بن ساعدة. وقد روى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قصّته؛ أنّه كان يقوم بسوق عكاظ خطيبا، فقام مرّة والنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حاضران، فقال: (يا أيّها النّاس، إنّ لله دينا هو خير من دينكم الّذي أنتم عليه، وإنّ لله نبيّا قد حان [حينه، وأظلّكم] «2» أوانه، [فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه وعصاه] «2» ، فبادروا إليه. فعمّا قليل، وقد ظهر النّور، وبطل الزّور، وبعث الله محمّدا بالحبور، صاحب النّجيب الأحمر «3» ، والتّاج والمغفر «4» ، والوجه الأزهر، [والحجاب الأنور، والطّرف الأحور] ، وصاحب

_ (1) ابن هشام، ج 1/ 188. (2) التكملة عن «عيون الأثر» ، ج 1/ 88. (أنصاريّ) . (3) النّجيب: مفرد النّجائب؛ وهي خيار الإبل. (4) المغفر: الخوذة الّتي توضع على الرّأس لتقي من الضّربات.

زيد بن عمرو بن نفيل يبشر به صلى الله عليه وسلم

شهادة أن لا إله إلّا الله، فذلكم محمّد المبعوث إلى الأسود والأحمر «1» ؛ [أهل المدر والوبر] ) «1» . [زيد بن عمرو بن نفيل يبشّر به صلى الله عليه وسلم] ثمّ بشّر به صلى الله عليه وسلم قبيل مبعثه: زيد بن عمرو بن نفيل، وكان خرج يلتمس دين إبراهيم- كما رواه البخاريّ في «صحيحه» - فأخبره آخر الأحبار إنّه لم يبق أحد عليه، وأنّه قد أظلّ زمان خروج النّبيّ الأمّيّ ب (مكّة) . فرجع واجتمع به النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرارا، وكان يقول: (اللهمّ إنّي أعبدك وحدك، وأدين لك بدين إبراهيم، ولا أعرف كيف أعبدك؟!) . وله أشعار في التّوحيد. ومات شهيدا رحمه الله تعالى «2» . وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يترحّم عليه، ويقول: «إنّه يبعث أمّة وحده» «3» . [سلمان الفارسيّ يبشّر به صلى الله عليه وسلم] وممّن بشّر به صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه: سلمان الفارسيّ رضي الله عنه، وكان يتنقّل من حبر إلى حبر، حتّى قال له آخرهم عند موته: إنّه لم يبق أحد على دين الحقّ، ولكن قد آن خروج النّبيّ الأمّيّ ب (مكّة) ، وعرّفه بصفاته. فخرج مع ركب إليها، فأخذه قطّاع الطّريق، فباعوه إلى يهود (المدينة) ، فلم يزل بها إلى أن هاجر إليها النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فعرف الصّفات الّتي فيه فامن/ رضي الله عنه به، وصدّقه، إلى أن سعى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في مكاتبته بما سيأتي في معجزاته صلى الله عليه وسلم «4» . [ورقة بن نوفل يبشّر به صلى الله عليه وسلم] وممّن عرفه بصفاته: ورقة بن نوفل بن أسد، ابن عمّ خديجة

_ (1) عيون الأثر، ج 1/ 69. (2) دلائل النّبوّة، ج 2/ 122. (3) أخرجه البيهقي في «دلائل النّبوّة» ، ج 2/ 125- 126. عن زيد بن حارثة رضي الله عنهما. (4) ابن هشام، ج 1/ 219. المستدرك، ج 3/ 601- 603.

رضي الله عنها، على ما في أوّل «صحيح البخاريّ» ، وكان قد تنصّر وقرأ الإنجيل، فلمّا نزل جبريل على محمّد صلى الله عليه وسلم بالوحي، ذهبت به خديجة إلى ورقة، فتحقّق أنّه النّبيّ الأمّيّ الّذي بشّر به عيسى عليه السّلام، فامن به وصدّقه، وأخبره أنّ قومه سيخرجونه من (مكّة) ، وتمنّى أن يكون حاضرا يومئذ لينصره نصرا مؤزّرا. ومن شعره في ذلك، [من الوافر] «1» : لججت وكنت في الذّكرى لجوجا ... لهمّ طالما بعث النّشيجا «2» ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا بأنّ محمّدا سيسود فينا ... ويخصم من يكون له حجيجا فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا «3» فيا ليتي إذا ما كان ذاكم ... [شهدت] فكنت أوّلهم ولوجا ولوجا في الّذي كرهت قريش ... ولو عجّت بمكّتها عجيجا «4» ثمّ إنّه لم يلبث أن مات- رحمه الله تعالى-.

_ (1) ابن هشام، ج 1/ 191- 192. (2) النّشيج: بكاء مع صوت. (3) الفلوج: الغلبة على الخصم. (4) عجّت عجيجا: ارتفعت أصواتها.

الباب الرابع في ذكر مولده الشريف، ورضاعته ونشأته إلى حين أوان بعثته صلى الله عليه وسلم

الباب الرّابع في ذكر مولده الشّريف، ورضاعته ونشأته إلى حين أوان بعثته صلى الله عليه وسلّم [مولده صلى الله عليه وسلم وتاريخه ومكان ولادته] قال علماء السّير: ولد النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ربيع الأوّل، يوم الاثنين بلا خلاف. ثمّ قال الأكثرون: ليلة الثّاني عشر منه. وقال بعضهم: العاشر. وقال آخرون: الثّامن. وذلك ب (مكّة) المشرّفة، في شعب أبي طالب «1» ، وهو المكان الّذي يجتمع فيه أهل (مكّة) ليلة المولد الشّريف، للذّكر والدّعاء والتّبرّك بمسقط رأسه صلى الله عليه وسلم «2» . وأفتى جماعة من المتأخّرين بأنّ عمل المولد على هذا القصد حسن محمود. [صفة مولده صلى الله عليه وسلم] قال علماء السّير: ووضعته أمّه وهو مستقبل القبلة، واضعا يديه على الأرض، رافعا رأسه إلى السّماء، مختونا، مسرورا- أي:

_ (1) الشّعب: ما انفرج بين جبلين فهو شعب. (2) قلت: قال محمّد أبو شهبة- رحمه الله-: قد صارت هذه الدّار إلى محمّد بن يوسف الثّقفي، أخي الحجّاج. وذلك أنّ عقيل بن أبي طالب باع دور من هاجر من بني هاشم، ومنها هذه الدّار، وقد أدخلها محمّد ابن يوسف في داره الّتي يقال لها: البيضاء، ولم تزل كذلك حتّى حجّت الخيزران أمّ الرّشيد، فأفردت ذلك البيت وجعلته مسجدا، وقيل: إنّ الّتي بنته هي زبيدة زوجة الرّشيد حين حجّت. (السّيرة النّبويّة، ج 1/ 174- 175) .

الآيات التي وقعت ليلة مولده صلى الله عليه وسلم

مقطوع السّرّة-، ليس عليه شيء من قذر الولادة. روى/ ابن إسحاق، عن الشّفّاء- بالتّشديد-: أمّ عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنهما، وهي الّتي تولّت ولادته، أنّها قالت: لمّا سقط النّبيّ صلى الله عليه وسلم على يديّ، سمعت قائلا يقول: يرحمك الله، وأضاء لي ما بين المشرق والمغرب، حتّى نظرت إلى قصور (الشّام) . [الآيات الّتي وقعت ليلة مولده صلى الله عليه وسلم] وليلة ولاده صلى الله عليه وسلم خمدت نار فارس الّتي يعبدونها، وكان وقودها مستمرّا من عهد موسى عليه الصّلاة والسّلام، وارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وغاضت بحيرة ساوة «1» ، وتنكّست جميع الأصنام في جميع الآفاق، وسقط عرش إبليس، ورميت الشّياطين بالشّهب، فمنعت من استراق السّمع. فائدة التّحقيق: في رمي الشّياطين بالشّهب التحقيق أنّ الشّياطين كانت ترمى بالشّهب لقوله تعالى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [سورة الحجر 15/ 18] ؛ لكنّه رمي لا يكثر فيه إصابتهم بالرّجوم «2» ، ولا يمنعهم عن مقاعدهم للسّمع. فلمّا ولد صلى الله عليه وسلم كان الرّمي بالرّجوم أشدّ رجما، فلمّا بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم استمرّ منعهم عن مقاعدهم، كما صرّح بذلك فيما حكاه الله تعالى عنهم:

_ (1) غاضت: غار ماؤها وذهب. وهي بحيرة كبيرة بين همدان وقم من إيران. وقد جفّت، ومكانها في إيران معروف. (2) الرّجوم: وهي الشّهب الّتي تنقضّ في اللّيل، منفصلة من نار الكواكب ونورها، لا أنّهم يرجمون بالكواكب أنفسها، لأنّها ثابتة لا تزول، وما ذاك إلّا كقبس يؤخذ من نار، والنّار ثابتة في مكانها [النّهاية، ج 2/ 205 (أنصاريّ) ] .

رضاعته صلى الله عليه وسلم

وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [سورة الجن 72/ 9] . وذلك لئلّا يلتبس الوحي بالكهانة «1» . وفي «الصّحيحين» أيضا، أنّهم قالوا: قد حيل بيننا وبين خبر السّماء «2» . والله أعلم. [رضاعته صلى الله عليه وسلم] وأوّل من أرضعته صلى الله عليه وسلم ثويبة- بمثلّثة، مصغّرة- مولاة عمّه أبي لهب، وأرضعت معه عمّه حمزة وأبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزوميّ بلبن ابنها مسروح- بمهملات-. وفي «صحيح البخاريّ» أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «أرضعتني أنا وأبا سلمة ثويبة» قال عروة بن الزّبير: وثويبة مولاة لأبي لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا مات أبو لهب أريه العبّاس في أسوء حالة، فقال له: ماذا لقيت؟ قال: لم ألق بعدكم خيرا، غير أنّي خفّف عنّي العذاب بعتاقي/ ثويبة «3» . قلت: فتخفيف العذاب عنه إنّما هو كرامة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم كما خفّف عن أبي طالب، لا لأجل مجرّد العتق لقوله تعالى: وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة هود 11/ 16] . [رضاعته صلى الله عليه وسلم من حليمة السّعديّة] قال علماء السّير: ثمّ احتملته حليمة السّعديّة بنت أبي ذؤيب- مصغّر ذئب- من بني سعد بن بكر بن هوازن، ثمّ قيس بن عيلان- بمهملة- ابن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان؛ حين قدمت مع قومها يلتمسون الرّضعاء، لما يرجونه من المعروف من أهليهم.

_ (1) الكهانة: هي تعاطي الإخبار عن الكائنات في مستقبل الزّمان، وادّعاء معرفة الأسرار. [النّهاية، ج 4/ 214 (أنصاريّ) ] . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4637) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4813) . عن أمّ حبيبة رضي الله عنها.

وكان أهل (مكّة) يسترضعون أولادهم فيهم لفصاحتهم، ولصحّة هواء البادية، فأقام صلى الله عليه وسلم فيهم نحو خمس سنين، وظهر لهم من يمنه وبركته في تلك المدّة أنواع من المعجزات وخوارق العادات. روى ابن إسحاق عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: قالت حليمة: خرجت في نسوة من بني سعد نلتمس الرّضعاء، على أتان لي قمراء «1» ، في سنة شهباء «2» ، ومعي زوجي الحارث بن عبد العزّى من بني سعد بن بكر، ومعنا شارف لنا- أي: ناقة مسنّة- ما تبضّ «3» بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من بكاء صبيّنا، ما في ثدييّ ما يغنيه، ولا في شارفنا ما يغذّيه، فخرجت على أتاني تلك، ولقد أذمّت «4» بالرّكب- أي: ولقد أزرت بهم «5» - ضعفا وعجفا «6» ، حتّى شقّ ذلك عليهم، حتّى قدمنا (مكّة) ، فو الله ما منّا امرأة إلّا عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها: إنّه يتيم، [وذلك أنّا إنّما كنّا نرجو المعروف من أبي الصّبيّ، فكنّا نقول: يتيم! وما عسى أن تصنع أمّه وجدّه؟، فكنّا نكرهه لذلك] ، فما بقيت امرأة ممّن قدمت معي إلّا أخذت رضيعا غيري، [فلمّا أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إنّي لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبنّ إلى ذلك اليتيم

_ (1) القمراء: شدّة البياض أو بياض إلى الخضرة. (2) سنة شهباء: ذات جدب وقحط. (3) تبضّ: تدرّ. (4) أذمّت الرّكاب: أعيت وتخلّفت عن جماعة الإبل، ولم تلحق بها، يريد أنّها تأخّرت بالرّكب، أي: تأخّر الركب بسببها. (5) أزرت: قصّرت وتهاونت. (6) العجف: الهزال.

فلآخذنّه، قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت] : فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلّا أنّي لم أجد غيره. قالت: فلمّا أخذته رجعت به إلى رحلي، فلمّا وضعته في حجري، أقبل عليه ثدياي بما شاء من اللّبن، فشرب حتّى روي، وشرب معه أخوه ضمرة حتّى رويا، ثمّ ناما، وما كنّا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفي فإذا بها حافل «1» ، فحلب منها ما شرب، وشربت، حتّى انتهينا شبعا وريّا/ [فبتنا بخير ليلة] . قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلّمي «2» يا حليمة، والله إنّي لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري إلى ما بتنا فيه من الخير والبركة؟ فلم يزل الله يرينا خيرا. قالت: ثمّ خرجنا وركبت أتاني تلك، وحملته عليها معي، فو الله لقد قطعت بالرّكب، [ما يقدر عليها شيء من حمرهم] . حتّى إنّ صواحبي ليقلن لي: يا بنت أبي ذؤيب، ويحك!! إربعي علينا- أي: ارفقي- أليست هذه أتانك الّتي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهنّ: بلى، والله إنّها لهي هي!! فيقلن: والله إنّ لها لشأنا. قالت: ثمّ قدمنا منازلنا [من بلاد بني سعد] ، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح عليّ [حين قدمنا به معنا] شباعا لبنا «3» ، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان غيرنا منهم قطرة لبن، [ولا يجدها في ضرع] ، حتّى كان الحاضرون من قومنا

_ (1) ضرع حافل: ممتلىء لبنا. (2) أي: اعلمي. (3) ألبنت النّاقة: إذا نزل لبنها في ضرعها.

حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم

يقولون لرعاتهم: ويحكم!! اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فيسرحون، فتروح أغنامهم جياعا هزلا ما تبضّ بقطرة لبن، وتروح غنمي شبعا لبنا، فلم نزل نتعرّف من الله الزّيادة والبركة حتّى مضت سنتاه، ففصلته عن الرّضاعة. قالت: وكنت لا أدخل عليه باللّيل إلّا وجدت السّقف قد انفرج، وقد نزل عليه القمر يناغيه- أي: يحدّثه-. وكان صلى الله عليه وسلم يشبّ شبابا لا يشبّه الغلمان، [فلم يبلغ] سنتيه حتّى كان غلاما جفرا- أي: ممتلئ الجنبين- «1» . قالت: فقدمنا به على أمّه، ونحن أحرص شيء على مكثه فينا، لما كنّا نتعرّف من بركته، فقلت لأمّه: دعينا نرجع به، فإنّا نخشى عليه وباء (مكّة) ، ولم نزل بها حتّى ردّته معنا. انتهى كلام ابن إسحاق «2» . [حادثة شقّ صدره صلى الله عليه وسلم] قال غيره: وبعد حولين من مرجعها به- أي: في العام الخامس من مولده صلى الله عليه وسلم- أتاه ملكان فشقّا صدره، واستخرجا قلبه فشقّاه، واستخرجا منه علقة سوداء، وقالا: هذا حظّ الشّيطان منك، ثمّ ملآه حكمة وإيمانا، ثمّ لأماه، فالتأم [الشّقّ] بإذن الله تعالى، ثمّ ختماه بخاتم النّبوّة بين كتفيه كالطّابع، ثمّ قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمّته، ففعل فوزنهم/، ثمّ قال: زنه بمئة [من أمّته] ، ففعل فوزنهم، ثمّ قال: زنه بألف [من أمّته] ، ففعل فوزنهم، حتّى قال: والله لو وزنته بأمّته كلّها لوزنهم، ثمّ قبّلا رأسه

_ (1) استجفر الصّبيّ: إذا قوي على الأكل، وكنز لحمه. (2) ابن هشام، ج 1/ 162- 164.

خوف حليمة على النبي صلى الله عليه وسلم ورده إلى أمه

وما بين عينيه، وقالا: يا حبيب، لم ترع، إنّك لو تدري ما يراد بك [من الخير] لقرّت عيناك. وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «فما هو إلّا أن ولّيا عنّي، وكأنّما الأمر معاينة» «1» . وفي «صحيح البخاريّ» عن السّائب بن يزيد قال: قمت خلف ظهره صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى خاتم النّبوّة بين كتفيه «2» . ولمسلم: أنّ الخاتم كان إلى جهة كتفه اليسرى «3» . [خوف حليمة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وردّه إلى أمّه] قال ابن إسحاق: فتخوّفت عليه حليمة بعد ذلك، فردّته إلى

_ (1) أخرجه الطّبريّ، ج 2/ 160، عن شدّاد بن أوس رضي الله عنه. قلت: وقد تكرّر شقّ الصّدر الشّريف غير هذه المرّة، فقد حصل مرّة ثانية عند المبعث، ومرّة ثالثة عند الإسراء والمعراج. أمّا الأولى: فقد كانت لنزع العلقة السّوداء، الّتي هي حظّ الشّيطان من كلّ بشر. وأمّا الثّانية: فليتلقّى ما يوحى إليه من أمور الرّسالة بقلب قويّ وهو على أكمل الأحوال وأتمّ الاستعداد. وأمّا الثّالثة: فكانت استعدادا لما يلقى إليه في هذه اللّيلة من أنواع الفيوضات الرّبّانيّة، وما سيريه ربّه فيها من الآيات البينات، وإدراك المثل الرّائعة الّتي ضربت له في مسراه وفي معراجه، وكلّها تحتاج إلى شرح الصّدر وثبات القلب. وقد تطاول بعض المستشرقين في التّشكيك في حادثة شقّ الصّدر، وقد تأثّر بهذا الرأي بعض الكاتبين في السّيرة من المسلمين!! وقد قام الشّيخ محمّد بن محمّد أبو شهبة بالرّد عليهم، فليراجع. (انظر السّيرة النّبويّة، ج 1/ 199- 203) . وما أحسن ما قيل: وما أخرج الأملاك من صدره أذى ... ولكنّهم زادوه طهرا على طهر (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3348) . (3) أخرجه مسلم، برقم (2346/ 112) . عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه.

وفاة آمنة

أمّه، فقالت لها: ما أقدمك به يا ظئر «1» وقد كنت حريصة عليه؟ فأخبرتها، قالت: أفتخوّفت عليه؟ والله ما للشيطان على ابني هذا من سبيل، وإنّ له لشأنا، ولقد رأيت حين حملت به أنّه خرج منّي نور أضاء لي قصور (بصرى) من أرض (الشّام) «2» . [وفاة آمنة] وفي السّنة السّادسة من مولده صلى الله عليه وسلم خرجت به أمّه إلى (المدينة) لتزيره أخوال جدّه عبد المطّلب، وهم بنو عديّ بن النّجّار من الخزرج، وأقامت به شهرا. وروي عنه أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «أحسنت السّباحة في بئر بني عديّ بن النّجّار من يومئذ» «3» . وكان يهود (المدينة) يومئذ يختلفون إليه «4» ، ويتعرّفون فيه علامات النّبوّة. ثمّ رجعت به، فماتت ب (الأبواء) «5» - بالموحّدة- وهو مكان بين (مكّة والمدينة) . [أمّ أيمن تحتضن النّبيّ صلى الله عليه وسلم] وبقي ب (الأبواء) حتّى انتهى الخبر إلى (مكّة) ، فجاءته حاضنته أمّ أيمن «6» - مولاة أبيه عبد الله بن عبد المطّلب وأمّ أسامة بن زيد- فاحتملته.

_ (1) الظئر: العاطفة على ولد غيرها، المرضعة له. (2) ابن هشام، ج 1/ 165. (3) ابن سعد، ج 1/ 116. (4) أي: يأتون واحدا بعد آخر ينظرون إليه. (5) يقال: إنّها ماتت في حدود العشرين عاما تقريبا. (شرح المواهب اللّدنيّة، ج 1/ 166) . (6) واسمها: بركة الحبشيّة.

فائدة عظيمة ما يتعلق بأبويه صلى الله عليه وسلم

والصّحيح أنّ أباه عبد الله مات وهو حمل «1» . وأمّا أمّه: فهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة [بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر] ، وكانت سيّدة قومها بني زهرة، وكان أبوها سيّدهم ولم يلدا- أعني أبويه- غيره صلى الله عليه وسلم. فائدة عظيمة ما يتعلّق بأبويه صلى الله عليه وسلم قال القرطبيّ في «تذكرته» «2» : خرّج الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه «السّابق واللّاحق» والحافظ أبو حفص/ عمر بن شاهين في كتابه «النّاسخ والمنسوخ» أنّه صلى الله عليه وسلم قال في حجّة الوداع: «ذهبت لقبر أمّي، فسألت الله أن يحييها لي، فأحياها، فامنت بي» «3» . [في إحياء والدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم له] وكذا ذكره السّهيلي في «الرّوض الأنف» : أنّ من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنّ الله تعالى أحيا له أبويه فامنا به [4] .

_ (1) قلت: ذهب ابن إسحاق إلى أنّ عبد الله توفّي والنّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يزال حملا في بطن أمّه، وقد تابعه عليه ابن هشام، وهو الرأي المشهور بين كتّاب السّير والمؤرخين، وكان عمر عبد الله حينذاك ثماني عشرة سنة، وقد صحّحه الحافظ العلائي، وابن حجر. ويرى بعض العلماء أنّ والد النّبيّ توفّي بعد ميلاده وهو لا يزال في المهد، قيل: ابن شهرين، وقيل: أكثر من ذلك. والأوّل هو الرّاجح، وإن قال السهيلي: إنّ الرّأي الثّاني ويرى بعض العلماء أنّ والد النّبيّ توفّي بعد ميلاده وهو لا يزال في المهد، قيل: ابن شهرين، وقيل: أكثر من ذلك. والأوّل هو الرّاجح، وإن قال السهيلي: إنّ الرّأي الثّاني قول أكثر العلماء. والله أعلم. (انظر السّيرة النّبويّة، 1/ 166) . (2) التّذكرة، ص 15. (3) الرّوض الأنف، ج 1/ 195. قال السّهيليّ: (حديث غريب لعلّه أن

قال القرطبيّ: فهذا ناسخ لما في صحيح مسلم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم زار قبر أمّه وقال: «استأذنت ربّي أن أزور قبرها فأذن لي، فاستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي» «1» .

_ يصحّ، وجدته بخطّ جدّي أبي عمران أحمد بن أبي الحسن القاضي- رحمه الله- بسند فيه مجهولون، ذكر أنّه نقله من كتاب، انتسخ من كتاب معوّذ بن داود الزّاهد، يرفعه إلى ابن أبي الزناد عن عروة) . وأنكر ابن كثير في «البداية والنّهاية» ، ج 2/ 281 ما رواه السّهيلي، وقال: (حديث منكر جدّا، وإن كان ممكنا بالنّظر إلى قدرة الله تعالى، لكنّ الّذي ثبت في الصّحيح يعارضه، والله أعلم) . وقال السّيوطيّ: ذكر كثير من الحفّاظ أنّ الحديث ضعيف، تجوز روايته في الفضائل والمناقب، لا موضوع، كالخطيب وابن عساكر وابن شاهين والسّهيلي والمحبّ الطّبري والعلّامة ناصر الدّين ابن المنيّر وابن سيّد النّاس، ونقله عن بعض أهل العلم ... وقد جعل هؤلاء الأئمة هذا الحديث ناسخا للأحاديث الواردة بما يخالفه، ونصّوا على أنّه متأخّر عنها، فلا تعارض بينه وبينها. وقال في «الدرج المنيفة» : جعلوه ناسخا، ولم يبالوا بضعفه، لأنّ الحديث الضّعيف يعمل به في الفضائل والمناقب، وهذه منقبة، ولذلك جزم بعض العلماء بأنّ أبويه صلى الله عليه وسلم ناجيان وليسا في النار تمسّكا بهذا الحديث وغيره. (انظر شرح الزرقاني على المواهب اللّدنيّة، ج 1/ 168- 169) . وبصرف النّظر عمّا تقدّم فأبواه ناجيان نجاة أهل الفترة؛ وأهل الفترة ناجون إلّا من استثني، كما حقّق ذلك العلماء من الأشاعرة. (1) أخرجه مسلم، برقم (976/ 108) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. قلت: إنّ عدم الإذن في الاستغفار لا يلزم منه الكفر، بدليل أنّه صلى الله عليه وسلم كان ممنوعا في أوّل الإسلام من الصّلاة على من عليه دين لم يترك له وفاء، ومن الاستغفار له وهو من المسلمين، وتعليله أنّ استغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم مجاب على الفور، فمن استغفر له وصل عقب دعائه إلى منزله في الجنّة، والمديون محبوس عن مقامه حتّى يقضي دينه كما في الحديث،

تنبؤ سيف بن ذي يزن والكهان بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم

قال القرطبيّ: فإيمانهما به بعد الرّجعة ينفعهما كرامة له صلى الله عليه وسلم، كما وقعت صلاة سليمان عليه السّلام أداء، لمّا ردّ الله عليه الشّمس بعد غروبها كرامة له، والله يختصّ برحمته من يشاء، ويكرم بكرامته من يشاء «1» . [تنبّؤ سيف بن ذي يزن والكهّان بمبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم] وفي السّنة السّابعة: وفد جدّه عبد المطّلب على سيف بن ذي يزن الحميريّ، لتهنئته بأخذه (صنعاء) وبظفره ب (الحبشة) ، فأكرمه وأخبره هو والكهّان الوافدون عليه بنبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم، وأنّه أبوه، وأنّه سيكون له شأن عظيم. [وفاة جدّه عبد المطّلب وكفالة أبي طالب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم] وفي السّنة الثّامنة: توفّي جدّه عبد المطّلب، فكفله عمّه أبو طالب، واسمه: عبد مناف؛ لأنّه شقيق عبد الله، فأحسن كفالته، وتعرّف منه اليمن والبركة، ودافع عنه بعد مبعثه بيده ولسانه، وكان إذا أكل هو وأولاده فأكل معهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم شبعوا، وإذا لم يأكل معهم لم يشبعوا. [خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الشّام مع عمّه أبي طالب وقصّة الرّاهب بحيرا] وفي السّنة الثّالثة عشرة: خرج به عمّه أبو طالب في تجارة إلى (الشّام) ، فلمّا بلغوا (بصرى) ، رآه الرّاهب بحيرا- بفتح الموحّدة وكسر المهملة ممدودا- فتحقّق فيه صفات النّبوّة، فأمر أبا طالب أن يردّه إلى (مكّة) خوفا عليه من اليهود والنّصارى، فرجع به. وروى التّرمذيّ في «جامعه» أنّ نفرا من الرّوم أرادوا به سوآ، فمنعهم بحيرا وذكّرهم الله، وقال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه، أيقدر أحد من النّاس أن يردّه؟ فقالوا: لا، وانصرفوا «2» .

_ فقد تكون أمّه صلى الله عليه وسلم مع كونها متحنفة كانت محبوسة في البرزخ عن الجنّة لأمور أخرى غير الكفر اقتضت أن لا يؤذن له في الاستغفار. (انظر شرح الزّرقاني على المواهب اللّدنيّة، ج 1/ 178) . (1) التّذكرة، ص 16. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3620) . عن أبي موسى رضي الله عنه.

شهود النبي صلى الله عليه وسلم حرب الفجار

[شهود النّبيّ صلى الله عليه وسلم حرب الفجار] وفي السّنة الرّابعة عشرة/: كانت حرب الفجار- بكسر الفاء وجيم- بين قريش وهوازن، وسمّيت بذلك لوقوعها في الشّهر الحرام، وتطاولت الحرب بينهم، وكانت الدّائرة لهوازن على قريش، حتّى شهدها صلى الله عليه وسلم يوما مع قومه، فانقلبت الدّائرة لهم على هوازن. [شهود النّبيّ صلى الله عليه وسلم حلف الفضول] ثمّ عقدت قريش حلف الفضول لنصرة المظلوم «1» ، فشهدهم صلى الله عليه وسلم. وكان سببه أنّ رجلا قدم (مكّة) بمتاع، فابتاعه منه العاص بن وائل السّهميّ، وظلمه الثّمن، فشكاه، فلم ينصفه أحد، فأوفى على جبل أبي قبيس وأنشد بأعلى صوته، [من البسيط] «2» : يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكّة نائي الدّار والنّفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرّجال وبين الحجر والحجر فقال الزّبير بن عبد المطّلب بن هاشم: والله لا صبر لي على هذا الأمر، فجمع بني عبد مناف وبني زهرة وبني أسد وتيما في دار عبد الله ابن جدعان التّيميّ، وقد صنع لهم ابن جدعان طعاما، فتحالفوا ليكوننّ عونا للمظلوم على الظّالم، ثمّ أتوا العاص بن وائل فانتزعوا سلعة الرّجل منه قهرا. وفي الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «شهدت مع عمومتي في دار ابن جدعان من حلف الفضول ما لو دعيت إليه اليوم لأجبت» «3» . [خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الشّام في تجارة لخديجة رضي الله عنها] وفي السّنة الخامسة والعشرين: خرج صلى الله عليه وسلم مع ميسرة غلام

_ (1) قيل: إنّما سمّي حلف الفضول لأنّهم أخرجوا فضول أموالهم للأضياف. (أنصاريّ) .. (2) ابن هشام، ج 1/ 133. (3) أخرجه البيهقيّ في «السّنن الكبرى» ، ج 6/ 367. عن طلحة بن عبد الله بن عوف الزّهريّ رضي الله عنه.

فائدة: في تظليل النبي صلى الله عليه وسلم بالغمام

خديجة في تجارة لها بأجرة، فربحا أضعاف ما يربح النّاس، فلمّا رجعا أضعفت له خديجة الأجرة، وشاهد منه ميسرة في تلك السّفرة أنواعا من علامات النّبوّة، منها: أنّه كان إذا اشتدّ الحرّ ظلّلته غمامة، تسير بسيره، وتقف في وقوفه. فائدة: [في تظليل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالغمام] الظّاهر أنّ تظليله بالغمام كان قبل البعثة، ففي حديث الهجرة أنّ أبا بكر ظلّله بثوب. وفي قصّة غورث كنّا إذا رأينا شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. [مرور النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالرّاهب نسطور] ومنها-[أي: من علامات النّبوّة]-: أنّهم مرّوا براهب/ يقال له نسطور- بفتح النّون- فقال لميسرة: من هذا الفتى؟ فقال: هو من أهل (مكّة) ، من أهل الحرم، فقال: أشهد أنّه نبيّ، وأنّه آخر الأنبياء. [خطبة خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزواجه منها] ومنها: ما شاهده من صدقه وأمانته وخلقه العظيم، فأخبر ميسرة خديجة بما شاهده من معجزاته صلى الله عليه وسلم وخلقه وبركته، فخطبته إلى نفسها. وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ. وكانت خديجة من أفضل نساء قريش حسبا ونسبا وجمالا ومالا، وقد كان كلّ من قومها حريصا على نكاحها، فأكرمها الله بأكرم الخلق على الله، لما سبق في الأزل من الكرامة، فنكحها، وبقيت معه خمسا وعشرين سنة، عشرا بعد المبعث وخمس عشرة قبله، وكانت له عونا على الحقّ، وهي أوّل من أسلم على يديه من النّساء، وهي أمّ أولاده كلّهم: القاسم وعبد الله الطّاهر، ورقيّة، وزينب وأمّ كلثوم، وفاطمة، إلّا إبراهيم فإنّ أمّه مارية القبطيّة.

فائدة: في التفاضل بين خديجة وعائشة رضي الله عنهما

وفي «الصّحيحين» أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «خير نسائها مريم [ابنة عمران] ، وخير نسائها خديجة» «1» - أي: مريم خير نساء زمانها، وخديجة خير نساء زمانها-. وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فقال: هذه خديجة، فإذا أتتك فاقرأ عليها السّلام من ربّها ومنّي، وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب- أي: لؤلؤ مجوّف- لا نصب فيه- أي: تعب- ولا صخب- أي: صراخ-» «2» . زاد الطّبرانيّ أنّها قالت: هو السّلام، ومنه السّلام، وعلى جبريل السّلام. فائدة: [في التّفاضل بين خديجة وعائشة رضي الله عنهما] احتجّ بعض الأئمّة بهذا الحديث على تفضيل خديجة على عائشة رضي الله عنهما من حيث إنّ جبريل أقرأ خديجة السّلام عن الله وعن نفسه، وإنّما أقرأ عائشة السّلام عن نفسه، وبقوله صلى الله عليه وسلم- لمّا قالت له عائشة: قد أبدلك الله خيرا منها-: «ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر النّاس» «3» . وأجيب عن الأوّل: بأنّ تسليم الله على خديجة لا يقتضي تفضيلها، / كما لا يقتضي تسليمه على إبراهيم وغيره من الأنبياء تفضيلهم على محمّد، الّذي أمر الله أمّته بالتّسليم عليه. وعن الثّاني: بأن مراد عائشة خيرا منها في السّنّ- كما في الحديث- فقابل

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3249) . ومسلم برقم (2430/ 69) ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3610) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه أحمد في «المسند» ، برقم (24343) ، عن عائشة رضي الله عنها.

بنيان الكعبة ومشاركة النبي صلى الله عليه وسلم

ذلك صلى الله عليه وسلم بخيريّة خديجة في الدّين الّذي هو أفضل من حداثة السّنّ. والله أعلم. [بنيان الكعبة ومشاركة النّبيّ صلى الله عليه وسلم] وفي السّنة الخامسة والثّلاثين: بنت قريش (الكعبة) وتقاسمتها أرباعا «1» ، فلمّا انتهوا إلى موضع الحجر الأسود، تنازعت القبائل أيّها يضعه موضعه، حتّى كادوا يقتتلون، ثمّ اتّفقوا على أن يحكّموا أوّل داخل عليهم من بني هاشم. فكان صلى الله عليه وسلم هو أوّل داخل، فقالوا: هذا محمّد، هذا الصّادق الأمين، رضينا به، فحكّموه، فبسط صلى الله عليه وسلم رداءه ووضع الحجر فيه، وأمر أربعة من رؤساء القبائل الأربع، أن يأخذوا بأرباع الثّوب، فرفعوه إلى موضعه، فتناوله صلى الله عليه وسلم بيده المباركة، فوضعه في موضعه. وفي «الصّحيحين» : أنّه صلى الله عليه وسلم حضرهم يوما في بناء الكعبة فذهب هو وعمّه العبّاس ينقلان الحجارة، فقال له العبّاس: اجعل إزارك على عاتقك كما يفعلون، ففعل، فخرّ إلى الأرض مغشيّا عليه، وطمحت عيناه إلى السّماء، وقال: «أرني إزاري» ، فشدّه عليه «2» . [ترادف علامات النّبوّة عليه صلى الله عليه وسلم] وفي الثّامنة والثّلاثين: ترادفت علامات نبوّته صلى الله عليه وسلم، وتحدّث بها الرّهبان والكهّان.

_ (1) قلت: فكان جانب الباب لبني عبد مناف وزهرة. وكان ما بين الرّكن الأسود واليمانيّ لبني مخزوم وقبائل من قريش انضمّوا إليهم. وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم. وكان جانب الحجر لبني عبد الدّار ولبني أسد ابن عبد العزّى ولبني عديّ. (2) أخرجه البخاريّ: برقم (1505) ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. طمحت: شخصت وارتفعت. أرني: أعطني.

حب النبي صلى الله عليه وسلم للخلوة

[حبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم للخلوة] وفي التّاسعة والثّلاثين: حبّبت إليه الخلوة، فكان يخلو بغار (حراء) أيّاما بعد أيّام، يتزوّد لها. وكان في تلك المدّة يرى أنوارا، ويسمع أصواتا. [الرّؤيا الصّادقة] وفي السّنة الأربعين قبل مبعثه بستّة أشهر: كان وحيه صلى الله عليه وسلم مناما، وكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح. أي: مثل الصّبح المفلوق، أي: المنشقّ. ومنه: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [سورة الفلق 113/ 1] . [تسليم الحجر والشّجر عليه صلى الله عليه وسلم] وكانت الأحجار والأشجار تسلّم عليه بالرّسالة. وفي الحديث الصّحيح أنّه/ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّي لأعرف حجرا بمكّة كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث» «1» . وفي «الصّحيحين» أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «رؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزآ من النبوّة» «2» . قال العلماء: لأنّ مدّة النّبوّة ثلاث وعشرون سنة، ونصف السّنة منها جزء من ستّة وأربعين جزآ. وما أحسن قول صاحب البردة- رحمه الله- فيها، [من البسيط] «3» : أبان مولده عن طيب عنصره ... يا طيب مبتدإ منه ومختتم يوم تفرّس فيه الفرس أنّهم ... قد أنذروا بحلول البؤس والنّقم

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (2277) ، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (6586) . ومسلم برقم (2264) ، عن عبادة ابن الصّامت رضي الله عنه. (3) البردة، ص 19- 20.

وبات إيوان كسرى وهو منصدع ... كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم والنّار خامدة الأنفاس من أسف ... عليه والنّهر ساهي العين من سدم «1» وساء ساوة أن غاضت بحيرتها ... وردّ واردها بالغيظ حين ظمي «2» كأنّ بالنّار ما بالماء من بلل ... حزنا وبالماء ما بالنّار من ضرم «3» والجنّ تهتف والأنوار ساطعة ... والحقّ يظهر من معنى ومن كلم عموا وصمّوا فإعلان البشائر لم ... تسمع وبارقة الإنذار لم تشم من بعد ما أخبر الأقوام كاهنهم ... بأنّ دينهم المعوجّ لم يقم وبعد ما عاينوا في الأفق من شهب ... منقضّة وفق ما في الأرض من صنم حتّى غدا عن طريق الوحي منهزم ... من الشّياطين يقفو إثر منهزم لا تنكر الوحي من رؤياه إنّ له ... قلبا متى نامت العينان لم ينم «4»

_ (1) ساهي: ساكن عن الجريان. السّدم: الحزن. (2) ساوة: مدينة في بلاد فارس بين همذان وقم. (3) الضّرم: اللهب. (4) الرّؤيا: المنام.

وذاك حين بلوغ من نبوّته «1» ... فليس ينكر فيه حال محتلم تبارك الله ما وحي بمكتسب «2» ... ولا نبيّ على غيب بمتّهم «3»

_ (1) يعني: أنّ الوحي ثابت في المنام للأنبياء بعد إدراك النّبوّة. (2) ما وحي بمكتسب: أي لا تدرك النّبوّة باجتهاد صاحبها وسعيه، وإنّما فضل الله عزّ وجلّ يختصّ به من يشاء. (3) أي: غير متّهم بالكذب فيما يخبر به من الأمور الغيبيّة.

الباب الخامس في اثبات أن دينه صلى الله عليه وسلم ناسخ لكل دين، وأنه خاتم النبيين وعموم رسالته إلى الناس أجمعين وتفضيله على جميع النبيين والمرسلين

الباب الخامس في اثبات أنّ دينه صلى الله عليه وسلّم ناسخ لكلّ دين، وأنّه خاتم النّبيّين وعموم رسالته إلى النّاس أجمعين وتفضيله على جميع النبيّين والمرسلين اعلم أنّ إثبات النّبوّة هو الشّطر الثّاني من التّوحيد، فإنّه صلى الله عليه وسلم قال: «مبنى الإيمان على قول: لا إله إلّا الله/، وهو شطر- أي: نصف- والشّطر الثّاني: محمّد رسول الله» . وقد ذكرنا نبذا من مبادىء نبوّته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة من المبشّرات، الّتي يتذكّر بها من يخشى، ويتجنّبها الأشقى. وسنذكر أيضا في الباب السّادس بعد هذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، البالغة مبلغ التّواتر ما يستيقن به الّذين أوتوا الكتاب، ويزداد الّذين آمنوا إيمانا. ولكنّ التّذكير والتّبشير إنّما هو لمن تقرّر في قلبه التّصديق والإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم. وأمّا المنكر الجاحد لها: فلا يدحض حجّته ولا يبطل شبهته إلّا البراهين العقليّة القاطعة لحجّته، المبطلة لشبهته. فنقول وبالله التّوفيق، على سبيل التّمهيد والتّحقيق، في إدراك النّبوّة بطريق الذّوق، ثمّ بيان أصلها، ثمّ إمكانها، ثمّ وجودها، ثمّ صحّتها: أمّا طريق الذّوق: فاعلم أنّه لا يدرك بالذّوق شيئا من المعرفة

بحقيقة النّبوّة من لم يذق شيئا من سلوك طريق أهل الله تعالى، وأولياء الله تعالى، برياضة الأنفس وتزكيتها، وتصفية القلوب، وتهذيب الأخلاق. لأنّ كرامات الأولياء على التّحقيق بدايات الأنبياء، وقد كان ذلك أوّل حال نبيّنا صلى الله عليه وسلم، حيث كان يتعبّد في (حراء) ، وكان يؤثر العزلة للخلوة بربّه، والتّجرّد والتّبتّل؛ وهو الانقطاع عن الخلائق إلى الخالق، وهو الذّهاب إلى الله تعالى، الّذي أشار إليه الخليل عليه الصّلاة والسّلام بقوله: وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [سورة الصّافّات 37/ 99] . فمن مارس تلك الطّريق اتّضح له طرف من حقيقة النّبوّة، ما هي وخاصّيّتها بالكشف والعيان، ومن لم يبلغ هذه الرّتبة فلا بدّ له من التّنبيه على أصلها وإمكانها، ثمّ وجودها عموما، ثمّ لشخص معيّن، بإقامة البرهان، لشدّة مسيس الحاجة إليها. وأمّا دليل أصلها: فكلّ عاقل قاطع بأنّ الإنسان أوّل ما يدرك من مراتب العلم في صغره/ وطفوليّته العلم بالحواسّ الخمس، الّتي هي. السّمع، والبصر، والشّمّ، والذّوق، واللّمس. فيدرك بكلّ واحدة من هذه عالما لا يدركه بالآخرى، ومن تعطّلت عليه حاسّة منها- كالبصر مثلا- لم يدرك ما حقيقة الألوان، إلّا بسماعها بالتّواتر، فإنكاره لها مكابرة جاهل بما لم يعلم، وتكذيب بما لم يحط بعلمه، وقد أحاط به غيره، فيحتجّ عليه المبصر بأنّ عندك حاسّة الشّمّ وزيد أخشم «1» لا يفرّق بين رائحة المسك والجيفة، فماذا نقول له لو زعم التّسوية بين المسك والجيفة؟

_ (1) الأخشم: من أصابه داء في أنفه فأفسده، فصار لا يشمّ.

فإن زعمت أنّه مكذّب بما لم يحط بعلمه من المشمومات، فهو أيضا يزعم أنّك مكذّب بما لم تحط به من الألوان المبصرات، ولا يسعك إلّا أن تؤمن له بوجود الألوان وتنوّعها، ويؤمن لك بوجود المشمومات وتنوّعها. وهكذا في المطعومات والملموسات والمسموعات. وهذا الإدراك حاصل للطّفل، لا يدرك غيره من العوالم إلى سنّ التّمييز، فإذا بلغ سنّ التّمييز خلق الله فيه أمورا عقليّة زائدة على تلك الحسّيّة؛ كالتّمييز بين الجائزات والمستحيلات والواجبات. فإذا قلت مثلا للطفل: رشّ هذا الحجر ليصير ليّنا كالطين اعتقد جواز ذلك دون المميّز، ولو قلت للمميّز الّذي سقط من يده القدح الّذي فيه الشّراب: هذا القدح انكسر والشّراب لم يتبدّد لعلم أنّك تهزأ به، إذ من لوازم انكسار القدح تبدّد الشّراب الّذي هو فيه. وهكذا لو قلت له غير ذلك. وهو في هذا العالم إلى بلوغ سنّ التّكليف الّذي يتحمّل به الأمانة الشّرعيّة فيكمل تمييزه، فيخلق الله فيه طورا آخر من العقل، بحيث يوثق بأقواله وأفعاله، وتطمئنّ النّفس لمعظم أحواله، ولا يزال يزداد بالتّجربة عقلا. فكلّ عاقل يقطع بأنّ سنّ التّمييز طور وراء سنّ الطّفوليّة، وسنّ العقل طور وراء سنّ التّمييز. وإذا قطع العاقل/ بذلك قلنا له: ليس في العقل أيضا ما يحيل أنّ فوق طوره طورا آخر، وفوق ذلك الطّور طورا آخر، وهلمّ جرّا. فكما أنّ قدرة الله صالحة لأن يخلق في المميّز ما لم يدركه الطّفل من العلم، وفي العاقل ما لم يدركه المميّز؛ فهو سبحانه قادر على أن يخلق في بعض العقلاء طورا لا يدركه العقلاء؛ من الاطلاع على الغيب، وفتح عين في القلب تسمى: البصيرة الباطنة، بمثابة البصر لعين الرأس الظّاهرة، والعقل عن هذا الطّور معزول، كعزل قوّة الحواسّ عن التّمييز، وعزل التّمييز عن المعقولات،

فإنكار بعض العقلاء لطور النّبوّة كإنكار المميّز لطور العقل، وإنكار الأعمى للمبصرات، والأخشم للمشمومات، وذلك عين الجهل، إذ لا مستند له إلّا أنّ هذا طور لم يبلغه عقله إدراكا. فنقول له: إن لم يدركه عقلك بمباشرة فلا تحل جوازه، كما لا يحيل الأعمى وجود المبصرات، ويجب عليه أن يقول: إنّ الحاسّة الّتي تدرك بها المبصرات وجدت في غيري فأدركها، ولم توجد فيّ فلم أدركها. فحينئذ الشّكّ في النّبوّة إمّا أن يكون في إمكانها، أو في وجودها في العالم، أو في وقوعها مطلقا، أو في إثباتها لشخص معين. أمّا دليل إمكانها: فظاهر ممّا تقرّر من أنّ العقل لا يحيل من أن يترقّى الإنسان الكامل إلى طور فوق طور العقل، يفتح الله لقلبه عينا يدرك بنورها ما لم يدركه العقل، كما ترقّى المميّز إلى طور العقل، والطّفل إلى طور التّمييز، وكما أنّ الله سبحانه قادر على أن يخلق في قلوب عباده المعرفة به، وبأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وجميع تكليفاته الشّرعيّة، ابتداء بغير واسطة، كقوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ [سورة البقرة 2/ 31] وقوله تعالى: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [سورة الكهف 18/ 65] . وآدم نبيّ، والعبد وليّ، وكلاهما اشتركا في تعليم العلم اللّدنّيّ بغير واسطة. وطور النّبوّة/ أيضا فوق طور الولاية، يعلمه الوليّ ويؤمن به، كما يعلم أنّ طور الولاية فوق طور العقل ذوقا ومباشرة، وكذلك العقل لا يمنع أن يوصل الله إلى من ارتضاه من رسله العلم بما سبق

من المعرفة به وبأحكامه، بواسطة بينهم وبينه، يبلّغهم عنه سبحانه وتعالى، سواء كان ذلك الواسطة من جنسهم- كالأنبياء في حقّ سائر البشر- أم من غير جنسهم- كالملائكة في حقّ الرّسل- وإذا جوّز العقل ذلك، وجاءت الرّسل بما تثبّت بأمثاله الرّسالة، من المعجزات الدّالّة على صدقهم، وجب تصديقهم، والإيمان بهم، وبجميع ما أتوا به. [وأمّا دليل وجودها] : فإذا وقع الشّكّ في شخص معين، هل هو نبيّ أم لا؟ فسبيل تحصيل اليقين بما يدّعيه من النّبوّة، بأمرين: أحدهما: مشاهدة ما أقامه من المعجزات الخارقة للعادات، كما سنذكره، وهذا خاصّ بمن عاصره. وثانيهما: معرفة خاصّيّة النّبوّة أوّلا، من إدراك الأنبياء ما لا يدركه العقلاء، ثمّ التّسامع بالتّواتر. كما أنّ من أراد أن يعرف مثلا أنّ الإمام أبا حنيفة- رضي الله عنه- فقيه أم لا؟ فسبيله أن يعرف أوّلا حقيقة الفقه ما هو؛ وهو استنباط الأحكام الفرعيّة من الأدلّة الأصليّة، ثمّ ينظر ثانيا فيما نقل عنه، ممّا استنبطه من الفقه، من كتاب الله تعالى، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّه يحصل له العلم الضّروريّ بأنّه في أعلى مراتب الفقه. وكذلك من علم خاصّيّة النّبوّة، ثمّ نظر إلى ما قرّره نبيّنا صلى الله عليه وسلم من الشّرع، حصل له لا محالة العلم القطعيّ، والإيمان القويّ بكونه صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات النّبوّة. هذا كلّه لمن أراد من المؤمنين تقوية اليقين. وأمّا الجاحد الملحد: فيقرّر عليه أوّلا من دليل العقل عدم استحالة وقوع النّبوّة- كما سبق- ثمّ يقرّر حقيقة المعجزة/ الّتي بها تثبت النّبوّة لمدّعيها. فنقول: المعجزة عبارة عن إيجاد الله تعالى أمرا

خارقا للعادة على يدي مدّعي الرّسالة، للدّلالة على تصديق الله له. فكلّ ما أظهره الله سبحانه وتعالى على أيدي الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ممّا يعجز البشر عن الإتيان بمثله؛ فهو من معجزاتهم الدّالّة على نبوّتهم، لأنّه لمّا كان لا يقدر أن يوجد ذلك الفعل إلّا الله تعالى، كان إيجاده على أيديهم قائما بلسان الحال، مقام التّصديق بلسان المقال: صدق عبدي في ما ادّعاه «1» . كما لو قال شخص عاقل بحضرة الملك: معاشر المسلمين!! إنّ السّلطان قد نصب فلانا عليكم حاكما، فاسمعوا له، وأطيعوا، ولم ينكر عليه الملك، علم الحاضرون بتقرير الملك صدق ذلك القائل. فالمعجزة مع التّحدّي قائمة مقام قول الله تعالى: صدق عبدي فاتّبعوه، وذلك عند عجزهم عن معارضته تلك المعجزة، واعتراف أعلم أهل ذلك العصر أنّ مثل هذا غير داخل في طوق البشر. ولهذا فإنّه لمّا كان زمن موسى عليه السّلام غاية علم أهله التّفنّن في السّحر، بعثه الله إليهم بمعجزة تشبه ما يدّعون كمال المعرفة فيه، ثمّ جاءهم بما خرق به عادتهم، وأبطل سحرهم. ولمّا كان زمن عيسى عليه السّلام غاية علم أهله التّفنّن في الطّب، جاءهم بما لا يقدرون عليه، من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، دون معالجته. وهكذا سائر معجزات الأنبياء عليهم السّلام، إنّما تكون بأمر شائع بين أهل ذلك العصر العلم به، والتّفنّن في المعرفة به على أقصى درجات الكمال عندهم، لتقوى عليهم الحجّة، ويعترفون

_ (1) أي: إيجاد الله تعالى المعجزة على أيدي الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين قائمة مقام قول الله تعالى في الحديث القدسيّ: (صدق عبدي فيما ادّعاه) .

بعجزهم وعجز من سواهم عن مقاومته. [وأمّا صحّتها] : ولمّا بعث الله نبيّنا محمّدا صلى الله عليه وسلم كان منتهى علم أهل عصره، وغاية المعرفة والكمال عندهم أمران: أحدهما: فصاحة المنطق، وبلاغة الكلام، والتّفنّن فيه نثرا ونظما، في خطبهم/ وأشعارهم. وثانيهما: علم الكهانة والزّجر «1» ، والإخبار عن الحوادث. فجعل الله معجزته العظمى ما أنزل عليه من الكتاب الحكيم، على هذا الأسلوب الغريب، الّذي لم يهتدوا إلى طريقه، ولا سلكوا سبيله، وتحدّاهم أن يأتوا بمثله، ثمّ بعشر سور منه، ثمّ بسورة، فعجزوا، وجعله مشتملا على الإخبار بالمغيّبات، وكشف المخبّات الّتي اعترف بصحّتها وأذعن لصدقها أعدى الأعداء له، وأبطل بذلك ما كانوا عليه من الكهانة، الّتي تصدق مرّة وتكذب ألفا. فلمّا ادّعى صلى الله عليه وسلم النّبوّة والرّسالة إلى النّاس كافّة، وأظهر المعجزات، وعظيم الآيات، الّتي لم تعارض في جميع الأوقات؛ دلّ ذلك قطعا على صدق ما ادّعاه. أمّا دعواه النّبوّة والرّسالة: فمعلوم بالتّواتر بين البرّ والفاجر، لا يختلف فيه مؤمن وكافر. وأمّا إقامته على ذلك الدّلائل الظّاهرة، والمعجزات الباهرة؛ فلما نقله الخلف عن السّلف، من الأمور الخارقة- كانشقاق القمر، وتسليم الحجر، وإجابة الشّجر، وحنين الجذع، وتسبيح الحصى، وتفجير الماء من بين أصابعه، وتكثير الطّعام القليل ببركته- وغير ذلك

_ (1) الزّجر: النّهي. وإنّما سمّي الكاهن زاجرا لأنّه إذا رأى ما يظنّ أنّه يتشاءم به زجر بالنّهي عن المضيّ في تلك الحاجة.

ممّا ستأتي الإشارة إلى بعضه تصريحا وتلويحا، إلى غير ذلك من عظيم الآيات المعلومة بالقطع بين علماء السّير، ونقلة الأخبار، ورواها العدد الكثير في جميع الأعصار، من الصّحابة والتّابعين، فمن بعدهم، ولم تزدد على مرّ الأيّام إلّا ظهورا. ومجموع معناها بالغ مبلغ التّواتر بين البرّ والفاجر، كما يعلم جود حاتم، وشجاعة عليّ بالضّرورة. وإن لم تبلغ كلّ واقعة منها بعينها مبلغ التّواتر، بل وأكثرها كان في المجامع الحفلة، والعساكر الجمّة من الصّحابة رضي الله عنهم، ثمّ رواها عنهم الكافّة، ولم يرو عن أحد منهم مخالفة للرّاوي فيما رواه، والإنكار لما نسبه إليهم من المشاهدة لها وحكاه. فسكوت السّاكت منهم/ كنطق النّاطق، وكثيرا ما يحصل العلم الضّروريّ بشيء لإنسان دون آخر، كمن يعلم جملة من أخبار الملوك الماضية، والبلدان النّائية، وآخر لا يعرف وجودها، فضلا عن تحقّق أخبارها. ثمّ إنّ من أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم الباهرة، وآيات نبوّته الظّاهرة، ودلائل صدقه: معجزة القرآن العظيم، المستمرّة على مرّ الدّهور والأزمان، المشاهدة لجميع الإنس والجانّ، وقد انطوى على وجوه من الإعجاز- ستأتي الإشارة إليها في الباب السّادس- لا يحصرها عدّ، ولا يحيط بها حدّ. فلمّا أظهر صلى الله عليه وسلم هذا الكلام البليغ، الّذي أعجز به البلغاء، واللّدّ «1» الفصحاء، مع ما اشتمل عليه من نبأ القرون السّالفة، والشّرائع الدّاثرة، ممّا كان لا يوجد في القصّة الواحدة، إلّا عند الفذّ من الأحبار والرّهبان، ولا ينالها بالتّعلّم إلّا من قطع

_ (1) اللّدّ: المجادلين.

العمر، وأفنى في طلبها الأزمان. [قال تعالى] : ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [سورة آل عمران 3/ 44] . [وقال تعالى] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة النمل 27/ 76- 77] . هذا مع ما انطوى عليه من المغيّبات، والإخبار بما كان وما هو آت، ومع ما احتوى عليه من بليغ المواعظ والحكم، وكريم الأخلاق والشّيم، والتّرغيب والتّرهيب، والوعد والوعيد، وإثبات النّبوّات والتّوحيد، وتحدّاهم بأن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا بعد أن أخبرهم أنّهم لن يفعلوا، قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء 17/ 88] . فلمّا عجزوا كلّهم عن معارضته، مع كمال بلاغتهم، وشدّة حرصهم، وتوفّر دواعيهم، وتهالكهم على إفحامه، وألقوا بأيديهم مذعنين، وأحجموا عن معارضته صاغرين، دلّ ذلك على/ صدقه قطعا فيما ادّعاه، وأنّ كتابه منزّل من عند الله، هذا مع ما قد تواتر عنه قبل دعوى النّبوّة وبعدها، من ملازمة الصّدق والأمانة، والعفّة والصّيانة، والأحوال الكريمة، والأخلاق العظيمة، والسّيرة الحسنة، والإعراض عن زهرة الدّنيا، والمداومة على الجدّ والتّشمير للآخرى، إلى أن توفّاه الله. إذا العقل يقطع بامتناع اجتماع هذه الأمور، إلّا في الأنبياء المؤيّدين بتأييد الله تعالى وأمره، ويستحيل أن يجمع الله هذه الكمالات فيمن يفتري على الله الكذب والبهتان، ثمّ يظهر دينه،

كما أخبر به على سائر الأديان. وهل للنّبوّة والرّسالة معنى غير هذا في الاستدلال؟ وماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال؟ ثمّ إذا ثبتت نبوّته صلى الله عليه وسلم- وقد دلّ كلام ربّه المنزّل على أنّه خاتم النّبيين، وأنّه مبعوث إلى النّاس أجمعين- ثبت بذلك عموم رسالته، ونسخ شريعته لسائر الشّرائع، لوجوب طاعته واتّباعه على الكلّ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [سورة آل عمران 3/ 85] . وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» : «مثلي ومثل الأنبياء، كرجل بنى دارا، فأكملها وأحسنها إلّا موضع لبنة فيها، فجعل النّاس يدخلونها ويتعجّبون ويقولون: لولا موضع هذه اللّبنة، فأنا اللّبنة، وأنا خاتم النّبيّين» «1» . فإن ادّعى مدّع خصوص رسالته إلى العرب فقط، فقد اعترف بنبوّته، والكذب ممتنع على الأنبياء اتّفاقا. وقد حصل العلم القطعيّ أنّه صلى الله عليه وسلم جاء بكتاب من عند الله، ناطق بعموم رسالته إلى النّاس أجمعين، كقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [سورة الأعراف 7/ 158] . وبأنّه ادّعى عموم الرّسالة إلى الأحمر والأسود، والبعيد والقريب: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [سورة الأنعام 6/ 19]- أي: من بلغه القرآن-. / وتواتر النّقل عنه أنّه صلى الله عليه وسلم دعا اليهود والنّصارى وغيرهم إلى الإيمان، وأرسل كتبه إلى ملوك الفرس والرّوم وغيرهم، وألزمهم

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3341- 3342) . ومسلم برقم (2287) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على الأنبياء والمرسلين

وجوب طاعته، واتّباعه على وفق ما يجدونه في كتبهم: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [سورة الأعراف 7/ 157] يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [سورة البقرة 2/ 146] فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [سورة البقرة 2/ 89] . فكيف يعترف هذا بنبوّته ثمّ يناقض وجوب عصمته بتكذيبه؟ [قال تعالى] : وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [سورة النّساء 4/ 150- 151] . فهذا القدر كاف في تحقيق نبوّته، وعموم رسالته صلى الله عليه وسلم، ونسخ دينه لكلّ دين. [تفضيل النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الأنبياء والمرسلين] وأمّا تفضيله صلى الله عليه وسلم على جميع النّبيّين والمرسلين؛ فلما صحّ من قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» «1» . فتحدّث بنعمة ربّه امتثالا لأمره، نافيا للفخر والخيلاء، وبلّغ ذلك إلى أمّته ليعرفوه ويعتقدوه، ولقوله سبحانه وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران 3/ 110] . ولا شكّ أنّ خيريّة الأمّة بحسب كمالها، وذلك تابع لكمال نبيّها، لأنّ كمال التّابع من كمال المتبوع. هذا إلى ما ورد في الأخبار الصّحيحة من اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالشّفاعة العظمى في أهل الموقف يوم الدّين، وهو المقام المحمود الّذي يحمده فيه الأوّلون والآخرون، بعد رجوع الخلائق إليه في الشّفاعة العظمى، واعترافهم له بالمزيّة. وفي «الصّحيحين» : «أعطيت خمسا، لم يعطهنّ أحد قبلي: نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا،

_ (1) أخرجه ابن ماجه، برقم (4308) . عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشّفاعة، وبعثت إلى النّاس عامّة، وكان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّة» «1» . وقال بعض العارفين/ بالله: لمّا أخرج الله: مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [سورة الأعراف 7/ 172] تفاوتوا في الإجابة، فأوّلهم الرّسل، وأوّل الرّسل محمّد صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين. هذا مع أنّه لا تفاضل بين جميع الأنبياء في درجة النّبوّة، وإنّما يكون التّفاضل بينهم بأمور أخر زائدة على ذلك؛ كأن تكون معجزات أحدهم أشهر وأظهر، أو تكون أمّته أكثر وأظهر، أو غير ذلك ممّا يخصّهم الله به من الكرامة. فمنهم: أولوا العزم «2» ، ومنهم: أولوا الأيدي والأبصار «3» ، ومنهم: المصطفون الأخيار «4» ، ومنهم: من رفعه الله مكانا عليّا «5» ، ومنهم: من آتاه الله الحكم صبيا «6» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (328) . ومسلم برقم (521/ 3) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (2) أولوا العزم: ذوو الحزم والصّبر. وفيهم عشرة أقوال؛ أحدها: أنّهم (نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ومحمّد صلى الله عليه وسلم) . [زاد المسير، ج 7/ 392 (أنصاريّ) ] وهذا القول هو المعتمد المشهور عند المحققين. (3) أولو الأيدي: القوّة في الطّاعة. والأبصار: البصائر في الدين والعلم. قال ابن جرير: وذكر الأيدي مثل، وذلك لأنّ باليد البطش، وبالبطش تعرف قوّة القويّ، فلذلك قيل للقويّ: ذو يد. وعنى بالبصر: بصر القلب، وبه تنال معرفة الأشياء. [زاد المسير، ج 7/ 146 (أنصاريّ) ] . (4) وهم: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب عليهم الصّلاة والسّلام. (أنصاريّ) . (5) وهو: إدريس عليه الصّلاة والسّلام. (6) وهو: يحيى عليه الصّلاة والسّلام.

[قال الله تعالى] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [سورة البقرة 2/ 253] . [وقال تعالى] : وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [سورة النّساء 4/ 164] . ثمّ إنّه ليس يخفى على من له أدنى ممارسة بالعلم أنّ معجزات نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم أشهر وأكثر من معجزات سائر المرسلين عليهم الصّلاة والسّلام أجمعين- كما سيأتي ذكر بعضها- وإنّها أبلغ وأتمّ في باب الإعجاز. إذ من المعلوم أنّ انفجار الأصابع بالماء الغزير أبلغ في باب الإعجاز من انفجاره من الحجر، لأنّه شيء ما شوهد مثله قطّ ولا عهد، بخلاف انفجار الحجر بالماء، فإنّه بالجملة معهود، وإن كان على غير الوجه الّذي شوهد في عهد موسى عليه السّلام. وكذلك إشباع الجيش الكثير من أقراص من شعير، أتمّ في باب الإعجاز من إنزال المنّ والسّلوى، والمائدة على عيسى [عليه السّلام] من السّماء. وكذلك ردّ العين السّائلة وإعادتها في الحال إلى صحّتها حتّى كانت أحسن من الآخرى الصّحيحة، أعجب من إبراء الأكمه والأبرص. وكذلك نطق ما لم يعهد نطقه أصلا- كالجذع، والحجر، والشّجر، والضّبّ، والذّئب، والذّراع- أغرب من إحياء الموتى، فإنّ الميّت قد كان ينطق/، فقد عهد منه الحياة والنّطق في الجملة، ولم يعهد في حال من الأحوال نطق شيء من تلك الأجناس. على أنّ جميع معجزات المرسلين عليهم السّلام تصلح أن تكون

فائدة: في الفرق بين المعجزة والكرامة والسحر

معجزة لنبيّنا صلى الله عليه وسلم، لأنّ حقيقة المعجزة ما دلّ على صدق الرّسول، وكلّ من المرسلين قد بشّر به، فمعجزاتهم الدّالّة على صدقهم، معجزات دالّة على صدقه، وبراهين شاهدة بصحّة نبوّته. ثمّ إنّ معجزات سائر المرسلين عليهم الصّلاة والسّلام انقرضت بانقراضهم، وانعدمت بموتهم. وأمّا نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم فأعظم معجزاته: القرآن، وهو معجزة مستمرّة على مرّ الأزمان، لا تبيد ولا تنقطع، ولا تذهب ولا تضمحلّ، بل هي ثابتة إلى الأبد، واضحة الحجّة لكلّ قرن، فلا يمرّ عصر، ولا يظهر قرن، إلّا وهم مستدلّون على الخصم بوجوه إعجازه، محتجّون عليه بما احتجّ من قبلهم على الخصم من قبله، قائلين: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [سورة البقرة 2/ 23] . فائدة [: في الفرق بين المعجزة والكرامة والسّحر] أجمع أهل السّنّة على أنّ كرامات الأولياء حقّ. قال الشّيخ الرّبّانيّ محيي الدّين النّوويّ- رحمه الله تعالى- في «شرح صحيح مسلم» ، في الكلام على حديث جريج الرّاهب: (فيه إثبات كرامات الأولياء، وأنّها تكون بجميع خوارق العادات، وأنّ كلّ ما جاز أن يكون معجزة للأنبياء، جاز أن يكون كرامة للأولياء، وأنّ كرامات الأولياء يجوز أن تقع باختيارهم وطلبهم وبغير اختيارهم، لأنّ جريجا توضّأ، وصلّى، ودعا الله تعالى، وقال للغلام: من أبوك؟ فقال: فلان الرّاعي) «1» . انتهى.

_ (1) شرح صحيح مسلم، للنّوويّ، ج 16/ 88، بتصرّف من المؤلّف.

قلت: وجميع ما ذكره- رحمه الله تعالى- هو مذهب أهل السّنّة، لأنّ خرق العادة لا يحيله العقل، وقد تظاهرت أدلّة الكتاب والسّنّة، والأخبار والآثار، الّتي ملأت الآفاق، وضاقت عن حصرها الأوراق؛ على وقوع/ كرامات الأولياء في كلّ عصر وزمان، كقوله تعالى في مريم: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [سورة آل عمران 3/ 37] ، وقوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [سورة مريم 19/ 25] ، وقوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [سورة مريم 19/ 17] ، وقوله تعالى: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ [سورة النّمل 27/ 39] . وكحديث جريج، وأصحاب الغار الثّلاثة، وكذا حديث بركة قصعة الصّدّيق «1» ، وحديث نداء الفاروق: يا سارية الجبل، ومشي العلاء بن الحضرميّ على الماء، وتسبيح قصعة أبي الدّرداء وسلمان «2» ، وتسليم الملائكة على عمران [بن حصين] .

_ (1) وذلك أنّ ثلاثة من أهل الصفّة نزلوا عنده ليتعشّوا، فأمر أبا بكر ابنه عبد الرّحمن، وقال له: دونك أضيافك، فإنّي منطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فافرغ من قراهم قبل أن أجيء، ثمّ ذهب أبا بكر إلى أمره وعاد بعد ما مضى من الليل ما شاء الله. فوجدهم ينتظرونه ولم يأكلوا شيئا، فأحضر القدر، فأكلوا، فكان كلّما أكلوا لقمة زاد من أسفلها أكثر منها، فأكلوا وهي تزداد، حتى شبعوا، وإذا بالطعام في القدر قد زاد ثلاث مرّات، فأرسل أبو بكر القدر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأكل منها، وأكل معه جمع كبير من الناس، الله أعلم بعددهم «رياض الصالحين» ، رقم (1501) . (2) وذلك أنّه بينما أبو الدّرداء يوقد تحت قدر له، وسلمان- رضي الله عنهما- عنده، إذ سمع أبو الدّرداء في القدر صوتا، ثمّ ارتفع الصوت بتسبيح كهيئة صوت الصّبيّ، قال: ثمّ ندرت فانكفأت، ثمّ رجعت إلى

ولو لم يكن إلّا قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من عباد الله، من لو أقسم على الله لأبرّه» «1» - أي: لأكرمه- لكفى. وسئل الإمام أحمد- رحمه الله تعالى-: ما بال الصّحابة لم ينقل عنهم من الكرامات ما نقل عمّن بعدهم؟ فقال: لقوّة إيمانهم. وسئل النّوويّ- رحمه الله تعالى-: ما بال العلماء لا يظهر عليهم ما يظهر على العبّاد؟ فقال: لعزّة الإخلاص في العلم دون العبادة. ولا فرق بين الكرامة والمعجزة إلّا اقتران المعجزة بدعوى النّبوّة. نعم، قد تلتبس الكرامة بالسّحر، فإنّه أيضا أمر خارق للعادة، وإنّما الفرق بين الكرامة والسّحر باتّباع الولي للرّسول، ومخالفة السّاحر له. فالكرامة الّتي لا يتطرّق إليها تلبيس «2» هي الاستقامة. قال العلماء: ويستحيل أن يظهر الخارق مع دعوى النّبوّة على يد الكاذب، وكلّ كرامة لوليّ معجزة لنبيّه، لدلالة صدق التّابع على صدق المتبوع. والله أعلم.

_ مكانها لم ينصبّ منها شيء، فجعل أبو الدّرداء ينادي: يا سلمان؛ انظر إلى العجب!! انظر إلى ما لم تنظر مثله أنت ولا أبوك!! فقال سلمان: أما إنّك لو سكت لسمعت من آيات الله الكبرى وكان أبو الدّرداء إذا كتب إلى سلمان، أو سلمان كتب إلى أبي الدّرداء؛ كتب إليه يذكّره باية القصعة. «حلية الأولياء» ، ج 1/ 224. (1) أخرجه البخاريّ، رقم (2556) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) تلبيس: اختلاط أو شبهة.

الباب السادس في ذكر بعض ما اشتهر من معجزاته، وظهر من علامات نبوته في حياته صلى الله عليه وسلم

الباب السّادس في ذكر بعض ما اشتهر من معجزاته، وظهر من علامات نبوّته في حياته صلى الله عليه وسلّم فمن [ذلك] : انشقاق القمر، وردّ الشّمس وحبسها له، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطّعام اليسير ببركته، وكلام الشّجر والحجر، وشهادتها له بالنّبوّة، وشهادة الحيوانات له بالرّسالة، وشفاء العلل بريقه وكفّه المباركة، وإجابة دعائه لمن دعا له، وصلاح ما كان فاسدا بلمسه، وما أخبر به من المغيّبات، ممّا كان، وممّا هو آت/. وأعظمها معجزة: القرآن العظيم، والذّكر الحكيم. فهذه عشرة أنواع من المعجزات الباهرة، والآيات الظّاهرة، كلّ نوع منها منطو على ما لا يحصره عدّ، ولا يحيط به حدّ، ولكنّا نشير من كلّ نوع منها إلى شيء منه: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً [سورة المدّثّر 74/ 31] . فنقول: أمّا النّوع الأوّل: وهو انشقاق القمر، وردّ الشّمس وحبسها له صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [سورة القمر 54/ 1] . [انشقاق القمر] وروى البخاريّ في «صحيحه» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول صلى الله عليه وسلم- أي لمن معه من

رد الشمس وحبسها له صلى الله عليه وسلم

المسلمين-: «اشهدوا» «1» . وفي رواية-: «حتّى رأيت الجبل بين فرقتي القمر» «2» . فقال كفّار قريش: سحركم محمّد؟ فقال رجل منهم: إنّ محمّدا إن كان سحركم، فإنّه لا يبلغ من سحره أن يسحر أهل الأرض كلّها، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر، هل رأوا مثل هذا؟ فأتوا فسألوهم، فأخبروهم أنّهم رأوا مثل ذلك، فقال أبو جهل: هذا سحر مستمرّ. [ردّ الشمس وحبسها له صلى الله عليه وسلم] وخرّج الطّحاويّ في «مشكل الحديث» بإسنادين صحيحين، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجر عليّ رضي الله عنه، فلم يصلّ عليّ العصر حتّى غربت الشّمس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصليت العصر يا عليّ؟» قال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ إنّه كان في طاعتك، وطاعة رسولك، فاردد عليه الشّمس» «3» فطلعت بعدما غربت، وأشرقت على الجبال، وكان ذلك ب (الصّهباء) في غزوة (خيبر) . وروى الحافظ يونس بن بكير، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا أسري به ليلة الاثنين، وأخبر قومه بالرّفقة الّتي وجدهم في طريق (الشّام) ، في العير الآتية إليهم، فقالوا له: متى تجيء العير؟ فقال: / «يوم الأربعاء» فلمّا كان ذلك الوقت احتبست العير، وأشرفت قريش ينتظرون، ودنت الشّمس للغروب، فحبس الله الشّمس ساعة،

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4583) . (2) أخرجه أحمد، برقم (4347) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (3) أخرجه الطّحاويّ في «مشكل الآثار» ، ج 2/ 9.

وأما النوع الثاني: وهو نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم،

حتّى قدمت العير، بعد أن دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم ربّه أن يحبسها له «1» . وأمّا النّوع الثّاني: وهو نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث فيه كثيرة. ففي «الصّحيحين» ، عن أنس رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حانت صلاة العصر، فالتمس النّاس الوضوء «2» ، فلم يجدوه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء- وفي رواية: بإناء لا يكاد يغمر أصابعه- فوضع [رسول الله صلى الله عليه وسلم] يده في ذلك الإناء، وأمر النّاس أن يتوضّؤوا منه. قال: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، حتّى توضّؤوا عن آخرهم «3» . وفي «الصّحيحين» أيضا، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا ماء، فقال [لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم] : «اطلبوا من معه فضل ماء» ، فأتي بقليل ماء فصبّه في إناء، ثمّ وضع كفّه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم «4» . فائدة [: في طلبه صلى الله عليه وسلم فضل ماء] قال العلماء: وإنّما طلب فضل الماء ليكون من باب تكثير القليل، لا من باب الإيجاد من العدم، لئلّا يتوهّم أحد أنّه الموجد للماء.

_ (1) ذكره الزبيدي في «الإتحاف» ، ج 7/ 192، وعزاه لابن بكير في «زيادة المغازي» ، عن ابن إسحاق. (2) الوضوء: (بفتح الواو) : الماء الّذي يتوضّأ به (أنصاريّ) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3380) . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3386) .

وفي «الصّحيحين» أيضا، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: عطش النّاس يوم (الحديبية) ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة، فتوضّأ منها، وأقبل النّاس نحوه، فقالوا: ليس لنا ماء إلّا ما في ركوتك هذه، فوضع يده في الرّكوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، كأمثال العيون «1» . وفي «الصّحيحين» عن البراء بن عازب، وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما، أنّهم نزحوا بئر (الحديبية) فلم يتركوا فيها قطرة، وكانت قليلة الماء، لا تروي خمسين شاة، فنزح صلى الله عليه وسلم منها دلوا وبصق فيه، وأعاده إليها/، فجاشت بالماء الغزير، حتّى أروى الجيش أنفسهم وركابهم «2» . وفي «الصّحيحين» عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: أصاب النّاس عطش شديد، وهم مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فوجّه رجلين من أصحابه، وهما: عمران بن حصين، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأعلمهما أنّهما يجدان امرأة بمكان كذا، معها بعير عليه مزادتان، فوجداها، فأتيا بها إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، [فجعل في إناء من مزادتيها، وقال فيه ما شاء الله أن يقول، ثمّ أعاد الماء في المزادتين، ثمّ فتحت عزاليهما] «3» فأمر النّاس أن يستقوا من مزادتيها، فملؤوا أسقيتهم حتّى لم يدعوا سقاء إلّا ملؤوه، قال عمران بن حصين: ثمّ أوكيتهما] ، وتخيّل لي أنّهما لم يزدادا إلّا امتلاء، ثمّ أمر فجمع لها من الأزواد حتّى ملأ ثوبها،

_ (1) أخرجه البخاريّ برقم (3921) . ومسلم برقم (1856) . الرّكوة: إناء من جلد. (2) أخرجه البخاريّ برقم (3920) . (3) العزالى- مفردها عزلاء- وهي: مصب الماء من القربة ونحوها. [الأنصاري] .

وقال: «اذهبي فإنّا لم نأخذ من مائك شيئا- أي: لم ننقصه- ولكنّ الله سقانا» «1» . وفي «الصّحيحين» ، عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش العسرة، فعطش النّاس عطشا شديدا، حتّى إنّ الرّجل منّا لينحر بعيره، فيعصر فرثه فيشربه، فرغب أبو بكر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الدّعاء، فرفع يديه، فلم يرجعهما حتّى قالت السّماء، فانسكبت، فملؤوا ما معهم من الأسقية، ولم يجاوز المطر العسكر «2» . وفي «صحيح مسلم» عن جابر رضي الله عنه، قال: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة، فقال: «يا جابر ناد الوضوء» ، فلم يجدوا ماء إلّا قطرة في فم مزادة، فقال: «ائتني بجفنة الرّاكب» ، فأتيته بها، فوضع النّبيّ صلى الله عليه وسلم كفّه فيها، وصبّ عليه ذلك الماء، فقال: «باسم الله» ، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، حتّى امتلأت الجفنة، واستدارت، فأمر النّاس بالاستقاء منها، فاستقوا، وأسقوا ركابهم، فرفع يده من الجفنة، وإنّها لملأى «3» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (337) و (3378) . ومسلم برقم (682/ 312) . المزادة: إناء من جلد كالرّاوية لها فم، تملأ ماء للشّرب، فالمزادة والرّاوية والقربة كلّها تصنع من الجلد، لكنّ بعضها أكبر من بعض، وأكبرها الرّاوية. العزلاء: مصبّ الماء من القربة ونحوها. أوكأ: ربط. أو شدّ بالوكاء، وهو ما يشدّ به رأس القربة ونحوها. (2) أخرجه البزّار في «المسند» ، ج 6/ 195. فرثه: ما في كرشه. قالت السّماء: غيّمت وظهر فيها سحاب. الأسقية: مفردها: سقاء؛ وعاء من جلد يكون للماء واللّبن. (3) أخرجه مسلم، برقم (3013) . الجفنة: الإناء للماء والطّعام.

وأما النوع الثالث: وهو تكثير الطعام اليسير ببركته صلى الله عليه وسلم

وروى الإمام مالك في «الموطّأ» ، / عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة (تبوك) ، فوردنا العين، فوجدناها تبضّ بشيء من ماء مثل الشّراك، فغرفوا منها شيئا في إناء، فغسل به النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجهه ويديه، وأعاده فيها، فجرت بماء كثير، له حسّ كحسّ الصّواعق، ثمّ قال: «يوشك أن يكون ما ها هنا جنانا» - أي: بساتين- فكان كذلك «1» . وأمّا النّوع الثّالث: وهو تكثير الطّعام اليسير ببركته صلى الله عليه وسلم فكثير أيضا. فمن ذلك: حديث أنس رضي الله عنه، أنّ أبا طلحة بعثه بأقراص من شعير تحت إبطه، ففتّها صلى الله عليه وسلم وأشبع منها ثمانين رجلا. متّفق عليه «2» . وحديث جابر رضي الله عنه، أنّه صنع للنّبيّ صلى الله عليه وسلم صاعا من شعير وعناقا، وطلب خامس خمسة، فنادى في أهل (الخندق) ، وكانوا ألفا جياعا، فأكلوا من ذلك كلّهم، حتّى انصرفوا، قال جابر: وأقسم بالله إنّ برمتنا لتغطّ كما هي، وإنّ عجيننا ليخبز، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم بصق في البرمة والعجين. متّفق عليه «3» .

_ (1) أخرجه مالك في «الموطّأ» ، كتاب: قصر الصّلاة في السّفر، رقم (2) . ومسلم برقم (706/ 10) . تبضّ: تسيل. الشّراك: سير النّعل، ومعناه: ماء قليل جدّا. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (6310) . ومسلم برقم (2040) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3876) . ومسلم برقم (2039/ 141) . عناق: الأنثى من ولد المعز. البرمة: القدر. برمتنا لتغطّ: إنّ قدرنا ليغلي ويفور من الامتلاء، فيسمع غطيطها، أي: صوت غليانها. الغطيط: صوت النّائم أيضا.

وحديث جابر أيضا المتّفق عليه، أنّه حين مات أبوه أبى غرماؤه أن يقبلوا ثمرة نخيله بدينه، فجاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجلس على بيدر واحد منها، فكال لهم حتّى أوفاهم منه، وسلمت له منه بقيّة مع سائر البيادر «1» . وحديث أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه، أنّه صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر عند قدومهما في الهجرة ما يكفيهما، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ادع ثلاثين من أشراف الأنصار» ، فدعاهم، فأكلوا حتّى تركوه، فقال: «ادع ستّين» ، فدعاهم، فأكلوا حتّى تركوه، فقال: «ادع سبعين» ، فدعاهم، فأكلوا حتّى تركوه، قال أبو أيّوب: فأكل من طعامي ثمانون ومئة رجل، وما خرج رجل منهم حتّى أسلم وبايع «2» / متّفق عليه. وحديث أنس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين ابتنى بزينب رضي الله عنها، أمره أن يدعو له كلّ من لقي، حتّى امتلأ البيت، فقدّم إليهم مدّا من تمر، قد جعل حيسا، فجعل القوم يتغدّون ويخرجون، وبقي التّمر كما هو. متّفق عليه «3» . وحديث عبد الرّحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، قال: كنّا

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3827) . الغريم: صاحب الدّين. قلت: والحديث وإن كان معجزة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فهو يدلّ على صدق المؤمنين مع فقرهم، ويدلّ على شدّة رحمته صلى الله عليه وسلم بهم ومواساته إيّاهم. (2) أخرجه الأصفهانيّ في «الدّلائل» ، ص 152- 153. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (2736) . ومسلم برقم (1365) . حيسا: تمر خلط بسمن أو دقيق. قلت: إنّ من المعروف أنّ هذه القصّة اتّفقت في بنائه صلى الله عليه وسلم بصفيّة، وفي «شرح مسلم» ، للخفاجيّ: أنّ الرّاوي أدخل قصّة في قصّة. وقال بعضهم: يحتمل أنّه اتّفق الشّيئان- يعني: الشّاة والحيس-.

مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومئة، فعجن صاع من طعام، وذبحت شاة، فشوي سواد بطنها- أي: كبدها- وأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يحزّ لهم منها، قال: وايم الله ما من الثّلاثين والمئة إلّا وقد حزّ له حزّة من كبدها، ثمّ جعل منها الطّعام واللّحم قصعتين، فأكلنا منهما أجمعون، وفضل منهما فضلة، فحملته على البعير. متّفق عليه «1» . وحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: أصابت النّاس مخمصة شديدة في بعض مغازي النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعا ببقيّة الأزواد، فجاء الرّجل بالحثية من الطّعام وفوق ذلك، وأعلاهم الّذي أتى بالصّاع من التّمر، فجمعوه على نطع- زاد مسلم: قال سلمة: فحزرته كربضة العنز- قال: ثمّ دعا النّاس بأوعيتهم، فما بقي في الجيش وعاء إلّا ملؤوه، وبقي منه بقيّة. متّفق عليه «2» . وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أصابني جوع شديد، فلمّا خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المسجد تبعته، فوجد عند أهله قدح لبن قد أهدي له، فأمرني أن أدعو له أهل الصّفّة، وكانوا سبعين، فدعوتهم، فأمرني النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن أسقيهم منه، فجعلت أعطي الرّجل القدح، فيشرب حتّى يروى، حتّى رووا جميعهم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «بقيت أنا وأنت، فاشرب» ، فشربت حتّى رويت، فقال: «اشرب» فشربت، فما زال يقول: «إشرب» ، حتّى قلت: والّذي بعثك بالحقّ نبيّا لا أجد له مسلكا، فأخذ القدح

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (5067) . ومسلم برقم (2056/ 175) الحزّة: قطعة من اللحم قطعت طولا. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (2820) . ومسلم برقم (1729/ 19) . حزرته: قدّرته بطريق التّخمين والحدس. ربضة العنز: مبركها.

وأما النوع الرابع: وهو كلام الشجر والحجر، وشهادتهما له بالنبوة صلى الله عليه وسلم.

فحمد الله وسمّى وشرب. متّفق عليه «1» /. وأمّا النّوع الرّابع: وهو كلام الشّجر والحجر، وشهادتهما له بالنّبوّة صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك: حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فدنا منه أعرابيّ، فقال [له رسول الله] : «يا أعرابيّ، أين تريد» ؟، قال: إلى أهلي، قال صلى الله عليه وسلم: «هل لك إلى خير؟» ، قال: وما هو؟ قال: «تشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّدا عبده ورسوله» قال: من يشهد لك على ما تقول؟ قال: «هذه السّمرة» وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخدّ الأرض حتّى قامت بين يديه، فاستشهدها، فشهدت الشّهادتين، ثمّ أمرها فرجعت إلى مكانها «2» . وفي «الصّحيحين» ، عن جابر رضي الله عنه، قال: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي حاجته، فلم ير شيئا يستتر به، فإذا بشجرتين بشاطئ الوادي متباعدتين، فأخذ بغصن من أغصان أحدهما، فانقادت له كالبعير المخشوش- أي: المجعول في أنفه حلقة فيها الخطام- حتّى إذا كانت بالمنصف «3» ، وفعل بالآخرى كذلك، فالتأمتا بإذن الله تعالى، فلمّا قضى حاجته افترقتا، وعادت كلّ واحدة منهما إلى منبتها «4» . وعن بريدة بن الحصيب- مصغّرين- رضي الله عنه، قال:

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (6087) . (2) أخرجه الدّارميّ، برقم (16) . تخدّ الأرض: تشقّها. (3) المنصف: نصف المسافة أو نصف الطّريق. (4) أخرجه مسلم برقم (3012) .

سأل أعرابيّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم آية- أي: علامة على نبوّته- فقال له: «قل لتلك الشّجرة؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك» ففعل، فمالت الشّجرة يمينا وشمالا، فتقطّعت عروقها، ثمّ جاءت تجرّ عروقها، حتّى وقفت بين يديه صلى الله عليه وسلم، فقالت: السّلام عليك يا رسول الله، فقال له الأعرابيّ: ائذن لي أسجد لك، قال: «لا ينبغي السّجود إلّا لله» قال: ائذن لي أقبّل يديك ورجليك، فأذن له «1» . وعن يعلى بن مرّة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا/، فأتت شجرة عظيمة، فأطافت به، ثمّ رجعت إلى منبتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّها استأذنت ربّها أن تسلّم عليّ» «2» . وذكر الإمام أبو بكر بن فورك- رحمه الله تعالى-: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسير ليلا في غزوة (الطّائف) وهو وسن- أي: به سنة نوم- فاعترضته شجرة سدر، فانفرجت له نصفين حتّى مرّ بينهما، قال: وبقيت على ساقين إلى وقتنا هذا، قال: وهي هناك معروفة معظّمة «3» . ومن ذلك: حديث الجذع المشهور في «الصّحيحين» ، عن جماعة من الصّحابة رضي الله عنهم، قالوا: كان المسجد مسقوفا بجذوع النّخل، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلمّا صنع له المنبر سمعنا له صوتا كصوت العشار من الإبل «4» - وفي

_ (1) أخرجه البزار، انظر «كشف الأستار» ، رقم (2409) . (2) أخرجه البغويّ في «شرح السّنّة» ، برقم (3718) . وأبو نعيم في «الدّلائل» ، (136- 139) . (3) الشّفا، ج 1/ 578. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (876) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. العشار: النّاقة الّتي أتى عليها الفحل عشرة أشهر وزال عنها اسم

رواية: حتّى ارتجّ المسجد لشدّة خواره «1» -. وفي رواية سهل بن سعد: وكثر بكاء النّاس «2» . وفي رواية المطّلب بن أبي وداعة: حتّى انشقّ الجذع وجاءه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت «3» . زاد غيره: فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذا بكى لما فقده من ذكر الله تعالى» «4» ، وقال: «والّذي نفسي بيده، لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة» . ثمّ أمر به النّبيّ صلى الله عليه وسلم فدفن تحت المنبر «5» . وفي رواية بريدة: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «إن شئت أن أردّك إلى البستان الّذي كنت فيه، تنبت لك عروقك، ويكمل خلقك، ويجدّد لك خوص وثمر، وإن شئت أن أغرسك في الجنّة ليأكل أولياء الله من ثمرك» ، فقال: بل تغرسني في الجنّة، لأكون في مكان لا أبلى فيه، فسمعه الحاضرون، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «قد فعلت» ثمّ قال: «إنّه اختار دار البقاء على دار الفناء» «6» . وكان الحسن البصريّ- رحمه الله- إذا حدّث بهذا الحديث

_ المخاض، ثمّ لا يزال ذلك اسمها حتّى تضع، وبعد وضعها أيضا. والمراد هنا: خوارها عند وضعها أو عقبه. (1) أخرجه الدّارميّ، برقم (41) . الخوار: صوت البقر، ثمّ توسّعت العرب فيه على أصوات جميع البهائم. (2) الشّفا، ج 1/ 583. (3) أخرجه ابن ماجه، برقم (1414) . (4) أخرجه أحمد، برقم (13794) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (5) أخرجه الدّارميّ، برقم (41) . (6) أخرجه الدّارميّ، برقم (32) . بنحوه. الخوص: واحده خوصة؛ وهي ورق النّخل.

وأما النوع الخامس: وهو شهادة الحيوانات له بالرسالة صلى الله عليه وسلم.

بكى، وقال: يا عباد الله/، الخشبة تحنّ شوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا فارقها، فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إلى لقائه «1» . وفي «صحيح البخاريّ» عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: كنّا نسمع تسبيح الطّعام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤكل «2» . وفي «الصّحيحين» عن أنس رضي الله عنه، قال: صعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم جبل (أحد) ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف بهم الجبل، فقال: «اثبت أحد، فإنّما عليك نبيّ وصدّيق، وشهيدان» «3» . وفيهما-[أي: الصّحيحين]- عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: كان حول الكعبة لقريش ثلاث مئة وستون صنما، مثبتة على الرّخام بالرّصاص، فلمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، جعل يشير إليها بقضيب كان في يده، ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً- أي: ذاهبا-[سورة الإسراء 17/ 81] فما أشار لوجه صنم إلّا وقع لقفاه، ولا لقفاه إلّا وقع لوجهه، حتّى ما بقي منها صنم، فأمر بإخراجها «4» . وأمّا النّوع الخامس: وهو شهادة الحيوانات له بالرّسالة صلى الله عليه وسلم. [شهادة الضّبّ] فمن ذلك: حديث الضّبّ. عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم جالسا في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابيّ معه ضبّ قد صاده،

_ (1) الشّفا، ج 1/ 584- 585. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3386) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3472) . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (2346) . ومسلم برقم (1781/ 87) .

حديث الذئب للراعي

فعرض عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإسلام، فقال: واللّات والعزّى لا آمنت بك إلّا أن يؤمن بك هذا الضّبّ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا ضبّ» ، فأجابه بلسان فصيح سمعه القوم جميعا: لبّيك وسعديك يا زين من وافى القيامة، قال: «من تعبد؟» قال: الله الّذي في السّماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي الجنّة رحمته، وفي النّار عذابه، قال: «فمن أنا؟» قال: أنت رسول ربّ العالمين، وخاتم النّبيّين، قد أفلح من صدّقك، وخاب من كذّبك «1» [فأسلم الأعرابيّ] . [حديث الذّئب للرّاعي] ومن ذلك: حديث الذّئب/، عن أبي سعيد الخدريّ وأبي هريرة رضي الله عنهما، قالا: بينما راع يرعى غنما له، إذ عرض الذّئب لشاة منها فأخذها، فأدركه الرّاعي، فاستردّها منه، فأقعى الذّئب «2» ، فقال: أفلا تتّقي الله تعالى، حلت بيني وبين رزقي؟ فقال الرّاعي: عجب!! لذئب يتكلّم؟ فقال الذّئب: أنت أعجب منّي، واقف على غنمك وتركت نبيّا لم يبعث الله نبيّا قطّ أعظم منه قدرا عنده، قد فتحت له أبواب الجنّة، وأشرفت الحور العين على أصحابه، ينظرون قتالهم، وما بينك وبينه إلّا هذا الشّعب، فتصير في جنود الله تعالى- وكان ذلك يوم (أحد) - قال الرّاعي: فمن لي بغنمي؟ قال الذّئب: أنا أرعاها حتّى ترجع، فمضى الرّجل ووجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقاتل، فأسلم، وأخبره الخبر، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «قم فحدّثهم» ، ثمّ قال له: «عد إلى غنمك تجدها بوفرها» ، فرجع فوجدها كذلك، فذبح للذّئب شاة «3» .

_ (1) أخرجه البيهقيّ في «الدّلائل» ، ج 6/ 36. (2) أقعى: جلس على إليتيه ونصب ساقيه وفخذيه. (3) أخرجه البيهقيّ في «الدّلائل» ، ج 6/ 41- 43. عن أبي هريرة رضي الله عنه.

سجود الغنم له صلى الله عليه وسلم

[سجود الغنم له صلى الله عليه وسلم] ومن ذلك: حديث الغنم، عن أنس رضي الله عنه، قال: دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم حائطا لبعض الأنصار، ومعه أبو بكر وعمر، وفي الحائط غنم، فسجدت له صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: نحن أحقّ بالسّجود لك منها، فقال: «إنّه لا ينبغي السّجود إلّا لله تعالى» «1» . [خضوع الجمل له صلى الله عليه وسلم] ومن ذلك: حديث البعير، عن جماعة من الصّحابة رضي الله عنهم، قالوا: دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم حائطا وكان فيه جمل لا يدع أحدا يدخل الحائط إلّا صال عليه، فلمّا دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم دعاه فجاءه، ووضع مشفره في الأرض، وبرك بين يديه، فخطمه، وقال للحاضرين: «والّذي نفسي بيده، ما من شيء بين السّماء والأرض إلّا يعلم أنّي رسول الله، ما خلا عصاة الإنس والجنّ» «2» . فسألهم عن شأن الجمل؟ فأخبروه أنّهم أرادوا ذبحه. وفي رواية: أنّه صلى الله عليه وسلم قال لهم: «إنّه شكا/ كثرة العمل، وقلّة العلف، وأنّكم أردتم ذبحه بعد أن استعملتموه في العمل الشّاقّ من صغره» فقالوا: نعم يا رسول الله «3» . [قصّة الظّبية] ومن ذلك: حديث الظّبية، عن أمّ سلمة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّحراء، فنادته ظبية: يا رسول الله، قال: «ما حاجتك؟» قالت: صادني هذا الأعرابيّ، ولي خشفان في

_ (1) أخرجه البيهقيّ في «الدّلائل» ، ج 6/ 28. والهيثميّ في «كشف الأستار» ، برقم (2451) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. الحائط: بستان من النّخل. (2) أخرجه أحمد، برقم (13923) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. المشفر: كالشفة في الإنسان. (3) أخرجه أحمد، برقم (17115) . عن يعلى بن مرّة رضي الله عنه.

ذراع الشاة المسمومة

ذلك الجبل، وكان الأعرابيّ نائما، فأطلقها النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فذهبت ورجعت، فانتبه الأعرابيّ، فقال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: ألك حاجة؟ قال: «نعم، تطلق هذه الظّبية» ، فأطلقها، فذهبت تعدو في الصّحراء، وتقول: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك محمّد رسول الله «1» . [ذراع الشّاة المسمومة] ومن ذلك: حديث الذّراع المشهور في «الصّحيحين» ، عن جماعة من الصّحابة رضي الله عنهم: أنّ يهوديّة «2» أيّام فتح (خيبر) أهدت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم شاة مصليّة- أي: مشويّة- سمّتها، فأكل منها النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال للقوم: «ارفعوا أيديكم، فإنّها أخبرتني أنّها مسمومة» «3» . وفي رواية جابر: «أخبرتني هذه الذّراع» ، وقال لليهوديّة: «ما حملك على ما صنعت؟» ، فقالت: إن كنت نبيّا لم تضرّك، وإن كنت ملكا أرحت النّاس منك، فعفا عنها. فمات بشر بن البراء من السّمّ، فقتلها به قصاصا «4» . وفي رواية أنس: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم «5» . وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الّذي مات فيه: «ما زالت أكلة (خيبر) تعادني- أي: تعاودني-

_ (1) أخرجه البيهقيّ في «الدّلائل» ، ج 6/ 34- 35. وأبو نعيم في «الدّلائل» ، برقم (273) . عن زيد بن أرقم رضي الله عنه. خشفان- الخشف-: الظّبي الصّغير أوّل ما يولد. (2) وهي: زينب بنت الحارث، امرأة سلّام بن مشكم. (3) أخرجه أبو داود، برقم (4512) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه أبو داود، برقم (4512) . (5) أخرجه البخاريّ، برقم (2474) . فما زلت أعرفها: أي العلامة. كأنّه بقي للسّمّ علامة وأكثر من سواد أو غيره. لهوات: اللحمة المعلقة في أعلى الحنك.

الأسد يدل رسول النبي صلى الله عليه وسلم على الطريق

فالآن قطعت أبهري- أي: عرق الظّهر المتعلّق بالقلب-» «1» . وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه، أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا باسم الله» ، فأكلنا «2» . وعند ابن إسحاق: إن كان المؤمنون ليرون أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مات شهيدا، مع ما أكرمه الله به من/ النّبوّة «3» . [الأسد يدلّ رسول النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الطّريق] ومن ذلك: حديث الأسد، مع سفينة مولى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان أرسله النّبيّ صلى الله عليه وسلم برسالة إلى معاذ بن جبل إلى (اليمن) ، فضلّ الطّريق، فاعترضه الأسد فقال له سفينة: يا أبا الحارث، أنا مولى رسول الله، ومعي كتابه، فهمهم وتنحّى عن طريقه، وجعل يغمزه بمنكبيه حتّى أدلّه الطّريق «4» . وأمّا النّوع السّادس: [إبراء المرضى وذوي العاهات] وهو شفاء العلل بريقه وكفّه المباركة صلى الله عليه وسلم. [ردّ عين بعد قلعها] فمن ذلك: ما رواه ابن إسحاق، أنّ قتادة بن النّعمان أصيبت عينه يوم (أحد) حتّى وقعت على وجنته، فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أحسن عينيه. وفي ذلك يقول ابنه، [من الطّويل] «5» : أنا ابن الّذي سالت على الخدّ عينه ... فردّت بكفّ المصطفى أحسن الرّدّ

_ (1) أخرجه أبو داود، برقم (4512) ، بنحوه. (2) أخرجه الهيثميّ في «كشف الأستار» ، برقم (2424) . (3) الشّفا، ج 1/ 609. (4) أخرجه البيهقيّ في «الدّلائل» ، ج 6/ 45. وأبو الحارث: اسم من أسماء الأسد. (5) دلائل النّبوّة، ج 3/ 252.

شفاء عيني علي

[شفاء عيني عليّ] وفي «الصّحيحين» ، أنّه صلى الله عليه وسلم تفل في عيني عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوم (خيبر) وكان رمدا، فبرأ حتّى كأن لم يكن به وجع «1» . [ردّه يدا بعد ما قطعت] وروى ابن وهب: أنّ أبا جهل قطع يد معوّذ بن عفراء يوم (بدر) ، فجاء يحمل يده، فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصقها، فلصقت «2» . وأتته امرأة من خثعم بصبيّ لا يتكلّم، فتمضمض بماء وأعطاه إيّاها، فسقته إيّاه، فنطق وعقل عقلا يفضل عقول الرّجال «3» . [حياء في الجارية من أثر لقمته صلى الله عليه وسلم] وسألته جارية وهو يأكل طعاما- وكانت قليلة الحياء- أن يطعمها من الّذي في فيه، فناولها الّذي في فيه- ولم يكن يمنع شيئا يسأله- فلمّا استقرّ في جوفها، ألقى الله عليها الحياء، حتّى لم يكن ب (المدينة) أشدّ حياء منها «4» . وأمّا النّوع السّابع: وهو إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم لمن دعا له. فمنه: ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لرجل، أدركت الدّعوة ولده وولد ولده «5» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمدينة] وفي «الصّحيحين» ، عن عائشة رضي الله عنها، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم/ قدم (المدينة) وهي أوبأ أرض الله، فقال: «اللهمّ حبّب إلينا المدينة، كحبّنا مكّة، أو أشدّ، وصحّحها لنا، وانقل حمّاها إلى الجحفة» «6» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2847) . ومسلم برقم (2406/ 34) . عن سهل بن سعد رضي الله عنهما. (2) الشّفا، ج 1/ 622. (3) أخرجه البيهقيّ في «الدّلائل» ، ج 3/ 61. (4) أخرجه الطّبرانيّ عن أبي أمامة رضي الله عنه. (5) أخرجه أحمد، برقم (22766) . (6) أخرجه البخاريّ، برقم (1790) . ومسلم برقم (1376/ 480) .

دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك

[دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك] وروى البخاريّ في «صحيحه» ، عن أنس رضي الله عنه، قال: قالت أمّي: يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له، فقال: «اللهمّ أكثر ما له وولده، وبارك له فيما أعطيته» «1» . قال أنس: (فو الله إنّ مالي لكثير، وما أعلم أنّ أحدا أصاب من رخاء العيش ما أصبت، وإنّ ولدي وولد ولدي ليتعادّون اليوم على نحو المئة، ولقد دفنت إلى اليوم مئة من ولدي، لا أقول سقطا، ولا ولد ولد) «2» . [البركة في مال عبد الرّحمن بن عوف] ودعا صلى الله عليه وسلم لعبد الرّحمن بن عوف [رضي الله عنه] بالبركة، فقال عبد الرّحمن: فلو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا. ولا يخفى كثرة أمواله وصدقاته الجزيلة، حتّى إنّه أعتق في يوم واحد ثلاثين عبدا، وتصدّق مرّة بعير «3» قدمت من (الشّام) تحمل كلّ شيء، وكان النّاس في مجاعة، فارتجّت (المدينة) لقدومها، فتصدّق بها وبما عليها، حتّى بأقتابها «4» وأحلاسها «5» ، وكانت سبع مئة جمل، عليها سبع مئة حمل، ولمّا مات أخذت كلّ زوجة ثمانين ألفا، وكنّ أربعا، بعد أن أوصى بخمسين ألفا «6» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (5984) . (2) ذكره مسلم، برقم (2481/ 143) . وما بين قوسين ليس من رواية مسلم. وهي رواية غير معروفة، ذكرها القاضي عياض في «الشّفا» ، ج 1/ 625- 626. (3) العير: القافلة. (4) القتب: رحل صغير على قدر سنام البعير. (5) الحلس: كساء يلي ظهر البعير تحت القتب. (6) الشّفا، ج 1/ 626.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم بالسقيا

[دعاؤه صلى الله عليه وسلم بالسّقيا] وفي «الصّحيحين» ، عن أنس رضي الله عنه، أنّ أعرابيّا دخل المسجد يوم الجمعة، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب، فشكا إليه القحط، فدعا الله، فسقوا، ولم يروا الشّمس إلى الجمعة الآخرى، حتّى دخل عليه وهو يخطب، فشكا كثرة المطر، فدعا الله تعالى فانكشف السّحاب «1» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم لابن عبّاس رضي الله عنهما] وفيهما-[أي: الصّحيحين] ، أنّه دعا صلى الله عليه وسلم لابن عبّاس رضي الله عنهما، حين حنّكه، وهو مولود: أن يفقّهه الله في الدّين، ويعلّمه التّأويل «2» ، فكان يسمّى الحبر «3» والبحر لسعة علمه. [دعاؤه صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه] ودعا [صلى الله عليه وسلم] لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أن يكفيه الله الحرّ والقرّ. فكان في الشّتاء يلبس ثياب الصّيف، وفي الصّيف يلبس ثياب الشّتاء، ولا يصيبه حرّ ولا برد «4» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها] ودعا [صلى الله عليه وسلم] لفاطمة الزّهراء ابنته رضي الله عنها، أن لا يجيعها الله، فما وجدت بعد ذلك للجوع ألما «5» /. [دعاؤه صلى الله عليه وسلم للنّابغة] وأنشده النّابغة أبياتا، فقال له [صلى الله عليه وسلم] : «لا يفضض الله فاك» فما سقطت له سنّ، وكان من أحسن النّاس ثغرا، وعاش مئة

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (891) . ومسلم برقم (897/ 8) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (143) . ومسلم برقم (2477/ 138) : بلفظ: «اللهمّ فقّهه في الدّين» . ولفظة: «وعلّمه التّأويل» ، أخرجها أحمد برقم (2393) . (3) الحبر: العالم. (4) أخرجه ابن ماجه، برقم (117) . عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى رضي الله عنه. (5) الشّفا، ج 1/ 630.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم على كسرى

وعشرين سنة، وقيل: كان إذا سقطت له سنّ نبتت في مكانها سنّ أخرى «1» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم على كسرى] وأمّا دعاؤه صلى الله عليه وسلم على الأعداء، فمنه: ما في «الصّحيحين» ، أنّه صلى الله عليه وسلم دعا على كسرى حين مزّق كتابه: «أن يمزّق الله ملكه كلّ ممزّق» «2» . فتمزّقوا حتّى لم يبق لهم باقية، ولا بقيت للفرس رئاسة في جميع أقطار الدّنيا. [دعاؤه صلى الله عليه وسلم على عتبة بن أبي لهب] ودعا صلى الله عليه وسلم على عتبة بن أبي لهب، أن يسلّط الله عليه كلبا من كلابه، فجاءه الأسد، وأخذه من وسط أصحابه «3» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم على محلم بن جثّامة] [ودعا] صلى الله عليه وسلم على رجل آخر فأصبح ميّتا، فدفنوه، فلفظته الأرض، فدفنوه مرارا، فلفظته الأرض، فتركوه «4» . وهذا الباب أكثر من أن يحصر. [دعاؤه على بشر بن راعي العير] وقال لرجل آخر يأكل بشماله: «كل بيمينك» ، قال: لا أستطيع، قال: «لا استطعت» ما منعه إلّا الكبر، فما رفعها إلى فيه. رواه مسلم «5» . وأمّا النّوع الثّامن: [كراماته وبركاته فيما لمسه وباشره صلى الله عليه وسلم] وهو صلاح ما كان فاسدا بلمسه صلى الله عليه وسلم. [فرس أبي طلحة رضي الله عنه] فمنه: ما روى البخاريّ في «صحيحه» ، أنّ أهل (المدينة) فزعوا مرّة، فركب النّبيّ صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة، بطيء السّير، فلمّا

_ (1) الشّفا، ج 1/ 628- 629. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (64) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. (3) الشّفا، ج 1/ 632. (4) الشّفا، ج 1/ 634. وتتمّة الخبر: أنّهم ألقوه بين جبّين وكوّموا عليه بالحجارة. (5) أخرجه مسلم، برقم (2021/ 107) .

نشاط جمل جابر رضي الله عنه

رجع، قال: وجدناه بحرا، فكان بعد ذلك لا يجاريه فرس «1» . [نشاط جمل جابر رضي الله عنه] وفي «الصّحيحين» ، أنّه صلى الله عليه وسلم نخس جملا لجابر، قد أعيا، فنشط حتّى كان ما يملك زمامه «2» . [بئر دار أنس رضي الله عنه] وكانت في دار أنس رضي الله عنه بئر ملحة، [فبزق] صلى الله عليه وسلم فيها، فلم يكن في (المدينة) أعذب منها «3» . [بئر رائحته المسك] ومجّ في دلو من بئر، ثمّ أعاده إليها، فكانت أبدا يفوح منها رائحة المسك «4» . [غرس النّخيل لسلمان رضي الله عنه] وكاتب سلمان الفارسيّ مواليه على ثلاث مئة وديّة- أي: ولد من أولاد النّخل- يغرسها لهم كلّها حتّى تعلق وتثمر، وعلى أربعين أوقية من ذهب، كلّ أوقية أربعون درهما، فقام صلى الله عليه وسلم وغرسها له بيده، فعلقت كلّها، وأثمرات لعامها. وأعطاه/ مثل بيضة الدّجاجة من ذهب بعد أن أدارها على لسانه، فوزن منها لمواليه أربعين أوقيّة، وبقي له مثل ما أعطاهم «5» . فائدة [: في وزن القطعة الّتي أعطاها النّبيّ صلى الله عليه وسلم لسلمان] الأوقية: أربعون درهما، والدّرهم: قفلة، وقدر بيضة

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2484) . عن أنس رضي الله عنه. بحرا: واسع الجري، سريع العدو. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4791) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. نخس الدابة: طعن مؤخّرها أو جنبها بعنزة لتنشط وتتهيّج. والعنزة: رمح قصير، أطول من العصا. (3) الشّفا، ج 1/ 639. (4) أخرجه ابن ماجه، برقم (659) . عن وائل الحضرمي رضي الله عنه. (5) الشّفا، ج 1/ 640- 641.

سيف عكاشة رضي الله عنه

الدّجاجة لا يكاد يبلغ ثمانين درهما، وقد وزن منها أربعين أوقيّة، وهي مثلها عن ثمانين أوقيّة، كلّ أوقيّة أربعون قفلة، فذلك عن مئتي قفلة وثلاثة آلاف قفلة «1» . [سيف عكّاشة رضي الله عنه] وانكسر سيف عكّاشة بن محصن يوم (بدر) ، فأعطاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم عودا من حطب، فعاد في يده سيفا صارما، يشهد به المواقف، وكان هذا السّيف يسمّى: العون «2» . [ماء يتحوّل إلى لبن وزبدة] وبعث [صلى الله عليه وسلم] سريّة من أصحابه، فلم يجدوا لهم زادا، فأعطاهم سقاء من ماء أوكاه بيده، فلمّا فتحوه وجدوه لبنا خالصا، وزبدة في فم السّقاء «3» . [غرّة عائذ بن عمرو رضي الله عنه] وسلت [صلى الله عليه وسلم] الدّم عن وجه بعض أصحابه، فكانت له غرّة في وجهه كغرّة الفرس، فكان يدعى الأغرّ «4» . [بريق وجه قتادة بن ملحان رضي الله عنه] ومسح [صلى الله عليه وسلم] وجه آخر، فما زال على وجهه نور، حتّى كان ينظر في وجهه كما ينظر في المرآة الصّقيلة «5» . [ساق عبد الله بن عتيك رضي الله عنه] ومسح صلى الله عليه وسلم على ساق عبد الله بن عتيك لمّا انكسرت عند قتل أبي رافع فقام وما به قلبة «6» .

_ (1) درهم قفلة: درهم وازن. (2) الشّفا، ج 1/ 642. العون: للمبالغة، أي بمعنى المعين أو المعان والمستعان. (3) الشّفا، ج 1/ 644. أوكاه: ربطه بيده، وهو خيط يشدّ به الوعاء. (4) الشّفا، ج 1/ 645. سلت: مسح ما على وجهه من الدّم. الغرّة: بياض منتشر طولا وعرضا في الوجه. (5) الشّفا، ج 1/ 646. والرّجل هو: قتادة بن ملحان. (6) أخرجه البخاريّ، برقم (3813) . القلبة: الإصابة.

أمر الكدية

[أمر الكدية] وأخذ [صلى الله عليه وسلم] المعول فضرب به الكدية الّتي اعترضت لهم في حفر الخندق، وقال: «باسم الله» ، فانهالت «1» . ومسح صلى الله عليه وسلم على غير واحد من المرضى والمجانين، فشفاهم الله تعالى. [يوم حنين] وأخذ يوم (بدر) ويوم (حنين) قبضة من تراب، ورمى بها في وجوه الكفّار، فما بقي منهم أحد إلّا ودخل في عينه منها القذى، وانهزموا «2» . [خالد وشعرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم] وكانت شعرات من شعره صلى الله عليه وسلم في قلنسوة خالد بن الوليد رضي الله عنه، فلم يشهد بها قتالا إلّا رزق النّصر، فسقطت منه في بعض المعارك، فشدّ عليها شدّة وقع بسببها مقتلة عظيمة من الفريقين، فعوتب في ذلك، فقال/: خفت أن يفوتني النّصر، وأن تقع في أيدي الكفّار، وفيها جزء من أجزاء رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» . ولا يخفى أنّ هذا النّوع أكثر من أن يحصر. وأمّا النّوع التّاسع: [ما اطّلع عليه صلى الله عليه وسلم من الغيوب وما سيكون] وهو ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من المغيّبات، ممّا كان، وممّا هو آت، فمن ذلك ما هو في كتاب الله تعالى، أو سنّته صلى الله عليه وسلم. أمّا ما أخبر به من المغيّبات في كتاب الله تعالى، وهو من جملة وجوه الإعجاز.

_ (1) أخرجه أحمد، برقم (13799) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. الكدية: الأرض الغليظة أو الصّلبة الّتي لا تعمل فيها الفأس، أو الحجر الكبير القاسي. (2) أخرجه أحمد، برقم (3475) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. (3) الشّفا، ج 1/ 637. القلنسوة: لباس للرأس مختلف الأنواع والأشكال.

[فمن] ذلك: إخباره بعجز الإنس والجنّ عن: يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء 17/ 88] ، ثمّ إخبارهم بأنّهم لن يفعلوا، بقوله [تعالى] : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [سورة البقرة 2/ 24] . وإخباره: أنّه محفوظ من التّبديل والتّحريف، بقوله [تعالى] : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [سورة الحجر 15/ 9] ، مع كثرة الملاحدة وأعداء الدّين، فلم يقدر أحد على تشكيك المسلمين بحمد الله تعالى في حرف واحد من حروفه، بخلاف التّوراة والإنجيل وغيرهما، لأنّ الله تعالى تولّى حفظ القرآن بنفسه، ووكل حفظ غيره من كتبه إلى أهلها، بقوله [تعالى] : بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [سورة المائدة 5/ 44] ، بل: كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة 2/ 75] . ومن ذلك: وقوع ما وعده الله فيه؛ من قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة 5/ 67] . وقوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [سورة الأنفال 8/ 7] . وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [سورة التوبة 9/ 33] . وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [سورة النّور 24/ 55] .

جمع الأرض له صلى الله عليه وسلم

وقوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ [سورة الفتح 48/ 27] . وقوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر 54/ 45] . وقوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ/ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً [سورة النّصر 110/ 1- 2] . فوقع جميع ذلك، ونصر الله عبده، وصدق وعده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده. هذا مع ما كشف فيه من أسرار المنافقين وإضمار المعاندين؛ كقوله تعالى: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ [سورة آل عمران 3/ 154] . وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ [سورة المجادلة 58/ 8] . وقوله تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ [سورة التّوبة 9/ 94] . وأمّا ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من المغيّبات في سنّته: فمن ذلك: ما هو في «الصّحيحين» ، أو في أحدهما، أو في غيرهما، صحيحا وحسنا. [جمع الأرض له صلى الله عليه وسلم] [فمنها] قوله صلى الله عليه وسلم: «زويت لي الأرض- أي: جمعت في زاوية- فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها» «1» . [لا يدخل المدينة من أرادها بسوء] وإخباره صلى الله عليه وسلم أنّ الطّاعون لا يدخل (المدينة) ، ولا يدخلها رعب

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (2889/ 19) . عن ثوبان رضي الله عنه.

ظهور الأمن والفتوح

الدّجال، وأنّها لا يريدها أحد بسوء إلّا أذابه الله ذوب الملح في الماء «1» . [ظهور الأمن والفتوح] وإخباره صلى الله عليه وسلم بفتح (بيت المقدس والشّام والعراق) ، وظهور الأمن، حتّى تظعن المرأة من (الحيرة «2» إلى مكّة) لا تخاف إلّا الله «3» . [ذهاب دولة الفرس والرّوم] وإخباره صلى الله عليه وسلم بذهاب فارس حتّى لا فارس بعده، وذهاب قيصر حتّى لا قيصر بعده، وإنّ الرّوم ذات قرون إلى آخر الدّهر «4» . [فتح الله على الأمّة] وإخباره صلى الله عليه وسلم بما يفتحه الله على أمّته من الدّنيا وزهرتها، وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر، حتّى يروح أحدهم في حلّة ويغدو في حلّة أخرى، ويوضع بين يديه قصعة وترفع أخرى «5» . [اختلاف الأمّة من بعده وافتراقهم] وإخباره صلى الله عليه وسلم بما يحدث بينهم من الاختلاف والفتن، وافتراقهم على ثلاث وسبعين فرقة، وسلوك سبيل من قبلهم من أهل الكتاب «6» . [استحلال الزّنا والرّبا وشرب الخمر] وإخباره صلى الله عليه وسلم أنّ أمّته إذا فشا فيهم الزّنا والرّبا وشرب الخمر ردّ الله بأسهم بينهم/، وسلّط عليهم أعداءهم «7» .

_ (1) أخرجه أحمد، برقم (1596) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) تبعد ثلاثة أميال عن الكوفة، على موضع يقال له: النّجف. (الزّهر المعطار، ص 207) (3) الشّفا، ج 1/ 651. وأخرجه البخاريّ، برقم (3400) . عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، بنحوه. (4) الشّفا، ج 1/ 652- 653. القرون: جمع قرن؛ وهم الجماعة في عصر واحد، أي: كلّما مضى قرن خلفه قرن مكانه. (5) أخرجه التّرمذيّ، برقم (2476) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. (6) أخرجه التّرمذيّ، برقم (2640) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (7) أخرجه مالك في «الموطّأ» ، رقم (998) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما بنحوه.

الفتن في آخر الزمان

[الفتن في آخر الزّمان] وإخباره صلى الله عليه وسلم بظهور الفتن في آخر الزّمان، وكثرة الهرج- وهو القتل- وقبض العلم، وظهور الجهل، وموت الأمثال فالأمثل، وأنّه لا يأتي زمان إلّا والّذي بعده شرّ منه، وأنّه سيكون في أمّته دجّالون، كلّهم يكذبون على الله ورسوله، آخرهم المسيح الدّجّال. وإخباره صلى الله عليه وسلم بأنّه لا تزال طائفة من أمّته ظاهرين على الحقّ، قاهرين لعدوّهم، حتّى يأتي أمر الله «1» . وبخروج المهديّ، ونزول عيسى ابن مريم عليه السّلام. إلى ما لا يحصى ولا يستقصى. حتّى قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فما ترك شيئا يكون إلى قيام السّاعة إلّا حدّثه، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، وإنّه يكون منه الشّيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرّجل وجه الرّجل إذا غاب عنه، ثمّ إذا رآه عرفه. متّفق عليه «2» . وفي حديث آخر عنه، قال: والله، ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدّنيا، إلّا قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته «3» . وقال أبو ذرّ رضي الله عنه: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما

_ (1) أخرجه البخاري، برقم (6604) ، ومسلم، برقم (1925/ 177) . عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم، برقم (2891/ 23) . (3) أخرجه أبو داود، برقم (4243) . عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.

نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام

يحرّك طائر جناحيه في السّماء إلّا ذكّرنا منه علما. قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصّلت 41/ 53] . [نزول عيسى ابن مريم عليه الصّلاة والسّلام] وفي «الصّحيحين» ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده، ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية- أي: فلا يقبل من أهلها إلّا الإسلام-، ويفيض المال حتّى لا يقبله أحد، وحتّى تكون السّجدة الواحدة خيرا من الدّنيا وما فيها» «1» . ثمّ يقول أبو هريرة: إقرؤوا إن شئتم: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [سورة النّساء 4/ 159] . وفي «مسند/ الإمام أحمد» ، عن عائشة رضي الله عنها، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج الدّجّال، فينزل عيسى فيقتله، ثمّ يمكث عيسى أربعين سنة إماما عادلا وحكما مقسطا» «2» . وورد من طرق كثيرة أنّ المهديّ يخرج قبل الدّجّال بسبع سنين، ويخرج الدّجّال على رأس مئة سنة- أي: رأس قرن- لكنّ التّحقيق: أنّ قرون هذه الأمّة ابتداؤها من مولد نبيّها كألف نوح، وبين مولده وهجرته ثلاث وخمسون سنة، فيكون تمام الألف لسبع وأربعين سنة بعد تسع مئة من هجرته صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك يتوقّع

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3264) . ومسلم برقم (155/ 242) . (2) أخرجه أحمد، برقم (23946) .

وأما النوع العاشر منه: في إعجاز القرآن العظيم

خروج الدّجّال إن كان. والله أعلم «1» . وأمّا النّوع العاشر منه: [في إعجاز القرآن العظيم] وهو المعجزة العظمى، والآية الكبرى، معجزة القرآن العظيم، المستمرّة إلى آخر الدّهر، المشتملة على وجوه من الإعجاز. فمنها: البلاغة الّتي أعجز بها الجنّ والإنس، قال الله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء 17/ 88] . قال القاضي عياض- رحمه الله تعالى-: (ووجه إعجازه بحسن نظمه، وفصاحة كلمه الخارقة عادة العرب العرباء، وهم القوم اللّدّ الفصحاء، لأنّهم كانوا أرباب هذا الشّأن، وفرسان هذا الميدان، جعل الله البلاغة لهم طبعا وخلقة، وركّبها فيهم جبلّة وقوّة، يأتون من ذلك على البديهة بالعجب، ويرتجلون في المحافل القصائد والخطب، ويرتجزون به في الحرب، بين الطّعن والضّرب، فيرفعون من مدحوه، ويضعون من قدحوه، ويجعلون النّاقص كاملا، والنّبيه خاملا، ويتغزّلون فيأتون بالسّحر الحلال، ويتمثّلون بما يزري على عقد اللآل «2» ، ويخدعون الألباب إن سألوا، ويذلّلون الصّعاب إن شفعوا، لهم في فنون البلاغة الحجّة البالغة، والقوّة الدّامغة، لا يشكّون أنّ الكلام طوع مرادهم/، وأنّ البلاغة ملك قيادهم، قد حووا فنونها، واستنبطوا عيونها، ودخلوا فيها من كلّ باب، وتمسّكوا فيها بأوثق الأسباب، فما راعهم إلّا رسول كريم، قد جاءهم بكتاب حكيم: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ

_ (1) قلت: لم يصحّ شيء من هذا التّأويل. والله أعلم. (2) عقد اللآل: اللآلئ.

وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصّلت 41/ 42] ، قد أحكمت آياته، وفصّلت كلماته، وبهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كلّ مقول، صارخا بهم في كلّ حين، ومقرّعا لهم على مرّ السّنين، قائلا لهم: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سورة البقرة 2/ 23] . ولم يزل يقرّعهم به أشدّ التّقريع، ويوبّخهم به غاية التّوبيخ، ويسفّه أحلامهم، ويحطّ أعلامهم، وهم في كلّ ذلك ناكصون عن معارضته، معترفون بالعجز عن مماثلته، حتّى أعرضوا عن المعارضة بالحروف، إلى المقارعة بالسّيوف، وقالوا على سبيل المباهتة «1» والرّضى بالدّنيّة: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [سورة فصّلت 41/ 5] ، و: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [سورة فصّلت 41/ 26] . ولمّا سمع الوليد بن المغيرة قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة النّحل 16/ 90] ، قال: والله، إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة «2» ، وإنّ أسفله لمغدق «3» ، وإنّ أعلاه لمورق، وما يقول هذا بشر) «4» .

_ (1) المباهتة: القذف بالباطل. (2) الطّلاوة: الرّونق والحسن الفائق. (3) المغدق: كثير الماء. (4) الشّفا، ج 1/ 500- 507. بتصرّف من المؤلّف.

إخبار القرآن عن القرون السالفة

فاعترف بعجز البشر عن معارضته، وقصورهم عن مماثلته، وأصرّ مع ذلك على العناد، وأضلّه الله سبيل الرّشاد، وكان يقول لقريش إذا قالوا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم إنّه كاهن، أو شاعر، أو ساحر: والله، ما أنتم بعاقلين من هذا شيئا. إلّا وأنا أعلم أنّه لباطل، ولقد سمعت قولا والله ما سمعت مثله، ولا يقوله بشر. [إخبار القرآن عن القرون السّالفة] ومن وجوه إعجازه ما أنبأ به من أخبار القرون السّالفة، والأمم الخالية، ممّا كان لا يعلم منه/ القصّة الواحدة إلّا الفذّ من أحبار أهل الكتاب، وقد علموا أنّه صلى الله عليه وسلم أمّيّ، لا يقرأ ولا يكتب، حتّى كان علماء أهل الكتاب يسألونه عن كثير ممّا يختلفون فيه، فيورده لهم على وجهه، ويأتي به على نصّه، فيعترف العالم منهم بذلك له بصدقه. قال الله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة النّمل 27/ 76] . [إعجاز النّظم والأسلوب] ويقطع الموافق والمخالف أنّه لم ينل ذلك بتعليم، وإنّما هو بإعلام العزيز العليم، حتّى لم يقدر أحد من أحبار اليهود مع شدة عداوتهم له على تكذيبه فيما سألوه عنه من قصّة يوسف وإخوته، وذي القرنين، وموسى والخضر، ولقمان وابنه، وأصحاب الكهف، مع أنّ أقرب قصّة كانت بينه وبين عيسى عليه السّلام؛ قصّة أصحاب الكهف، وكان أهل الكتاب فيها، كما قال الله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، فقال الله تعالى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، وقال: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [سورة الكهف 18/ 22] .

فاعترفوا له بالصّدق، وأقرّوا له بالحقّ، فإذا كان هذا شأنهم في أقرب القصص إلى عصرهم، فما ظنّك بقصّة آدم وإبليس، وابني آدم، وإدريس، ونوح وأصحاب السّفينة، وعاد وثمود، وإبراهيم وإسماعيل، وإسحاق ويعقوب. وغيرهم ممّن لا يعلمهم إلّا الله؟ وكانوا إذا نازعوه في شيء ممّا أخبرهم به- كحكم الرّجم، وما حرّم إسرائيل على نفسه- احتجّ عليهم بأنّهم يجدونه مكتوبا عندهم في التّوراة والإنجيل، وقال: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة آل عمران 3/ 93- 94] ، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [سورة البقرة 2/ 89] . وما أحسن قول صاحب البردة- رحمه الله تعالى-[من البسيط] «1» : دعني ووصفي آيات له ظهرت ... ظهور نار القرى ليلا على علم «2» فالدّرّ يزداد حسنا وهو منتظم ... وليس ينقص قدرا غير منتظم «3» فما تطاول آمال المديح إلى ... ما فيه من كرم الأخلاق والشّيم «4»

_ (1) البردة، ص 26- 29. في شرف القرآن ومدحه. (2) آيات: معجزات. نار القرى: النّار الّتي كانت توقد للضيافة. العلم: الجبل. (3) منتظم: مرتّب ومنسّق في العقد. (4) الشّيم- جمع شيمة-: الغريزة والطبيعة والجبلّة، وهي الّتي خلق الإنسان عليها.

آيات حقّ من الرّحمن محدثة ... قديمة صفة الموصوف بالقدم «1» لم تقترن بزمان وهي تخبرنا ... عن المعاد وعن عاد وعن إرم «2» دامت لدينا ففاقت كلّ معجزة ... من النّبيّين إذ جاءت ولم تدم «3» محكّمات فما تبقين من شبه ... لذي شقاق وما تبغين من حكم «4» ما حوربت قطّ إلّا عاد من حرب ... أعدى الأعادي إليها ملقي السّلم ردّت بلاغتها دعوى معارضها ... ردّ الغيور يد الجاني عن الحرم «5» لها معان كموج البحر في مدد ... وفوق جوهره في الحسن والقيم

_ (1) محدثة: حديثة النّزول عليه صلى الله عليه وسلم. قديمة: قديمة الوجود، بقدم الله تعالى، لأنّ الصّفة تتبع الموصوف. (2) عاد وإرم: من الأقوام الّتي أهلكها الله تعالى. وهم قوم هود عليه الصّلاة والسّلام. (3) تتميّز معجزة القرآن عن كلّ المعجزات الّتي جاءت بها الرّسل السّابقون ببقائها إلى يوم القيامة، بخلاف معجزاتهم الّتي لم تدم. (4) محكّمات: متقنات وبيّنات ليس فيهنّ شكّ. شبه: لم يبق لمن تتبّعها مجال للشّبهة في توجيهاتها وأحكامها. (5) إذ تحدّى الله فصحاء العرب وبلغاءهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بمثل سورة منه. أو بمثل آية.

فما تعدّ ولا تحصى عجائبها ... ولا تسام على الإكثار بالسّأم «1» قرّت بها عين قاريها فقلت له ... لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم إن تتلها خيفة من حرّ نار لظى ... أطفأت حرّ لظى من وردها الشّبم «2» كأنّها الحوض تبيضّ الوجوه به ... من العصاة وقد جاؤوه كالحمم وكالصّراط وكالميزان معدلة ... فالقسط من غيرها في النّاس لم يقم لا تعجبن لحسود راح ينكرها ... تجاهلا وهو عين الحاذق الفهم «3» قد تنكر العين ضوء الشّمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم «4»

_ (1) تسام بالسّأم: تصاب بالملل لكثرة قراءتها. (2) نار لظى: نار جهنّم. الشّبم: البارد. (3) الحاذق: العارف الخبير. وهو عتبة بن ربيعة، الّذي جادل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأسمعه من آيات القرآن، فعاد إلى قومه وقال: والله يا قوم، ما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة؛ إنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أدناه لمغدق، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وما هو بقول بشر. (4) الرّمد: مرض يصيب العين يتأذّى من الضّوء. السّقم: المرض.

الباب السابع في بعض سيرته صلى الله عليه وسلم، مما لاقاه من حين بعثه الله إلى أن هاجر إلى الله تعالى

الباب السّابع في بعض سيرته صلى الله عليه وسلّم، مما لاقاه من حين بعثه الله إلى أن هاجر إلى الله تعالى [الفترة بين عيسى ومحمّد عليهما الصّلاة والسّلام] روى البخاريّ في «صحيحه» ، عن سلمان الفارسيّ رضي الله عنه، قال: فترة بين عيسى ومحمّد عليهما السّلام ستّ مئة سنة «1» . [زمن الرّسالة] قال علماء السّير: وكانت رسالته صلى الله عليه وسلم على رأس الأربعين من مولده. [قصّة بدء الوحي] ففي «صحيح البخاريّ ومسلم» ، عن محمّد بن شهاب الزّهريّ، عن عروة بن الزّبير/، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أوّل ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرّؤيا الصّالحة في النّوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار (حراء) ، فيتحنّث فيه- (أي: بحاء مهملة ثمّ نون ثمّ مثلّثة، قال الزّهريّ: وهو التّعبّد) - اللّيالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزوّد لمثلها، حتّى جاءه الحقّ وهو في غار (حراء) ، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارىء» . قال: «فأخذني فغطّني- أي: حبس نفسي- حتّى بلغ منّي الجهد- أي: المشقّة- ثمّ أرسلني» ، فقال: اقرأ، قلت: «ما أنا

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3732) . الفترة: هي المدّة الّتي لا يبعث فيها رسول من الله تعالى.

تحقق خديجة رضي الله عنها من الوحي

بقارىء، فأخذني وغطّني الثّانية حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني» ، فقال: اقرأ، فقلت: «ما أنا بقارىء، فأخذني فغطّني الثّالثة حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني» ، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [سورة العلق 96/ 1- 3] ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده «1» ، فدخل على خديجة، فقال: «زمّلوني زمّلوني» - أي: غطّوني- فزمّلوه حتّى ذهب منه الرّوع- أي: الفزع- فقال لخديجة وأخبرها الخبر- أي: خديجة-: «لقد خشيت على نفسي» «2» ، فقالت خديجة: كلّا والله ما يخزيك الله أبدا- أي: لا يهينك بل يكرمك-، إنّك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ- أي: المنقطع-، وتكسب المعدوم- أي: تعطي الشّيء مع قلّته وفقده-، وتقري الضّيف- أي: تطعمه الطّعام-، وتعين على نوائب الحقّ- أي: الحوادث المحمودة- «3» . [تحقّق خديجة رضي الله عنها من الوحي] فانطلقت به خديجة حتّى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى، ابن عمّ خديجة، وكان امرأ- أي: رجلا- قد تنصّر في الجاهليّة، وكان يكتب الكتاب [العربي] ، فيكتب من الإنجيل

_ (1) يرجف فؤاده: يضطرب من الخوف. (2) أي: المرض أو الموت من شدّة الضّغط والضّم. وقد كان ذلك قبل أن يحصل له العلم الضّروريّ بأنّ الّذي جاءه ملك من الله. ولا يصحّ تفسير الخشية هنا بغير هذا. (انظر السّيرة النّبويّة، لأبي شهبة، ج 1/ 262) . (3) قلت: وفي ذكر هذه الأوصاف ما يدلّ على كمال خلق النّبيّ في الجاهليّة، وأنّ صنائع المعروف تقي مصارع السّوء، كما يدلّ على كمال عقل السّيّدة خديجة، ووفور شفقتها، ومحبّتها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم. (انظر السّيرة النّبويّة، لأبي شهبة، ج 1/ 263.

[بالعربيّة] ما شاء الله أن يكتب، وكان/ شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره النّبيّ صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا هو النّاموس الأكبر الّذي نزّل الله تعالى على موسى «1» ، يا ليتني فيها جذعا «2» ، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجيّ هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا- أي: معانا-. ثمّ لم ينشب ورقة- أي: لم يلبث- أن توفّي، وفتر الوحي «3» . (حتّى حزن النّبيّ صلى الله عليه وسلم [فيما بلغنا] حزنا شديدا، غدا منه يتردّى من رؤوس الجبال، فكلّما أراد أن يلقي نفسه تبدّى له جبريل، وقال: يا محمّد، إنّك رسول الله حقّا) «4» .

_ (1) النّاموس: رسول الخير، والمراد به: جبريل عليه السّلام. وخصّ موسى لأنّ شريعته كانت أعمّ وأوفى من شريعة عيسى عليهما السّلام. (2) الجذع: الشّاب الحدث القويّ. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (6581) . ومسلم برقم (160/ 252) . (4) ما بين قوسين زيادة ليست على شرط الصّحيح، لأنّها من بلاغات الزّهريّ. وقد ذكرها البخاريّ لينبّهنا إلى مخالفتها لما صحّ عنده من حديث بدء الوحي، الّذي لم تذكر فيه هذه الزّيادة، وهي من قبيل المنقطع، والمنقطع من أنواع الضّعيف. (فتح الباري، ج 16/ 12) . قلت: إنّ ما اشتهر من سيرته صلى الله عليه وسلم يردّ ذلك، فقد حدث له أثناء دعوته النّاس أشدّ وأقسى من هذه الحالة، ولم يفكّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالانتحار، بأن يلقي نفسه من شاهق جبل. وسنرى فيما يأتي من الكتاب أنّه لمّا

فترة الوحي وما نزل من القرآن بعد ذلك

[فترة الوحي وما نزل من القرآن بعد ذلك] قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرّحمن بن عوف، أنّ جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أخبره أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحدّث عن فترة الوحي، قال: «ثمّ فتر الوحي عنّي فترة، فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السّماء، فرفعت بصري قبل السّماء- أي: في جهتها- فإذا الملك الّذي جاءني ب (حراء) قاعد على كرسيّ بين السّماء والأرض، فرعبت منه- أي: فزعت- حتّى هويت إلى الأرض- أي: سقطت- فجئت أهلي، فقلت: دثّروني دثّروني، - أي: غطّوني- فدثّروني، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ- أي: النّجس- فَاهْجُرْ- أي: فاترك- «1» [سورة المدّثّر 74/ 1- 5] » . [شكوى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ونزول الضّحى] وفي رواية: أنّه لمّا فتر الوحي عنه، قالت قريش: قلاه ربّه.

_ عرض عليه عمّه أبو طالب أن يكفّ عن قريش، ويبقي عليه وعلى نفسه، قال قوله المشهور: «والله يا عمّ، لو وضعوا الشّمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهره الله أو أهلك دونه، ما تركته» . وليس أدلّ على ضعف هذه الزّيادة من أنّ جبريل عليه السّلام كان يقول له كلّما أشرف على ذروة جبل: (يا محمّد، إنّك رسول الله حقّا) ، وأنّه كرّر ذلك مرارا. ولو صحّ هذا لكانت مرّة واحدة تكفي في تثبيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصرفه عمّا حدّثته به نفسه كما زعموا. وقد ذهب جلّ العلماء وكتّاب السّير المحدّثون إلى هذا، بل ذهب بعضهم إلى أنّ مجرّد سؤال ورقة إنّما هو من خديجة رضي الله عنها؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم أنّه سيكون رسول الله، وأنّه أجلّ من أن يعرف نبوّته ورسالته من حبر نصرانيّ، أو ممّن قرأ كتب النّصارى. (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4671) .

حجب الشياطين عن استراق السمع عند مبعثه صلى الله عليه وسلم

فأنزل الله تعالى: وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى إلى آخر السّورة «1» . [حجب الشّياطين عن استراق السّمع عند مبعثه صلى الله عليه وسلم] وفي «الصّحيحين» ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشّياطين وبين خبر السّماء، وأرسلت عليهم الشّهب/، فرجعت الشّياطين، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السّماء، وأرسلت علينا الشّهب، فقالوا: ما حال بينكم وبين خبر السّماء إلّا أمر حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانطلق الّذين توجّهوا منهم نحو (تهامة) ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ب (نخلة) «2» ، يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلمّا سمعوا القرآن عجبوا له، وقالوا: هذا الّذي حال بينكم وبين خبر السّماء، ورجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا، إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [سورة الجنّ 72/ 1- 2] فأنزل الله تعالى على نبيّه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [سورة الجنّ 72/ 1] «3» . [دعوة النّبيّ صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام سرّا] ولمّا بعث صلى الله عليه وسلم أخفى أمره، وجعل يدعو أهل (مكّة) ، ومن أتى إليها سرّا، فامن به ناس من ضعفاء الرّجال والنّساء والموالي، وهم أتباع الرّسل؛ كما في حديث أبي سفيان عن هرقل، فلقوا من المشركين في ذات الله تعالى أنواع الأذى، فما ارتدّ أحد منهم عن دينه، ولا التوى، ولذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنّ هذا الدّين

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4667) . عن جندب بن سفيان رضي الله عنه. (2) موضع بالحجاز قريب من مكّة فيه نخل وكروم. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (739) . ومسلم برقم (449/ 149) .

الجهر بالدعوة

بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء» «1» . نعوذ بالله من الفتن والمحن، ما ظهر منها وما بطن. [الجهر بالدّعوة] وفي السّنة الرّابعة من مبعثه صلى الله عليه وسلم: نزل قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [سورة الحجر 15/ 94- 95] . فامتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربّه، وأظهر الدّعوة إلى الله تعالى، فدخل النّاس في الإسلام أرسالا، حتّى فشا ذكر الإسلام ب (مكّة) ، ولكن كان المسلمون إذا أرادوا الصّلاة ذهبوا إلى الشّعاب، واستخفوا من قومهم بصلاتهم. [موقف المشركين من النّبيّ صلى الله عليه وسلم إثر جهره بالدّعوة] ولمّا أظهر صلى الله عليه وسلم دعوة الخلق إلى الحقّ لم يتفاحش إنكار قومه عليه، حتّى ذكر آلهتهم وسبّها، وضلّل آباءهم، وسفّه أحلامهم، فحينئذ اشتدّ ذلك عليهم، وأجمعوا له الشّرّ، فحدب «2» عليه عمّه أبو طالب، وعرّض نفسه للشّرّ دونه، مع/ بقائه على دينه. فلمّا رأت ذلك قريش، اجتمع أشرافهم ومشوا إلى أبي طالب، وقالوا له: إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلّل آباءنا، فإمّا أن تكفّه عنّا، وإمّا أن تخلّي بيننا وبينه، فإنّك على مثل ما نحن عليه من خلافه. [أبو طالب بين نصرته للرّسول صلى الله عليه وسلم وتخلّيه عنه] فعظم على أبي طالب فراق قومه، ولم تطب نفسه بخذلان ابن أخيه، فكلّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فظنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ عمّه قد بدا له تركه، والعجز عن نصرته، فقال: «يا عمّ! والله لو وضعوا الشّمس في

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (145/ 232) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) حدب عليه: انحنى عليه وعطف.

يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتّى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته» ثمّ استعبر صلى الله عليه وسلم باكيا «1» ، فقال له: يا ابن أخي، قل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا «2» . وفي ذلك يقول أبو طالب، [من الكامل] «3» : والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتّى أوسّد في التّراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقرّ بذاك منك عيونا «4» ودعوتني وعرفت أنّك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا وعرضت دينا قد علمت بأنّه ... من خير أديان البريّة دينا لولا الملامة أو حذار مسبّة ... لو جدتني سمحا بذاك مبينا

_ (1) استعبر: جرت دمعته. قلت: يا لقوّة الإيمان، ويا لعظمة النّفس البشريّة، ويا لجلال البطولة!! رجل يظنّ أنّه تخلّى عنه ناصره الوحيد من أهله، وهو وأصحابه في غمرات متتابعة من الأذى والبلاء، وتألّب رؤساء الشّرك عليه، ثمّ يقف هذا الموقف الفذّ العظيم!! إنّ هذا في منطق العقل يستحيل أن يكون مدّعيا أو كاذبا أو بشرا من عامّة البشر؛ ما هذا إلّا نبيّ كريم، ورجل بالغ أسمى درجات الثّقة بالله ربّ العالمين. فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. (2) أخرجه البيهقيّ في «دلائل النّبوّة» ، ج 2/ 187. (3) دلائل النّبوّة، ج 2/ 188. (4) اصدع بأمرك: بيّنه واجهر به. أمرك: ما أمرك الله به من دعوة المشركين إلى عبادته وحده سبحانه. غضاضة: منقصة أو عيب. قرّت عين فلان: سرّ ورضي.

اشتداد قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه

[اشتداد قريش على الرّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه] فعند ذلك نابذتة قريش وتزامروا للحرب، ووثبت كلّ قبيلة على من أسلم منهم يعذّبونهم. [حشد أبي طالب مؤيديه من بني هاشم] وأخذ أبو طالب يحشد بطون بني عبد مناف، وهم أربعة: بنو هاشم، وبنو المطّلب، وبنو عبد شمس، وبنو نوفل، فأجابه: بنو هاشم، وبنو المطّلب، وخذله: بنو عبد شمس، وبنو نوفل، وانسلخ أيضا من بني هاشم: أبو لهب. [قصيدة أبي طالب اللّاميّة] وفي بني عبد شمس وبني نوفل وحميّته على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ومدحه له، يقول أبو طالب في قصيدته الطّويلة، [من الطّويل] / «1» : جزى الله عنّا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شرّ عاجلا غير آجل كذبتم وبيت الله نبزى محمّدا ... ولمّا نطاعن دونه ونناضل «2» ونسلمه حتّى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل «3» وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الرّوايا تحت ذات الصّلاصل «4» بكفّي فتى مثل الشّهاب سميدع ... أخي ثقة حامي [الحقيقة] باسل «5»

_ (1) ابن هشام، ج 1/ 275- 279. (2) نبزى محمّدا: نغلبه ونسلبه. نناضل: نتسابق في الرّمي بالسّهام. (3) الحلائل: الزّوجات. (4) الرّوايا: الإبل الّتي تحمل الماء والأسقية. الصّلاصل: المزادات لها صلصلة بالماء. (5) السّميدع: السّيّد. الباسل: الشّجاع.

وما ترك قوم، لا أبا لك سيّدا ... يحوط الذّمار غير ذرب مواكل «1» وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل «2» يلوذ به الهلّاف من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل «3» لعمري لقد كلّفت وجدا بأحمد ... وإخوته دأب المحبّ المواصل «4» حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذّرا والكلاكل «5» فمن مثله في النّاس أيّ مؤمّل ... إذا قاسه الحكّام عند التّفاضل؟! حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلها ليس عنه بغافل فو الله لولا أن أجيء بسبّة ... تجرّ على أشياخنا في المحافل

_ (1) الذّمار: ما يلزمك حمايته. الذّرب: سليط اللّسان. المواكل: الّذي يكل أموره إلى غيره. (2) ثمال اليتامى: قام بأمرهم وربّاهم. (3) الهلّاف: الهلّوف: الشّيخ القديم الهرم المسنّ. (4) وجدا: محبّة. (5) حدبت: عطفت ومنعت. الكلاكل: الجماعات. مفردها: الكلكلة؛ وهي الجماعة. ذرّ الشّيء: أعاليه، والقوم: أعلاهم وأشرفهم؛ والمقصود: دافع عن الرّسول صلى الله عليه وسلم بين علية القوم وأشرافهم، وعند عامّة النّاس.

فائدة: في تشريف بني المطلب بتسميتهم أهل البيت

لكنّا اتّبعناه على كلّ حالة ... من الدّهر جدّا غير قول التّهازل لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل فأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقاصر عنها سورة المتطاول «1» فائدة [: في تشريف بني المطّلب بتسميتهم أهل البيت] قال العلماء: ولأجل نصرة بني المطّلب لبني هاشم وموالاتهم لهم، شاركوهم في التّشريف بتسميتهم أهل البيت، وفضل الكفاءة على سائر قريش، واستحقاق سهم ذوي القربى، وتحريم الزّكاة دون البطنين الآخرين، إذ لم يفترقوا في جاهليّة ولا إسلام. وروى البخاريّ في «صحيحه» ، عن سعيد بن المسيّب، عن جبير بن مطعم بن عديّ بن الحارث بن نوفل بن عبد مناف، قال: مشيت أنا وعثمان بن عفّان- أي: ابن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله أعطيت/ بني المطّلب- أي: ابن عبد مناف- وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال: «إنّما بنو المطّلب وبنو هاشم شيء واحد» . وفي رواية: أعطيت بني المطّلب من خمس خيبر. وفي أخرى: ولم يقسم النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا. قال البخاريّ: وقال ابن إسحاق: عبد شمس وهاشم

_ (1) الأرومة: الأصل والنّسب والحسب هنا. السّورة: المنزلة.

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالحكمة والموعظة الحسنة

والمطّلب إخوة لأب وأمّ، وأمّهم: عاتكة بنت مرّة، وكان نوفل أخاهم لأبيهم. انتهى «1» . [دعوة النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّاس بالحكمة والموعظة الحسنة] قال العلماء: وجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى سبيل ربّه مرّة بالتّرغيب، ومرّة بالتّرهيب، ومرّة بالقول اللّيّن، ومرّة بالخشن، كما أمره ربّه بقوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النّحل 16/ 125] . [تعذيب المسلمين] وامتنع جماعة ممّن أسلم بعشائرهم من أذى المشركين، وبقي قوم مستضعفون في أيدي المشركين، يعذّبونهم بأنواع العذاب؛ كعمّار بن ياسر، وأبيه، وأمّه، وأخته، وبلال بن حمامة، وخبّاب بن الأرتّ، وغيرهم رضي الله عنهم. [تعذيب آل ياسر رضي الله عنهم] فكانوا يأخذون عمّارا وأباه وأمّه وأخته فيقلّبونهم ظهرا لبطن، فيمرّبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «صبرا آل ياسر، فإنّ موعدكم الجنّة» «2» . [أوّل شهيد في الإسلام] وماتت سميّة أمّ عمّار بذلك. فكانت أوّل قتيل في الإسلام في ذات الله «3» . ثمّ مات ياسر وابنته بعدها أيضا. [تعذيب بلال رضي الله عنه] وأمّا بلال فكان أميّة بن خلف يخرج به فيضع الصّخور على صدره، ويتركها كذلك حتّى يكاد يموت، فيرفعها، وبلال يقول: أحد، أحد. فمّر به أبو بكر رضي الله عنه، فقال لأميّة: ألا تتّقي الله في هذا العبد؟ فقال: أنت الّذي أفسدته عليّ، فقال: بعنيه، فباعه منه، فأعتقه» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2971) . لأب وأمّ: أي أشقاء، وأبوهم عبد مناف، ونوفل أخوهم لأب؛ وأمّه: واقدة بنت عمرو المازنيّة. (2) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 3/ 383. (3) وذلك أنّ أبا جهل طعنها بحربة في قبلها. (4) ابن هشام، ج 1/ 317- 318.

عتقاء أبي بكر رضي الله عنه

[عتقاء أبي بكر رضي الله عنه] وكان عمر رضي الله عنه، يقول: أبو بكر سيّدنا، وأعتق سيّدنا بلالا «1» . واشترى أيضا عامر بن فهيرة في ستّ رقاب أخر على مثل ذلك «2» . قال المفسّرون: وفي حقّه رضي الله عنه/ نزلت: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى. وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى. وَلَسَوْفَ يَرْضى [سورة اللّيل 92/ 17- 21] «3» . فائدة [: في أنّ الأتقى هو الأفضل عند الله] ولا يخفى دلالة الآية الكريمة أنّ الأتقى هو الأفضل عند الله، لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [سورة الحجرات 49/ 13] . [شكوى المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من التّعذيب] وأمّا خبّاب بن الأرتّ: ففي «صحيح البخاريّ» عنه، قال: . تيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة، وهو في ظلّ الكعبة، ولقد لقينا من المشركين شدّة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمرّ وجهه، فقال: «لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمّنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من (صنعاء) إلى (حضر موت) ، ما يخاف إلّا الله أو الذّئب على غنمه» «4» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3544) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (2) ابن هشام، ج 1/ 318. (3) أسباب النّزول، للواحديّ، ص 370. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3639) .

فائدة: في فضل من ثبت على إيمانه

فائدة [: في فضل من ثبت على إيمانه] قال العلماء: وهذا الحديث من أحسن الأحاديث النّبويّة الدّالّة على التّأسّي مع قوله سبحانه وتعالى: الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [سورة العنكبوت 29/ 1- 3] وقوله عزّ وجلّ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [سورة البقرة 2/ 214] وقوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [سورة آل عمران 3/ 186] . فأعلمهم الله سبحانه وتعالى أنّ مبنى الدّين على الصّبر، وأنّ من تجرّد لإظهار دين الله استقبلته المحن في نفسه وماله وعرضه وأهله. وإنّما أعلم المؤمنين بذلك أوّلا لتتوطّن نفوسهم عليه، وأعلمهم أنّ هذه سنّة الّذين خلوا من قبلهم/، ثمّ كانت لهم العاقبة، تعبوا قليلا ثمّ استراحوا طويلا، وبذلوا حقيرا فنالوا خطيرا: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة 2/ 157] . ومع شدّة حرصهم على أذاه، فقد كانت عين الله ترعاه. وفي «الصّحيحين» ، أنّ أبا جهل، قال: لئن رأيت محمّدا يصلّي لأطأنّ [على] عنقه، فبلغ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «لو فعل لأخذته الملائكة عضوا عضوا» «1» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4675) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

الهجرة الأولى إلى الحبشة

زاد مسلم والنّسائيّ: أنّه لمّا همّ بذلك رأى بينه وبينه خندقا من نار، وهولا وأجنحة، فنكص على عقبيه، وهو يتّقي بيديه، وأخبرهم بما رأى، فأنزل الله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى إلى قوله: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى، ثمّ توعّده بقوله تعالى: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ إلى قوله: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ، ثمّ أمر رسوله بالسّجود غير مكترث به، فقال: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [سورة العلق 96/ 9- 19] «1» . [الهجرة الأولى إلى الحبشة] وفي السّنة الخامسة من مبعثه صلى الله عليه وسلم: رأى شدّة ما بأصحابه من البلاء، وما نالهم في دين الله من الأذى، فأمرهم بالمهاجرة إلى (الحبشة) ، وقال لهم: «إنّ بها معاشا وسعة، وملكا عادلا لا يسلم جاره» «2» . فهاجر إليها عثمان بن عفّان، ومعه امرأته رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزّبير بن العوّام، وعبد الرّحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وجماعة من الصّحابة رضي الله عنهم «3» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (2797) . عن أبي هريرة رضي الله عنه، بنحوه. سندع الزّبانية: سندعو له من جنودنا القويّ المتين، الّذي لا قبل له بمغالبته، فيهلكه في الدّنيا أو يرديه في النّار في الآخرة وهو صاغر (أنصاريّ) . (2) أخرجه البيهقيّ في «سننه» ، ج 2/ 328. بنحوه. (3) خبر هجرة ابن مسعود في «الطّبقات» لابن سعد، ج 3/ 151، وأنّه هاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعا في رواية أبي معشر ومحمّد بن عمر. والصّواب: أنّه إنّما كان في الهجرة الثّانية، (انظر شرح المواهب اللّدنيّة، للزرقاني، ج 1/ 270) . قلت: وعدد الّذين هاجروا الهجرة الأولى حسبما ذكر ابن هشام عشرة رجال. عثمان بن

الهجرة الثانية إلى الحبشة

[الهجرة الثّانية إلى الحبشة] ثمّ تبعهم جعفر بن أبي طالب في جماعة رضي الله عنهم، حتّى بلغوا اثنين وثمانين رجلا، سوى النّساء والصّبيان، فلمّا وصلوا إلى (الحبشة) أكرمهم النّجاشيّ، وأحسن جوارهم، وسمع القرآن من جعفر رضي الله عنه، فامن به وصدّق، وأمر قومه بذلك فأبوا، فكتم إيمانه عنهم. [وفد قريش إلى الحبشة لاسترداد المهاجرين إليها] فلمّا شاعت بذلك الأخبار، وجّهت قريش إلى النّجاشيّ عمرو بن العاص في جماعة، ووجّهوا معهم بهدايا للنّجاشيّ ولخواصّه، فقدموا على النّجاشيّ وقدّموا ما عندهم من الهدايا، وكلّموه في شأنهم، ليمكّنهم/ منهم، فغضب، وردّ هداياهم عليهم، فانقلبوا خائبين. [عودة بعض مهاجري الحبشة] ثمّ إنّ مهاجرة (الحبشة) بلغهم أنّ أهل (مكّة) أسلموا، فاستخفّ ذلك الخبر جماعة منهم، نحو ثلاثين رجلا، فأقبلوا راجعين، حتّى إذا كانوا بقرب (مكّة) بان لهم فساد الخبر، فلم يدخل أحد منهم (مكّة) إلّا مستخفيا أو بجوار، وأقام بقيّة المهاجرين ب (الحبشة) إلى سنة [سبع] من الهجرة، فمدّة إقامتهم نحو عشر سنين «1» .

_ عفّان وامرأته، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته، والزّبير بن العوّام، ومصعب بن عمير، وعبد الرّحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته، وأبو سبرة بن أبي رهم، وسهيل ابن بيضاء. (1) قلت: أورد ابن هشام ما ذكره ابن إسحاق عن عودة مهاجري الحبشة قبل خبر نقض صحيفة المقاطعة وبعد إسلام عمر بن الخطّاب، وعنده- كما ورد أعلاه- أنّ الّذين عادوا إثر ما بلغهم من إسلام أهل مكّة كانوا ثلاثة وثلاثين رجلا، وأنّ منهم من أقام بمكّة إلى أن هاجر وشهد بدرا،

قدوم جعفر رضي الله عنه من الحبشة

[قدوم جعفر رضي الله عنه من الحبشة] فكتب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى النّجاشيّ ليجهّزهم إليه، فجهّزهم، فقدموا يوم فتح (خيبر) ، فأسهم لهم، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا أدري بأيّهما أسرّ بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر» «1» . فائدة [: في حكم الهجرة] قال العلماء: وهذه الهجرة أوّل هجرة في الإسلام، وبعدها الهجرة الكبرى إلى (المدينة) ، وقد حازها أيضا مهاجرو (الحبشة) كجعفر وعثمان والزّبير وعبد الرّحمن، فسمّوا أهل الهجرتين. وحكم الهجرة باق إلى يوم القيامة إذا وجد معناها؛ وهو الفرار بالدّين عند خوف الافتتان فيه، أو عند العجز عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أو عن ردّ البدع المنكرة. أمّا عند خوف الافتتان: فمن بقي في دار الحرب عاجزا عن إظهار دين الإسلام عصى معصية عظيمة، بل اختلف في صحّة

_ ومنهم من مات فيها، والباقون حبسهم المشركون. ويبدو أنّ ابن إسحاق لم يفصل بين خبر من عادوا إثر الهجرة الأولى إلى الحبشة وخبر من عادوا إثر الهجرة الثّانية إليها. ولعلّ هذا راجع إلى أنّه لم ينصّ على حصول هجرتين، والأرجح: أنّ الّذين عادوا إثر سماعهم بإسلام أهل مكّة وإسلام عمر هم العشرة الّذين هاجروا أوّلا، وكانت عودتهم في السّنة الّتي خرجوا فيها بعد أن أقاموا في الحبشة شهرين، وقد دخلوا مكّة مستخفين أو بجوار، ثمّ هاجروا إلى الحبشة ثانية على الأرجح مع جعفر ابن أبي طالب وأصحابه. وأمّا الثّلاثة والثّلاثون الّذين ذكرهم ابن إسحاق فهؤلاء هم الّذين عادوا من الحبشة إثر الهجرة الثانية، وذلك حين سمعوا بمهاجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كما ذكر ابن سعد (انظر الجامع في السّيرة النّبويّة، ج 1/ 422) . (1) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 2/ 624.

إسلام حمزة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما

إسلامه، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ- لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً الآيات، [سورة النّساء 4/ 97] . وكذلك يعصي من أقام ببلد البدع والمنكر، الّذي لا يقدر على تغييره فيها، أو بأرض غلب عليها الحرام، فإنّ طلب الحلال فرض على كلّ مسلم. [إسلام حمزة وعمر بن الخطّاب رضي الله عنهما] وفي السّنة السّادسة: أسلم سيّدنا حمزة بن عبد المطّلب، عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ أسلم بعده سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما. فعزّ بإسلامهما الإسلام والمسلمون. وفي «صحيح البخاريّ» ، عن/ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: لمّا أسلم عمر اجتمع النّاس عند داره، وقالوا: صبأ عمر، وأنا غلام فوق ظهر البيت، فجاء العاص بن وائل، وقال: أنا له جار. فتفرّقوا «1» . [المقاطعة وحصر قريش لبني هاشم] وفي أوّل ليلة من المحرّم من السّنة السّابعة: اجتمعت قريش بخيف بني كنانة؛ وهو: (المحصّب) «2» ، فتقاسموا «3» على الكفر، كما في «صحيحي البخاريّ ومسلم» وذلك أنّهم تعاهدوا

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3652) . صبأ: خرج من دين إلى دين غيره. أنا له جار: أي أجرته من أن يظلمه ظالم. (2) خيف بني كنانة والمحصّب والحصبة والأبطح والبطحاء: اسم لشيء واحد. وأصل الخيف: كلّ ما انحدر عن الجبل وارتفع عن المسيل. (أنصاريّ) . (3) تقاسموا: أقسموا فيما بينهم.

مدة الحصار وشدته

على قطيعة بني هاشم وبني المطّلب، ومقاطعتهم في البيع والشّراء والنّكاح وغير ذلك، حتّى يهلكوا عن آخرهم، أو يسلموا إليهم محمّدا صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة وعلّقوها في سقف (الكعبة) تأكيدا لأمرها. [مدّة الحصار وشدّته] فانحاز البطنان «1» إلى أبي طالب في الشّعب، وبقوا هنالك محصورين مدّة ثلاث سنين، وتضوّروا بذلك جوعا وعطشا وعريا، ولحقتهم مشقّة عظيمة بسبب النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك يقول أبو طالب، [من الطّويل] «2» : ألا أبلغا عنّي على ذات بيننا ... لؤيّا وخصّا من لؤيّ بني كعب ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّدا ... نبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب وأنّ الّذي التفّقتم من كتابكم ... لكم كائن نحسا كراغية السّقب «3» أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثّرى ... ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذّنب ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا ... أو اصرنا بعد المودّة والقرب «4»

_ (1) أي: بنو هاشم وبنو المطّلب. (2) ابن هشام، ج 1/ 352- 353. (3) راغية السّقب: هو من الرّغاء، وهو أصوات الإبل، السّقب: ولد النّاقة. والمقصود هنا: ولد ناقة صالح عليه السّلام. (4) الأواصر: ما عطفك على غيرك من رحم، أو قرابة، أو مصاهرة.

نقض الصحيفة

فلسنا وربّ البيت نسلم أحمدا ... لعزّاء من عضّ الزّمان ولا كرب «1» ولمّا تبن منّا ومنكم سوالف ... وأيد أترّت بالقساسية الشّهب «2» أليس أبونا هاشم شدّ أزره ... وأوصى بنيه بالطّعان وبالضّرب ولسنا نملّ الحرب حتّى تملّنا ... ولا نشتكي ما قد ينوب من النّكب ولكنّنا أهل الحفائظ والنّهى ... إذا طار أرواح الكماة من الرّعب «3» [نقض الصّحيفة] فلمّا أراد الله تعالى حلّ ما عقدوه، وإبطال ما أكّدوه، اجتمع في أواخر السّنة التّاسعة ستّة من سادات قريش ليلا بأعلى (مكّة) /، فتعاقدوا على نقض الصّحيفة، منهم: المطعم بن عديّ النّوفليّ، وزمعة بن الأسود بن أسد الأسديّ، فلمّا أصبحوا قال قائلهم: أنأكل الطّعام، ونلبس الثّياب وبنو هاشم هلكى، والله لا أقعد حتّى تشقّ هذه الصّحيفة الظّالمة، فقال أبو جهل: كذبت والله [لا تشقّ] ، فقال [زمعة] : أنت والله الكاذب، ووثبوا، فقال أبو جهل: هذا أمر قد برم بليل، ثمّ قاموا إلى الصّحيفة ليشقّوها، فأخبرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الأرضة «4» قد أكلت جميعها، إلّا ما فيه اسم الله،

_ (1) عضّ الزّمان: شدّته. (2) السّوالف: ما تقدّم من عنق الفرس، أترّت: قطعت. القساسيّة: سيوف تنسب إلى قساس، وهو جبل لبني أسد يحوي على معدن الحديد. (3) الحفائظ: مفردها الحفيظة؛ وهي الأنفة. النّهى- جمع نهية-: العقل. الرّعب: الوعيد. (4) الأرضة: دويبة تأكل الخشب ونحوه.

انشقاق القمر

فوجدوه كما ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم وبنو المطّلب من الشّعب؛ في أواخر السّنة التّاسعة. [انشقاق القمر] وفي «1» موسم السّنة التّاسعة سألت قريش النّبيّ صلى الله عليه وسلم آية وهو ب (منى) ، فأراهم انشقاق القمر شقّتين. رواه البخاريّ ومسلم «2» . وفي رواية: حتّى رأوا حراء بينهما «3» . فائدة [: في أنّ معجزة انشقاق القمر لا تعدلها معجزة] قال العلماء: وانشقاق القمر معجزة عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من معجزات الأنبياء عليهم السّلام، إذ لا يطمع أحد بحيلة إلى التّصرّف في العالم العلويّ، فصار البرهان بها أظهر، ولهذا نصّ عليها القرآن بقوله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [سورة القمر 54/ 1] . [وفاة أبي طالب] وفي السّنة العاشرة: مات أبو طالب، فاشتدّ حزن النّبيّ صلى الله عليه وسلم. [حرص النّبيّ صلى الله عليه وسلم على إسلام عمّه] وفي «صحيح البخاريّ» ، أنّ أبا طالب لمّا حضرته الوفاة، دخل عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل، فقال: «أي عمّ، قل لا إله إلّا الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل [وعبد الله بن أبي أميّة] : أترغب عن ملّة عبد المطّلب؟ [فلم يزالا يكلّمانه] ، حتّى قال آخر شيء [كلّمهم] به هو: على ملّة

_ (1) قلت: قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» ، ج 6/ 632: كان- أي: انشقاق القمر- بمكّة قبل الهجرة بنحو خمس سنين. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3437) . ومسلم برقم (2800/ 43) . عن ابن مسعود رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3655) . عن أنس رضي الله عنه.

تخفيف العذاب عن أبي طالب

عبد المطّلب. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنه» ، فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ «1» [سورة التّوبة 9/ 113]- أي: فلم يزل يستغفر له حتّى نزلت-/. [تخفيف العذاب عن أبي طالب] وفي «صحيح البخاريّ» أيضا، أنّ العبّاس قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمّك؟ فإنّه كان يحوطك ويغضب لك، فقال: «هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدّرك الأسفل من النّار» «2» . أي: لأنّ كفره كفر إيثار للباطل على الحقّ، مع علمه بذلك وتيقّنه بذلك، وما شاء الله تعالى كان، وما لم يشأ لم يكن. [وفاة خديجة رضي الله عنها] ثمّ ماتت خديجة رضي الله عنها، بعد موت أبي طالب بثلاثة أيّام. فتضاعف حزنه صلى الله عليه وسلم، ولكن كان الله له خلفا عن كلّ فائت. [اشتداد إيذاء قريش للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب] ولمّا مات أبو طالب نالت قريش من النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الأذى بعد وفاته ما لم تنله به في حياته. وفي «صحيح البخاريّ» ، عن عروة بن الزّبير، قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أشدّ شيء صنعه المشركون بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: بينما النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي في (الحجر) ،

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3671) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3670) . يحوطه: يحفظه، ويتعهّد بجلب ما ينفعه وبدفع ما يضرّه، الضّحضاح: الموضع القريب القعر، والمعنى: أنّه خفّف عنه شيء من العذاب. قال أهل العلم: إسلام أبي طالب مختلف فيه، كما ذكر الحافظ ابن حجر في «انفتح» ، وأما إيمانه فلا خلاف فيه؛ إذا عرّفنا الإيمان بأنّه التّصديق بالقلب فقط. والأدلّة متواترة على إيمانه المجرّد عن ربطه بالإسلام.

تحقيق حول مولد فاطمة وأخواتها

إذ أقبل عقبة بن أبي معيط- أي: مصغّرا بمهملتين- فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه به خنقا شديدا، فأقبل أبوبكر- رضي الله عنه- فأخذ بمنكبيه، ودفعه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ الآية، [سورة غافر 40/ 28] «1» . وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: بينما النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي عند (الكعبة) ، وقريش في مجالسهم في المسجد، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي، أيّكم يقوم إلى جزور بني فلان، فيجيء بسلاها فيضعه بين كتفيه إذا سجد؟ فانبعث أشقاهم- وفي رواية: أنّه عقبة بن أبي معيط أيضا- ففعل ذلك، فضحكوا حتّى مال بعضهم على بعض من الضّحك، وثبت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ساجدا، فانطلق منطلق إلى فاطمة رضي الله عنها- وهي يومئذ جويرية- فأقبلت تسعى حتّى ألقته عنه، / ثمّ أقبلت عليهم تسبّهم، فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصّلاة، قال: «اللهمّ عليك بقريش» ثلاثا، ثمّ سمّى رجالا «2» . قال عبد الله: فو الله لقد رأيتهم صرعى يوم (بدر) ، ثمّ سحبوا إلى (القليب) - قليب بدر- «3» . [تحقيق حول مولد فاطمة وأخواتها] قلت: وهذا يدلّ على أنّ مولد فاطمة رضي الله عنها متقدّم

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3643) . (2) وهم: عمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأميّة بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (237- 498) . سلاها: الجلدة الّتي يكون فيها ولد البهائم، أي: المشيمة. جويرية: شابّة.

إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وقومه

على ليلة الإسراء بمدّة عشر سنين وأكثر، وسبق أنّ أختها رقيّة رضي الله عنها من مهاجرة (الحبشة) ، فلعلّ زينب وأمّ كلثوم كذلك، أو منعهنّ الحياء من الخروج. والله أعلم. [إسلام أبي ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه وقومه] وفي «الصّحيحين» أيضا، أنّ أبا ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه، قال لأخيه أنيس: اركب إلى هذا الرّجل الّذي يزعم أنّه نبيّ، يأتيه الخبر من السّماء، واسمع من قوله، ثمّ ائتني، فانطلق الأخ حتّى قدم (مكّة) ، وسمع من قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثمّ رجع، فقال لأبي ذرّ: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشّعر، فقال: ما شفيتني ممّا أردت، فتزوّد وحمل شنّة «1» له، فيها ماء حتّى قدم (مكّة) ، فأتى المسجد، فالتمس النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، فلمّا أدركه اللّيل اضطجع في المسجد، فرآه عليّ فعرف أنّه غريب فأضافه، فتبعه ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتّى أصبح، ثمّ احتمل زاده وقربته إلى المسجد، وظلّ ذلك اليوم ولم يره النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمرّ عليه عليّ فقال: أما آن للرّجل أن يعرف منزله؟ فأقامه فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتّى إذا كان يوم الثّالث [فعل] عليّ مثل ذلك، فأقامه عليّ معه، ثمّ قال له: ألا تحدّثني ما الّذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدنّني فعلت، ففعل، فأخبره. قال عليّ: فإنّه حقّ، وإنّه رسول الله، فإذا أصبحت فاتّبعني، فإنّي إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأنّي/ أريق الماء، وإن مضيت فاتّبعني حتّى تدخل مدخلي ففعل، فانطلق يقفوه حتّى دخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فدخل معه، وسمع من

_ (1) الشّنّة: قربة من جلد، يكون الماء فيها أبرد.

قوله، وأسلم مكانه، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتّى يأتيك أمري» . وفي رواية مسلم: فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّي قد وجّهت لي أرض ذات نخل لا أراها إلّا يثرب» . فقال: والّذي بعثك بالحقّ، لأصرخنّ بها بين أظهرهم، فخرج حتّى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّدا رسول الله، فقام القوم فضربوه حتّى أضجعوه، فأتى العبّاس فأكبّ عليه، ثمّ قال: ويحكم: ألستم تعلمون أنّه من غفار، وأنّ طريق تجاركم عليهم، فأنقذه منهم، ثمّ عاد لمثلها من الغد، فبادروا إليه فضربوه، فأكبّ عليه العبّاس فأنقذه منهم. هذا لفظ البخاريّ «1» . زاد مسلم في روايته عنه: قال: فأتيت أخي أنيسا فقال: ما صنعت؟ قلت: إنّي قد أسلمت وصدّقت، فقال: ما بي رغبة عن دينك، فإنّي أيضا أسلمت وصدّقت. قال: فأتينا أمّنا، فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فإنّي قد أسلمت وصدّقت، فأتينا قومنا غفارا، فأسلم نصفهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة) قدمنا إليه فأسلمنا، فلمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة) أسلم نصفهم الباقي، وجاءت أسلم، فقالوا: يا رسول الله، إنّا أسلمنا على ما أسلم عليه إخواننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله» «2» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3648) . (2) أخرجه مسلم، برقم (2473/ 132) .

خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف

[خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الطّائف] وفي هذه السّنة وهي العاشرة: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى (الطّائف) ، إلى ثقيف، وأقام فيهم شهرا يدعوهم إلى الله، وسألهم أن يمنعوه، فردّوا عليه قوله، واستهزؤوا به، فسألهم أن يكتموا عنه لئلّا تشمت به/ قريش، فلم يفعلوا. فلمّا انصرف عنهم أغروا به سفهاءهم يصيحون خلفه ويسبّونه، حتّى اجتمعوا عليه، وألجؤوه إلى حائط «1» ، فاشتدّ كربه لذلك صلى الله عليه وسلم ودعا حينئذ بدعاء الكرب: «لا إله إلّا الله العظيم الحليم، لا إله إلّا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلّا الله ربّ السّماوات وربّ الأرض، ربّ العرش الكريم» ، ثمّ قال: «اللهمّ إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس يا أرحم الرّاحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني «2» ، أم إلى عدوّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكنّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة [من] أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى «3» حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك» . فنزل عليه جبريل عليه السّلام، وقال: إنّ الله قد سمع قولك وسمع قولهم، وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال، لتأمره فيهم بما شئت، فقال: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم

_ (1) الحائط: البستان. (2) يتجهّمني: يلقاني بالغلظة والوجه الكريه. (3) العتبى: الاسترضاء بالرّجوع عن الذّنب والإساءة.

من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» «1» . وروى البخاريّ ومسلم في «صحيحيهما» ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم أشدّ عليك من يوم (أحد) ؟ قال: «لقد لقيت من قومك [ما لقيت] «2» ، وكان أشدّ ما لقيت منهم [يوم العقبة] ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل- أي: بتحتيّة مكرّرة- ابن عبد كلال- أي: بالضّم- فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت، وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلّا وأنا ب (قرن الثّعالب) «3» ، فرفعت رأسي، وإذا سحابة قد أظلّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السّلام، فناداني وقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلّم عليّ، ثمّ قال: / يا محمّد، إنّ الله قد سمع قول قومك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربّك إليك لتأمرني بأمرك بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟» أي: جبلي

_ (1) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 6/ 35. وأخرج مسلم برقم (1795/ 111) بعضه. عن عائشة رضي الله عنها. (2) لقد لقيت من قومك: قال صاحب السّيرة الحلبيّة، ج 1/ 357: أي: أهل ثقيف كما هو المتبادر. ثمّ رأيت الحافظ ابن حجر قال: المراد بقوم عائشة في قوله: «لقد لقيت من قومك» : قريش لا أهل الطّائف الّذين هم ثقيف، لأنّهم كانوا السّبب الحامل على ذهابه صلى الله عليه وسلم لثقيف، ولأنّ ثقيفا ليسوا قوم عائشة رضي الله عنها. (انظر الجامع في السّيرة النّبويّة، ج 1/ 514) . (3) قرن الثّعالب: اسم موضع قرب مكّة. وأصل القرن: كلّ جبل صغير منقطع من جبل كبير. ولعلّه سمّي بذلك لكثرة الثّعالب فيه.

فائدة: في أن الاستهزاء والسب أشد من الطعن والضرب

مكّة «1» فقال صلى الله عليه وسلم: «فقلت: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا» «2» . قلت: وابن عبد كلال هذا هو وإخوته رؤساء أهل (الطّائف) . فائدة [: في أنّ الاستهزاء والسّبّ أشدّ من الطّعن والضّرب] قال العلماء: جعل صلى الله عليه وسلم ما ناله من الاستهزاء وشماتة الأعداء أشدّ ممّا لاقاه يوم (أحد) ؛ من قتل حمزة في سبعين من أصحابه، مع ما ناله في نفسه من الجراحة، وما ذاك إلّا أنّ نفس الكريم تتأذّى بالأذى وبالقول والسّبّ أشدّ ممّا تتأذّى به من الطّعن والضّرب. ولهذا عفا صلى الله عليه وسلم عن كلّ من تعرّض لقتله، وأهدر دم كلّ من تعرّض لشتمه. ومع ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم صابرا على ما ناله من الأذى في نفسه أو عرضه أو أهله، لعلمه بأنّ الامتحان عنوان الإيمان الّذي يتبيّن به جواهر الرّجال، كما قيل: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان. وأنّ أشدّ النّاس بلاء الأنبياء ثمّ الأمثال فالأمثل، زيادة في حسناتهم ورفع درجاتهم. [قال تعالى] : هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ [سورة آل عمران 3/ 163] . [دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة في جوار المطعم بن عديّ] ولمّا بلغ صلى الله عليه وسلم في مرجعه من (الطّائف) (حراء) ، بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره فاعتذر، وقال: (إنّما أنا حليف والحليف لا يجير) ، فبعث إلى سهيل بن عمرو فاعتذر، وقال:

_ (1) وهما: جبل أبي قبيس، ومقابله: قعيقعان. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3059) ، ومسلم برقم (1795/ 111) .

عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل

(إنّ بني عامر- أي: ابن لؤيّ- لا تجير على بني كعب بن لؤيّ بن غالب) ، فبعث إلى المطعم بن عديّ النّوفليّ، فلبس سلاحه، هو وأهل بيته، وخرجوا إلى المسجد، وبعثوا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن ادخل، فدخل صلى الله عليه وسلم في جوارهم، فطاف ب (الكعبة) وانصرف. فلمّا كان يوم (بدر) قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لو كان المطعم بن عديّ حيّا وكلّمني في/ هؤلاء [النّتنى]- يعني: الأسرى- لتركتهم له» «1» وكانوا سبعين أسيرا. [عرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل] وفي «2» السّنة الحادية عشرة، في الموسم منها: اجتهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم في عرض نفسه على القبائل في مجامعهم بالموسم ب (منى، وعرفات) أيّهم يمنعه ويؤويه. واجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة ليأمرهم بما يرمون به النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الموسم، لتكون كلمتهم واحدة، وعرضوا عليه أن يقولوا ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون، فقال: (والله ما هو بشاعر ولا ساحر ولا كاهن ولا مجنون، ولقد سمعت قولا ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنّ) ، قالوا: فكيف نقول فيه؟ ففكّر في نفسه، ثمّ قال: (إنّ أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وزوجه، وبين المرء وأخيه، فتفرّقوا على ذلك، وجعلوا يلقونه إلى من قدم إليهم من أهل الموسم.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2970) . عن جبير بن مطعم رضي الله عنه. (2) قلت: وهذا بعد رجوعه من الطّائف في ذي القعدة من السّنة العاشرة للبعثة. وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعرض الإسلام على القبائل منذ السّنة الرّابعة لبعثته.

ابتداء أمر الأنصار

وكان أبو لهب يقفو أثر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلّما أتى قوما ودعاهم إلى الله كذّبه عمّه وحذّرهم منه. وفي الوليد بن المغيرة أنزل الله تعالى: كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [سورة المدّثر 74/ 16- 26] «1» . [ابتداء أمر الأنصار] ولمّا أراد الله تعالى كرامة الأنصار، وإعزاز دينه بهم، لقي النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك الموسم ستّة نفر منهم، فعرض عليهم ما عرض على غيرهم، فقالوا فيما بينهم: والله إنّه للنّبيّ الّذي تواعدنا به اليهود، فلا يسبقونا إليه «2» . وكان اليهود يقولون لهم: قد أظلّ «3» زمان نبيّ سوف نتّبعه، ونقتلكم معه، قال الله تعالى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ- أي: يستنصرون- عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [سورة البقرة 2/ 89] . وكانوا قد وضعت عليهم تكاليف شاقّة، وحرّمت/ عليهم طيّبات أحلّت لهم من قبل، فوعدوا بوضع التّكاليف وحلّ الطّيّبات على لسان محمّد صلى الله عليه وسلم، وهو معنى قوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي

_ (1) عنيدا: معاندا مخالفا. بسر: كرّه وجهه. (2) ابن هشام، ج 1/ 428. (3) أظلّ: قرب.

إسلام النفر الذين لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الموسم

التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ- أي: حملهم الثّقيل- وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [سورة الأعراف 7/ 157] ؛ [وقوله تعالى] : رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [سورة البقرة 2/ 286] . [إسلام النّفر الّذين لقيهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الموسم] فلمّا عرض نفسه «1» على السّتّة النّفر من الأنصار «2» ، أتوه ليلا فامنوا به وصدّقوه، وقالوا: إنّ قومنا بينهم العداوة والبغضاء، فإن جمعنا الله بك فلا رجل أعزّ علينا منك. فلمّا قدموا (المدينة) أخبروا قومهم، وفشا فيهم الإسلام، فلم تبق دار من دور الأنصار إلّا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك عقيب يوم (بعاث) «3» - بموحّدة مضمومة، ثمّ مهملة ومثلّثة- وهو يوم وقعت فيه مقتلة عظيمة بين الأوس والخزرج في شوّال في هذه السّنة. وفي «صحيح البخاريّ» ، كان يوم (بعاث) يوما قدّمه الله لرسوله، فقدم رسول الله وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم، وجرّحوا، فدخلوا في الإسلام «4» .

_ (1) قلت: كان ذلك في موسم الحجّ من السّنة الحادية عشرة من بعثته صلى الله عليه وسلم. (2) وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله بن رياب رضي الله عنهم. (ابن هشام، ج 1/ 429) . (3) بعاث: موضع قرب المدينة. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3566) . سرواتهم: خيارهم وأشرافهم وعظاماؤهم.

زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها

[زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها] وفي شوّال من السّنة الثّانية عشرة «1» : عقد نكاح عائشة رضي الله عنها. وفي «صحيح البخاريّ» توفّيت خديجة قبل الهجرة بثلاث سنين، ونكح عائشة بعد موت خديجة بسنتين أو قريبا من ذلك، وهي بنت ستّ سنين، وبنى بها وهي بنت تسع- أي: بعد سنة ونصف من الهجرة، في شوّال أيضا «2» -. وفي «الصّحيحين» ، أنّه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «أريتك في المنام مرّتين، رأيت الملك يحملك في سرقة من حرير، فقال: هذه زوجتك، فأكشف، فإذا هي أنت، فقلت: إن يكن هذا من عند الله يمضه» «3» . [بيعة العقبة الأولى] وفي الموسم من السّنة الثّانية عشرة: وافاه اثنا عشر/ رجلا من الأنصار، فبايعوه عند (العقبة) بيعة النّساء «4» : عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً، إلى آخر الآية، [سورة الممتحنة 60/ 12] . ورجعوا. [بعث مصعب رضي الله عنه إلى المدينة وانتشار الإسلام فيها] وبعث معهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه، يقرئهم

_ (1) قلت: لعلّ الصّواب في الحادية عشرة؛ حيث إنّ زواجه صلى الله عليه وسلم منها كان في شوّال من السّنة الحادية عشرة للبعثة. وأنّ بناءه بها كان في شوّال من السّنة الأولى للهجرة. والله أعلم. (الرحيق المختوم، ص 154) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3683) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3682) . ومسلم برقم (2438/ 79) . سرقة: قطعة حرير فاخرة. (4) قلت: أي يعني وفق ما نزلت عليه بيعة النّساء بعد ذلك عام الحديبية. (البداية والنّهاية، ج 3/ 151) . وقد تمّت هذه البيعة ليلة العقبة في ذي الحجّة من السّنة الثّانية عشرة للبعثة، قبل مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بسنة وثلاثة أشهر.

بيعة العقبة الثانية

القرآن، فأسلم على يديه السّعدان: سعد بن معاذ سيّد الأوس، وسعد بن عبادة سيّد الخزرج، فأسلم لإسلامهما كثير من قومهما. [بيعة العقبة الثّانية] وفي الموسم من السّنة الثّالثة عشرة: خرج حجّاج الأنصار من المسلمين مع حجّاج قومهم من المشركين، فلمّا قدموا (مكّة) ، واعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في (العقبة) من أوسط ليالي التّشريق؛ فلمّا كان ليلة الميعاد باتوا مع قومهم، فلمّا مضى ثلث اللّيل خرجوا مستخفين، فلمّا اجتمعوا بالشّعب عند (العقبة) ، جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمّه العبّاس، وهو يومئذ باق على دينه، لكن أراد أن يتوثّق لابن أخيه، فتكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم؟» ، قالوا: نعم، فقال لهم: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم» ، فأخرجوهم. وهم تسعة من الخزرج: أسعد بن زرارة- بضمّ الزّاي-، والبراء بن معرور- بمهملات-، ورافع بن مالك بن عجلان، وسعد بن الرّبيع، وسعد بن عبادة، وعبادة بن الصّامت، وعبد الله بن رواحة، وعبد الله بن عمرو بن حرام- والد جابر- والمنذر بن عمرو. وثلاثة من الأوس، وهم: أسيد بن حضير- مصغّرين، وبحاء مهملة وضاد معجمة- ورفاعة بن عبد المنذر، وسعد بن خيثمة- بمعجمة مفتوحة وتحتيّة ثمّ مثلّثة- رضي الله عنهم أجمعين. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريّين «1» لعيسى ابن مريم، وأنا الكفيل على قومي؟» ،

_ (1) الحواريّون: المخلصون لأنبيائهم، المناصرون لهم.

تحذير إبليس قريشا من البيعة

قالوا: نعم، فبايعوه، ووعدهم على الوفاء: الجنّة. وجملتهم: ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان/. وروي أنّ جبريل عليه السّلام كان إلى جنب النّبيّ صلى الله عليه وسلم عند مبايعتهم، وهو يشير إليهم واحدا بعد واحد «1» . [تحذير إبليس قريشا من البيعة] ولمّا تمّت البيعة صاح إبليس- لعنه الله- صيحة منكرة، مشبّها صوته بصوت منبّه بن الحجّاج السّهميّ: يا أهل (منى) : هذا محمّد وأهل (يثرب) قد اجتمعوا لحربكم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي عدوّ الله، أما والله لأفرغنّ لك» «2» ، ثمّ تفرّقوا. [استجلاء قريش الحقيقة] فلمّا أصبحوا غدت عليهم رؤساء قريش، وقالوا: يا معشر الخزرج، بلغنا أنّكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنّه والله ما حيّ من العرب أبغض علينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، فحلف مشركوا الأنصار ما كان من هذا شيء ولا علمناه، وصدقوا، فإنّهم لم يعلموا. [تأكّد قريش من صحّة الخبر، وملاحقتها للمبايعين] فلمّا تفرّق النّاس من (منى) فتّشت قريش عن الخبر فوجدوه قد كان، فخرجوا في طلب القوم ففاتوهم، إلّا أنّهم أدركوا سعد بن عبادة، فرجعوا به أسيرا يضربونه، فاستنقذه منهم مطعم بن عديّ والحارث بن حرب بن أميّة؛ لصنائع كانت لسعد في رقابهما، وخوّفوا قريشا من تعرّض الأنصار لهم على طريق (الشّام) . [إذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة] ثمّ إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «إنّ الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» «3» .

_ (1) دلائل النّبوّة، ج 2/ 453. (2) ابن هشام، ج 2/ 447. (3) ابن هشام، ج 1/ 468.

ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار

وأمرهم بالهجرة إلى (المدينة) ، فهاجروا إليها، فلقوا عند الأنصار خير دار وخير جوار، آثروهم على أنفسهم، وقاسموهم في أموالهم. وبذلك أثنى الله عليهم في محكم كتابه العزيز بقوله تعالى: يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [سورة الحشر 59/ 9] ، رضي الله عنهم. [ثناء النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الأنصار] وفي «الصّحيحين» ، أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك النّاس واديا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت وادي الأنصار وشعبهم» «1» . وفيهما-[أي: الصّحيحين]- أنّه صلى الله عليه وسلم/ قال قبيل موته: «أوصيكم بالأنصار خيرا، فإنّهم كرشي وعيبتي، قد قضوا الّذي عليهم، وبقي الّذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» «2» . [انتظار النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإذن بالهجرة] وأقام صلى الله عليه وسلم ب (مكّة) ينتظر الإذن في الهجرة، ولم يتخلّف منهم إلّا من حبسه المشركون، وإلّا أبو بكر وعليّ رضي الله عنهما؛ فإنّهما حبسا أنفسهما على صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت في المنام أنّي أهاجر من مكّة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنّها

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (6818) . ومسلم برقم (1061/ 139) . عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3588) . ومسلم برقم (2510/ 176) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. كرشي: بطانتي وموضع سرّي. عيبتي: موضع النّصح له، والأمناء على سرّه.

المهاجرون الأوائل

اليمامة [أو هجر] ، فإذا هي المدينة يثرب» «1» . قلت: هكذا سمّاها (يثرب) ، ثمّ سمّاها (طيبة) ، ونهى عن تسميتها (يثرب) «2» . [المهاجرون الأوائل] [وفي «صحيح البخاريّ» ] ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: أوّل من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أمّ مكتوم، وكانوا يقرئان النّاس، ثمّ قدم سعد- أي: ابن أبي وقّاص- وبلال، وعمّار بن ياسر، ثمّ قدم عمر بن الخطّاب في عشرين من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثمّ قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم «3» . [خوف قريش من خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم واجتماعهم بدار النّدوة] فلمّا رأت قريش ما لقي أصحاب رسول الله من طيب الدّار، وحسن الجوار، خافوا خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا في أوّل المحرّم من السّنة الرّابعة عشرة في (دار النّدوة) «4» ، وتشاوروا في أمره، وتصوّر لهم إبليس-[لعنه الله]- في صورة شيخ نجديّ، مشاركا لهم في الرّأي.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3425) . ومسلم برقم (2272/ 20) . عن أبي موسى رضي الله عنه. وهلي: ظنّي واعتقادي. هجر: قاعدة البحرين المدينة المعروفة. (2) وذلك لأن معنى يثرب: الفساد، ومعنى طيبة: الطّيب. ومنه: جعلت لي الأرض طيّبة طهورا، أي: نظيفة غير خبيثة. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3710) . (4) قلت: صارت دار النّدوة بعد قصيّ لولده عبد الدّار، فبقيت في نسله حتّى اشتراها معاوية بن أبي سفيان من عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدّار، وجعلها دار الإمارة، وقيل: لمّا حجّ معاوية اشتراها من الزّبير العبدري بمئة ألف درهم. ثمّ صارت كلّها في المسجد الحرام بعد توسعته.

الإذن بالهجرة

فقال قائل منهم: أرى أن تربطوه في الحديد، وتغلقوا دونه الأبواب حتّى يموت، وقال آخر: أرى أن تخرجوه من بين أظهركم، فتستريحوا منه، وإن قتله غيركم كفاكم شرّه، وإن ظفر بالعرب فعزّه عن عزّكم، فقال أبو جهل: الرّأي عندي أن تخرجوا له من كلّ قبيلة رجلا، فيقتلوه دفعة واحدة، فيتفرّق دمه في القبائل، فيعجز قومه عن طلب الثّأر به. فقال الشّيخ النّجديّ: هذا والله هو الرّأي. فتفرّقوا على ذلك. [الإذن بالهجرة] فأخبر/ جبريل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بما قصدوا له، وأمره بالهجرة ليلة كذا، وهي اللّيلة الّتي علم الله سبحانه أنّهم يمكرون به فيها. وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ- أي: يحبسوك- أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ- أي: يحاربهم الله- وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [سورة الأنفال 8/ 30] «1» . [الإسرار إلى أبي بكر رضي الله عنه بالهجرة] وكان أبو بكر رضي الله عنه قد تجهّز للهجرة إلى (المدينة) ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على رسلك- أي: أمهل- فإنّي أرجو أن يؤذن لي فيها» . فعلف أبو بكر راحلتين كانتا عنده ورق التّمر «2» .

_ (1) قلت: قد يقول قائل: ما بال الترتيب في هذه الآية لم يأتي على حسب الواقع، ولم وسّط الله القتل مع أنّه كان في المشاورة بدار النّدوة آخرا؟. والجواب: أنّ هذا من عجيب أسلوب القرآن، وبديع طريقته، ذلك أنّ الرّأي الّذي اختاروه هو القتل، فجاءت الآية على هذا النّسق البديع من توسيط القتل بين الحبس والإخراج، لتدلّ الآية بوضعها وترتيبها على الرّأي الوسط المختار، وهو سرّ من أسرار الإعجاز. فلله ربّ التنزيل ما أكرمه وما أبلغه. (2) قلت: كان عند أبي بكر راحلتان، فقال أبو بكر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: خذ بأبي

خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر إلى الغار

قالت عائشة رضي الله عنها: فبينما نحن جلوس في نحر الظّهيرة- حين تبلغ الشّمس منتهاها من الارتفاع، كأنّها وصلت إلى النّحر، وهو أعلى الصّدر- إذ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: فداه أبي وأمّي، ما جاءنا في هذه السّاعة الّتي لم يكن يأتينا فيها إلّا لأمر قد حدث، فلمّا دخل صلى الله عليه وسلم قال له: «أخرج من عندك» ، قال: فإنّما هم أهلك. قال: «فإنّي قد أذن لي في الخروج» وواعده وقت السّحر، وأمره بالتّجهيز. قالت عائشة: فجهّزناهما أحثّ الجهاز- بالمثلّثة، أي: أسرعه- واستأجرا رجلا دليلا ماهرا «1» ، قد دفعا إليه راحلتيهما، وواعداه (غار ثور) بعد ثلاث ليال. [خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر إلى الغار] ثمّ لحقا ب (الغار) ، فمكثا فيه ثلاثا يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو يومئذ غلام فطن، ويدّلج «2» من عندهما بسحر، فيصبح ب (مكّة) مع قريش كبائت فيها، فلا يسمع أمرا يكادان به إلّا وعاه، وأتاهما بذلك حين يختلط الظّلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منائح من غنم «3» ، فيريحها عليهما عشيا «4» ،

_ أنت يا رسول الله إحدى راحلتيّ هاتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بالثّمن» . فأخذ إحداهما، وهي: القصواء. وإنّما اشترط النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك بالثّمن مع أنّ أبا بكر أنفق ما له في سبيل الله ورسوله؛ لأنّه أحبّ ألّا تكون هجرته إلّا من مال نفسه. وكان ثمنها أربع مئة درهم. (1) وهو: عبد الله بن أريقط. (ابن هشام، ج 1/ 485) . (2) يدّلج: يخرج وقت السّحر منصرفا إلى مكّة. (3) المنائح- جمع منيحة-: وهي منحة اللبن- كالناقة أو الشاة- تعطيها غيرك يحلبها ثم تردها عليك. (4) أي: يأوي بها ليلا.

تطويق المشركين دار النبي صلى الله عليه وسلم

وينعق بها من عندهم «1» . [تطويق المشركين دار النّبيّ صلى الله عليه وسلم] وكان المشركون قبل خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من داره قد قعدوا له على بابه تلك اللّيلة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه: «نم على فراشي، وتسجّ ببردي الحضرميّ الأخضر فنم فيه، فإنّه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم» «2» /. وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده حفنة من التّراب، وهو يتلو فيها صدر سورة (يس) إلى قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [سورة يس 36/ 9] . فأعمى الله أبصارهم عنه، وجعل ينثر على رؤوسهم التّراب، فأتاهم آت، فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمّدا، قال: خيّبكم الله!! والله لقد خرج عليكم محمّد وما ترك رجلا منكم إلّا وقد وضع على رأسه ترابا، فتفقّدوا رؤوسهم فوجدوا التّراب عليها كما قال. ثمّ نظروا إلى الفراش فوجدوا عليّا مسجّى بالبرد، فبقوا متحيّرين، وفتر حرصهم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم. [جائزة قريش لمن يردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه] فلمّا علموا بخروجهم وقعوا في الأسف، فطلبوهم بأشدّ وجوه الطّلب، وأخذوا على الطّرقات بالرّصد، وجعلوا دية كلّ واحد منهما لمن أسره أو قتله «3» . [وصول المشركين إلى باب الغار] ومرّوا على (غارهما) ، فأعمى الله أبصارهم عنهما، وألهم الله العنكبوت فنسجت على فم (الغار) ، وحمامتين فعشّشتا

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3692- 3694) . ينعق الرّاعي بغنمه: يصيح بها ويزجرها. (2) ابن هشام، ج 1/ 482- 483. (3) وهي مئة ناقة.

لا تحزن إن الله معنا

على فمه، فلمّا رأوا ذلك قالوا: لو دخله أحد ما كان هكذا. [لا تحزن إنّ الله معنا] وفي «الصّحيحين» ، من حديث أنس بن مالك، عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أنّ أحدهم نظر إلى قدميه لأبصارنا تحت قدميه، فقال: «يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» «1» . وفي ذلك يقول الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [سورة التّوبة 9/ 40] . وما أحسن قول صاحب البردة- رحمه الله تعالى- فيهما، [من البسيط] «2» : أقسمت بالقمر المنشقّ إنّ له ... من قلبه نسبة مبرورة القسم «3» وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكلّ طرف من الكفّار عنه عمي فالصّدق في الغار والصّدّيق لم يرما ... وهم يقولون ما بالغار من أرم «4» / ظنّوا الحمام وظنّوا العنكبوت على ... خير البريّة لم تنسج ولم تحم

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3453) . (2) البردة، في معجزاته صلى الله عليه وسلم، ص 34. (3) يريد أنّ للقمر المنشقّ نسبة إلى قلب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد كان يناغيه صغيرا. (4) لم يرما: لم يبرحا. من أرم: من أحد.

مدة إقامة النبي صلى الله عليه وسلم في الغار

وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدّروع وعن عال من الأطم «1» [مدّة إقامة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الغار] وبعد الثّلاث جاءهم الدّليل «2» بالرّاحلتين فارتحلوا، وأردف النّبيّ صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة ليخدمهما، فأخذ بهم الدّليل طريق السّواحل. [خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة] وفي «الصّحيحين» ، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، قال: فأسرينا ليلتنا كلّها، حتّى قام قائم الظّهيرة «3» ، وخلا الطّريق فلا يمرّ فيه أحد، حتّى رفعت لنا صخرة «4» طويلة لها ظلّ، لم تأت عليه الشّمس بعد، فنزلنا عندها، فأتيت الصّخرة وسوّيت بيدي مكانا ينام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ بسطت عليه فروة، ثمّ قلت: نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك «5» ، فنام، وخرجت أنفض ما حوله- أي: أستبرئه-، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصّخرة، يريد منها الّذي أردناه، فلقيته، فقلت، لمن أنت يا غلام؟، فقال: لرجل من أهل المدينة- يعني: (مكّة) ، فهو صفة لا علم- فقلت: أفي غنمك لبن؟، قال: نعم، قلت: أفتحلب لي؟، قال: نعم،

_ (1) الأطم: الحصن. (2) قلت: وهو عبد الله بن أريقط، وكان على دين كفّار قريش، ولم يعرف له إسلام قطّ. وهذا يدلّ على مروءة العرب، ووفائهم وأمانتهم، وإلّا فقد كان يمكنه أن يدلّ المشركين عليهما، ويأخذ المكافأة. (3) قائم الظهيرة: نصف النّهار، وهو حال استواء الشّمس. سمّي قائما لأنّ الظّلّ لا يظهر فكأنّه واقف قائم. (أنصاريّ) . (4) رفعت لنا صخرة: ظهرت لأبصارنا، (أنصاريّ) . (5) أي: أحرسك وأنظر جميع ما في المكان.

وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء

فأخذ شاة، فقلت له: انفض الضّرع من الشّعر والتّراب والقذى، فحلب لي في قعب معه- أي: قدح- كثبة «1» من لبن، قال: ومعي إداوة «2» أرتوي فيها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، ليشرب منها ويتوضّأ، قال: فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكرهت أن أوقظه من نومه، فوقفت حتّى استيقظ. - وفي رواية: فوافقته حين استيقظ- فصببت على اللّبن من الماء حتّى برد أسفله، فقلت يا رسول الله: اشرب من هذا اللّبن، فشرب حتّى رضيت، ثمّ قال: «ألم يأن للرّحيل؟» ، قلت: بلى، قال: فارتحلنا بعد ما زالت الشّمس، فاتّبعنا سراقة بن مالك، ونحن في جلد من الأرض/- أي: موضع صلب- فقلت: يا رسول الله أتينا، فقال: «لا تحزن إنّ الله معنا» ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فارتطمت فرسه إلى بطنها «3» ، فقال: إنّي قد علمت أنّكما قد دعوتما عليّ، فادعوا لي، فالله لكما أن أردّ عنكما الطّلب، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل لا يلقى أحدا إلّا قال: قد كفيتكم ما هاهنا، ولا يلقى أحدا إلّا ردّه، فوفّى لنا «4» . [وصول النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قباء] فأقام صلى الله عليه وسلم ب (قباء) ، ثمّ دخل (المدينة) يوم الاثنين أيضا «5» . [دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، ودعوة الأنصار له بالنّزول عندهم] قال أبو بكر رضي الله عنه: فقدمنا (المدينة) ليلا، فتنازعوا على أيّهم ينزل عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: «أنزل على بني النّجار، أخوال

_ (1) الكثبة: هي قدر حلبة خفيفة. (2) الإداوة: إناء صغير من جلد. (3) أي: غاصت قوائمها في تلك الأرض الجلد. (أنصاريّ) . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3419) . (5) قلت: لقد كان دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قباء يوم الاثنين، أمّا وصوله إلى المدينة فكان يوم الجمعة. وسيأتي ذلك فيما بعد ص 253.

خبر إسلام سراقة

عبد المطّلب، أكرمهم بذلك» «1» . فصعد الرّجال والنّساء فوق البيوت، وتفرّق الغلمان والخدم ينادون: جاء محمّد، جاء رسول الله «2» . [خبر إسلام سراقة] وفي «صحيح البخاريّ» ، أنّ سراقة قال: فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب «3» . زاد ابن إسحاق عنه، قال: فلقيته ب (الجعرانة) فرفعت يدي بالكتاب، فقلت: هذا كتابك لي، فقال: «نعم، هذا يوم وفاء وبرّ، ادن» «4» فدنوت، فأسلمت. قال علماء السّير: ولم تدر قريش أين توجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتّى سمعوا وقت الصّبح هاتفا من مؤمني الجنّ ينشد ب (مكّة) في الهواء، [من الطّويل] «5» : جزى الله ربّ [العرش] خير جزائه ... رفيقين حلّا خيمتي أمّ معبد «6» هما نزلا بالبرّ ثمّ ترحّلا ... فيا فوز من أمسى رفيق محمّد فيال قصيّ ما زوى الله عنكم ... به من فخار لا يجارى وسؤدد

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (2009/ 75) . (2) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 3/ 12. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3693) . (4) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 6/ 54. (5) ابن هشام، ج 1/ 487. (6) واسمها: عاتكة بنت خالد بن منقذ الخزاعيّة.

مرور النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بأم معبد بعد لحاق سراقة لهم

ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شأنها وإنائها ... فإنّكم إن تسألوا الشّاة تشهد أتته بشاة حائل فتحلّبت ... عليه بدرّ ضرّة الشّاة مزبد [مرور النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بأمّ معبد بعد لحاق سراقة لهم] / وكانوا قد مرّوا على خيمة أمّ معبد الخزاعيّة الكعبيّة، فسألوها الزّاد، فلم يجدوا عندها إلّا شاة هزيلة، قد تخلّفت لضعفها عن الغنم، فمسح صلى الله عليه وسلم بيده المباركة على ضرّتها- أي: ضرعها- فدرّت لهم بلبن غزير، شرب منه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتّى ارتووا، وأفضلوا لأهل الخيمة ما يرويهم. ثمّ أتى زوجها فأخبرته، فقال: والله إنّه لصاحب قريش، فحينئذ علمت قريش أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم توجّه إلى (المدينة) ، وأنّ الله ناصر عبده، ومظهر لا محالة دينه «1» .

_ (1) ابن هشام، ج 1/ 487- 488.

الباب الثامن في ذكر ما اشتمل عليه حديث الإسراء من العجائب واحتوى عليه من الأسرار والغرائب

الباب الثّامن في ذكر ما اشتمل عليه حديث الإسراء من العجائب واحتوى عليه من الأسرار والغرائب [وذلك] من العروج به إلى سدرة المنتهى، ثمّ إلى قاب قوسين أو أدنى، وما رأى من آيات ربّه الكبرى، والمناجاة، والرّؤية، وإمامة الأنبياء، ممّا أكرمه الله تعالى به صلى الله عليه وسلم. [زمن الإسراء] قال القاضي عياض: وكان قبل الهجرة بسنة «1» - أي: في السّنة الثّانية عشرة-. ثمّ قال بعضهم: في رمضان منها. وقال النّوويّ في «روضته» : في رجب «2» . والأصل فيه من القرآن قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ

_ (1) الشّفا، ج 1/ 347. (2) قلت: لم يتّفق العلماء على ضبط تاريخ الإسراء، ولكن الثّابت الّذي ظهر لنا بعد النّظر في الرّوايات أنّ حادث الإسراء وقع متأخّرا، لأنّ خديجة رضي الله عنها توفّيت في رمضان من السّنة العاشرة للنّبوّة على الصّحيح، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصّلوات الخمس، ولا خلاف أنّ فرض الصّلوات كان ليلة الإسراء. ولكنّ العلماء متّفقون على أنّ الإسراء والمعراج كان إكراما من الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم وتسلية وتعويضا عمّا لقيه في الطّائف من الأذى، وعمّا أصابه من الحزن على وفاة خديجة، وعلى وفاة عمّه أبي طالب، اللّذين بين وفاتيهما ثلاثة أيّام، وسمّاه صلى الله عليه وسلم عام الحزن. (انظر الجامع في السّيرة، ج 1/ 531) ..

حديث الإسراء والمعراج

لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [سورة الإسراء 17/ 1] . وقوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [سورة النّجم 53/ 8- 11] ، إلى قوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [سورة النّجم 53/ 17- 18] . [حديث الإسراء والمعراج] ولا خلاف بين أئمة المسلمين وعلماء الدّين في صحّة الإسراء به صلى الله عليه وسلم، إذ هو نصّ القرآن العظيم. ورواه جماعة من الصّحابة، كما أخرجه الحفّاظ في أصول الإسلام المشهورة، ولكنّ أكملها ترتيبا ووضعا ما رواه مسلم في «صحيحه» من حديث ثابت البناني. عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت بالبراق- (وهو/ دابّة أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه) - قال: فركبته حتّى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة الّتي تربط بها الأنبياء، ثمّ دخلت المسجد فصلّيت فيه ركعتين، ثمّ خرجت، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللّبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة «1» .

_ (1) قلت: قال أبو شهبة- رحمه الله-: عبّر عن اللّبن بالفطرة؛ لأنّه أوّل ما يدخل بطن المولود ويشقّ أمعاءه، وهو الغذاء الّذي لم يكن يصنعه غير الله، والغذاء الكامل المستوفي للعناصر الّتي يحتاج إليها الجسم في بنائه ونموه، مع كونه طيّبا سائغا للشّاربين. وقد تكرّر هذا العرض مرّتين، مرّة بعد الصّلاة في بيت المقدس- كما في صحيح مسلم- ومرّة في السّماء- كما في الحديث المتّفق عليه- (انظر السّيرة النّبويّة، ج 1/ 426) .

ثمّ عرج بي إلى السّماء، فاستفتح «1» جبريل، فقيل: من أنت؟، قال: جبريل، فقيل: ومن معك؟، قال: محمّد، قيل: وقد بعث إليه؟، قال: قد بعث إليه، ففتح لنا. فإذا أنا بادم- عليه السّلام- فرحّب بي ودعا لي بخير. ثمّ عرج بنا إلى السّماء الثّانية، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟، قال: جبريل، قيل: ومن معك؟، قال: محّمد، قيل: وقد بعث إليه؟، قال: قد بعث إليه، ففتح لنا. فإذا أنا بابني الخالة «2» : عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريّا- عليهما السّلام- فرحّبا بي ودعوا لي بخير. ثمّ عرج بنا إلى السّماء الثّالثة- فذكر مثل الأوّل- ففتح لنا. فإذا أنا بيوسف- عليه السّلام- وإذا هو قد أعطي شطر الحسن- أي: نصفه، ومن النّاس من يعطى عشره أو دونه أو فوقه، وفيه إشارة إلى أنّ منهم من أكمل له الحسن، ويتعيّن أنّه محمّد صلى الله عليه وسلم- قال: فرحّب بي ودعا لي بخير. ثمّ عرج بنا إلى السّماء الرّابعة- وذكر مثله- فإذا أنا بإدريس- عليه السّلام- فرحّب بي ودعا لي بخير- قال الله تعالى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [سورة مريم 19/ 57]-.

_ (1) استفتح: طلب فتح الباب. ولله ملائكة موكّلون بكلّ ما خلق، وله الحكمة البالغة. (2) قلت: قال أبو شهبة- رحمه الله-: وهذا على أنّ مريم وإيشاع أم يحيى ابن زكريا أختان، وقيل: إنّ إيشاع خالة مريم، فيكون في العبارة تسامح. ولا يزال هذا الأمر عرفا في بعض البلاد العربيّة تعدّ خالة الأمّ خالة للابن. (انظر السّيرة النّبويّة، ج 1/ 424) .

ثمّ عرج بنا إلى السّماء الخامسة- فذكر مثله- فإذا أنا بهارون- عليه السّلام- فرحّب بي ودعا لي بخير. ثمّ عرج بنا إلى السّماء السّادسة- فذكر مثله- فإذا أنا بموسى- عليه السّلام- فرحّب بي ودعا لي بخير. ثمّ عرج بنا إلى السّماء السّابعة- فذكر مثله- فإذا أنا بإبراهيم- عليه السّلام- مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه. ثمّ ذهب بي إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها/ كاذان الفيلة «1» ، وإذا ثمرها كالقلال «2» . فلمّا غشيها من أمر الله ما غشي تغيّرت- أي: تلوّنت بألوان مختلفة- فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها. قال: فأوحى الله إليّ ما أوحى. ففرض عليّ خمسين صلاة في كلّ يوم وليلة، فنزلت إلى موسى- عليه السّلام-، فقال: ما فرض ربّك على أمّتك؟، قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربّك واسأله التّخفيف، فإنّ أمّتك لا يطيقون ذلك، فإنّي قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم، قال: فرجعت إلى ربّي، فقلت: يا ربّ، خفّف على أمّتي. فحطّ عنّي خمسا، فرجعت إلى موسى، فقلت: حطّ عنّي خمسا، فقال: إنّ أمّتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربّي عزّ وجلّ وبين موسى، حتّى قال: يا محمّد، إنّهنّ خمس صلوات كلّ يوم

_ (1) يعني في الشّكل والكبر. (2) القلال: آنية من الفخّار يشرب منها. مفردها: قلّة.

فائدة: في بعض دقائق الإسراء

وليلة، لكلّ صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن همّ بسيّئة فلم يعملها لم تكتب شيئا- وفي رواية: كتبت حسنة- فإن عملها كتبت سيّئة واحدة، قال: فنزلت حتّى انتهيت إلى موسى- عليه السّلام- فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد رجعت إلى ربّي حتّى استحييت منه» «1» . قلت: هذا مع ما قد أفهمه صلى الله عليه وسلم من الإلزام له بقوله: «إنّهنّ خمس» وفي رواية أيضا: «لا يبدّل القول لديّ» . قال القاضي عياض- رحمه الله-: (جوّد ثابت- رحمه الله- هذا الحديث عن أنس ما شاء، ولم يأت عنه أحد بأصوب من هذا. وقد خلّط فيه غيره عن أنس تخليطا كثيرا، لا سيّما من رواية شريك بن أبي نمر) «2» . انتهى. قلت: وحديث شريك ممّا اتّفق عليه الشّيخان، وإنّما لم يورد البخاريّ حديث ثابت هذا لأنّ مسلما إنّما رواه من طريق حمّاد بن سلمة، وهو متروك عند البخاريّ، لم يرو له إلّا تعليقا. واتّفق عليه الشّيخان أيضا من حديث أبي/ ذرّ وغيره. فائدة [: في بعض دقائق الإسراء] وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «بالحلقة الّتي تربط به الأنبياء» إشارة إلى أنّ ركوب البراق للإسراء غير مختصّ بمحمّد صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى ذلك

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (162/ 259) . (2) الشّفا، ج 1/ 347.

قوله في الرّواية الآتية: «فما ركبك عبد أكرم على الله من محمّد» ، لكن في ظاهر قول أهل كلّ سماء: (وقد بعث إليه) ، إشكال لعدم علمهم ببعثه إلّا بعد مضيّ هذه المدّة، مع كثرة تردّد جبريل فيها، وانتشارها عند أهل الأرض، فضلا عن أهل السّماء. وأجاب بعضهم: بأنّه سؤال عن البعث إليه للعروج المتوقّع عندهم لقوله: (إليه) ، وهو جواب حسن. وإنّما لم يفتح له قبل مجيئه ليعلم أنّه إنّما فتح من أجله، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أوّل من يقرع باب الجنّة» «1» . والحكمة في الإسراء به إلى (بيت المقدس) ما ذكره كعب الأحبار: أنّ باب السّماء الّذي يسمّى (مصعد الملائكة) يقابله (بيت المقدس) ، كما أنّ (البيت المعمور) مقابل (الكعبة) . وأيضا ليحوز صلى الله عليه وسلم فضل شدّ الرّحال إلى المساجد الثّلاثة. وقوله صلى الله عليه وسلم: «يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه» يحتمل أيضا أنّهم لا يخرجون منه، فيكون في ذلك دلالة على سعته، وعلى كثرة جنود الله تعالى، والله أعلم بالصّواب. وعندهما-[أي: البخاريّ ومسلم]- أنّ كلّ نبيّ قال: مرحبا بالنّبيّ الصّالح والأخ الصّالح، إلّا آدم وإبراهيم- عليهما السّلام- فقالا له: والابن الصّالح «2» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (196/ 331) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) وهذه رواية البخاريّ ومسلم من طريق ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه. قلت: لقد اقتصر الأنبياء الّذين لقيهم صلى الله عليه وسلم في السّماء على وصفه بصفة الصّلاح، لأنّ فيها جماع الخير كلّه، والصّالح هو الطّيّب في نفسه، الّذي يقوم بما عليه من حقوق الله وحقوق العباد.

فائدة: في اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء

فائدة [: في اجتماع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالأنبياء] الظّاهر أنّ أرواح الأنبياء تشكّلت له في العالم الأعلى. ويجوز نقل أجسادها تلك اللّيلة إكراما لهم أجمعين. ويؤيّد الأوّل قوله في الحديث: «فصلّى بأهل السّماء، وفيهم أرواح الأنبياء» «1» . والظّاهر أيضا: أنّ اختصاص من لقيه منهم في كلّ سماء، وهم: آدم، وعيسى، ويوسف، وإدريس، وهارون، وموسى، وإبراهيم، بحسب تفاوتهم في الدّرجات، فادم في السّماء الدّنيا، لأنّه أوّل الأنبياء. ثمّ عيسى في الثّانية، لأنّه أقرب الأنبياء عهدا بمحمّد. ويوسف في الثّالثة، لأنّ أمّة محمّد يدخلون الجنّة على صورته. وإدريس في الرّابعة/، لأنّها الوسطى، وقد رفعه الله مكانا عليّا. وهارون في الخامسة، لقربه من أخيه موسى. وموسى في السّادسة، لفضله بالتّكليم. وإبراهيم في السّابعة، لأنّه أفضل الأنبياء بعد محمّد. صلّى الله عليه وعليهم أجمعين. والظّاهر من اختصاص مراجعة موسى له كونه أشبه الرّسل به في كثرة الأتباع وشرف الكتاب. والله أعلم. [رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى] وفي «2» رواية: «فغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثمّ أدخلت الجنّة» «3» .

_ (1) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 1/ 71- 72. عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) قلت: سمّيت سدرة المنتهى بذلك: لأنّها ينتهي إليها علم كلّ نبيّ مرسل، وكلّ ملك مقرّب، ولم يجاوزها أحد إلّا نبيّنا صلى الله عليه وسلم. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (342) .

ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته

قال الله تعالى: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى [سورة النّجم 53/ 14- 16] . وفي أخرى: «إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها. وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض منها» «1» . وفي ثالثة: هذه السّدرة المنتهى ينتهي إليها كلّ أحد من أمّتك، خلا على سبيلك، وهي السّدرة المنتهى «2» . وفي رابعة: «يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه، وأنهار من خمر لذّة للشّاربين، وأنهار من عسل مصفّى، وهي شجرة يسير الرّاكب في ظلّها سبعين عاما [لا يقطعها] ، وأنّ ورقة منها مظلّة الخلق، فغشيها نور [الخالق] ، وغشيتها الملائكة» «3» . وفي خامسة: «ثمّ عرج بي حتّى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام» «4» . [ما خصّ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأمّته] وفي سادسة: «أنّ جبريل لمّا جاء بالبراق فذهب ليركب، فاستعصت عليه، فقال لها جبريل: اسكني، فو الله ما ركبك عبد

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (173/ 729) . (2) الشّفا، ج 1/ 348. (3) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 1/ 71. والبيهقيّ في «دلائل النّبوّة» ، ج 2/ 402. عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3164) . عن أبي ذرّ رضي الله عنه. صريف الأقلام: هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه، وما ينسخونه من اللّوح المحفوظ، أو ما شاء الله تعالى أن يكتب ويرفع لما أراده من أمره وتدبيره.

أكرم على الله من محمّد صلى الله عليه وسلم، فركبها حتّى أتى بها الحجاب الّذي يلي عرش الرّحمن. فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من هذا يا جبريل؟» ، قال: والّذي بعثك بالحقّ نبيّا إنّي لأقرب الخلق مكانا، وإنّ هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه، فأذّن الملك وأقام، وأخذ بيد محمّد صلى الله عليه وسلم فقدّمه فصلّى بأهل السّماء، وفيهم أرواح الأنبياء- عليهم السّلام- ثمّ قال محمّد: «يا ربّ، إنّك اتّخذت إبراهيم خليلا. وكلّمت موسى تكليما. وآتيت داود الملك والحكمة، وألنت له الحديد، وسخّرت له الجبال يسبّحن معه والطّير. ووهبت سليمان/ ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وسخّرت له الرّيح تجري بأمره رخاء- أي: ليّنة- حيث أصاب- أي: قصد- والشّياطين كلّ بناء وغوّاص، وآخرين مقرّنين في الأصفاد- أي: القيود- وعلّمت عيسى التّوراة والإنجيل، وأعذته وأمّه من الشّيطان الرّجيم، وجعلته يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك» ، فقال الله تعالى: يا محمّد؛ قد اتّخذتك خليلا وحبيبا، فهو مكتوب في التّوراة أنّ محمّدا حبيب الرّحمن، وأرسلتك إلى النّاس كافّة، وجعلت أمّتك هم الأوّلون وهم الآخرون بعثا، والسّابقون يوم القيامة، وجعلت أمّتك لا تجوز لهم خطبة حتّى يشهدوا أنّك عبدي ورسولي، وجعلتك فاتحا وخاتما، وأعطيتك السّبع المثاني- أي: الفاتحة- وخواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشي، ولم أعط ذلك أحدا من خلقي» «1» .

_ (1) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 1/ 71- 72. عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فائدة: في الحكمة من ركوب البراق

فائدة [: في الحكمة من ركوب البراق] الحكمة في ركوب البراق مع قدرة الله تعالى على طيّ المسافة له إكرامه بما جرت به العادة مع خرقها، إذ الملوك يبعثون لمن استدعوه بمركوب. وجزم جماعة من المحقّقين بأنّه لم يجاوز سدرة المنتهى أحد إلّا محمّد صلى الله عليه وسلم، ويؤيّده قوله [صلى الله عليه وسلم] : «إليها ينتهي ما يعرج [به] من الأرض» «1» . [عرض الآنية على النّبيّ] وقوله صلى الله عليه وسلم: «فأتيت بإناء من لبن وإناء من خمر» «2» . زاد في رواية في «الصّحيحين» : «وإناء من عسل» «3» وفي رواية أخرى للبزّار: «وإناء من ماء» «4» . قلت: وبتمام الأربعة يعلم أنّه أتي من كلّ نهر بإناء من الأنهار الّتي تخرج من أصل سدرة المنتهى المذكورة في الحديث السّابق. ثمّ في قوله تعالى فيها: أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [سورة محمّد 47/ 15] . والله أعلم. وفي «الصّحيحين» ، عن أنس رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا عرج بي جبريل إلى سدرة المنتهى دنا الجبّار ربّ العزّة، فتدلّى، حتّى كنت منه قاب قوسين- أي: قدر قوسين- أو أدنى،

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (173/ 729) . (2) أخرجه مسلم، برقم (162/ 259) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3674) . عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه. (4) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 1/ 69. عن أبي هريرة رضي الله عنه.

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم نهر الكوثر

فأوحى إليّ بما شاء» «1» . وعن ابن عبّاس رضي الله/ عنهما، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «فارقني جبريل، فانقطعت عنّي الأصوات، فسمعت كلام ربّي جلّ وعلا يقول: ليهدأ روعك- أي: ليسكن خوفك- ادن يا محمّد، ادن» «2» . [رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهر الكوثر] وفي البخاريّ، عن أنس رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا عرج بي إلى السّماء بينما أنا أسير في الجنّة، إذا [أنا] بنهر حافّتاه قباب اللّؤلؤ المجوّف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟، قال: هذا الكوثر الّذي أعطاك ربّك، فإذا طينه مسك أذفر» «3» . [رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبعض أهل النّار] وفي «سنن أبي داود» ، عن أنس أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الّذين يأكلون لحوم النّاس ويقعون في أعراضهم» «4» . [وصيّة إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام لأمّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم] وروى التّرمذيّ في «جامعه» ، وقال: حديث حسن، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقيت إبراهيم- عليه السّلام- ليلة أسري بي، فقال: يا محمّد: أقرىء أمّتك عنّي السّلام- عليه وعلى نبيّنا السّلام-، وأخبرهم أنّ الجنّة طيّبة التّربة، عذبة الماء، وأنّها قيعان، وأنّ غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر» «5» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (7079) . قلت: وقد خالف الرّاوي شريك غيره، إذ المشهور في الحديث نسبة الدّنوّ والتّدلّي إلى جبريل عليه السّلام. (2) الشّفا، ج 1/ 390. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4680- 6210) . مسك أذفر: طيّب الرّائحة. (4) أخرجه أبو داود، برقم (4878) . (5) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3462) . قيعان: وهو المكان المستوي

ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه

[ما رآه النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه] وروى الطّبرانيّ بإسناد حسن، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشّيخين، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا دخلت الجنّة أتيت على قصر من ذهب مربّع مشرف، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطّاب، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ بعد كلّ صلاة مكتوبة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عشر مرّات بنى الله له قصرا في الجنّة، ومن قرأها عشرين مرّة بنى الله له قصرين في الجنّة» . فقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: إذا تكثر قصورنا يا رسول الله؟، قال: «فضل الله أوسع من ذلك» «1» . [إخباره بمسراه وموقف قريش في ذلك] وفي «الصّحيحين» ، / أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا كذّبتني قريش، قمت في (الحجر) فجلا الله لي (بيت المقدس) ، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه» «2» . وفي رواية: «ثمّ رجعت إلى خديجة وما تحوّلت عن جانبها، ثمّ أصبحت فأخبرت قريشا، فلقد رأيتني في (الحجر) ، وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من وصف (بيت المقدس) لم أثبتها، فكربت كربا شديدا، فجلّى الله لي (بيت المقدس) » «3» إلى آخره.

_ الواسع في وطأة من الأرض، يعلوه ماء السّماء فيمسكه ويستوي نباته. (1) أخرجه أحمد في «مسنده» ، ج 3/ 437. عن معاذ بن أنس الجهنيّ رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3673) . ومسلم برقم (170/ 276) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. طفقت: أخذت وشرعت. (3) أخرجه مسلم، برقم (172/ 278) . عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه. لم أثبتها: لم أحفظها وأضبطها.

فائدة: في تعليل مجيء المسجد الأقصى للنبي صلى الله عليه وسلم

فائدة [: في تعليل مجيء المسجد الأقصى للنّبيّ صلى الله عليه وسلم] وفي رواية للإمام أحمد: «فجيء ب (المسجد الأقصى) وأنا أنظر، حتّى وضع عند (دار عقيل) ، فنعتّه وأنا أنظر إليه» «1» . قال العلماء: وهذا أبلغ من كشف الحجب الّتي بين (الحرم وبيت المقدس) ؛ لأنّه نظير إحضار عرش بلقيس لسليمان في طرفة عين. قلت: وذلك بطريق انزواء الأرض، بأن تنقبض أجزاؤها حتّى يصير الموضع الّذي فيه (بيت المقدس) ب (مكّة) . ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «زويت لي الأرض» «2» . والله أعلم. ومنه أنّي قلت لبعض أصحابنا: بلغني أنّك تصلّي أيّ فرض شئت جماعة ب (حرم مكّة) فعلى أيّ كيفيّة هذا؟، فقال: بمجرّد أن يخطر ذلك ببالي، صرت تجاه (الكعبة) ، ثمّ إذا خطر ببالي العود، صرت بمكاني ب (حضر موت) . والله أعلم. [تصديق أبي بكر رضي الله عنه وسبب تسميته بالصّدّيق] وفي رواية: فقيل لأبي بكر: إنّ محمّدا يزعم أنّه بلغ (بيت المقدس) ورجع، فقال: إنّا لنصدّقه في نزول الوحي في طرفة عين. فأنزل الله عزّ وجلّ في أبي بكر: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة الزّمر 39/ 33] ، فسمّاه الله الصّدّيق» . وأنزل الله سبحانه في تصديق نبيّه صلى الله عليه وسلم وتنزيهه عمّا نسبوه إليه في ذلك من الغيّ والضّلال والهوى قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى.

_ (1) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (2815) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. نعتّه: وصفته. (2) أخرجه مسلم، برقم (2889/ 19) . عن ثوبان رضي الله عنه. (3) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 3/ 62. عن عائشة رضي الله عنها.

الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء

ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. [سورة النّجم 53/ 1- 4] ، إلى قوله: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [سورة النّجم 53/ 18] . فأقسم تعالى بالنّجم، وهو الثّريا. إذا هوى- أي: سقط للغروب- على نفي الضّلال عنه صلى الله عليه وسلم والغيّ المستلزم، لإثبات/ الهدى والرّشد، وعلى صدقه فيما أخبر، ونفي النّطق عن الهوى، وأنّ ذلك وحي يوحى إليه من الله سبحانه، علّمه إيّاه جبريل شديد القوى. ثمّ لمّا كان ما أوحى إليه في تلك اللّيلة من عظيم ملكوته لا تحيط به العبارة رمز إليه بالإشارة، فقال: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [سورة النّجم 53/ 10] ، ثمّ أخبر عن تصديق فؤاده- وهو: قلبه- بما رأى بصره من آيات ربّه الكبرى بقوله: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [سورة النّجم 53/ 11]- أي: بما رآه البصر-، وعن حسن أدبه، وعدم التفات قلبه إلى غير ربّه بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [سورة النّجم 53/ 17] فقد اشتملت هذه الآيات الكريمة على تزكية لسانه صلى الله عليه وسلم وبصره وفؤاده، فزكّى لسانه بقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، وبصره بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى، وفؤاده، بقوله: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. [الخلاف في رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة الإسراء] وصحّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [سورة النّجم 53/ 13] أنّه قال: (رأى محمّد ربّه بعيني رأسه وكلّمه من غير حجاب) «1» . قال العلماء: ولا يقول ذلك ابن عبّاس إلّا بتوقيف، فسبيله سبيل

_ (1) الشّفا، ج 1/ 376. وبه قال أنس وعكرمة والرّبيع.

المرفوع، إذ ليس للرّأي في هذا مدخل. وعن كعب الأحبار: (أنّ الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمّد- عليهما السّلام- فكلّمه موسى من وراء الحجاب بغير واسطة مرّتين، ورآه محمّد بعيني رأسه مرّتين) . نقله الماورديّ عنه. وقال كثير من العلماء في تفسير قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [سورة الشّورى 42/ 51]- أي: من غير واسطة- بل مع المشاهدة، وذلك لمحمّد صلى الله عليه وسلم خاصّة ليلة الإسراء. قالوا: بدليل قوله [تعالى] : أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ- أي: كمناجاته لموسى عليه السّلام- أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [سورة الشّورى 42/ 51]- وهو جبريل- فيوحي بإذنه إلى رسله ما يشاء- كأكثر أحوال محمّد وموسى عليهما السّلام- وكسائر أحوال غيرهما من النّبيّين عليهم السّلام أجمعين. وقال الإمام/ أبو الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعريّ- رحمه الله-: (كلّ آية أوتيها نبيّ فقد أوتي نبيّنا مثلها، وخصّه الله بالرّؤية، قال: فمحمّد رأى ربّه بعيني رأسه. قال ابن عطاء: أي شرح الله صدره للرّؤية، كما شرح صدر موسى للتّكليم) . قال العلماء: ولا يقدح في ذلك إنكار عائشة رضي الله عنها لذلك، لأنّها لم تقله إلّا عن رأيها، وأمّا احتجاجها بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [سورة الأنعام 6/ 103] ؛ فقال ابن عبّاس: (معناه: لا تحيط به) «1» .

_ (1) الشّفا، ج 1/ 383. قال العلماء: إنّ الإسراء وقع وعائشة كانت

ولو قيل بإطلاقها لزم منه امتناع رؤيته- سبحانه وتعالى- في الآخرة أيضا، للأبرار في دار القرار، وهو خلاف ما أجمع عليه أهل السّنّة. قال العلماء: والدّليل على جوازها في الدّنيا سؤال موسى عليه السّلام لها، إذ يستحيل أن يجهل نبيّ ما يجوز على الله عزّ وجلّ وما لا يجوز عليه، ومعنى: لَنْ تَرانِي: لن تطيق رؤيتي كما لا يطيقها الجبل. قلت: ومعلوم أنّ الجبل وجميع المخلوقات جزء من نور محمّد صلى الله عليه وسلم، فلا عجب أن يطيق من التّجلّي ما لا يطيقه الجبل. وإذا لم يستحل شيء من العقل، ولم يدلّ دليل قاطع من النّقل على امتناعه وجب قبوله على ظاهره، ومن أهّله الله لشيء تأهّل له، ومن لا، فلا. ألا تراه يقول في حقّه صلى الله عليه وسلم عند رؤيته آيات ربّه الكبرى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى، ويقول: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً [سورة الكهف 18/ 18] . هذا وهم بشر من أبناء جنسه، فسبحان من خصّ من شاء بما شاء وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [سورة البقرة 2/ 255] . ومن أحسن ما قيل في حديث الإسراء قول صاحب البردة، [من البسيط] «1» :

_ صغيرة. وكذلك فإنّ الإدراك أخص من الرّؤية والرّؤية أعم، وبهذا يتضح الأمر. (1) البردة، في إسرائه ومعراجه، ص 43.

يا خير من يمّم العافون ساحته ... سعيا وفوق متون الأينق الرّسم «1» ومن هو الآية الكبرى لمعتبر ... ومن هو النّعمة العظمى لمغتنم سريت من حرم ليلا إلى حرم ... كما سرى البدر في داج من الظّلم / وبتّ ترقى إلى أن نلت منزلة ... من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم «2» وقدّمتك جميع الأنبياء بها ... والرّسل تقديم مخدوم على خدم وأنت تخترق السّبع الطّباق بهم ... في موكب كنت فيه صاحب العلم «3» حتّى إذا لم تدع شأوا لمستبق ... من الدّنوّ ولا مرقى لمستنم «4» خفضت كلّ مقام بالإضافة إذ ... نوديت بالرّفع مثل المفرد العلم

_ (1) يمّم العافون: قصد طلّاب الرّزق والعطاء. الأينق: النّياق، جمع ناقة. الرّسم: المعلمة. (2) ترقى: ترتفع. قاب قوسين: القاب: المقدار. وقوله قاب قوسين: أي: مقدار قوسين من قسيّ العرب، أي: مقدارهما في القرب. وهو كناية عن شدّة القرب. تدرك: تنال. ترم: تطلب. (3) صاحب العلم: أمير الرّكب. (4) المستنم: المرتفع.

كيما تفوز بوصل أيّ مستتر ... عن العيون وسرّ أيّ مكتتم «1» فحزت كلّ فخار غير مشترك ... وجزت كلّ مقام غير مزدحم وجلّ مقدار ما ولّيت من رتب ... وعزّ إدراك ما أوليت من نعم «2» بشرى لنا معشر الإسلام إنّ لنا ... من العناية ركنا غير منهدم لمّا دعا الله داعينا لطاعته ... بأكرم الرّسل كنّا أكرم الأمم

_ (1) أيّ مستتر: مبالغة في الاستتار. أيّ مكتتم: مبالغة في الكتمان. (2) أوليت: أعطيت.

القسم الثّاني قسم المقاصد واللّواحق وفيه خطبة بليغة في الحثّ على الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال، وايراد آيات وأحاديث صحيحة في كونه أفضل الأعمال، ثمّ شرح أحوال المجاهدين في سبيل الله، وهي سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين، وفضل الصّحابة وترتيبهم في الفضل، والرّد على من قدح في أحد منهم بالقول الفصل.

القسم الثاني قسم المقاصد واللواحق

خطبة في الحثّ على الجهاد في سبيل الله الحمد لله الّذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الّذي له ملك السّماوات والأرض، ولم يتّخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا، تسبح له السّماوات السّبع والأرض، ومن فيهنّ، وإن من شيء إلّا يسبّح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، إنّه كان حليما غفورا. وأشهد أنّ محمّدا/ عبده ورسوله، الّذي أرسله شاهدا ومبشّرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. اللهمّ صلّ وسلّم على محمّد، وعلى آل محمّد، بأفضل الصّلوات كلّها، وسلّم تسليما كثيرا، وعلى آله الّذين أذهب الله عنهم الرّجس، وطهّرهم تطهيرا. وعلى أصحابه وأتباعه الّذين بشّرهم بأنّ لهم من الله فضلا كبيرا. أمّا بعد: فإنّ الجهاد في سبيل الله هو الكنز الّذي وفّر الله منه لمن أحبّه الأقسام، والعزّ الّذي أظهر الله به دين الإسلام. إخواني: فجاهدوا في سبيل الله فقد دلّكم الله به على المتجر الرّابح، فهل أنتم سامعون؟ وساومكم في شراء أنفسكم الّتي هي ملكه فهل أنتم لها بائعون؟

فقال سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة الصّفّ 61/ 10- 11] إلى آخر السّورة. وقال عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة التّوبة 9/ 111- 112] . إخواني: يا لها صفقة خطيرة في بيع هذه الأنفس الحقيرة، المشتري فيها ربّ العالمين، والواسطة فيها سيّد المرسلين، والثّمن: جنّة عرضها السّماوات والأرض أعدّت للمتّقين. فأوجبوا- رحمكم الله- صفقة هذا البيع الرّابح، بالثّمن الجزيل الرّاجح، فلمثل/ هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. فالجهاد الجهاد أيّها المؤمنون، والجنّة الجنّة أيّها الموقنون، وقاتلوا دون أنفسكم وأموالكم أعداء الله الفجّار، وادفعوا عن أنفسكم شؤم العار والنّار، فقد جاؤوكم يحادّون الله ورسوله بكفرهم، ويستأصلون شأفة «1» الإسلام والمسلمين بمكرهم،

_ (1) الشّأفة: قرحة تخرج بباطن القدم، فتقطع أو تكوى فتذهب، وفي الحديث: «استأصل الله شأفتهم» ، أي: استأصل أصلهم، واستأصل الله شأفته: أذهبه كما تذهب تلك القرحة.

وقَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [سورة آل عمران 3/ 118] ، وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة التّوبة 9/ 36] . واحذروا أن تكونوا ممّن: كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ [سورة التّوبة 9/ 46] ، وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [سورة العنكبوت 29/ 6] . ولقد ابتلاكم الله بالجهاد كما ابتلى به أفضل أهل السّماوات والأرض: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [سورة محمّد 47/ 4] ، أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة التّوبة 9/ 13] . إخواني: إذا كانت المنيّة محتومة، فالشهادة في سبيل الله هي الغنيمة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [سورة محمّد 47/ 7] . وإن أحجمتم فلن يدفع عنكم الأجل إحجامكم. إخواني: ما أقبح عبدا يبخل على سيّده ومولاه بنفس هي من مواهبه وعطاياه، هذا مع ما وعد- وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [سورة التّوبة 9/ 111] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [سورة النّساء 4/ 122]- على ذلك ثناء جميلا وثوابا جزيلا. إخواني: ما أقبح عبدا يقول بلسانه: قد رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيّا، ثمّ يجبن عن قتال كافر بالله وباليوم الآخر، ولا يرجو ما يرجوه المؤمن من الجنّة والثّواب الوافر. أو ما سمعتم مولاكم سبحانه يقول: فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ [سورة النّساء 4/ 104] .

إخواني: أيّ عذر لمن جبن عن قتال أعداء الله؟ وبأيّ وجه يوم القيامة يلقى الله؟ هذا: (ومن لم يمت بالسّيف/ مات بغيره) «1» . ولا جنّة من القدر شرّه وخيره: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب 33/ 16] ، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ [سورة آل عمران 3/ 154] ، أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [سورة النّساء 4/ 78] . إخواني: فجرّدوا عزائمكم في الجهاد، فقد وضح لكم السّبيل، وكونوا كالذين قال لهم النّاس: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران 3/ 173- 175] ، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [سورة النّساء 4/ 89] ، وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ

_ (1) صدر بيت لأبي نصر بن نباتة التميمي. ومن لم يمت بالسّيف مات بغيره ... تنوّعت الأسباب والموت واحد

الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [سورة آل عمران 3/ 169- 172] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بالآيات والذّكر الحكيم، ووفّقنا وإيّاكم لاتباع سيّدنا محمّد [صلى الله عليه وسلم] النّبيّ الكريم، آمين.

فصل في فضل الجهاد

فصل في فضل الجهاد اعلم أنّ الأحاديث الواردة في فضل الجهاد والمجاهدين في سبيل الله كثيرة مشهورة، ولكنّا نورد بعضا يشير إلى غيره. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول صلى الله عليه وسلم: أيّ العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» ، فقيل: ثمّ ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» ، قيل: ثمّ ماذا؟ قال: «حجّ مبرور» . متّفق عليه «1» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله: أيّ العمل أحبّ إلى الله تعالى؟ قال: «الجهاد/ في سبيل الله» . متّفق عليه «2» . قلت: وأجاب العلماء في الجمع بين الحديثين بأنّ اختلاف الجواب بحسب حال السّائل. وعن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدّنيا وما فيها» . متّفق عليه «3» . وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: أتى رجل

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (26) ، ومسلم برقم (83/ 135) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (504) . ومسلم برقم (85/ 139) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (2639) . ومسلم برقم (1880/ 112) . الغدوة: الخروج أوّل النّهار. الرّوحة: الخروج آخر النّهار.

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيّ النّاس أفضل؟ قال: «مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله» ، قال: ثمّ من؟ قال: «مؤمن في شعب من الشّعاب يعبد الله ربّه، ويدع النّاس من شرّه» . متّفق عليه «1» . وعن سهل بن سعد السّاعديّ رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدّنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم في الجنّة خير من الدّنيا وما عليها» . متّفق عليه «2» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفس محمّد بيده، ما من كلم- أي: جراحة- يكلم في سبيل الله إلّا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون دم، وريحه ريح مسك، والّذي نفس محمّد بيده، لولا أن أشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عنّي، والّذي نفس محمّد بيده، لوددت أنّي أغزو في سبيل الله فأقتل، ثمّ أغزو فأقتل، ثمّ أغزو فأقتل» . متّفق عليه «3» . وعن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه أنّ رجلا قال: يا رسول الله: دلّني على عمل يعدل الجهاد، قال: «لا أجده» ، ثمّ قال: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2634) . ومسلم برقم (1888/ 122) . واللّفظ لمسلم. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (2735) . ومسلم برقم (1881/ 131) . الرّباط: ملازمة الثّغور. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (5213) ، بنحوه. ومسلم برقم (1876/ 103) . خلاف سريّة: خلف وبعد. لا يجدون سعة: لا يجدون ما يحملون عليه من دواب.

ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟» ، قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال: «فذلك مثل المجاهد في سبيل الله» . متّفق عليه، وهذا لفظ البخاريّ «1» . وعن زيد/ بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جهّز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا» . متّفق عليه «2» . وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل مقنّع بالحديد- أي: مغطّي رأسه به- فقال: يا رسول الله أقاتل ثمّ أسلم؟ فقال: «أسلم ثمّ قاتل» ، فأسلم ثمّ قاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عمل قليلا وأجر كثيرا» . متّفق عليه، وهذا لفظ البخاريّ «3» . وعن أنس رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحد يدخل الجنّة يحبّ أن يرجع إلى الدّنيا، وله ما على الأرض من شيء، إلّا الشّهيد؛ فإنّه يتمنّى أن يرجع إلى الدّنيا، فيقتل عشر مرّات، لما يرى من الكرامة وفضل الشّهادة» . متّفق عليه «4» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ في الجنّة مئة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدّرجتين كما بين السّماء والأرض» . رواه البخاريّ «5» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2633) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (2688) . ومسلم برقم (1895/ 135) . خلف: ترك نائبا عنه في قضاء حوائج أهله. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (2653) . ومسلم برقم (1900/ 144) . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (2662) . ومسلم برقم (1877/ 109) . (5) أخرجه البخاريّ، برقم (2637) .

وعن أبي عبس عبد الرّحمن بن جبر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اغبرّت قدما عبد في سبيل الله فتمسّه النّار» . رواه البخاريّ «1» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسا في سبيل الله، إيمانا بالله، وتصديقا بوعده، فإنّ شبعه وريّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» . رواه البخاريّ «2» . وعن أنس رضي الله عنه أنّ أمّ الرّبيّع بنت البراء- وهي: أمّ حارثة- وكان قتل يوم (أحد) «3» ، قالت يا رسول الله: ألا تحدّثني عن حارثة؟ فقال: «يا أمّ حارثة: إنّها جنان في الجنّة، وإنّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى» . رواه البخاريّ «4» . وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت اللّيلة رجلين أتياني.. فصعدا بي الشّجرة/.. فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل.. لم أر قطّ أحسن منها.. قالا لي: أمّا هذه الدّار فدار الشّهداء» . رواه البخاريّ في حديث طويل «5» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرواح الشّهداء في جوف طير خضر، لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح من الجنّة حيث شاءت، ثمّ تأوي إلى تلك القناديل، فاطّلع

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2656) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (2698) . (3) قلت: المعروف أنّ حارثه بن سراقة قتل يوم بدر وهذا ما صرّح به البخاريّ. والله أعلم. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (2654) . (5) أخرجه البخاريّ، برقم (1320) .

إليهم ربّهم اطّلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أيّ شيء نشتهي؟ ونحن نسرح من الجنّة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرّات، يقول: هل تشتهون شيئا؟ فلمّا رأوا أنّهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا ربّ، نشتهي أن تردّ أرواحنا في أجسادنا، وتعيدنا إلى الدّنيا حتّى نقتل في سبيلك مرّة أخرى. قال: إنّه قد سبق أنّهم إليها لا يرجعون، قالوا: فأبلغ عنّا إخواننا، فأنزل الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ الآيات [سورة آل عمران 3/ 169] . رواه مسلم «1» . وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله الشّهادة بصدق بلّغه الله منازل الشّهداء، وإن مات على فراشه» . رواه مسلم «2» . وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رضي بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد رسولا؛ وجبت له الجنّة» ، ثمّ قال: «وأخرى يرفع الله العبد بها مئة درجة، بين كلّ درجتين كما بين السّماء والأرض» ، [قال: وما هي يا رسول الله؟ قال] : «الجهاد في سبيل الله» . رواه مسلم «3» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمع كافر وقاتله في النّار أبدا» . رواه مسلم «4» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (1887/ 121) . (2) أخرجه مسلم، برقم (1909/ 157) . (3) أخرجه مسلم، برقم (1884/ 116) . (4) أخرجه مسلم، برقم (1891/ 130) .

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم/ (بدر) : «قوموا إلى جنّة عرضها السّماوات والأرض» . رواه مسلم «1» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته ستّين عاما، ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنّة؟ اغزوا في سبيل الله، فمن قاتل في سبيل الله فواق ناقة- أي: قدر ما بين حلبتيها- وجبت له الجنّة» . رواه الإمام أحمد والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن. والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم «2» . وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مقام الرّجل في الصّفّ في سبيل الله أفضل عند الله من عبادة الرّجل ستّين سنة» . رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاريّ «3» . وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقف العباد للحساب جاء قوم واضعو سيوفهم على رقابهم تقطر دما، فازدحموا على باب الجنّة، والنّاس في الموقف، فيقال: من هؤلاء؟ قيل: الشّهداء، كانوا أحياء مرزوقين» . رواه الطّبرانيّ بإسناد حسن «4» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (1901/ 145) . (2) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (10407) . والتّرمذيّ برقم (1650) . (3) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 2/ 68. (4) أخرجه الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 10/ 411.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يجد الشّهيد من مسّ القتل إلّا كما يجد أحدكم من قرصة النّملة» . رواه النّسائيّ، وابن ماجه، والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح، وابن حبّان في «صحيحه» «1» . وعن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يشفّع الشّهيد في سبعين من أهل بيته» . رواه أبو داود، وابن حبّان في «صحيحه» «2» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعجب ربّنا جلّ وعلا من رجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه فعلم ما عليه، فرجع/ حتّى أريق دمه، فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي هذا رجع رغبة فيما عندي، وشفقة ممّا عندي» رواه الإمام أحمد، وابن حبّان في «صحيحه» «3» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجلّ ليدعو الجنة يوم القيامة، فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول سبحانه: أين عبادي الّذين قاتلوا في سبيلي وجاهدوا؟ ادخلوا الجنّة، فيدخلونها بغير حساب، فتأتي الملائكة فيقولون: ربّنا، نحن نسبّح بحمدك اللّيل والنّهار، ونقدّس لك، من هؤلاء الّذين آثرتهم علينا؟ فيقول الرّبّ جلّ وعلا: هؤلاء عبادي الّذين قاتلوا في سبيلي، وقتلوا وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا،

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (1668) . وابن ماجه برقم (2802) . (2) أخرجه أبو داود، برقم (2522) . (3) أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» ، برقم (3939) . وأبو داود برقم (2536) .

فتدخل عليهم الملائكة من كلّ باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار» . رواه الأصبهانيّ بإسناد حسن «1» . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: المجاهد في سبيلي هو ضامن عليّ، إن قبضته أورثته الجنّة، وإن رجعته رجعته بأجر أو غنيمة» . رواه التّرمذيّ، وقال: حديث صحيح «2» . وعن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا في سبيل الله، فإنّ الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنّة، وينجّي الله به من الهمّ والغمّ» . رواه الإمام أحمد برواة ثقات، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد «3» . وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جرح جرحا في سبيل الله، أو نكب نكبة- أي: طعن- فإنّها تأتي يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزّعفران، وريحها ريح المسك» . رواه أصحاب السّنن الأربعة: أبو داود، والنّسائيّ، وابن ماجه، والتّرمذيّ، وقال: حديث/ حسن صحيح «4» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غزوة في البحر خير من عشر غزوات في البرّ، ومن أجاز البحر فكأنّما أجاز الأودية كلّها، والمائد في البحر- وهو

_ (1) ذكره السّيوطيّ في «الدّر المنثور» ، ج 2/ 112. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (1620) . (3) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (22172) . (4) أخرجه التّرمذيّ، برقم (1657) . والنّسائيّ برقم (3141) . وأبو داود برقم (2541) .

فائدة: في فضل من وقف في سبيل الله ساعة

الّذي يدور رأسه- كالمتشحّط في دمه» . رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاريّ «1» . وعن أمّ حرام رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المائد في البحر- الّذي يصيبه القيء- له أجر شهيد، والغريق له أجر شهيدين» . رواه أبو داود بإسناد حسن «2» . وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رمى بسهم في سبيل الله أخطأ أو أصاب، كان له كعتق رقبة من ولد إسماعيل» . رواه الطّبرانيّ برواة ثقات «3» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر ب (مكّة) عند (الحجر الأسود) » . رواه البيهقيّ، وابن حبّان في «صحيحه» «4» . فائدة [: في فضل من وقف في سبيل الله ساعة] قال العلماء: فيكون موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام مئة ألف ألف شهر، لأنّ قيام ليلة القدر ب (مكّة) بمئة ألف ألف شهر في غيرها.

_ (1) أخرجه البيهقيّ في «الشّعب» ، برقم (4221) . المتشحّط في دمه: المضرّج بالدّم، المضطرب فيه. (2) أخرجه أبو داود، برقم (2493) . المائد: الّذي يصيبه دوار البحر. (3) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 5/ 270. عن أبي أمامة رضي الله عنه. (4) أخرجه البيهقيّ في «الشّعب» ، برقم (4286) . وابن حبّان برقم (4603) .

فائدة: في جزاء المرابطين في سبيل الله

وعن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رباط شهر خير من صيام دهر، ومن مات مرابطا في سبيل الله أمن من الفزع الأكبر، وغدي عليه برزقه، وريح من الجنّة، وأجري عليه أجر المرابط، حتّى يبعثه الله عزّ وجلّ» . رواه الطّبرانيّ برواة ثقات «1» . وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رابط ليلة حارسا من وراء المسلمين، كان له أجر من كان خلفه ممّن صام وصلّى» . رواه الطّبرانيّ بإسناد جيّد «2» . فائدة [: في جزاء المرابطين في سبيل الله] قال العلماء: وهذا الحديث دليل على أنّ الله يكتب للوالي مثل أعمال من عبد الله آمنا في محلّ ولايته بحمايته له، وما أجزل هذا الفضل/ العظيم. وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عينان لا تمسّهما النّار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» . رواه التّرمذيّ، وقال: حديث حسن «3» . وعن أبي بكر الصّديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترك قوم الجهاد إلّا عمّهم الله بالعذاب» . رواه الطّبرانيّ بإسناد حسن «4» .

_ (1) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 5/ 290. (2) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 5/ 289. (3) أخرجه التّرمذيّ، برقم (1639) . (4) أورده الهيثميّ، ج 5/ 284.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يغز في سبيل الله، أو يجهّز غازيا في سبيل الله، أو يخلف غازيا في سبيل الله في أهله بخير، أصابه الله تعالى بقارعة، قبل يوم القيامة» . رواه أبو داود بإسناد حسن «1» . وعن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» . رواه أبو داود بإسناد صحيح «2» . وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيّامه الّتي لقي العدوّ فيها، انتظر حتّى مالت الشّمس، ثمّ قام في النّاس خطيبا، فقال: «أيّها النّاس: لا تتمنّوا لقاء العدوّ، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السّيوف» ، ثمّ قال: «اللهمّ منزل الكتاب، ومجري السّحاب، وهازم الأحزاب؛ اهزمهم، وانصرنا عليهم» . متّفق عليه «3» . فهذه أربعون حديثا، عشرون منها في «الصّحيحين» . عشرة من المتّفق عليه، وخمسة من أفراد البخاريّ، وخمسة من أفراد مسلم. وعشرون حديثا من غيرهما من كتب الحديث المعتمدة، صحيحا وحسنا.

_ (1) أخرجه أبو داود،. برقم (2503) . القارعة: المصيبة المهلكة. (2) أخرجه أبو داود، برقم (2504) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (2804) . ومسلم برقم (1742/ 20) .

باب في ما اشتهر من سيرته صلى الله عليه وسلم إلى وفاته

باب في ما اشتهر من سيرته صلى الله عليه وسلّم إلى وفاته ولنشرع الآن في سيرته صلى الله عليه وسلم، وأصحابه المجاهدين في سبيل الله حقّ جهاده، على ترتيب سنيّ الهجرة. [زمن وصول النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة] قال علماء السّير: دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم (المدينة) الشّريفة ضحى يوم الاثنين، ثاني عشر ربيع الأوّل، وهو أوّل/ يوم من الهجرة النّبويّة «1» . [اعتماد الهجرة بداية التّاريخ] وفي «صحيح البخاريّ» ، عن سهل بن سعد السّاعديّ رضي الله عنه قال: ما عدّوا من مبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدّوا إلّا من مقدمه (المدينة) «2» . [عمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، ومدّة إقامته بمكّة والمدينة] وفيه أيضا-[أي: صحيح البخاريّ]- عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة، فمكث ب (مكّة) ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثمّ أمر بالهجرة، فهاجر إلى (المدينة) ، فمكث بها عشر سنين، ثمّ توفّي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة «3» .

_ (1) ذكر هنا عن ابن هشام: (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قدم (المدينة) يوم الاثنين، فلعلّه يقصد بها مشارف (المدينة) . قلت: والّذي ترجّح أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل إلى (قباء) يوم الاثنين، ووصل إلى (المدينة) يوم الجمعة، وقد ذكر ابن هشام في موضع آخر من «سيرته» ، ج 1/ 493: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصل إلى (قباء) يوم الاثنين، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3719) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3638) .

سكنى النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه

[سكنى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه] وفي «الصّحيحين» ، عن عائشة رضي الله عنها أنّه لمّا قدم (المدينة) صلى الله عليه وسلم أقام ب (قباء) عند بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة، وبنى بها مسجد (قباء) ، وهو المسجد الّذي أسّس على التّقوى من أوّل يوم، وأوّل مسجد بني في الإسلام، ثمّ ارتحل من (قباء) يوم الاثنين أيضا، راكبا راحلته، وقد أرخى لها الزّمام، وكان كلّما حاذى دارا من دور الأنصار اعترضوه، وقالوا: هلمّ يا رسول الله إلى القوّة والمنعة، ولزموا بزمام ناقته، فيقول لهم: «خلّوا سبيلها، فإنّها مأمورة» ، وقد أرخى لها زمامها، وما يحرّكها، وهي تنظر يمينا وشمالا، والناس كنفيها- يعني: جانبيها- حتّى بركت حيث بركت، على موضع باب مسجده صلى الله عليه وسلم، ثمّ ثارت وهو عليها «1» ، فسارت حتّى بركت على باب أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه، وهو أحد بني النّجّار، ثمّ ثارت وبركت في مبركها الأوّل، وألقت جرانها «2» بالأرض، وأرزمت «3» ، فنزل صلى الله عليه وسلم عنها، وقال: «هذا هو المنزل إن شاء الله تعالى» «4» . فاحتمل أبو أيّوب الأنصاريّ رحله، وأدخله بيته، فنزل في أخوال جدّه عبد المطّلب بني النّجّار، وكان يحبّ ذلك، فاختار الله له ما كان يختاره، ولم يزل صلى الله عليه وسلم في منزل أبي أيّوب حتّى بنى مسجده ومساكنه، وكانت إقامته عنده شهرا. قلت: كذا/ في «الصّحيحين» .

_ (1) ثارت: وثبت من مبركها وتحوّلت عنه. (أنصاريّ) . (2) الجران: باطن العنق. (3) أرزمت: صوّتت. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3694) .

تأسيس مسجد قباء

[تأسيس مسجد قباء] وبنى بها مسجد (قباء) ، وهو المسجد الّذي أسّس على التّقوى، ولا يخفى أنّه من تفسير عائشة رضي الله عنها لقوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى [سورة التّوبة 9: 108] وهو نكرة، صادق على كلّ مسجد بني في ابتداء الهجرة، لكن يعارض تفسير عائشة تفسيره صلى الله عليه وسلم كما في «صحيح مسلم والتّرمذيّ» ، أنّ رجلين اختلفا في المسجد الّذي أسّس على التّقوى، فسألا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «هو مسجدي هذا» «1» . وهو الصّواب، والله أعلم. [أوّل مولود ولد بعد قدوم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة] وفي «صحيح البخاريّ» عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: ولدت عبد الله بن الزّبير ب (قباء) ، وكان أوّل مولود ولد في الإسلام بعد الهجرة «2» . [أوّل من مات بالمدينة] وفيه-[أي: صحيح البخاريّ]- عن أمّ العلاء: إنّ أوّل من مات ب (المدينة) : عثمان بن مظعون، وهو خال حفصة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما «3» . [بناء المسجد النّبويّ] ولمّا بنى مسجده صلى الله عليه وسلم كان ينقل اللّبن «4» مع أصحابه ويرتجز معهم.

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (1398/ 514) . والتّرمذيّ برقم (323) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3697) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3714) . قلت: مات عثمان بن مظعون- بعد أن شهد بدرا- في شعبان على رأس ثلاثين شهرا من الهجرة، أي: بعد سنتين من هجرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وبذلك لا يكون أوّل من مات بالمدينة. أمّا أوّل من مات بالمدينة: فكلثوم بن الهدم وأسعد بن زرارة رضي الله عنهما. (4) اللّبن: بكسر الباء وتسكينها، وكذلك اللّبن: بفتح اللام وكسر الباء: ما يضرب من الطّين مربّعا للبناء.

تجديد بناء المسجد

وفي «الصّحيحين» ، عن أنس رضي الله عنه قال: لمّا قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلّم (المدينة) ، نزل في أعلى (المدينة) ، في حيّ يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فيهم أربع عشرة ليلة، ثمّ أرسل إلى ملإ من بني النّجّار- لمّا أمر ببناء المسجد- فقال: «يا بني النّجّار، ثامنوني بحائطكم هذا» «1» ، فقالوا: لا، والله لا نطلب ثمنه إلّا إلى الله، فأبى أن يقبله منهما هبة حتّى ابتاعه منهما، ثمّ بناه مسجدا، وكان فيه قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل، فأمر النّبيّ بقبور المشركين فنبشت، ثمّ بالخرب فسوّيت، وبالنّخل فقطع، فصفّوا النّخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصّخروهم يرتجزون، والنّبيّ صلى الله عليه وسلّم معهم، وهو يقول: «اللهمّ لا خير إلّا خير الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره» «2» وفي رواية: «فانصر الأنصار والمهاجره» «3» . قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم/ تمثّل ببيت شعر تامّ غير هذه الأبيات «4» . [تجديد بناء المسجد] وفيهما-[أي: الصّحيحين]- عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنّ المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم مبنيّا باللّبن، وسقفه الجريد، وعمده الخشب، فلم يزد أبو بكر فيه شيئا،

_ (1) ثامنوني بحائطكم: قرّروا معي ثمنه وبيعونيه بالثّمن. والحائط: البستان. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (418) ، ومسلم برقم (524/ 9) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3717) . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3694) .

إخباره صلى الله عليه وسلم عمارا بقتله على يد الفئة الباغية

وزاد عمر وبناه على بنيانه في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلّم باللّبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثمّ غيّره عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصّة- أي: النّورة، وهي بقاف مفتوحة ومهملة- وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالسّاج «1» . وفي «صحيح البخاريّ» ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: لتزخرفنّها كما زخرفت اليهود والنّصارى «2» . [إخباره صلى الله عليه وسلم عمّارا بقتله على يد الفئة الباغية] وفيه عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: كنّا في بناء المسجد نحمل لبنة لبنة، وعمّار لبنتين لبنتين، فرآه النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فنفض التّراب عنه، وهو يقول: «ويح عمّار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النّار» «3» . [فضل المسجد النّبويّ] وفي «الصّحيحين» ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرّسول، والمسجد الأقصى» «4» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (435) . القصّة: هي ما يسمّيه أهل الشّام: كلسا، وأهل مصر: جيرا، وأهل الحجاز: جصّا. السّاج: خشب جيد ذو قيمة، يؤتى به من الهند. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (434) . قلت: وكان أوّل من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان، ومن يومها والنّاس شرعوا يغالون في بناء المساجد والمبالغة في زخرفتها، حتّى غدا بعضها كالمتاحف، يقصده النّاس للاستمتاع بزخرفته لا للصّلاة والعبادة، وكلّ هذا خارج عن سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلّم. ولو روعيت البساطة في بناء المساجد وعدم المغالاة في الزّخرفة لكان خيرا وأولى. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (436) . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (1132) ، ومسلم برقم (1397/ 511) .

مشروعية الأذان

وفيهما-[أي: الصّحيحين]- أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان يزور مسجد (قباء) راكبا وماشيا «1» . [مشروعيّة الأذان] وفي السّنة الأولى أيضا: شرع الأذان والإقامة للصّلوات الخمس، وذلك برؤيا مشهورة ارتضاها النّبيّ صلى الله عليه وسلّم. وفي «الصّحيحين» ، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان المسلمون حين قدموا (المدينة) يجتمعون فيتحيّنون الصّلاة «2» ، ليس ينادى لها، فتكلّموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتّخذوا ناقوسا مثل ناقوس النّصارى، وقال بعضهم: بل بوقا مثل بوق اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلا منكم ينادي بالصّلاة؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «يا بلال، قم/ فناد بالصّلاة» «3» . وأمره أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة «4» . وسبق في حديث الإسراء أنه صلى الله عليه وسلّم سمع الأذان، وأمر بالصّلوات الخمس، ولم يؤمر به. والحديث رواه البزّار بإسناد حسن، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: أنّه ركب البراق ليلة أسري به، حتّى

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1134) . ومسلم برقم (1399/ 515) . عن ابن عمر رضي الله عنهما. (2) يتحيّنون الصّلاة: يقدّرون حينها ووقتها ليأتوا إليها فيه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (579) ، ومسلم برقم (377/ 1) . قلت: والحكمة في تخصيص بلال بالأذان حسن صوته ونداوته وقوّته، وأيضا فقد كان ذلك مكافأة على ما لقي في الله، لقد كان إذا اشتدّ به التّعذيب لا يفتر عن قوله: (أحد أحد) ، فجوزي بالأذان الّذي أوّله تعظيم وتوحيد، وآخره تعظيم وتوحيد. (4) أخرجه البيهقيّ في «سننه» ، ج 1/ 390.

فائدة: في قول القرطبي والغزالي في الأذان

أتى بها الحجاب الّذي يلي عرش الرّحمن جلّ وعلا، فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «من هذا يا جبريل؟» ، قال: والّذي بعثك بالحقّ إنّي لأقرب الخلق مكانا، وإنّ هذا الملك ما رأيته قطّ منذ خلقت قبل ساعتي هذه، فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، قال: فقيل له من وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا أكبر، أنا أكبر، ثمّ قال الملك: أشهد أن لا إله إلّا الله، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا لا إله إلّا أنا، وذكر مثل هذا في بقيّة الأذان إلى آخر الحديث «1» . فائدة [: في قول القرطبيّ والغزاليّ في الأذان] قال القرطبيّ: الأذان على قلّة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة. وقال الغزاليّ: إذا سمعت النّداء فأحضر في قلبك النّداء يوم القيامة، واعلم أنّك إن وجدت قلبك عند هذا النّداء مملوآ بالفرح والاستبشار، مشحونا بالرّغبة إلى المسارعة والابتدار، فاعلم أنّه سيأتيك النّداء بالبشرى، والفوز يوم القضاء «2» .

_ (1) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 1/ 328. قلت: ذكر الحافظ ابن حجر في «الفتح» ، ج 2/ 78: إلى أنّه اختلف في السّنة الّتي فرض فيها الأذان، وأنّه وردت أحاديث تدلّ على أنّ الأذان شرع بمكّة قبل الهجرة، وبيّن أنّه لا يخلو طريق من طرق هذه الأحاديث من مجهول أو متروك، ثمّ رجح أنّ ذلك كان في السّنة الأولى من الهجرة. والحديث الّذي أورده المؤلّف هنا تفرّد به زياد بن المنذر أبو الجارود، وهو من المتهمين بالكذب. ثمّ لو كان قد سمعه النّبيّ صلى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء لأوشك أن يأمر به بعد الهجرة في الدّعوة إلى الصّلاة. (2) إحياء علوم الدّين، ج 1/ 152.

حمى المدينة

[حمّى المدينة] قال أهل السّير: وكانت (المدينة) كثيرة الوباء، فتضرّر بذلك أصحابه المهاجرون، وشقّ ذلك عليه صلى الله عليه وسلّم، وخاف أن يكرهوها، فدعا الله أن يرفع الوباء عنها، فرفعه. وفي «الصّحيحين» ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدمنا (المدينة) وهي أوبأ أرض الله، فوعك أبو بكر، ووعك بلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمّى يقول، [من الرّجز] : كلّ امرىء مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه الحمّى يرفع عقيرته- أي: صوته- يقول/، [من الطّويل] «1» : ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل «2» وهل أردن يوما مياه مجنّة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل «3» وهما جبلان ب (مكّة) -[أي: شامة وطفيل] . قالت: فأخبرت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: «اللهمّ حبّب إلينا (المدينة) ، كحبّنا (مكّة) ، أو أشدّ، وصحّحها لنا، وانقل حمّاها فاجعلها ب (الجحفة) ، وبارك لنا في صاعنا ومدّنا» «4» .

_ (1) ابن هشام، ج 2/ 589. (2) الإذخر والجليل: تسقّف بهما البيوت فوق الخشب. (3) مجنّة: اسم سوق للعرب كان في الجاهليّة. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (1790) . ومسلم برقم (1376/ 480) .

فبعد دعوته صلى الله عليه وسلّم طاب لهم المقام، وانصرفت عنهم الأسقام، عند قوم كرام. وفي ذلك يقول أبو قيس صرمة بن أبي أنس، أحد بني النّجّار رضي الله عنه، [من الطّويل] «1» : ثوى في قريش بضع عشرة حجّة ... يذكّر لو يلقى صديقا مواتيا «2» ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا فلمّا أتانا أظهر الله دينه ... فأصبح مسرورا بطيبة راضيا وألفى صديقا واطمأنّت به النّوى ... وكنّا له عونا من الله باديا يقصّ لنا ما قال نوح لقومه ... وما قال موسى إذ أجاب المناديا فأصبح لا يخشى من النّاس واحدا ... قريبا ولا يخشى من النّاس نائيا «3» بذلنا له الأموال من كلّ مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتّاسيا «4»

_ (1) ابن هشام، ج 2/ 512. (2) ثوى: أقام. مواتيا: موافقا. (3) نائيا: بعيدا. (4) الوغى: الحرب. التّاسي: التّعاون.

الإذن بالقتال وفرض الجهاد

نعادي الّذي عادى من النّاس كلّهم ... جميعا وإن كان الحبيب المصافيا [الإذن بالقتال وفرض الجهاد] وفي أوّل السّنة الثّانية من الهجرة: أذن الله في الجهاد، بقوله تعالى في حقّ المهاجرين: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة الحج 22/ 39- 40] . وبقوله تعالى في حقّ الأنصار: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، إلى آخر السّورة. [سورة الصّف 61/ 10- 11] . ثمّ أوجب الله/ ذلك على نبيّه صلى الله عليه وسلّم بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ الآية «1» [سورة التّوبة 9/ 73] .

_ (1) قلت: قال أبو شهبة- رحمه الله- ومن الأكاذيب الّتي يردّدها أعداء الإسلام والمسلمين أنّ الإسلام قام على السّيف، وأنّه لم يدخل فيه معتنقوه بطريقة الطّواعية والاختيار، وإنّما دخلوا فيه بالقهر والإكراه، وقد اتّخذوا من تشريع الجهاد وسيلة لهذا التّجنّي الكاذب الآثم، وشتّان ما بين تشريع الجهاد وإكراه النّاس على الإسلام. وهذه الدّعوى الباطلة الظّالمة كثيرا ما يردّدها المبشّرون والمستشرقون، وإنّما الجهاد كان لحكم سامية وأغراض شريفة. (السّيرة النّبويّة، ج 2/ 90- 102) . وإني أنصح القارىء بالعودة إلى كتاب أبي شهبة حيث أفاض في الرّدّ على هذه الفرية الكبرى.

فائدة: في أي وقت يكون الجهاد فرض عين أو فرض كفاية

فائدة [: في أي وقت يكون الجهاد فرض عين أو فرض كفاية] قال العلماء: كان الجهاد في زمنه صلى الله عليه وسلّم فرضا على الكفاية، إلّا أنّ التّخلّف عنه مشروط بإذنه صلى الله عليه وسلّم، وقيل: فرض عين. وأمّا بعده فغزونا الكفّار إلى بلادهم فرض كفاية، ودفعنا لمن دخل بلادنا منهم فرض عين، وقد أمر الله به وأوعد على تركه بقوله: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا الآية [سورة التّوبة 9/ 41] ، وبقوله: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً الآية [سورة التّوبة 9/ 39] . وعذر أولي الضّرر بقوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ الآية [سورة النّور 24/ 61] ، وبقوله: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ الآية [سورة النّساء 4/ 95] . فائدة اخرى [: في المكّيّ والمدنيّ من سور القرآن العظيم] قال العلماء: سورة الحج وسورة الصّف من أوائل السّور المدنيّات، ومعظم القرآن مكيّ، نزل قبل الهجرة، والمدنيّ الّذي نزل بعدها، وهو نحو ثلاثين سورة؛ وهي: البقرة، وآل عمران، والنّساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والحجّ، والنّور، والأحزاب، وسورة محمّد، والفتح، والحجرات، والحديد إلى الملك، وهي عشر متواليات، والمطفّفين- قيل: وهي أوّل سورة مدنيّة- ولم يكن، والنّصر، والمعوذتان. فهذه سبع وعشرون. واختلف العلماء في الرّعد، وهل أتى على الإنسان، والكوثر. والرّاجح أنّها مكيّة. والله أعلم. [الإخاء بين المهاجرين والأنصار] قال علماء السّير: فعند ذلك جمع النّبيّ صلى الله عليه وسلّم الأنصار وأسقط

تجهيزه صلى الله عليه وسلم السرايا والبعوث

الإحن «1» الّتي كانت بينهم، ثمّ آخى بين المهاجرين والأنصار «2» ، ثمّ وادع اليهود «3» . [تجهيزه صلى الله عليه وسلم السّرايا والبعوث] ثمّ شمّر عن ساق الجدّ والاجتهاد، وجاهد في الله حقّ الجهاد، فعقد الألوية، وأمّر الأمراء، وجهّز السّرايا والبعوث والجيوش، وشنّ الغارات على أعداء الدّين، بما سيأتي ذكر بعضه والإشارة إلى غيره مع التّرغيب في الجهاد والحثّ عليه بقوله وفعله، وقد سبق في صدر هذا القسم ما فيه كفاية من الآيات والأحاديث المرغّبة فيه «4» . [عدد غزواته صلى الله عليه وسلم] وفي/ «صحيح البخاريّ» ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلّم تسع عشرة غزوة، غزوت معه سبع عشرة غزوة «5» . [صرف القبلة] وفي رجب من السّنة الثانية: حوّلت القبلة على رأس ستّة عشر شهرا من الهجرة.

_ (1) الإحن: الأحقاد والبغضاء. (2) قلت: كانت المؤاخاة بعد قدوم النّبيّ صلى الله عليه وسلّم المدينة بخمسة أشهر من السّنة الأولى للهجرة. (3) قلت: أيضا كانت الموادعة في السّنة الأولى من الهجرة. (4) قال ابن هشام: ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم تهيّأ لحربه وقام فيما أمره الله به من جهاد عدوّه، وقتال من أمره الله به، ممّن يليه من المشركين؛ مشركي العرب. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (4201) . قلت: إنّما أخرجه البخاريّ عن زيد بن أرقم وليس عن البراء بن عازب رضي الله عنهما. والثّابت: أنّ البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: غزوت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلّم خمس عشرة غزوة. أخرجه البخاريّ، برقم (4202) .

وكان صلى الله عليه وسلم من قبل يصلّي إلى (بيت المقدس) ، ويقول: «وددت لو حوّلني ربّي إلى (الكعبة) ، فإنّها قبلة أبي إبراهيم عليه السّلام» . وكان يتوقّع نزول الوحي عليه في ذلك، فيقلّب وجهه في السّماء، فاختار الله له ما يختاره، فنزل قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ- أي: جهته وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ الآيات [سورة البقرة 2/ 144] . وفي «الصّحيحين» عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى نحو (بيت المقدس) ستّة عشر شهرا، وكان يحبّ أن يوجّه إلى (الكعبة) ، فأنزل الله عزّ وجلّ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، فتوجّه نحو (الكعبة) ، فقال السّفهاء من النّاس- وهم اليهود-: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، فقال الله تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة 2/ 142] ، فصلّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل ثمّ خرج بعدما صلّى، فمرّ على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلّون نحو (بيت المقدس) ، فقال: هو يشهد أنّه صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّه توجّه نحو (الكعبة) ، فتوجّه القوم نحو (الكعبة) «1» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (390) . ومسلم برقم (525/ 11) . قلت: قال أبو شهبة- رحمه الله- (أمّا قبلته بمكّة، فقيل: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستقبل بيت المقدس، ولكنّه لا يستدبر الكعبة، بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس، وذلك بأن يقف بين الرّكنين الأسود واليماني، فلمّا هاجر صلى الله عليه وسلم استمرّ على استقبال بيت المقدس حتّى نسخ الله ذلك بالتّوجّه إلى الكعبة. وقيل: كانت قبلته الكعبة، فلمّا هاجر أمره الله باستقبال بيت

فائدة: في أن القبلة أول منسوخ في الإسلام

فائدة [: في أنّ القبلة أوّل منسوخ في الإسلام] قال العلماء: كانت القبلة أوّل منسوخ في شريعتنا «1» . [النّاسخ والمنسوخ] ومعنى النّسخ عند الأصوليين: رفع الحكم الشّرعي السّابق بخطاب لاحق. ويجوز النّسخ إلى بدل؛ كنسخ استقبال (بيت المقدس) إلى استقبال (الكعبة) . وإلى غير بدل؛ كنسخ وجوب تقديم صدقة بين يدي النّجوى في قوله تعالى: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً بقوله: أَأَشْفَقْتُمْ/ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية [سورة المجادلة 58/ 12- 13] . وإلى بدل أخفّ؛ كنسخ العدّة عاما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ بقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [سورة البقرة 2/ 240، 234] . وإلى أغلظ كنسخ التّخيير بين رمضان والفدية في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ بتعيّن الصّيام في قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [سورة البقرة 2/ 184- 185] .

_ المقدس حتّى نسخ ذلك) . قال ابن عبد البر- عالم المغرب-: (وهذا أصحّ القولين عندي) . ويؤيّده حديث إمامة جبريل للنّبيّ غداة ليلة الإسراء والمعراج، فقد كان وقوفهما عند باب الكعبة، وغير ممكن لمن كان عند بابها أن يستقبل الكعبة وبيت المقدس معا. (انظر السّيرة النبويّة، ج 2/ 103) . (1) أخرج ذلك البيهقيّ في «سننه» ، ج 2/ 12. عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

ما فعله اليهود عند صرف القبلة

وأنكرت اليهود جواز نسخ حكم الله السّابق بحكم لاحق، ليتوصّلوا بذلك إلى تأييد شرع موسى. واحتجّ عليهم بعض العلماء: بأنّ آدم عليه السّلام إن كان زوّج بنيه ببناته، فقد اعترفتم إمّا بالنّسخ وإمّا بجواز ذلك في شريعة موسى عليه السّلام، وإن كان زوّج بنيه ببنات إبليس وبناته بأبناء إبليس؛ فأنتم من ذرية إبليس. عليه وعليهم لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين. [ما فعله اليهود عند صرف القبلة] قال العلماء: ولمّا نسخ التّوجّه إلى (بيت المقدس) بالتّوجّه إلى (الكعبة) أكثر اليهود في ذلك: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ- أي: اليهود- ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً- أي: خيارا- لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ- أي: يوم القيامة بتبليغ الرّسل- وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً- أي: مزكّيا- وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ- أي: لننظر- مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ- أي: قصّة التّحويل- لَكَبِيرَةً- أي: ثقيلة- إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ- أي: صلاتكم إلى (بيت المقدس) - إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة 2/ 142- 143] . [فرض الصّيام] وفي شعبان من هذه السّنة-[أي: السّنة الثّانية]-: فرض صوم رمضان، ونسخ صوم عاشوراء/، فنزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ الآيات [سورة البقرة 2/ 183] . وفي «الصّحيحين» عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صام النّبيّ صلى الله عليه وسلم عاشوراء، وأمر بصيامه، فلمّا فرض رمضان ترك «1» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1793) .

فرض صدقة الفطر

[فرض صدقة الفطر] وفيها-[أي: السّنة الثانية]- في رمضان: فرضت صدقة الفطر. ففي «الصّحيحين» ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على كلّ حرّ أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين «1» . [غزوة بدر الكبرى] وفيها-[أي: السّنة الثانية]- في رمضان: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة (بدر) الكبرى، وكانت الوقعة يوم الجمعة، السّابع عشر من رمضان المعظّم، وهو يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، وأشار إليها في القرآن قبل وقوعها بقوله: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً [سورة الفرقان 25/ 77] ، وبقوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [سورة الدّخان 44/ 16] . وفضلها أشهر من أن يذكر. [عدّة من خرج من المسلمين إلى بدر] وفي «صحيح البخاريّ» ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما: إنّ عدّة أصحاب (بدر) على عدّة أصحاب طالوت الّذين جاوزوا معه النّهر، ولم يجاوز معه إلّا مؤمن. وهم ثلاث مئة وثلاثة عشر، معهم فارس واحد، وهو المقداد بن الأسود رضي الله عنهم أجمعين «2» . وعدّة المشركين نحو الألف، منهم ثمانون فارسا. واستشهد من المسلمين أربعة عشر، وقتل من المشركين سبعون، وأسر سبعون.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1433) . ومسلم برقم (984/ 12) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3741) .

إمداد الله المسلمين بالملائكة وفضلهم

[إمداد الله المسلمين بالملائكة وفضلهم] وشهدها جبريل الأمين في ألف من الملائكة مردفين، وصار لهم فضل عند أهل السّماء كفضل أهل (بدر) عند أهل الأرض. وفي «صحيح البخاريّ» ، أنّ جبريل عليه السلام قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: ما تعدّون أهل (بدر) فيكم؟ قال: «من أفضل المسلمين» ، قال: وكذلك من شهد (بدرا) من الملائكة «1» . والله أعلم. فائدة [: في المزايا الّتي منحها الله لأهل بدر] وفي «الصّحيحين» أيضا، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لعلّ الله اطّلع على أهل (بدر) فقال: / اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «2» . أي: علم الله أنّهم من أهل الجنّة، لما سبق أنّه لم يشهدها إلّا مؤمن، كما أنّه لم يجاوز النّهر مع طالوت إلّا مؤمن، ومن سبقت له العناية لم تضرّه الجناية، ولم يمت أحد منهم بحمد الله إلّا على أعمال أهل الجنّة، ولا ينافي ذلك معاقبتهم على هفواتهم بعد ذلك؛ كحاطب وسعد وأبي لبابة ومسطح ومرارة وهلال «3» . والمراد أنّ الله علم أنّ ذنوبهم مغفورة بما ينالهم من البلاء والأذى في الدّنيا، وإذا كان كذلك فلم يغفر حينئذ على القطع لأحد ما تأخّر من ذنبه، إلّا لمحمّد صلى الله عليه وسلم.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3771) . عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3762) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. (3) وهم: حاطب بن أبي بلتعة، وسعد بن خولة، وأبي لبابة بشير ابن عبد الله، ومسطح واسمه عوف بن أثاثة، ومرارة بن الرّبيع، وهلال بن أميّة.

سبب غزوة بدر

وما ورد في بعض الأخبار- كما ورد في حديث الشّفاعة- من قوله: «غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر» ، محمول على غفران أوّل ذنبه وآخره، لقوله: «ما قدّمت وما أخّرت، وأوّله وآخره» . والله أعلم. [سبب غزوة بدر] قال اهل السّير: وسببها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمع بأبي سفيان بن حرب في عير لقريش أقبلت من (الشّام) ، فجعل العيون عليها «1» ، فلمّا جاءه عينه خرج بمن خفّ معه من المسلمين، ولم يكن يظنّ أنّه يلقى عدوّا، وكان أبو سفيان يتحسّس الأخبار خوفا من النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاءه الخبر بمخرجه، فبعث إلى قريش يستنفرهم، فأوعبت «2» قريش في الخروج، وخرجت سائر بطونها. [استشارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد نجاة العير] فلمّا كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم ببعض الطّريق، بلغه نفر قريش، فاستشار أصحابه في طلب العير أو قتال النّفير، وقال: «إنّ الله وعدني إحدى الطّائفتين» «3» . وكانت العير أحبّ إليهم، كما قال الله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ- أي: السّلاح، وهي العير- تَكُونُ لَكُمْ [سورة الأنفال 8/ 7] . فتكلّم أبو بكر فأعرض عنه، فتكلّم عمر فأعرض عنه، وهو في كلّ ذلك يقول: «أشيروا عليّ» ، فعلموا أنّه إنّما يريد/ الأنصار لأنّه لم يكن بايعهم على القتال، إنّما بايعهم على أن يمنعوه ممّا

_ (1) قلت: بعث رسول الله بسبس بن الجهنيّ وعديّ بن أبي الزّغباء الجهنيّ يتحسّسان له الأخبار. (2) أوعبت: خرجت كلّها إلى الغزو. (3) أخرجه البيهقيّ في «الدّلائل» ، ج 3/ 33.

مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم قريشا إلى الماء وبناء العريش له

يمنعون منه أنفسهم، ممّن دهمه «1» إلى (المدينة) ، ولكن كان الإيمان قد تمكّن في قلوبهم، واعتقدوا وجوب طاعته ونصرته صلى الله عليه وسلم، حتّى لو أمرهم بقتل آبائهم وأبنائهم لا متثلوا أمره. فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال: إيّانا تريد يا رسول الله؟ قال: «نعم» ، قال: والّذي بعثك بالحقّ، لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى (برك الغماد) «2» - أي: بالمعجمة- لفعلنا، ولو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. فسرّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «سيروا على بركة الله، والله لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم» «3» . [مبادرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم قريشا إلى الماء وبناء العريش له] فساروا حتّى نزل النّبيّ صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من مياه (بدر) إلى عسكره، فأشير عليه أن ينزل على أدنى ماء إلى العدوّ، ويترك المياه كلّها خلفه، ففعل. وبني له عريش يستظلّ فيه. [دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قريش] ولمّا أقبلت قريش قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادّك وتكذّب رسولك، اللهمّ أحنهم- أي: أحضر حينهم وهو هلاكهم- الغداة، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة- يعني: المسلمين- لا تعبد في الأرض» «4» . وما زال يهتف بربّه- أي: يدعوه- حتّى سقط رداؤه، فأخذ

_ (1) دهمه: فجأه. (2) برك الغماد: تقع في جنوب القنفذة ب (111) كيلو مترا. والقنفذة: بلدة وميناء على ساحل البحر الأحمر جنوب جدّة. وبرك الغماد قرية من قرى القنفذة. (3) أخرجه البيهقيّ في «سننه» ، ج 3/ 106. (4) أخرجه البيهقيّ في «الدّلائل» ، ج 3/ 110.

تسوية النبي صلى الله عليه وسلم الصفوف

أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربّك- أي: بالغت في سؤاله- فخرج صلى الله عليه وسلم وعليه الدّرع وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [سورة القمر 54/ 45- 46] . قلت: ينبغي نصب السّاعة الأولى في الحديث على الظّرفيّة لكنّا رويناه بالرّفع كلفظ التّلاوة. [تسوية النّبيّ صلى الله عليه وسلم الصّفوف] ثمّ أخذ صلى الله عليه وسلم يعدّل صفوفهم، وأمرهم أن لا يحملوا حتّى يأمرهم. [مناشدة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ربّه النّصر] ثمّ رجع إلى العريش ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فخفق «1» / خفقة، ثمّ انتبه، فقال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه» . ثمّ خرج إلى صفّ أصحابه، فلمّا تزاحف النّاس أخذ حفنة من الحصباء ورمى بها في وجوه المشركين، وقال لأصحابه: «شدّوا باسم الله» ، فكانت الهزيمة فيهم بإذن الله تعالى، ونصر الله عبده، وأعزّ جنده، وأنزل الله تعالى في قسمة غنائم (بدر) سورة الأنفال، وفيها أيضا ليعلموا أنّه النّاصر لهم: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [سورة الأنفال 8/ 17] . [طرح بعض المشركين في القليب، ومخاطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهم] وفي «الصّحيحين» ، أنّه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى المشركين فألقوا في قليب، ثمّ قام على القليب، فجعل يناديهم بأسمائهم: «هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّا» ، ثمّ قال: «والّذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» «2» .

_ (1) خفق: نام نومة خفيفة. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3757) . ومسلم برقم (2873) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

عودة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتهنئته بالنصر

[عودة النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتهنئته بالنّصر] ثمّ قفل صلى الله عليه وسلم راجعا إلى (المدينة) ، ولقيه المسلمون إلى (الرّوحاء) «1» يهنّئونه بالنّصر والظّفر: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [سورة الأنعام 6/ 45] . فائدة [: في سبب إلحاح النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ربّه بالنّصر في بدر] قوله: فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربّك. قال العلماء: لا يجوز أن يتوهّم أحد أنّ أبا بكر رضي الله عنه كان أوثق بربّه من النّبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة وغيرها، بل الحامل له على ذلك تقوية قلوب أصحابه، لأنّهم كانوا يعلمون أنّه شفيع مشفّع، مستجاب الدّعوة، وكان ذلك اليوم أوّل مشهد شهدوه، فبالغ في الدّعاء لتسكن نفوسهم، فلمّا قال أبو بكر ما قال، علم أنّه قد اعتقد إجابة الدّعاء، ووقوع النّصر، فخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم. والله أعلم. [بناؤه صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها] وفيها-[أي: السّنة الثّانية]- في شوّال: بعد (بدر) دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وهي بنت تسع سنين «2»

_ (1) الرّوحاء: وهي من الفرع، على نحو أربعين ميلا من المدينة، وهو الموضع الّذي نزل به تبّع حين رجع من قتال أهل المدينة يريد مكّة، فأقام بها وأراح، فسمّاها (الرّوحاء) .. (2) قلت: الرّاجح أنّه صلى الله عليه وسلم دخل بعائشة رضي الله عنها في شوّال من السّنة الأولى للهجرة. وعليه أجمع المحدّثون وعلماء السّير. وما ذكره المؤلّف- رحمه الله- إنّما روي عن جابر بن عبد الله في «تاريخ دمشق» ، ق 1/ 164. وفيه ضعف. ولا يقال إنّها صغيرة لا تحتمل الزّفاف؛ بل إنّ كثيرا من بنات العرب تكون مؤهّلة لذلك وهي في هذا السّنّ، ثمّ إنّ زواجه صلى الله عليه وسلم منها ليس لمجرّد الرّغبة الجنسيّة وإنّما لتكون

قتل كعب بن الأشرف وأبي رافع

[قتل كعب بن الأشرف وأبي رافع] وفيها-[أي: السّنة الثّانية]- بعد (بدر) : كان قتل كعب بن الأشرف وأبي رافع. [سبب قتل كعب بن الأشرف] أمّا «1» كعب بن الأشرف فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا انتصر ب (بدر) اشتدّ حزن عدوّ الله/ كعب بن الأشرف الطّائيّ اليهوديّ، وأمّه من بني النّضير، فرثى قتلى المشركين بقصائد، وقدم (مكّة) وحرّض قريشا على الأخذ بالثّأر، ثمّ رجع إلى (يثرب) ، وكان له حصن منيع، فأظهر العداوة والبغضاء للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل يشبّب في شعره بنساء المسلمين ويؤذيهم «2» ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنّه قد آذى الله ورسوله» ، فانتدب له خمسة من الأنصار ثمّ من الأوس، فقتلوه. [سبب قتل سلّام بن أبي الحقيق] وانتدب «3» أيضا لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق تاجر أهل (الحجاز) - وكان له حصن ب (خيبر) ، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعين عليه- سبعة من الخزرج، فقتلوه.

_ - رضي الله عنها- مبلّغة عنه في كثير من الأحوال والأفعال والأقوال. وهذا ما حصل فعلا. (1) قلت: قال ابن سعد في «الطّبقات» ، ج 2/ 31: ثمّ سرية قتل كعب بن الأشرف اليهوديّ، وذلك لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل، على رأس خمسة وعشرين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم. (2) يشبّب: يتغزّل بهن ويذكر حسنهنّ. (3) قلت: أورد المؤلّف- رحمه الله- خبر قتل سلام في أحداث السّنة الثّانية. وقد اختلف المؤرخّون في تحديد سنة قتله، فمنهم من قال: في شهر رمضان سنة ستّ للهجرة، ومنهم من قال: في ذي الحجّة سنة أربع. قال الطّبريّ: إنّه قتل سنة ثلاث للهجرة في النّصف من جمادى الأولى منها. وهو المرجّح. والله أعلم.

تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قتل كعب بن الأشرف

[تحريض النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قتل كعب بن الأشرف] وفي «الصّحيحين» ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنّه قد آذى الله ورسوله» . فقال محمّد بن مسلمة: أتحبّ أن أقتله يا رسول الله؟ قال: «نعم» ، قال: ائذن لي فلأقل، قال: «قل» ، قال فأتاه فقال له: إنّ هذا الرّجل قد أراد الصّدقة منّا، وقد عنّانا- أي: أتعبنا- فقال كعب: وأيضا والله لتملّنّه، قال: إنّا قد اتّبعناه، ونكره أن ندعه حتّى ننظر إلى أيّ شيء يصير أمره، وقد أردت أن تسلفني سلفا، قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريد؟ قال: ترهنني نساءكم؟ قال: أنت أجمل العرب، أنرهنك نساءنا؟ قال له: ترهنوني أولادكم؟ قال: يسبّ ابن أحدنا فيقال: رهن في وسقين من تمر «1» ، ولكن نرهنك الّلأمة- يعني السّلاح- قال: فنعم. فواعده أن يأتيه بالحارث بن أوس، وأبي نائلة، وأبي عبس بن جبر، وعبّاد بن بشر، قال: فجاؤوا، فدعوه ليلا، فقالت له امرأته: والله إنّي لأسمع صوتا فيه الموت، قال: إنّما هذا محمّد بن مسلمة، ورضيعه أبو نائلة، إنّ الكريم لو دعي إلى طعنة لأجاب، فقال محمّد بن مسلمة لأصحابه: إنّي إذا جاء/ فسوف أمدّ يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم، فنزل وهو متوشّح بالسّيف، فقالوا له: إنّا نجد منك ريح الطّيب، قال: نعم، تحتي فلانة أعطر نساء العرب، قال محمّد بن مسلمة: أفتأذن لي أن أشمّ منه؟ قال: نعم، فشمّ، فتناول فشمّ، ثمّ قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: نعم، وتمكّن منه، ثمّ قال: دونكم، فقتلوه. ثمّ

_ (1) الوسق: حمل بعير، وهو ستّون صاعا بصاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق

أتوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبروه «1» . [بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك لقتل سلّام بن أبي الحقيق] وفي «صحيح البخاريّ» ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من الأنصار، وأمّر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض (الحجاز) ، فلمّا دنوا منه، وقد غربت الشّمس، وراح النّاس بسرحهم «2» ، قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم- أي: خارج السّور- فإنّي منطلق، ومتلطّف للبوّاب، لعلّي أن أدخل، ثمّ أقبل حتّى دنا من الباب، ثمّ تقنّع بثوبه- أي: غطّى به رأسه- كأنّه يقضي الحاجة، وقد دخل النّاس، فهتف به البوّاب: يا هذا، إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإنّي أريد أن أغلق الباب، قال: فدخلت فكمنت- أي: اختفيت- فلمّا دخل النّاس أغلق البوّاب الباب، ثمّ علّق المفاتيح على وتد، قال: فقمت إلى الأغاليق فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر مع أصحابه في علّيّة «3» له، فلمّا ذهب عنه أهل سمره، صعدت إليه، فجعلت كلّما فتحت بابا أغلقت عليّ من داخل، وقلت: إن يدر بي القوم لم يخلص إليّ أحد منهم حتّى أقتله- أي: وإن قتلوني بعده-، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو، فقلت: يا أبا رافع، فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصّوت، فضربته بالسّيف وأنا دهش، فما

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3811) . ومسلم برقم (1801/ 119) . واللّفظ لمسلم. (2) سرحهم: مواشيهم. (3) العليّة: الغرفة المرتفعة فوق الدار.

غزوة بني قينقاع

أغنيت شيئا «1» ، وصاح، فخرجت من البيت، فمكثت غير بعيد، ثمّ دخلت إليه، فقلت: ما هذا/ الصّوت يا أبا رافع؟ وغيّرت صوتي كأنّي أغيثه، فقال: إنّ رجلا في البيت ضربني بالسّيف، قال: فضربته ضربة فأثخنته، ثمّ وضعت ظبّة السّيف «2» في بطنه، واعتمدت عليه حتّى خرج من ظهره، فعرفت أنّي قد قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا، حتّى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي، وأنا أظنّ أنّي قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت، فانكسرت ساقي فعصبتها، ثمّ جلست على الباب، وقلت: والله لا أخرج اللّيلة حتّى أعلم أنّي قتلته، فمكثت إلى أن صاح الدّيك، فقام النّاعي على السّور، وقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل (الحجاز) ، فانطلقت إلى أصحابي، فقلت: النّجاء «3» ، فقد قتل الله أبا رافع، فانتهينا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحدّثته، فقال: «ابسط رجلك» ، فبسطتها فمسحها بيده، فكأنّي لم أشكها قطّ «4» . [غزوة بني قينقاع] وفي هذه السّنة أيضا-[أي: السّنة الثّانية]-: نقضت بنو قينقاع يهود (المدينة) العهد، فحاصرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى نزلوا على حكمه فيهم، فوهبهم لعبد الله بن أبيّ ابن سلول، وكانوا حلفاءه، وأخذ أموالهم. [غزوة أحد] وفي السّنة الثّالثة: كانت غزوة (أحد) ، وكانت وقعتها يوم السّبت للنّصف من شوّال.

_ (1) فما أغنيت شيئا: أي لم أقتله. (2) ظبّة السّيف: حرف حدّ السّيف. (3) النّجاء: أي أسرعوا وانجوا بأنفسكم. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3813) .

خروج قريش

[خروج قريش] وكان من حديث (أحد) أنّ قريشا تحاشدوا بعد (بدر) ، واجتهدوا في طلب الثّأر، وخرجوا بظعنهم ومن أطاعهم من الأحابيش- أي: جموع العرب- حتّى نزلوا ب (أحد) ، وكانوا ثلاثة آلاف، منهم مئتا فارس. [مشاورة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج] فلمّا علم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في الخروج إليهم أو الإقامة، وقال لهم: «إنّي رأيت في منامي كأنّ في سيفي ثلمة، وأنّ بقرا تذبح، وتأوّلتها أنّ نفرا من أصحابي يقتلون، وأنّ رجلا من أهل بيتي يصاب، فإن رأيتم أن تقيموا ب (المدينة) وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مقام، وإن دخلوها قاتلناهم فيها» «1» . فاختلفت آراؤهم في ذلك، حتّى غلب رأي من أحبّ الخروج. وكان من لم يشهد/ (بدرا) حصل معهم من الأسف على ما فاتهم من الفضيلة. [تهيّؤ النّبيّ صلى الله عليه وسلم للخروج] فدخل صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته «2» ، وخرج عليهم فوجدهم قد رجّحوا رأي القعود، فقال: «لا ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتّى يقاتل» «3» . فسار بهم، وكانوا نحو الألف، ليس فيهم فرس «4» . [انخذال عبد الله بن أبي بالمنافقين] فانخذل عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وكان مطاعا بثلث النّاس. [تعبئة النّبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين للقتال] فبقي نحو سبع مئة رجل، فنزل صلى الله عليه وسلم وجعل ظهره إلى (أحد) ، ورتّب أصحابه كما قال الله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ

_ (1) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 3/ 198 بنحوه. (2) لأمته: درعه. (3) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (14373) . (4) في المخطوط: فارس. والتصويب من «مسند أحمد»

انتصار المسلمين ودور الرماة فيه

- وكان غدا من منزل عائشة- تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ الآيات [سورة آل عمران 3/ 121] ، وأقعد الرّماة، وهم خمسون على جبل (عنين) - مصغّرا بمهملة ونون مكرّرة- وقال لهم: «لا تبرحوا مكانكم إن غلبنا أو غلبنا» . [انتصار المسلمين ودور الرّماة فيه] وظاهر صلى الله عليه وسلم يومئذ بين درعين «1» ، وحمل هو وأصحابه على المشركين فهزمهم الله تعالى، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [سورة آل عمران 3/ 152] . وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا. [الابتلاء بعد النّصر] فقالت الرّماة: الغنيمة يا قوم، فقد ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فأبى بعضهم فثبت مكانه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبرحوا مكانكم» ، وخالف الآخرون، فأقبلوا على الغنيمة، كما قال الله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا- أي: الغنيمة- وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، لكن عفا عنهم بقوله: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران 3/ 152] . فلمّا رأت خيل قريش ظهور المسلمين خالية عن الرّماة، حملوا عليهم، فقتلوا من بقي من الرّماة، وأتوا المسلمين من خلفهم. [إشاعة مقتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وما لقيه من الأذى] وصرخ إبليس- لعنه الله تعالى-: ألا إنّ محمّدا قد قتل، فانفضّت صفوف المسلمين، وتراجعت قريش بعد هزيمتها، وخلص العدوّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرموه بالحجارة، حتّى وقع لشقّه، وكسرت رباعيته اليمنى السّفلى، وجرحت شفته/ السّفلى،

_ (1) ظاهر بين درعين: لبس إحداهما فوق الآخرى.

أول من عرف النبي صلى الله عليه وسلم بعد إشاعة مقتله

وضربه ابن قمئة اللّيثي على وجهه، فدخلت حلقتان من حلق المغفر «1» في وجنته، وضربه آخر على رأسه حتّى هشم البيضة «2» ، وكانوا أحرص شيء على قتله، فعصمه الله عزّ وجلّ منهم، وهو صلى الله عليه وسلم ثابت ينادي أصحابه، فلم يلو عليه أحد، إذ لم يعرفوه، وظنّوا أنّه قد قتل، وهو في الحديد؛ الدّرع والمغفر، كما قال الله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ- أي: جزاكم- غَمًّا بِغَمٍّ- أي: بعد غمّ-[سورة آل عمران 3/ 153] . [أوّل من عرف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد إشاعة مقتله] ثمّ إنّ كعب بن مالك الأنصاريّ رضي الله عنه عرف النّبيّ صلى الله عليه وسلم فصاح: يا معشر المسلمين، أبشروا، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطف عليه نفر من المسلمين، ونهضوا إلى الشّعب. [أبيّ بن خلف يبحث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليقتله] فأدركهم أبيّ بن خلف فارسا، وهو يقول: أين محمّد؟ لا نجوت إن نجا، وشدّ عليه، فاعترضه رجال من المسلمين دون النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيده هكذا- أي: خلّوا طريقه- وتناول الحربة فهزّها حتّى تطايروا من حوله لشدّة بأسه، ثمّ استقبله فدقّه في عنقه بطعنة، تدأدأ «3» لها عن فرسه مرارا، ونفذت من الدّرع، فرجع إلى أصحابه فمات، فهمّ المشركون أن يكرّوا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشّعب، فحماهم الله منهم. [تغشية النّعاس المؤمنين] ثمّ إنّهم لمّا ترادفت عليهم الغموم ممّا أصابهم، ومن خوف كرّة العدوّ عليهم، ألقى الله عليهم النّعاس، أمنة منه لهم، إلّا المنافقين

_ (1) المغفر: زرد ينسج من الدّروع على قدر الرّأس، يلبس تحت القلنسوة. (2) البيضة: الخوذة الّتي توضع على الرّأس. (3) تدأدأ: تدحرج وسقط.

شماتة أبي سفيان بعد المعركة

فلم يغش النّعاس أحدا منهم لظنّهم السوء، كما قال الله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ الآيات [سورة آل عمران 3/ 154] . [شماتة أبي سفيان بعد المعركة] ثمّ إنّ أبا سفيان أشرف فقال: أفي القوم محمّد؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تجيبوه» ، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: «لا تجيبوه» ، قال: أفي القوم ابن الخطّاب؟ قال: / «لا تجيبوه» ، فقال: إنّ هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه، فقال: كذبت يا عدوّ الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك، فقال أبو سفيان: أعل هبل، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» ، قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجلّ» ، قال أبو سفيان: لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» ، قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» ، قال أبو سفيان: يوم بيوم (بدر) ، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. رواه البخاريّ عن البراء بن عازب «1» . فائدة [: فيمن أكرمه الله بالشّهادة يوم أحد] قال العلماء: وكان يوم (أحد) يوم بلاء وتمحيص «2» وإكرام، أكرم الله فيه من أكرم بالشّهادة، فقتل حمزة في سبعين شهيدا من المسلمين رضي الله عنهم، ومثّلث بهم نساء قريش، فبقروا بطن

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2874) . سجال: أي مرّة لنا ومرّة علينا. (2) يوم تمحيص: يوم تطهير وتخليص من الآثام والذّنوب. (أنصاريّ) .

دفن الشهداء

الحمزة، وقطعوا كبده، فلمّا نظر إليه صلى الله عليه وسلم كذلك ترحّم عليه وأثنى عليه، ثمّ قال: «والله، لئن أظفرني الله بهم لأمثّلنّ بسبعين منهم مكانك» «1» ، ثمّ ذكر قول الله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [سورة النّحل 16/ 126- 127] . فاختار الصّبر كما أمره الله تعالى، وكان ينهى عن المثلة. [دفن الشّهداء] ثمّ إنّه صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشّهداء بدمائهم، ولم يغسّلهم، ولم يصلّ عليهم، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» - أي: لهم- وكان يجمع بين الرّجلين في ثوب واحد، ثمّ يقول: «أيّهم أكثر أخذا للقرآن؟» ، فإذا أشير له إلى أحدهما قدّمه في اللّحد «2» . [ما نزل من القرآن في يوم أحد] وأنزل الله فيهم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الآيات [سورة آل عمران 3/ 169- 170] . وأنزل الله تسلية للمؤمنين وتقوية لعزائمهم: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ- أي: يوم (بدر) - وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [سورة آل عمران 3/ 139- 140] . ودلّهم على وجه الحكمة فيما قضاه وقدّره/ عليهم بقوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا- أي: يظهر إيمانهم ويميّزهم

_ (1) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 6/ 119. عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (1278) .

غزوة حمراء الأسد

عن المنافقين؛ كعبد الله بن أبيّ وذويه- وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ- كحمزة وأصحابه- وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا- أي: يخلّص إيمانهم- وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ [سورة آل عمران 3/ 140- 141] . [غزوة حمراء الأسد] [قال تعالى] : الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ [سورة آل عمران 3/ 172] . وذلك أنّ قريشا لمّا بلغت (الرّوحاء) همّوا أيضا بالرّجوع لاستئصال من بقي من المسلمين بزعمهم، فلمّا علم بهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ندب أصحابه للخروج للقائهم، وقال: «لا يخرج معنا إلّا من حضر يومنا بالأمس» «1» ، فسار بهم حتّى بلغ (حمراء الأسد) «2» ، فمرّ بهم معبد الخزاعيّ، وهم نزول، فأسرع إلى قريش فأخبرهم بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليهم، فثنى ذلك قريشا عن لقائهم، وألقى الله في قلوبهم الرّعب، فأدبروا إلى (مكّة) ، فمرّ عليهم ركب، فجعلوا لهم جعلا على أن يخبروا محمّدا وأصحابه أنّهم يريدون الكرّة عليهم، ولا يخبروهم بانصرافهم إلى (مكّة) ، فلمّا مرّ الرّكب على المسلمين وأخبروهم بذلك، قالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [سورة آل عمران 3/ 173] . وأقاموا ثلاثا ينتظرون لقاء العدوّ، فبلغهم مسيرهم فرجعوا، فأنزل الله سبحانه: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ

_ (1) أخرجه البيهقيّ في «الدّلائل» ، ج 3/ 314. (2) موضع على ثمانية أميال من المدينة، وإليه انتهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد في طلب المشركين.

موقف أنس بن النضر رضي الله عنه

- أي: الرّكب- إِنَّ النَّاسَ- أي: قريشا- قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [سورة آل عمران 3/ 172- 174] . [موقف أنس بن النّضر رضي الله عنه] وفي «الصّحيحين» ، عن أنس رضي الله عنه قال: إنّ عمّي أنس بن النّضر غاب عن (بدر) ، فقال: غبت عن أوّل قتال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله قتالا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليرينّ الله ما أصنع، فلمّا انهزم المسلمون يوم (أحد) /، قال: اللهمّ إنّي أعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء- يعني: المسلمين- وأبرأ إليك ممّا جاء به المشركون، فتقدّم بسيفه فلقيه سعد بن معاذ، قال: يا سعد إنّي أجد ريح الجنّة دون (أحد) ، فقتل، ووجد به بضع وثمانون، من طعنة وضربة «1» ورمية بسهم رضي الله عنه «2» . وفيهما-[أي: الصّحيحين]- عن أنس رضي الله عنه قال: كنّا نرى أنّ هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [سورة الأحزاب 33/ 23] ، نزلت في أنس بن النّضر وأشباهه من قتلى (أحد) «3» . [حضور الملائكة ودفاعها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم] وفيهما-[أي: الصّحيحين]- عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقاتل يوم (أحد) ومعه رجلان يقاتلان، عليهما ثياب بيض، ما رأيتهما قبل ولا بعد «4» .

_ (1) أي: طعنة رمح، وضربة سيف. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (2651) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4505) . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3828) . ومسلم برقم (2306/ 46) .

قتال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

[قتال سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه] وقال: نثل النّبيّ صلى الله عليه وسلم لي كنانته يوم (أحد) ، وقال: «ارم فداك أبي وأمّي» «1» . وفيهما-[أي: الصّحيحين]- عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلّا لسعد بن مالك «2» ، فإنّي سمعته يقول له يوم (أحد) : «ارم فداك أبي وأمّي» «3» . [تأثّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بما لقيه] وفي «صحيح البخاريّ» ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: اشتدّ غضب الله على من قتله نبيّ الله، واشتدّ غضب الله على من أدمى وجه نبيّ الله «4» . [بشارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم جابرا رضي الله عنه] وفي «الصّحيحين» ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لمّا قتل أبي يوم (أحد) ، جعلت أبكي، وأكشف الثّوب عن وجهه، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتّى رفع» «5» . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. [الرّجيع وبئر معونة] وفي هذه السّنة أيضا-[أي: السّنة الثّالثة]- بعد (أحد) : أصيب عاصم وأصحابه ب (الرّجيع) ، والقرّاء السّبعون أصحاب (بئر معونة) ، ليمتحن الله الأنصار بالصّبر، ويضاعف لهم عظيم الأجر، وقصّة الفريقين مشهورة في «الصّحيحين» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3829) . نثل كنانته: استخرج نبلها. (2) مالك: كنيته أبو وقّاص. وهو ابن أهيب، ابن عم آمنة بنت وهب. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3833) . ومسلم برقم (2411/ 41) . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3848) . (5) أخرجه البخاريّ، برقم (3852) . ومسلم برقم (2471/ 130) .

بعث الرجيع

[بعث الرّجيع] أمّا «1» أصحاب الرّجيع: فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عاصم بن ثابت الأنصاريّ في عشرة من أصحابه عينا، فلمّا/ كانوا ب (الرّجيع) - وهو: ماء لهذيل، بين (عسفان ومرّ الظّهران) ، وعسفان على مرحلتين من (مكّة) - ذكروا لبني لحيان- وهم بطن من هذيل- فتبعهم منهم نحو مئة رام، فالتجأ عاصم وأصحابه إلى أكمة، فأحاط بهم القوم، ولم يقدروا على الوصول إليهم، فأمّنوهم وأعطوهم العهد أنّهم إن استسلموا لا يقتلونهم، فقال عاصم: أمّا أنا فلا أنزل في ذمّة كافر بالله أبدا، اللهمّ أخبر عنّا رسولك، فقاتلوهم حتّى قتل عاصم في ثمانية من أصحابه. [أسر زيد وخبيب] ونزل إليهم خبيب بن عديّ، وزيد بن الدّثنّة بالأمان، فغدروا بهما، فانطلقوا بهما إلى (مكّة) ، فباعوهما. فأمّا زيد: فاشتراه صفوان بن أميّة بن خلف، فقتله بأبيه، وكان قتل أباه يوم (بدر) . وأمّا خبيب: فاشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل، فقتلوه بأبيهم، وكان قتل أباهم يوم (بدر) أيضا «2» . [مقتل زيد رضي الله عنه] فلمّا خرجوا بزيد من (الحرم) إلى أدنى (الحلّ) ، وقرّبوه

_ (1) ذكر هنا أنّ (بعث الرّجيع) كان من أحداث السّنة الثالثة للهجرة. قلت: كان بعث الرّجيع في صفر على رأس ستّة وثلاثين شهرا من الهجرة، وغزوة أحد وقعت في شوّال من السّنة الثالثة، فيكون بعث الرّجيع في السّنة الرابعة، وقد أجمع أهل السّير على ذلك، عدا ابن هشام. والله أعلم. (2) قلت: قال ابن سيّد النّاس في «عيون الأثر» ، ج 2/ 41: إنّ خبيب بن عدي الأوسيّ لم يشهد بدرا، ولا قتل الحارث بن عامر. إنّما الّذي شهدها وقتله هو خبيب بن إساف الخزرجي.

مقتل خبيب رضي الله عنه

للقتل، قال له أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد، أتحبّ أنّ محمّدا مكانك تضرب عنقه، وأنت في أهلك؟ قال: والله ما أحبّ أنّ محمّدا تصيبه الآن في مكانه شوكة تؤذيه، وأنا جالس في أهلي، فقتلوه، ثمّ أرادوا أخذ رأسه، فحمتهم عنه الدّبر- أي: الزّنابير- فتركوه إلى اللّيل ليأخذوه، فجاءه سيل فاحتمله، وكان قد أعطى الله عهدا أن لا يمسّ مشركا، ولا يمسّه مشرك، فأتمّ الله له ذلك بعد وفاته، كما وفّى به هو في حياته «1» . [مقتل خبيب رضي الله عنه] ولمّا خرجوا بخبيب ليقتلوه دعا بماء فتوضّأ، وصلّى ركعتين، وأوجز فيهما، وقال: لولا أن تظنّوا أنّ بي جزعا لزدت. فهو أوّل من سنّ هاتين الرّكعتين عند التّقديم للقتل، ثمّ أنشد رحمه الله تعالى، [من الطّويل] «2» : ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أيّ جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع «3» / فقتلوه، ثمّ صلبوه، فلمّا بلغ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه مصلوب، قال صلى الله عليه وسلم: «أيّكم يحمل خبيبا عن خشبته وله الجنّة؟» .

_ (1) قلت: والمعروف أنّ هذا الخبر جاء في حقّ عاصم بن ثابت وليس في حقّ زيد بن الدّثنّة، لأنّ عاصما لم يقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا، وقال: إنّي نذرت أن لا أقبل جوار مشرك أبدا. فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته. (انظر الطّبري، ج 2/ 539. ودلائل النّبوّة، ج 2/ 328) . (2) ذكره البخاريّ في «صحيحه» ، برقم (3767) . (3) شلو ممزّع: أعضاء الإنسان بعد البلى.

وقعة بئر معونة

فانتدب له الزّبير بن العوّام، والمقداد بن الأسود فارسين، فسارا إلى (مكّة) ، فحمله الزّبير على فرسه، فأغاز عليهما أهل (مكّة) ، فلمّا أرهقوهما ألقاه الزّبير، فابتلعته الأرض، فسمّي: بليع الأرض. [وقعة بئر معونة] وأمّا «1» أصحاب بئر معونة- بالنّون-: فإنّ أبا البراء عامر بن مالك العامريّ ملاعب الأسنّة قدم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فلم يسلم، ولم يبعد «2» ، وقال: يا محمّد، ابعث معي رجالا من أصحابك إلى أهل (نجد) يدعونهم إلى أمرك، وأنا لهم جار، فبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا من خيار المسلمين. قال أنس: كنّا نسمّيهم القرّاء، وأمّر عليهم المنذر بن عمرو الأنصاريّ الخزرجيّ السّاعديّ، أحد النّقباء الاثني عشر. [غدر عامر بن الطّفيل بالمسلمين] فلمّا نزلوا ب (بئر معونة) ، انطلق حرام بن ملحان إلى عامر بن الطّفيل رئيس المكان ليبلّغه رسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمّنه عامر ثمّ غدر به، فأومأ إلى رجل خلفه فطعنه بالرّمح حتّى أنفذ الطّعنة، فقال حرام: الله أكبر فزت وربّ الكعبة، فقتلوه، ثمّ استصرخوا على أصحابه بقبائل سليم: (رعل وذكوان وعصيّة) ، فقتلوهم عن آخرهم، ما خلا رجلين، وأخفروا «3» ذمّة أبي البراء عامر بن مالك.

_ (1) ذكر هنا أنّ وقعة بئر معونة كانت من أحداث السّنة الثّالثة للهجرة. قلت: كانت وقعة بئر معونة في صفر على رأس ستّة وثلاثين شهرا للهجرة، وبعد بعث الرّجيع. والله أعلم. (2) أي: من الإسلام. (3) أخفروا: نقضوا وغدروا.

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قتلة أصحاب بئر معونة وحزنه عليهم

والرّجلان هما: عمرو بن أميّة الضّمريّ وأنصاريّ «1» ، كانا في إبل أصحابهم، فلمّا راحا بهما وجدا أصحابهما صرعى، والخيل واقفة، فقتلوا الأنصاريّ أيضا، وتركوا عمرا حين أخبرهم أنّه من ضمرة. فرجع عمرو إلى (المدينة) فوجد رجلين من بني عامر فقتلهما، وكان معهما جوار من النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم به، فلمّا قدم (المدينة) / أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال: «لقد قتلت رجلين لأدينّهما» «2» . [دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قتلة أصحاب بئر معونة وحزنه عليهم] وحزن صلى الله عليه وسلم على أصحاب (بئر معونة) حزنا شديدا، وقنت في الصّلوات الخمس، على قبائل سليم: (رعل وذكوان وعصيّة) ، الّذين عصوا الله ورسوله وبني لحيان أيضا شهرا، إلى أن نزل عليه قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [سورة آل عمران 3/ 128] فترك القنوت «3» . [أمر عامر بن فهيرة رضي الله عنه] وممّن قتل ب (بئر معونة) عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنهما.

_ (1) وهو من بني عمرو بن عوف، واسمه: المنذر بن محمّد بن عقبة. (2) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 6/ 129. أدينّهما: أؤدي ديّتيهما. (3) قلت: قال ابن سيّد النّاس في «عيون الأثر» ج 2/ 47: وكذا وقع في هذه الرّواية، وهو يوهم أنّ بني لحيان ممّن أصاب القرّاء يوم بئر معونة وليس كذلك، وإنّما أصاب هؤلاء رعل وذكوان وعصيّة ومن صحبهم من سليم، وأمّا بنو لحيان فهم الّذين أصابوا بعث الرّجيع، وإنّما أتى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم كلّهم في وقت واحد، فدعا على الّذين أصابوا أصحابه في الموضعين دعاء واحدا.

غزوة بني النضير

وروى البخاريّ في «صحيحه» ، عن عمرو بن أميّة الضّمريّ أنّ عامر بن الطّفيل قال له: من هذا؟ - وأشار له إلى عامر بن فهيرة- فقال له عمرو: هذا عامر بن فهيرة، فقال: لقد رأيته رفع بعد ما قتل إلى السّماء، حتّى إنّي أنظر إلى السّماء بينه وبين الأرض «1» . [غزوة بني النّضير] وفي هذه السّنة أو في الرّابعة «2» : كانت غزوة بني النّضير. وسببها: ما رواه البخاريّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم يستعينهم في دية الرّجلين اللّذين قتلهما عمرو بن أميّة الضّمريّ خطأ «3» - فهي على الصّواب كما قال ابن إسحاق: بعد (أحد) وبعد (بئر معونة) - فاستند إلى جدار حصن لهم من حصونهم، فأمروا رجلا بطرح حجر على رأسه من الحصن، فأخبره جبريل عليه السّلام بذلك، فقام موهما لهم وترك أصحابه ورجع إلى (المدينة) . فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة المائدة 5/ 11] وقيل: إنّها نزلت في قصّة غورث بن الحارث الّذي همّ بقتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم «4» . [حصار بني النّضير] ثمّ أصبح غازيا عليهم، فحصرهم وقطع نخيلهم وحرّقها،

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3867) . (2) قلت: إنّما وقعت في السّنة الرّابعة في شهر ربيع الأوّل، على رأس سبعة وثلاثين للهجرة. والله أعلم. (انظر: ابن هشام، ج 3/ 192. والبخاريّ، ج 2/ 112. وابن سعد ج 2/ 57) . (3) قلت: حيث ذكر البخاريّ أنّها كانت على رأس ستّة أشهر من وقعة بدر قبل أحد، وهو من قول الزّهريّ. (4) أسباب النّزول، للواحدي، ص 162.

فدسّ إليهم المنافقون ما حكى الله عنهم من قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ/ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ الآيات [سورة الحشر 59/ 11] . فلمّا اشتدّ الحصار على أعداء الله، وأيسوا من نصرة المنافقين، قذف الله في قلوبهم الرّعب، فطلبوا الصّلح، فصالحهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الجلاء- أي: الإخراج من أرض إلى أرض- وأنّ لهم ما أقلّت الإبل إلّا السّلاح، فجلوا إلى (الشّام) إلّا آل حييّ بن أخطب وآل أبي الحقيق، فإنّهم جلوا إلى (خيبر) . وأنزل الله فيهم سورة الحشر، وكانت أموالهم ممّا أفاء الله على رسوله، خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها بين المهاجرين خاصّة لشدّة حاجتهم، ولم يعط الأنصار منها شيئا، إلّا لثلاثة نفر بهم حاجة «1» ، وطابت بذلك نفوس الأنصار، كما أثنى الله عليهم بقوله: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [سورة الحشر 59/ 9] . وفي «صحيح البخاريّ» ، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبّاس رضي الله عنهما: سورة الحشر، قال: قل سورة النّضير «2» . وفيه-[أي: صحيح البخاريّ]- عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حرّق نخل بني النّضير وقطّع، وهي البويرة،

_ (1) وهم: سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة، أعطاهم صلى الله عليه وسلم مالا، وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3805) .

مآل أموال بني النضير

فعاب ذلك المشركون عليه، فأنزل الله عزّ وجلّ: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ [سورة الحشر 59/ 5] «1» . قال ابن عمر: ولها يقول حسّان بن ثابت، [من الوافر] «2» : وهان على سراة بني لؤيّ ... حريق بالبويرة مستطير «3» فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، [من الوافر] : أدام الله ذلك من صنيع ... وحرّق في نواحيها السّعير ستعلم أيّنا منها بنزه ... وتعلم أيّ أرضينا تضير «4» [مآل أموال بني النّضير] وفي «الصّحيحين» ، عن عمر رضي الله عنه أنّه قال: كانت أموال بني النّضير ممّا أفاء الله على رسوله، ممّا لم يوجف المسلمون عليه خيلا ولا ركابا، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّة/ ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثمّ يجعل ما بقي في السّلاح والكراع عدّة في سبيل الله «5» . [غزوة ذات الرّقاع، أو غزوة نجد] وفي هذه السّنة أيضا- وهي: الرّابعة- غزا النّبيّ صلى الله عليه وسلم غزوة ذات

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4602) . البويرة: موضع منازل بني النّضير. (2) ذكره البخاريّ في «صحيحه» ، برقم (3808) . (3) سراة: أشراف القوم. المستطير: المنتشر. (4) النّزه: البعد. تضير: تضرّه. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (2748) . الإيجاف: سرعة السّير، وهو كناية عن الجهاد والقتال. الكراع: اسم يجمع الخيل والسّلاح، وهي الّتي تصلح للحرب.

الرّقاع إلى (نجد) يريد غطفان «1» - سمّيت بذلك لأنّ أقدامهم نقبت «2» من الحفاء، وكان يلفّون عليها الخرق- فانتهى صلى الله عليه وسلم إلى (نجد) ، فلقي جمعا من غطفان، فتقاربوا ولم يكن قتال، فلمّا صلّى الظّهر بأصحابه ندم المشركون أن لا يكونوا حملوا عليهم في الصّلاة، ثمّ قالوا: دعوهم فإنّ لهم بعدها صلاة هي أحبّ إليهم من آبائهم وأبنائهم- يعنون: صلاة العصر- فإذا قاموا إليها فشدّوا عليهم، فنزل جبريل عليه السّلام بصلاة الخوف، وهي قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ

_ (1) ذكر المؤلّف- رحمه الله- غزوة ذات الرّقاع ضمن أحداث السّنة الرّابعة. قلت: قال ابن القيّم في «زاد المعاد» ، ج 3/ 252: صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه صلّى صلاة الخوف بذات الرّقاع، فعلم أنّها بعد الخندق وبعد عسفان، ويؤيّد هذا أنّ أبا هريرة وأبا موسى الأشعريّ رضي الله عنهما شهدا ذات الرّقاع، كما في الصّحيحين وغيرهما؛ وأنّ مروان بن الحكم سأل أبا هريرة، هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟، قال: نعم، قال: متى؟، قال: عام غزوة نجد. وهذا يدلّ على أنّ غزوة ذات الرّقاع بعد خيبر، وأنّ من جعلها قبل الخندق فقد وهم وهما ظاهرا، ولمّا لم يفطن بعضهم لهذا ادّعى أنّ غزوة ذات الرّقاع كانت مرّتين، فمرّة قبل الخندق ومرّة بعدها، وهذا لا يصحّ. ثمّ قال: وممّا يدلّ على أنّ غزوة ذات الرّقاع بعد الخندق، ما أخرجه مسلم من حديث جابر: أنّهم صلّوا صلاة الخوف بذات الرّقاع، وصلاة الخوف إنّما شرعت بعد الخندق، بل بعد عسفان، لأنّه ورد في الحديث: أنّ أوّل صلاة صلّاها للخوف بعسفان، وعسفان كانت بعد الخندق بلا خلاف. لذلك يجب ذكر هذه الغزوة بعد خيبر، مرجّحا رواية البخاريّ في الصّحيح، ومخالفا بذلك ما ذكره ابن إسحاق، الّذي جعلها في السّنة الرّابعة، قبل غزوة الخندق. (انظر الجامع في السّيرة النّبويّة، ج 3/ 271) . (2) نقبت: رقّت جلودها وقرحت من المشي.

خبر غورث بن الحارث

وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ الآية [سورة النّساء 4/ 102] «1» . وفي «صحيح البخاريّ» ، خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذات الرّقاع من بطن (نخل) ، فلقي جمعا من غطفان، فصلّى بهم ركعتي الخوف «2» . وقول البخاريّ وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة: صوابه وثعلبة- بواو العطف «3» -. [خبر غورث بن الحارث] ولمّا قفل صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة نزلوا وقت القيلولة منزلا وتفرّقوا، ونزل صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلّق بها سيفه ونام، فجاء أعرابيّ يسمّى غورث بن الحارث، فأخذ السّيف فاخترطه «4» ، فاستيقظ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له الأعرابيّ: من يمنعك منّي؟ قال: «الله» ، فسقط السّيف من يده، فأخذه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: «من يمنعك منّي؟» ، فقال: كن خير آخذ، فتركه ولم يعاقبه، فذهب إلى قومه «5» . [غزوة بني المصطلق] وفي هذه السّنة- وهي الرّابعة-: غزا النّبيّ صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق/ من خزاعة ب (المريسيع) - مصغّرا بمهملات-. [سببها] وذلك أنّه بلغه أنّ بني المصطلق من خزاعة أجمعوا لحربه.

_ (1) أسباب النّزول، للواحديّ، ص 150. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3898) . (3) ذكره البخاريّ، باب غزوة ذات الرّقاع تعليقا. قلت: والصّواب الّذي أشار إليه المؤلّف معناه: أنّها غزوة محارب خصفة وثعلبة. ومحارب وخصفة من غطفان. (4) اخترطه: سلّه من غمده. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (3908) ، بنحوه. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

التقاء الفريقين وهزيمتهم

[التقاء الفريقين وهزيمتهم] فخرج إليهم فلقيهم ب (المريسيع) - وهو ماء لهم من ناحية (قديد) - مصغّرا- أيضا. وهو- أي: قديد- مكان بين (خليص ورابغ) ، بين (مكّة والمدينة) . وخليص على ثلاث مراحل من (مكّة) ، فهزمهم الله، وقتل من قتل منهم، وسبى أولادهم ونساءهم، وغنم أموالهم، واصطفى من سبيهم لنفسه جويرية بنت الحارث المصطلقيّة، أمّ المؤمنين رضي الله عنها. ولمّا قفل صلى الله عليه وسلم اتّفق في قفوله [حدثان] . أحدهما: نزول سورة المنافقين، وثانيهما: حديث الإفك. [سبب نزول سورة المنافقين] أمّا نزول سورة المنافقين: فذلك أنّه ازدحم مهاجريّ وأنصاريّ «1» على الماء، فتداعى الفريقان، فتكاثر المهاجرون على

_ (1) وهما: جهجاه بن مسعود، وسنان بن وبر الجهنيّ. وقد ذكر هنا أنّ غزوة بني المصطلق من أحداث السّنة الرابعة، وقد اختلف فيها اختلافا يسيرا؛ فذكر ابن إسحاق ج 3/ 333: أنّ- غزوة بني المصطلق- وقعت في شعبان سنة ستّ، وذكر البيهقيّ في «دلائل النّبوّة» ، ج 4/ 45: أنّها وقعت في شعبان سنة خمس؛ وقال: هذا أصحّ ممّا روي عن ابن إسحاق أنّ ذلك كان سنة ستّ. وروي أنّ الواقديّ قال: إنّها كانت سنة خمس. والخبر في «طبقات ابن سعد» ، ج 2/ 63- ج 8/ 217. و «تاريخ الطّبري» ، ج 2/ 594. و «عيون الأثر» ، ج 2/ 91. ورجّح الحافظ ابن حجر أنّها كانت سنة خمس في «الفتح» ، ج 7/ 430 قال: قال الحاكم في «الإكليل» : قول عروة وغيره أنّها كانت في سنة خمس أشبه من قول ابن إسحاق. قلت: ويؤيّده ما ثبت في حديث الإفك أنّ سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك، فلو كانت المريسيع في شعبان سنة ستّ مع كون الإفك كان فيها لكان ما وقع في الصّحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطا، لأنّ سعدا مات أيّام قريظة، وكانت سنة خمس على

مقالة عبد الله بن أبي بن سلول

الأنصار، فغلبوهم. [مقالة عبد الله بن أبيّ بن سلول] فجعل عبد الله بن أبيّ ابن سلول يؤنّب أصحابه- أي: يوبّخهم- ويقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا عنه- أي: لو تركتم الإنفاق على من عنده من المهاجرين لانفضّوا عنه، وتركوه وحيدا محتاجا إليكم- ولكن والله لئن رجعنا إلى (المدينة) ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، إمّا تركوها لنا وإمّا تركناها لهم، في كلام كثير. [زيد بن أرقم رضي الله عنه يخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بما سمع، وتصديق الوحي له] وكان زيد بن أرقم رضي الله عنه حاضرا عنده، فشقّ عليه ذلك، فحمل كلامه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فشكاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قومه، فعاتبوه على ذلك، فأنكره وكذّب زيد بن أرقم، وجاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحلف بالله إنّه ما قال شيئا من ذلك، وإنّه يشهد أنّك لرسول الله حقّا، فقبل منه علانيته ووكل سريرته إلى الله تعالى؛ فحزن لذلك زيد بن أرقم حزنا شديدا، وقال له قومه: ما أردت إلّا/ أن كذّبك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذّبك النّاس. فلمّا ارتحل صلى الله عليه وسلم من ذلك المنزل أردف زيد بن أرقم خلفه، وكان يومئذ فتى، فنزل جبريل الأمين بسورة (المنافقون) فقال

_ الصّحيح، وإن كانت كما قيل سنة أربع فهي أشدّ. فيظهر أنّ المريسيع كانت سنة خمس في شعبان، لتكون قد وقعت قبل الخندق، لأنّ الخندق كانت في شوّال من سنة خمس أيضا فتكون بعدها، فيكون سعد بن معاذ موجودا في المريسيع، ورمي بعد ذلك بسهم في الخندق ومات من جراحته في قريظة. ويؤيّده أيضا أنّ حديث الإفك كان سنة خمس إذ الحديث فيه التّصريح بأنّ القصّة وقعت بعد نزول الحجاب، والحجاب كان في ذي القعدة سنة أربع عند جماعة، فيكون المريسيع بعد ذلك، فيرجّح أنّها سنة خمس. والله أعلم. (انظر الجامع في السّيرة النّبويّة، ج 2/ 625) .

صور من مواقف عبد الله بن أبي بن سلول

النّبيّ صلى الله عليه وسلم لزيد بن أرقم: «أبشر، فقد صدّقك الله» «1» . وتلاها النّبيّ صلى الله عليه وسلم على النّاس: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً- أي: وقاية في الظّاهر بين كفرهم الباطن وبين النّاس- الآيات [سورة المنافقون 63/ 1- 2] . [صور من مواقف عبد الله بن أبيّ بن سلول] وكان عبد الله بن أبيّ يقوم في كلّ جمعة إذا قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: يا معشر المسلمين، هذا رسول الله بين أظهركم، فانصروه، فلمّا انصرف يوم (أحد) بثلث النّاس وخذل المؤمنين، فقتل منهم من قتل، أراد أن يقوم مقامه ذلك، فأقعده النّاس، وقالوا: أسكت يا عدوّ الله، فانصرف من المسجد في حال الخطبة مغاضبا، فقيل له: ارجع يستغفر لك رسول الله، فلوى رأسه وقال: لا حاجة بي إلى استغفاره، فعدّد الله في هذه السّورة قبائحه بقوله: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ. سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ. يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [سورة المنافقون 63/ 5- 8] . [موقف ابن عبد الله بن أبيّ بن سلول رضي الله عنه، من أبيه] وكان لعبد الله بن أبيّ ابن/ يسمّى عبد الله أيضا ابن عبد الله بن أبيّ، وكان مؤمنا صادقا، حسن الإيمان، فلمّا أراد أبوه أن يدخل (المدينة) ، وكان قد تخلّف قليلا عن النّاس، ردّه، وقال: والله

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4617) .

حديث الإفك

يا عدوّ الله، لا تدخلها إلّا بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتّى تعلم أنّه الأعزّ وأنت الأذلّ، ولئن أمرني رسول الله لأضربنّ عنقك. فأرسل إليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن خلّ عنه، فخلّى عنه، وأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن شئت أن آتيك برأسه فمرني بذلك؟ فقال: «بل نعاشره معاشرة حسنة حتى يموت أو نموت، لئلا يتحدّث النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه» «1» . فعامله صلى الله عليه وسلم بالإحسان مدّة حياته، وكفّنه في قميصه بعد وفاته، واستغفر له قبل أن ينهى عنه، وقام على قبره وأراد أن يصلّي عليه، فنهي بنزول قوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ [سورة التّوبة 9/ 84] . [حديث الإفك] وأمّا حديث الإفك فروى البخاريّ ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فأنا أحمل في هودجي، فلمّا دنونا من (المدينة) ، آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بالرّحيل، فقمت لأقضي حاجتي، فأبطأت، فأقبل الرّهط الّذين كانوا يرحلوني «2» ، فاحتملوا الهودج، فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أنّي فيه، فجئت المنزل فإذا ليس فيه أحد، فجلست مكاني، وكان صفوان بن المعطّل قد تخلّف عن الرّكب، فأصبح بالمنزل، فلمّا رآى سوادي عرفني، فاسترجع «3» ، فو الله ما كلّمني كلمة، ثمّ أناخ راحلته لي، فركبتها، وأخذ بزمامها يقود بي حتّى

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4624) ؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (2) رحل البعير: جعل عليه الرّحل. والرّحل: ما يوضع على ظهر البعير للرّكوب. (3) أي قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

مرض عائشة رضي الله عنها وإخبار أم مسطح لها بالأمر

أتى الجيش، فقال أهل الإفك ما قالوا، وكان الّذي تولّى كبر «1» ذلك عبد الله بن أبيّ. [مرض عائشة رضي الله عنها وإخبار أمّ مسطح لها بالأمر] / فقدمنا (المدينة) ، فاشتكيت بها شهرا، والنّاس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا علم لي بذلك حتّى نقهت- أي: شفيت- فخرجت ليلة أنا وأمّ مسطح للبراز- بفتح الموحّدة، أي: المكان البارز- وذلك قبل أن نتّخذ الكنف «2» ، فعثرت أمّ مسطح في مرطها «3» ، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت لرجل شهد (بدرا) ، قالت: ألم تسمعي ما قال؟ - وكان ممّن خاض في حديث الإفك- فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضي، فلمّا رجعت إلى بيتي، دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم- وقد رابني منه أنّي لا أرى منه اللّطف- أي: بالتّحريك- الّذي كنت أراه منه حين أشتكي، إنّما يدخل ويسلّم ويسأل عنّي، ثمّ ينصرف، فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبويّ؟، وأنا أريد أن أستيقن الخبر، فأذن لي. [مواساة أمّ رومان لابنتها رضي الله عنهما] فأتيت أبويّ فقلت لأمّي: يا أمّاه، ماذا يتحدّث النّاس به؟ فقالت: يا بنيّة، هوّني على نفسك الأمر، فقلّما حظيت امرأة عند زوجها إلّا حسدت، فقلت: سبحان الله أو لقد تحدّث النّاس بهذا؟ فبكيت تلك اللّيلة، لا يرقأ «4» لي دمع، ولا أكتحل بنوم. [استشارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بشأن عائشة رضي الله عنها] فلمّا أصبح النّبيّ صلى الله عليه وسلم استشار عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد في فراقي.

_ (1) تولّى كبره: معظّمه. (2) الكنف: الخلاء. كأنّه كنف في أستر النّواحي. (3) المرط: كساء من صوف. (4) يرقأ الدّمع: يسكن ويجفّ وينقطع جريانه.

فائدة: في حرص الصحابة على إراحة خاطره صلى الله عليه وسلم

فأمّا أسامة فقال: يا رسول الله، أهلك، والله ما نعلم إلّا خيرا. وأمّا عليّ فقال: يا رسول الله، لن يضيّق الله عليك، والنّساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: «يا بريرة، هل رأيت في عائشة شيئا يريبك؟» ، قالت: لا، والّذي بعثك بالحقّ. فائدة [: في حرص الصّحابة على إراحة خاطره صلى الله عليه وسلم] قال العلماء: إنّما رأى عليّ رضي الله عنه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم انزعاجا وقلقا، فأراد راحة خاطره. قلت: وممّا يدلّ على أنّهم كانوا يرون انزعاج خاطره أشدّ عليهم من كلّ أمر: أنّ عمر لمّا قال للأنصاريّ: أجاء الغسانيّ؟ قال: بل أشدّ، اعتزل النّبيّ صلى الله عليه وسلم نساءه «1» . [خطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشأن الإفك] قالت عائشة/: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في النّاس واستعذر من عبد الله بن أبيّ «2» ، فقال: «من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فو الله ما علمت على أهل بيتي إلّا خيرا، ولقد ذكروا

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (5505) . قلت: ونصّ الخبر في «البخاريّ» ؛ قال عمر رضي الله عنه: (فخرجت من عندها وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر، ونحن نتخوّف ملكا من ملوك غسّان ذكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا، فلقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاريّ يدقّ الباب، فقال: افتح ... افتح، فقلت: (جاء الغسّانيّ؟) ، فقال: بل أشدّ من ذلك؛ اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه، فقلت: رغم أنف حفصة وعائشة ... ) . (أنصاريّ) . (2) استعذر: طلب العذر في قتله.

رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا» . فقام سعد بن معاذ سيّد الأوس، فقال: أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة- وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحميّة- فقال لسعد بن معاذ: كذبت، والله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فتثاور الحيّان «1» في المسجد حتّى همّوا أن يقتتلوا، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفّضهم حتّى سكتوا. قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثمّ بكيت ليلتي المقبلة. قالت: وأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتين ويوما «2» ، حتّى أظنّ أنّ البكاء فالق كبدي. قالت: فبينما هما عندي وأنا أبكي، إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم، ثمّ جلس عندي، قالت: ولم يجلس عندي من يوم قيل ما قيل، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء «3» ، فتشهّد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال: «أمّا بعد: يا عائشة، فإنّه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة، فسيبرّئك الله، وإن كنت ألممت

_ (1) تثاور الحيّان: نهض بعضهم إلى بعض من الغضب. (2) قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» ، ج 8/ 474: أي: اللّيلة الّتي أخبرتها فيها أمّ مسطح الخبر، واليوم الّذي خطب النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّاس، واللّيلة الّتي تليه. (3) قال السّهيليّ في «الرّوض الأنف» ، ج 4/ 23: كان نزول براءة عائشة رضي الله عنها بعد قدومهم المدينة بسبع وثلاثين ليلة في قول بعض المفسّرين، وقال الحافظ ابن حجر في «الفتح» ، ج 1/ 475: عن ابن حزم: أنّ المدّة كانت خمسين يوما أو أزيد. والله أعلم.

بذنب، فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثمّ تاب، تاب الله عليه» . فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله ما أدري ما أقول له، فقلت لأمّي: أجيبي عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أدري ما أقول له، فقلت: والله لئن قلت لكم: إنّي بريئة- والله يعلم ذلك- لا تصدّقوني بذلك، وقد استقرّ في أنفسكم ما تحدّث به النّاس، ولئن اعترفت بذنب والله يعلم أنّي منه لبريئة لتصدّقنّي، فو الله ما أجد لي ولكم مثلا إلّا أبا يوسف- والتمست اسم يعقوب فدهشت «1» - إذ قال/: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [سورة يوسف 12/ 18] . قالت: ثمّ تحوّلت واضطجعت على فراشي، وأنا والله أعلم أنّ الله سيبرّئني، وما كنت أظنّ أن ينزل الله في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من ذلك، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرّئني الله بها، فو الله ما قام من مجلسه حتّى أخذه ما كان يأخذه من البرحاء «2» ، من ثقل الوحي، ثمّ سرّي عنه وهو يضحك، وقال: «أبشري يا عائشة، فقد برّأك الله» ، فقلت: لا أحمد إلّا الله الّذي أنزل براءتي، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيّرتموه» . قال العلماء: فبيّنت أنّهم لا حمد لهم بالنّسبة إلى براءتها لعلمهم بحسن سيرتها.

_ (1) دهش المرء: ذهب عقله من وله أو فزع أو حياء. (2) البرحاء: الشّدّة الّتي كانت تصيبه عند نزول الوحي. (3) أخرج البخاريّ قصّة حديث الإفك، برقم (3910- 4473) .

فائدة في طرق روايات حديث الإفك

وفي رواية: وكنت أشدّ ما كنت غضبا «1» . فأظهرت وجه العذر. قالت: وأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ- أي: في الآخرة-[سورة النّور 24/ 11] . فائدة [في طرق روايات حديث الإفك] روى البخاريّ ومسلم حديث الإفك من طريق الزّهريّ، عن عروة وهشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وانفرد البخاريّ بروايته له من طريق مسروق بن الأجدع، عن أمّ رومان أمّ عائشة، مصرّحا بسماعه منها، وهو يردّ ما زعمه أبو بكر الخطيب وجماعة من الحفّاظ من أنّ أمّ رومان ماتت في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وصلّى عليها سنة ستّ؛ بل حديث نزول آية التّخيير وفيه: «لا تعجلي حتّى تستأمري أبويك» «2» - أي: أبا بكر وأمّ رومان- كما صرّح به في رواية الإمام أحمد يردّ ما قالوه، لأنّ التّخيير سنة تسع. والله أعلم «3» . [موقف عائشة من حسّان رضي الله عنهما] قال عروة: لم يسمّ من أهل الإفك غيره إلّا حسّان بن ثابت، ومسطحا، وحمنة بنت جحش، غير أنّهم عصبة كما قال الله تعالى «4» .

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3180) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (2336) . (3) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (25739) . وآية التّخيير نزلت سنة تسع للهجرة، قبل غزوة تبوك. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3910) .

قال- أي: عروة- وكانت عائشة تكره أن يسبّ عندها حسّان، وتقول إنّه الّذي يقول، [من الوافر] «1» : فإنّ أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمّد منكم وقاء / وكان حسّان أيضا يعتذر عن ذلك. ومن شعره فيه وفي مدح عائشة رضي الله عنها قوله، [من الطّويل] «2» : حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل «3» عقيلة حيّ من لؤيّ بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل «4» مهذّبة قد طيّب الله خيمها ... وطهّرها من كلّ سوء وباطل «5» فإن كنت قد قلت الّذي قد زعمتم ... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي وكيف وودّي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل له شرف عال على النّاس كلّهم ... تقاصر عنه سورة المتطاول «6»

_ (1) ابن هشام، ج 3/ 306. (2) ابن هشام، ج 3/ 306. (3) حصان: المرأة العفيفة. رزان: ذات ثبات ووقار وسكون. ما تزنّ: ماتتّهم. غرثى: جائعة. (4) العقيلة: الكريمة. المساعي: ما يسعى فيه من طلب المجد والمكارم. (5) خيمها: طبعها. (6) السّورة (بفتح السّين) : الوثبة، (وبضمّ السّين) : المنزلة.

فائدة: في كفر من يعتقد أن عائشة رضي الله عنها لم تكن بريئة

قالت عائشة رضي الله عنها: فلمّا أنزل الله تعالى براءتي، قال أبو بكر- وكان ينفق على مسطح لقرابته منه-: والله لا أنفق على مسطح أبدا بعد الّذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النّور 24/ 22] . فقال أبو بكر: بلى، والله إنّي لأحبّ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الّذي يجرى عليه «1» . فائدة [: في كفر من يعتقد أنّ عائشة رضي الله عنها لم تكن بريئة] لا يخفى أنّ بين حديث نزول سورة المنافقين وحديث الإفك مناسبة من وجوه: منها: إنّهما وقعا في الرّجوع من غزوة واحدة. ومنها: إنّ سورة المنافقين في براءة زيد بن أرقم عن الإفك، وهو الكذب المتّهم به، وحديث الإفك في براءة عائشة رضي الله عنها عمّا قذفت به، فهي براءة قطعيّة بنصّ القرآن، حتّى إنّ من يشكّك في براءتها فهو كافر بالإجماع. بل قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: فَخانَتاهُما [سورة التّحريم 66/ 10]- أي: امرأة نوح نوحا، وامرأة لوط لوطا-: لم تزن امرأة نبيّ قطّ. وفي «الصّحيحين» ، أنّ صفوان بن المعطّل قال: والله ما كشفت

_ (1) ابن هشام، ج 3/ 304.

فضل عائشة ومنزلتها من العلم

عن كنف أنثى قطّ- أي: أنّه كان حصورا لا يأتي النّساء «1» -. وسيأتي أنّ (الخندق) في شوّال، فيلزم أنّ حديث الإفك قبل شوّال، / لأنّ سعد بن معاذ أصيب ب (الخندق) وهو القائم بعذر النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الإفك، كما سبق. [فضل عائشة ومنزلتها من العلم] وسبق أنّ عائشة دخل بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم في شوّال بعد (بدر) «2» ، وهي بنت تسع، فيكون سنّها يوم الإفك أقلّ من إحدى عشرة سنة، ومن تأمّل ثباتها فيه كقولها: (ولشأني في نفسي أحقر من أن ينزل الله فيّ قرآنا يتلى) ، علم أنّ الله يزكّي من يشاء: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [سورة النّور 24/ 21] . وأمّا علوّ درجتها بعد ذلك في العلم فأشهر من أن يذكر: كقولها لمّا قال مسروق: هل رأى محمّد صلى الله عليه وسلم ربّه؟ [فقالت] : لقد قفّ شعري «3» . وقولها لمّا قال لها عروة: وظنّوا أنّهم قد كذبوا- مخفّفة-[فقالت] : معاذ الله أن تكون الرّسل تظنّ ذلك بربّها «4» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3910) . ومسلم برقم (2770/ 56) . الكنف: الثّوب الّذي يستر. وهو هنا كناية عن عدم جماع النّساء جميعهنّ ومخالطتهنّ. الحصور: الّذي لا يأتي النّساء؛ سمّي بذلك لأنّه حبس عن الجماع ومنع. (أنصاريّ) . قلت: وهو في هذا الحديث- أي: الحصور- مجبوب الذّكر والأنثيين. (2) قلت: كان دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعائشة في شوّال من السّنة الأولى للهجرة، وليس بعد بدر. وقد تقدّم الحديث عن ذلك، ص 203. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4574) . قفّ شعري: قام من الفزع. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3209) .

غزوة الخندق أو الأحزاب

وبمثل ذلك يعلم جلالة قدرها فيما يجب لله سبحانه من التنزيه، ولرسله من العصمة. ومنها: إنّ الّذي تولّى كبر الحدثين معا عبد الله بن أبيّ، المنافق مرّة بعد أخرى، مع ما سبق من معاشرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم له معاشرة حسنة. قال العلماء: وكان تقريره صلى الله عليه وسلم له من باب ترجيح المصلحة العامّة، وهي تأليف القلوب وخشية التّنفير عن الإسلام المشار إليه بقوله: «لا يتحدّث النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه» «1» . مع ما سبق من غضب قومه له، وأنّ سعد بن عبادة حملته الحميّة، هذا ولو لم يكن لسعد بعد شهود (العقبة وبدر) إلّا قوله يوم (بدر) : (والّذي بعثك بالحقّ، لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى (برك الغماد) «2» لفعلنا، أو نخيضها البحر لأخضناها معك) «3» . فترجّحت هذه المصلحة العامّة على المفسدة الخاصّة به صلى الله عليه وسلم، لأنّ الأذى راجع إليه وإلى أهله، فاحتمله لمصلحة المسلمين العامّة. كما عفا عن غورث بن الحارث الّذي اخترط عليه السّيف. وعن اليهوديّة الّتي أطعمته السّمّ، وغير ذلك. والله أعلم. [غزوة الخندق أو الأحزاب] وفي هذه السّنة- وهي الرّابعة «4» -: كانت غزوة/ (الخندق) ، وتسمّى غزوة الأحزاب، في شوّال منها، لحول الحول من غزوة (أحد) «5» ، ثمّ غزوة بني قريظة.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4624) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (2) برك الغماد: تقع في جنوب القنفذة ب (111) كيلو مترا. والقنفذة: بلدة وميناء على ساحل البحر الأحمر جنوب جدّة. وبرك الغماد قرية من قرى القنفذة. (3) أخرجه مسلم، برقم (1779/ 83) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (4) بل هي في السنة الخامسة. (5) قلت: قال ابن القيّم في «زاد المعاد» ، ج 3/ 269: (وكانت غزوة

سببها

[سببها] أمّا غزوة (الخندق) فسببها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أجلى بني النّضير، ولحق رئيسهم حييّ بن أخطب ب (خيبر) ، ذهب بعد ذلك إلى (مكّة) في رجال من قومه، ودعوا قريشا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن سألوهم: أيّنا أهدى سبيلا نحن أم محمّد؟ فقالوا: بل أنتم أهدى سبيلا منه. وفيهم أنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ- والجبت: الأصنام، والطّاغوت: طغاة المشركين- وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً [سورة النّساء 4/ 51- 52] . [خروج المشركين] فلمّا أجابتهم قريش إلى ذلك تقدّموا إلى قبائل قيس عيلان- بمهملة- من أهل (الطّائف) وغطفان وهوازن وغيرهم، فدعوهم إلى مثل ذلك، فأجابوهم. [مشاورة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه] فلمّا علم بهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسيّ رضي الله عنه بحفر الخندق، فشرع فيه، وقسّمه بين المهاجرين والأنصار، فاجتهدوا في حفره متنافسين في رضا الله ورسوله، بحيث لا ينصرف أحد منهم لحاجته حتّى يستأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

_ الخندق في سنة خمس من الهجرة في شوّال على أصحّ القولين، إذ لا خلاف أنّ غزوة أحد كانت في شوّال سنة ثلاث، وواعد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، وهو سنة أربع، ثمّ أخلفوا لأجل جدب تلك السّنة، فرجعوا، فلمّا كانت سنة خمس، جاؤوا لحربه) . وهذا قول أهل السّير والمغازي.

مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه العمل

[مشاركة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه العمل] وكان صلى الله عليه وسلم ينقل معهم التّراب على عاتقه، ويكابد معهم النّصب والجوع. [ارتجاز النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه] ويرتجز معهم بأبيات عبد الله بن رواحة، [من الرّجز] «1» : والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا إنّ الّذين قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا ويمدّ بها صوته: أبينا أبينا. وكانوا يرتجزون، [من الرّجز] «2» : نحن الّذين بايعوا محمّدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا فيجيبهم [صلى الله عليه وسلم] : «اللهمّ لا عيش إلّا عيش/ الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره» وأصله: «اللهمّ إنّ العيش عيش الآخره، فاغفر للأنصار- بالنّقل- والمهاجره» . وفي «الصّحيحين» ، عن البراء بن عازب [رضي الله عنهما] : رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتّى وارى [عنّي] الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشّعر- أي شعر أعالي الصّدر- لأنّه صلى الله عليه وسلم كان دقيق المسربة «3» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3878) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (2801) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3880) . ومسلم برقم (1803/ 125) . المسربة (بضمّ الرّاء وفتحها) : هو الشّعر الدّقيق، الّذي يأخذ من الصّدر إلى السّرّة.

حصار المسلمين

[حصار المسلمين] ولمّا فرغوا من الخندق وأقبلت جموع الأحزاب في عشرة آلاف، وأحاطوا ب (المدينة) من جميع جهاتها، واشتدّ الحصار على المسلمين، كما قال الله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [سورة الأحزاب 33/ 10- 11] . [ظهور النّفاق] وعند ذلك ظهر نفاق المنافقين، واضطرب إيمان ضعفاء الإيمان، كما قال الله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً الآيات [سورة الأحزاب 33/ 12] . وكانوا يقولون: يعدنا محمّد أن نفتح (مكّة والشّام والعراق) ، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط. وامتدّ الحصار قريبا من شهر. ثمّ زاد الأمر شدّة أنّ حييّ بن أخطب تقدّم إلى بني قريظة فلم يزل بهم حتّى نقضوا العهد. [نقض بني قريظة العهد] ثمّ إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا رآى ما أصحابه فيه من الشّدّة، استشار الأنصار في أن يعطي عيينة بن حصن الفزاريّ، والحارث بن عوف المرّيّ- قائدي غطفان- ثلث ثمار (المدينة) ، على أن يفرّقا الجمع، فقال له سعد بن معاذ رضي الله عنه: أهذا أمر أمرك الله به لا بدّ منه، فالسّمع والطّاعة لله ولرسوله، أم هو أمر تصنعه لنا؟ قال: «لا، بل لأنّني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فأردت أن أكسر شوكتهم» ، فقال له سعد: قد كنّا ونحن وهؤلاء على الشّرك، وهم لا يطمعون منّا بتمرة إلّا قرى أو بيعا، أفحين

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب

أكرمنا الله بالإسلام وأعزّنا بك نعطيهم/ أموالنا؟! والله لا نعطيهم إلّا السّيف «1» . [دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الأحزاب] فسرّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهمّ منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهمّ اهزمهم وزلزلهم» «2» . ولم يكن بين القوم قتال إلّا الرّمي بالنّبل والحصى، فأوقع الله بينهم التّخاذل. [تأييد الله نبيّه صلى الله عليه وسلم بالرّيح] ثمّ أرسل الله عليهم في ظلمة شديدة من اللّيل ريح الصّبا الشّديدة، في برد شديد، فأسقطت خيامهم، وأطفأت نيرانهم وزلزلتهم، حتّى جالت خيولهم بعضها في بعض في تلك الظّلمة، فارتحلوا خائبين. [بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان ليتحسّس أخبار المشركين] وفي «3» «الصّحيحين» ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من يأتيني بخبر القوم؟» ، فقال الزّبير: أنا، ثمّ قال: «من يأتيني بخبر القوم؟» ، فقال الزّبير: أنا، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ لكلّ نبيّ حواريّا وحواريّ الزّبير» «4» . زاد ابن إسحاق أنّ الزّبير قال: فذهبت، فدخلت بينهم، فنادى أبو سفيان: إن هذه الظّلمة ظلمة شديدة، فليسأل كلّ منكم

_ (1) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 2/ 132. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (2775) . (3) ذكر هنا أنّ الزّبير بن العوّام هو الّذي تحسّس خبر المشركين بعد انتهاء المعركة. قلت: أمّا الزّبير فأرسله النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة ليتأكّد من صدق خبر نقض بني قريظة العهد. أمّا الّذي تحسّس خبر المشركين عقب تأييد الله نبيّه بريح الصّبا الّتي هزمت المشركين؛ إنّما هو: حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (2691) .

ما ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم من الآيات في حفر الخندق

جليسه من هو؟ قال: فبدأت بجليسي، وقلت: من أنت؟ ومكثت إلى أن ارتحلوا. ثمّ أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بخبرهم. فحمد الله وأثنى عليه. فأنزل الله عزّ وجلّ مذكّرا لعباده ما منّ به عليهم قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها- أي: الملائكة- إلى قوله: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [سورة الأحزاب 33/ 9- 25] . [ما ظهر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم من الآيات في حفر الخندق] ووقع في أيّام حفر (الخندق) معجزات باهرة من علامات نبوّته صلى الله عليه وسلم. [أمر الكدية] كحديث الكدية: وهي قطعة من الجبل الّتي اعترضت لهم في حفر (الخندق) ، فلم يعمل فيها المعول، وأعيت فيها الحيل، فأخذ صلى الله عليه وسلم المعول وسمّى الله فضربها، فانهالت كالكثيب «1» . [تكثير طعام أنس رضي الله عنه] وكحديث أبي طلحة: حيث بعث/ أنسا بأقراص من شعير تحت إبطه، ففتّها صلى الله عليه وسلم وأطعم منها ثمانين «2» . [تكثير طعام جابر بن عبد الله رضي الله عنهما] وكحديث جابر: حيث دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، على صاع من شعير وعناق ذبحها لهم، لمّا رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد ربط حجرا على بطنه من شدّة الجوع، فبصق صلى الله عليه وسلم في البرمة وفي العجين، ونادى في أهل (الخندق) وكانوا ألفا على ما بهم من الجوع، فأشبعهم جميعا خبزا وثريدا ولحما.

_ (1) الكثيب: الرّمل المستطيل المحدودب. وأخرج الخبر البخاريّ، برقم (3875) . (2) ذكر القصّة مسلم، برقم (2040/ 142) .

إخباره صلى الله عليه وسلم بانتهاء غزو قريش لهم

وقال جابر: فأقسم، بالله لقد انصرفوا وإنّ برمتنا لتغطّ كما هي، وإنّ عجيننا ليخبز كما هو «1» . [إخباره صلى الله عليه وسلم بانتهاء غزو قريش لهم] وكقوله صلى الله عليه وسلم لمّا انصرفت الأحزاب: «لن تغزونا قريش بعدها أبدا، بل نغزوهم ولا يغزوننا» «2» . فكان كما قال، وكانت تلك الشّدّة خاتمة الشّدائد. [غزوة بني قريظة] وأمّا غزوة بني قريظة: فسببها ما سبق من نقضهم العهد. [أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى بني قريظة] وفي «الصّحيحين» ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا رجع من (الخندق) ، ووضع السّلاح، واغتسل، أتاه جبريل عليه السّلام، فقال: قد وضعت السّلاح؟، والله ما وضعناه «3» ، فاخرج إليهم، قال: «فإلى أين؟» ، قال: ها هنا. وأشار بيده إلى بني قريظة، فخرج إليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم «4» . [النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالخروج] وفيهما-[أي: الصّحيحين]- أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصلّينّ أحد العصر إلّا في بني قريظة» ، فأدرك بعضهم العصر في الطّريق، فقال بعضهم: لا نصلّي حتّى نأتيها- أي: ولو غربت الشّمس متمسّكا بظاهر اللّفظ- وقال بعضهم: بل نصلّي، لم يرد منّا ذلك- ففهم من النّصّ معنى خصّصه به- فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يعنّف واحدا منهم «5» .

_ (1) ذكر القصّة البخاريّ، برقم (3876) . العناق: الأنثى من ولد المعز. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3884) ، بنحوه. (3) أي: لم تضع الملائكة السّلاح. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3891) . ومسلم برقم (1769/ 65) . عن عائشة رضي الله عنها. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (904) . ومسلم برقم (1770/ 69) . عن ابن عمر رضي الله عنهما.

شأن أبي لبابة رضي الله عنه

قلت: وفي ذلك فسحة للأئمة المجتهدين رضي الله عنهم، وأنّ كلّ مجتهد مصيب- أي: في الفروع- إذ لم يخصّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحدا من الفريقين بصواب ما ذهب إليه. [شأن أبي لبابة رضي الله عنه] فلمّا نزل صلى الله عليه وسلم بساحتهم، وحاصرهم/ واشتدّت عليهم وطأته، أرسلوا إليه أن أرسل إلينا أبا لبابة- بموحّدة مكرّرة- الأنصاريّ الأوسيّ، وكانوا حلفاء الأوس، فأرسله إليهم، فلمّا أقبل عليهم تلقّاه النّساء والصّبيان يبكون في وجهه، فرقّ لهم، فقالوا: أترى أن ننزل على حكم محمّد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه- يعني: أنّ حكمه الذّبح- ثمّ ندم في مقامه، وعلم أنّه قد خان الله ورسوله، فلم يرجع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، بل ذهب إلى (المدينة) ، وربط نفسه بسارية في المسجد، وقال: والله لا أذوق ذواقا حتّى يطلقني النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيده، فأقام على ذلك سبعة أيّام لا يذوق ذواقا حتّى خرّ مغشيّا عليه، فنزل فيه: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة التّوبة 9/ 102] . فتاب الله عليه، وغفر له ورحمه، فأطلقه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيده، ولم يطأ بلد بني قريظة حتّى مات، وكان يقول: والله لا أرى ببلد خنت الله ورسوله فيها، وكان له بها أموال فتركها رضي الله عنه. [نزول بني قريظة على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه] ثمّ إنّ بني قريظة سألوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهم ما قبل من إخوانهم بني النّضير، بأن يجلو عن بلدهم، ولهم ما أقلّت الإبل، فأبى عليهم لما تولّد من حييّ بن أخطب من الشّرّ، فنزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم، فجاء حلفاؤهم من الأوس، وقالوا: هبهم لنا يا رسول الله كما وهبت بني قينقاع لحلفائهم الخزرج، فقال: «ألا

توجه سعد رضي الله عنه إلى بني قريظة

ترضون أن يحكم فيهم سيّدكم سعد بن معاذ» ؟ قالوا: بلى. [توجّه سعد رضي الله عنه إلى بني قريظة] وكان سعد قد أصيب بسهم يوم (الخندق) ، فجعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم في خيمة في المسجد، ليعوده عن قرب، فأتاه قومه فاحتملوه على حمار، وأقبلوا به، وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك- أي: حلفائك-/ فقال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فعلموا أنّه قاتلهم. فلمّا دنا من النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمن عنده: «قوموا إلى سيّدكم» ، فقاموا له. فالمهاجرون قالوا: إنّما أراد الأنصار، والأنصار قالوا: قد عمّ بها. [حكم سعد رضي الله عنه في بني قريظة] فحكم فيهم بقتل الرّجال وسبي الذّراريّ والنّساء، وقسمة الأموال، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمت بحكم الله فيهم» «1» . [تنفيذ الحكم في بني قريظة] فخدّ لهم أخدود، وضرب أعناق رجالهم وألقاهم فيه، وكان عدد من قتل منهم نحو سبع مئة- بتقديم السّين- وقيل: نحو تسع مئة- بتقديم التّاء-. وفيهم أنزل الله تعالى متفضّلا بقوله: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ... وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ- أي: أعانوا

_ (1) قلت: قال أبو شهبة- رحمه الله-: وهذا الحكم هو ما قضى به كتابهم المقدّس (العهد القديم) ، في حقّ العدو المهزوم. ففي سفر التّثنية، الإصحاح 13، فقرة 13/ 14: (وإذا دفعها الرّبّ إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحدّ السّيف، وأمّا النّساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة، كلّ غنيمتها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك الّتي أعطاك الرّبّ إلهك) . وهكذا يتبيّن لنا أنّ ما قضى به سيّدنا سعد لم يخرج عمّا حكمت به التّوراة. وأيضا فهم ليسوا أعداء مهزومين فحسب، بل هم خائنون غادرون غير وافين بالعهد. (انظر السّيرة النّبويّة، ج 2/ 409) .

وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه

قريشا وأحزابها- مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ- أي: حصونهم، وأصلها قرون البقر- وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [سورة الأحزاب 33/ 25- 27] . [وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه] وكان سعد رضي الله عنه لمّا أصيب يوم (الخندق) دعا الله تعالى فقال: (اللهمّ فإن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، وإلّا فاجعله لي شهادة، ولا تمتني يا ربّ حتّى تقرّ عيني من بني قريظة) . فلمّا انقضى شأنهم ورجع إلى خيمته بالمسجد، استجاب الله له دعوته، فانفجر جرحه، فمات فيها. ولم يشعر أحد بموته حتّى نزل جبريل عليه السّلام فقال: من هذا الّذي فتحت لروحه أبواب السّماء، واهتزّ له عرش الرّحمن؟ - أي: طربا لقدومه- فقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم مسرعا، فإذا سعد قد مات رضي الله عنه. [زواج الرّسول صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش رضي الله عنها] وفي السّنة الخامسة: بنى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأمّ المؤمنين زينب بنت جحش الأسديّة رضي الله عنها، وأمّها أميمة بنت عبد المطّلب؛ عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن زوّجه الله إيّاها/، وكان لزواجها شأن جليل. وذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان خطبها أوّلا لمولاه زيد بن حارثة، فترفّعت عليه لشرف نسبها وجمالها، وساعدها أخوها عبد الله بن جحش، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهما: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً [سورة الأحزاب 33/ 36] .

فلمّا سمعا ذلك رضيا طاعة لله ولرسوله، فأنكحها النّبيّ صلى الله عليه وسلم زيدا، فمكثت عنده ما شاء الله. ثمّ رآها النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوما متزيّنة فأعجبته، ورغب في نكاحها لو طلّقها زيد، فأوقع الله كراهيّتها في قلب زيد، فجاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستأمره في فراقها، فقال له: «أمسك عليك زوجك واتّق الله» - أي: في طلاقها من غير سبب- فأبى إلّا طلاقها وطلّقها «1» . وفي «صحيح مسلم» ، أنّها لمّا انقضت عدّتها بعثه النّبيّ صلى الله عليه وسلم إليها ليخطبها له، قال زيد «2» : فلمّا جئتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها إجلالا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فولّيتها ظهري، وقلت: يا زينب، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك يذكرك، فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتّى أوامر ربّي «3» ، فقامت إلى مسجدها- تصلّي الاستخارة «4» - فنزل القرآن بقوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ- أي: بالإسلام- وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ- أي: بالعتق- أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ- أي: مظهره، لأنّه سبق في علمه أنّها ستكون لك- وَتَخْشَى

_ (1) قلت: ورويت هذه الروايات في بعض كتب التّفسير والقصص الّتي لا تعنى بالنّقد والتّمييز بين الرّوايات، وهي رواية باطلة عقلا ونقلا. وانظر التّعليق الآتي. (2) قلت: قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» ، ج 8/ 524: (وهذا أيضا من أبلغ ما وقع في ذلك، وهو أن يكون الّذي كان زوجها هو الخاطب، لئلا يظنّ أحد أنّ ذلك وقع قهرا بغير رضاه، وفيه أيضا اختبار ما كان عنده منها هل بقي منه شيء أم لا) . (3) آمره في أمره، ووامره واستأمره: شاوره. (4) قلت: لعلّها استخارت لخوفها من تقصير في حقّه.

تحريم التبني

النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [سورة الأحزاب 33/ 37]- أي: تستحي أنّ ذلك يظهر لئلّا يشنّع عليك المنافقون واليهود أنّك نكحت منكوحة ابنك. [تحريم التّبني] وكان من قبل قد تبنّى زيدا، ثمّ حرّم الله ذلك عليه وعلى الأمّة بقوله: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ/، وقوله: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ الآية [سورة الأحزاب 33/ 40، 5] . فأمره الله بنكاحها، بل أنكحه إيّاها لتقتدي به الأمّة، كما قال الله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [سورة الأحزاب 33/ 37] . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير استئذان، كما في «صحيح مسلم» «1» . [افتخار زينب رضي الله عنها بتزويج الله لها] وفي «الصّحيحين» ، عن أنس بن مالك، قال: جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول له: «اتّق الله وأمسك عليك زوجك» ، قال أنس: وكانت زينب رضي الله عنها تفتخر فتقول لأزواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ورضي عنهنّ: زوّجكنّ أهاليكنّ، وزوّجني ربّي من فوق سبع سماوات «2» . فائدة كذا روى ابن إسحاق وغيره من حديث قتادة عن أنس ما تقدّم من أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى زينب متزيّنة فأعجبته، فرغب في نكاحها لو

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (1428/ 89) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (6984) .

طلّقها زيد. روى ذلك جمع من المفسّرين بأسانيد قويّة «1» . وفي «البخاريّ» من حديث ثابت البنانيّ عن أنس بن مالك أنّ هذه الآية: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [سورة الأحزاب 33/ 37] نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة ولم يزد. وسبق أنّ الّذي أخفاه هو ما أعلمه الله من أنّها ستكون زوجته. وقال له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ استصحابا للحال إلى أن يبلغ الكتاب أجله. وليس في استحسانه لها، ورغبته في نكاحها لو طلّقها زيد قدح في منصبه الجليل حتّى يوجب الطّعن في الرّوايات الثّابتة المنقولة في هذه القصّة، بل قد جعلها العلماء من أصحابنا أصلا، استدلّوا به

_ (1) قلت: وفي هذه الأسانيد القويّة!! عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، متّهم بالكذب والتّحديث بالغرائب ورواية الموضوعات. وقد تنبّه لبطلانها وزيفها جمع من المحدّثين الرّاسخين. قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» ، ج 8/ 425: ورويت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطّبري، ونقلها كثير من المفسّرين، لا ينبغي التّشاغل بها. وقال ابن كثير في «تفسيره» ، ج 5/ 560: ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هنا آثارا عن بعض السّلف أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحّتها فلا نوردها. وهذا القول لا يليق بمقام النّبوّة، ولا يليق به صلى الله عليه وسلم من مدّ عينيه لما نهي عنه من زهرة الحياة الدّنيا، وهذا لا يتّسم به النّاس، فكيف سيد الأنبياء؟!! ومن أقوى ما يردّ بها على ما لا يليق بمقام النّبوّة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف زينب من صغرها إلى أن تزوّجها؛ فلو كانت المسألة فيها شيء من الرّغبة الجنسيّة لتزوّجها هو. وإنّما الواقع الحقيقي هو أنّه إبطال لزواج المتبنّي بزوجة من يتبنّاه، وقوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي: تخفي في نفسك ما سيقع من الضّجّة والاعتراض عليك بعد أن تتزوّج زوجة ابنك الّذي تتبنّاه.

على أنّ من خصائصه صلى الله عليه وسلم وجوب طلاق من رغب في نكاحها على زوجها، ووجوب إجابتها، فجوّزوا رغبته في نكاح منكوحة/ غيره. وأنّ في هذه القصّة ما لا يخفى من التّنويه بقدر المصطفى صلى الله عليه وسلم، والإعلام بعظيم مكانته عند ربّه سبحانه وتعالى، وأنّه سبحانه يحبّ ما يحبّه، ويكره ما يكرهه، وينوب عنه في إظهار ما استحيا من إظهاره، علما منه سبحانه بأنّه إنّما يفعل ذلك قمعا لشهوته، وردّا لنفسه عن هواها «1» ، كما قال سبحانه في الآية الآخرى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [سورة الأحزاب 33/ 53] . فما نقله القاضي عياض عن ابن القشيريّ وقرّره: من أنّ ما سبق من تجويز رغبته في نكاحها لو طلّقها زيد إقدام عظيم من قائله، وقلّة

_ (1) قلت: حاشاه صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا. ولم يكن زواجه صلى الله عليه وسلم لقضاء شهوة، بل لبيان تشريع بفعله صلى الله عليه وسلم. فإنّ الفعل آكد، والشّرع يستفاد على نحو أقطع من فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وما زواجه صلى الله عليه وسلم هذا إلّا ليرتفع الحرج والضّيق بين المؤمنين إذا أرادوا الزّواج بمطلّقات أدعيائهم، وهم الّذين تبنوهم في الجاهليّة، ثمّ أبطل الإسلام حكم التّبني، وألغى جميع آثاره. قال أبو شهبة- رحمه الله-: وقد نسج المستشرقون والمبشّرون المحترفون من مثل هذه الرّوايات أثوابا من الكذب والخيال. وصوّروه صلى الله عليه وسلم بصورة الرّجل الّذي لا همّ له إلّا إشباع رغباته الجنسيّة والجري وراء النّساء. وقد اعتمد هؤلاء في طعونهم بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم على روايات مختلفة مدسوسة عند أئمة النّقد وعلماء الرّواية، وأغلب الظّنّ أنّها من صنع أسلافهم من اليهود والزّنادقة من الفرس وغيرهم، الّذين عجزوا أن يقاوموا سلطان الإسلام وقوّته، فلجأوا إلى الدّس والكذب، وجاز هذا الزّور على بعض الأغرار من المسلمين، فرووه في كتبهم، ولكنّه ما كان يخفى على العلماء والرّاسخين، فنبّهوا على كذبه، وحذّروا من التّصديق به.

وليمة النبي صلى الله عليه وسلم على زينب رضي الله عنها

معرفة بحقّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مردود بحثا ودليلا. والله أعلم «1» . واعلم أنّ نظره إليها كان قبل نزول آية الحجاب، لأنّها نزلت في حال دخوله عليها، مع أنّ الرّاجح أيضا عند المحقّقين أنّ النّساء ما كنّ يحتجبن عنه صلى الله عليه وسلم. [وليمة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على زينب رضي الله عنها] وفي «الصّحيحين» ، عن أنس رضي الله عنه قال: أنا أعلم النّاس بشأن الحجاب، وكان في أوّل ما أنزل في مبتنى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بزينب، أصبح النّبيّ صلى الله عليه وسلم بها عروسا، فأرسلت معي أمّ سليم بحيس من تمر وسمن وأقط «2» إليه في برمة، فقال لي ضعها، ثمّ أمرني فقال: «ادع لي رجالا- سمّاهم- وادع من لقيت» ، ففعلت الّذي أمرني به، فرجعت، فإذا البيت غاصّ بأهله، ورأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وضع يده على تلك الحيسة، وتكلّم بما شاء الله، ثمّ جعل يدعو عشرة عشرة، يأكلون منها، ويقول لهم: «اذكروا اسم الله، وليأكل كلّ رجل ممّا يليه» ، حتّى تفرّقوا كلّهم، وبقي نفر يتحدّثون، ثمّ خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحو الحجرات، وخرجت في إثره، فقلت: إنّهم قد ذهبوا، فرجع ودخل البيت/ وأرخى السّتر، وإنّي لفي الحجرة وهو يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ- إلى قوله- وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ الآية [سورة الأحزاب 33/ 53] «3» . وفي «صحيح البخاريّ» عن أنس أيضا قال: أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) قلت: بل قول القاضي عياض، وكذا الزّهريّ، والقاضي بكر بن العلاء، والقاضي أبي بكر بن العربي هو الأصحّ. وأنّ الّذي يقول ذلك جاهل بعصمة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخفّ بحرمته. (2) الأقط: لبن مجفّف يابس يطبخ به. (أنصاريّ) . (3) أخرجه البخاري (4868) . ومسلم (1428) .

صلح الحديبية

حين بنى بزينب بنت جحش فأشبع النّاس خبزا ولحما «1» . وفي رواية: فأرسلت داعيا على الطّعام، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثمّ يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتّى ما أجد أحدا أدعو، فقلت: يا نبيّ الله، ما أجد أحدا أدعوه، فقال: «ارفعوا طعامكم» «2» . [صلح الحديبية] وفي هذه السّنة- وهي الخامسة «3» - أحرم النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعمرة، فصدّ عن البيت، فوقع صلح الحديبية بعد بيعة الرّضوان، وذلك أنّه صلى الله عليه وسلم خرج في ذي القعدة معتمرا، فأحرم وقلّد الهدي، وأشعر البدن، فاجتمعت قريش على أن تصدّه عن البيت، فاجتمع رأيه على أن يدخلها عليهم قهرا. وفي ذلك يقول حسّان بن ثابت جوابا لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ابن عمّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شعره الّذي هجا فيه، [من الوافر] «4» : هجوت محمّدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء هجوت محمّدا برّا تقيّا ... رسول الله شيمته الوفاء أتهجوه ولست له بكفء؟ ... فشرّكما لخير كما الفداء «5» فإنّ أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمّد منكم وقاء

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4516) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4515) . عن أنس رضي الله عنه. (3) قلت: لعلّ الصّواب السّادسة. والله أعلم. (4) ذكر الأبيات الإمام مسلم في «صحيحه» ، برقم (2490/ 157) . (5) يقول: كيف تهجوه ولست ندّا له؟ عسى الله أن يجعل السّيّء الشّرير منكما فداء للطّيّب الخيّر.

إرسال النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان لمفاوضة قريش

عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النّقع موردها كداء «1» ينازعن الأعنّة مصعدات ... على أكبادها الأسل الظّلماء «2» فإن أعرضتم عنّا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلّا فاصبروا لضراب يوم ... يعزّ الله فيه من يشاء / وقال الله: قد أرسلت عبدا ... يقول الحقّ ليس به خفاء وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء «3» [إرسال النّبيّ صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفّان لمفاوضة قريش] ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم عثمان بن عفّان رضي الله عنه، فهمّ سفاؤهم أن يقتلوا عثمان، فأجاره ابن عمّه أبان بن سعيد بن العاص بن أميّة، فشاع أنّ قريشا قتلت عثمان، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا خير في الحياة بعد عثمان، أما والله لئن قتلوه لأناجزنّهم» «4» . [بيعة الرّضوان] ودعا النّاس إلى تجديد البيعة على الموت، فبايعوه، وكانوا ألفا وأربع مئة. ثمّ تحقّق كذب الخبر، فضرب [صلى الله عليه وسلم] بإحدى يديه على الآخرى، وقال: «هذه لعثمان» «5» .

_ (1) النّقع: الغبار في الحرب. كداء: موضع بأعلى مكّة، وقد دخل الرّسول صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح من كداء. (2) ينازعن الأعنّة: يجاذبنها الفرسان لسرعة انطلاقهن. مصعدات: مقبلات متوجّهات نحوكم. الأسل: الرّماح، الظّماء: الرّقاق. (3) روح القدس: جبريل عليه السّلام، والقدس: الطّهارة. كفاء: مثيل. (4) أخرجه البيهقيّ في «الدّلائل» ، ج 4/ 135. عن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (3495) . عن ابن عمر رضي الله عنهما. وهذه لعثمان: أي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان وقال: «هذه يد عثمان» ، فضرب بها على يده، فقال: «هذه لعثمان» .

كيفية الصلح

ولا يخفى ما في ذلك من الفضيلة لعثمان رضي الله عنه. وأنزل الله عزّ وجلّ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [سورة الفتح 48/ 18] . وكانوا تحت شجرة سمرة. ثمّ صالحهم عشر سنين على أن لا يدخل (مكّة) إلّا من العام القابل، وأنّ من أتاه منهم مسلما ردّه إليهم، ثمّ نحر وحلق، ورجع إلى (المدينة) ، وأنزل الله في منصرفه سورة الفتح. [كيفيّة الصّلح] وفي «صحيح البخاريّ» ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهم- يصدّق كلّ واحد منهما حديث الآخر- قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن (الحديبية) ، حتّى إذا كان بالثّنيّة الّتي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فزجروها، فألحّت، فقالوا: خلأت القصواء- أي: حرنت- فقال: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» ، ثمّ قال: «والّذي نفسي بيده، لا يسألوني خطّة- أي: طريقا- يعظّمون فيها حرمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها» ، ثمّ زجرها، فوثبت، فعدل عنهم حتّى نزل بأقصى (الحديبية) ، على ماء قليل يتبرّضه «1» النّاس، فشكوا إليه العطش، فانتزع سهما من كنانته، وأمرهم/ أن يجعلوه فيه، فجاش لهم بالماء الغزير حتّى صدروا عنه «2» . فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعيّ، فقال: إنّي تركت قريشا وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال رسول

_ (1) يتبرّضه: يأخذونه قليلا قليلا. (2) صدروا عنه: رجعوا عنه.

كتابة علي رضي الله عنه عقد الصلح وبنوده

الله صلى الله عليه وسلم: «إنّا لم نجىء لقتال أحد، ولكنّا جئنا معتمرين، وإنّ قريشا قد أضرّت بهم الحرب، فإن شاؤوا ماددتهم- أي: صالحتهم مدّة- على أن يخلّوا بيني وبين النّاس، فإن أظهر، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه النّاس فعلوا، وإلّا فقد جمّوا- أي: استراحوا- من الحرب مدّة، وإن أبوا، فو الله لأقاتلنّهم على هذا الأمر حتّى تنفرد سالفتي- أي: صفحة عنقي- ولينفذنّ الله أمره» ، قال بديل: سأبلّغهم ما تقول، قال: فانطلق حتّى أتى قريشا، فحدّثهم بما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود وقال: أي قوم، إنّ هذا قد عرض عليكم خطّة رشد، فاقبلوها، ودعوني آتيه، قالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويرمق أصحابه، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحوا ممّا قاله لبديل، فرجع عروة إلى قريش، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على كسرى وقيصر والنّجاشيّ، فما رأيت ملكا يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّدا، والله ما تنخّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم أمرا ابتدروا أمره «1» ، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النّظر إليه «2» تعظيما له، وإنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها. فأرسلوا إليه سهيل بن عمرو، فلمّا أقبل قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «قد سهل الأمر» ، فجاء سهيل فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا. [كتابة عليّ رضي الله عنه عقد الصّلح وبنوده] فدعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم الكاتب، وهو عليّ بن أبي طالب رضي الله

_ (1) ابتدروا أمره: أسرعوا في تلبيته وتنفيذه. (2) الإحداد: شدّة النّظر. أي: لا يتأمّلونه ولا يديمون النّظر إليه.

موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من شروط الصلح

عنه، فقال: «اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم» /، فقال سهيل: أمّا الرّحمن فو الله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهمّ كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله ما نكتبها إلّا بسم الله الرّحمن الرّحيم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «اكتب باسمك اللهمّ» ، ثمّ قال: «هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله» ، فقال سهيل: والله، لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمّد بن عبد الله، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «والله، إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني، اكتب محمّد بن عبد الله» ، ثمّ قال: «على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به» ، قال سهيل: والله، لا تتحدّث العرب أنّا أخذنا ضغطة- أي: قهرا- ولكن ذلك لك من العام القابل، فكتب، فقال سهيل: وعلى أنّه لا يأتيك رجل منّا، وإن كان على دينك إلّا رددته إلينا، فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما، فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف «1» في قيوده، وقد خرج من أسفل (مكّة) ، فرمى بنفسه بينهم، وكان قد عذّب في الله عذابا شديدا، وقال: أي معشر المسلمين، أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون إلى ما قد لقيت؟ فقال سهيل: هذا يا محمّد أوّل من أقاضيك عليه أن تردّه إليّ، وإلّا فو الله لا أصالحك أبدا، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّا لم نقض الكتاب بعد فأجزه لي» ، فقال: ما أنا بمجيزه لك. [موقف عمر بن الخطّاب رضي الله عنه من شروط الصّلح] قال عمر بن الخطّاب: فقلت: ألست نبيّ الله حقّا؟، قال: «بلى» ، قلت: ألسنا على الحقّ، وعدوّنا على الباطل؟، قال: «بلى» ، قلت: فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذا؟، قال: «إنّي

_ (1) يرسف: يمشي مشيا بطيئا بسبب القيود.

فائدة: في أن مقام الصديقية فوق مقام أهل الإلهام

رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري» ، قلت: أو ليس كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به؟، قال: «بلى، فأخبرتك أنّا نأتيه هذا العام؟» ، قلت: لا، قال: «فإنّك آتيه ومطوّف به» ، قال: فأتيت أبا بكر- وكان/ غائبا- فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبيّ الله حقّا؟، قال: بلى، قلت: ألسنا على الحقّ، وعدوّنا على الباطل؟، قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذا؟، قال: أيّها الرّجل، إنّه لرسول الله، وليس يعصي ربّه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه- أي: بركابه- فو الله إنّه على الحقّ، قلت: أوليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطّوّف به؟ - أي: وها هو قد صالحهم عشر سنين- قال: بلى، أفأخبرك أنّك تأتيه هذا العام؟ قلت: لا، قال: فإنّك آتيه ومطوّف به «1» . قال عمر رضي الله عنه: فعملت لذلك أعمالا- أي: من البرّ لتكفّر على جرأتي بالكلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثمّ إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا رجع إلى (المدينة) لحقه رجال مسلمون من قريش فردّهم، فانقلبوا ولحقوا بسيف البحر حتّى اجتمعت منهم عصابة، فجعلوا لا تمرّ بهم عير لقريش إلّا اعترضوها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرّحم لمّا ضمّهم إليه، وأنّ من خرج إليه فهو آمن، فضمّهم. فائدة [: في أنّ مقام الصّدّيقيّة فوق مقام أهل الإلهام] قال العلماء: هذا من أوضح الأدلّة على أنّ أهل الإلهام يخطئون ويصيبون، فلا بدّ من عرض ما وقع في قلوبهم من ذلك على الكتاب

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2581- 2582) .

والسّنّة، كما يخطىء أهل الاجتهاد ويصيبون، وهذا سيّدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أخطأ في أماكن كهذا الموطن. وفي وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو المشهود له بقوله صلى الله عليه وسلم له في «الصّحيحين» : «إيها يا ابن الخطّاب، فو الله ما لقيك الشّيطان سالكا فجّا إلّا سلك فجّا غير فجّك» «1» . وبقوله صلى الله عليه وسلم فيهما-[أي: الصّحيحين]- أيضا: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدّثون- أي: ملهمون- فإن يك في أمّتي أحد فإنّه عمر» «2» . وفي رواية: «لقد كان فيمن كان/ قبلكم رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمّتي أحد منهم فعمر» «3» . ولهذا كثيرا ما يوافق الوحي. وفي رواية: أنّ عمر قال: فعجبت من مطابقة كلام أبي بكر لكلام النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى أنّ مقام الصّدّيقيّة فوق مقام أهل الإلهام يردّونهم عند خطئهم إلى الحقّ. قال العلماء: ولا يخفى ما في هذه القصّة من وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم، والانقياد لأمره، وإن خالف ظاهر ذلك مقتضى القياس، أو كرهته النّفوس، فيجب على كلّ مكلّف أن يعتقد أنّ الخير فيما أمر به، وأنّه عين الصّلاح، المتضمّن لسعادة الدّنيا والآخرة، وأنّه جار على

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3480) . ومسلم برقم (2396/ 22) . عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3486) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3486) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

حزن الصحابة رضي الله عنهم لصلح القوم

أتمّ الوجوه وأكملها، غير أنّ أكثر العقول قصرت عن إدراك غايته وعاقبة أمره. [حزن الصّحابة رضي الله عنهم لصلح القوم] وفي «الصّحيحين» ، أنّ سهل بن حنيف قال يوم صفّين: يا أيّها النّاس، اتّهموا رأيكم على دينكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أردّ أمر رسول الله لرددته «1» . ولهذا قال الله تعالى في هذه القصّة بعينها بعد أن قال: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ- أي: بصدّهم عن البيت وإنكارهم لاسم الله الرّحمن الرّحيم- إلى قوله تعالى: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا- أي: من عاقبة الأمر- فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً- أي: صلح الحديبية-[سورة الفتح 48/ 26- 27] . فسمّاه فتحا كما في «الصّحيحين» ، عن البراء بن عازب: تعدّون أنتم الفتح فتح (مكّة) ، وقد كان فتح (مكّة) فتحا، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرّضوان يوم (الحديبية) «2» . قال العلماء: فهي المراد بالفتح في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [سورة الفتح 48/ 1] ؛ لأنّها نزلت عند انصرافهم منها، ثمّ قال فيها: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [سورة الفتح 48/ 27] . والمراد به فتح (خيبر) ؛ لأنّهم افتتحوها بعد انصرافهم من (الحديبية) ، ثمّ وعدهم فتح (مكّة) بقوله: إِذا جاءَ/ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النّصر 110/ 1] . قال العلماء: ولم يكن فتح قبل الفتح أعظم من صلح (الحديبية) ،

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (6878) . ومسلم برقم (1785/ 95) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3919) .

إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما

وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين في تلك الهدنة، وسمعوا منهم أخلاق النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ومحاسن شريعته، فأسلم منهم في تلك المدّة جماعة من رؤسائهم؛ كعمرو بن العاص وخالد بن الوليد، في خلق كثير، فظهر حسن اختيار الله لهم في ذلك الصّلح الّذي كرهوه، مع ما سبق في علمه بأنّ (مكّة) إنّما يحلّ القتال بها لنبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، وهي يوم فتحها: وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [سورة الطّلاق 65/ 3] ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة 2/ 216] . [إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما] وفي هذه السّنة «1» : أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما. وذلك أنّ عمرا ذهب إلى النّجاشيّ، وكان صديقا له، فأكرمه، فقدم على النّجاشيّ عمرو بن أميّة الضّمريّ رسولا من النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ليجهّز إليه من عنده من مهاجرة (الحبشة) ، فسأل عمرو بن العاص من النّجاشيّ قتل عمرو بن أميّة الضّمريّ، فغضب النّجاشيّ، وقال: أتسأل منّي أن أقتل رسول رجل يأتيه النّاموس الأكبر الّذي كان يأتي موسى؟، قال عمرو: فقلت: أهو كذلك؟، قال: نعم، فأطعني يا عمرو واتبعه، فإنّه على الحقّ، وليظهرنّ على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، فأسلم عمرو حينئذ على يد النّجاشيّ. ثمّ خرج من (الحبشة) عامدا إلى (المدينة) ، فلقي خالد بن الوليد مقبلا من (مكّة) إلى (المدينة) أيضا، فقال له: إلى أين

_ (1) ذكر هنا أن إسلامهما كان في السّنة السّادسة. وقد تقدّم أنّ إسلامهما كان أوائل سنة ثمان.

كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك

يا أبا سليمان؟ قال: لأسلم، والله فقد استبان لي الحقّ، وإنّ الرّجل لصادق، قال: وأنا والله ما جئت إلّا لأسلم، قال عمرو: فلمّا قدمنا (المدينة) تقدّم خالد فأسلم، وبايع. ثمّ دنوت، فقلت: يا رسول الله، أبايعك على أن يغفر الله لي ما تقدّم من ذنبي/، فقال: «يا عمرو إنّ الإسلام يجبّ ما كان قبله، وإنّ الهجرة تجبّ ما كان قبلها» «1» ، قال: وكان ذلك بعد (الحديبية) وقبل (خيبر) . [كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك] وفي «2» هذه السّنة-[أي: السّابعة]- أرسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رسله بكتبه إلى ملوك الأقاليم. ومنهم: عبد الله بن حذافة السّهميّ؛ بعثه بكتابه إلى كسرى، فمزّقه. ودحية بن خليفة الكلبيّ؛ بعثه بكتابه إلى قيصر، فوجد عنده أبا سفيان بن حرب. وفي «الصّحيحين» ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى، فأمره أن يدفعه إلى عظيم

_ (1) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (17323) . (2) لم يذكر المؤلّف- رحمه الله- هنا إلّا رسولين من رسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الملوك. قلت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا من أصحابه، وكتب معهم كتبا إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. فبعث دحية بن خليفة الكلبيّ إلى قيصر ملك الرّوم، وبعث عبد الله بن حذافة السّهميّ إلى كسرى ملك فارس، وبعث عمرو بن أميّة الضّمريّ إلى النّجاشيّ ملك الحبشة، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندريّة، وبعث عمرو ابن العاص السّهميّ إلى جيفر وعياذ ابني الجلندى الأزديّين ملكي عمان، وبعث سليط بن عمرو إلى ثمامة بن أثال وهوذة بن عليّ الحنفيّين ملكي اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرميّ إلى المنذر بن ساوى العبديّ ملك البحرين، وبعث شجاع بن وهب الأسديّ إلى الحارث بن أبي شمر الغسّانيّ ملك تخوم الشّام.

بعث دحية رضي الله عنه إلى قيصر ملك الروم

البحرين «1» ، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلمّا قرأه مزّقه. قال ابن المسيّب: فدعا عليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يمزّقوا كلّ ممزق «2» . [بعث دحية رضي الله عنه إلى قيصر ملك الرّوم] وفيهما-[أي: الصّحيحين]- عن ابن عبّاس أيضا رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبيّ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر، وهو ب (إيلياء) «3» ، فلمّا جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه: التمسوا لي ها هنا أحدا من قومه لأسألهم عنه. قال ابن عبّاس: فأخبرني أبو سفيان بن حرب أنّه كان ب (الشّام) في رجال من قريش قدموا تجارا في المدّة الّتي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفّار قريش، قال أبو سفيان: فوجدنا رسول قيصر ببعض (الشّام) ، فانطلق بي وبأصحابي، حتّى قدمنا (إيلياء) ، فأدخلنا عليه، فإذا هو جالس في مجلس ملكه، وعليه التّاج، وإذا حوله عظاماء الرّوم. فقال لترجمانه: سلهم: أيّهم أقرب نسبا إلى هذا الرّجل الّذي يزعم أنّه نبيّ؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم إليه نسبا، وليس في الرّكب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري. قال قيصر: أدنوه منّي، وأمر بأصحابي «4» فجعلوا/ خلف ظهري.

_ (1) هو: المنذر بن ساوى. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (2781) . (3) اسم مدينة ببيت المقدس. (4) أي: أصحاب أبي سفيان.

ثمّ قال لترجمانه: قل لأصحابه: إنّي سائل هذا الرّجل حديثا، فإن كذب فكذّبوه في وجهه. ثمّ قال لترجمانه: قل له كيف نسب هذا الرّجل فيكم؟، قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول أحد منكم قبله؟، قلت: لا. قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟، قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟، قلت: لا. قال: فأشراف النّاس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟، قلت: بل ضعفاؤهم. قال: فيزيدون أم ينقصون؟، قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتدّ أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟، قلت: لا. قال: فهل يغدر؟، قلت: لا، ونحن الآن في مدّة لا ندري ما يصنع. قال أبو سفيان: ولم يمكنّي كلمة أدخل فيها شيئا أنتقصه به لا أخاف أن تؤثر عنّي غيرها. قال: فهل قاتلتموه؟، قلت: نعم. قال: فكيف كان حربه وحربكم؟. قلت: كان دولا وسجالا «1» ، يدال علينا مرّة وندال عليه أخرى. قال: فماذا يأمركم؟، قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك

_ (1) تناوب النّصر والهزيمة.

به شيئا، وينهانا عمّا كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصّلاة والصّدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. فقال لترجمانه: قل له: إنّي سألتك عن نسبه فيكم؛ فزعمت أنّه فيكم ذو نسب، وكذلك الرّسل تبعث في نسب قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؛ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله، قلت: رجل يأتمّ- أي: يقتدي- بقول قد قيل قبله. وسألتك: هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؛ فزعمت أن لا، فعرفت أنّه لم يكن ليدع الكذب على النّاس ويكذب على الله. وسألتك: هل كان من أبائه من ملك؛ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك آبائه. وسألتك: أشراف النّاس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؛ فزعمت أنّ ضعفاءهم اتّبعوه، وهم أتباع الرّسل. وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون؛ فزعمت/ أنّهم يزيدون، وكذلك [أمر] الإيمان حتّى يتمّ. وسألتك: هل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؛ فزعمت أن لا، فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد. وسألتك: هل يغدر؛ فزعمت أن لا، وكذلك الرّسل لا يغدرون. وسألتك: هل قاتلتموه وقاتلكم؛ فزعمت أن قد فعل، وأنّ

حربه وحربكم يكون سجالا ودولا، يدال عليكم المرّة، وتدالون عليه الآخرى، وكذلك الرّسل تبتلى، ثمّ تكون لها العاقبة. وسألتك: بماذا يأمركم؛ فزعمت أنّه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عمّا كان يعبد أباؤكم، ويأمركم بالصّلاة والصّدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وهذه صفة نبيّ. وقد كنت أعلم أنّه خارج، ولكن لم أظنّ أنّه منكم، وإن يك ما قلت حقّا فيوشك أن يملك موضع قدميّ هاتين، ولو أرجو أنّي أخلص إليه لتكلّفت لقيّه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه. ثمّ دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الرّوم، سلام على من اتّبع الهدى، أمّا بعد: فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين- أي: الرّعايا-: ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران 3/ 64] . قال أبو سفيان: فلمّا انقضت مقالته، علت أصوات الّذين حوله من عظاماء الرّوم، وكثر لغطهم، فلا أدري ماذا قالوا، وأمر بنا فأخرجنا. قال أبو سفيان: والله، ما زلت ذليلا مستيقنا أنّ/ أمره سيظهر، حتّى أدخل الله الإسلام في قلبي وأنا كاره «1» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2782) . ومسلم (1773/ 74) .

فائدة: في أن حب الرئاسة هو الذي أضل هرقل

وزاد في رواية: أنّ هرقل جمع عظاماء الرّوم في دسكرة «1» ، وأمر بإغلاق أبوابها، وأشرف عليهم، وقال: يا معشر الرّوم، هل لكم في الفلاح والرّشد، وأن يثبت ملككم إلى الأبد؟ أن تبايعوا لهذا النّبيّ، فنفروا نفرة شديدة إلى الأبواب، فوجدوها قد غلّقت، فلمّا رآى هرقل نفرتهم، وأيس من إيمانهم، قال: ردّوهم عليّ، وقال: إنّي قلت مقالتي تلك أختبر بها شدّتكم على دينكم، وقد رأيت، فسجدوا له، ورضوا عنه «2» . فائدة [: في أنّ حبّ الرّئاسة هو الّذي أضلّ هرقل] لا تخفى حسن سياسة هرقل. وقوّة إدراكه، وثقوب فهمه، بما استدلّ به على صحّة نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم وصدقه، من البراهين الإقناعيّة لو ساعده التّوفيق، ولكن غلب عليه حبّ الرّئاسة، وهو الدّاء العضال الّذي غلب على إبليس فأبى واستكبر، مع سبق الشّقاوة، ولو وفّقه الله للهداية كما وفّق النّجاشيّ، لتلطّف لقومه في ظاهره، وآمن بقلبه، وأحسن إلى المسلمين بيده ولسانه، فجمع بين ملك الدّنيا والآخرة، ولكنّه ممّن أضلّه الله على علم، وكان منه ما سيأتي قريبا؛ من خروجه في محاربة الله ورسوله في قتال جعفر وأصحابه بغزوة (مؤتة) ، فأكرمهم الله تعالى بالشّهادة على يديه، وأشقاه. والعياذ بالله تعالى. رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران 3/ 8] .

_ (1) الدّسكرة: بناء كالقصر، حوله بيوت للأعاجم، فيها الشّراب والملاهي. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (7) .

غزوة خيبر

[غزوة خيبر] وفي أوّل السّنة السّادسة «1» في المحرّم: افتتح النّبيّ صلى الله عليه وسلم (خيبر) ، وهو اسم جامع لحصون وقرى؛ بينها وبين (المدينة) ثلاث مراحل. [سببها] لما سبق أنّ حييّ بن أخطب لحق بها، وحزّب قريشا والأحزاب. [الإغارة على خيبر وبشارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بفتحها] فسار إليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا نزل بساحتهم قال: «الله أكبر، خربت خيبر- أي: أهلها- إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح/ المنذرين» ، قالها ثلاثا «2» . [افتتاح حصونها] ثمّ أقبل على حصونها، يقاتلها ويفتتحها حصنا حصنا، حتّى انتهى إلى حصن لهم يسمّى السّلالم، وكان أعظمها وأوسعها أموالا، فحاصرهم بضع عشرة ليلة، واشتدّ الحصار عليه والقتال. وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد أخذته شقيقة «3» ، فلم يخرج إلى النّاس، فأخذ الرّاية أبو بكر فقاتل قتالا شديدا، ثمّ رجع ولم يفتح عليه، ثمّ أخذها عمر فقاتل قتالا شديدا، ثمّ رجع ولم يفتح عليه. [شأن عليّ رضي الله عنه] وكان عليّ رضي الله عنه قد تخلّف ب (المدينة) لرمد كان بعينيه، ثمّ لحق بالمسلمين، فلمّا كان مساء اللّيلة الّتي فتح الله في صباحها الحصن، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لأعطينّ الرّاية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله» .

_ (1) قلت: أرجح الأقوال أنّها كانت في صفر سنة سبع. والله أعلم. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (364) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (3) الشّقيقة: نوع من صداع يعرض في مقدّم الرّأس وإلى أحد جانبيه. [النّهاية، ج 2/ 492. (أنصاريّ) ] .

علي رضي الله عنه وباب الحصن

فبات النّاس ليلتهم يخوضون أيّهم يعطاها. قال عمر: ما أحببت الإمارة إلّا يومئذ. [علي رضي الله عنه وباب الحصن] فلمّا أصبحوا غدوا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلّهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين عليّ بن أبي طالب؟» ، قال الرّاوي: فإذا نحن بعليّ قد أقبل وما كنّا نرجوه، فقالوا: ها هو يشتكي عينيه، فدعاه وبصق في عينيه، فبرأ لوقته، حتّى كأن لم يكن به وجع، ثمّ أعطاه الرّاية «1» ، فتقدّم إلى الحصن، فأشرف عليه رجل من اليهود، فقال: من أنت؟، قال: أنا عليّ، قال: علوتم الآن وربّ موسى وهارون، فبرز له رئيسهم مرحب، فضرب ترس عليّ فطرحه، فتناول عليّ بابا كان عند الحصن فتترّس به، ثمّ ضرب رأس مرحب فقتله، ثمّ كان الفتح على يديه، ولم يزل الباب بيد عليّ رضي الله عنه إلى أن انقضى القتال، ثمّ طرحه «2» . قال أبو رافع [مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم] : فلقد رأيتني ثامن ثمانية نجهد أن نقلب ذلك الباب فلم نقلبه. [مصالحة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أهل خيبر] فلمّا أيقن أهل الحصن بالهلكة، استسلموا، وسألوا من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم، ففعل. وسمع بهم أهل (فدك) / فأرسلوا إليه يطلبون منه ذلك، ففعله لهم. فكانت (خيبر) غنيمة و (فدك) فيئا خالصة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، ممّا لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب.

_ (1) أخرجه البخاريّ (2847) . ومسلم (2407/ 35) . (2) الخبر في دلائل النّبوّة، ج 4/ 209. وعيون الأثر، ج 2/ 135.

قسمة غنائم خيبر

[قسمة غنائم خيبر] ثمّ قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين، وكانوا مئة فارس وأربع عشرة مئة راجل، فجعل للفارس ثلاثة أسهم؛ سهما له وسهمين لفرسه. ولم يغب أحد من أهل (الحديبية) عن (خيبر) إلّا جابر بن عبد الله، فأسهم له النّبيّ صلى الله عليه وسلم. [قدوم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وفرح النبي ص به] وقدم عليه جعفر في مهاجرة (الحبشة) بعد الوقعة، وقبل القسمة، فأسهم لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ولمّا أقبل جعفر، قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقبّل بين عينيه واعتنقه، وقال: «ما أدري بأيّهما أسرّ: بفتح (خيبر) أم بقدوم جعفر؟» «1» . [رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم] وحدث للمسلمين من فتح (خيبر) الرّخاء العظيم، وكانت مع المهاجرين منائح «2» من الأنصار، فردّوها عليهم. قال ابن عمر: ما شبعنا من التّمر حتّى فتحنا (خيبر) «3» [مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على النصف من أموالهم] وعامل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يهود (خيبر) على أن يعملوها، ويكفوا المسلمين مؤونتها ما داموا مشغولين بالجهاد، ولهم نصف ما يخرج منها من الثّمار. [خبر الشاة المسمومة] وأهدت امرأة من اليهود «4» للنّبيّ صلى الله عليه وسلم شاة مشويّة مسمومة، وطعاما مسموما، وأكثرت من السّمّ في الذّراع، لما بلغها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الذّراع، فلمّا أكلوا منها، ورفع النّبيّ صلى الله عليه وسلم الذّراع

_ (1) أخرجه البيهقيّ في «سننه» ، ج 7/ 101. (2) المنائح: (جمع منحة) ؛ وهي أن يعطيه ناقة أو شاة، ينتفع بلبنها ويعيدها. وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زمانا ثمّ يردّها. [النّهاية، ج 4/ 364. (أنصاريّ) ] . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4000) . (4) وهي: زينب بنت الحارث، امرأة سلّام بن مشكم، وابنة أخي مرحب.

زواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي رضي الله عنها

وأخذ منها لقمة في فمه ولم يبتلعها، قال: «إنّ هذا العظم ليخبرني أنّه مسموم» ، ولم يبتلع أحد من القوم لقمة إلّا بشر بن البراء، ثمّ دعا بالمرأة فاعترفت، فقال: «ما حملك على ذلك؟» ، قالت: إنّك بلغت من قومي ما لا يخفى عليك، فقلت: إن كان ملكا أرحت النّاس منه، وإن كان نبيّا لم يضرّه، فقال للقوم: «كلوا باسم الله» ، وتجاوز عنها، فأكلوا، ولم يضرّهم شيء، إلّا بشر فمات من لقمته/ الأولى، فلمّا مات قتلت به قصاصا «1» . قال أنس: فما زلت أعرف السّمّ في لهوات النّبيّ صلى الله عليه وسلم من أكلة (خيبر) «2» . [زواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حييّ رضي الله عنها] واصطفى صلى الله عليه وسلم من سبايا (خيبر) أمّ المؤمنين صفيّة بنت حييّ بن أخطب رضي الله عنها. وكانت يوم فتح (خيبر) عروسا على ابن عمّها، فرأت أنّ القمر وقع في حجرها، وقصّت رؤياها على زوجها، فلطمها على وجنتها لطمة خضرت منها عينها، وقال: ما هذا إلّا أنّك تتمنّين محمّدا ملك العرب، فقتل أبوها وزوجها يومئذ، وأتي بها إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبها أثر اللّطمة، فاستبرأها حيضة، وحلّت له على مرجعه إلى (المدينة) في أثناء الطّريق، فدخل بها، وأولم عليها، وأردفها خلفه على البعير، وكان صلى الله عليه وسلم يضع ركبته لها إذا أرادت أن تركب، فتضع رجلها على ركبته ثمّ تركب. ودخل (المدينة) وهو مردفها خلفه. قال ابن عمر: وما زال يعتذر إليها من قتل أبيها، ليذهب ما في نفسها رضي الله عنها.

_ (1) الخبر في «المستدرك» ، للحاكم، ج 3/ 219. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (2474) .

فائدة: في أحد وعير

فائدة [: في أحد وعير] وفي «الصّحيحين» ، أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا قدم (المدينة) راجعا من (خيبر) وبدا له (أحد) ، قال: «هذا جبل يحبّنا ونحبّه» «1» . زاد بعضهم: «وعير جبل يبغضنا ونبغضه» . قال المحققون: لا مانع من إسناد الحبّ الحقيقيّ إلى الجبل، كما سخّر الله الجبال لداود يسبّحن، وردّوا على من فسّره بأنّ المراد: هذا جبل قوم يحبّوننا ونحبّهم بقوله: «وعير جبل يبغضنا ونبغضه» ، وهو من جبال (المدينة) أيضا مقابل لأحد وما بينهما حرم. والله أعلم. [عمرة القضاء] وفي ذي القعدة من هذه السّنة-[أي: السّابعة]-: اعتمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء، وأقام ب (مكّة) ثلاثا. [زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها] ثمّ رجع فدخل بميمونة بنت الحارث الهلاليّة رضي الله عنها، عند منصرفه من (مكّة) ب (سرف) ، وهو مكان بين (التّنعيم ومرّ الظّهران) ، وبه ماتت رضي الله عنها، فقبرها هناك/. وفي «الصّحيحين» ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: تزوّج النّبيّ صلى الله عليه وسلم ميمونة في عمرة القضاء، وهو محرم، وبنى بها وهو حلال ب (سرف) ، وماتت ب (سرف) «2» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2732) . ومسلم برقم (1365/ 462) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4011) . ومسلم برقم (1410/ 46) .

وفد عبد القيس

[وفد عبد القيس] وفي السّنة السّابعة في رجب منها: قدم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من (البحرين) وفد عبد القيس «1» ، ورئيسهم الأشجّ، فلمّا دخلوا عليه، قال: «مرحبا بالقوم، غير خزايا ولا ندامى» «2» ، وأمرهم ونهاهم، ثمّ قال للأشجّ: «إنّ فيك خصلتين يحبّهما الله: الحلم والأناة» «3» . [بناء المنبر وحنين الجذع] وفيها-[أي: السّنة السّابعة] «4» -: اتّخذ النّبيّ صلى الله عليه وسلم المنبر، وكان قبله إذا خطب يستند إلى جذع نخلة، فلمّا عدل عن الجذع إلى المنبر سمعوا للجذع صوتا كصوت العشار «5» ، فارتجّ المسجد

_ (1) قلت: إنّ الّذي تبيّن لي أنّه كان لعبد القيس وفادتان؛ إحداهما: قبل الفتح، وكان ذلك سنة خمس. وثانيتهما: كانت في سنة الوفود، سنة تسع. (انظر «فتح الباري» ، ج 8/ 85) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4110) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. (3) أخرجه مسلم، برقم (17/ 25) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. الأناة: التّثبّت وترك العجلة. (4) قلت: جزم ابن سعد بأنّ ذلك كان في السّنة السّابعة، وفيه نظر لذكر العبّاس وتميم فيه؛ وكان قدوم العبّاس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع. وجزم ابن النّجّار بأنّ عمله كان سنة ثمان. وفيه نظر أيضا لما ورد في حديث الإفك في «الصّحيحين» ، عن عائشة، قالت: «فثار الحيّان الأوس والخزرج حتّى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل فخفضهم حتّى سكتوا» ، فإن حمل على التّجوّز في ذكر المنبر وإلّا فهو أصحّ ممّا مضى. وحكى بعض أهل السّير أنّه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتّخذ المنبر الّذي من خشب، ويعكّر عليه أنّ في الأحاديث الصّحيحة أنّه كان يستند إلى الجذع إذا خطب. (انظر «فتح الباري» ، ج 2/ 399) . (5) العشار: النّاقة الحامل الّتي مضت لها عشرة أشهر، ولا يزال ذلك اسمها إلى أن تلد.

غزوة مؤتة

لخواره، وكثر بكاء النّاس حتّى وضع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يده عليه فسكت، وقال: «إنّ هذا بكى لما فقد من ذكر الله، والّذي نفسي بيده، لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة» . ثمّ أمر به فدفن تحت المنبر «1» . [غزوة مؤتة] وفيها-[أي: السّنة الثّامنة]- في جمادى الأولى منها: كانت غزوة (مؤتة) - بضمّ الميم مهموزا وبفوقيّة- وهي قرية من قرى (البلقاء بالشّام) دون (دمشق) ، انتهت غزوتهم إليها، وأكرم الله عزّ وجلّ فيها زيدا وجعفرا وابن رواحة بالشّهادة. وكان من خبرها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث جيشا، وهم ثلاثة آلاف، وأمّر عليهم زيد بن حارثة، وقال: «إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة» «2» . [عدّة العدوّ، وتشاور المسلمين] فساروا إلى (الشّام) فلقيهم هرقل في مئتي ألف، فتشاور المسلمون في أن يراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمدّهم أو يأمرهم بأمره، فشجّعهم عبد الله بن رواحة، وقال: يا قوم، إنّما هي إحدى الحسنيين: إمّا النّصر، وإمّا الشّهادة، فقالوا: صدقت. [ابتداء القتال واستشهاد الأمراء الثّلاثة] فمضوا حتّى التقوا ب (مؤتة) ، فتقدّم زيد فقاتل بالرّاية حتّى قتل. فأخذها جعفر فقاتل قتالا شديدا، وهو فارس/، فلمّا أحاطوا به نزل عن فرسه فعقرها، فكان أوّل من عقر فرسا في الإسلام، ثمّ قاتل حتّى قطعت يمينه، فأخذ الرّاية بشماله، فقطعت أيضا، فاحتضن الرّاية بعضديه حتّى قتل. فعوّضه الله بهما جناحين يطير بهما في الجنّة. فسمّي الطّيّار. رواه التّرمذيّ والحاكم «3» .

_ (1) أخرجه الدّارمي، برقم (41) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4013) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (3) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 3/ 208. وأحمد في «مسنده» ، ج 1/ 204. عن ابن عمر رضي الله عنهما.

تولي خالد بن الوليد رضي الله عنه قيادة الجيش

وفي «البخاريّ» ، عن ابن عمر قال: كنت فيهم- في تلك الغزوة- فالتمسنا جعفرا، فوجدناه ما في جسده بضعا وتسعين طعنة من ضربة ورمية بسهم، ليس منها شيء في دبره «1» . ثمّ أخذ الرّاية عبد الله بن رواحة فوجد من نفسه كراهة للموت، فأنشد شعرا، [من الرّجز] «2» : يا نفس إلّا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنّيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت ثمّ قاتل حتّى قتل. [تولّي خالد بن الوليد رضي الله عنه قيادة الجيش] فأخذ الرّاية خالد بن الوليد من غير مشورة، وقاتل قتالا شديدا، ودافع عن المسلمين، حتّى انحاز بهم إلى جبل، ونجّاهم الله. ولم يستشهد منهم يومئذ إلّا ثمانية، منهم الأمراء الثّلاثة. [نعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم زيدا وجعفرا وابن رواحة] وفي «صحيح البخاريّ» ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نعاهم للنّاس يوم أصيبوا، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «أخذ الرّاية زيد فأصيب، ثمّ أخذها جعفر فأصيب، ثمّ أخذها ابن رواحة فأصيب» ، وعيناه تذرفان. وقال: «ما يسرّهم أنّهم عندنا» ، ثمّ قال: «ثمّ أخذ الرّاية سيف من سيوف الله تعالى، حتّى فتح الله عليهم» «3» أي: فرّج الله عنهم بسببه. وفيه-[أي: صحيح البخاريّ]- أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سلّم على عبد الله بن جعفر قال: السّلام عليك يا ابن ذي الجناحين «4» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4012- 4013) . في دبره: في ظهره. (2) ابن هشام، ج 3/ 379. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (2645- 4014) . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3506) .

فائدة: في تأويل الجناحين الذين لقب بهما جعفر

وفيه-[أي: صحيح البخاريّ]- عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: لقد انقطعت في يدي يوم (مؤتة) تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلّا صفيحة يمانيّة وهي العاشرة «1» /. فائدة [: في تأويل الجناحين الّذين لقّب بهما جعفر] قال السّهيليّ: (قد يتبادر- من ذكر الجناحين- إلى الذّهن أنّهما كجناحي الطّائر، وإنّما المراد أنّ جعفرا أعطي صفة الملائكة، وكذا أجنحة الملائكة، إنّما هي صفات لا تعلم حقيقتها) «2» . والله أعلم. [رثاء حسّان بن ثابت جعفرا رضي الله عنهما] وممّا رثى به حسّان جعفرا رضي الله عنهما قوله، [من الكامل] «3» : ولقد بكيت وعزّ مهلك جعفر ... حبّ النّبيّ على البريّة كلّها ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي ... من للجلاد لدى العقاب وظلّها «4» بالبيض حين تسلّ من أغمادها ... ضربا وإنهال الرّماح وعلّها بعد ابن فاطمة المبارك جعفر ... خير البريّة كلّها وأجلّها [فتح مكّة] وفي رمضان من هذه السّنة- وهي: الثّامنة-: كان فتح (مكّة) ،

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4017) . (2) الرّوض الأنف، ج 7/ 38. (3) ابن هشام، ج 3/ 386. (4) العقاب: اسم لراية الرّسول.

سبب الغزوة

ويسمّى: فتح الفتوح؛ لأنّ العرب كانت تنتظر بإسلامها إسلام قريش وفتح (مكّة) ، وتقول: هم أهل الحرم، وقد أجارهم الله تعالى من أصحاب الفيل وغيرهم، فإن سلّط الله عليهم محمّدا فهو رسول الله حقّا. فلمّا فتح الله (مكّة) على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل النّاس في دين الله أفواجا، كما وعد الله نبيّه ذلك، وجعل ذلك علامة قرب أجله، بقوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخر السّورة [سورة النّصر 110/ 1] . [سبب الغزوة] وسبب غزوة الفتح انتقاض صلح (الحديبية) ، وأنّ خزاعة كان بينها وبين بني بكر عداوة، وكانت خزاعة دخلت يوم صلح (الحديبية) في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا عيبة «1» نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلمهم وكافرهم، لأنّهم كانوا في الجاهليّة حلفاء لبني هاشم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، فمكثوا على ذلك نحو ثمانية عشر شهرا، ثمّ بيّتت «2» بنو بكر خزاعة في شعبان، على ماء لهم يسمّى الوتير من ناحية (عرنة) ، وأعانتهم قريش مختفين في سواد اللّيل، فقتلوا رجالا من خزاعة، فركب عمرو بن سالم الخزاعيّ ثمّ الكعبيّ إلى رسول الله/ صلى الله عليه وسلم، فوقف عليه وهو في المسجد بين ظهراني النّاس، وأنشده، [من الرّجز] «3» : يا ربّ إنّي ناشد محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا «4»

_ (1) العيبة: موضع السّرّ. وأراد هنا: أن بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم موادعة ومكافّة عن الحرب، تجريان مجرى المودّة الّتي تكون بين المتصافين الّذين يثق بعضهم ببعض. (2) بيّتت: أوقعت بنو بكر بخزاعة ليلا بغتة. (3) ابن هشام، ج 3/ 394. (4) الأتلدا: القديم.

قدوم أبي سفيان ليجدد الصلح

فانصر هداك الله نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا «1» فيهم رسول الله قد تجرّدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا «2» إنّ قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكّدا وبيّتونا ركّعا وسجّدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذلّ وأقلّ عددا ... هم بيّتونا بالوتير هجّدا وقتلونا ركّعا وسجّدا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت يا عمرو» «3» . [قدوم أبي سفيان ليجدّد الصّلح] فبينما هو عندهم إذ قدم أبو سفيان بن حرب من (مكّة) يريد تجديد العهد والزّيادة في مدّة الصّلح. فأبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردّه، فانصرف. ولعلّ أبا سفيان لمّا أدخل في حديث هرقل: ونحن منه في مدّة لا ندري ما هو صانع؛ عوقب بإدخال الغدر عليه من جهته. [تهيّؤ النّبيّ صلى الله عليه وسلم للغزو وكتمانه الأمر] ثمّ إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا دخل رمضان آذن النّاس بالجهاز إلى (مكّة) وآذن من حوله من الأعراب، وقال: «اللهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها» «4» . [أمر حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه] وفي «الصّحيحين» عن عليّ رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزّبير والمقداد فقال: «انطلقوا حتّى تأتوا (روضة خاخ)

_ (1) أعتدا: حاضرا. (2) تجرّد: شمرّ للحرب. الفيلق: الكتيبة العظيمة والعسكر الكثير. مزبد: جيش مائج كالبحر. (3) أخرجه البيهقيّ في «سننه» ، ج 9/ 233. (4) أخرجه البيهقيّ في «الدّلائل» ، ج 5/ 12.

خروج النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ولقاؤه العباس في الطريق

- أي: بمعجمة مكرّرة-، فإنّ بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» ، فأدركناها، فأخذناه منها، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين ب (مكّة) ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له [رسول الله صلى الله عليه وسلم] : «ما حملك على هذا؟» ، فقال: أحببت أن يكون لي عندهم يد. فصدّقه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعذره/ رضي الله عنه «1» . [خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم لفتح مكّة ولقاؤه العبّاس في الطّريق] وخرج صلى الله عليه وسلم لعشر مضين من رمضان، فلمّا بلغ (الجحفة) لقيه عمّه العبّاس مهاجرا بأهله وبيته- وقد كان أسر يوم (بدر) وفادى بنفسه وأسلم، واستأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقيم ب (مكّة) على سقايته، فأذن له- فردّ عمّه معه. [إسلام أبي سفيان بن الحارث رضي الله عنه] ولقيه أيضا ابن عمّه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، فأسلم، واعتذر إليه ممّا كان جرى منه، فعذره، وردّه معه. [اعتذار أبي سفيان بن الحارث عمّا كان منه قبل إسلامه] وأنشد أبو سفيان شعرا، [من الطّويل] «2» :

_ (1) أخرجه البخاريّ، (2845- 2915) . ومسلم (2494/ 161) . قلت: قال أبو شهبة- رحمه الله-: لا بدّ من وقفة هنا؛ فما كان حاطب منافقا، ولا ضعيف الإيمان، بتزكية الرّسول له. ولكنّ في النّفس الإنسانيّة جوانب ضعف تطغى عليها في بعض الأحيان، وتهوي بها إلى ما لا ترضاه لنفسها، وكلّ بني آدم خطّاء، وما كان هذا الضّعف الإنسانيّ ليخفى على صاحب القلب الكبير، والقوي الأمين، صاحب الخلق العظيم، فلا تعجب إذا كان الرّسول صدّقه فيما قال، ورحم ضعفه، ونافح عنه، والقوي حقّا هو الّذي يرحم الضّعفاء، والعظيم حقّا هو الّذي يلتمس المعاذير لمن يستزلهم الشّيطان في غفوة من صدق الإيمان ووازع الضّمير. (السّيرة النّبويّة، ج 2/ 438- 439) . (2) ابن هشام، ج 3/ 401.

نزول النبي صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وتحسس قريش عليه

لعمرك إنّي يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللّات خيل محمّد لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى وأهتدي «1» هداني هاد غير نفسي ودلّني ... على الحقّ من طرّدت كلّ مطرّد أصد وأنأى جاهدا عن محمّد ... وأدعى وإن لم أنتسب من محمّد [نزول النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ الظّهران، وتحسّس قريش عليه] ثمّ مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى نزل (مرّ الظّهران) في عشرة آلاف، فأدركت العبّاس الرّقّة لقريش، فركب بغلة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في اللّيل بإذنه، رجاء أن يصادف أحدا يبعثه إلى قريش، فيطلبوا الأمان من النّبيّ صلى الله عليه وسلم. فلقي أبا سفيان بن حرب في نفر من قريش، وقد كانوا خرجوا يتحسّسون الأخبار، فرأوا نيران الجيش واستنكروها، حتّى قال أبو سفيان: والله لكأنّها نيران أهل (عرفة) ، ولا شعور لهم بمخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم. فأخبرهم العبّاس الخبر، فقال له أبو سفيان: فما الحيلة؟ قال: الحيلة أن تردّ من معك ليخبروا أهل (مكّة) ، وتركب أنت معي حتّى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك. [إسلام أبي سفيان على يد العبّاس رضي الله عنهما] فركب معه ورجع أصحابه، فلمّا انتهى به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال للعبّاس: «اذهب به إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به» ، فلمّا أصبح جاء به، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألم يأن لك يا أبا سفيان/ أن تسلم؟» ، قال: بلى، بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك وأرحمك، وأسلم. فقال له العبّاس: يا رسول الله، إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر والخيلاء، فاجعل له شيئا، فقال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن» «2» . [عرض جيوش الرّسول صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان] وفي «صحيح البخاريّ» ، أنّه صلى الله عليه وسلم قال للعبّاس: «احبس

_ (1) المدلج: الّذي يسير باللّيل. (2) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 6/ 166.

دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة

أبا سفيان عند حطم الخيل «1» ، حتّى ينظر إلى جنود الله» ، فحبسه. ثمّ سار النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعلت الكتائب تمرّ كتيبة كتيبة، حتّى مرّت به كتيبة لم ير مثلها قطّ، فقال: يا عبّاس من هؤلاء؟، فقال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الرّاية، وهو يقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ (الكعبة) . ثمّ جاءت كتيبة وهي أقلّهم عددا، وأجلّهم قدرا، فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم ووزراؤه من خواصّ المهاجرين، والرّاية مع الزّبير بن العوّام. فقال أبو سفيان للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألم تسمع إلى ما قال سعد بن عبادة؟، قال: «ما قال؟» ، قال: قال: اليوم تستحلّ (الكعبة) . فقال: «كذب سعد، ولكن: هذا يوم تعظّم فيه (الكعبة) » «2» . وأمر صلى الله عليه وسلم الزّبير أن يركز رايته ب (الحجون) . وتفرّق أهل (مكّة) ، فمنهم من لجأ إلى المسجد، ومنهم من أغلق عليه داره. [دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة] ودخل صلى الله عليه وسلم من أعلى (مكّة) ، وذلك لعشر بقين من رمضان المعظّم، ولم يعرض له قتال. [دخول المسلمين مكّة] وأمر خالد بن الوليد في جمع من المهاجرين أن يدخلوا من أسفلها، فعرض لهم عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أميّة، وسهيل بن عمرو؛ في جمع من قريش، فهزمهم خالد، وقتل منهم ثلاثة عشر رجلا، وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمرائه أن لا يقتلوا إلّا من قاتلهم.

_ (1) حطم الخيل: المكان النّاتئ منه في الطّريق، ليتمكّن من رؤية الجيش كلّه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4030) .

إهدار النبي صلى الله عليه وسلم دماء نفر من المشركين

[إهدار النّبيّ صلى الله عليه وسلم دماء نفر من المشركين] إلّا أنّه أمر بقتل جماعة سمّاهم «1» ، فقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة» «2» . وفي «صحيح البخاريّ» ، أنّ رجلا/ أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ ابن خطل متعلّق بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه» «3» . وزاد أحمد والبيهقيّ: فقتل وهو متعلّق بأستار الكعبة «4» . [إجارة أمّ هانئ رضي الله عنها رجلين من قريش] وفي «الصّحيحين» أنّ أمّ هانىء أجارت ابن هبيرة، فأراد عليّ قتله، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أمّ هانىء» «5» . قلت: وفي هذا دليل على أنّ حرمة المؤمن عند الله ورسوله أشدّ من حرمة (الكعبة) المعظّمة. [طواف النّبيّ ص بالبيت العتيق وتطهيره المسجد من الأصنام] ثمّ دخل صلى الله عليه وسلم المسجد، وهو راكب راحلته، منكّس رأسه تواضعا لله تعالى، فطاف بالبيت سبعا راكبا، يستلم الرّكن بمحجن «6» في يده. وكان حول البيت ثلاث مئة وستّون صنما، مثبّتة بالرّصاص، فجعل صلى الله عليه وسلم يطعنها بالمحجن ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [سورة الإسراء 17/ 81] .

_ (1) وهم: عبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السّرح، وعكرمة بن أبي جهل. (2) أخرجه النّسائيّ، برقم (3999) . عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (1749) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (4) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 6/ 167. عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (350) . ومسلم برقم (336/ 82) ، بنحوه. (6) المحجن: العصا المعوجّة الرّأس.

دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة وكسر الأوثان وطمس الصور

فما أشار إلى وجه صنم إلّا وقع إلى قفاه، ولا إلى قفاه إلّا وقع لوجهه. [دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة وكسر الأوثان وطمس الصّور] ولمّا فرغ من طوافه دعا بالمفتاح، وكان بيد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن شيبة بن عبد الدّار، وبيد ابن عمّه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن شيبة بن عبد الدّار بن قصيّ، ففتح البيت، ودخل، وصلّى فيه ركعتين، وكبّر في نواحيه، ودعا، وكسر ما فيه من الأوثان، وطمس الصّور، وأخرج مقام إبراهيم عليه السّلام. [إعطاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى أهله] فسأله العبّاس رضي الله عنه أن يجمع له سدانة البيت إلى السّقاية «1» ، فنزل جبريل عليه السّلام بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها الآية [سورة النّساء 4/ 58] . فخرج وهو يتلوها، فدعا عثمان وشيبة فأعطاهما المفتاح، وقال: «خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلّا ظالم» «2» . [خطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة] ثمّ قام صلى الله عليه وسلم على باب (الكعبة) وقال: «لا إله إلّا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده» . ثمّ قال: «يا معشر قريش؛ ما ترون أنّي فاعل بكم؟» ، قالوا: خيرا، أخ كريم/ وابن أخ كريم، فقال: «اذهبوا فأنتم الطّلقاء، [أقول كما قال يوسف] : لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [سورة يوسف 12/ 92] » . ثمّ قال: «يا معشر قريش، إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة

_ (1) السّدانة: خدمة البيت وتولّي أمره. السّقاية: سقي الحجيج من الزّبيب المنبوذ في الماء. (2) عيون الأثر، ج 2/ 178.

خطبة النبي صلى الله عليه وسلم غداة الفتح

الجاهليّة وتعظّمها بالآباء، النّاس من آدم، وآدم من تراب» ، ثمّ تلا: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «1» [سورة الحجرات 49/ 13] . [خطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم غداة الفتح] وفي «صحيح البخاريّ ومسلم» ، أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ (مكّة) حرّمها الله ولم يحرّمها النّاس، فلا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، فإن أحد ترخّص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنّما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلّغ الشّاهد منكم الغائب» «2» . وفيها-[أي: السّنة الثّامنة]-: كانت غزوة حنين وأوطاس، ثمّ غزوة الطائف، ووفد هوازن، وعمرة الجعرانة، ومولد إبراهيم، وكسوف الشّمس. [غزوة حنين] أمّا غزوة حنين: فإنّه صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ من الفتح بلغه أنّ هوازن أقبلت لحربه في أربعة آلاف، عليهم مالك بن عوف النّصريّ- بمعجمة- فأجمع صلى الله عليه وسلم على المسير إليهم، وأرسل إلى صفوان بن أميّة ليستعير منه السّلاح، وكان صفوان لمّا عرض عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإسلام، قال: أمهلني شهرا أرى فيه رأيي، قال: «قد أمهلتك أربعة أشهر» ، وكان عنده مئة درع، فقال: أغصبا يا محمّد؟

_ (1) أخرجه أحمد في «مسنده» ، ج 2/ 11. والتّرمذيّ، برقم (3270) . عن ابن عمر رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (1735) . ومسلم برقم (1354/ 446) . عن أبي شريح العدويّ رضي الله عنه.

خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى حنين

قال: «لا، بل عاريّة مضمونة» «1» ، فأعطاه مئة درع مع ما يتبعها من السّلاح. [خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة إلى حنين] ثمّ خرج صلى الله عليه وسلم بجيش الفتح وألفين ممّن أسلم بعد الفتح، وكان مدّة إقامته ب (مكّة) بعد الفتح نحو ثمانية عشر يوما، وكان يقصر فيها الصّلاة. [هزيمة المسلمين، وثبات النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه] فلمّا انتهى إلى (حنين) وهو واد بين (مكّة والطّائف) ، في غلس الصّبح، وجد المشركين قد سبقوه إليه، وكمنوا في شعابه، فلمّا توسّط المسلمون في الوادي، / شدّ المشركون عليهم شدّة رجل واحد، فانشمر «2» المسلمون راجعين، لا يلوي منهم أحد على أحد، وكان سبب الهزيمة مسلمي الفتح. وثبت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وثبت معه جماعة من أهل بيته، منهم: عمّه العبّاس وابنه الفضل، وعليّ بن أبي طالب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، وأخوه ربيعة. ومن المهاجرين أبو بكر وعمر رضي الله عنهم. وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، أنّ رجلا قال للبراء بن عازب رضي الله عنهما: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم (حنين) ؟، قال: لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ، ولقد رأيته على بغلته البيضاء، وابن عمّه أبو سفيان آخذ بزمامها، وهو يقول: «أنا النّبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب» «3»

_ (1) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (14878) . عن صفوان بن أميّة رضي الله عنه. العارية: إعارة المنافع من غير عوض. (2) انشمر: انفضّ وانهزم. (3) أخرجه البخاريّ، (2709- 2877) . ومسلم (1776/ 80) . قلت:

عودة المسلمين واحتدام القتال

فما رئي في النّاس يومئذ أشدّ منه. وروى ابن إسحاق عن العبّاس رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم (حنين) ، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث، فلم نفارقه. [عودة المسلمين واحتدام القتال] فلمّا التقى الجمعان، ولّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته «1» قبل الكفّار، قال عبّاس: وأنا آخذ بلجام بغلته، أكفّها إرادة أن لا تسرع، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عبّاس، ناد أصحاب السّمرة» - أي: أهل بيعة الرّضوان- وكان العبّاس صيّتا «2» ، فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السّمرة؟، فقالوا: يا لبّيك، يا لبّيك، فو الله لكأنّ عطفتهم عليّ حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فاقتتلواهم والكفّار، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتالهم، فقال: «هذا حين حمي الوطيس» «3» . [رمي النّبيّ صلى الله عليه وسلم المشركين بالحصى] ثمّ أخذ صلى الله عليه وسلم كفّا من الحصباء فرمى به وجوه الكفّار، وقال: «شاهت الوجوه» ، فما خلق الله منهم إنسانا إلّا ملئت عينه ترابا من تلك القبضة، فولّوا مدبرين، وهزمهم الله. [ما نزل من القرآن في يوم حنين] وأنزل الله في ذلك: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ

_ وقد انتسب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لجدّه لأنّه كان أشهر وأذكر عند العرب، أمّا أبوه فقد مات وهو شابّ. (1) يركض بغلته: يضربها برجله الشّريفة على كبدها لتسرع. (2) صيّتا: شديد الصّوت، عاليه. (3) أخرجه مسلم، برقم (1775) . الوطيس: الضّراب في الحرب، ولم يسمع هذا الكلام من أحد قبل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عبّر به عن اشتباك الحرب وقيامها على ساق.

شماتة أهل مكة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، وكانوا قالوا: لن نغلب اليوم من قلّة فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ/ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ- أي: مع سعتها- ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [سورة التّوبة 9/ 25- 26]- أي: جبريل: بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ- أي: معلّمين-. [شماتة أهل مكّة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه] ولمّا انهزم المسلمون شمت بهم كثير من مسلمي الفتح «1» ، فقال أخ لصفوان بن أميّة من أمّه «2» : اليوم بطل سحر محمّد، فقال له صفوان: اسكت، فضّ الله فاك- أي: كسره الله- فو الله لأن يربّني- أي: يسودني- رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن. [محاولة شيبة قتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ إسلامه] وعن شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدريّ رضي الله عنه قال: استدبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم (حنين) لأقتله، فأطلعه الله على ما في نفسي، فالتفت إليّ، فضرب بيده على صدري، وقال: «أعيذك بالله يا شيبة» «3» . فارتعدت فرائصي، فرفع يده، وهو أحبّ إليّ من سمعي وبصري، وقلت: أشهد أنّك رسول الله، وأنّ الله قد أطلعك على ما في نفسي. [سريّة أوطاس] وأمّا بعث أبي عامر الأشعريّ إلى (أوطاس) ، وكانت هوازن قد خرجت معها بأهليها وأموالها، فلمّا انهزموا انحاز منهم طائفة

_ (1) كانوا حديثي عهد بالإسلام. (2) وهو: كلدة بن الحنبل. (3) أخرجه البيهقيّ في «الدّلائل» ، ج 5/ 145. بنحوه.

بالأهل والمال إلى ناحية (أوطاس) ، عليهم دريد بن الصّمّة، فبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبا عامر الأشعريّ في جيش من المسلمين في آثارهم، فأدركوهم، فناوشوهم القتال، فاستشهد أبو عامر بعد أن قتل تسعة إخوة، فقتله عاشرهم، فأخذ الرّاية منه ابن أخيه أبو موسى الأشعريّ باستخلاف منه، ففتح الله على يديه، وقتل قاتل أبي عامر، وهزمهم، وغنم أموالهم، وكانت سباياهم من النّساء والصّبيان نحو ستّة آلاف، وأمّا الإبل والغنم فلا تحصر عددا، فأمر بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحبست له ب (الجعرانة) . وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: لمّا فرغ النّبيّ صلى الله عليه وسلم من (حنين) بعث أبا عامر على جيش إلى (أوطاس) ، فلقي دريد- أي: مصغّرا- ابن الصّمّة، فقتل/ دريد، وهزم الله أصحابه، قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر، فرمي أبو عامر في ركبته بسهم، فأثبته في ركبته فانتهيت إليه فقلت: يا عمّ، من رماك؟، فقال: ذاك قاتلي، فقصدت إليه، فقتلته، ثمّ قلت لأبي عامر: قد قتل الله صاحبك، فقال: فانزع هذا السّهم، وأقرىء النّبيّ صلى الله عليه وسلم عنّي السّلام، وقل له يستغفر لي، واستخلفني أبو عامر على النّاس، ثمّ مات، فرجعت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فدعا بماء فتوضّأ، ثمّ رفع يديه حتّى رأيت بياض إبطيه، فقال: «اللهمّ اغفر لعبيد أبي عامر، اللهمّ اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من النّاس» ، فقلت: ولي يا رسول الله فاستغفر، فقال: «اللهمّ اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما» «1» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4068) . ومسلم برقم (2498/ 165) .

غزوة الطائف

[غزوة الطّائف] وأمّا غزوة الطّائف: فإنّه صلى الله عليه وسلم توجّه إليها لقتال من شرد إليها من (حنين) ، ومرّ على طريقه بحصن مالك بن عوف النّصريّ السّابق ذكره، قائد هوازن، فهدمه، ثمّ ارتحل، فحاصر أهل (الطّائف) بضعا وعشرين ليلة من شهر شوّال، وقاتلهم قتالا شديدا، فلم يظفر بهم، بعد أن رماهم بالمنجنيق، وحرّق أعنابهم، فلمّا انصرف قيل له: ادع عليهم، فقال: «اللهمّ اهد ثقيفا وائت بهم» «1» . فهداهم الله بدعوته، فأتوا إلى (المدينة) مسلمين، بعد أن تقدّم قبلهم مالك بن عوف فأسلم، ثمّ رجع إليهم، فدعاهم إلى الله، وأتى بهم إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم مسلمين، ومن شعر مالك بن عوف حين أسلم، [من الكامل] «2» : ما إن «3» رأيت ولا سمعت بمثله ... في النّاس كلّهم كمثل محمّد أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدي ... ومتى تشأ يخبرك عمّا في غد وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها ... بالسّمهريّ وضرب كلّ مهنّد «4» فكأنّه ليث على أشباله ... وسط الهباءة خادر في مرصد «5» [ارتحال المسلمين] وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، عن عبد الله بن عمر بن

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3942) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (2) ابن هشام، ج 3/ 491. (3) إن: زائدة للتوكيد، والمعنى: ما رأيت ما رأيت. (4) عرّدت أنيابها: قويت واشتدّت. السّمهريّ: الرّمح. المهنّد: السّيف. (5) الهباءة: الغبار يثور عن اشتداد الحرب. الخادر: الأسد في عرينه. يصفه بالقوّة، لأنّه حينئذ يكون شديد البأس لخوفه على أشباله. المرصد: المكان الّذي يرقب منه. ويصفه باليقظة والانتباه.

نزوله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وقسم الغنائم

الخطّاب رضي الله/ عنهما قال: لمّا حاصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم (الطّائف) ، فلم ينل منهم شيئا، قال: «إنّا قافلون غدا إن شاء الله» ، فثقل ذلك على أصحابه، وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟، فقال: «اغدوا على القتال» فغدوا، فأصابهم جراح، فقال: «إنّا قافلون غدا إن شاء الله» ، فأعجبهم ذلك، فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم «1» . [نزوله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وقسم الغنائم] ولمّا رجع صلى الله عليه وسلم من (الطّائف) نزل ب (الجعرانة) فقسم بها غنائم (حنين) ، وأعطى جماعة من الرؤساء والمؤلّفة قلوبهم مئة مئة من الإبل، منهم من قريش: أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أميّة. ومن غير قريش: عيينة بن حصن الفزاريّ، والأقرع بن حابس. [العبّاس بن مرداس يسخط عطاءه، ويعاتب النّبيّ ص فيه] وأعطى [صلى الله عليه وسلم] العبّاس بن مرداس الشّاعر خمسين من الإبل، فسخطها، إذ لم يجعله كعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وأنشد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبياتا يقول فيها، [من المتقارب] «2» : أتجعل نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع «3» وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرىء منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع فأكمل له النّبيّ صلى الله عليه وسلم مئة. [توزيع الغنائم على سائر المسلمين] وأمّا الغنم: فأعطى منها بغير عدد، حتّى أنّ أعرابيا رأى غنما بين جبلين، فقال: ما أكثر هذه الأغنام؟، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «هي لك» ، فأتى بها قومه، وقال لهم: أسلموا، فو الله إنّ محمّدا

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4070) . ومسلم برقم (1778/ 82) . (2) ابن هشام، ج 3/ 493. (3) العبيد: اسم فرس عبّاس بن مرداس.

أمر ذي الخويصرة التميمي

ليعطي عطاء من لا يخاف الفقر «1» . وفي «الصّحيحين» ، أنّه صلى الله عليه وسلم نادى قبل القسمة: «من أقام بيّنة على قتيل قتله فله سلبه» ، قال أبو قتادة: فقمت ألتمس بيّنة على قتيلي، فلم أر أحدا يشهد لي فجلست، ثمّ بدا لي، فذكرت أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: سلاح هذا القتيل الّذي يذكر عندي، فأرضه منه، فقال أبو بكر- وعند أحمد: فقال عمر- وجمع بينهما بأنّ كلّا منهما قال: كلّا والله، لا نعطيه أضيبعا «2» من قريش- تصغير ضبع/ بمعجمة- وندع أسدا من أسود الله يقاتل عن الله ورسوله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدّاه إليّ «3» . ولمّا قسم هذه المقاسم، وأعطى هذه العطايا، شرهت أنفس الأعراب وجفاة العرب، مع ضعف إيمانهم حينئذ إلى المال، فألحّوا عليه صلى الله عليه وسلم في السّؤال، حتّى اضطرّوه إلى سمرة فخطفت رداءه، فقال: «أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه «4» نعما لقسمته بينكم، ثمّ لا تجدوني بخيلا ولا كذّابا ولا جبانا» . رواه البخاريّ «5» . [أمر ذي الخويصرة التّميميّ] وروى أيضا-[أي: البخاريّ]- أنّ أعرابيا قال: اعدل، فقال: «ويحك! إن لم أعدل فمن يعدل وأنا حرّ؟!» ، قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي موسى، قد

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (2312/ 58) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) يروى بالضّاد المعجمة والعين المهملة؛ تصغير ضبع على غير قياس تحقيرا له. وقد ذكره البخاريّ بلفظ: «أصيبغ» ، وهو نوع من الطيور ضعيف؛ يصفه بالعجز والضّعف والهوان. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4067) . (4) العضاه: شجر عظيم له شوك. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (2666) . عن جبير بن مطعم رضي الله عنه.

مقالة الأنصار بشأن الغنائم وخطبة النبي صلى الله عليه وسلم فيهم

أوذي بأكثر من هذا فصبر» «1» . [مقالة الأنصار بشأن الغنائم وخطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم] وكان صلى الله عليه وسلم وكل الأنصار إلى إيمانهم، فلم يعطهم من هذه المقاسم شيئا، فوجدوا وجدا شديدا، ووقع في أنفسهم ما لم يقع قبل ذلك. وأنشده حسّان بن ثابت في ذلك قوله، [من البسيط] «2» : [زادت هموم] فدمع العين ينحدر ... سحّا إذا حفّلته عبرة درر «3» وأت الرّسول فقل يا خير مؤتمن ... للمؤمنين إذا ما عدّد البشر علام تدعى سليم وهي نازحة ... قدّام قوم هم آووا وهم نصروا سمّاهم الله أنصارا لنصرهم ... دين الهدى وعوان الحرب تستعر «4» وسارعوا في سبيل الله واعترفوا ... للنّائبات وما خاموا وما ضجروا «5» والنّاس ألب علينا فيك ليس لنا ... إلّا السّيوف وأطراف القنا وزر «6»

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2981) . عن ابن مسعود رضي الله عنه. والأعرابيّ هو: ذو الخويصرة حرقوص بن زهير. (2) ابن هشام، ج 3/ 497- 498. (3) سحّ: سال. حفلته: جمعته. عبرة درر: دمعة سائلة. (4) الحرب العوان: الّتي قوتل فيها مرّة بعد أخرى. تستعر: تشتدّ وتشتعل. (5) خاموا: جبنوا. (6) ألب: مجتمعون. الوزر: الملجأ.

فائدة: في سبب حجب النبي ص أموال هوازن عن الأنصار

نجالد النّاس لا نبقي على أحد ... ولا نضيّع ما توحي به السّور ثمّ إنّه صلى الله عليه وسلم جمعهم وخطبهم، واعتذر إليهم، حتّى طابت أنفسهم. كما رواه البخاريّ ومسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال ناس من الأنصار حين طفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالا من أموال هوازن المئة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشا/ ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس: فحدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبّة من أدم، ولم يدع معهم أحدا غيرهم، فلمّا اجتمعوا قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «ما حديث بلغني عنكم؟» ، فقال فقهاء الأنصار: أمّا رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا، وأمّا أناس منّا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألّفهم، أما ترضون أن يذهب النّاس بالأموال وتذهبوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الله لما تنقلبون به خير ممّا ينقلبون به» ، فقالوا: قد رضينا يا رسول الله «1» . فائدة [: في سبب حجب النّبيّ ص أموال هوازن عن الأنصار] قوله: (لم يعط الأنصار شيئا) ، أي: أنّه لم يعط الأنصار شيئا من أصل الغنيمة، لا من الخمس الّذي أعطى منه المؤلّفة قلوبهم. قال العلماء: وسببه أنّهم كانوا انهزموا، فلم يرجعوا إلّا وقد

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4076) . ومسلم برقم (1059/ 132) .

قدوم وفد هوازن مسلمين، ورد النبي صلى الله عليه وسلم سباياهم

انهزم الكفّار، فردّ الله أمر الغنيمة إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم، ففعل فيها ما فعل للتّأليف، ووكل الأنصار إلى إيمانهم. والله أعلم. [قدوم وفد هوازن مسلمين، وردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سباياهم] ثمّ إنّ وفد هوازن جاؤوا بعد قسمة غنائمهم مسلمين، ومناشدين للنّبيّ صلى الله عليه وسلم برضاعه فيهم أن يردّ عليهم غنائمهم، وأنشدوه في ذلك أشعارا منها، [من البسيط] «1» : أمنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من مخضها الدّرر لا تجعلنّا كمن شالت نعامته ... واستبق منّا فإنّا معشر زهر ذكره ابن إسحاق مطوّلا، وأشار إليه البخاريّ بقوله في أبواب فرض الخمس، باب: ومن الدّليل على أنّ الخمس لنوائب المسلمين، ما سأل هوازن النّبيّ صلى الله عليه وسلم برضاعه فيهم. وأتته أيضا أمّه وأخته من الرّضاعة: حليمة السّعديّة وبنتها الشّيماء، فبسط لهما رداءه وأجلسهما عليه ورقّ لهما صلى الله عليه وسلم. وروى البخاريّ في «صحيحه» ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم/ قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يردّ عليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم: «إنّ معي من ترون، وإنّ أحبّ الحديث إليّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطّائفتين: إمّا المال وإمّا السّبي» ، فقالوا: إنّا نختار سبينا، فقام رسول الله في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثمّ قال: «أمّا بعد: فإنّ إخوانكم قد جاؤوا تائبين، وإنّي قد رأيت أن أردّ إليهم سبيهم، فمن أحبّ أن يطيّب «2» ذلك

_ (1) من قول: زهير بن صرد الجشميّ السّعديّ. (2) يطيّب: يحلّل ويبيح. وطابت نفسه بالشّيء: إذا سمحت به من غير كراهة ولا غضب.

عمرة الجعرانة واستخلاف النبي صلى الله عليه وسلم عتابا على الحج

فليفعل، ومن أحبّ أن يكون على حظّه حتّى نعطيه إيّاه من أوّل ما يفيء الله علينا فليفعل» ، فقال النّاس: قد طيّبنا ذلك يا رسول الله «1» . [عمرة الجعرانة واستخلاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم عتّابا على الحجّ] ثمّ انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من (الجعرانة) محرما بعمرة في ذي القعدة، فدخل (مكّة) فقضى نسكه، واستخلف على (مكّة) عتّاب- بتشديد الفوقيّة- ابن أسيد- بفتح الهمزة- فحجّ بالنّاس في تلك السّنة-[أي: الثّامنة]- ثمّ انصرف إلى (المدينة) فدخلها في آخر ذي القعدة. [خبر ولادة إبراهيم ابن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ووفاته] وولد له في ذي الحجّة ولده إبراهيم، فعاش نحو ثلاثة أشهر، وكسفت الشّمس يوم موته، في ربيع الأوّل من سنة تسع «2» . وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليه في مرضه فوجده يجود بنفسه، فجعلت عيناه تذرفان، فقال له عبد الرّحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟، فقال له: «يا ابن عوف، إنّها رحمة، جعلها الله في قلوب عباده» ، ثمّ أتبعها بأخرى، وقال: «إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يرضي ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» «3» . وقال: «إنّ له مرضعا في الجنّة» «4» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2402) . عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه. (2) قلت: ولد إبراهيم في شهر ذي الحجّة سنة ثمان، ومات وهو ابن ستّة عشر شهرا، في ربيع الأوّل سنة عشر. (انظر «مسند أحمد» ، ج 4/ 283) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (1241) . ومسلم برقم (2315/ 62) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (1316) . عن البراء بن عازب رضي الله عنهما.

عام الوفود

وفيهما-[أي: صحيحي البخاريّ ومسلم]- أنّ النّاس قالوا: كسفت الشّمس لموت إبراهيم، فنهاهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وصلّى صلاة الكسوف، فأطال فيها حتّى انجلت، ثمّ خطب النّاس فحثّهم على الصّدقة والعتق، وقال: «إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوّف الله بهما عباده، ولا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته» «1» . [عام الوفود] وفي السّنة التّاسعة: دخل النّاس/ في دين الله أفواجا، كما أعلم الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، وجعله علما لقرب أجله. وفي «الصّحيحين» ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، أنّ عمر رضي الله عنه قال له: ما تقول في: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ حتّى ختم السّورة؟، فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له. قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ- فتح (مكّة) - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً- فذلك علامة أجلك- فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [سورة النّصر 110/ 1- 3] فقال عمر:

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1001) . ومسلم برقم (901/ 3) . عن أبي بكرة رضي الله عنه. قلت: قال أبو شهبة- رحمه الله-: وإنّ المنصف ليقف خاشعا أمام هذا القول الحكيم، الّذي يدلّ على أنّ سيّدنا محمّدا نبيّ حقّا. فلو لم يكن نبيّا، وكان طالب ملك أو زعامة، أو مدّعيا نبوة؛ لاستغلّ اعتقاد النّاس هذا، أو على الأقل يسكت. وأيّ عظمة نفسيّة أعظم من ألّا ينسى الرّسول صلى الله عليه وسلم رسالته في أشدّ المواقف الّتي تملأ النّفس غمّا وحزنا، وربّما تذهل الشّخص عمّا هو حقّ، لذلك لا غرو إذا كان المستشرقون الّذين كتبوا في سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وتناولوا هذه القصّة وقفوا منها موقف الإجلال والإعظام، ولم يستطيعوا كتم إعجابهم وإكبارهم للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وإعلان عرفانهم بصدق إنسان لم يرض في أدقّ المواقف إلّا الصّدق وإعلان الحقّ. (السّيرة النّبويّة، ج 2/ 583) .

وفد بني حنيفة

ما أعلم منها إلّا ما تعلمه «1» . [وفد بني حنيفة] ومن الوفود: وفد عليه صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة، عليهم مسيلمة الكذّاب. وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قدم مسيلمة الكذّاب في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شمّاس الأنصاريّ، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة من جريد، حتّى وقف على مسيلمة في أصحابه، فجعل مسيلمة يقول: إن جعل لي محمّد الأمر [من] بعده تبعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنّك «2» الله، وإنّي لأراك الّذي أريت فيه ما أريت، وهذا ثابت يجيبك عنّي» . ثمّ انصرف عنه «3» . قال ابن عبّاس: فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأراك الّذي أريت فيه ما أريت» ؟ فأخبرني أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أنا نائم رأيت في يديّ سوارين من ذهب، فأهمّني شأنهما، فأوحي إليّ في المنام أن انفخهما، فنفختهما، فطارا، فأوّلتهما كذّابين يخرجان بعدي، أحدهما الأسود العنسيّ والآخر/ مسيلمة الكذّاب» «4» . وفي رواية: «فأوّلتهما الكذّابين اللّذين أنا بينهما: صاحب (صنعاء) وصاحب (اليمامة) » «5» . وفي رواية أخرى: «العنسيّ- أي: الّذي قتله فيروز ب (اليمن) -

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4686) . (2) العقر: القتل والهلاك. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4115) . ومسلم برقم (2273/ 21) . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3424) . (5) أخرجه مسلم، برقم (2274) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وفد نجران

والآخر مسيلمة الكذّاب- أي: الّذي قتله وحشيّ بن حرب الحبشيّ، قاتل حمزة في قتال خالد بن الوليد لأهل الرّدّة «1» -. وكان كلّ من مسيلمة والأسود ادّعى النّبوّة بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم. [وفد نجران] ومن الوفود: وفد (نجران) ، وفيهم نزلت آية الملاعنة، لمّا حاجّوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم في عيسى ابن مريم [عليه الصّلاة والسّلام] ، فقالوا: إنّه ابن الله، وكانوا نصارى، فأنزل الله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [سورة آل عمران 3/ 61] . فأخذ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيد الحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه وعليّ يمشي خلفها، فلمّا رأوهم قال حبران منهما- السّيّد والعاقب- لأصحابهما: لا تفعلوا، فو الله لئن لاعنتم هذه الوجوه لا تفلحوا أبدا. ثمّ صالحوه على الجزية، وبعث معهم أبا عبيدة بن الجرّاح. وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: جاء السّيّد والعاقب صاحبا (نجران) إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فو الله لئن كان نبيّا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، ثمّ قالا: إنّا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلّا أمينا، فقال: «لأبعثنّ معكم رجلا أمينا حقّ أمين» ، فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «قم يا أبا عبيدة بن الجرّاح» ، فلمّا قام قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «هذا أمين هذه الأمّة» «2» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4118) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4119) . ومسلم برقم (2420/ 55) .

فائدتان

فائدتان الأولى: [في الحجّة على النّصارى في شبهتهم بولادة عيسى عليه الصّلاة والسّلام] وجه الحجّة على النّصارى، بقوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [سورة آل عمران 3/ 59] : إنّ شبهتهم فيه كونه خلق من أمّ بلا أب، فاحتجّ الله عليهم بأنّ آدم خلق من غير أمّ ولا أب، وليس بابن الله اتّفاقا. قال العلماء: والقسمة تقتضي أربعة أقسام: قسم خلقه الله/ من غير أمّ ولا أب، وهو آدم عليه السّلام. وقسم بعكسه، وهو سائر ذرّيّته. وقسم من أب بلا أمّ، وهي حوّاء. وبقي القسم الرّابع، فأبرزه الله في عيسى عليه السّلام. الثّانية: [في شهادة النّبيّ ص بتفضيل صحابته بعضهم على بعض] قال العلماء: إذا شهد الرّسول صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه بفضيلة عليهم وجب القطع بأنّه أفضل منهم في تلك الفضيلة، فيجب أن نقطع بأنّ أبا عبيدة أفضل من أبي بكر وعمر وغيرهما في فضيلة الأمانة. وأنّ أبا ذرّ حيث قال فيه: «أصدقكم لهجة أبو ذرّ» «1» فصار أفضل منهم جميعا في تحرّي الصّدق. وأنّ عليّا أقضاهم، حيث قال: «أقضاكم عليّ» «2» . وأنّ معاذا أعلمهم بالحلال والحرام حيث وصفه بذلك «3» . وأنّ زيدا أفرضهم حيث وصفه أيضا بذلك «4» .

_ (1) أخرجه ابن ماجة، برقم (156) . عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (2) أورده ابن حجر في «الفتح» ، ج 10/ 590. تعليقا. (3) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3879) . عن أنس بن مالك رضي الله رضي الله عنه. (4) المصدر السابق.

وفد أهل اليمن

والأفضل المطلق بإجماع أهل السّنّة من جمع خصال الفضل كأبي بكر رضي الله عنه، حيث أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: «من أصبح منكم اليوم صائما؟» ، فقال أبو بكر: أنا، فقال: «من عاد منكم اليوم مريضا؟» ، فقال أبو بكر: أنا، فقال: «من تبع منكم اليوم جنازة؟» ، فقال أبو بكر: أنا. الحديث «1» رضي الله عنهم أجمعين، والله أعلم. [وفد أهل اليمن] ومن الوفود: وفد أهل (اليمن) ، فبشّرهم صلى الله عليه وسلم وأثنى عليهم خيرا، وبعث معهم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعريّ رضي الله عنهما. وفي «الصّحيحين» ، جاءت بنو تميم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابشروا يا بني تميم» ، فقالوا: بشّرتنا فأعطنا، فتغيّر وجهه صلى الله عليه وسلم، فجاء ناس من (اليمن) ، فقال: «اقبلوا البشرى يا أهل (اليمن) ، إذ لم يقبلها بنو تميم» ، فقالوا: قد قبلنا يا رسول الله «2» . فقال: «الإيمان ها هنا» ، وأشار بيده إلى (اليمن) «3» . وفي رواية لهما-[أي: الصّحيحين] : «أتاكم أهل (اليمن) ، هم أرقّ أفئدة، وألين قلوبا. الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانيّة» «4» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (1028/ 87) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. وزاد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن في امرىء إلّا دخل الجنّة» . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4125) . عن عمران بن حصين رضي الله عنهما. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4126) . عن أبي مسعود رضي الله عنه. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (4127- 4129) . ومسلم برقم (52/ 82) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وفيهما-[أي: الصّحيحين] : «أنّه صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى الأشعريّ، ومعاذ بن جبل إلى (اليمن) ، وبعث كلّ واحد منهما على مخلاف، قال: «و (اليمن) مخلافان» ، ثمّ قال: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا» «1» . وأنّه [صلى الله عليه وسلم] قال لمعاذ: «إنّك ستأتي قوما أهل/ كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كلّ يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم «2» ، واتّق دعوة المظلوم، فإنّها ليس بينها وبين الله حجاب» «3» . وممّا جاء في فضل أهل (اليمن) ، أنّ عمر رضي الله عنه سأل النّاس: من أجود العرب؟، قالوا: حاتم، قال: فمن فارسها؟، قالوا: عمرو بن معدي كرب، قال: فمن شاعرها؟، قالوا: امرؤ القيس، قال: فأيّ سيوفها أقطع؟، قالوا: الصّمصامة، قال: كفى بهذا فضل (اليمن) . وأنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: لأهل (اليمن) ؛ من السّماء نجمها- أي: سهيل- ومن (الكعبة) ركنها.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4086) . ومسلم برقم (1733/ 7) . عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. والفقه يمان من رواية مسلم. (2) كرائم أموالهم: أعزّ وأفضل أموالهم إلى أنفسهم. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4090) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

إسلام كعب بن زهير رضي الله عنه

[إسلام كعب بن زهير رضي الله عنه] وقدم أيضا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير بن أبي سلمى- بالضّمّ- المزنيّ فأسلم، واعتذر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ممّا سبق منه، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه لتعريضه بذمّه وذمّ الصّدّيق رضي الله عنه، في شعر له. وأنشد النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين وافاه قصيدته المشهورة: (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول) ، ومنها، [من البسيط] «1» : نبّئت أنّ رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الّذي أعطاك نافلة ال ... قرآن فيه مواعيظ وتفصيل لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل فعفا عنه، وكساه بردته. فاشتراها منه معاوية بن أبي سفيان في أيّام خلافته بمئة ألف درهم، وأوصى أن يكفّن فيها. [غزوة تبوك] وفي هذه السّنة- وهي التّاسعة- في رجب منها: غزا النّبيّ صلى الله عليه وسلم غزوة (تبوك) . وهي آخر غزوة غزاها النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسمّاها الله تعالى ساعة العسرة، لوقوعها في شدّة/ الحرّ. وذلك أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا لم يبق له عدوّ من العرب، أمر أصحابه بالتهيّؤ لغزو الرّوم إلى (الشّام) ، وحثّ الموسرين منهم على إعانة المعسرين، فأنفق عثمان بن عفّان رضي الله عنه فيها ألف دينار ذهبا، وحمل على تسع مئة وخمسين بعيرا، وخمسين فرسا في سبيل الله، فذلك ألف،

_ (1) ابن هشام، ج 3/ 503.

وبذلك سمّي رضي الله عنه مجهّز جيش العسرة، حتّى قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ ارض عن عثمان، فإنّي عنه راض» «1» . وقال: «ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم» «2» . وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، أنّ عثمان رضي الله عنه حين حوصر أشرف عليهم، وقال: أنشدكم بالله ولا أنشد إلّا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألستم تعلمون أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من جهّز جيش العسرة فله الجنّة» ، فجهّزتهم؟ ألستم تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حفر بئر رومة فله الجنّة» ، فحفرتها؟ فصدّقوه فيما قال «3» . وأوعب المسلمون «4» مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى بلغوا سبعين ألفا، ولم يتخلّف عنها إلّا منافق أو معذور، سوى الثّلاثة الّذين خلّفوا، الآتي ذكرهم، وسوى عليّ رضي الله عنه. ففي «الصّحيحين» ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى (تبوك) واستخلف عليّا رضي الله عنه على (المدينة) ، فقال: أتخلّفني في الصّبيان والنّساء؟، فقال: «ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟» «5» . وفيهما-[أي: الصّحيحين]- أنّه صلى الله عليه وسلم قال ب (تبوك) : «إن

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3497) . عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، بنحوه. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3701) . عن عبد الرّحمن بن سمرة رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، كتاب الوصايا. (4) أوعب المسلمون: خرجوا كلّهم إلى الغزو. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (4154) . ومسلم برقم (2404/ 31) . عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنهما.

أمر المعذرين من الأعراب

بالمدينة أقواما حبسهم العذر، ما قطعنا واديا ولا شعبا إلّا وهم معنا فيه» «1» . [أمر المعذّرين من الأعراب] وأنزل الله أيضا في المعذّرين: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة التّوبة 9/ 91] . [أمر المنافقين] وأنزل في المنافقين قوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ/ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ- أي: النّساء- وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة التّوبة 9/ 93] . [أمر البكّائين] وفي «الصّحيحين» أيضا، أنّ الأشعريّين أرسلوا أبا موسى الأشعريّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الحملان لهم في جيش العسرة، وهي غزوة (تبوك) ، فقال: «والله لا أحملكم على شيء» ، أي: لا أجد شيئا أحملكم عليه- كما في الرّواية الآخرى- فرجعوا يبكون، فأنزل الله فيهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ [سورة التّوبة 9/ 92] . ثمّ إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ابتاع ستّة أبعرة فأرسل بها إلى أبي موسى، فقال: «خذها فانطلق بها إلى أصحابك» . ومضى صلى الله عليه وسلم بسبيله «2» . [مرور النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحجر] وفي «الصّحيحين» ، أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا مرّ بالحجر- ديار ثمود- قال لأصحابه: «لا تدخلوا مساكن الّذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم إلّا أن تكونوا باكين» ، ثمّ قنّع رأسه- أي: غطّاه-

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2684) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4153) . ومسلم برقم (1649/ 8) . عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه.

مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل أيلة وجرباء وأذرح

وأسرع السّير حتّى أجاز الوادي «1» . [مصالحة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أهل أيلة وجرباء وأذرح] ولمّا انتهى صلى الله عليه وسلم إلى (تبوك) ، وهي أدنى بلاد الرّوم، أقام بها بضع عشرة ليلة. وصالح جملة من أهل الناحية على الجزية، ثمّ رجع إلى (المدينة) ، ولم يلق عدوّا. [اعتذار المنافقين عن تخلّفهم] فلمّا قدم (المدينة) ، جاء المنافقون يعتذرون إليه عن تخلّفهم عنه، ويحلفون له، فقبل منهم معذرتهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فأنزل الله تعالى فيهم: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ الآيات، إلى قوله: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [سورة التّوبة 9/ 94- 96] . ونزلت فيهم سورة براءة، وسمّاها ابن عبّاس رضي الله عنهما الفاضحة- والعياذ بالله تعالى- وقال: لم يزل ينزل فيهم: وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ حتّى ظنّوا أنّها لم تبق أحدا منهم إلّا ذكرته. [أمر كعب بن مالك، وهلال بن أميّة، ومرارة بن الرّبيع] أمّا الثّلاثة الّذين خلّفوا، وهم: كعب بن مالك الخزرجيّ، وهلال بن أميّة الأوسيّ، ومرارة/ بن الرّبيع، فإنّهم لم يتخلّفوا لنفاق ولا لعذر، بل كسلا مع استطاعتهم، كمن ترك الصّلاة كسلا، فاستحقّوا العقاب، فعوقبوا، ثمّ تاب الله عليهم. وكان من خبرهم ما ذكره البخاريّ ومسلم في «صحيحيهما» ، عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: لم أتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلّا في غزوة (تبوك) ، غير أنّي لم أشهد (بدرا) ، ولم

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4157) . ومسلم برقم (2980/ 39) . عن ابن عمر رضي الله عنه.

يعاتب [الله] أحدا تخلّف عنها، ولم أكن قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنه في تلك الغزوة، فتجهّز رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: أتجهّز بعده بيوم أو بيومين، فلم يزل يتباطأ بي الأمر حتّى تباعد الغزو، فكنت إذا خرجت في النّاس أحزنني أنّي لا أجد إلّا رجلا مغموصا عليه بالنّفاق- أي: معيّرا به- أو رجلا ممّن عذر الله من الضّعفاء، فلمّا بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل راجعا طفقت أتذكّر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا؟ ثمّ زاح عنّي الكذب، وعرفت أنّي لا أخرج عنه بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه. فلمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة) جاءه المخلّفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فجئته، فسلّمت عليه فتبسّم تبسّم المغضب، ثمّ قال: «ما خلّفك؟» ، فقلت: والله لو جلست عند غيرك من أهل الدّنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا «1» ، ولكنّي والله لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي، ليوشكنّ أن يسخطك الله عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إنّي لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، فقال صلى الله عليه وسلم: «أمّا هذا فقد صدق، فقم حتّى يقضي الله فيك» ، فقمت، فلامني رجال من بني سلمة- أي: بكسر اللّام- أن لا أكون اعتذرت كما اعتذر إليه المخلّفون، فقلت: هل لقي معي هذا أحد؟، قالوا: نعم؛ مرارة/ بن الرّبيع العمريّ، وهلال بن أميّة الواقفيّ، فذكروا لي رجلين صالحين،

_ (1) مقابلة الحجّة بالحجّة.

قد شهدا (بدرا) فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيّها الثّلاثة خاصّة «1» ، فاجتنبنا النّاس، وتغيّروا لنا، حتّى تنكّرت الأرض، فما هي بالأرض الّتي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فلمّا صلّيت صلاة الفجر، وأنا على الحال الّتي ذكرها الله تعالى «2» ، وقد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت، وضاقت عليّ نفسي، سمعت وأنا جالس على ظهر بيتي صارخا، أوفى على (سلع) «3» ، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت لله ساجدا، وقد آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم النّاس بتوبة الله علينا، فذهبوا يبشّروننا، فلمّا جاءني الّذي سمعت صوته نزعت له ثوبيّ، فكسوته إيّاهما ببشراه. وو الله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتلقاني النّاس فوجا فوجا، فلمّا دخلت المسجد وسلّمت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لي- ووجهه يبرق من السّرور-: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» . وأنزل الله على رسوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ

_ (1) المعنى: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا نحن الثّلاثة مخصوصين من بين النّاس. (2) وهي قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ [سورة التوبة 9/ 118] . (3) سلع: جبل معروف في المدينة.

فائدة: في قبول الله تعالى توبة كعب بن مالك

الرَّحِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [سورة التّوبة 9/ 117- 119] . فو الله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطّ، بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الّذين كذبوا، فإنّ الله قال للّذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد، فقال: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا/ انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [سورة التّوبة 9/ 95- 96] «1» . فائدة [: في قبول الله تعالى توبة كعب بن مالك] في قوله صلى الله عليه وسلم لكعب: «أبشر بخير يوم مرّ عليك» دليل واضح أنّ توبة الله على عبده لا يتطرّق إليها نقص، إذ كعب أسلم وبايع ب (العقبة) وشهد غير (بدر وتبوك) من المشاهد، وكلّ هذه أيّام شريفة، لكنّ عاقبتها غير مأمونة، وبذلك يعلم أنّ ثناء الله على من أثنى عليه من عباده لا يتحوّل ذمّا، كثنائه على أصحاب نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ورضي عنهم. وسيأتي تقرير ذلك في فصل معقود لفضلهم. [وفاة النّجاشيّ] وفيها-[أي: السّنة التّاسعة]- في رجب: نعى لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّجاشيّ، وصلّى عليه في المصلّى جماعة. وفي «الصّحيحين» ، أنّه صلى الله عليه وسلم نعى لهم النّجاشيّ صاحب

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4156) .

حج أبي بكر رضي الله عنه

(الحبشة) في اليوم الّذي مات فيه، وقال: «استغفروا لأخيكم» «1» . وصفّ بهم في المصلّى، فصلّى عليه، وكبّر أربعا. [حجّ أبي بكر رضي الله عنه] وفي خاتمة هذه السّنة-[أي: السّنة التّاسعة]-: حجّ أبو بكر رضي الله عنه بالنّاس، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم همّ أن يحجّ، فذكر ما اعتاده المشركون من الجهالات في حجّهم، مع ما بينه وبينهم من المعاهدة، فثناه ذلك عن الحجّ، وأمّر أبا بكر على الحجّ، وبعث معه بصدر سورة براءة. وروى «البخاريّ ومسلم» ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ أبا بكر بعثه في الحجّة الّتي أمّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجّة الوداع في رهط يؤذّن في النّاس يوم النّحر: أن لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال: فنبذ أبو بكر إلى النّاس في ذلك العام عهودهم، فلم يحجّ في العام القابل الّذي حجّ فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع مشرك، وأنزل الله تعالى في العام الّذي حجّ فيه أبو بكر رضي الله عنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا/ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [سورة التّوبة 9/ 28] . [بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليّا رضي الله عنه بصدر براءة] قال: ثمّ أردف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره أن يؤذّن ببراءة. قال أبو هريرة: فأذّن معنا ببراءة في أهل (منى) «2» . وقال ابن إسحاق: بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا، ثمّ بعث بعده

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1263) . ومسلم برقم (951/ 63) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4378) .

عليّا، وأمره أن يتولّى نبذ العهود، بأن يقرأ على النّاس صدر سورة براءة، لئلّا يبقى للمشركين عذر، إذ كان من عادتهم ألّا يتولّى نبذ العقود إلّا من تولّى عقدها، وهو صاحبها، أو رجل من أهل بيته «1» . قال ابن إسحاق: فلمّا أدرك عليّ أبا بكر، قال له أبو بكر: أأمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور؟، ثمّ مضيا، فكان عليّ ينادي ب (منى) : أنّ من كان له أجل فله أربعة أشهر، ثمّ لا عهد له- أي: لقوله تعالى-: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [سورة التّوبة 9/ 2] «2» .

_ (1) قلت: قال أبو شهبة- رحمه الله-: وهنا شبهة نرى لزاما أن نعرض لها، ونبيّن الحقّ فيها، وهي: لم عدل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن تبليغ أبي بكر صدر سورة براءة ووكل ذلك إلى عليّ رضي الله عنهما؟ والجواب: أنّ صدر سورة براءة تضمن نقض العهود المطلقة غير المقيّدة بوقت، أو الّتي مدّتها فوق أربعة أشهر فيما زاد عن أربعة أشهر، وكان العرب تعارفوا فيما بينهم في عقد العقود ونقضها ألا يتولّى ذلك إلّا سيّد القبيلة، أو رجل من رهطه، فأراد الله عزّ وجلّ أن يكون المبلّغ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا من أهله، حتّى يقطع ألسنة العرب بالاحتجاج على أمر هو من تقاليدهم، ولا سيّما أنّه ليس فيه منافاة للإسلام، فلذلك تدارك النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأمر. أخرج التّرمذيّ وأحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم براءة مع أبي بكر، ثمّ دعا عليّا فأعطاه إيّاها، وقال: «لا ينبغي لأحد أن يبلّغ هذا إلّا رجل من أهل بيتي» - كما ذكر أعلاه- أنّ جبريل عليه السّلام هو الّذي قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: (إنّه لن يؤدّيها عنك إلّا أنت أو رجل منك) . فهذا هو السّبب. لا ما زعمته الرّافضة من أنّ ذلك للإشارة إلى أنّ عليّا أحقّ بالخلافة من أبي بكر رضي الله عنهما، ولا أدري كيف غفلوا أو تغافلوا عن قول الصّدّيق رضي الله عنه له: أأمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور. وكيف يكون المأمور أحقّ بالخلافة من الأمير؟!! (انظر السّيرة النّبويّة، ج 2/ 539- 540) . (2) ابن هشام، ج 4/ 543- 546.

حجة الوداع

وروى الطّبرانيّ أنّ جبريل أتاه فقال له: (إنّه لن يؤدّيها- أي: البراءة- إلّا أنت أو رجل منك) «1» . [حجّة الوداع] وفي السّنة العاشرة: حجّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع، وسمّيت حجّة الوداع لأنّه صلى الله عليه وسلم ودّع النّاس فيها. وقال: «خذوا عنّي مناسككم، فإنّي لا أدري لعلّي لا أحج بعد عامي هذا» «2» . وحجّ صلى الله عليه وسلم بأزواجه كلّهنّ رضي الله عنهنّ، وبخلق كثير من الصّحابة رضي الله عنهم. فحضرها من الصّحابة أربعون ألفا، كلّهم يلتمس أن يأتمّ به صلى الله عليه وسلم، فعلّمهم المناسك، وأبطل شعائر الجاهليّة، وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: «ألا إنّ كلّ شيء من أمر الجاهليّة موضوع تحت قدميّ هاتين، ودماء الجاهليّة موضوعة، وربا الجاهليّة موضوع، وقد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن تمسّكتم به: كتاب الله، وأنّكم تسألون عنّي فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت، فقال: «اللهمّ اشهد» ثلاث مرّات. ونزل علينا قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ/ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة 5/ 3] «3» .

_ (1) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (1299) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم، برقم (1297) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (3) قلت: وهنا خطأ مشهور؛ وهو ما يزعمه البعض من أنّ هذه الآية آخر ما نزل من القرآن، والحقّ أنّ آخر آية نزلت، هي: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [سورة البقرة 2/ 281] . والمراد بإكمال الدين: إمّا إتمام حجّهم على حسب ما شرع الله، وإذلال الشّرك وأهله، بحيث لم يشاركهم فيه أحد من المشركين، وهو تمام النّعمة عليهم. وإمّا إكمال الحلال والحرام.

وكان نزولها يوم عرفة، بعد العصر، وهو صلى الله عليه وسلم واقف ب (عرفات) ، وذلك يوم الجمعة. ولمّا سمعها عمر رضي الله عنه بكى، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك؟» ، قال: إنّه لم يكمل شيء إلّا نقص. قال: «صدقت» «1» . فعاش بعدها صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثة أشهر، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا غيرهما من الأحكام. وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنّا نتحدّث بحجّة الوداع، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فلا ندري ما حجّة الوداع؟، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ ذكر المسيح الدّجّال، فأطنب في ذكره، وقال «ما بعث الله نبيّا إلّا وقد أنذر أمّته، أنذره نوح والنّبيّون من بعده، وإنّه يخرج فيكم فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أنّ ربّكم ليس بأعور، وإنّه أعور العين اليمنى، كأنّ عينه عنبة طافية «2» ، ألا وإنّ الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلّغت؟» ، قالوا: نعم، قال: «اللهمّ اشهد- ثلاثا- ويلكم، أو ويحكم، انظروا، لا ترجعوا بعدي كفّارا، يضرب بعضكم رقاب بعض» «3» . وفيهما-[أي: الصّحيحين]- أنّ أناسا من اليهود قالوا: لو نزلت هذه الآية فينا لاتّخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: أيّة آية هي؟، فقالوا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

_ (1) أخرجه البخاريّ، كتاب الإيمان، باب: زيادة الإيمان ونقصانه، تعليقا. (2) طافية: بارزة عن سطح وجهه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4141) .

سرية أسامة بن زيد رضي الله عنهما

وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً، فقال عمر رضي الله عنه: والله، إنّي لأعلم أيّ مكان أنزلت، أنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف ب (عرفة) «1» . ثمّ قفل صلى الله عليه وسلم إلى (المدينة) ، فأقام بها بقيّة ذي الحجّة والمحرّم وصفر. [سريّة أسامة بن زيد رضي الله عنهما] ثمّ أمر النّاس بالجهاز إلى (الشّام) ، وأمّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهم، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم (البلقاء) ، وأن يحرق القرية الّتي عند (مؤتة) ، حيث قتل أبوه زيد، وأراد بذلك أن يدرك ثأره/ من المشركين. فطعن ناس في إمارته لحداثة سنّه، ولكونه مولىّ، وقالوا: أمّر غلاما على جلّة المهاجرين والأنصار «2» ؟. وابتدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض، فلمّا بلغه ذلك، خرج فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وأمرهم بالجهاز، وبطاعة من أمّره عليهم. وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثا، وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض النّاس في إمارته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله، إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحبّ النّاس إليّ، وإنّ هذا لمن أحبّ النّاس إليّ بعده» «3» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4145) . ومسلم برقم (3017/ 3) . (2) قلت: ذكر الحافظ ابن حجر في «الفتح» ، ج 8/ 152: أنّ من بين القائلين في إمرة أسامة بن زيد: عيّاش بن أبي ربيعة المخزوميّ رضي الله عنه. فردّ عليه عمر رضي الله عنه، وأخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فخطب. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3524) . ومسلم برقم (2426/ 63) . قلت:

مرض النبي صلى الله عليه وسلم

فأخذ النّاس في جهازهم، فثقل صلى الله عليه وسلم، فأقاموا ينتظرون ما الله قاض في رسوله. [مرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم] وكان وجعه صلى الله عليه وسلم بالخاصرة والصّداع والحمّى، وكان يوعك وعكا شديدا، وكان يدار به على نسائه، ثمّ استأذنهنّ أن يمرّض في بيت عائشة، فأذنّ له. فلمّا عجز عن الخروج إلى الصّلاة، أمر أبا بكر أن يصلّي بالنّاس، فصلّى بهم. [اشتداد مرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم] وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في مرضه، وهو يوعك وعكا شديدا، فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنّك لتوعك وعكا شديدا، قال: «أجل، إنّي لأوعك كما يوعك رجلان منكم» ، قلت: ذلك، بأنّ لك أجرين؟ قال: «أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلّا كفّر الله به سيّئاته، كما تحاتّ الشّجرة ورقها» «1» .

_ وقد كان تأمير أسامة لحكمة بالغة من الرّسول صلى الله عليه وسلم، إذ فيه حثّ على التّضحية في سبيل الله، والحرص على الاقتصاص من قاتلي أبيه زيد بن حارثة رضي الله عنهما، كما كان فيه قضاء على العنجهيّة العربيّة، والتّفاخر بالأنساب والأحساب، وتقرير عمليّ لمبدأ المساواة في الإسلام، وفيه أيضا تهيئة الفرص للشّباب الصّالح، وإثارة عزائمهم وهممهم إلى معالي الأمور، وتعويدهم الاضطلاع بالتّبعات الجسام، والمهام العظام. (1) أخرجه البخاريّ، برقم (5324) . حاتّت: تساقطت.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس

[أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يصلّي بالنّاس] وفيهما-[أي: الصّحيحين]- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ثقل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «ضعوا لي ماء في المخضب «1» » ، ففعلنا، فاغتسل، فأغمي عليه، ثمّ أفاق، والنّاس عكوف في المسجد بصلاة العشاء الآخرة، فقال: «أصلّى النّاس؟» ، قلنا: لا، هم ينتظرونك، فقال: «مروا أبا بكر فليصلّ/ بالنّاس» «2» . قالت: فراجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وما حملني على كثرة مراجعته إلّا أنّه لم يقع في قلبي: أن يحبّ النّاس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنّه لن يقوم مقامه أحد إلّا تشاءم النّاس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر «3» . فأرسل [النّبيّ صلى الله عليه وسلم] إلى أبي بكر بأن يصلّي بالنّاس، فقال أبو بكر- وكان رجلا رقيقا-: يا عمر صلّ بالنّاس، فقال عمر: أنت أحقّ بذلك، وصلّى أبو بكر بالنّاس تلك الأيّام. ثمّ إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم- أي: بعد أيّام- وجد من نفسه خفّة، فخرج لصلاة الظّهر بين رجلين، وأبو بكر يصلّي بالناس، فلمّا رآه أبو بكر ذهب ليتأخّر، فأومأ إليه [النّبيّ صلى الله عليه وسلم] بأن لا يتأخّر، وقال: «أجلساني إلى جنبه» ، فأجلساه، فجعل أبو بكر يصلّي وهو يأتمّ بصلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والنّاس يأتمّون بصلاة أبي بكر- أي: كالمبلّغ لهم «4» -.

_ (1) المخضب: وعاء من خشب أو حجر يغسل فيه الثياب. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (633) . ومسلم برقم (418/ 90) . (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4180) . ومسلم، برقم (418/ 93) . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (655) . ومسلم برقم (418/ 97) .

فائدة: في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس

فائدة [: في أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلّي بالنّاس] وفي «الصّحيحين» ، أنّ عائشة رضي الله عنها راجعته ثلاث مرّات، تقول له: إنّ أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء، فلم يسمع النّاس، فمر عمر فليصلّ بالنّاس، وهو يقول: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» ، فأمرت حفصة فراجعته أيضا، فقال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس، فإنّكنّ صواحب يوسف» «1» . قال العلماء: وجه المشابهة: أنّ عائشة أضمرت ما سبق من قولها: (وما حملني على كثرة مراجعته) - إلى آخره- (وأظهرت أنّه رجل رقيق) - إلى آخره- فأشبهت امرأة العزيز، الّتي استدعت النّسوة، وأظهرت إكرامهنّ بالضّيافة، وأضمرت أن يعذرنها في شغفها بحبّ يوسف إذا رأينه، كما صرّحت بذلك في قولها: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [سورة يوسف 12/ 32] . والله أعلم. [همّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكتب لأصحابه كتابا] وفي «الصّحيحين» عنها أيضا، أنّه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: «لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه، وأعهد أن يقول القائلون، أو يتمنّى المتمنّون، ثمّ قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون» «2» . [خطبته صلى الله عليه وسلم في النّاس] وفيهما-[أي: الصّحيحين]- عن أبي سعيد الخدريّ/ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطب النّاس فقال: «إنّ الله خيّر عبدا بين الدّنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله» ، قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه- فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشّيخ؟ أن يكون الله خيّر عبدا بين الدّنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله عزّ وجلّ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا به-.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (647) . ومسلم برقم (418/ 94) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (5342) . ومسلم برقم (2387) .

نعي النبي ص نفسه إلى فاطمة رضي الله عنها وبشارته لها

فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر لا تبك، إنّ من أمنّ النّاس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متّخذا خليلا غير ربّي لاتّخذت أبا بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته، لا يبقينّ في المسجد باب إلّا سدّ، إلّا باب أبي بكر» «1» . [نعي النّبيّ ص نفسه إلى فاطمة رضي الله عنها وبشارته لها] وفيهما-[أي: الصّحيحين]- أنّه صلى الله عليه وسلم دعا ابنته فاطمة، في شكواه الّتي قبض فيها، فسارّها بشيء فبكت، ثمّ دعاها فسارّها بشيء فضحكت. قالت عائشة: فسألتها بعد موته، فقالت: أخبرني أنّه يقبض في وجعه ذلك فبكيت، ثمّ أخبرني أنّي أوّل أهله يتبعه فضحكت «2» . فماتت رضي الله عنها بعده بستّة أشهر. [كثرة نزول الوحي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في السّنة الّتي قبض فيها] وروى البخاريّ عن أنس رضي الله عنه قال: إنّ الله تابع على رسوله صلى الله عليه وسلم نزول الوحي حين توفّاه أكثر ما كان الوحي، ثمّ توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد «3» . [تأثّر فاطمة رضي الله عنها لما ألمّ بأبيها صلى الله عليه وسلم] قال العلماء: وذلك لكثرة الوفود وسؤالهم عن الأحكام. وفيه-[أي: الصّحيحين]- عنه أيضا قال: لمّا ثقل النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل يتغشّاه الكرب، فقالت فاطمة عليها السّلام: واكرب أباه، فقال لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» ، قال: فلمّا دفنّاه، قالت فاطمة عليها السّلام: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على نبيّكم التّراب «4» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (454- 3454) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3427) . ومسلم برقم (2450/ 97) . عن عائشة رضي الله عنها. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4697) . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (4193) .

تخيير النبي صلى الله عليه وسلم عند قبضه

[تخيير النّبيّ صلى الله عليه وسلم عند قبضه] وفي «الصّحيحين» ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: «إنّه لن يقبض نبيّ قطّ حتّى يرى مقعده في الجنّة، ويخيّر بين الدّنيا والآخرة» ، فسمعته في مرضه الّذي مات فيه يقول، وقد أخذته بحّة: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [سورة النّساء 4/ 69] «1» . وفي رواية: ثمّ شخص بصره/ إلى السّماء، ثمّ قال: «اللهمّ الرّفيق الأعلى» . فقلت: إذا لا يختارنا، وعرفت أنّه حديثه الّذي كان يحدّثنا وهو صحيح «2» . وفي رواية أنّه قال: «اللهمّ اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرّفيق الأعلى» «3» . [خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم وفاته] وفي «الصّحيحين» ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ المسلمين بينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلّي لهم، لم يفجأهم إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم صفوف في الصّلاة، فتبسّم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصّفّ، وظنّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصّلاة، فقال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده: «أن أتمّوا صلاتكم» ، ودخل الحجرة، وأرخى السّتر، ومات من يومه «4» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4173) . ومسلم برقم (2444/ 87) . (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4194) . عن عائشة رضي الله عنها. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4176) . عن عائشة رضي الله عنها. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (4183) . ومسلم برقم (419/ 98) .

معالجة النبي صلى الله عليه وسلم سكرات الموت

[معالجة النّبيّ صلى الله عليه وسلم سكرات الموت] وفيهما-[أي: الصّحيحين]- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت عنده ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه فيها، ويمسح بها وجهه، ويقول: «أشهد أن لا إله إلّا الله، إنّ للموت سكرات» ، ثمّ نصب يده، فجعل يقول: «في الرّفيق الأعلى» ، حتّى قبض ومالت يده صلى الله عليه وسلم «1» . فائدة [: في حبّ الرّسول صلى الله عليه وسلم لقاء الرّفيق الأعلى] قال العلماء: إنّما لم يزل يكرّرها لأنّ التّخيّير لم يزل يعاد عليه، وهي كلمة تتضمّن حبّ لقاء الله، الّذي هو لباب التّوحيد، وسرّ الذّكر باللّسان والقلب، ومنه يستفاد أنّه لا يشترط في نجاة المحتضر أن يتلفّظ ب (لا إله إلّا الله) ، إذا مات وقلبه مطمئن بالإيمان. والله أعلم. [عمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم قبض] وفي «صحيح البخاريّ» ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، ومكث ب (مكّة) ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثمّ أمر بالهجرة، فهاجر إلى (المدينة) عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستّين سنة «2» . [دهشة المسلمين لوفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم] ولمّا قبضه الله إليه، واختار له ما عنده؛ دهش أصحابه رضي الله عنهم دهشة عظيمة، وطاشت أحلامهم لعظم المصيبة، ولم يكن فيهم أثبت من العبّاس وأبي بكر رضي الله عنهما. وروى التّرمذيّ/ في «الشّمائل النّبويّة» ، وابن ماجه في «السّنن» عن أنس رضي الله عنه قال: لمّا كان اليوم الّذي دخل فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم (المدينة) أضاء منها كلّ شيء، ولمّا كان اليوم الّذي مات

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4184) . عن عائشة رضي الله عنها. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3689) .

موقف أبي بكر رضي الله عنه من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

فيه أظلم منها كلّ شيء «1» . وفي ذلك يقول أبو سفيان بن الحارث، ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، [من الوافر] «2» : أرقت فبات ليلي لا يزول ... وليل أخي المصيبة فيه طول وأسعدني البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل لقد عظمت مصيبتنا وجلّت ... عشيّة قيل قد قبض الرّسول وأضحت أرضنا ممّا عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل فقدنا الوحي والتّنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل وذاك أحقّ ما سالت عليه ... نفوس النّاس أو كادت تسيل نبيّ كان يجلو الشّك عنّا ... بما يوحى إليه وما يقول ويهديناا فما نخشى ضلالا ... علينا والرّسول لنا دليل أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعي ذاك السّبيل فقبر أبيك سيّد كلّ قبر ... وفيه سيّد النّاس الرّسول [موقف أبي بكر رضي الله عنه من وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم] وروى البخاريّ في «صحيحه» ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر رضي الله عنه ب (العالية) ، فقام عمر رضي الله عنه يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وليبعثنّه الله، فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبّله، وقال: بأبي أنت وأمّي، طبت حيّا وميتا، والّذي نفسي بيده لا يذيقك الله موتتين، أمّا الموتة الّتي كتبت عليك فقد متّها. ثمّ خرج إلى النّاس فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: ألا من كان يعبد محمّدا صلى الله عليه وسلم فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ

_ (1) أخرجه ابن ماجه، برقم (1631) . (2) البداية والنّهاية، ج 5/ 214.

زمن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

لا يموت، ثمّ تلا قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [سورة الزّمر 39/ 30] وقوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ/ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [سورة آل عمران 3/ 144] . قال: فنشج «1» النّاس بالبكاء حينئذ، وكأنّ النّاس لم يعلموا أنّ الله أنزل هذه الآية حتّى تلاها أبو بكر، فتلقّاها منه النّاس كلّهم يتلوها، قال عمر رضي الله عنه: والله ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت «2» ، وعلمت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد مات «3» . [زمن وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم] وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين، ثاني عشر ربيع الأوّل، [دفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم] ودفن يوم الثّلاثاء «4» . وإنّما تأخّر دفنه لاختلافهم في موته، حتّى أزال الشّكّ عنهم أبو بكر.

_ (1) النّشيج: صوت معه توجّع وبكاء، كما يردّد الصّبيّ بكاءه في صدره. (2) عقرت (بضمّ العين) : انهارت قواي وسقطت. وعقرت (بفتح العين) : دهشت وتحيّرت. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3467- 4187) . (4) قلت: اختلف أهل العلم في اليوم الّذي توفّي فيه، بعد اتّفاقهم على أنّه يوم الاثنين في شهر ربيع الأوّل، فذكر الواقديّ وجمهور النّاس: أنّه الثّاني عشر. وهذا لا يصحّ، وقد جرى فيه على العلماء من الغلط ما علينا بيانه، لأنّ حجّة الوداع كانت وقفتها يوم الجمعة، فلا يستقيم أن يكون يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأوّل، سواء أتمّت الأشهر كلّها أم نقصت، أو تمّ بعضها ونقص بعضها. قال الطّبرانيّ: يوم الاثنين لليلتين مضتا من شهر ربيع الأوّل. قال أبو بكر الخوارزميّ: أوّل ليلة منه. وكلاهما ممكن. أمّا ما اختاره ابن إسحاق والواقديّ وابن سعد هنا فعليه مأخذ. (انظر الجامع في السّيرة النّبويّة، ج 4/ 582. والسّيرة النّبويّة، ج 2/ 594) .

أمر سقيفة بني ساعدة

ثمّ اختلفوا أيضا أين يدفن؟، فمنهم من قال: في مسجده. ومنهم من قال: في (البقيع) حيث دفن ابنه إبراهيم وأصحابه، ومنهم من قال: يحمل إلى (القدس) عند قبر أبيه إبراهيم عليه السّلام. حتّى أزال الشّكّ الصّدّيق أيضا رضي الله عنه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما دفن نبيّ إلّا حيث يموت» . أخرجه مالك في «الموطّأ» ، وابن ماجه في «السّنن» «1» . [أمر سقيفة بني ساعدة] ثمّ إنّ الأنصار أرادوا أن يتميّزوا عن المهاجرين، وأن يعقدوا الخلافة لسعد بن عبادة، فأطفأ الله نار الفتنة على يد أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، بأنّ الأئمّة من قريش، ولهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه: (لولا أبو بكر لهلكت هذه الأمّة) . [مبايعة أبي بكر رضي الله عنه] وفي «صحيح البخاريّ» ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه خطب النّاس في خلافته- فذكر حديث بيعة أبي بكر- فقال: إنّه كان من خيرنا حين توفّى الله نبيّه صلى الله عليه وسلم، إلّا أنّ الأنصار خالفونا، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا حتّى أتيناهم، فقال قائلهم: نحن أنصار الله وكتيبة الإسلام- أي الّتي اجتمع إليها آحاد النّاس- فمنّا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: ما ذكرتم فيكم من خير/ فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرّجلين، فبايعوا أيّهما شئتم، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن

_ (1) أخرجه مالك في «الموطّأ» ، ج 1/ 231. وابن ماجه برقم (1628) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. بنحوه.

طلب فاطمة رضي الله عنها ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم

الجرّاح، وهو جالس بيننا، فلم أكره ممّا قال غيرها، كان والله أن أقدّم فيضرب عنقي، لا يقرّبني ذلك من إثم أحبّ إليّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر، وكثر اللّغط «1» ، وارتفعت الأصوات، حتّى خفت من الاختلاف، ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقناهم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا، فإمّا أن نبايعهم على ما لا نرضى، وإمّا أن نخالفهم فيقع الفساد، فقلت لأبي بكر: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثمّ بايعته الأنصار، ثمّ كانت بيعة العامّة من الغد «2» . وأمّا سيّدنا عليّ رضي الله عنه وسائر بني هاشم فكانوا في وقت البيعة مشغولين بغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكفينه، فوقع في أنفسهم من استبداد أبي بكر وعمر وسائر المهاجرين والأنصار بالأمر عليهم. وسبق أنّها لم تقع عن رويّة، إنّما بادر إليها عمر خوفا من الوقوع في الفتنة، فلم يسأل أبو بكر منهم البيعة لانعقادها، ولم يبادروا هم إليها. [طلب فاطمة رضي الله عنها ميراثها من النّبيّ صلى الله عليه وسلم] ثمّ إنّ فاطمة رضي الله عنها سألت أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من (خيبر وفدك) ، وصدقات (المدينة) من أموال بني قينقاع والنّضير وقريظة، فأبى عليها أبو بكر ذلك، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا نورث، ما تركناه صدقة» ، ولكنّي سأعول من كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعوله، وقال: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله إلّا عملت به، فإنّي أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.

_ (1) اللّغط: الصّوت والضّجيج. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (6442) .

فوقع في نفسها من ذلك، فهجرت أبا بكر إلى أن ماتت رضي الله عنها. فلمّا ماتت أرسل عليّ رضي الله عنه- بعد أن جمع بني هاشم- إلى أبي بكر أن يأتيهم وحده، فأتاهم فاعتذر/ إليه عليّ من تخلّفه، وقال: إنّا قد عرفنا فضلك، ولم نحسدك على خير ساقه الله إليك، ولكنّك استبددت بالأمر علينا، ففاضت عينا أبي بكر، واعتذر إليهم بوقوع البيعة من غير رويّة، وقال: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليّ من أن أصل من قرابتي، فقال له عليّ: موعدك العشيّة للبيعة، ثمّ راح بمن معه من بني هاشم إلى المسجد، فبايعوه، رضي الله عنهم أجمعين، فسرّ بذلك المهاجرون والأنصار، وقالوا لعليّ رضي الله عنه: أصبت، أصبت. روى ذلك البخاريّ ومسلم «1» . ورويا أيضا-[أي: البخاريّ ومسلم]- أنّ عليّا والعبّاس سألا من أبي بكر رضي الله عنه نصيبهما من الصّدقة السّابق ذكرها. سأل عليّ نصيب فاطمة، والعبّاس هو عصبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأبى عليهما. ثمّ سألاها عمر فأبى عليهما، واستشهد جماعة من الصّحابة منهم: عثمان وعبد الرّحمن على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث»

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3998) . ومسلم برقم (1759/ 52) . عن عائشة رضي الله عنها: قلت: اختلفت الرّوايات؛ فبعضهم ذكر أنّ عليّا بايع قبل ذلك، ولكن الصّحيح ما أخرجه البخاريّ ومسلم. وفي بعض الكتب ما يشير إلى أنّ فاطمة كانت ملحّة على مبايعة علي. (انظر الإمامة والسياسة لابن قتيبة) . ومهما يكن فما صحّ من اختلافات بينهم رضي الله عنهم يحمل على أحسن المحامل، وأحسن ما يقال فيه: إنّهم بشر.

زوجاته صلى الله عليه وسلم اللواتي توفي عنهن

فشهدوا، واعترف بذلك أيضا عليّ والعبّاس رضي الله عنهما، ثمّ دفع إليهما صدقات (المدينة) ، على أن يعملا فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، فأخذاها. ثمّ إنّ عليّا رضي الله عنه تغلّب عليها، فلم يعط عمّه العبّاس منها شيئا، فاختصما إلى عمر ليقسمها بينهما نصفين، فأبى ذلك عليهما، وكره أن يجري عليها اسم القسم لئلّا تظنّ أنّها إرث، فلم يسع عليّ رضي الله عنه مدّة خلافته أن يعمل فيها إلّا بما عمل فيها أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين «1» . وفي «الصّحيحين» أيضا، أنّ أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهنّ، فقالت لهنّ عائشة: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة؟» «2» . [زوجاته صلى الله عليه وسلم اللّواتي توفّي عنهنّ] وتوفّي صلى الله عليه وسلم عن تسع زوجات، وهنّ: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر/، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة، وأمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأمويّة، وزينب بنت جحش الأسديّة، وسودة بنت زمعة العامريّة، وصفيّة بنت حييّ بن أخطب النّضريّة الإسرائيليّة الهارونيّة، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة، وأمّ سلمة هند بنت أبي أميّة المخزوميّة. رضي الله عنهنّ، وعن سائر أصحاب رسول الله أجمعين.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3809) . عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3809) . ومسلم برقم (1758/ 51) . عن عائشة رضي الله عنها.

تذييل فيه فصول

تذييل فيه فصول في وجوب نصب الإمام، وشرائط الإمامة، وفي الإمام الحقّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفي فضل الخلفاء الأربعة، ثمّ سائر الصّحابة رضي الله عنهم أجميعن

فصل في وجوب نصب الإمام

فصل في وجوب نصب الإمام اعلم أنّ مذهب أهل السّنّة أنّ نصب الإمام واجب على الأمّة، لإجماع الصّحابة رضي الله عنهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على امتناع خلوّ الوقت عن خليفة له وإمام. وقد قال الصّدّيق رضي الله عنه في خطبته في (سقيفة بني ساعدة) بين المهاجرين والأنصار: (ألا وإنّ محمّدا قد مات، وأنّه لا بدّ لهذا الدّين من إمام يقوم به) . فبادر الكلّ إلى قبول قوله، ولم يقل أحد لا حاجة لي إلى ذلك، بل اتّفقوا عليه، واجتمعوا له، وتركوا لشدّة اهتمامهم به أهمّ الأشياء عندهم؛ وهو تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق، ثمّ لم يزل النّاس بعدهم على ذلك في جميع الأمصار والأعصار. وأيضا: فإنّ نصب الإمام يتضمّن دفع الضّرر، لأنّ النّاس إذا كان لهم رئيس قاهر انتظمت مصالح دينهم ودنياهم، لأنّ مقاصد الشّرع الشّريف فيما شرع الله ورسوله فيه من الأحكام والحدود، وإظهار شعائر الدّين، إنّما هي مصالح عائدة إلى الخلق، إمّا عاجلا وإمّا آجلا. ومعلوم أنّ ذلك لا يتمّ إلّا بإمام يرجعون إليه عند اختلافهم، وإلّا لأفضى ذلك إلى الهلاك. ويشهد لذلك ما يثور من الفتن عند موت الأئمّة، بحيث يقطع/ بأنّها لو تمادت لتعطّلت أمور المعاش والمعاد.

وقد سبق أنّ الشّيطان- لعنه الله- أطلع رأسه، ومدّ مطامعه، وأوقد نار الشّتات، ونصب راية الخلاف بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتّى أطفأها الله بالصّدّيق، مع أنّهم أفضل الأمّة رضي الله عنهم، فما الظّنّ بغيرهم؟ قال الله سبحانه وتعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ [سورة البقرة 2/ 251] . وما أحسن قول عبد الله بن المبارك- رحمه الله تعالى-[من البسيط] : الله يدفع بالسّلطان معضلة ... عن ديننا وبه إصلاح دنيانا لولا الأئمّة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبا لأقوانا

فصل في شروط الإمامة

فصل في شروط الإمامة وحدّ الإمامة أنّها رئاسة عامّة في أمور الدّين والدّنيا لشخص بشروط؛ وهي عشرة: الأوّل: أن يكون ذكرا، إذ النّساء ناقصات عقل ودين «1» . الثّاني: أن يكون بالغا، لقصور عقل الصّبيّ. الثّالث: أن يكون عاقلا، إذ لا يصلح المجنون لتصرّفات نفسه فضلا عن غيره «2» . الرّابع: أن يكون حرّا، إذ العبد مشغول بخدمة سيّده، ولأنّه مستحقر تستنكف النّفوس عن الانقياد له «3» . الخامس: أن يكون عدلا «4» ، لأنّ الفاسق غير مأمون شرعا،

_ (1) ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» . (2) ولا يكفي فيه الحدّ الأدنى للمطالبة بالتّكاليف الشّرعيّة من صلاة وصوم ونحوهما، بل لا بدّ فيه من رجحان الرّأي، بأن يكون صاحبه صحيح التّمييز، جيد الفطنة، بعيدا عن السّهو والغافلة، يتوصّل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل. (3) ولأنّ نقص العبد عن ولاية نفسه يمنع من انعقاد ولايته على غيره. ولأنّ الرّقّ كمّا منع من قبول الشّهادة، كان أولى أن يمنع من نفوذ الحكم وانعقاد الولاية. (4) والعدالة: (أي: الدّيانة والأخلاق الفاضلة) ، وهي معتبرة في كلّ ولاية، وهي: أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفا عن المحارم، متوقيا الماثم، بعيدا من الرّيب، مأمونا في الرّضا

السادس: أن يكون ذا رأي وبصارة بتدبير الأمور،

فربّما ضيّع الحقوق، وصرّف الأشياء في غير مصارفها. السّادس: أن يكون ذا رأي وبصارة بتدبير الأمور، لأنّ المغفّل لا يقوم بأمر الملك. السّابع: أن يكون شجاعا، لأنّ الجبان لا قوّة له على الذّبّ عن حوزة الدّين، وحريم المسلمين لجرأة العدوّ عليه. الثّامن: أن يكون قرشيّا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الأئمّة من قريش» «1» مع عمل الصّحابة رضي الله عنهم به، وإجماعهم عليه، وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا ولو لعبد حبشيّ» «2» فمحمول على السّمع والطّاعة لأمراء الجيوش ونحوهم من ولاة الإمام «3» . التّاسع: أن يكون/ عالما مجتهدا في أصول الدّين وفروعه، ولغة العرب وأعرابها، مشتغلا بالفتوى في الحوادث، لأنّ الجاهل أو القاصر عن رتبة الاجتهاد لا يتمكّن من حفظ العقائد، وحلّ الشّبه، وإقامة الحجج والبراهين، ولا من فصل الخصومات عند النّزاع «4» .

_ والغضب، مستعملا لمروءة مثله في دينه ودنياه. وفي الجملة: هي التزام الواجبات الشّرعيّة، والامتناع عن المنكرات والمعاصي المحرّمة في الدّين. (1) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (11859) ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (6723) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (3) قلت: وكذلك إذا دعت الضّرورة لذلك، كما وقع بالنّسبة لخلفاء بني عثمان. (4) ويستحب له أن يعرف أيضا أحوال العصر، وما يطرأ عليه من تغيّرات وتطوّرات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة.

العاشر: أن تعقد الإمامة طوعا،

العاشر: أن تعقد الإمامة طوعا، إمّا بأن يبايعه أهل الحلّ والعقد «1» كأبي بكر، أو يستخلفه إمام سابق جامع لشروط الإمامة كعمر بن الخطّاب رضي الله عنه. [الشّروط في عاقدي البيعة للإمام وشرط صحّة البيعة] وشرط العاقدين: أن يكونوا عدولا، ذوي رأي ومعرفة بالمصالح، ولا يشترط في صحّة البيعة إجماع الحاضرين منهم ببلدها، من أهل الحلّ والعقد، فضلا عن إجماع أهل الأقطار، لأنّ الصّحابة لم يفتقروا في عقدها لأبي بكر إلى حضور عليّ وعبّاس وسائر بني هاشم رضي الله عنهم أجمعين، بل يكتفى ببيعة واحد منهم في ثبوت الإمامة لمن عقدها له، ووجوب اتّباع المعقود له على سائر أهل الإسلام، لاكتفاء الصّحابة مع صلابتهم في الدّين بعقد عمر لأبي بكر كما سبق، وعقد عبد الرّحمن بن عوف لعثمان كما سيأتي. [انعقاد الإمامة للإمام الّذي تمّ السّبق لأهل الحلّ والرّبط في عقدها له] ثمّ إذا انعقدت الإمامة لشخص لم يجز عقدها لآخر لأدائه إلى ثوران الفتنة، فإن اتّفق التّعدّد فالإمامة للسّابق، وغيره باغ إن أصرّ، فيجب أن يقاتل حتّى يفيء إلى أمر الله، فإن جهل السّابق بطل في الجميع، واستؤنف العقد لمن وقع عليه الاختيار. [جواز خلع الإمام وعزله] ثمّ إذا وجد من الإمام ما يقتضي اختلال أمور الدّين، وانتقاض مصالح المسلمين؛ جاز لأهل الحلّ والعقد خلعه وعزله، كما كان لهم نصبه ابتداء، إلّا إذا كان المضرّة في خلعه أعظم من المضرّة في تقريره، فيحتمل أدنى المضرّتين.

_ (1) وهم العلماء المختصّون (أي: المجتهدون) ، والرّؤساء، ووجوه النّاس؛ الّذين يقومون باختيار الإمام نيابة عن الأمّة.

عدم الجواز لأهل الحل والعقد تقليد الإمامة لمن فقد بعض شروطها بوجود الكامل المستوفي جميع شروطها

[عدم الجواز لأهل الحلّ والعقد تقليد الإمامة لمن فقد بعض شروطها بوجود الكامل المستوفي جميع شروطها] ولا يجوز لأهل الحلّ والعقد أن ينصّبوا فاقدا لبعض الشّرائط مع وجود الكامل. نعم لهم نصب المفضول مع وجود الأفضل، إذا كان المفضول أصلح، إذ المعتبر في ولاية كلّ أمر والقيام/ به معرفة مصالحه ومفاسده، والقوّة على القيام بلوازمه ومقاصده، وربّ مفضول في علمه وعمله هو بالرّئاسة أعلم، وبشرائطها أقوم. وكذا يجوز لأهل الحلّ والعقد عند فقد الكامل نصب فاقد لبعض الشّرائط السّابقة، دفعا للمفاسد الّتي لا تندفع إلّا بنصب الأئمّة- وبعض الشّرّ أهون من بعض- والله يعلم المفسد من المصلح.

فصل في الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

فصل في الإمام الحقّ بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجمع أهل السّنّة سلفا وخلفا على أنّ الإمام الحقّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ عليّ. على ترتيبهم في الخلافة رضي الله عنهم. وأجمع معظم الأمّة على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينصّ على خلافة رجل معيّن، بل أشار إلى ما سيكون بعده من غير وصيّة بذلك، كقوله: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» «1» [وقوله] : «ويأبى الله والمسلمون إلّا أبا بكر» «2» . [أمر النّبيّ ص بتقديم أبي بكر للصّلاة في مرضه وبحضور عليّ] وثبت أنّ عليّا رضي الله عنه كان يقول: قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فصلّى بالنّاس وأنا حاضر غير غائب، وصحيح غير مريض، ولو شاء أن يقدّمني قدّمني، أفلا نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا؟ «3» . قال العلماء: وهل بقي من أمر الخلافة بعد الإمامة في الصّلوات إلّا جباية الزّكوات؟ وكيف يحسن لي أو لغيري أن يعزل أبو بكر عن الإمامة في الصّلوات، أو يكون غيره خليفة مأموما به في الصّلوات الّتي هي أعظم شعائر الدّين؟

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3672) . عن عائشة رضي الله عنها. (2) أخرجه مسلم، برقم (2387/ 11) . عن عائشة رضي الله عنها. (3) سير أعلام النّبلاء، (سيرة الخلفاء الرّاشدين) ، ص 11- 12.

تفنيد آراء الشيعة في استخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم عليا

قلت: وسبق أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا أعطى عثمان وشيبة مفتاح (الكعبة) قال: «خذاها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلّا ظالم» » . فالإمامة أولى. قال الشّيخ الرّبّانيّ محيي الدّين النّوويّ- رحمه الله تعالى- في «شرح صحيح مسلم» : (وخلافة أبي بكر رضي الله عنه لم تكن بنصّ صريح، بل بإجماع الصّحابة رضي الله عنهم على عقدها له، فقدّموه لشهرة فضله عندهم، ولو كان هناك نصّ صريح عليه، أو على غيره؛ لم تقع المنازعة أوّلا من/ الأنصار- أي: بقولهم: (منّا أمير ومنكم أمير) - ولذكر حافظ النّصّ ما معه، ولرجعوا إليه- أي: كما احتجّ أبو بكر على الأنصار بقوله صلى الله عليه وسلم: «الأئمّة من قريش» ورجعوا إليه- قال: لكن تنازعوا أوّلا، ثمّ اتّفقوا على أبي بكر رضي الله عنه) «2» . [تفنيد آراء الشّيعة في استخلاف الرّسول صلى الله عليه وسلم عليا] قال: (وأمّا ما تدّعيه الشّيعة من النّصّ على عليّ رضي الله عنه فباطل، لا أصل له باتّفاق المسلمين. وأوّل من كذّبهم عليّ رضي الله عنه، ولو كان عنده نصّ لذكره، ولم ينقل أنّه ذكره في يوم من الأيّام) «3» انتهى. قال العلماء: ولو كان ثمّ نصّ لتواتر، ولم يمكن ستره عادة، إذ ذلك ممّا تتوفّر الدّواعي على نقله. وإذا لم يكن نصّ فالبيعة لم توجد لغير أبي بكر إجماعا، فوجب أن يكون هو الإمام الحقّ، ثمّ منصوبه عمر، ثمّ عثمان المجمع على عقد الخلافة له، ثمّ عليّ رضي الله عنهم.

_ (1) ذكره ابن سيّد النّاس في «عيون الأثر» ، ج 2/ 178. (2) شرح صحيح مسلم، للنّوويّ، ج 15/ 126. بتصرّف من المؤلّف. (3) شرح صحيح مسلم، للنّوويّ، ج 15/ 126. بتصرّف من المؤلّف.

مبايعة علي أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم

قال العلماء: وأمّا ما تدّعيه الشّيعة أنّ عليّا رضي الله عنه قد أظهر النّصّ فلم يقبل منه، فمن أكاذيبهم الشّنيعة الّتي ظاهرها الرّفض، وباطنها الكفر المحض، لإزرائهم «1» بذلك على الصّحابة، الّذين نقلوا هذا الدّين وحملوه، إذ لو أجمعوا على نبذ وصيّة نبيّهم بعد موته وقبل دفنه، لردّت روايتهم وبطلت عدالتهم، وبطل حينئذ هذا الدّين من أصله، الّذي وعد الله أن يظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون. [مبايعة عليّ أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم] وقد اجتمعت الأمّة على أنّ عليّا رضي الله عنه لم ينازع أبا بكر ولا عمر، وبايع أبا بكر وترضّى عنه وعن عمر، وأثنى عليهما بعد موتهما، وأنّه عقد الخلافة لعثمان بعد أن خلا دست الخلافة «2» وشغر، فلو كان عنده نصّ، أو كان رضي الله عنه يرى أنّه يتعيّن للخلافة، لنازعهم كما نازع الفئة الباغية في أيّام معاوية. وما يزعمه المبطلون من مداهنته رضي الله عنه في دين الله، يتحاشى عنه منصب عليّ العليّ رضي الله عنه، كيف وهو الّذي تضرب بشجاعته الأمثال، وتبطل عنده الأبطال؟ مع ما هو فيه من عزّة العشيرة نخبة بني/ هاشم، وبين الصّحابة الّذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، يشهد لهم القرآن بهجرهم في سبيل الله الأهل والأوطان. وإذا كان أبو طالب قاوم قريشا كلّها، كما سبق عنه من قوله، [من الكامل] «3» :

_ (1) أزرى: عابه وأدخل عليه أمرا يريد أن يلبّس عليه به. (2) دست الخلافة: منصب الخلافة. (3) دلائل النّبوّة، ج 2/ 188.

والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتّى أوسّد في التّراب دفينا فكيف يجوز لمن يدّعي الإسلام أن ينسب إلى أخي الرّسول، وبعل البتول، الأسد المواثب، ليث بني غالب؛ أنّه نبذ وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو داهن في دين الله؟ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [سورة النّور 24/ 16] . قال العلماء: وما يتمسّك به الشّيعة من الظّواهر الّتي توهم كون عليّ رضي الله عنه متعيّنا للإمامة، معارض بنصوص كثيرة، تشير إلى تعيّن الصّدّيق تلويحا، بل تصريحا، يجب تقريرها، وتأويل ما عارضها، لانعقاد الإجماع على مقتضاها. وقد قام الدّليل المتواتر القطعيّ على عصمة الصّحابة، فمن بعدهم من القرون؛ من أن يجتمعوا على الضّلال، وقد سمّاهم الله: خير أمّة، فلو تعاونوا على الإثم والعدوان- كما يزعم أهل الباطل والبهتان- لكانوا شرّ أمّة، كيف وقد وعد الله من اتّبع غير سبيلهم؟ فقال تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [سورة النّساء 4/ 115] .

فصل في فضل الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم أجمعين

فصل في فضل الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم أجمعين [الأئمّة من قريش] قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» «1» . قال العلماء: هو خبر بمعنى الأمر- أي: لا تزيلوا الخلافة من قريش- وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذا الأمر في قريش ما أقاموا الدّين» . متفق عليهما «2» . وقال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً الآية [سورة النّور 24/ 55] . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثمّ تكون ملكا عضوضا» «3» /.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3310) . ومسلم برقم (1820/ 4) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3309) . عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. (3) أخرجه التّرمذيّ، برقم (2226) ؛ بنحوه. عن سفينة مولى رسول الله رضي الله عنه. ملك عضوض: فيه عسف وظلم.

وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

فدلّت الآية الكريمة بوعد الله الحقّ من أنّ هذه الأمّة لا بدّ أن يقيم الله لها خلفاء بعد نبيّها، يمكّن لهم الدّين الّذي ارتضى لهم ويبدّلهم من بعد خوفهم أمنا، وذلك إن كان في حقّ من بعد الخلفاء الأربعة الأئمّة فباطل اتّفاقا، وإن كان فيهم فهم الّذين صدق وعد الله فيهم، وتعيّن حينئذ صحّة خلافتهم، وصحّة ترتيبهم، لأنّ الطّرفين من الأربعة، وهما: أبو بكر وعليّ دون الوسط في تحقيق التّمكين الموعود في الدّين؛ إذ الصّدّيق رضي الله عنه إنّما قاتل أهل الرّدّة ليعودوا إلى ما كانوا عليه من الإسلام، وعلي رضي الله عنه إنّما قاتل الفئة الباغية لتفيء إلى أمر الله. وحقيقة التّمكين في الدّين إنّما حصل في مدّة عمر وعثمان رضي الله عنهما، وإذا صدق الوعد الحقّ في الوسط، وجب صدقه في الطّرف الأوّل قطعا، وفي الآخر إجماعا. وأمّا الحديث الشّريف: ففيه حكم منه صلى الله عليه وسلم بأنّ مدّة القائمين بالخلافة بعده- أي: على ما كان هو عليه صلى الله عليه وسلم- ثلاثون سنة، وذلك هو قدر مدّة الخلفاء الأربعة مع أيّام خلافة سيّدنا الحسن بن عليّ رضي الله عنهما. لأنّ الصّدّيق رضي الله عنه بويع له بالخلافة في اليوم الّذي مات فيه رسول صلى الله عليه وسلم، في سقيفة (بني ساعدة) ، ثمّ بويع له البيعة العامّة من غد ذلك اليوم كما سبق. [وفاة أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه] وتوفّي رضي الله عنه لثمان ليال بقين من شهر جمادى الأولى، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، فمدّة خلافته سنتان وشهران ونصف شهر، وسنّه رضي الله عنه يوم مات ثلاث وستّون سنة كسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن معه في حجرته.

عهد الصديق بالخلافة إلى عمر رضي الله عنهما

[عهد الصّدّيق بالخلافة إلى عمر رضي الله عنهما] وعهد بالخلافة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وقال: ولّيت عليهم خيرهم. وتوفّي عمر شهيدا في صلاة الصّبح من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجّة، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، فمدّة خلافته/ عشر سنين وستّة أشهر. [انتخاب عثمان رضي الله عنه وخلافته] وأوصى بالخلافة شورى بين ستّة من العشرة. وهم: عثمان، وعليّ، وعبد الرّحمن بن عوف، وطلحة، والزّبير، وسعد، فأجمع رأيهم بعد شدّة البحث على عثمان رضي الله عنه، فبايعوه بالخلافة يوم السّبت، غرّة المحرّم، أوّل سنة أربع وعشرين من الهجرة. [مقتل عثمان رضي الله عنه] وقتل ب (المدينة) شهيدا يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة، سنة خمس وثلاثين من الهجرة، فمدّة خلافته اثنتا عشرة سنة، وقد قارب ثمانين سنة، ودفن ب (البقيع) . [مبايعة عليّ رضي الله عنه بالخلافة ومقتله بالكوفة] وبويع لعليّ رضي الله عنه في ذلك اليوم، في دار من دور الأنصار، ثمّ بويع له البيعة العامّة من الغد في (المسجد النّبويّ) ، وقتل ب (الكوفة) شهيدا صبح الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان المعظّم، سنة أربعين من الهجرة، ومدّة خلافته أربع سنين وتسعة أشهر- بتقديم التّاء- رضي الله عنه وعنهم أجمعين.

فصل في ذكر شيء من فضائل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

فصل في ذكر شيء من فضائل الصّحابة رضي الله عنهم أجمعين أجمع أهل السّنّة على أنّ خير الصّحابة وأفضلهم على ما رتّبوه هم رضي الله عنهم، فمن قدّموه فهو المقدّم، ومن أخّروه فهو المؤخّر، إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند الله عزّ وجلّ، وذلك غيب لا يطّلع عليه إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ورد من ثنائه صلى الله عليه وسلم على أصحابه عموما وخصوصا نصوص لا يدرك دقائقها، ويعرف حقائقها إلّا الصّحابة الّذين سمعوها وحملوها، وعرفوا أسبابها، وقرائن أحوالها، وشاهدوا ما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعامل به أصحابه، ويخصّ به بعضهم دون بعض من التّقديم والتّعظيم، فوجب الرّجوع في ذلك إلى الصّحابة الّذين شاهدوا الوحي والتّنزيل، وعلموا بقرائن الأحوال مراتب التّفضيل. وقد أجمعوا رضي الله عنهم- من غير توقّف ولا تردّد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته- على أنّ أفضلهم أبو بكر ثمّ عمر. وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، / كنّا نفاضل بين الصّحابة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول: أفضلهم أبو بكر، ثمّ عمر، فلا ينكر علينا «1» . وفي رواية: ثمّ نترك أصحاب رسول الله فلا نفاضل بينهم «2» . وفيهما-[أي: الصّحيحين]- عن محمّد بن عليّ بن أبي طالب

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3455) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3494) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

رضي الله عنهما- وهو ابن الحنفيّة- قال: قلت لأبي: أيّ النّاس خير بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟، فقال: أبو بكر، قلت: ثمّ من؟، قال: عمر «1» . واتّفقت الأمّة على أنّ خير الصّحابة: الخلفاء الأربعة. قال أهل السّنّة: ثمّ تمام العشرة المشهود لهم بالجنّة، ثمّ بقيّة أهل (بدر) ، ثمّ أهل (أحد) ، ثمّ أهل بيعة الرّضوان. قال الشّيخ محيي الدّين النّووي- رحمه الله تعالى-: (وأجمع أهل السّنّة على أن أفضلهم على الإطلاق: أبو بكر، ثمّ عمر، وقدّم جمهورهم عثمان على عليّ، وهو الصّحيح، ولهذا اختارته الصّحابة للخلافة وقدّموه، وهم أعلم بالتّرتيب) «2» . انتهى. قلت: ولهذا عقد الصّحابة الخلافة للصّدّيق من غير تردّد، وعقدها أبو بكر لعمر من غير تردّد، وتوقّف عمر فيمن يعقدها له. وقال الإمام الجليل الحافظ أبو عمر يوسف بن محمّد بن عبد البرّ المالكي- رحمه الله تعالى- في «شرح موطّأ الإمام مالك» - رحمه الله تعالى-: (أجمع أهل السّنّة على أنّ أفضل الأمّة بعد نبيّها: أبو بكر، ثمّ عمر، ووقف بعض السّلف في عثمان وعليّ. وأمّا اليوم فلا يختلف الخلف في أنّ التّرتيب: عثمان ثمّ عليّ. قال: وعليه عامّة أهل الحديث من لدن أحمد ابن حنبل وهلمّ جرّا) . انتهى. قال العلماء: ولولا فهم الصّحابة رضي الله عنهم ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رتّبوا الأمر كذلك، إذ كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عن الحقّ صارف.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3468) . (2) شرح صحيح مسلم، للنّوويّ، ج 15/ 121- 122. بتصرّف من المؤلّف.

فصل في أدلة فضل الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم

فصل في أدلّة فضل الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم ومن الأدلّة الشّاهدة على فضل الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، الموجبة لهم زيادة المزيّة على غيرهم: [فضائل الصّدّيق رضي الله عنه] قوله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا» ، متّفق/ عليه «1» . زاد في رواية: «ولكن أخوّة الإسلام أفضل» «2» . وفي أخرى: «ولكنّه أخي وصاحبي» «3» . أي: أنّ تسميتي له بما سمّاه الله به من الأخوّة والصّحبة في الغار أفضل من وصفي له بالخلّة. [وفي رواية] : إنّ أمنّ النّاس عليّ في صحبته وماله أبو بكر» ، متّفق عليه «4» . [وقوله] : «إنّ الله بعثني فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله» ، متّفق عليه «5» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3454) . ومسلم برقم (2382/ 2) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3457) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (3) أخرجه مسلم، برقم (2383/ 3) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3454) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (3461) . عن أبي الدّرداء عويمر بن مالك رضي الله عنه.

[وقوله] : «فهل أنتم تاركو لي صاحبي، فهل أنتم تاركو لي صاحبي- ثلاث مرّات-» ، متّفق عليه «1» . [وقوله] : «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» ، متّفق عليه «2» . [وقوله] : «إنّي أخشى أن يتمنّى متمنّ، أو يقول قائل: أنا أولى بالأمر، ويأبى الله ذلك والمؤمنون إلّا أبا بكر» ، متّفق عليه «3» . وقوله صلى الله عليه وسلم لمّا رجف به (أحد) ومعه أبو بكر وعمر وعثمان: «اثبت أو اسكن أحد، فما عليك إلّا نبيّ وصدّيق وشهيدان» ، متّفق عليه «4» . والخطاب عند المحقّقين محمول على الحقيقة، إقامة له مقام من يفعل، لتحرّكه، مع قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء إلّا ويعلم أنّي رسول الله» «5» . وقالوا: سبحان الله أبقرة تتكلّم وذئب يتكلّم؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فإنّي أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر» «6» ، متّفق عليه.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3461) ، عن أبي الدّرداء رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (633) . ومسلم برقم (418/ 94) . عن عائشة رضي الله عنها. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (5342) . ومسلم برقم (2387/ 11) . عن عائشة رضي الله عنها. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3472) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (5) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (13923) ؛ بنحوه. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (6) أخرجه البخاريّ، برقم (3284) . ومسلم برقم (2388/ 13) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فضائل عمر رضي الله عنه

وقيل له: من أحبّ النّاس إليك؟ قال: «عائشة» ، قيل: ومن الرّجال؟ قال: «أبوها» ، قيل: ثمّ من؟ قال: «عمر» ، متّفق عليه «1» . [فضائل عمر رضي الله عنه] [وقوله صلى الله عليه وسلم] : «إيه يا ابن الخطّاب، والله ما سلكت فجّا إلّا سلك الشّيطان فجّا غير فجّك» متّفق عليه «2» . أي: أنّ الحقّ يدور معه أينما دار، فهو من الّذين قال الله فيهم: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [سورة الحجر 15/ 42] . وشهادته صلى الله عليه وسلم بأنّ عمر من المحدّثين- بفتح المهملتين، أي: من أهل الإلهام الموافق للصّواب- وأنّه صلى الله عليه وسلم رآى عليه قميصا ضافيا يجرّه، وأوّله بوفور الدّين في أيّامه. متّفق عليه «3» . وأنّه [صلى الله عليه وسلم] سقى فضلة من اللّبن عمر، وأوّله بالعلم، متّفق عليه «4» . وأنّ عمر سقى النّاس حتّى أرواهم، متّفق عليه «5» . وأوّله العلماء بكثرة الخيرات والفتوحات في أيّامه.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3462) . ومسلم برقم (2384/ 8) . عن عمرو بن العاص رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3480) . ومسلم برقم (2396/ 22) . عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (23) . ومسلم برقم (2390/ 15) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (82) . ومسلم برقم (2391/ 16) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (3434) . ومسلم برقم (2393/ 19) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

فضائل عثمان رضي الله عنه

[فضائل عثمان رضي الله عنه] وقوله صلى الله عليه وسلم: «بشّره بالجنّة، على بلوى تصيبه» - يعني: عثمان- متّفق عليه «1» . [فضائل عليّ رضي الله عنه] وقوله/ صلى الله عليه وسلم: «لأعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله» ، فأعطاها عليّا. متّفق عليه «2» . مع قوله [صلى الله عليه وسلم] : «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى» ، متّفق عليه «3» . [مناقب الصّديق رضي الله عنه فضائل عليّ رضي الله عنه] هذا مع ما اشتهر للصّديق رضي الله عنه من سبقه إلى التّصديق من غير تردّد، وكثرة التّصدّق غير مرّة بجميع ماله في سبيل الله، وما كان يعرفه البرّ والفاجر والمؤمن والكافر من شدّة اختصاصه في الجاهليّة والإسلام بالنّبيّ عليه أفضل الصّلاة والسّلام، وقربه منه، ومجاورته له حيّا وميّتا، ثمّ ما أيّده الله به من الثّبات عند موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ووعظه المسلمين، ثمّ إطفاء نار الفتنة عند تنازع الصّحابة، وجهاد أهل الرّدّة، حتّى استقام الدّين، ومن تقواه المعروف، وصنائعه للمعروف، وكمال النّفس، ورسوخ القدم في التّوحيد، ووقر اليقين في الصّدر. [مناقب عمر رضي الله عنه] ومع ما عرف للفاروق رضي الله عنه من عزّة الإسلام بإسلامه ابتداء وانتهاء، ومن الشّدّة في الدّين، والجمع في السّياسة بين

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3471) . ومسلم برقم (2403/ 28) . عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (3499) . ومسلم برقم (2407/ 35) . عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (3503) . ومسلم برقم (2404/ 31) . عن سهل بن سعد رضي الله عنه.

مناقب عثمان رضي الله عنه

العنف واللّين، وكثرة الفتوحات، وموافقة رأيه للوحي في غير مرّة، وعدله، وإحسانه، وحسن سيرته المشهورة، حتّى قال أهل السّير: لو أنّ هذه الأمّة فاخرت جميع الأمم بسيرة عمر لفخرتها، إذ لم يعلم أنّ ملكا من المتقدّمين والمتأخّرين سار سيرته. [مناقب عثمان رضي الله عنه] ومع شهادة الرّسول صلى الله عليه وسلم لعثمان الشّهيد باستحياء الملائكة الكرام منه إجلالا واحتراما، وضربه له بسهمه وأجره يوم (بدر) ، وضربه بيده اليمنى على اليسرى عنه في بيعة الرّضوان، وتزويجه له بابنتيه رضي الله عنهما، ثمّ قال: «لو كان عندي ثالثة لزوّجتكها» » ، مع ما اشتهر من جمعه لمصاحف القرآن، ومواظبته على تلاوته، وكثرة الصّيام والقيام، وشفقته على الأمّة بوضع السّلاح تورّعا منه عن سفك الدّماء، وصدقاته المشهورة؛ كتجهيز جيش/ العسرة وحفر بئر (رومة) الموعود عليها بالجنّة. [مناقب عليّ رضي الله عنه] ومع شهادته صلى الله عليه وسلم للمرتضى عليّ بن أبي طالب بأنّه أقضاهم، وأنّه قائد الفئة النّاجية، وتقتل عمّارا الفئة الباغية، وتزويجه له بابنته فاطمة الزّهراء- سيّدة نساء أهل الجنّة، وأمّ الحسن والحسين، سبطي المصطفى صلى الله عليه وسلم- مع ما اشتهر من قدم إسلامه، ورسوخ علمه، وزهده، وشجاعته في نصرة دين الله، وشرف القرابة القربى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورضي الله عنهم أجمعين. ومن نظر بعين البصيرة في مناقب الخلفاء الأربعة الواردة في «الصّحيحين» ، أو في أحدهما- كما أوردناه، ولم تمل به الأهواء- ظهر له إصابة الصّحابة في ترتيبهم في الفضل على ترتيبهم في الخلافة. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [سورة الحديد 57/ 10] .

_ (1) أورده ابن كثير في «البداية والنّهاية» ، ج 5/ 39.

فصل في أدلة فضل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

فصل في أدلّة فضل الصّحابة رضي الله عنهم أجمعين الّذي عليه جمهور المحدّثين أنّ كلّ مسلم اجتمع بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم ولو لحظة فهو من الصّحابة. وقد ورد في فضلهم رضي الله عنهم من الآيات القرآنيّة والأحاديث النّبويّة ما لا يحصى. فروى البخاريّ ومسلم في «صحيحيهما» ، أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم- وفي رواية- خير النّاس قرني، ثمّ الّذين يلونهم- أي: التّابعون- ثمّ الّذين يلونهم- أي: تابعو التّابعين-» «1» . قال الشّيخ محيي الدّين النّوويّ- رحمه الله تعالى-: (ورواية «خير النّاس» على عمومها، والمراد منه جملة القرون السّابقة واللّاحقة، ولا يلزم منه تفضيل أهل قرنه على الأنبياء عليهم السّلام، إذ المراد جملة القرون، بالنّسبة إلى كلّ قرن بجملته. قال: والمراد بالقرن: الصّحابة، ثمّ الّذين يلونهم: التّابعون، ثمّ الّذين يلونهم: تابعو التّابعين) «2» . انتهى.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2509) . ومسلم برقم (2533/ 211) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. القرن: أهل كلّ زمان، وهو مقدار التّوسّط في أعمار أهل كلّ زمان، مأخوذ من الاقتران، وكأنّه المقدار الّذي يقترن فيه أهل ذلك الزّمان في أعمارهم وأحوالهم. وقيل: القرن: أربعون سنة، وقيل ثمانون، وقيل: مئة، وقيل: هو مطلق من الزّمان [النّهاية في غريب الحديث، ج 4/ 51. (أنصاريّ) ] . (2) شرح صحيح مسلم، للنّوويّ، ج 16/ 69. بتصرّف من المؤلّف.

قلت: وأوّل قرن الصّحبة من مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى موت آخرهم موتا؛ وهو أبو الطّفيل على رأس عشر بعد المئة من الهجرة، لمئة/ من الوفاة، وهو أيضا آخر قرن التّبعيّة لتعذّرها حينئذ، وأوّله من الوفاة لتعذّر الصّحبة حينئذ. والله أعلم. قال العلماء: وإنّما كانوا خير القرون بشهادة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم بكلّ فضيلة؛ من الإخلاص والصّدق والتّقوى، والشّدّة في الدّين، والرّحمة على المؤمنين، ونصرة الله ورسوله، والجهاد في سبيله، وبذل النّفوس والأموال وبيعها من الله تعالى، وإيثارهم على أنفسهم، وكونهم خير أمّة أخرجت للنّاس، وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، والحائزين على الفوز والفلاح والبشارة بأعلى الجنان وجوار الرّحمن، إلى غير ذلك. ومدح الله لا يتبدّل، ووعده لا يخلف ولا يتحوّل، إذ هو سبحانه المطّلع على عواقب الأمور، والعالم بخائنة الأعين وما تخفي الصّدور، فلا يمدح جلّ وعلا إلّا من سبقت له منه الحسنى، وكان ممدوحا في الآخرة والأولى. قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التّوبة 9/ 100] . وقال سبحانه: لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التّوبة 9/ 88- 89] . وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ

بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [سورة التّوبة 9/ 111] . وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ الآية [سورة الفتح 48/ 29] . وقال تعالى في حقّ المهاجرين: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ/ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحشر 59/ 8] . [وقال تعالى] في حقّ الأنصار: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر 59/ 9] . [وقال تعالى] في حقّ التّابعين لهم بإحسان، المستغفرين لهم، السّالمين من غلّ القلوب- جعلنا الله منهم-: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة الحشر 59/ 10] . وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا أصحابي، فو الّذي نفسي بيده، لو أنّ أحدكم أنفق مثل (أحد) ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» ، متّفق عليه «1» . قال الشّيخ محيي الدّين النّوويّ- رحمه الله تعالى-: (ومعنى

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3470) . ومسلم برقم (2540/ 221) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الحديث: لو أنفق أحدكم في سبيل الله مثل (أحد) ذهبا ما بلغ ثوابه ثواب نفقة أحدهم مدّا من طعام ولا نصيفه. قال: وسبب ذلك كون نفقتهم رضي الله عنهم في وقت الضّرورة وضيق الحال، وفي نصرته صلى الله عليه وسلم، وحماية دينه وإعزازه، وكذلك كان جهادهم وسائر طاعاتهم، وذلك معدوم فيمن بعدهم، مع أنّ فضيلة الصّحبة ولو بلحظة لا توازيها فضيلة، ولا تنال درجتها بشيء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) «1» انتهى. والمخاطب بقوله: «لا تسبّوا أصحابي» الأمّة، أو أنّه نزّل السّابّ منزلة من ليس من أصحابه، أو خصّ بالصّحبة السّابقين منهم، كما ورد في سبب الحديث أنّ خالد بن الوليد سبّ عبد الرّحمن بن عوف. قال العلماء: وإذا ثبت ثناء الله ورسوله عليهم رضي الله عنهم بكلّ فضيلة، والشّهادة لهم بالمناقب الجليلة، فأيّ دين/ يبقى لمن نبذ كتاب الله وراء ظهره، فنسبهم إلى باطل، أيقول هذا الجاهل بأنّ الله- تعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا- لمّا وصفهم وأثنى عليهم كان جاهلا بما يؤول إليه حالهم، فتبدّل قوله الحقّ باطلا، والصّدق كذبا، أم كان عالما بذلك، ولكنّه خان رسوله بالثّناء على من ليس أهلا للثّناء، ورضي لرسوله المجتبى عنده بصحبة الفاسقين، ومصافاة المنافقين. كلّا، والله لقد كانوا أحقّ بتلك الفضائل وأهلها. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [سورة الأحزاب 33/ 40] .

_ (1) شرح صحيح مسلم، للنّوويّ، ج 16/ 76. بتصرّف من المؤلّف.

وكانوا كما وصفهم الله: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [سورة الأحزاب 33/ 23] . اللهمّ إنّا نشهد أنّهم كما وصفتهم من أنّهم خير أمّة، ونثني عليهم بما أثنيت عليهم من الفضائل الجمّة، ونعتقد أنّهم قد قلّدوا رقاب الخاصّة والعامّة المنّة؛ لأنّهم الّذين جاهدوا في الله حقّ جهاده، حتّى قرّروا هذا الدّين، ثمّ حملوه إلى النّاس كما نقلوه، باذلين في ذلك غاية الجهد والنّصح، ونعتقد وجوب تعظيمهم واحترامهم ومحبّتهم، والكفّ عمّا شجر بينهم، وحسن الظّنّ بهم، والإعراض عمّا يورده الإخباريّون عنهم، ممّا لا يسلم من مثله بشر، إلّا من عصمه الله، وهم غير معصومين، وحمل ما صحّ عنهم من الهفوات الّتي هي قطرة كدرة في بحر صاف من محاسنهم على أحسن المحامل، وتأويله بما يليق بجلالة قدرهم، ولا يحرم ذلك إلّا من حرم التّوفيق. اللهمّ فانفعنا بحبّهم، واعصمنا عن سبّهم، وأحينا على سنّتهم، وتوفّنا على ملّتهم، واحشرنا في زمرتهم، يا أرحم الرّاحمين. وما أحسن قول صاحب البردة- رحمه الله تعالى- فيهم، [من البسيط] «1» : ما زال يلقاهم في كلّ معترك ... حتّى حكوا بالقنا لحما على وضم «2»

_ (1) البردة، في جهاد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ص 33- 34. (2) الوضم: ما يضع القصّاب اللّحم عليه من خشبة أو نحوها. والمراد هنا: أنّه صلى الله عليه وسلم ما زال يقاتل الكفّار حتّى تركهم قتلى معدّين لأكل السّباع والطّيور لحومهم.

كأنّما الدّين ضيف حلّ ساحتهم ... بكلّ قرم إلى لحم العدا قرم «1» يجرّ بحر خميس فوق سابحة ... يرمي بموج من الأبطال ملتطم «2» من كلّ منتدب لله محتسب ... يسطو بمستأصل للكفر مصطلم «3» / حتّى غدت ملّة الإسلام وهي بهم ... من بعد غربتها موصولة الرّحم مكفولة أبدا منهم بخير أب ... وخير بعل فلم تيتم ولم تئم «4»

_ (1) القرم: السّيّد الشّجاع. القرم: شديد الشّهوة إلى اللّحم. (2) الخميس: الجيش العظيم، سمّي بذلك لأنّه مركّب في خمس قوائم؛ المقدّمة، والميمنة، والميسرة، والقلب، والمؤخّرة. السّابحة: الخيل. كأنّها تسبح مسرعة في طلب الكفّار. (3) يسطو: يصول. بمستأصل للكفر: أزال الكفّار من أصلهم. مصطلم: مهلك لهم. (4) البعل: الزّوج. تيتم: تفقد الأب. تئم: تفقد الزّوج، والأيّم: من لا زوج لها.

الخاتمة في ذكر شيء من سيرته صلى الله عليه وسلّم في أحواله النفسيّة وأقواله القدسيّة

الخاتمة

الباب الأوّل في أحواله النّفسيّة وفيه فصول سبعة: في حسن خلقته صلّى الله عليه وسلّم، وحسن خلقه، ووفور عقله، وحسن عشرته، وسماحته، وشجاعته، وزهده.

فصل في حسن خلقته صلى الله عليه وسلم

فصل في حسن خلقته صلّى الله عليه وسلّم إعلم أنّ من نظر إلى خصال الكمال وجد نبيّنا صلى الله عليه وسلم حائزا لجميعها، محيطا بشتاتها. أمّا حسن خلقته صلى الله عليه وسلم: فقد كان كما في الحديث الصّحيح أحسن النّاس وجها، وأكملهم صورة. وأحسنهم خلقا، حتّى كأنّ الشّمس تجري في وجهه، إذا ضحك تلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أجمل النّاس من بعيد، وأحلاهم وأحسنهم من قريب. يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله. وكان له شعر يبلغ شحمة أذنيه، فإذا جاوزها قصّه. وكان صلى الله عليه وسلم نظيف الجسم، طيّب الطّيب والعرق طبعا، لا يشمّ عنبر ولا مسك أطيب من ريحه، يصافح المصافح فيظلّ يومه يجد ريح يده، سواء مسّها بطيب أم لا، ويضع يده على رأس الصّبيّ فيعرف من بين الصّبيان بريحه، ولا يمرّ في طريق فيتبعه أحد إلّا عرف أنّه سلكه من طيبه، لم يكن منه شيء يكره صلى الله عليه وسلم. فائدة [: في أشبه النّاس صورة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم] أشبه النّاس صورة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم من أولاده: فاطمة، وابناها الحسن والحسين رضي الله عنهم، ومن أهل بيته أربعة: وهم: بنو أعمامه الثّلاثة: جعفر بن أبي طالب، وقثم بن العبّاس، وأبو سفيان المغيرة بن الحارث، والسّائب بن يزيد جدّ الإمام

الشّافعيّ رضي الله عنهم. وقد نظم- هؤلاء الأربعة مع الحسن بن عليّ- بعض الفضلاء فقال/، [من البسيط] : بخمسة شبّه «1» المختار من مضر ... يا حسن ما خوّلوا من وجهه الحسن كجعفر وابن عمّ المصطفى قثم ... وسائب وأبي سفيان والحسن «2»

_ (1) في «فتح الباري» : (* بخمسة أشبهوا) . (2) وقد أوصلهم الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (ج 7/ 97) إلى خمسة عشر شخصا، ونظمهم وحقق الكلام في أمرهم تحقيقا نفيسا، فقال- من نظم الإمام أبي الوليد بن الشحنة قاضي حلب-: وخمس عشر لهم بالمصطفى شبه ... سبطاه وابنا عقيل سائب قثم وجعفر وابنه عبدان مسلم أبو ... سفيان كابس عثم ابن النجاد هم

فصل في حسن خلقه صلى الله عليه وسلم

فصل في حسن خلقه صلّى الله عليه وسلّم وأمّا حسن خلقه صلى الله عليه وسلم: فقد كانت فيه الأخلاق الحميدة، والآداب المجيدة، جميعها على الانتهاء في كمالها، والاعتدال في غايتها، حتّى أثنى الله عليه بذلك، فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم 68/ 4] . وفي «الصّحيحين» : كان خلقه القرآن «1» - أي: مطبوعا على ما احتوى عليه من العدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، آخذا للعفو، آمرا بالعرف، معرضا عن الجاهلين- إلى غير ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» «2» . وكان صلى الله عليه وسلم مجبولا عليها في أصل خلقته، مطبوعا عليها في أوّل فطرته؛ بالجود الإلهيّ، والتّخصيص الرّحمانيّ، ثمّ ازداد كمالا بترادف نفحات الكرم، وإشراق أنوار المعارف والحكم، وطلوع شمس النّبوّة والرّسالة، واتّساق بدر الخلّة والمحبّة، إلى ما لا يحيط به الوصف، ولا يدركه الوهم، ولا يعلمه إلّا مانحه ومسديه، ومعيد الفضل ومبديه.

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (746/ 139) . عن عائشة رضي الله عنها، وهذا الحديث انفرد به مسلم دون البخاري. (2) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (7829) . ومالك في «الموطّأ» ، كتاب (47) ، برقم (8) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فصل في وفور عقله صلى الله عليه وسلم

فصل في وفور عقله صلّى الله عليه وسلّم وأمّا وفور عقله وذكاء لبّه صلى الله عليه وسلم: فمن تأمّل حسن تدبيره صلى الله عليه وسلم لأمور بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسته للخاصّة والعامّة، مع عجيب شمائله، وغريب سيره، فضلا عمّا نشره من العلم، وقرّره من الشّرع، وما علّمه الله من ملكوت سماواته وأرضه، وآيات قدرته، وأطلعه عليه ممّا كان وممّا سيكون، ومع ما خصّه الله به من جوامع كلمه، وبدائع حكمه، ومع التّأييد الإلهيّ والعصمة بالوحي السّماويّ، فإنّه يقتضي العجب، ويذهب به الفكر، ويعلم يقينا مصداق قوله تعالى تشريفا له وتكريما وتعظيما: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [سورة النّساء 4/ 113] . وعن وهب بن منبّه- رحمه الله تعالى- قال: قرأت في أحد وسبعين كتابا، فوجدت فيها أنّ الله تعالى لم يعط جميع الأوّلين/ والآخرين من العقل في جنب عقل نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم إلّا كحبّة رمل من رمال الدّنيا. ولا شكّ أنّ العقل عنصر الأخلاق الشّريفة، ومنه ينبعث العلم والمعرفة، فبحسب عقله صلى الله عليه وسلم كانت علومه ومعارفه، وهو عليه الصّلاة والسّلام أحسن النّاس خلقا وعلما ومعرفة وعقلا، وذلك سجيّة فيه وطبعا [وصف ما امتاز به النّبيّ صلى الله عليه وسلم في خلقه وخلقه] وما أحسن قول صاحب البردة- رحمه الله تعالى- فيها، [من البسيط] «1» :

_ (1) البردة، في مدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ص 14.

فاق النّبيّين في خلق وفي خلق ... ولم يدانوه في علم ولا كرم وكلّهم من رسول الله ملتمس ... غرفا من البحر أو رشفا من الدّيم «1» وواقفون لديه عند حدّهم ... من نقطة العلم أو من شكلة الحكم فهو الّذي تمّ معناه وصورته ... ثمّ اصطفاه حبيبا بارئ النّسم «2» منزّه عن شريك في محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم

_ (1) الغرف: أخذ الماء براحة اليد. الرّشف: أخذ الماء بالشّفتين، وهو غير المصّ. الدّيم: جمع ديمة؛ وهي المطر الدّائم. (2) النّسم: جمع نسمة؛ وهي الإنسان. البارئ: الخالق.

فصل في حسن عشرته صلى الله عليه وسلم

فصل في حسن عشرته صلّى الله عليه وسلّم وأمّا حسن عشرته صلى الله عليه وسلم ووفور شفقته ورحمته: فقد قال الله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة التّوبة 9/ 128] . وفي «الصّحيحين» ، أنّه صلى الله عليه وسلم كان أوسع النّاس صدرا، وأكرمهم عشرة، وألينهم عريكة- أي: خبرة- «1» قد وسع النّاس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحقّ سواء «2» . يؤلّفهم ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم ويولّيه عليهم، ويحذر النّاس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره، ويتعهّد أصحابه، ويعطي كلّ جلسائه نصيبه، ولا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه، ومن جالسه صابره حتّى ينصرف، ومن سأله حاجة لم يردّه إلّا بها، أو بميسور من القول «3» . وما أخذ أحد بيده فأرسلها حتّى يرسلها الآخذ «4» .

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3718) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. والحديث ليس في الصحيحين. (2) الشّفا، للقاضي عياض، ج 1/ 246. (3) الشّفا، للقاضي عياض، ج 1/ 245- 246. (4) الشّفا، للقاضي عياض، ج 1/ 248.

وكان يجيب من دعاه من حرّ أو عبد، أو غنيّ أو فقير، وما دعاه أحد إلّا قال: «لبّيك» «1» . ويعود المرضى، ويقبل عذر المعتذر، ويقبل الهديّة ويكافئ عليها، ويمازح أصحابه. ولكن لا يقول إلّا حقّا، ويخالطهم ويحادثهم، ويضع أطفالهم في حجره/، ويداعب صبيانهم، ويدعوهم بأحبّ أسمائهم «2» . ويبدأ من لقيه بالسّلام والمصافحة، ولا يقطع على أحد حديثه حتّى ينتهي «3» . وكان مجلسه مجلس حلم وحياء، وصدق وأمانة، إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطّير.

_ (1) الشّفا، للقاضي عياض، ج 1/ 247- 248. (2) الشّفا، للقاضي عياض، ج 1/ 248. (3) الشّفا، للقاضي عياض، ج 1/ 249.

فصل في سماحته وجوده صلى الله عليه وسلم

فصل في سماحته وجوده صلّى الله عليه وسلّم وأمّا سماحته وجوده صلى الله عليه وسلم: فمن المعلوم أنّه كان بالمحلّ الأكمل. وفي «الصّحيح» ، أنّه صلى الله عليه وسلم كان أجود النّاس بالخير، وأجود ما يكون في رمضان «1» . وأنّه كان إذا لقيه جبريل عليه السّلام أجود بالخير من الرّيح المرسلة «2» . وما سئل عن شيء قطّ فقال: «لا» «3» . وسبق أنّه أعطى رجلا من غير سؤال غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإنّ محمّدا يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان عندي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم، ثمّ لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا» «5» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (2308/ 50) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (6) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (5687) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (4) أخرجه مسلم، برقم (2312/ 57) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. الفاقة: الحاجة والفقر. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (2666) . عن جبير بن المطعم رضي الله عنه.

وفي «الصّحيحين» ، أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحبّ أن يكون لي مثل (أحد) ذهبا، تمسي عليّ ثالثة وعندي منه شيء إلّا أن أقول به في عباد الله، هكذا وهكذا وهكذا» وحثا بين يديه وخلفه، وعن يمينه وشماله «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم جاءه مال من (البحرين) - أي: نحو مئة ألف- فأمر بطرحه على نطع في المسجد، فصلّى العصر، ثم انصرف إليه، فما قام من مجلسه حتّى فرّقه عطاء «2» .

_ العضاه: شجر عظيم له أشواك. (1) أخرجه البخاريّ، برقم (5913) . ومسلم برقم (94/ 32) . عن أبي ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه. (2) ذكره ابن سيّد النّاس في «عيون الأثر» ، ج 2/ 329. وأخرج مسلم، برقم (2314/ 60) ؛ نحوه. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. النّطع: بساط من الجلد.

فصل في شجاعته صلى الله عليه وسلم

فصل في شجاعته صلّى الله عليه وسلّم وأمّا شجاعته صلى الله عليه وسلم: فقد كان في ذلك بالمكان الّذي لا يجهل «1» . بذلك وصفه من عرفه، فقد حضر المواقف الصّعبة، وفرّ الكماة منه غير مرّة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يتزحزح، كما سبق في يوم (أحد) ، ويوم (حنين) «2» . وثبت عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال- وهو البطل المقدام واللّيث الضّرغام-: كنّا إذا حمي الوطيس، واشتدّ البأس، واحمرّت الحدق؛ اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم/، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، وكان أشجعنا من كان أقرب إليه «3» . وسبق قول العّباس رضي الله عنه في يوم (حنين) : وأنا آخذ بلجام بغلته صلى الله عليه وسلم، أكفّها إرادة أن لا تسرع «4» . وقول البراء بن عازب رضي الله عنهما: لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ، ولقد رأيته على بغلته البيضاء، وابن عمّه أبو سفيان آخذ بلجامها يكفّها وهو يقول: «أنا النّبيّ لا كذب، ... أنا ابن عبد المطّلب» فما رئي [من النّاس] يومئذ أشد منه صلى الله عليه وسلم «5» .

_ (1) الشّفا، للقاضي عياض، ج 1/ 235. (2) الشّفا، للقاضي عياض، ج 1/ 236. (3) أخرجه مسلم، برقم (1776/ 79) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. (4) أخرجه مسلم، برقم (1775/ 76) . (5) أخرجه البخاريّ، برقم (2877) .

فصل في زهده صلى الله عليه وسلم

فصل في زهده صلّى الله عليه وسلّم وأمّا زهده صلى الله عليه وسلم في الدّنيا، وإيثاره للعقبى: فحسبك ما اشتهر عنه من تقلّله منها، وإعراضه عن زهرتها، امتثالا لقول ربّه سبحانه وتعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [سورة طه 20/ 131] . وكان صلى الله عليه وسلم- كما اتّفق عليه نقلة الأخبار عنه- مقتصرا في نفقته وملبسه ومسكنه على قدر الضّرورة منها، ولقد عرضت عليه أن تجعل له بطحاء (مكّة) ذهبا، أو أن تكون الجبال ذهبا لا حساب عليه فيها، فاختار أن يكون نبيّا، عبدا، يجوع يوما، ويشبع يوما، ثمّ جيئت إليه الأموال من الغنائم والخمس والزّكوات والجزية والهديّة فصرفها في مصارفها، وقوّى المسلمين بها، وسدّ به فاقتهم، وأغنى به عيلتهم «1» ، ولم يستأثر منها بشيء دونهم. وفي «الصّحيحين» : ما شبع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأهله من خبز برّ ثلاثة أيّام تباعا حتّى فارق الدّنيا. «2» . وإنّا كنّا لننظر إلى الهلال، ثمّ الهلال، ثمّ الهلال، ثلاثة أهلّة في شهرين، وما أوقد في أبيات النّبيّ صلى الله عليه وسلم نار، [قال: يا خالة،

_ (1) عيلتهم: فقرهم. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (5107) . ومسلم برقم (2970/ 21) . عن عائشة رضي الله عنها.

وصف زهد النبي صلى الله عليه وسلم

فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان] ما هو إلّا التّمر والماء «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان كثيرا ما يرى عاصبا بطنه من الجوع «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهوديّ بثلاثين صاعا من شعير «3» . [وصف زهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم] وما أحسن قول/ صاحب البردة فيها، [من البسيط] «4» : ظلمت سنّة من أحيا الظّلام إلى ... أن اشتكت قدماه الضّرّ من ورم وشدّ من سغب أحشاءه وطوى ... تحت الحجارة كشحا مترف الأدم «5» وراودته الجبال الشّمّ من ذهب ... عن نفسه فأراها أيّما شمم «6» وأكّدت زهده فيها ضرورته ... إنّ الضّرورة لا تعدو على العصم «7» وكيف تدعو إلى الدّنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدّنيا من العدم

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (2428) . عن عائشة رضي الله عنها. (2) أخرجه مسلم، برقم (2040/ 143) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (4197) . عن عائشة رضي الله عنها. (4) البردة، في مدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ص 12. (5) السّغب: الجوع. الكشح: الخاصرة. المترف: النّعومة المفرطة. الأدم: الجلد. (6) الشّمم: الإباء وعزّة النّفس. أي: أعرض إعراضا شديدا علما منه صلى الله عليه وسلم بأنّ ما عند الله خير وأبقى. (7) الزّهد: ترك الشّيء وقلّة الرّغبة فيه مع ميل النّفس إليه. الضّرورة: شدّة الحاجة. العصم: الوقاية من الزّلل.

الباب الثاني في أقواله القدسية وفيه فصول عشرة:

الباب الثّاني في أقواله القدسيّة وفيه فصول عشرة: في ذكره لربّه في سوابق الصّلاة، وفي الصّلاة، وفي لواحق الصّلاة، وفي المرض وتوابعه، وفي الصّيام، وفي السّفر، وفي الحجّ، وفي الجهاد، وفي المعاش، وفي المعاشرة.

فصل في سوابق الصلاة

فصل في سوابق الصّلاة أمّا سوابق الصّلاة: ففي أذكاره صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من نومه، وإذا لبس ثوبه، وإذا خرج من بيته، وفي قضاء الحاجة، وفي الطّهارة، وفي التّوجّه إلى المسجد، وعند سماع الأذان. [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا أمسى وإذا أصبح] فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان إذا أوى إلى فراشه قال: «باسمك اللهمّ أحيا وأموت» . وإذا استيقظ قال: «الحمد لله الّذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور» ، رواه البخاريّ «1» . وروى ابن السّنّيّ أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يقول.. حين ردّ الله إليه روحه: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير؛ إلّا غفر الله ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر» «2» . وفي «سنن أبي داود» ، أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من النّوم قال: «لا إله إلّا أنت، سبحانك اللهمّ أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، ربّ زدني علما، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة، إنّك أنت الوهّاب» «3» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (6959) . عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما. (2) أخرجه ابن السّنّيّ، في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (10) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه أبو داود، برقم (5061) . عن عائشة رضي الله عنها.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوبا جديدا

وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من نومه نظر إلى السّماء، وقرأ الآيات العشر الخواتم/ من سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر السّورة «1» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوبا جديدا] وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من لبس ثوبا جديدا، فقال: الحمد لله الّذي كساني هذا الثّوب، ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوّة، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه» ، رواه ابن السّنّيّ «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من لبس ثوبا جديدا، فقال: الحمد لله الّذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمّل به في حياتي، ثمّ عمد إلى الثّوب الّذي أخلق فتصدّق به، كان في حفظ الله، وفي كنف الله، وفي ستر الله حيّا وميّتا» ، رواه التّرمذيّ والحاكم، وقال: صحيح الإسناد «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم رأى على عمر رضي الله عنه ثوبا جديدا، فقال: «البس جديدا، وعش حميدا، ومت شهيدا» ، رواه ابن ماجه وابن السّنّيّ «4» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته] وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان إذا خرج من بيته، قال: «باسم الله،

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (256/ 48) . عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. (2) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (271) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. (3) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3560) . عن أبي أمامة صديّ بن عجلان رضي الله عنه. وأخلق: بلي. كنف الله: حرزه وستره. (4) أخرجه ابن ماجه، برقم (3558) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء أو خرج منه

توكّلت على الله. اللهمّ إنّي أعوذ بك أن أضلّ أو أضلّ، أو أزلّ أو أزلّ، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ» ، رواه أصحاب السّنن الأربعة بإسناد صحيح؛ وهم أبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه، وقال التّرمذيّ: حديث حسن صحيح «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من قال إذا خرج من بيته: باسم الله، توكّلت على الله، لا حول ولا قوّة إلّا بالله، يقال له حينئذ- أي: تقول له الملائكة-: هديت وكفيت ووقيت، وتنحّى عنه الشّيطان، وقال لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟» «2» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء أو خرج منه] وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقول عند دخول الخلاء: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث» ، متّفق عليه «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خرج من الخلاء: «غفرانك» ، رواه أبو داود بإسناد صحيح «4» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم في الوضوء] وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» ، رواه أبو داود وغيره «5» .

_ (1) أخرجه أبو داود، برقم (5094) . والتّرمذيّ برقم (3427) . والنّسائيّ برقم (5539) . وابن ماجه برقم (3884) . عن أمّ سلمة هند بنت أميّة رضي الله عنها. (2) أخرجه أبو داود، برقم (5095) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (5963) . ومسلم برقم (375/ 122) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. الخبث والخبائث: ذكور الشّياطين وإناثهم. (4) أخرجه أبو داود، برقم (30) . عن عائشة رضي الله عنها. (5) أخرجه أبو داود، برقم (101) . وابن ماجه برقم (398) . عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الصلاة

وأنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول في أثناء وضوئه: «اللهمّ اغفر لي ذنبي، ووسّع لي في داري، وبارك/ لي في رزقي» ، رواه النّسائيّ وابن السّنّيّ بإسناد صحيح «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من توضّأ فقال- أي: بعد الفراغ-: أشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، [إلّا] فتحت له أبواب الجنّة الثّمانية، يدخل من أيّها شاء» ، رواه مسلم «2» والتّرمذيّ وزاد: «اللهمّ اجعلني من التّوّابين، واجعلني من المتطهّرين» «3» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الصّلاة] وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان إذا خرج إلى الصّلاة قال ما يقوله إذا خرج من بيته. وزاد في «صحيح مسلم» ، وقال: «اللهمّ اجعل في قلبي نورا، وفي لساني نورا، واجعل في سمعي نورا، واجعل في بصري نورا، واجعل من خلفي نورا، ومن أمامي نورا، واجعل من فوقي نورا، ومن تحتي نورا، اللهمّ أعطني نورا» «4» . وزاد ابن السّنّيّ: «اللهمّ بحقّ السّائلين عليك، وبحقّ مخرجي هذا، فإنّه لم أخرجه أشرا ولا بطرا، ولا رياء ولا سمعة، خرجت ابتغاء مرضاتك، واتّقاء سخطك، أسألك أن تعيذني من

_ (1) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (28) . عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم، برقم (234/ 17) . عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. (3) أخرجه التّرمذيّ، برقم (55) . عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. (4) أخرجه مسلم، برقم (763/ 181) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد

النّار وتدخلني الجنّة» «1» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد] وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من قال إذا دخل المسجد: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشّيطان الرجيم؛ قال الشّيطان: حفظ منّي سائر اليوم» ، رواه أبو داود بإسناد حسن «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهمّ افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهمّ إنّي أسألك من فضلك» ، رواه مسلم «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قال: «باسم الله، اللهمّ صلّ على محمّد» ، وإذا خرج قال: «باسم الله، اللهمّ صلّ على محمّد» «4» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا سمع الأذان] وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إذا سمعتم النّداء فقولوا مثل ما يقول المؤذّن» ، متّفق عليه «5» . وروى مسلم أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل

_ (1) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (84) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (2) أخرجه أبو داود، برقم (466) . عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (3) أخرجه مسلم، برقم (713/ 68) . عن أبي أسيد مالك بن ربيعة رضي الله عنه. (4) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (88) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (586) . ومسلم برقم (383/ 10) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

ما يقول، ثمّ صلّوا عليّ، فإنّه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها/ عشرا، ثمّ سلوا الله لي الوسيلة، فإنّها منزلة في الجنّة، لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة» «1» - أي: وجبت-. قلت: هكذا في جميع النّسخ: «أنا هو» والأفصح: أن أكون أنا إيّاه «2» . وروى البخاريّ أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النّداء- أي: بعد الفراغ- اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة، والصّلاة القائمة، آت محمّدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الّذي وعدته؛ حلّت له شفاعتي يوم القيامة» «3» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (384/ 11) . عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (2) قال الشيخ محمّد فؤاد عبد الباقي رحمه الله تعالى في «صحيح مسلم» ، ج 1/ 289: «أنا هو» ؛ خبر كان وقع موقع إيّاه، هذا على تقدير أن يكون «أنا» تأكيدا للضّمير المستتر في «أكون» ، ويحتمل أن يكون «أنا» مبتدأ و «هو» خبره، والجملة خبر أكون. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (589) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

فصل في الصلاة

فصل في الصّلاة [أذكاره صلى الله عليه وسلم في افتتاح الصّلاة] وأمّا أذكاره صلى الله عليه وسلم في الصّلاة: ففي الافتتاح، والقيام، والرّكوع، والاعتدال، والسّجودين، والجلوس بينهما، وفي التّشهّد وما بعده. فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان إذا افتتح الصّلاة يرفع يديه حذو منكبيه، وإذا كبّر للرّكوع، وإذا رفع رأسه من الرّكوع رفعهما كذلك أيضا، وقال: «سمع الله لمن حمده» ، ثمّ قال: «ربّنا ولك الحمد» ، وكان لا يفعل ذلك في السّجود. متّفق عليه «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم حين يدخل في الصّلاة يرفع يديه، ثمّ يضع يده اليمنى على اليسرى. رواه مسلم «2» . وفي البخاريّ: كان النّاس يؤمرون في الصّلاة أن يضع الرّجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى «3» . قال العلماء: والحكمة في هذه إلهيّة، أنّه صفة العبد المستسلم لمولاه. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال بعد تكبيرة الإحرام: «سبحانك اللهمّ وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك» ، رواه

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (702) . ومسلم برقم (390/ 22) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (2) أخرجه مسلم، برقم (401/ 54) . عن وائل بن حجر رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (707) . عن سهل بن سعد رضي الله عنه.

التّرمذيّ وأبو داود وابن ماجه «1» . وأنّه [صلى الله عليه وسلم] سمع رجلا قال بعد تكبيرة الإحرام: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، فقال: «عجبت لها، فتحت لها أبواب الجنّة» ، رواه مسلم «2» . وروى مسلم أيضا أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا افتتح الصّلاة: «وجّهت وجهي للّذي فطر السّماوات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين/، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين» «3» ، ورواه ابن حبّان في «صحيحه» وزاد بعد حنيفا: «مسلما» «4» . وروى البخاريّ أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهمّ باعد بيني وبين

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (242) . وأبو داود برقم (775) . وابن ماجه برقم (804) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم، برقم (601/ 150) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (3) أخرجه مسلم، برقم (771/ 201) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. قلت: قال محمّد فؤاد عبد الباقي في «صحيح مسلم» ، ج 1/ 534: وجّهت وجهي: قصدت بعبادتي للّذي فطر السّماوات والأرض، أي: ابتدأ خلقها. حنيفا: قال الأكثرون: معناه مائلا إلى الدّين والحقّ، وهو الإسلام، وأصل الحنف: الميل. ويكون في الخير والشّرّ، وينصرف إلى ما تقتضيه القرينة، وقيل: المراد بالحنيف هنا؛ المستقيم. وقال أبو عبيد: الحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم عليه السّلام. النّسك: العبادة، وأصله من النّسيكة؛ وهي الفضّة المذابة المصفّاة من كلّ خلط. والنسيكة: ما يتقرّب به إلى الله تعالى. (4) انظر ابن بلبان في «الإحسان» ، برقم (1771) . عنه.

أذكاره صلى الله عليه وسلم في القيام

خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهمّ نقّني من خطاياي كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس، اللهمّ اغسل خطاياي بالماء والثّلج والبرد» «1» . [أذكاره صلى الله عليه وسلم في القيام] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول قبل القراءة في الصّلاة: «أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم، من نفخه ونفثه وهمزه» ، رواه أصحاب السّنن الأربعة «2» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ، متّفق عليه «3» . ولفظ ابن خزيمة وابن حبّان في «صحيحيهما» : «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم عدّ البسملة آية من الفاتحة. رواه ابن خزيمة والحاكم وصحّحاه «5» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (711) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (242) . وأبو داود برقم (775) . عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه، برقم (807) . عن جبير بن المطعم رضي الله عنه. نفخ الشّيطان: الكبر، ونفثه: الشّعر. وهمزه: الجنون. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (733) . ومسلم برقم (394/ 34) . عن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه. (4) أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» ، برقم (490) . وانظر «الإحسان» ، برقم (1789) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (5) أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» ، برقم (493) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 232. عن أمّ سلمة رضي الله عنها.

وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الإمام: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فقولوا: آمين، فإنّه من وافق قوله- أي: في حالة التّأمين- قول الملائكة- أي: في السّماء كما في رواية أخرى- غفر له ما تقدّم من ذنبه» ، متّفق عليه «1» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بعد الفاتحة سورة، إلّا في الثّالثة والرّابعة. متّفق عليه «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصّبح والظّهر بطوال المفصّل، وفي العصر والعشاء بأوساطه، وفي المغرب بقصاره. رواه النّسائيّ «3» . وأوّل المفصّل الحجرات «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صبح الجمعة: الم. تَنْزِيلُ في الرّكعة الأولى، وفي الثّانية: هَلْ أَتى، متّفق عليه «5» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، رقم (749) . ومسلم برقم (410/ 72) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (728) . ومسلم برقم (451/ 155) . عن الحارث بن ربعي رضي الله عنه. (3) أخرجه النّسائيّ، برقم (982) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) المفصّل: من أوّل الحجرات إلى آخر المصحف في الأصحّ. أو من (الجاثية) ، أو (قاف) ، عن النّوويّ. أو من (الصّافّات) ، أو (الصّفّ) ، أو (تبارك) ، عن ابن أبي الصيف. أو (الفتح) ، عن الدّزماريّ. أو (الأعلى) ، عن الفركاح. أو (الضّحى) ، عن الخطّابيّ. وسمّي لكثرة الفصول بين سوره، أو لقلّة المنسوخ فيه. (أنصاريّ) . (5) أخرجه البخاريّ، برقم (851) . ومسلم برقم (880/ 65) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

أذكاره صلى الله عليه وسلم في الركوع

وأنّه صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي سنّة الفجر بسورتي: الإخلاص والكافرون. رواه مسلم «1» . [أذكاره صلى الله عليه وسلم في الرّكوع] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع كبّر مع ابتداء الهويّ، ورفع يديه حذو منكبيه، ويقول: «سبحان ربّي/ العظيم» ثلاثا، رواه في التّكبير والرّفع الشّيخان «2» . وفي التّسبيح مسلم «3» ، وفي تثليث التّسبيح أبو داود «4» . وروى مسلم أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول أيضا في ركوعه في صلاة اللّيل: «اللهمّ لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخّي وعظمي وعصبي» «5» . زاد ابن حبّان: «وما استقلّت به قدمي لله ربّ العالمين» «6» . [أذكاره صلى الله عليه وسلم في اعتداله من الرّكوع] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الرّكوع رفع يديه قائلا: «سمع الله لمن حمده» ، فإذا انتصب قال: «ربّنا لك الحمد» ، متّفق عليه «7» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (726/ 98) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (703) . ومسلم برقم (390/ 22) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (3) أخرجه مسلم، برقم (772/ 203) . عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. (4) أخرجه أبو داود، برقم (886) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (5) أخرجه مسلم، برقم (771/ 201) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. (6) انظر «الإحسان» ، برقم (1901) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. (7) أخرجه البخاريّ، برقم (756) . ومسلم برقم (392/ 28) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

أذكاره صلى الله عليه وسلم في السجود

وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربّنا لك الحمد؛ فإنّه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه» ، متّفق عليه «1» . وروى مسلم أنّه صلى الله عليه وسلم كان يزيد في صلاة اللّيل: «ملء السّماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثّناء والمجد، أحقّ ما قال العبد، وكلّنا لك عبد، اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» «2» . [أذكاره صلى الله عليه وسلم في السّجود] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان يكبّر لهويّه إذا سجد. متّفق عليه «3» . زاد البخاريّ: بلا رفع ليديه «4» . زاد أصحاب السّنن الأربعة: ويضع ركبتيه ثمّ كفّيه «5» . زاد مسلم ويقول: «سبحان ربّي الأعلى» «6» . زاد أبو داود: «ثلاثا» «7» . وروى مسلم أنّه [صلى الله عليه وسلم] كان يزيد في صلاة اللّيل [في سجوده فيقول] : «اللهمّ لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت،

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (763) . ومسلم برقم (409/ 71) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم، برقم (477/ 205) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (753) . ومسلم برقم (393/ 33) . عن مطرّف بن عبد الله رضي الله عنه. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (702) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (5) أخرجه التّرمذيّ، برقم (268) . والنّسائيّ برقم (1154) . وأبو داود برقم (838) . وابن ماجه برقم (882) . عن وائل بن حجر رضي الله عنه. (6) أخرجه مسلم، برقم (772/ 203) . عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. (7) أخرجه أبو داود، برقم (869) . عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.

أذكاره صلى الله عليه وسلم في جلوسه بين السجدتين

سجد وجهي للّذي خلقه وصوّره، وشقّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين» «1» . وروى مسلم أيضا أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربّه، وهو ساجد، فأكثروا الدّعاء» «2» . [أذكاره صلى الله عليه وسلم في جلوسه بين السّجدتين] وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان يكبّر إذا رفع رأسه من السّجود. متّفق عليه «3» . زاد التّرمذيّ: ويجلس [صلى الله عليه وسلم] مفترشا. وقال: حسن صحيح «4» . زاد أبو داود وابن ماجه ثمّ يقول: «ربّ اغفرلي، وارحمني، واجبرني، / وارفعني، واهدني، وارزقني، وعافني» «5» . وروى البخاريّ أنّه صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتّى يستوي قاعدا- أي: للاستراحة- «6» . وروى البخاريّ ومسلم أنّه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته: «إذا قمت إلى الصّلاة فأسبغ الوضوء، ثمّ استقبل القبلة فكبّر، ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن، ثمّ اركع حتّى تطمئنّ راكعا، ثمّ ارفع حتّى تستوي قائما، ثمّ اسجد حتّى تطمئن ساجدا، ثمّ ارفع حتّى تستوي جالسا، ثمّ اسجد حتّى تطمئن ساجدا، ثمّ ارفع حتّى تستوي

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (771/ 201) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه (2) أخرجه مسلم، برقم (482/ 215) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (770) . ومسلم برقم (392/ 28) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه التّرمذيّ، برقم (292) . عن وائل بن حجر رضي الله عنه. (5) أخرجه أبو داود، برقم (850) . وابن ماجه برقم (898) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (6) أخرجه البخاريّ، برقم (789) . عن مالك بن الحويرث رضي الله عنهما.

فائدة: فيما يتلى من القرآن في الصلاة

قائما، ثمّ افعل ذلك في صلاتك كلّها» «1» . فائدة [: فيما يتلى من القرآن في الصّلاة] قال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث الدّلالة على وجوب ما ذكر فيه، وعدم وجوب ما لم يذكر فيه؛ وذلك متوقّف على جمع طرقه، والأخذ بالزّائد فالزّائد، فلأبي داود: «ثمّ اقرأ بأمّ القرآن» «2» ، وكذا للإمام أحمد وابن حبّان وزادا: «ثمّ بما شئت» «3» ، وحينئذ إن عارض الوجوب أو عدمه دليل أقوى منه عمل به. [أذكاره صلى الله عليه وسلم في التّشهّد] وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان يعلّمهم التّشهّد، وأنّه كان يقول: «التّحيّات المباركات، الصّلوات الطّيّبات لله، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته، السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين، أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّدا رسول الله» ، رواه مسلم «4» . وأنّهم قالوا: كيف نصلّي عليك؟ فقال: «قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمّد، وعلى آل محمّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد» ، متّفق عليه «5» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (5897) . ومسلم برقم (397/ 45) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه أبو داود، برقم (856) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (18516) . عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه. (4) أخرجه مسلم، برقم (403/ 60) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (5996) . ومسلم برقم (406/ 66) . عن كعب بن عجرة رضي الله عنه.

فائدة: في قول: السلام عليك أيها النبي

فائدة [: في قول: السّلام عليك أيّها النّبيّ] إنّما لم يقل لهم قولوا: الصّلاة عليك- بالخطاب- كما في: (السّلام عليك أيّها النّبيّ) بل جعلها دعاء من الله له، لتكون صلاة صالحة في حياته وبعد وفاته. وقد ثبت في البخاريّ: إنّما كنّا نقول: السّلام عليك أيّها النّبيّ، وهو بين أظهرنا، فلمّا قبض قلنا: السّلام/ على النّبيّ «1» . فدلّ على أنّ الخطاب إنّما وقع بطريق الاستصحاب الّذي لم يحسن تغييره بعد موته صلى الله عليه وسلم، وإنّه غير متعيّن. [أذكاره صلى الله عليه وسلم بعد التّشهّد] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم علّمهم التّشهّد ثمّ قال في آخره: «ثمّ ليتخيّر من الدّعاء أعجبه إليه فيدعو» ، متّفق عليه «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فرغ أحدكم من التّشهّد الآخر فليتعوّذ بالله من أربع: من عذاب جهنّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرّ فتنة المسيح الدّجّال» ، متّفق عليه «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان يدعو في آخر التّشهّد: «اللهمّ اغفرلي ما قدّمت وما أخّرت. وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به منّي، أنت المقدّم وأنت المؤخّر، لا إله إلّا أنت» ، رواه مسلم «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم علّم أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه دعاء يدعو به في

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (5910) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (800) . ومسلم برقم (402/ 58) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (1311) . ومسلم برقم (588/ 130) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه مسلم، برقم (771) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

صلاته: «اللهمّ إنّي ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذّنوب إلّا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنّك أنت الغفور الرّحيم» ، متّفق عليه «1» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان يتحلّل من الصّلاة بالسّلام فيقول: «السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ، مرّتين يمينا وشمالا، ملتفتا في الأولى حتّى يرى خدّه الأيمن، وفي الثّانية حتّى يرى خدّه الأيسر. رواه الدّارقطنيّ وابن حبّان في «صحيحه» «2» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم علّم الحسن بن عليّ رضي الله عنهما أن يقول في قنوت الوتر: «اللهمّ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولّني فيمن تولّيت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيت، فإنّك تقضي ولا يقضى عليك، وإنّه لا يذلّ من واليت، تباركت ربّنا وتعاليت» ، رواه أصحاب السّنن الأربعة «3» . والبيهقيّ، وزاد: الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في آخره «4» . وأنّ محمّد بن عليّ ابن الحنفيّة قال: إنّ هذا الدّعاء هو الّذي/ كان أبي يدعو به في صلاة الفجر في قنوته.

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (799) . ومسلم برقم (2705/ 48) . عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه. (2) أخرجه ابن حبّان، انظر «الإحسان» ، برقم (1990) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (3) أخرجه التّرمذيّ، برقم (464) . والنّسائيّ برقم (1745) . وأبو داود برقم (1425) . وابن ماجه برقم (1178) . عن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما. (4) أخرجه مسلم، برقم (591/ 135) . عن ثوبان بن بجدد رضي الله عنه.

فصل في لواحق الصلاة

فصل في لواحق الصّلاة وأمّا لواحق الصّلاة: ففيما كان يقوله صلى الله عليه وسلم بعد السّلام من الصّلاة، وفي أذكاره في الصّباح والمساء، وفي أذكاره في أوقات متفرّقة، وفي أذكاره في التّلاوة، وفي أدعية مأثورة عنه، وفي أذكاره عند النّوم. [دعاؤه صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الصّلاة] فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا، وقال: «اللهمّ أنت السّلام، ومنك السّلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام» ، رواه مسلم «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من صلاته قال: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» ، متّفق عليه «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من سبّح الله في دبر كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبّر الله ثلاثا وثلاثين، وقال تمام المئة: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير؛ غفرت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر» ، رواه مسلم «3» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (591/ 135) . عن ثوبان بن بجدد رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (808) . ومسلم برقم (593/ 137) . عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (3) أخرجه مسلم، برقم (597/ 146) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأنّه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: «يا معاذ، والله إنّي لأحبّك، وأوصيك، لا تدعنّ في دبر كلّ صلاة أن تقول: اللهمّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» ، رواه أبو داود والنّسائيّ، بإسناد صحيح «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قضى صلاته- أي: فرغ منها- مسح جبهته بيده اليمنى، ثمّ قال: «أشهد أن لا إله إلّا الله، الرّحمن الرّحيم، اللهمّ أذهب عنّي الهمّ والحزن» ، رواه ابن السّنّيّ «2» . وروى أيضا-[أي: ابن السّنّيّ]- أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا انصرف من صلاته: «اللهمّ اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيّامي يوم/ ألقاك» «3» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من صلّى الفجر في جماعة، ثمّ قعد يذكر الله حتّى تطلع الشّمس، ثمّ صلّى ركعتين، كانت له كأجر حجّة وعمرة؛ تامّة، تامّة، تامّة» ، رواه التّرمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من قعد في مصلّاه حين ينصرف، من صلاة الصّبح حتّى يصلّي ركعتي الضّحى، لا يقول إلّا خيرا، غفرت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر» ، رواه الإمام أحمد وأبو داود «5» .

_ (1) أخرجه أبو داود، برقم (1522) . والنّسائيّ برقم (1303) . (2) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (112) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (3) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (121) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (4) أخرجه التّرمذيّ، برقم (586) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (5) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (15196) . وأبو داود برقم (1287) . عن معاذ بن أنس رضي الله عنه.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم في الصباح والمساء

وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من قال في دبر كلّ صلاة قبل أن يتكلّم: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كلّ شيء قدير، عشر مرّات؛ كتبت له عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيّئات، ورفعت له عشر درجات، وكان يومه ذلك كلّه في حرز من كلّ مكروه، وحرس من الشّيطان، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلّا الشّرك بالله تعالى» ، رواه التّرمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح «1» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم في الصّباح والمساء] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يقول في صباح كلّ يوم، ومساء كلّ ليلة: باسم الله الّذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السّماء وهو السّميع العليم، ثلاث مرّات، لم يضرّه شيء» ، رواه أبو داود والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «سيّد الاستغفار: اللهمّ أنت ربّي، لا إله إلّا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي- أي: أقرّ- فاغفر لي، فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت- أي: أعمالي السّيّئة- من قال ذلك حين يصبح فمات دخل الجنّة، ومن قال ذلك حين يمسي فمات دخل الجنّة» ، رواه البخاريّ «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال/: «من قال أوّل نهاره: اللهمّ أنت ربّي لا إله إلّا أنت، عليك توكّلت، وأنت ربّ العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم، أعلم

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3474) . عن أبي ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه. (2) أخرجه التّرمذيّ برقم (3388) . عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (5964) . عن شدّاد بن أوس رضي الله عنه.

أنّ الله على كلّ شيء قدير، وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علما. اللهمّ إنّي أعوذ بك من شرّ نفسي، ومن شرّ كلّ دابة أنت آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقيم؛ لم تصبه مصيبة حتّى يمسي، ومن قالها آخر النّهار لم تصبه مصيبة حتّى يصبح» ، رواه ابن السّنّيّ «1» . وفي رواية: «لم يصبه في نفسه ولا أهله ولا ماله شيء يكرهه» «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال له رجل: يا رسول الله، ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة؟ فقال: «أمّا إنّك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التّامّات من شرّ ما خلق؛ لم تضرّك» ، رواه مسلم «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أصبح: «اللهمّ بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النّشور» . وإذا أمسى قال: «اللهمّ بك أمسينا، وبك أصبحنا» إلى آخره، رواه أبو داود والتّرمذيّ وابن ماجه، بالأسانيد الصّحيحة «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح، وحين يمسي: رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد صلى الله عليه وسلم نبيّا؛ كان حقّا على الله أن يرضيه» ، رواه أبو داود والنّسائيّ بأسانيد جيّدة والتّرمذيّ وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، والحاكم وقال: صحيح الإسناد «5» .

_ (1) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (57) . عن أبي الدّرداء رضي الله عنه. (2) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (58) . (3) أخرجه مسلم، برقم (2709) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه أبو داود، برقم (5068) . والتّرمذيّ برقم (3391) . وابن ماجه برقم (3868) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (5) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3389) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 518 عن ثوبان رضي الله عنه.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم في أوقات متفرقة

وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح أو يمسي: اللهمّ إنّي أصبحت، أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك؛ أنّك أنت الله، لا إله إلّا أنت، وأنّ محمّدا عبدك ورسولك؛ أعتق الله ربعه من النّار. فمن قالها مرّتين؛ أعتق الله نصفه من النّار. ومن قالها ثلاثا؛ أعتق الله ثلاثة/ أرباعه من النّار. فإن قالها أربعا؛ أعتقه الله من النّار» ، رواه أبو داود، بإسناد جيّد «1» . وروي أيضا بأسانيد جيّدة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح: اللهمّ ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك، لا شريك لك، لك الحمد، ولك الشّكر؛ فقد أدّى شكر يومه. ومن قال مثل ذلك حين يمسي؛ فقد أدّى شكر ليلته» «2» . وفي «صحيح مسلم» ، أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مئة مرّة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل ممّا جاء به، إلّا أحد قال مثل ما قال، أو زاد عليه» «3» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم في أوقات متفرّقة] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد ركعتي الفجر، وهو جالس: «اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمّد [النّبيّ] صلى الله عليه وسلم: أعوذ بك من النّار، [ثلاث مرّات] » ، رواه ابن السّنّيّ «4» . وروى أيضا-[أي: ابن السّنّيّ]- أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من قال صبيحة يوم الجمعة قبل صلاة الغداة: أستغفر الله الّذي لا إله إلّا هو

_ (1) أخرجه أبو داود، برقم (5069) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) أخرجه أبو داود، برقم (5073) . عن عبد الله بن غنّام رضي الله عنه. (3) أخرجه مسلم، برقم (2692/ 29) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (103) . عن عامر ابن أسامة الهذلي مرفوعا.

الحيّ القيّوم وأتوب إليه، ثلاث مرّات، غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر» «1» . وروى أيضا-[أي: ابن السّنّيّ]- أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا طلعت الشّمس: «الحمد لله الّذي جلّلنا اليوم- أي: ألبسنا- عافيته، وجاء بالشّمس من مطلعها. اللهمّ إنّي أصبحت أشهد لك بما شهدت به لنفسك، وشهدت به ملائكتك، وحملة عرشك، وأولوا العلم من خلقك؛ أنّك أنت الله، لا إله إلّا أنت القائم بالقسط، لا إله إلّا أنت العزيز الحكيم. أكتب شهادتي بعد شهادة ملائكتك وأولي العلم، ومن لم يشهد بمثل ما شهدت به فاكتب شهادتي مكان شهادته» «2» . وروى أبو داود والتّرمذيّ أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا سمع المؤذّن عند أذان المغرب: «اللهمّ إنّ هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك؛ فاغفرلي» «3» . وروى ابن السّنّيّ أنّه صلى الله عليه وسلم/ كان يقول بعد أن يصلّي سنّة المغرب: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك» «4» . وروى أبو داود والنّسائيّ بالإسناد الصّحيح، أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا

_ (1) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (83) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (147) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. (3) أخرجه أبو داود، برقم (530) . والتّرمذيّ برقم (3589) . عن أمّ سلمة هند بنت أميّة رضي الله عنها. (4) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (658) . عن أمّ سلمة رضي الله عنها.

أذكاره صلى الله عليه وسلم في التلاوة

سلّم من الوتر قال: «سبحان الملك القدّوس» «1» . زاد النّسائيّ: «ثلاث مرّات» «2» . ورويا أيضا-[أي: أبو داود والنّسائيّ]- أنّه [صلى الله عليه وسلم] كان يقول بعد الوتر: «اللهمّ إنّي أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» ، ورواه أيضا التّرمذيّ، وقال: حديث حسن «3» . [أذكاره صلى الله عليه وسلم في التّلاوة] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى، فله به حسنة؛ والحسنة بعشرة أمثالها» ، رواه التّرمذيّ، وقال: حديث حسن «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته» ، رواه النّسائيّ وابن ماجه بإسناد صحيح «5» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من قام بعشر آيات، لم يكتب من الغافلين. ومن قام بمئة آية كتب من القانتين. ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» - أي: ممّن كتب له قنطار من الأجر- رواه أبو داود وابن خزيمة في «صحيحه» «6» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة

_ (1) أخرجه أبو داود، برقم (1430) . عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه. (2) أخرجه النّسائيّ، برقم (1734) . عن عبد الرّحمن بن أبزى رضي الله عنه. (3) أخرجه أبو داود، برقم (1427) . والنّسائي برقم (1747) . والتّرمذيّ برقم (3566) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. (4) أخرجه التّرمذيّ، برقم (2910) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (5) أخرجه ابن ماجه، برقم (215) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (6) أخرجه أبو داود، برقم (1398) . وابن خزيمة (1144) . عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

كفتاه» - أي: من كلّ سوء، وعن قيام اللّيل- متّفق عليه «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «أعظم سورة في القرآن: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وهي السّبع المثاني، والقرآن العظيم الّذي أوتيته» ، رواه البخاريّ «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن» ، رواه البخاريّ أيضا «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «آية الكرسيّ أعظم آية في القرآن: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» ، رواه مسلم «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «سورة البقرة فيها آية، هي سيّدة آي القرآن، لا تقرأ/ في بيت فيه شيطان إلّا خرج منه، وهي آية الكرسيّ» ، رواه التّرمذيّ والحاكم وصحّحاه «5» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «يس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد بها وجه الله؛ إلّا غفر له» ، رواه الإمام أحمد وأبو داود والنّسائيّ وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح الإسناد «6» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (4722) . ومسلم برقم (807/ 255) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (4204) . عن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (6267) . عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (4) أخرجه مسلم، برقم (810/ 258) ؛ بنحوه. عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه. (5) أخرجه التّرمذيّ، برقم (2878) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 2/ 260. عن أبي هريرة رضي الله عنه. (6) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (19789) . وأبو داود برقم (3221) . وابن ماجه برقم (1448) . عن معقل بن يسار رضي الله عنه.

أدعية مأثورة عنه صلى الله عليه وسلم

وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ سورة من القرآن، ثلاثون آية؛ شفعت لرجل حتّى غفر له، وهي تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» ، رواه أصحاب السّنن الأربعة وابن حبّان في «صحيحه» والحاكم، وقال: صحيح الإسناد «1» . وفي رواية للحاكم: «وددت أنّها في قلب كلّ مؤمن» «2» . وفي أخرى له وللنّسائيّ: «من قرأ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ كلّ ليلة فقد أكثر وأطنب، ومنعه الله من عذاب القبر» «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه: «اقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوّذتين حين تصبح وحين تمسي ثلاث مرّات، تكفيك من كلّ شيء» ، رواه أبو داود والنّسائيّ والتّرمذيّ بالأسانيد الصّحيحة، وقال التّرمذيّ: حديث حسن صحيح «4» . [أدعية مأثورة عنه صلى الله عليه وسلم] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «الدّعاء هو العبادة» ، ثمّ قرأ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [سورة غافر 40/ 60] رواه أصحاب السّنن الأربعة، وقال التّرمذيّ: حديث حسن صحيح، وابن حبّان في «صحيحه» ،

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (2891) . وأبو داود برقم (1400) . وابن ماجه برقم (3786) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 2/ 498. عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 565. عنه. (3) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 2/ 498. والنّسائيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (711) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (4) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3575) . وأبو داود برقم (5082) . عن عبد الله بن خبيب رضي الله عنه.

والحاكم، وقال: صحيح الإسناد «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه: «إذا صلّيت فقعدت، فاحمد الله بما هو أهله، وصلّ على نبيّك، ثمّ ادع بما تحبّ» ، رواه الإمام أحمد وأصحاب السّنن الأربعة وابن حبّان في «صحيحه» «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان أكثر دعائه: «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ» [سورة البقرة 2/ 201] ، رواه البخاريّ «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل الله الجنّة، ثلاث مرّات، قالت الجنّة- أي: بلسان المقال، وقيل: لسان الحال-: اللهمّ أدخله الجنّة، ومن استجار بالله من النّار، ثلاث مرّات، قالت النّار: اللهمّ أجره من النّار» ، رواه التّرمذيّ/ والنّسائيّ وابن ماجه وابن حبّان في «صحيحه» ، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من فتح له باب الدّعاء فتحت له أبواب الرّحمة، وما سئل الله شيئا أحبّ إليه من أن يسأل العافية، وأنّ الدّعاء ينفع ممّا نزل وممّا لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدّعاء» ، رواه الحاكم وصحّحه «5» .

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3247) . وأبو داود برقم (1479) . وابن ماجه برقم (3828) . عن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3476) . والنّسائيّ برقم (1284) . عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (6026) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (4) أخرجه التّرمذيّ، برقم (2572) . والنّسائيّ برقم (5521) . وابن ماجة برقم (4340) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 534. عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (5) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 498. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وأنّه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: اللهمّ إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الله، لا إله إلّا أنت الأحد الصّمد، الّذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، فقال له: «لقد سألت الله بالاسم الأعظم، الّذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب» ، رواه أبو داود وابن ماجه والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن، وابن حبّان في «صحيحه» ، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال: «قد استجيب لك، فسل» ، رواه التّرمذيّ، وقال: حديث حسن «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ لله ملكا موكّلا بمن يقول: يا أرحم الرّاحمين، فمن قالها ثلاثا، قال له الملك: إنّ أرحم الرّاحمين قد أقبل عليك فسل» ، رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «دعوة أخي ذي النّون: لا إله إلّا أنت، سبحانك إنّي كنت من الظّالمين؛ لم يدع بها رجل مسلم في شيء قطّ إلّا استجيب له» ، رواه التّرمذيّ والنّسائيّ والحاكم، وقال: صحيح الإسناد «4» .

_ (1) أخرجه أبو داود، برقم (1493) . وابن ماجة برقم (3857) . والتّرمذيّ برقم (3475) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 504. عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3527) . عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. (3) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 544. عن أبي أمامة رضي الله عنه. (4) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3505) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 505. عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند النوم

وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «سلوا الله العفو والعافية، فإنّ أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية» ، رواه النّسائيّ بإسناد صحيح، والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن «1» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند النّوم] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال لعليّ وفاطمة رضي الله عنهما: «إذا أويتما إلى فراشكما فكبّرا الله ثلاثا وثلاثين، وسبّحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين» ، متّفق عليه «2» /. وفي رواية: «فكبّر أربعا وثلاثين» «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه، وقرأ بالمعوّذات، ومسح بهما جسده، متّفق عليه «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه: «إذا أتيت مضجعك، فتوضّأ وضوؤك للصّلاة، ثمّ اضطجع على شقّك الأيمن، وقل: اللهمّ إنّي أسلمت نفسي إليك، وفوّضت أمري إليك، ووجّهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلّا إليك، آمنت بكتابك الّذي أنزلت، وبنبيّك الّذي أرسلت. فإن متّ من ليلتك متّ وأنت على الفطرة، فاجعلهنّ آخر ما تقول» ، متّفق عليه «5» .

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3558) . عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (5959) . ومسلم برقم (2727/ 80) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. (3) أخرجه مسلم، برقم (2727/ 80) . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه (4) أخرجه البخاريّ، برقم (5960) . عن عائشة رضي الله عنها. النّفث: نفح لطيف بلا ريق. (أنصاريّ) . (5) أخرجه البخاريّ، برقم (5952) . ومسلم برقم (2710/ 56) . عن البراء بن عازب رضي الله عنهما.

فصل في المرض وتوابعه

فصل في المرض وتوابعه وأمّا أذكاره في المرض وتوابعه: من فضيلة الصّبر على البلاء، وعيادة المرضى، وما يقوله المريض والعائد والمحتضر والمصاب والمعزّى له، وفضل الصّلاة على الميّت وحضور دفنه، وما يقوله زائر القبور. [فضيلة الصبر على البلاء] فثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا همّ ولا حزن، ولا أذى ولا غمّ، حتّى الشّوكة يشاكها؛ إلّا كفّر الله بها من خطاياه» ، متّفق عليه «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مرض العبد، أو سافر؛ كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا» ، رواه البخاريّ «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه: «ضع يدك على الّذي تألّم من جسدك، وقل: باسم الله ثلاثا. وقل سبع مرّات: أعوذ بعزّة الله وقدرته من شرّ ما أجد وأحاذر» ، متّفق عليه «3» . زاد مالك وأبو داود والتّرمذيّ: وأنّه-[أي: عثمان بن أبي العاص]- فعل ذلك، فأذهب الله عنه ما كان به «4» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (5318) . ومسلم برقم (2573/ 52) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. الوصب: الوجع اللّازم. النّصب: التّعب. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (2834) . عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه (3) أخرجه مسلم، برقم (2202/ 67) . عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه (4) أخرجه التّرمذيّ، برقم (2080) . وأبو داود برقم (3891) .

وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى صاحب بلاء، فقال: الحمد لله الّذي عافاني ممّا ابتلاك به، وفضّلني على كثير ممّن خلق تفضيلا؛ لم يصبه ذلك البلاء» ، رواه التّرمذيّ، وقال: حديث حسن «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من عاد مريضا، لم يحضر/ أجله، فقال عنده سبع مرّات: أسأل الله العظيم، ربّ العرش العظيم، أن يشفيك؛ إلّا عافاه الله من ذلك المرض» ، رواه أبو داود والنّسائيّ والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن، وابن حبّان في «صحيحه» ، والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاريّ «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكرهوا مرضاكم على الطّعام والشّراب، فإنّ الله يطعمهم ويسقيهم» ، رواه ابن ماجه والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا عوّذ المريض، مسحه بيده اليمنى ويقول: «اللهمّ ربّ النّاس، أذهب الباس، اشفه أنت الشّافي، لا شفاء إلّا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما» ، - أي: لا يترك- متّفق عليه «4» . وفي رواية لهما: «لا شافي إلّا أنت» «5» .

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3431) . عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (2083) . وأبو داود برقم (3106) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 342. عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (3) أخرجه ابن ماجه، برقم (3444) . والتّرمذيّ برقم (2040) . عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (5411) . ومسلم برقم (2191/ 46) . عن عائشة رضي الله عنها. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (5410) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

عيادة المرضى

وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا يرضاه» ، رواه الطّبرانيّ بإسناد لا بأس به «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي [المؤمن] عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدّنيا، ثمّ احتسبه؛ إلّا الجنّة» ، رواه البخاريّ «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنّة، وسمّوه بيت الحمد» ، رواه التّرمذيّ، وقال: حديث حسن. وابن حبّان في «صحيحه» «3» . [عيادة المرضى] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «عودوا المرضى، واتبعوا الجنائز؛ تذكّركم الآخرة» ، رواه الإمام أحمد والبزّار وابن حبّان في «صحيحه» «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامة: يا ابن آدم: مرضت فلم تعدني؟ قال: يا ربّ كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟

_ (1) أخرجه الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 2/ 331. عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (6060) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. قبضت صفيّه: أمتّ حبيبه؛ كالولد والأخ، وكلّ من يحبّ الإنسان. (3) أخرجه التّرمذيّ، برقم (1021) . عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه. (4) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (11053) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

ما يقوله المريض والعائد والمحتضر

قال: أما علمت/ أنّ عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنّك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم: استطعمتك فلم تطعمني؟ قال: يا ربّ كيف أطعمك وأنت ربّ العالمين؟ قال: أما علمت أنّه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنّك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم: استسقيتك فلم تسقني؟ قال: يا ربّ كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين؟ قال: أما علمت أنّه استسقاك عبدي فلان فلم تسقه؟ أما علمت أنّك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟» ، رواه مسلم «1» . [ما يقوله المريض والعائد والمحتضر] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتمنّين أحدكم الموت لضرّ نزل به، فإن كان لا بدّ فاعلا، فليقل: اللهمّ أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرا لي» ، متّفق عليه «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال قبل موته بثلاثة أيّام: «لا يموتنّ أحدكم إلّا وهو يحسن الظّنّ بالله عزّ وجلّ» ، رواه مسلم «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «أكثروا ذكر هاذم اللّذّات- أي: قاطعها- يعني الموت، فإنّه ما كان في قليل إلّا أجزله، ولا في كثير إلّا قلّله» ، رواه الطّبرانيّ بإسناد حسن «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم سئل عن أكيس النّاس- أي: أعقلهم- وأحزم النّاس

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (2569/ 43) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (5990) . ومسلم برقم (2680/ 10) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (3) أخرجه مسلم، برقم (2877) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (4) أخرجه الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 10/ 309. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

فضل الصلاة على الميت وحضور دفنه

- أي: أشدّهم حذرا- فقال: «أكثرهم للموت ذكرا، وأكثرهم له استعدادا؛ أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدّنيا وكرامة الآخرة» ، رواه ابن ماجه بإسناد جيد، والطّبرانيّ بإسناد حسن «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم دخل على شابّ، وهو في الموت، فقال: «كيف تجدك؟» قال: أرجو الله، وأخاف ذنوبي، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلّا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه ممّا يخاف» ، رواه التّرمذيّ وابن ماجه بإسناد حسن «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لقّنوا موتاكم لا إله إلّا الله» ، رواه مسلم «3» . والتّرمذيّ وزاد: «من كان/ آخر كلامه: لا إله إلّا الله دخل الجنّة» «4» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم مرّوا عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال: «وجبت» ، ومرّوا عليه بجنازة فأثنوا عليها شرّا، فقال: «وجبت» ، ثمّ قال: «من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنّة، ومن أثنيتم عليه شرّا وجبت له النّار، أنتم شهداء الله في الأرض» ، متّفق عليه «5» . [فضل الصّلاة على الميّت وحضور دفنه] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منّا من ضرب الخدود، وشقّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهليّة» ، متّفق عليه «6» .

_ (1) أخرجه ابن ماجه، برقم (4259) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (983) . وابن ماجه برقم (4261) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (3) أخرجه مسلم، برقم (916/ 1) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. (4) أخرجه التّرمذيّ، برقم (977) . عن أمّ سلمة رضي الله عنها. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (1301) . ومسلم برقم (949/ 60) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (6) أخرجه البخاريّ، برقم (1235) . ومسلم برقم (103/ 165) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من عزّى مصابا فله مثل أجره» ، رواه التّرمذيّ والبيهقيّ «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى إحدى بناته فقال: «مرها فلتصبر ولتحتسب، وأخبرها أنّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلّ شيء عنده بأجل مسمّى» ، متّفق عليه «2» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد الجنازة حتّى يصلّي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتّى تدفن فله قيراطان، مثل الجبلين العظيمين» ، متّفق عليه «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يموت فيصلّي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلّا وجبت له الجنّة» ، رواه أبو داود والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن، وابن حبّان في «صحيحه» «4» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم صلّى على جنازة، فقال في دعائه: «اللهمّ اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسّع مدخله، واغسله بالماء والثّلج والبرد، ونقّه من الخطايا، كما نقّيت الثّوب الأبيض من الدّنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنّة، وأعذه من عذاب

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (1073) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (6942) . ومسلم برقم (923/ 11) . عن أسامة بن زيد رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (1261) . ومسلم برقم (945/ 52) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه أبو داود، برقم (3166) . والتّرمذيّ برقم (1028) . عن مالك بن هبيرة رضي الله عنه.

ما يقوله زائر القبور

القبر، ومن عذاب النّار» ، رواه مسلم «1» . وفي رواية: «وفتنة القبر، وعذاب النّار» «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم صلّى على جنازة، فقال: «اللهمّ اغفر لحيّنا وميّتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا/ وغائبنا. اللهمّ من أحييته منّا فأحيه على الإسلام، ومن توفّيته منّا فتوفّه على الإيمان. اللهمّ لا تحرمنا أجره، ولا تفتنّا بعده» ، رواه أبو داود والتّرمذيّ والبيهقيّ والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاريّ ومسلم «3» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميّت، وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التّثبيت؛ فإنّه الآن يسأل» ، رواه أبو داود والبيهقيّ بإسناد حسن «4» . [ما يقوله زائر القبور] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى المقبرة قال: «السّلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية» ، رواه مسلم وأبو داود والنّسائيّ وابن ماجه بأسانيد صحيحة «5» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (963/ 85) عن عوف بن مالك رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم، برقم (963/ 86) . عنه أيضا. (3) أخرجه أبو داود، برقم (3201) . والتّرمذيّ برقم (1024) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 358. عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه أبو داود، برقم (3221) . عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه. (5) أخرجه مسلم، برقم (974/ 102) . والنّسائيّ برقم (2039) . وابن ماجه برقم (1546) . عن عائشة رضي الله عنها.

فصل في الصيام

فصل في الصّيام وأمّا أذكاره صلى الله عليه وسلم في الصّيام: فثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال، قال: «اللهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسّلامة والإسلام، والتّوفيق لما تحبّه وترضى، ربّنا وربّك الله» ، رواه التّرمذيّ والدّارميّ في «مسنده» «1» . وروى أبو داود أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال، قال: «هلال رشد وخير، هلال رشد وخير، آمنت بالّذي خلقك- ثلاثا-[ثمّ يقول] : الحمد لله الّذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا» «2» . [نهيه صلى الله عليه وسلم عن الرّفث] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «الصّيام جنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إنّي صائم- مرّتين-» ، متّفق عليه «3» . [ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر، قال: «ذهب الظّمأ، وابتلّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى» ، رواه أبو داود والنّسائيّ «4» .

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3515) . والدّارميّ برقم (1687) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (2) أخرجه أبو داود، برقم (5092) . عن قتادة بن دعامة رحمه الله. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (1795) . ومسلم برقم (1151/ 160) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه أبو داود، برقم (2357) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

دعاء الصائم

[دعاء الصّائم] زاد أبو داود: «اللهمّ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت» «1» . زاد ابن السّنّيّ: «فتقبّل منّي، إنّك أنت السّميع العليم» «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ للصّائم/ [عند فطره] لدعوة ما تردّ» ، رواه ابن ماجه وابن السّنّيّ «3» . [ما كان يدعو به صلى الله عليه وسلم لمن أفطر عنده] وأنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر عند قوم دعا لهم: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة» ، رواه أبو داود بإسناد صحيح وابن السّنّيّ «4» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم ليلة القدر] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم أمر من صادف ليلة القدر أن يقول: «اللهمّ إنّك عفوّ، تحبّ العفو، فاعف عنّي» ، رواه التّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه بأسانيد صحيحة، وقال التّرمذيّ: حديث حسن صحيح «5» .

_ (1) أخرجه أبو داود، برقم (2358) . عن معاذ بن زهرة مرفوعا. (2) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (480) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (3) أخرجه ابن ماجه، برقم (1753) . وابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (481) . عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (4) أخرجه أبو داود، برقم (3854) . وابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (482) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (5) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3513) . وابن ماجه برقم (3850) . عن عائشة رضي الله عنها.

فصل في السفر

فصل في السّفر وأمّا أذكاره [صلى الله عليه وسلم] في السّفر: فثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان يعلّمهم الاستخارة في الأمور كلّها؛ كالسّورة من القرآن. [يقول صلى الله عليه وسلم] : «إذا همّ بالأمر فليركع ركعتين، ثمّ ليقل: اللهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب. اللهمّ إن كنت تعلم أنّ هذا الأمر- ويسمّي حاجته- خير لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري- أو قال: في عاجل أمري- وآجله فاقدره لي، ويسّره لي، ثمّ بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أنّ هذا الأمر شرّ لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري- أو قال: عاجل أمري- وآجله فاصرفه عنّي، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثمّ رضّني به» ، رواه البخاريّ «1» . قال العلماء: ويقرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتي: الإخلاص «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما خلّف أحد عند أهله خيرا من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد سفرا» ، رواه الطّبرانيّ «3» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (6019) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (2) سورتا الإخلاص: هما: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. (أنصاريّ) . (3) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنّف» ، (1/ 105/ 1) . عن المطعم بن المقدام مرفوعا.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا سافر

قال بعض العلماء: ويقرأ فيهما بعد الفاتحة بالمعوّذتين. [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا سافر] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم لم يرد سفرا إلّا قال حين ينهض من جلوسه: «اللهمّ إليك توجّهت، وبك اعتصمت. اللهمّ اكفني ما أهمّني، وما لم أهتمّ له. اللهمّ زوّدني التّقوى، واغفر لي ذنبي، ووجّهني للخير أينما توجّهت» «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم/ قال: «من أراد سفرا فليقل لمن يخلّف: أستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه» ، رواه ابن السّنّيّ «2» . ولأحمد: «إنّ الله إذا استودع شيئا حفظه» «3» . [ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا ودّع مسافرا] وأنّه صلى الله عليه وسلم ودّع رجلا فقال له: «أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك» ، رواه أبو داود والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم ودّع رجلا آخر فقال له: «زوّدك الله التّقوى، وغفر ذنبك، ويسّر لك الخير حيثما كنت» ، رواه التّرمذيّ، وقال: حديث حسن «5» .

_ (1) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (495) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (505) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (5573) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (4) أخرجه أبو داود، برقم (2600) . والتّرمذيّ برقم (3443) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (5) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3444) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا ركب راحلته

وروى أيضا أنّه صلى الله عليه وسلم ودّع آخر فقال له: «أوصيك بتقوى الله، والتّكبير على كلّ شرف» ، فلمّا ولّى قال: «اللهمّ اطو له البعد، وهوّن عليه السّفر» ، قال التّرمذيّ: حديث حسن «1» . [ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا ركب راحلته] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبّر ثلاثا، ثمّ قال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ [سورة الزّخرف 43/ 13- 14] ، اللهمّ إنّا نسألك في سفرنا هذا البرّ والتّقوى، ومن العمل ما ترضى. اللهمّ هوّن علينا سفرنا هذا، واطو عنّا بعده. اللهمّ أنت الصّاحب في السّفر، والخليفة في الأهل والمال والولد. اللهمّ إنّا نعوذ بك من وعثاء السّفر- أي: شدّته- وكابة المنظر- أي: تغيّره- وسوء المنقلب- أي: المرجع- في المال والأهل والولد» . وإذا رجع قالهنّ، وزاد فيهنّ: «آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربّنا حامدون» ، رواه مسلم «2» ، وأبو داود وزاد: وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجيوشه إذا علوا الثّنايا كبّروا، وإذا هبطوا سبّحوا «3» . قال العلماء: والحكمة: الإشارة إلى أنّ له سبحانه الشّرف على كلّ شرف، وأنّه منزّه عن الخفض، جلّ وعلا. [دعاء ركوب السّفينة] وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «أمان لأمّتي من الغرق، إذا ركبوا البحر أن يقولوا: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3445) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. الشرف: المكان المرتفع. (2) أخرجه مسلم، برقم (1342/ 425) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (3) أخرجه أبو داود، برقم (2599) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

الدعاء إذا ضلت الدابة

رَحِيمٌ [سورة هود 11/ 41] ، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ/ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة الزّمر 39/ 67] » ، رواه ابن السّنّيّ «1» . [الدّعاء إذا ضلّت الدّابّة] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا انفلتت دابّة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا، يا عباد الله احبسوا؛ فإنّ لله عزّ وجلّ في الأرض حاضرا سيحبسه» ، رواه ابن السّنّيّ «2» . [كراهة اصطحاب الكلب والجرس في السّفر] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس» ، رواه مسلم «3» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا رأى قرية يريد دخولها] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلّا قال حين يراها: «اللهمّ ربّ السّماوات السّبع وما أظللن، وربّ الأرضين السّبع وما أقللن، وربّ الشّياطين وما أضللن، وربّ الرّياح وما ذرين، نسألك من خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرّ هذه القرية وشرّ أهلها وشرّ ما فيها» ، رواه النّسائيّ. وابن السّنّيّ وزاد: «اللهمّ ارزقنا حماها- أي: صحّتها- وأعذنا من وباها، وحبّبنا إلى أهلها، وحبّب صالحي أهلها إلينا» «4» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من نزل منزلا ثمّ قال: أعوذ بكلمات الله

_ (1) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (500) . عن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما. (2) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (508) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (3) أخرجه مسلم، برقم (2113/ 103) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه النّسائيّ في «عمل اليوم واللّيلة» برقم (543) . وابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (524) . عن صهيب بن سنان رضي الله عنه.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا رجع من السفر

التّامّات من شرّ ما خلق، لم يضرّه شيء حتّى يرتحل من منزله ذلك» ، رواه مسلم والإمام مالك والتّرمذيّ «1» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا رجع من السّفر] وأنّه صلى الله عليه وسلم لمّا رأى (المدينة) قال: «تائبون، آيبون، عابدون، ساجدون، لربّنا حامدون» ، ولم يزل يقول ذلك حتّى قدم (المدينة) ، متّفق عليه «2» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (2708/ 54) . ومالك في «الموطّأ» ، كتاب (54) ، برقم (34) . والتّرمذيّ برقم (3437) . عن خولة بنت حكيم رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (2919) . ومسلم برقم (1345/ 429) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

فصل في الحج

فصل في الحجّ وأمّا أذكاره صلى الله عليه وسلم في حجّه: فثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» ، متّفق عليه «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «عمرة في رمضان تعدل حجّة» ، متّفق عليه «2» . وزاد مسلم: «معي» «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «الحجّ المبرور ليس له جزاء إلّا الجنّة» ، متّفق عليه «4» . زاد أحمد وابن خزيمة والحاكم: قيل/: وما برّه؟ قال: «إطعام الطّعام وطيب الكلام» «5» . [فضل النّفقة في الحجّ] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «النّفقة في الحجّ كالنّفقة في سبيل الله، الدّرهم بسبع مئة درهم» ، رواه الإمام أحمد بإسناد حسن «6» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1449) . ومسلم برقم (1350/ 438) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (1764) . ومسلم برقم (1256/ 222) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (3) أخرجه مسلم، برقم (1256/ 221) . (4) أخرجه البخاريّ، برقم (1683) . ومسلم برقم (1349/ 437) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (5) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (14073) . والحاكم في «مسنده» ، ج 1/ 483. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (6) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (22491) . عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.

ما لا يباح للمحرم بحج وعمرة

[ما لا يباح للمحرم بحج وعمرة] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يلبس المحرم القمص، ولا العمائم، ولا السّراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف» «1» . [فضل التّلبية] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ملبّ يلبّي إلّا لبّى ما عن يمينه وشماله، من حجر أو شجر أو مدر» ، رواه التّرمذيّ وابن ماجه وابن خزيمة في «صحيحه» والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن يظلّ محرما إلّا غابت الشّمس بذنوبه» ، رواه التّرمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح «3» . [فضل يوم عرفات] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله يباهي بأهل عرفات ملائكة السّماء فيقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء جاؤوني شعثا غبرا» ، رواه الإمام أحمد وابن حبّان في «صحيحه» والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من النّار من يوم عرفة، وإنّه ليدنو-[أي] : يتجلّى- ثمّ يباهي بهم الملائكة» ، رواه مسلم «5» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ استلام الحجر والرّكن اليمانيّ يحطّ الخطايا» «6» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (5469) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (828) . وابن ماجه برقم (2921) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 451. عن سهل بن سعد رضي الله عنه. (3) أخرجه ابن ماجه، برقم (2925) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (4) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (7986) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 465. عن أبي هريرة رضي الله عنه. أشعث الشّعر: ملبّد وغير ممشّط. الغبر: يعلوه التّراب. (5) أخرجه مسلم، برقم (1348) . عن عائشة رضي الله عنها. (6) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (4448) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

فضل الطواف بالبيت

[فضل الطّواف بالبيت] [وأنّه صلى الله عليه وسلم قال] : «من طاف بالبيت لم يرفع قدما ولم يضع قدما إلّا كتبت له عشر حسنات، وحطّ عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات. ومن طاف بالبيت سبوعا وصلّى ركعتين كان كعدل رقبة» ، رواه الإمام أحمد والتّرمذيّ وابن خزيمة في «صحيحه» والحاكم، وقال: صحيح الإسناد «1» . [فضل استلام الحجر الأسود] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال في الحجر الأسود: «والله ليبعثنّه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد لمن استلمه بحقّ» ، رواه التّرمذيّ، وقال: حديث حسن، وابن خزيمة وابن حبّان في «صحيحهما» «2» . [نزول الرّحمة على حجّاج البيت] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ينزّل الله كلّ يوم على حجّاج بيته/ الحرام عشرين ومئة رحمة، ستّين للطّائفين، وأربعين للمصلّين، وعشرين للنّاظرين» ، رواه البيهقيّ بإسناد حسن «3» . قلت: وفيه: «أنّ الطّواف أفضل من الصّلاة» . [غفران ذنوب الحاج] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج الحاجّ من بيته لم تخط راحلته خطوة إلّا كتب له بها حسنة وحطّ بها خطيئة، فإذا وقف بعرفات غفرت له ذنوبه، وإن كانت عدد قطر السّماء، وعدد رمل عالج، وإذا رمى الجمار لا يدري أحد ما له حتّى يوفّاه يوم القيامة، وإذا حلق شعره فله بكلّ شعرة نور يوم القيامة، وإذا قضى آخر طوافه

_ (1) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (27837) . والتّرمذيّ برقم (959) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 489. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (961) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (3) أخرجه البيهقيّ في «الشّعب» ، برقم (4051) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما.

رمي الجمار

خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» ، رواه الطّبرانيّ والبزّار وابن حبّان في «صحيحه» «1» . [رمي الجمار] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشّيطان عند (جمرة العقبة) ، فرماه إبراهيم بسبع حصيات» ، رواه ابن خزيمة في «صحيحه» والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما «2» . قال ابن عبّاس: فارموا فإنّ الشّيطان ترمون. وأنّه صلى الله عليه وسلم سئل عن حصى الرّمي؟ فقال: «ما تقبّل منها رفع، ولولا ذلك لرأيتموها مثل الجبال» ، رواه الطّبرانيّ والحاكم وقال: صحيح الإسناد «3» . [ماء زمزم] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «خير ماء على وجه الأرض: ماء زمزم، فيه طعام الطّعم- أي: المشبع من الجوع- وشفاء السّقم» ، رواه الطّبرانيّ وابن حبّان في «صحيحه» «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شرب له» ، رواه الدّارقطنيّ والحاكم، وقال: صحيح الإسناد «5» .

_ (1) أورده الهيثميّ في «مجمع الزوائد» ، ج 3/ 274. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. رمل عالج: ما تراكم من الرّمل ودخل بعضه في بعض. (2) أخرجه ابن خزيمة، برقم (2967) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 466. عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (3) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 3/ 360. والحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 476. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (4) أخرجه الطّبراني في «الكبير» ، برقم (11167) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (5) أخرجه الدّارقطنيّ في «سننه» ، ج 2/ 289. والحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 473. عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما.

مواقيت الحج والعمرة المكانية

[مواقيت الحجّ والعمرة المكانيّة] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم وقّت للإحرام بالحجّ لأهل المدينة: (ذا الحليفة) . ولأهل الشّام: (الجحفة) . ولأهل نجد: (قرنا) . ولأهل اليمن: (يلملم) «1» . [اغتساله صلى الله عليه وسلم للإحرام ولدخول مكّة] وأنّه صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه. رواه التّرمذيّ «2» . واغتسل أيضا لدخول (مكّة) . متّفق عليه «3» . [دخوله صلى الله عليه وسلم مكّة] وأنّه صلى الله عليه وسلم كان يدخل (مكّة) من (الثّنيّة العليا) ، ويخرج من (الثّنيّة السّفلى) . متّفق عليه «4» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم حين رأى البيت] وأنّه صلى الله عليه وسلم/ كان إذا أبصر (البيت) رفع يديه ودعا: «اللهمّ زد هذا البيت تشريفا وتعظيما، وتكريما وبرّا ومهابة، وزد من شرّفه وكرّمه؛ ممّن حجّه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرّا» ، رواه الإمام الشّافعيّ في «مسنده» والبيهقيّ «5» . [دخوله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة] وأنّه صلى الله عليه وسلم دخل (المسجد) من باب (بني شيبة) ، وقال عند دخول المسجد: «اللهمّ أنت السّلام، ومنك السّلام، فحيّنا ربّنا بالسّلام» ، رواه البيهقيّ «6» . [طوافه صلى الله عليه وسلم بالبيت] وأنّ أوّل شيء بدأ به صلى الله عليه وسلم الطّواف بالبيت. متّفق عليه «7» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1454) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (830) . عن زيد بن ثابت رضي الله عنه. (3) أخرجه مسلم، برقم (1259/ 227) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (4) أخرجه البخاريّ، برقم (1500) . ومسلم برقم (1257/ 223) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (5) أخرجه البيهقيّ في «سننه» ، ج 5/ 73. عن مكحول رحمه الله. (6) أخرجه البيهقيّ في «سننه» ، ج 5/ 72. عن عطاء رحمه الله. (7) أخرجه البخاريّ، برقم (1536) . ومسلم برقم (1235/ 190) . عن عائشة رضي الله عنها.

استلامه صلى الله عليه وسلم الركن الأسود وتقبيله

وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «الطّواف بالبيت بمنزلة الصّلاة، إلّا أنّ الله قد أحلّ فيه النّطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير» ، رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم «1» . وثبت أيضا أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا قدم (مكّة) ، أتى (الحجر) فاستلمه، ثمّ مشى عن يمينه فرمل ثلاثا، ومشى أربعا «2» . [استلامه صلى الله عليه وسلم الرّكن الأسود وتقبيله] وروى الشّيخان أنّه صلى الله عليه وسلم استلم (الحجر) ، ثمّ قبّله، ثمّ وضع جبهته الكريمة عليه في كلّ طوفة، وأنّه كان يستلم الرّكن اليمانيّ في كلّ طوفة ولا يقبّله، وأنّه كان لا يستلم الرّكنين اللّذين يليان (الحجر) - بكسر الحاء- «3» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم بين الرّكنين اليمانيين] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول بين الرّكنين اليمانيين «4» : «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ» ، رواه أبو داود «5» . [اضطباعه ورمله صلى الله عليه وسلم في الطّواف] وروي أيضا أنّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من (الجعرانة) ، فرملوا بالبيت، واضطبعوا، فجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، وأطرافها على عواتقهم اليسرى «6» .

_ (1) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 2/ 267. عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (2) أخرجه مسلم، برقم (1218/ 150) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (3) أخرجه البخاريّ، برقم (1506) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (4) الرّكنان اليمانيان: هما الرّكن الأسود والرّكن اليمانيّ، وإنّما قيل: (اليمانيان) للتغليب. (5) أخرجه أبو داود، برقم (1892) . عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه. (6) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (3502) . عن عبد الله بن عبّاس

صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتي الطواف واستلامه الحجر ثانية

[صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتي الطّواف واستلامه الحجر ثانية] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم صلّى بعد الطّواف ركعتين خلف (المقام) . متّفق عليه. زاد مسلم: يقرأ في الأولى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. وفي الثّانية: الإخلاص «1» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم استلم (الحجر الأسود) بعد أن صلّى ركعتين خلف (المقام) . [سعيه صلى الله عليه وسلم بين الصّفا والمروة] ثمّ خرج للسّعي من باب (الصّفا) / وبدأ بالصّفا، وقال: «ابدؤوا بما بدأ الله به» ، وقرأ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [سورة البقرة 2/ 158] ، فرقي على (الصّفا) ، حتّى رأى (البيت) ، فوحّد الله وكبّره، وقال: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير. لا إله إلّا الله [وحده] ، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ، ثمّ دعا بين ذلك. قال [مثل] هذا ثلاث مرّات، وفعل على (المروة) كما فعل على (الصّفا) «2» . [جمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم الصّلوات وقصرها] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم صلّى بالنّاس الظّهر والعصر جمعا في وقت الظّهر ب (نمرة) ، ثمّ وقف ب (عرفة) إلى الغروب. ثم أفاض إلى (المزدلفة) ، فلمّا وصلها صلّى بها المغرب والعشاء جمعا في وقت

_ رضي الله عنهما. رمل: أسرع المشي في الطّواف. اضطبع: الضّبع: ما تحت الإبط. وطاف مضطبعا: إذا أخذ الإزار فجعل وسطه تحت إبطه الأيمن وألقى طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره. العواتق: ما بين المنكب والعنق. (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1523) . عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم، برقم (1218/ 147) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة

العشاء، متّفق عليه «1» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «خير الدّعاء: دعاء يوم (عرفة) ، وخير ما قلت أنا والنّبيّون من قبلي- أي: يوم (عرفة) - لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير» ، رواه التّرمذيّ «2» والبيهقيّ وزاد: «اللهمّ اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا. اللهمّ اشرح لي صدري، ويسّر لي أمري» «3» . وروى البيهقيّ أيضا أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يقف عشيّة (عرفة) بالموقف، فيستقبل القبلة بوجهه، ثمّ يقول: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير؛ مئة مرّة، ثمّ يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مئة مرّة، ثمّ يقول: اللهمّ صلّ على محمّد، وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد- وعلينا معهم- مئة مرّة إلّا قال الله تعالى: يا ملائكتي، ما جزاء عبدي هذا، هلّلني، وأثنى عليّ، وعلى نبيّي، أشهدكم يا ملائكتي أنّي قد غفرت له، وشفّعته في نفسه، ولو سألني عبدي هذا لشفّعته في أهل الموقف» «4» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1588) ، بنحوه. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3585) . عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (3) أخرجه البيهقيّ، ج 5/ 117. عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. (4) أخرجه البيهقيّ في «الشّعب» ، برقم (4074) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

مبيته صلى الله عليه وسلم بمزدلفة

[مبيته صلى الله عليه وسلم بمزدلفة] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم بات ب (مزدلفة) حتّى صلّى الصّبح بها بغلس. متّفق عليه «1» . زاد مسلم: فلمّا صلّى الصّبح/ ركب القصواء، حتّى أتى (المشعر الحرام) ، فاستقبل القبلة، ودعا الله تعالى، وكبّر، وهلّل، ووحّد، ولم يزل واقفا حتّى أسفر جدّا، ثمّ سار إلى (منى) ، فلمّا أتى (الجمرة) رماها بسبع حصيات، يكبّر مع كلّ حصاة، ثمّ ذبح، ثمّ حلق، ثمّ سار إلى (مكّة) ، فطاف ب (البيت) طواف الرّكن، ثمّ عاد إلى (منى) «2» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمحلّقين] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «اللهمّ ارحم المحلّقين» ، فقالوا: والمقصّرين يا رسول الله؟ فقال: «اللهمّ ارحم المحلّقين» ، قالوا: والمقصّرين؟ قال في الرّابعة: «والمقصّرين» ، متّفق عليه «3» . [إفتاؤه صلى الله عليه وسلم الناس بمنى] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء يومئذ قدّم ولا أخّر- أي: من الرّمي والحلق والذّبح والطّواف- إلّا قال: «افعل ولا حرج» ، متّفق عليه «4» . [مبيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمنى] وأنّه صلى الله عليه وسلم بات ب (منى) ليالي التّشريق، يرمي كلّ يوم إلى (الجمرات الثّلاث) ، كلّ جمرة بسبع حصيات، يبدأ ب (الجمرة

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (1289/ 292) . (2) أخرجه مسلم، برقم (1218/ 147) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (1640) . ومسلم برقم (1301/ 317) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (1649) . ومسلم برقم (1306/ 327) . عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

نهيه صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام التشريق

الأولى) ، الّتي تلي (مسجد الخيف) ، ثمّ (الوسطى) ، ثمّ (جمرة العقبة) ، بعد أن تزول الشّمس، ويغتسل، وقبل أن يصلّي الظّهر، ويقف عند (الأولى والثّانية) طويلا، يذكر الله تعالى ويدعو، ولا يقف عند (الثّالثة) ، وانصرف بعد الرّمي من عندها في اليوم الثّالث إلى (مكّة) ، فنزل ب (المحصّب) ، فصلّى به الظّهر والعصر جمعا. متّفق عليه «1» . [نهيه صلى الله عليه وسلم عن صيام أيّام التّشريق] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «أيّام التّشريق: أيّام أكل وشرب، وذكر لله تعالى» ، رواه مسلم «2» . [أمره صلى الله عليه وسلم بطواف الوداع] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ من أعمال الحجّ، طاف ب (البيت) للوداع. رواه البخاريّ «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفرنّ أحد حتّى يكون آخر عهده ب (البيت) » ، رواه مسلم «4» . وأبو داود وزاد- أي: الطّواف «5» -. وروى الشّيخان عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: أمر النّاس أن يكون آخر عهدهم ب (البيت) ، إلّا أنّه خفّف عن المرأة الحائض «6» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (1666) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. المحصّب: المكان الّذي تنتظم فيه الجمرات الثّلاث. (2) أخرجه مسلم، برقم (1141/ 144) . عن نبيشة بن عبد الله الهذليّ رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (1669) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (4) أخرجه مسلم، برقم (1327/ 379) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (5) أخرجه أبو داود، برقم (2002) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (6) أخرجه البخاريّ، برقم (1668) . ومسلم برقم (1328/ 380) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم للحاج

[دعاؤه صلى الله عليه وسلم للحاجّ] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «اللهمّ اغفر/ للحاجّ، ولمن استغفر له الحاجّ» ، رواه البيهقيّ والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال لغلام رجع من الحجّ: «قبل الله حجّك، وغفر ذنبك، وأخلف نفقتك» ، رواه ابن السّنّيّ «2» . [فضل زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم] وروى الدّارقطنيّ أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» «3» . وروى ابن عديّ في «الكامل» أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من حجّ فلم يزرني، فقد جفاني» «4» . [الرّوضة الشّريفة] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة، ومنبري على حوضي» ، متّفق عليه «5» . ولابن عساكر: «ما بين قبري ومنبري» «6» .

_ (1) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 1/ 441. عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (533) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (3) أخرجه الدّارقطنيّ في «سننه» ، ج 2/ 278. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (4) أخرجه ابن عديّ في «الكامل في الضّعفاء» ، ج 7/ 2480. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (1789) . ومسلم برقم (1391/ 502) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (6) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (11216) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

فائدة: في المسافة بين قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ومنبره

فائدة [: في المسافة بين قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم ومنبره] قدر ما بين القبر والمنبر ثلاثة وخمسون ذراعا. والجمهور على أنّ الحديث على ظاهره، فينقل ذلك المكان بعينه إلى الجنّة لشرفه. [ردّه صلى الله عليه وسلم السّلام على من سلّم عليه] وروى أبو داود بإسناد صحيح أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يسلّم عليّ إلّا ردّ الله عليّ روحي حتّى أردّ عليه السّلام» «1» . صلّى الله عليه وسلّم، وشرّف وعظّم وكرّم. وروى الشّيخ محيي الدّين النّوويّ، عن العتبي- رحمه الله تعالى، بفوقيّة قبل الموحّدة- قال: كنت جالسا عند قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابيّ فقال: السّلام عليك يا رسول الله، سمعت الله سبحانه وتعالى يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [سورة النّساء 4/ 64] ، وقد جئتك مستغفرا من ذنبي، مستشفعا بك إلى ربّي، ثمّ أنشأ يقول، [من البسيط] : يا خير من دفنت في التّرب أعظمه ... فطاب من طيبهنّ القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم أنت النّبيّ الّذي ترجى شفاعته ... عند الصّراط إذا ما زلّت القدم قال: ثمّ انصرف. فأخذتني سنة، فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في النّوم، فقال لي: يا عتبيّ، الحق الأعرابيّ، فبشّره بأنّ الله قد غفر له «2» /.

_ (1) أخرجه أبو داود، برقم (2041) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) الأذكار، للنّوويّ، ص 298.

فصل في الجهاد

فصل في الجهاد وأمّا أذكاره صلى الله عليه وسلم في الجهاد: فثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميرا على جيش أو سريّة أوصاه في خاصّته بتقوى الله تعالى، وبمن معه من المسلمين خيرا، ثمّ قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليدا» ، متّفق عليه «1» . قلت: كذا عزاه الإمام النّوويّ في «أذكاره» إلى البخاريّ ومسلم؛ وإنّما أورده الحميديّ في «أفراد مسلم» ، وهو كذلك، فإنّي لم أظفر به في البخاريّ، بعد بلوغ الجهد في الكشف عنه. والله أعلم «2» . [كتمانه صلى الله عليه وسلم جهة مسيره] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يريد غزوة إلّا ورّى بغيرها. متّفق عليه «3» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا همّ بدخول أرض العدوّ] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا صبّح (خيبر) قال: «الله أكبر، خربت (خيبر) ، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» ، متّفق عليه «4» . وروي أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «دعوتان لا تردّان: الدّعاء عند النّداء

_ (1) أخرجه مسلم، (1731/ 3) . عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. (2) وما قاله المؤلّف- رحمه الله- هو الصّواب. والله أعلم. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (2787) . ومسلم برقم (2769/ 54) . عن كعب بن مالك رضي الله عنه. ورّى: أخفى وستر وأوهم. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (3962) . ومسلم برقم (1365/ 87) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند لقاء العدو

- أي: الأذان- وحين البأس- أي: القتال-» ، رواه أبو داود بإسناد صحيح «1» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند لقاء العدوّ] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قال: «اللهمّ أنت عضدي، ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل» ، رواه أبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ «2» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا خاف قوما] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال: «اللهمّ إنّا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم» ، رواه بإسناد صحيح أبو داود والنّسائيّ «3» . [كراهيته صلى الله عليه وسلم تمنّي لقاء العدوّ] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتمنّوا لقاء العدوّ، فإنّكم لا تدرون ما يبتليكم الله به منهم، فإذا لقيتموهم فقولوا: اللهمّ أنت ربّنا وربّهم، وقلوبنا وقلوبهم بيدك، وإنّما تغلبهم أنت» ، رواه ابن السّنّيّ «4» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند النّظر إلى عدوّه] وروى أيضا-[أي: ابن السّنّيّ]- أنّه صلى الله عليه وسلم قال لمّا لقي العدوّ- أي: يوم (بدر) -: «يا مالك يوم الدّين، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» . قال الرّاوي: فلقد رأيت/ الرّجال صرعى تضربها الملائكة من بين يديها، ومن خلفها «5» .

_ (1) أخرجه أبو داود، برقم (2540) . عن سهل بن سعد رضي الله عنه. (2) أخرجه أبو داود، برقم (2632) . والتّرمذيّ برقم (3584) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. أحول: أصرف كيد العدو وأدفع شرّه. أصول: أسطو وأقهر. (3) أخرجه أبو داود، برقم (537) . عن عبد الله بن قيس رضي الله عنه. (4) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (668) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (5) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (334) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا نزل به كرب أو شدة

وقد سبق في آخر خطبة الجهاد، وفي غزوة (بدر) ما قاله صلى الله عليه وسلم عند لقاء العدوّ. [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا نزل به كرب أو شدّة] وثبت أيضا أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب- وفي رواية مسلم- إذا حزبه أمر- بالموحّدة، أي: كربه-: «لا إله إلّا الله العظيم الحليم، لا إله إلّا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلّا الله ربّ السّماوات، وربّ الأرض، وربّ العرش الكريم» ، متّفق عليه «1» . [دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا رجع من السّفر] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع من غزو، أو حجّ، أو عمرة، يكبّر على كلّ شرف من الأرض ثلاثا، ثمّ يقول: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربّنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ، رواه البخاريّ «2» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (5985) . ومسلم برقم (2730) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (1703) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

فصل في المعاش

فصل في المعاش وأمّا أذكاره صلى الله عليه وسلم في المعاش: فثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرّب إليه الطّعام: «اللهمّ بارك لنا فيما رزقتنا، وقنا عذاب النّار، باسم الله» ، رواه ابن السّنّيّ «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال لغلام كان تطيش يده في الصّحفة: «يا غلام، سمّ الله، وكل بيمينك، وكل ممّا يليك» ، متّفق عليه «2» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر الله في أوّله، فليقل: باسم الله أوّله وآخره» ، رواه أبو داود والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل الرّجل بيته، فذكر الله عند دخوله، وعند طعامه، قال الشّيطان-[أي: لأعوانه]-: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله، قال الشّيطان: أدركتم المبيت. وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال:

_ (1) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (457) . عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (5061) . ومسلم برقم (2022/ 108) . عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه. تطيش: تتحرّك وتمتدّ. الصّحفة: إناء يسع ما يشبع خمسة. (3) أخرجه أبو داود، برقم (3767) . والتّرمذيّ برقم (1858) . عن عائشة رضي الله عنها.

فضيلة الخل والتأدم به

أدركتم المبيت والعشاء» ، رواه مسلم «1» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم/ ما عاب طعاما قطّ، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه. متّفق عليه «2» . ولمسلم: وإن لم يشتهه سكت «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قيل له: أحرام الضّبّ يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكنّه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه» «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: لو دعيت إلى كراع- أي: كراع شاة- لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت» ، متّفق عليه «5» . [فضيلة الخلّ والتأدّم به] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم، فقالوا: ما عندنا إلّا خلّ، فدعا به، فجعل يأكل منه، ويقول: «نعم الأدم الخلّ» ، رواه مسلم «6» . [ما يفعل الضّيف إذا تبعه غير من دعاه صاحب الطّعام] وثبت أنّ رجلا دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه له خامس خمسة، فتبعهم رجل، فلمّا بلغ الباب، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذا اتّبعنا، فإن شئت أن تأذن له، وإن شئت رجع» قال: لا، بل آذن له يا رسول الله. متّفق عليه «7» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (2018/ 103) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (5093) . ومسلم برقم (2064/ 187) عن أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه مسلم، برقم (2064/ 188) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (5076) . عن خالد بن الوليد رضي الله عنه. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (2429) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. الكراع من البقر والغنم: ما دون الرّكبة من السّاق. (6) أخرجه مسلم، برقم (2052/ 166) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (7) أخرجه البخاريّ، برقم (5145) . ومسلم برقم (2036/ 138) . عن عقبة بن عمرو رضي الله عنه.

من آداب الطعام

[من آداب الطّعام] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم رآى رجلا يأكل بشماله، فقال له: «كل بيمينك» ، قال: لا أستطيع، قال: «لا استطعت» ، ما منعه إلّا الكبر، فما رفعها إلى فيه. رواه مسلم «1» . [الاجتماع على الطّعام] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه» ، رواه أبو داود وابن ماجه «2» . [ما يقال إذا فرغ من الطّعام] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الطّعام قال: «الحمد لله ربّ العالمين، حمدا كثيرا، طيّبا مباركا فيه، غير مكفيّ، ولا مكفور، ولا مودّع، ولا مستغنى عنه ربّنا» ، رواه البخاريّ «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشّربة فيحمده عليها» ، رواه مسلم «4» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من طعامه قال: «الحمد لله الّذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين» ، رواه أبو داود والتّرمذيّ «5» . وأنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل وشرب قال: «الحمد لله الّذي أطعم وسقى، وسوّغه وجعل/ له مخرجا» ، رواه بإسناد صحيح

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (2021/ 107) . عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه (2) أخرجه أبو داود، برقم (3764) . وابن ماجه برقم (3286) . عن وحشيّ بن حرب رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (5143) . عن أبي أمامة رضي الله عنه. غير مكفيّ: أي: ما أكلناه ليس كافيا عمّا بعده، بل نعمتك مستمرّة علينا، غير منقطعة طول أعمارنا. ولا مكفور: غير مجحود فضله ولا تنكر نعمته. ولا مودّع: من الوداع، أي: ليس آخر طعامنا. (4) أخرجه مسلم، برقم (2734/ 89) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (5) أخرجه أبو داود، برقم (3850) . والتّرمذيّ برقم (3457) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

ما جاء في اللبن

أبو داود والنّسائيّ «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل طعاما، فقال: الحمد لله الّذي أطعمني هذا الطّعام، ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوّة؛ غفر الله له ما تقدّم من ذنبه» ، رواه أبو داود وابن ماجه والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن «2» . [ما جاء في اللّبن] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من أطعمه الله طعاما، فليقل: اللهمّ بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرا منه، ومن سقاه الله لبنا، فليقل: اللهمّ بارك لنا فيه، وزدنا منه. فإنّه ليس شيء يجزئ عن الطّعام والشّراب غير اللّبن» ، رواه أبو داود والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن «3» . [استحباب التّنفّس ثلاثا خارج الإناء] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا شرب من الإناء تنفّس ثلاثة أنفاس، يحمد الله في كلّ نفس، ويشكره في آخرهنّ. رواه ابن السّنّيّ «4» . [استحباب إكرام الضّيف] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم ضيفه» ، متّفق عليه «5» . [استحباب ذكر الله بعد الطّعام] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «أذيبوا طعامكم بذكر الله عزّ وجلّ [والصّلاة] ، ولا تناموا عليه فتقسو [له] قلوبكم» ، رواه ابن السّنّيّ «6» .

_ (1) أخرجه أبو داود، برقم (3851) . عن أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه (2) أخرجه أبو داود، برقم (4023) . وابن ماجه برقم (3285) . والتّرمذيّ برقم (3458) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (3) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3455) . عن خالد بن الوليد رضي الله عنه. (4) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (471) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (5672) . ومسلم برقم (47/ 74) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (6) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (488) . عن عائشة رضي الله عنه.

فصل في المعاشرة

فصل في المعاشرة [إفشاء السّلام] وأمّا أذكاره في المعاشرة: كالسّلام، واللّقاء، وتشميت العاطس، والدّعاء للمتزوّج وللمولود، وتسمية المولود، ونحوهم. فثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «حقّ المسلم على المسلم ستّ: إذا لقيته فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمّته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه» ، رواه مسلم «1» . وثبت أنّ رجلا سأله صلى الله عليه وسلم: أيّ الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطّعام، وتقرأ السّلام على من عرفت ومن لم تعرف» ، متّفق عليه «2» . وروى أبو داود والتّرمذيّ أنّ رجلا جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: السّلام عليكم، فردّ عليه السّلام ثمّ جلس، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «عشر» ، فجاء آخر فقال: السّلام/ عليكم ورحمة الله، فردّ عليه وجلس فقال: «عشرون» ، ثمّ جاء آخر فقال: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردّ عليه فجلس فقال: «ثلاثون» . قال التّرمذيّ: حديث حسن «3» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (2162/ 5) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (12) . ومسلم برقم (39/ 63) . عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (3) أخرجه التّرمذيّ، برقم (2689) . عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.

فضيلة المبتدئ بالسلام

وفي رواية لأبي داود زاد: ثمّ أتى آخر فقال: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: «أربعون» ، وقال: «هكذا تكون الفضائل» «1» . [فضيلة المبتدئ بالسّلام] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أولى النّاس بالله من بدأهم بالسّلام» ، رواه أبو داود بإسناد جيّد والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن «2» . [ما جاء في السّلام على الصّبيان والنّساء] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم مرّ على صبيان فسلّم عليهم. متّفق عليه «3» . وأنّه [صلى الله عليه وسلم] مرّ على نسوة فسلّم عليهنّ. رواه أبو داود وابن ماجه والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن «4» . [استحباب أن يسلّم الرّاكب على الماشي، والصّغير على الكبير] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «يسلّم الرّاكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير» ، متّفق عليه «5» . زاد البخاريّ: «والصّغير على الكبير» «6» . [استحباب السّلام عند دخول المجلس وعند الخروج منه] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلّم، فإذا أراد أن يقوم فليسلّم، فليست الأولى بأحقّ من الآخرة» ، رواه

_ (1) أخرجه أبو داود، برقم (5195) . عنه. (2) أخرجه أبو داود، برقم (5197) . والتّرمذيّ برقم (2694) . عن أبي أمامة رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (5893) . ومسلم برقم (2168/ 14) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (4) أخرجه أبو داود، برقم (5204) . وابن ماجه برقم (3701) . والتّرمذيّ برقم (2697) . عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (5878) . ومسلم برقم (2160/ 1) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (6) أخرجه البخاريّ، برقم (5877) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

استحباب الاستئذان ثلاثا

أبو داود بإسناد جيّد والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن «1» . [استحباب الاستئذان ثلاثا] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك، وإلّا فارجع» ، متّفق عليه «2» . [تحريم النّظر في بيت غيره] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّما جعل الاستئذان من أجل البصر» ، متّفق عليه «3» . وأنّ رجلا دخل عليه [صلى الله عليه وسلم] فقال له: «ارجع، فقل: السّلام عليكم، أأدخل» ، رواه أبو داود والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن «4» . [استحباب المصافحة] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلّا غفر لهما قبل أن يتفرّقا» ، رواه أبو داود والتّرمذيّ وابن ماجه «5» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «تصافحوا يذهب الغلّ من قلوبكم، وتهادوا تحابّوا، وتذهب الشّحناء» ، رواه الإمام مالك «6» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان فتصافحا، وحمدا الله

_ (1) أخرجه أبو داود، برقم (5208) . والتّرمذيّ برقم (2706) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم، برقم (2153/ 34) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (5887) . ومسلم برقم (2156/ 40) . عن سهل بن سعد رضي الله عنه. (4) أخرجه التّرمذيّ، برقم (2710) . عن كلدة بن حنبل رضي الله عنه. (5) أخرجه أبو داود، برقم (5212) . والتّرمذيّ برقم (2727) . وابن ماجه برقم (3703) . عن البراء بن عازب رضي الله عنهما. (6) أخرجه مالك في «الموطّأ» ، كتاب (47) ، برقم (16) . عن عطاء بن مسلم الخراسانيّ مرفوعا.

ما جاء في العطاس والتثاؤب

تعالى، واستغفرا، غفر الله تعالى لهما» ، رواه ابن/ السّنّيّ «1» . وروى أيضا-[أي: ابن السّنّيّ]- ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد رجل ففارقه حتّى قال: «اللهمّ آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ» «2» . [ما جاء في العطاس والتّثاؤب] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله يحبّ العطاس، ويكره التّثاؤب، فإذا عطس أحدكم فحمد الله تعالى كان حقّا على كلّ مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله. وأمّا التّثاؤب؛ فإنّما هو من الشّيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليردّه ما استطاع، فإنّ أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشّيطان» ، رواه البخاريّ «3» . وزاد في رواية: «فإذا قال له صاحبه: يرحمك الله، فليقل: يهداكم الله ويصلح بالكم» «4» - أي: شأنكم-. وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه العطاس وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض بها صوته. رواه أبو داود والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح «5» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه، فإنّ

_ (1) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (193) . عن البراء بن عازب رضي الله عنهما. (2) أخرجه ابن السّنّيّ في «عمل اليوم واللّيلة» ، برقم (204) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه. والآية في سورة البقرة 2/ 201. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (5872) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (5870) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (5) أخرجه أبو داود، برقم (5029) . والتّرمذيّ برقم (2745) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

خطبة النكاح

الشّيطان يدخله» ، رواه مسلم «1» . [خطبة النّكاح] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم علّمهم خطبة النّكاح: «الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران 3/ 103] ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [سورة النّساء 4/ 1] ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً [سورة الأحزاب 33/ 70- 71] . رواه أصحاب السّنن الأربعة. وقال التّرمذيّ: حديث حسن «2» . [الدّعاء للمتزوّج] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم دعا للمتزوّج: «بارك الله عليك» ، متّفق عليه «3» /. وعند أبي داود والتّرمذيّ وابن ماجه: «بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير» ، قال التّرمذيّ: حديث حسن صحيح «4» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (2995/ 57) . عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. (2) أخرجه التّرمذيّ، برقم (1105) . والنّسائيّ برقم (1404) . وأبو داود برقم (1097) . وابن ماجه برقم (1892) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (6024) . ومسلم برقم (715/ 54) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (4) أخرجه أبو داود، برقم (2130) . والتّرمذيّ برقم (1091) . وابن ماجه برقم (1905) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ما يستحب أن يقوله عند الجماع

[ما يستحبّ أن يقوله عند الجماع] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنّ أحدكم إذا جامع أهله قال: باسم الله، اللهمّ جنّبنا الشّيطان، وجنّب الشّيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما بولد لم يضرّه» ، متّفق عليه «1» . وفي رواية للبخاريّ: «لم يضرّه شيطان أبدا» «2» . [لا نكاح إلّا بوليّ] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا نكاح إلّا بوليّ» ، رواه أبو داود والتّرمذيّ وابن حبّان في «صحيحه» والحاكم وصحّحه «3» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «السّلطان وليّ من لا وليّ له» ، رواه أبو داود والتّرمذيّ وابن خزيمة في «صحيحه» «4» . [الرّخصة في اللّعب الّذي لا حرمة فيه] وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في (المسجد) ، حتّى أكون أنا الّذي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السّنّ، الحريصة على اللهو «5» . [حسن معاشرة الأهل من كمال الإيمان] وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (141) . ومسلم برقم (1434/ 116) . عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاريّ، برقم (6025) . عنه. (3) أخرجه أبو داود، برقم (2085) . والتّرمذيّ برقم (1101) . والحاكم في «المستدرك» ، ج 2/ 169. عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه. (4) أخرجه أبو داود، برقم (2083) . والتّرمذيّ برقم (1102) . عن عائشة رضي الله عنها. (5) أخرجه البخاريّ، برقم (4938) . ومسلم برقم (892/ 18) . الحبشة: هم جنس من السّودان مشهور.

ما جاء في أحكام المولود

خلقا، وألطفهم لأهله» ، رواه التّرمذيّ والنّسائيّ «1» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم أذّن في أذن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما. رواه أبو داود والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح «2» . [ما جاء في أحكام المولود] وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «من ولد له مولود فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى؛ لم تضرّه أمّ الصّبيان» . رواه ابن السّنّيّ «3» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصّبيان فيدعو لهم بالبركة، ويحنّكهم. رواه أبو داود بإسناد صحيح «4» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم أمر بتسمية المولود يوم سابعه، ووضع الأذى عنه والعقّ. رواه التّرمذيّ، وقال: حديث حسن «5» . وروى أيضا-[أي: التّرمذيّ]- أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «كلّ غلام/ رهين بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق، ويسمّى» . قال التّرمذيّ: حديث حسن صحيح «6» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم، وأسماء أبائكم؛ فأحسنوا أسماءكم» ، رواه أبو داود بإسناد جيّد «7» .

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (2612) . عن عائشة رضي الله عنها. (2) أخرجه أبو داود، برقم (5105) . والتّرمذيّ برقم (1514) . عن أسلم مولى رسول الله. (3) أخرجه ابن السّنّيّ، برقم (623) . عن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما. أمّ الصّبيان: التّابعة من الجنّ. (4) أخرجه أبو داود، برقم (5106) . عن عائشة رضي الله عنها. (5) أخرجه التّرمذيّ، برقم (2832) . عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (6) أخرجه التّرمذيّ، برقم (1522) . عن سمرة بن جندب رضي الله عنه. (7) أخرجه أبو داود، برقم (4948) . عن أبي الدّرداء رضي الله عنه.

وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أحبّ أسمائكم إلى الله عزّ وجلّ: عبد الله وعبد الرّحمن» ، رواه مسلم «1» . وأنّه صلى الله عليه وسلم قال: «تسمّوا بأسماء الأنبياء» ، رواه أبو داود والنّسائيّ «2» . وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» ، أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أخنع اسم عند الله- أي: أوضع وأذلّ- رجل تسمّى ملك الأملاك» . زاد مسلم: «لا مالك إلّا الله» . قال ابن عيينة: ومثل ملك الأملاك شاهان شاه. متّفق عليه «3» . وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم غيّر اسم حزن، فقال: «أنت سهل» ، رواه البخاريّ «4» . وغيّر اسم عاصية، فقال: «أنت جميلة» ، رواه مسلم «5» . وغيّر اسم أصرم، فقال: «أنت زرعة» ، رواه أبو داود بإسناد حسن «6» . وسمّى حربا: «سلما» ، رواه أبو داود أيضا «7» .

_ (1) أخرجه مسلم، برقم (2132) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (2) أخرجه أبو داود، برقم (4950) . والنّسائيّ برقم (3565) . عن أبي وهب الحبشي رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاريّ، برقم (5853) . ومسلم برقم (2143/ 20) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه البخاريّ، برقم (5837) . عن المسيّب بن حزن رضي الله عنه. (5) أخرجه مسلم، برقم (2139/ 14) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (6) أخرجه أبو داود، برقم (4954) . عن أسامة بن أخدريّ رضي الله عنه. (7) أخرجه أبو داود، برقم (4956) . عن حزن بن أبي وهب رضي الله عنه.

وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «تسمّوا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي» ، متّفق عليه «1» . قال الشّيخ محيي الدّين النّوويّ- رحمه الله تعالى-: ذهب الإمام الشّافعيّ- رحمه الله تعالى- إلى تحريم التّكنّي بأبي القاسم مطلقا، أخذا بظاهر النّهي، وذهب مالك- رحمه الله تعالى- إلى أنّ النّهي خاصّ بحياته صلى الله عليه وسلم. قال الإمام النّوويّ: وهو قويّ، لأنّ الأئمة الأعلام لا يزالون يكتنون بأبي القاسم في جميع الأعصار، فيكونون قد فهموا من النّهي ذلك لما هو مشهور من نداء اليهود بحضرته: يا أبا القاسم، ويقولون أردنا غيرك للإيذاء، وقد زال هذا المعنى. والله أعلم «2» .

_ (1) أخرجه البخاريّ، برقم (3345) . ومسلم برقم (2133/ 3) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (2) الأذكار، للنّوويّ، ص 422- 423.

فصل الختام: في كفارة المجلس

فصل الختام [: في كفارة المجلس] قال صلى الله عليه وسلم: «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه/ ذلك: سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك؛ إلّا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» ، رواه أبو داود والنّسائيّ والتّرمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح، وابن حبّان في «صحيحه» «1» . وروى الحافظ أبو نعيم، عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال: من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل في آخر مجلسه- أو حين يقوم-: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [سورة الصّافّات 37/ 180- 182] . تمّ الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه نسأل الله أن ينفعنا به، ويرزقنا العمل بما فيه، وشفاعة قائله يوم لقائه صلى الله عليه وسلم.

_ (1) أخرجه التّرمذيّ، برقم (3433) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.

خاتمة مخطوط (دار الكتب المصريّة) : ووافق الفراغ منه ظهر يوم الإثنين المبارك، فجر الشّهور محرّم سنة 1104 هـ، أحسن الله ختامه، وصلّى الله على سيّدنا محمّد أفضل الصّلاة والسّلام. خاتمة مخطوط (مكتبة الأحقاف، بتريم) : آخر بصيرة الحضرة الأحمديّة الشّاهية بسيرة الحضرة الأحمديّة النّبويّة، تأليف الإمام الهمام العلّامة جمال الدّين محمّد بن عمر بحرق، رضي الله عنه، ونفع به، آمين. وكان الفراغ من رقم ذلك يوم الأربعاء سادس عشر شهر القعدة، سنة 1241 هـ، إحدى وأربعين ومائتين وألف، والحمد لله ربّ العالمين. خاتمة مخطوط (الأنصاري) : وكان الفراغ من نسخ هذه السّيرة المباركة نهار الإثنين ثاني وعشرين يوما عن محرّم الحرام في البلد الحرام، أحد شهور سنة 638 من الهجرة النّبويّة، على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام، على يد العبد الفقير إلى كرم الله الغني: عليّ بن عبد النّاصر المصريّ، لنفسه ولمن شاء الله من بعده. بلغت بحمد الله في الخطّ آخره ... وسوف ألاقي بعد دنياي آخره فيا قارئا خطّي إذا ما قرأته ... فكن داعيا أن يرحم الله ساطره يجبك كريم بل يثبك بمثل ما ... دعوت فمهما شئت فلتك ذاكره وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم.

ملاحق الكتاب

ملاحق الكتاب

ثبت تاريخيّ متسلسل لأحداث السّيرة النّبويّة وأهمّ التّشريعات* الحدث التاريخ الصفحة- ولادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم 12 ربيع الأوّل- عام الفيل 59- 105 - خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع أمّه إلى (المدينة) السّنة السّادسة من مولده 59- 112 ووفاتها - وفاة جدّه عبد المطّلب وكفالة عمّه السّنة الثّامنة من مولده 60- 115 أبي طالب له - خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع عمّه أبي طالب السّنة الثانية عشرة من مولده 60- 115 في تجارة إلى (الشّام) - شهود النّبيّ صلى الله عليه وسلم حرب الفجار السّنة الرّابعة عشرة من مولده 60- 116 - شهود النّبيّ صلى الله عليه وسلم حلف الفضول السّنة العشرين من مولده 60- 116 - خروج النّبيّ مع ميسرة غلام خديجة في السّنة الخامسة والعشرين من مولده 60- 116- تجارة لها - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من خديجة بنت خويلد السّنة الخامسة والعشرين من مولده 60- 117 رضي الله عنها - بنيان الكعبة ومشاركة النّبيّ صلى الله عليه وسلم السّنة الخامسة والثّلاثين من مولده 60- 119 - حبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم للخلوة السّنة الثامنة والثّلاثين من مولده 60- 120 - بدء الوحي السّنة الأربعين من مولده وهي 61- 120 (السّنة الأولى للبعثة) - هجرة الحبشة الأولى رجب- السّنة الخامسة للبعثة 61- 186 - هجرة الحبشة الثّانية السّنة السّادسة للبعثة 61- 189 - صحيفة المقاطعة محرّم- السّنة السّابعة للبعثة 61- 189 - نقض الصّحيفة السّنة التّاسعة للبعثة 61- 189 - وفاة أبي طالب السّنة العاشرة للبعثة 61- 192 - وفاة خديجة رضي الله عنها السّنة العاشرة للبعثة 61- 193

_ * انظر ص (8) الفقرة (6) .

الحدث التاريخ الصفحة - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من سودة بنت زمعة السّنة العاشرة للبعثة رضي الله عنها - اشتداد إيذاء قريش للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاة السّنة العاشرة للبعثة أبي طالب - خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى (الطّائف) السّنة العاشرة للبعثة 62- 197 - عرض النّبيّ نفسه على القبائل ومن ذي القعدة- السّنة العاشرة للبعثة يقدم مكّة من الأشراف - عقد نكاح عائشة بنت أبي بكر رضي شوّال- السّنة الحادية عشرة للبعثة 203 الله عنهما - الإسراء والمعراج رمضان- السّنة الثّانية عشرة للبعثة 62- 216 - فرض الصلاة بعد الإسراء- السّنة الثّانية عشرة 62- 216 للبعثة - ابتداء أمر الأنصار ذي الحجّة- السنة الثانية عشرة 62- 201 للبعثة - بيعة العقبة الأولى ذي الحجّة- السّنة الثانية عشرة 62- 202 للبعثة - بعث مصعب بن عمير رضي الله عنه السّنة الثّانية عشرة للبعثة 62- 203 إلى (المدينة) وانتشار الإسلام فيها - بيعة العقبة الثّانية السّنة الثّالثة عشرة للبعثة 62- 204 - هجرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى (المدينة) صفر- السّنة الرابعة عشرة للبعثة. 63- 209 وهي (السّنة الأولى للهجرة) - بناء المسجد النّبويّ صفر- السّنة الأولى للهجرة 63- 255 - مشروعيّة الأذان السّنة الأولى للهجرة 63- 262 - المؤاخاة بين المسلمين جمادى الآخرة- السّنة الأولى 264 للهجرة

الحدث التاريخ الصفحة - فرض الجهاد السّنة الأولى للهجرة 63- 262 - سرية حمزة بن عبد المطّلب رضي الله رمضان- السّنة الأولى للهجرة عنه إلى (ساحل البحر) - سرية عبيد بن الحارث رضي الله عنه شوّال- السّنة الأولى للهجرة إلى (ثنيّة المرة) - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله شوّال- السّنة الأولى للهجرة 63- 273 عنها - سرية سعد بن أبي وقّاص رضي الله ذي القعدة- السّنة الأولى للهجرة عنه إلى (الخرّار) من أرض الحجاز - غزوة ودّان (الأبواء) صفر- السّنة الثّانية للهجرة - غزوة بواط من ناحية (رضوى) ربيع الأوّل- السّنة الثّانية للهجرة - غزوة العشيرة من بطن (ينبع) جمادى الآخرة- السّنة الثّانية للهجرة - غزوة سفوان (بدر الأولى) جمادى الأولى- السّنة الثّانية للهجرة - سرية عبد الله بن جحش رضي الله رجب- السّنة الثّانية للهجرة عنه إلى (نخلة) - صرف القبلة رجب- السّنة الثّانية للهجرة 63- 264 - فرض الصّيام والزّكاة شعبان- السّنة الثّانية للهجرة 63- 267 - سرية عمير بن عدي رضي الله عنه السّنة الثّانية للهجرة لقتل عصماء بنت مروان - غزوة بدر الكبرى 17 رمضان- السّنة الثّانية للهجرة 63- 268 - وفاة رقيّة بنت النّبيّ صلى الله عليه وسلم رمضان- السّنة الثّانية للهجرة - زواج عليّ بن أبي طالب من فاطمة مرجعه من بدر- السّنة الثّانية رضي الله عنهما للهجرة - سريّة سالم بن عمير رضي الله عنه شوّال- السّنة الثّانية للهجرة لقتل أبي عفك

الحدث التاريخ الصفحة - غزوة بني قينقاع شوّال- السّنة الثّانية للهجرة 64- 277 - غزوة السّويق شوّال- السّنة الثانية للهجرة - غزوة بني سليم (غزوة قرقرة الكدر) شوّال- السّنة الثانية للهجرة - سريّة محمّد بن مسلمة رضي الله عنه ربيع الأوّل- السّنة الثّالثة للهجرة 64- 274 لقتل كعب بن الأشرف اليهوديّ - غزوة ذي أمرّ (غزوة غطفان بنجد) ربيع الأوّل- السّنة الثّالثة للهجرة - سريّة زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى ربيع الأوّل- السّنة الثّالثة للهجرة القردة - غزوة الفرع من بحران ربيع الآخر- السّنة الثّالثة للهجرة - سريّة عبد الله بن عتيك رضي الله عنه جمادى الأولى- السّنة الثّالثة للهجرة 64- 274 لقتل سلام بن أبي الحقيق جمادى الآخرة- السّنة الثّالثة للهجرة - زواج أمّ كلثوم رضي الله عنها شعبان- السّنة الثّالثة للهجرة - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حفصة رضي الله عنها رمضان- السّنة الثّالثة للهجرة - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من زينب بنت خزيمة رضي الله عنها 14 شوّال- السّنة الثّالثة للهجرة - غزوة أحد 15 شوّال- السّنة الثّالثة للهجرة 64- 277 - غزوة حمراء الأسد محرّم- السّنة الرّابعة للهجرة 65- 283 - سريّة أبي سلمة رضي الله عنه إلى (قطن) صفر- السّنة الرّابعة للهجرة - سريّة الرّجيع صفر- السّنة الرّابعة للهجرة 65- 286 - سريّة بئر معونة ربيع الأوّل- السّنة الرّابعة للهجرة 65- 288 - غزوة بني النّضير ربيع الأوّل- السّنة الرّابعة للهجرة 66- 290 - تحريم الخمر شعبان- السّنة الرّابعة للهجرة - غزوة بدر الآخرة

الحدث التاريخ الصفحة - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من أمّ سلمة رضي الله شوّال- السّنة الرّابعة للهجرة عنها - غزوة دومة الجندل ربيع الأوّل- السّنة الخامسة للهجرة - غزوة بني المصطلق شعبان- السّنة الخامسة للهجرة 67- 294 - حديث الإفك شعبان- السّنة الخامسة للهجرة 68- 298 - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش ذي القعدة- السّنة الخامسة للهجرة 69- 316 رضي الله عنها - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من جويرية بنت شعبان- السّنة الخامسة للهجرة الحارث رضي الله عنها - غزوة الخندق (الأحزاب) شوّال- السّنة الخامسة للهجرة 68- 307 - غزوة بني قريظة ذي القعدة- السّنة الخامسة للهجرة 69- 313 - سريّة محمّد بن مسلمة رضي الله عنه محرّم- السّنة السّادسة للهجرة إلى (القرطاء) - غزوة بني لحيان ربيع الأوّل- السّنة السّادسة للهجرة - سريّة عكّاشة بن محصن رضي الله ربيع الأوّل- السّنة السّادسة للهجرة عنه إلى (الغمر) - سريّة محمّد بن مسلمة رضي الله عنه ربيع الأوّل- السّنة السّادسة للهجرة إلى (ذي القصّة) - سريّة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله ربيع الآخر- السّنة السّادسة للهجرة عنه إلى (ذي القصّة) - سريّة زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى ربيع الآخر- السّنة السّادسة للهجرة بني سليم ب (الجموم) - سريّة زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى جمادى الأولى- السّنة السّادسة (العيص) للهجرة

الحدث التاريخ الصفحة - سريّة زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى جمادى الآخرة- السّنة السّادسة (الطّرف) للهجرة - سريّة زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى رجب- السّنة السّادسة للهجرة (وادي القرى) - سريّة عليّ بن أبي طالب رضي الله شعبان- السّنة السّادسة للهجرة عنه إلى بني سعد بن بكر ب (فدك) - سريّة عبد الرّحمن بن عوف رضي الله شعبان- السّنة السّادسة للهجرة عنه إلى (دومة الجندل) - سريّة زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى السّنة السّادسة للهجرة (مدين) - سريّة زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى رمضان- السّنة السّادسة للهجرة بني فزارة ب (وادي القرى) - سريّة عبد الله بن رواحة رضي الله شوّال- السّنة السّادسة للهجرة عنه لقتل اليسير بن رزام - سريّة كرز بن جابر الفهريّ رضي الله شوّال- السّنة السّادسة للهجرة عنه إلى (العرنيّين) - أمر الحديبية ذي القعدة- السّنة السّادسة للهجرة 69- 322 - بيعة الرّضوان السّنة السّادسة للهجرة 69- 323 - بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم الرّسل بكتبه إلى الملوك محرّم- السّنة السّابعة للهجرة 70- 331 - سريّة زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى السّنة السّابعة للهجرة (جذام) - غزوة ذي قرد أو (الغابة) صفر- السّنة السّابعة للهجرة - غزوة خيبر صفر- السّنة السّابعة للهجرة 71- 337 - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من صفيّة بنت حييّ جمادى الأولى- السّنة السّابعة 71- 340 للهجرة

الحدث التاريخ الصفحة - زواج النّبيّ من أمّ حبيبة بنت السّنة السّابعة للهجرة أبي سفيان رضي الله عنهما - غزوة ذات الرّقاع (غزوة نجد) جمادى الأولى- السّنة السّابعة 66- 293 للهجرة - سريّة أبي بكر رضي الله عنه إلى بني شعبان- السّنة السّابعة للهجرة كلاب ب (نجد) - سريّة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه شعبان- السّنة السّابعة للهجرة إلى (تربة) - سريّة بشير بن سعد الأنصاريّ رضي شعبان- السّنة السّابعة للهجرة الله عنه إلى (فدك) - سريّة غالب بن عبد الله الليثيّ رضي رمضان- السّنة السّابعة للهجرة الله عنه إلى أرض بني مرّة - سريّة بشير بن سعد الأنصاريّ رضي شوّال- السّنة السّابعة للهجرة الله عنه إلى (يمن وجناب) - عمرة القضاء ذي القعدة- السّنة السّابعة للهجرة 72- 341 - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من ميمونة بنت آخر ذي القعدة- السّنة السّابعة 72- 341 الحارث رضي الله عنها للهجرة - سريّة ابن أبي العوجاء السّلميّ رضي ذي الحجّة- السّنة السّابعة للهجرة الله عنه إلى (بني سليم) - وفاة زينب بنت النّبيّ صلى الله عليه وسلم محرّم- السّنة الثّامنة للهجرة - سريّة خالد بن الوليد رضي الله عنه السّنة الثّامنة للهجرة إلى (قيس) من قريش - سريّة غالب بن عبد الله اللّيثيّ صفر- السّنة الثّامنة للهجرة رضي الله عنه إلى بني الملوّح ب (الكديد)

- سريّة غالب بن عبد الله اللّيثيّ رضي صفر- السّنة الثّامنة للهجرة الله عنه إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد ب (فدك) - سريّة شجاع بن وهب الأسديّ إلى ربيع الأوّل- السّنة الثّامنة للهجرة بني عامر ب (السّيّ) - سريّة كعب بن عمير الغفاريّ رضي ربيع الأوّل- السّنة الثّامنة للهجرة الله عنه إلى (ذات أطلاح) - غزوة مؤتة جمادى الأولى- السّنة الثّامنة للهجرة 72- 343 - سريّة عمرو بن العاصي رضي الله عنه جمادى الآخرة- السّنة الثّامنة إلى (ذات السلاسل) للهجرة - سريّة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه رجب- السّنة الثّامنة للهجرة إلى (سيف البحر) أو (سريّة الخبط) - سريّة أبي قتادة بن ربعيّ رضي الله عنه شعبان- السّنة الثّامنة للهجرة إلى (خضرة) بنجد - سريّة ابن أبي حدرد رضي الله عنه إلى شعبان- السّنة الثّامنة للهجرة (الغابة) - سريّة ابن أبي حدرد رضي الله عنه إلى رمضان- السّنة الثّامنة للهجرة قبل (بطن إضم) الفتح - غزوة فتح مكّة رمضان- السّنة الثّامنة للهجرة 73- 345 - تحريم بيع الخمر والميتة ونكاح المتعة رمضان- السّنة الثّامنة للهجرة - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من مليكة بنت كعب رمضان- السّنة الثّامنة للهجرة - غزوة حنين رمضان- السّنة الثّامنة للهجرة 74- 353 - سريّة أوطاس رمضان- السّنة الثّامنة للهجرة 74- 356 - سريّة الطّفيل بن عمرو الدّوسيّ رضي شوّال- السّنة الثّامنة للهجرة الله عنه إلى (ذي الكفّين)

- غزوة الطّائف شوّال- السّنة الثّامنة للهجرة 74- 358 - عمرة الجعرانة ذي القعدة- السّنة الثّامنة للهجرة 74- 364 - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عمرة بنت يزيد ذي القعدة- السّنة الثّامنة للهجرة الكلابيّة، ولم يدخل بها - ولادة إبراهيم ابن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذي الحجّة- السّنة الثّامنة للهجرة 75- 364 - عام الوفود السّنة التّاسعة للهجرة 75- 365 - بعث العمّال والأمراء على الصّدقات محرّم- السّنة التّاسعة للهجرة - سريّة قطبة بن عامر رضي الله عنه إلى صفر- السّنة التّاسعة للهجرة (خثعم) - سريّة الضّحّاك بن سفيان إلى (بني كلاب) ربيع الأوّل- السّنة التّاسعة للهجرة - سريّة علقمة بن محزّز المدلجيّ ربيع الآخر- السّنة التّاسعة للهجرة رضي الله عنه إلى (ذي قرد) - سريّة عكّاشة بن محصن رضي الله ربيع الآخر- السّنة التّاسعة للهجرة عنه إلى (الجناب) - سريّة عليّ بن أبي طالب رضي الله ربيع الآخر- السّنة التّاسعة للهجرة عنه إلى (الفلس) - وفاة النّجاشيّ رجب- السّنة التّاسعة للهجرة 76- 377 - غزوة تبوك رجب- السّنة التّاسعة للهجرة 76- 371 - وفاة أمّ كلثوم رضي الله عنها شعبان- السّنة التّاسعة للهجرة - نزول آيات تحريم الرّبا السّنة التّاسعة للهجرة - بعث أبي موسى الأشعريّ ومعاذ بن السّنة التّاسعة للهجرة جبل رضي الله عنهما إلى (اليمن) - حجّ أبي بكر رضي الله عنه بالنّاس، ذي الحجّة- السّنة التّاسعة للهجرة 77- 378 وبعث النّبيّ عليّا رضي الله عنه بصدر براءة

الحدث التاريخ الصفحة - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الشّنباء بنت عمرو ربيع الأوّل- السّنة العاشرة للهجرة الغفاريّة - وفاة إبراهيم ابن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ربيع الأوّل- السّنة العاشرة للهجرة 75- 364 - سريّة خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى ربيع الآخر- السّنة العاشرة للهجرة بني الحارث بن كعب ب (نجران) - بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم عمرو بن حزم رضي الله جمادى الأولى- السّنة العاشرة عنه إلى (اليمن) ليفقّههم في الدّين للهجرة - سريّة عليّ بن أبي طالب رضي الله رمضان- السّنة العاشرة للهجرة عنه إلى مذحج ب (اليمن) - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من أسماء بنت النّعمان السّنة العاشرة للهجرة الكنديّة - زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من قتيلة بنت قيس السّنة العاشرة للهجرة - حجّة الوداع ذي الحجّة- السّنة العاشرة للهجرة 77- 380 - سريّة أسامة بن زيد رضي الله عنهما آخر صفر- السّنة الحادية عشرة 78- 382 للهجرة - وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم 2 ربيع الأوّل- السّنة الحادية 78- 388 عشرة للهجرة - أمر سقيفة بني ساعدة ربيع الأوّل- السّنة الحادية عشرة 391 للهجرة - مبايعة أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه ربيع الأوّل- السّنة الحادية عشرة 391 بالخلافة للهجرة

ثبت بأسماء وفود القبائل التي جاءت تبايع بالإسلام

ثبت بأسماء وفود القبائل الّتي جاءت تبايع بالإسلام اسم الوفد وزمن قدومه وفود الجن (10 قبل البعثة) وفد مزينة (رجب- 5 هـ) وفد أشجع (ذي القعدة- 5 هـ) وفد خشين (صفر- 7 هـ) وفد دوس (جمادى الأولى- 7 هـ) وفد بكر بن وائل (جمادى الأولى- 8 هـ) وفد شيبان (جمادى الأولى- 8 هـ) وفد بني عبد بن عدي (شعبان- 8 هـ) وفد أسلم (شعبان- 8 هـ) وفد بني سليم (شعبان- 8 هـ) وفد هوازن (ذي القعدة- 8 هـ) وفد ثعلبة (ذي القعدة- 8 هـ) وفد صداء (ذي القعدة- 8 هـ) وفد ثمالة والحدّان (ذي القعدة- 8 هـ) وفد باهلة (ذي القعدة- 8 هـ) وفد جرم (ذي القعدة- 8 هـ) وفد بني تميم (محرّم- 9 هـ) وفد بني عذرة (محرّم- 9 هـ) وفد بني أسد (محرّم- 9 هـ) وفد بليّ (ربيع الأوّل- 9 هـ) وفد طيّء (9 هـ) وفد بجيلة (9 هـ) وفد خثعم (9 هـ) اسم الوفد وزمن قدومه وفد كنانة (9 هـ) وفد ثقيف (ذي الحجّة- 9 هـ) وفد الدّاريّين (9 هـ) وفد مرّة (9 هـ) وفد فزارة (9 هـ) وفد همدان (9 هـ) وفد سعد بن بكر (9 هـ) وفد عبد القيس الوفادة الأولى (5 هـ) الوفادة الثانية (9 هـ) وفد نجران (9 هـ) وفد بني نهد (9 هـ) وفد بني عامر بن صعصعة (9 هـ) وفد بني حنيفة (9 هـ) وفد أزد عمان (9 هـ) وفد بهراء (9 هـ) وفد بني سعد هذيم (9 هـ) وفد تجيب (9 هـ) وفد كلاب (9 هـ) وفد بني البكّاء (9 هـ) وفد صرد بن عبد الله بن الأزد (9 هـ) وفد جرش (9 هـ) وفد خولان (شعبان- 10 هـ)

اسم الوفد وزمن قدومه وفد غسّان (رمضان- 10- هـ) وفد غامد (رمضان- 10 هـ) وفد سلامان (شوّال- 10- هـ) وفد مراد (10 هـ) وفد بني زبيد (10 هـ) وفد بني عبس (10 هـ) وفد الصّدف (10 هـ) وفد الرّهاويّين من مذحج (ذي الحجّة- 10- هـ) وفد كندة (ذي الحجّة- 10 هـ) وفد حضر موت (ذي الحجّة- 10 هـ) وفد بني محارب (ذي الحجّة- 10 هـ) وفد رؤاس بن كلاب وفد بني المنتفق وفد قشير بن كعب وفد بني كلب اسم الوفد وزمن قدومه وفد هلال بن عامر وفد غافق وفد بارق وفد مهرة وفد جيشان وفد تغلب وفد عنزة وفد جعفيّ وفد عنس وفد بني أجأ وفد بني كلفة وفد بني زهير بن أقيش قدوم بني مالك بن حنبل قدوم بني سليم بن جابر الهجيميّ وفد السّباع!! وفد النّخع (آخر الوفود- 11 هـ)

المخططات والمصورات

المخطّطات والمصوّرات

ثبت بمضمون الكتاب

ثبت بمضمون الكتاب الموضوع الصفحة كلمة لا بدّ منها 5 تمهيد: بقلم العلّامة عبد الله بن محمّد الحبشي 9 مقدّمة التّحقيق 13 نبذة يسيرة عن حياة الإمام بحرق رحمه الله تعالى (مؤلّف الكتاب) 21 ترجمة السّلطان مظفّر بن محمود بايقرا الكجراتي (المهدى إليه هذا الكتاب) 28 عيّنات من المخطوطات المستعان بها في تحقيق هذا الكتاب 31 المقدّمة 45 القسم الأوّل: قسم المبادئ والسّوابق 51 خطبة في التّعريف بمولده الشّريف وقدره العليّ المنيف 53 الباب الأوّل: في سرد مضمون هذا الكتاب 59 الباب الثّاني: في شرف مكّة والمدينة بلدي مولده ونشأته ووفاته وهجرته صلى الله عليه وسلم 81 وشرف قومه ونسبه وماثر آبائه وحسبه فضل مكّة المكرّمة 81 فائدة: في فضل الصّلاة في مكّة على الصّلاة في غيرها 82 فضل المدينة المنوّرة 83 المفاضلة بين مكّة والمدينة 85 النسب الأكبر لنبينا صلى الله عليه وسلم 88 صفة عبد الله بن عبد المطّلب والد رسول الله صلى الله عليه وسلم 90 صفة عبد المطّلب جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم 90 حفر بئر زمزم، ونذر عبد المطّلب بذبح ولده عبد الله 90

أصحاب الفيل وما جرى لهم 91 خبر هاشم 93 خبر عبد مناف 94 خبر قصيّ 94 صفة آبائه صلى الله عليه وسلم 95 الباب الثّالث: في ذكر من بشّر به قبل ظهوره، 96 وما أسفر قبل بزوغ شمس نبوّته من صبح نوره صلى الله عليه وسلم عيسى عليه الصّلاة والسّلام يبشّر به صلى الله عليه وسلم 97 كعب بن لؤي يبشّر به صلى الله عليه وسلم 97 تبّع يبشّر به صلى الله عليه وسلم 97 عبد المطّلب يبشّر به صلى الله عليه وسلم 98 حجب الشّياطين عن استراق السّمع عند قرب مبعثه صلى الله عليه وسلم 98 ارتجاج إيوان كسرى ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم 99 عيصا يبشّر به صلى الله عليه وسلم 100 سيف بن ذي يزن يبشّر به صلى الله عليه وسلم 100 الرّاهب بحيرا يبشّر به صلى الله عليه وسلم 101 ثني بحيرا نفرا من النّصارى عن قتل الرّسول صلى الله عليه وسلم 101 الرّاهب نسطور يبشّر به صلى الله عليه وسلم 101 قسّ بن ساعدة الطياديّ يبشّر به صلى الله عليه وسلم 102 زيد بن عمرو بن نفيل يبشّر به صلى الله عليه وسلم 103 سلمان الفارسيّ يبشّر به صلى الله عليه وسلم 103 ورقة بن نوفل يبشّر به صلى الله عليه وسلم 103

الباب الرّابع: في ذكر مولده الشّريف ورضاعته ونشأته إلى حين أوان بعثته صلى الله عليه وسلم 105 مولده صلى الله عليه وسلم وتاريخه ومكان ولادته 105 صفة مولده صلى الله عليه وسلم 105 الآيات الّتي وقعت ليلة مولده صلى الله عليه وسلم 106 فائدة التّحقيق: في رمي الشّياطين بالشّهب 106 رضاعته صلى الله عليه وسلم 107 رضاعته صلى الله عليه وسلم من حليمة السّعديّة 107 حادثة شقّ صدره صلى الله عليه وسلم 110 خوف حليمة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وردّه إلى أمّه 111 وفاة آمنة 112 أمّ أيمن تحتضن النّبيّ صلى الله عليه وسلم 112 ما يتعلّق بأبويه صلى الله عليه وسلم 113 فائدة عظيمة: في إحياء والدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم له 113 تنبّؤ سيف بن ذي يزن والكهّان بمبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم 115 وفاة جدّه عبد المطّلب وكفالة أبي طالب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم 115 خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الشّام مع عمّه أبي طالب وقصّة الرّاهب بحيرا 115 شهود النّبيّ صلى الله عليه وسلم حرب الفجار 116 شهود النّبيّ صلى الله عليه وسلم حلف الفضول 116 خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الشّام في تجارة لخديجة رضي الله عنها 117 فائدة: في تظليل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالغمام 117 مرور النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالرّاهب نسطور 117 خطبة خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزواجه منها 117

فائدة: في التّفاضل بين خديجة وعائشة رضي الله عنهما 118 بنيان الكعبة ومشاركة النّبيّ صلى الله عليه وسلم 119 ترادف علامات النّبوّة عليه صلى الله عليه وسلم 119 حبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم للخلوة 120 الرّؤيا الصّادقة 120 تسليم الحجر والشّجر عليه صلى الله عليه وسلم 120 الباب الخامس: في إثبات أنّ دينه صلى الله عليه وسلم ناسخ لكلّ دين، وأنّه خاتم النّبيّين، وعموم 123 رسالته إلى النّاس أجمعين، وتفضيله على جميع النّبيّين والمرسلين تفضيل النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الأنبياء والمرسلين 133 فائدة: في الفرق بين المعجزة والكرامة والسّحر 137 الباب السّادس: في ذكر بعض ما اشتهر من معجزاته، وظهر من علامات نبوّته، 139 في حياته صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر 139 ردّ الشمس وحبسها له صلى الله عليه وسلم 140 نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم 141 فائدة: في طلبه صلى الله عليه وسلم فضل ماء 141 إكثار الطّعام 144 تكليم الحجر والشّجر له صلى الله عليه وسلم 147 شهادة الحيوانات له صلى الله عليه وسلم 150 شهادة الضّبّ 150 حديث الذّئب للرّاعي 151 سجود الغنم له صلى الله عليه وسلم 152

خضوع الجمل له صلى الله عليه وسلم 152 قصّة الظّبية 152 ذراع الشّاة المسمومة 153 الأسد يدلّ رسول النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الطّريق 154 إبراء المرضى وذوي العاهات 154 ردّ عين بعد قلعها 154 شفاء عيني عليّ 155 ردّه يدا بعد ما قطعت 155 حياء في الجارية من أثر لقمته صلى الله عليه وسلم 155 إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم 155 دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمدينة 155 دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك 156 البركة في مال عبد الرّحمن بن عوف 156 دعاؤه صلى الله عليه وسلم بالسّقيا 157 دعاؤه صلى الله عليه وسلم لابن عبّاس رضي الله عنهما 157 دعاؤه صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه 157 دعاؤه صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها 157 دعاؤه صلى الله عليه وسلم للنّابغة 157 دعاؤه صلى الله عليه وسلم على كسرى 158 دعاؤه صلى الله عليه وسلم على عتبة بن أبي لهب 158 دعاؤه صلى الله عليه وسلم على محلم بن جثّامة 158 دعاؤه على بشر بن راعي العير 158

كراماته وبركاته فيما لمسه وباشره صلى الله عليه وسلم 158 فرس أبي طلحة رضي الله عنه 158 نشاط جمل جابر رضي الله عنه 159 بئر دار أنس رضي الله عنه 159 بئر رائحته المسك 159 غرس النّخيل لسلمان رضي الله عنه 159 فائدة: في وزن القطعة الّتي أعطاها النّبيّ صلى الله عليه وسلم لسلمان 159 سيف عكّاشة رضي الله عنه 160 ماء يتحوّل إلى لبن وزبدة 160 غرّة عائذ بن عمرو رضي الله عنه 160 بريق وجه قتادة بن ملحان رضي الله عنه 160 ساق عبد الله بن عتيك رضي الله عنه 160 أمر الكدية 161 يوم حنين 161 خالد وشعرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم 161 ما اطّلع عليه صلى الله عليه وسلم من الغيوب وما سيكون 161 جمع الأرض له صلى الله عليه وسلم 163 لا يدخل المدينة من أرادها بسوء 163 ظهور الأمن والفتوح 164 ذهاب دولة الفرس والرّوم 163 فتح الله على الأمّة 164

اختلاف الأمّة من بعده وافتراقهم 164 استحلال الزّنا والرّبا وشرب الخمر 164 الفتن في آخر الزّمان 165 نزول عيسى ابن مريم عليه الصّلاة والسّلام 166 في إعجاز القرآن العظيم 166 إخبار القرآن عن القرون السّالفة 169 إعجاز النّظم والأسلوب 169 الباب السّابع: في بعض سيرته صلى الله عليه وسلم ممّا لاقاه من حين بعثه الله إلى أن هاجر إلى الله تعالى 173 الفترة بين عيسى ومحمّد عليهما الصّلاة والسّلام 173 زمن الرّسالة 173 قصّة بدء الوحي 173 تحقّق خديجة رضي الله عنها من الوحي 174 فترة الوحي وما نزل من القرآن بعد ذلك 176 شكوى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ونزول الضّحى 176 حجب الشّياطين عن استراق السّمع عند مبعثه صلى الله عليه وسلم 177 دعوة النّبيّ صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام سرّا 177 الجهر بالدّعوة 178 موقف المشركين من النّبيّ صلى الله عليه وسلم إثر جهره بالدّعوة 178 أبو طالب بين نصرته للرّسول صلى الله عليه وسلم وتخلّيه عنه 178 اشتداد قريش على الرّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه 180 حشد أبي طالب مؤيديه من بني هاشم 180

قصيدة أبي طالب اللّاميّة 180 فائدة: في تشريف بني المطّلب بتسميتهم أهل البيت 182 دعوة النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّاس بالحكمة والموعظة الحسنة 183 تعذيب المسلمين 183 تعذيب آل ياسر رضي الله عنهم 183 أوّل شهيد في الإسلام 183 تعذيب بلال رضي الله عنه 183 عتقاء أبي بكر رضي الله عنه 184 فائدة: في أنّ الأتقى هو الأفضل عند الله 184 شكوى المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من التّعذيب 184 فائدة: في فضل من ثبت على إيمانه 185 الهجرة الأولى إلى الحبشة 186 الهجرة الثّانية إلى الحبشة 187 وفد قريش إلى الحبشة لاسترداد المهاجرين إليها 187 عودة بعض مهاجري الحبشة 187 قدوم جعفر رضي الله عنه من الحبشة 188 فائدة: في حكم الهجرة 188 إسلام حمزة وعمر بن الخطّاب رضي الله عنهما 189 المقاطعة وحصر قريش لبني هاشم 189 مدّة الحصار وشدّته 190 نقض الصّحيفة 191

انشقاق القمر 192 فائدة: في أنّ معجزة انشقاق القمر لا تعدلها معجزة 192 وفاة أبي طالب 192 حرص النّبيّ صلى الله عليه وسلم على إسلام عمّه 192 تخفيف العذاب عن أبي طالب 192 وفاة خديجة رضي الله عنها 193 اشتداد إيذاء قريش للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب 193 تحقيق حول مولد فاطمة وأخواتها 194 إسلام أبي ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه وقومه 195 خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الطّائف 197 فائدة: في أنّ الاستهزاء والسّبّ أشدّ من الطّعن والضّرب 199 دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة في جوار المطعم بن عديّ 199 عرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل 200 ابتداء أمر الأنصار 201 إسلام النّفر الّذين لقيهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الموسم 202 زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها 203 بيعة العقبة الأولى 203 بعث مصعب رضي الله عنه إلى المدينة وانتشار الإسلام فيها 203 بيعة العقبة الثّانية 204 تحذير إبليس قريشا من البيعة 205 استجلاء قريش الحقيقة 205

تأكّد قريش من صحّة الخبر، وملاحقتها للمبايعين 205 إذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة 205 ثناء النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الأنصار 206 انتظار النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإذن بالهجرة 206 المهاجرون الأوائل 207 خوف قريش من خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم واجتماعهم بدار النّدوة 207 الإذن بالهجرة 208 الإسرار إلى أبي بكر رضي الله عنه بالهجرة 208 خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر إلى الغار 209 تطويق المشركين دار النّبيّ صلى الله عليه وسلم 210 جائزة قريش لمن يردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه 210 وصول المشركين إلى باب الغار 210 لا تحزن إنّ الله معنا 211 مدّة إقامة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الغار 212 خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة 212 وصول النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قباء 213 دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، ودعوة الأنصار له بالنّزول عندهم 213 خبر إسلام سراقة 214 مرور النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بأمّ معبد بعد لحاق سراقة لهم 215 الباب الثامن: في ذكر بعض ما اشتمل عليه حديث الإسراء من العجائب، 216 واحتوى عليه من الأسرار والغرائب زمن الإسراء 216

حديث الإسراء والمعراج 217 فائدة: في بعض دقائق الإسراء 220 فائدة: في اجتماع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالأنبياء 222 رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى 222 ما خصّ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأمّته 223 فائدة: في الحكمة من ركوب البراق 225 عرض الآنية على النّبيّ 225 رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهر الكوثر 226 رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبعض أهل النّار 226 وصيّة إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام لأمّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم 226 ما رآه النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه 227 إخباره بمسراه وموقف قريش في ذلك 227 فائدة: في تعليل مجيء المسجد الأقصى للنّبيّ صلى الله عليه وسلم 228 تصديق أبي بكر رضي الله عنه وسبب تسميته بالصّدّيق 228 الخلاف في رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة الإسراء 229 القسم الثاني: قسم المقاصد واللّواحق 235 خطبة في الحثّ على الجهاد في سبيل الله 237 فصل: في فضل الجهاد 242 فائدة: في فضل من وقف في سبيل الله ساعة 250 فائدة: في جزاء المرابطين في سبيل الله 250 باب: في ما اشتهر من سيرته صلى الله عليه وسلم إلى وفاته 253

زمن وصول النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة 253 اعتماد الهجرة بداية التّاريخ 253 عمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، ومدّة إقامته بمكّة والمدينة 253 سكنى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه 254 تأسيس مسجد قباء 255 أوّل مولود ولد بعد قدوم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة 255 أوّل من مات بالمدينة 255 بناء المسجد النّبويّ 255 تجديد بناء المسجد 256 إخباره صلى الله عليه وسلم عمّارا بقتله على يد الفئة الباغية 257 فضل المسجد النّبويّ 257 مشروعيّة الأذان 258 فائدة: في قول القرطبيّ والغزاليّ في الأذان 259 حمّى المدينة 260 الإذن بالقتال وفرض الجهاد 262 فائدة: في أي وقت يكون الجهاد فرض عين أو فرض كفاية 263 فائدة: في المكّيّ والمدنيّ من سور القرآن العظيم 263 الإخاء بين المهاجرين والأنصار 263 تجهيزه صلى الله عليه وسلم السّرايا والبعوث 264 عدد غزواته صلى الله عليه وسلم 264 صرف القبلة 264

فائدة: في أنّ القبلة أوّل منسوخ في الإسلام 266 النّاسخ والمنسوخ 266 ما فعله اليهود عند صرف القبلة 267 فرض الصّيام 267 فرض صدقة الفطر 268 غزوة بدر الكبرى 268 عدّة من خرج من المسلمين إلى بدر 268 إمداد الله المسلمين بالملائكة وفضلهم 269 فائدة: في المزايا الّتي منحها الله لأهل بدر 269 سبب غزوة بدر 270 استشارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد نجاة العير 270 مبادرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم قريشا إلى الماء وبناء العريش له 271 دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قريش 271 تسوية النّبيّ صلى الله عليه وسلم الصّفوف 272 مناشدة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ربّه النّصر 272 طرح بعض المشركين في القليب، ومخاطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهم 272 عودة النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتهنئته بالنّصر 273 فائدة: في سبب إلحاح النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ربّه بالنّصر في بدر 273 بناؤه صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها 273 سبب قتل كعب بن الأشرف 274 سبب قتل سلّام بن أبي الحقيق 274

تحريض النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قتل كعب بن الأشرف 275 بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك لقتل سلّام بن أبي الحقيق 276 غزوة بني قينقاع 277 غزوة أحد 277 خروج قريش 278 مشاورة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج 278 تهيّؤ النّبيّ صلى الله عليه وسلم للخروج 278 انخذال عبد الله بن أبي بالمنافقين 278 تعبئة النّبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين للقتال 278 انتصار المسلمين ودور الرّماة فيه 279 الابتلاء بعد النّصر 279 إشاعة مقتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وما لقيه من الأذى 279 أوّل من عرف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد إشاعة مقتله 280 أبيّ بن خلف يبحث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليقتله 280 تغشية النّعاس المؤمنين 280 شماتة أبي سفيان بعد المعركة 281 فائدة: فيمن أكرمه الله بالشّهادة يوم أحد 281 دفن الشّهداء 282 ما نزل من القرآن في يوم أحد 282 غزوة حمراء الأسد 283 موقف أنس بن النّضر رضي الله عنه 284

حضور الملائكة ودفاعها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم 284 قتال سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه 285 تأثّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بما لقيه 285 بشارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم جابرا رضي الله عنه 285 الرّجيع وبئر معونة 285 بعث الرّجيع 286 أسر زيد وخبيب 286 مقتل زيد رضي الله عنه 286 مقتل خبيب رضي الله عنه 287 وقعة بئر معونة 288 غدر عامر بن الطّفيل بالمسلمين 288 دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قتلة أصحاب بئر معونة وحزنه عليهم 289 أمر عامر بن فهيرة رضي الله عنه 289 غزوة بني النّضير 290 حصار بني النّضير 290 مال أموال بني النّضير 292 غزوة ذات الرّقاع، أو غزوة نجد 292 خبر غورث بن الحارث 294 غزوة بني المصطلق 294 سببها 294 التقاء الفريقين وهزيمتهم 295 سبب نزول سورة المنافقين 295

مقالة عبد الله بن أبيّ بن سلول 296 زيد بن أرقم رضي الله عنه يخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بما سمع، وتصديق الوحي له 296 صور من مواقف عبد الله بن أبيّ بن سلول 297 موقف ابن عبد الله بن أبيّ بن سلول رضي الله عنه، من أبيه 297 حديث الإفك 298 مرض عائشة رضي الله عنها وإخبار أمّ مسطح لها بالأمر 299 مواساة أمّ رومان لابنتها رضي الله عنهما 299 استشارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بشأن عائشة رضي الله عنها 299 فائدة: في حرص الصّحابة على إراحة خاطره صلى الله عليه وسلم 300 خطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشأن الإفك 300 فائدة في طرق روايات حديث الإفك 303 موقف عائشة من حسّان رضي الله عنهما 303 فائدة: في كفر من يعتقد أنّ عائشة رضي الله عنها لم تكن بريئة 305 فضل عائشة ومنزلتها من العلم 306 غزوة الخندق أو الأحزاب 307 سببها 308 خروج المشركين 308 مشاورة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه 308 مشاركة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه العمل 309 ارتجاز النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه 309 حصار المسلمين 310

ظهور النّفاق 310 نقض بني قريظة العهد 310 دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الأحزاب 311 تأييد الله نبيّه صلى الله عليه وسلم بالرّيح 311 بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان ليتحسّس أخبار المشركين 311 ما ظهر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم من الآيات في حفر الخندق 312 أمر الكدية 312 تكثير طعام أنس رضي الله عنه 312 تكثير طعام جابر بن عبد الله رضي الله عنهما 312 إخباره صلى الله عليه وسلم بانتهاء غزو قريش لهم 313 غزوة بني قريظة 313 أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى بني قريظة 313 النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالخروج 313 شأن أبي لبابة رضي الله عنه 314 نزول بني قريظة على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه 314 توجّه سعد رضي الله عنه إلى بني قريظة 315 حكم سعد رضي الله عنه في بني قريظة 315 تنفيذ الحكم في بني قريظة 315 وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه 316 زواج الرّسول صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش رضي الله عنها 316 تحريم التّبني 318

افتخار زينب رضي الله عنها بتزويج الله لها 318 وليمة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على زينب رضي الله عنها 321 صلح الحديبية 322 إرسال النّبيّ صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفّان لمفاوضة قريش 323 بيعة الرّضوان 323 كيفيّة الصّلح 324 كتابة عليّ رضي الله عنه عقد الصّلح وبنوده 325 موقف عمر بن الخطّاب رضي الله عنه من شروط الصّلح 326 فائدة: في أنّ مقام الصّدّيقيّة فوق مقام أهل الإلهام 327 حزن الصّحابة رضي الله عنهم لصلح القوم 329 إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما 330 كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك 331 بعث دحية رضي الله عنه إلى قيصر ملك الرّوم 332 فائدة: في أنّ حبّ الرّئاسة هو الّذي أضلّ هرقل 336 غزوة خيبر 337 سببها 337 الإغارة على خيبر وبشارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بفتحها 337 افتتاح حصونها 337 شأن عليّ رضي الله عنه 337 علي رضي الله عنه وباب الحصن 338 مصالحة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أهل خيبر 338 قسمة غنائم خيبر 339

قدوم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وفرح النبي صلى الله عليه وسلم به 339 رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم 339 مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على النصف من أموالهم 339 خبر الشاة المسمومة 339 زواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حييّ رضي الله عنها 340 فائدة: في أحد وعير 341 عمرة القضاء 341 زواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها 341 وفد عبد القيس 342 بناء المنبر وحنين الجذع 342 غزوة مؤتة 343 عدّة العدوّ، وتشاور المسلمين 343 ابتداء القتال واستشهاد الأمراء الثّلاثة 343 تولّي خالد بن الوليد رضي الله عنه قيادة الجيش 344 نعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم زيدا وجعفرا وابن رواحة 344 فائدة: في تأويل الجناحين الّذين لقّب بهما جعفر 345 رثاء حسّان بن ثابت جعفرا رضي الله عنهما 345 فتح مكّة 345 سبب الغزوة 346 قدوم أبي سفيان ليجدّد الصّلح 347 تهيّؤ النّبيّ صلى الله عليه وسلم للغزو وكتمانه الأمر 347 أمر حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه 347

خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم لفتح مكّة ولقاؤه العبّاس في الطّريق 348 إسلام أبي سفيان بن الحارث رضي الله عنه 348 اعتذار أبي سفيان بن الحارث عمّا كان منه قبل إسلامه 348 نزول النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ الظّهران، وتحسّس قريش عليه 349 إسلام أبي سفيان على يد العبّاس رضي الله عنهما 349 عرض جيوش الرّسول صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان 349 دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة 350 دخول المسلمين مكّة 350 إهدار النّبيّ صلى الله عليه وسلم دماء نفر من المشركين 351 إجارة أمّ هانئ رضي الله عنها رجلين من قريش 351 طواف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالبيت العتيق وتطهيره المسجد من الأصنام 351 دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة وكسر الأوثان وطمس الصّور 352 إعطاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى أهله 352 خطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة 352 خطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم غداة الفتح 353 غزوة حنين 353 خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة إلى حنين 354 هزيمة المسلمين، وثبات النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه 354 عودة المسلمين واحتدام القتال 355 رمي النّبيّ صلى الله عليه وسلم المشركين بالحصى 355 ما نزل من القرآن في يوم حنين 355

شماتة أهل مكّة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه 356 محاولة شيبة قتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ إسلامه 356 سريّة أوطاس 356 غزوة الطّائف 358 ارتحال المسلمين 358 نزوله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وقسم الغنائم 359 العبّاس بن مرداس يسخط عطاءه، ويعاتب النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه 359 توزيع الغنائم على سائر المسلمين 359 أمر ذي الخويصرة التّميميّ 360 مقالة الأنصار بشأن الغنائم وخطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم 361 فائدة: في سبب حجب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أموال هوازن عن الأنصار 362 قدوم وفد هوازن مسلمين، وردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سباياهم 363 عمرة الجعرانة واستخلاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم عتّابا على الحجّ 364 خبر ولادة إبراهيم ابن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ووفاته 364 عام الوفود 365 وفد بني حنيفة 366 وفد نجران 367 فائدة: في الحجّة على النّصارى في شبهتهم بولادة عيسى عليه الصّلاة والسّلام 368 فائدة: في شهادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتفضيل صحابته بعضهم على بعض 368 وفد أهل اليمن 369 إسلام كعب بن زهير رضي الله عنه 370

غزوة تبوك 371 أمر المعذّرين من الأعراب 373 أمر المنافقين 373 أمر البكّائين 373 مرور النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحجر 373 مصالحة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أهل أيلة وجرباء وأذرح 374 اعتذار المنافقين عن تخلّفهم 374 أمر كعب بن مالك، وهلال بن أميّة، ومرارة بن الرّبيع 374 فائدة: في قبول الله تعالى توبة كعب بن مالك 377 وفاة النّجاشيّ 377 حجّ أبي بكر رضي الله عنه 378 بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليّا رضي الله عنه بصدر براءة 378 حجّة الوداع 380 سريّة أسامة بن زيد رضي الله عنهما 382 مرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم 383 اشتداد مرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم 383 أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يصلّي بالنّاس 384 فائدة: في أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلّي بالنّاس 385 همّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكتب لأصحابه كتابا 385 خطبته صلى الله عليه وسلم في النّاس 385 نعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه إلى فاطمة رضي الله عنها وبشارته لها 386

كثرة نزول الوحي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في السّنة الّتي قبض فيها 386 تأثّر فاطمة رضي الله عنها لما ألمّ بأبيها صلى الله عليه وسلم 386 تخيير النّبيّ صلى الله عليه وسلم عند قبضه 387 خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم وفاته 387 معالجة النّبيّ صلى الله عليه وسلم سكرات الموت 388 فائدة: في حبّ الرّسول صلى الله عليه وسلم لقاء الرّفيق الأعلى 388 عمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم قبض 388 دهشة المسلمين لوفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم 388 موقف أبي بكر رضي الله عنه من وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم 389 زمن وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم 390 دفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم 390 أمر سقيفة بني ساعدة 391 مبايعة أبي بكر رضي الله عنه 391 طلب فاطمة رضي الله عنها ميراثها من النّبيّ صلى الله عليه وسلم 392 زوجاته صلى الله عليه وسلم اللّواتي توفّي عنهنّ 394 تذييل 395 فصل: في وجوب نصب الإمام 397 فصل: في شروط الإمامة 399 الشّروط في عاقدي البيعة للإمام وشرط صحّة البيعة 401 انعقاد الإمامة للإمام الّذي تمّ السّبق لأهل الحلّ والرّبط في عقدها له 401 جواز خلع الإمام وعزله 401

عدم الجواز لأهل الحلّ والعقد تقليد الإمامة لمن فقد بعض شروطها بوجود 402 الكامل المستوفي جميع شروطها فصل: في الإمام الحقّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم 403 أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتقديم أبي بكر للصّلاة في مرضه وبحضور عليّ 403 تفنيد آراء الشّيعة في استخلاف الرّسول صلى الله عليه وسلم عليا 404 مبايعة عليّ أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم 405 فصل: في فضل الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم أجمعين 407 الأئمّة من قريش 407 وفاة أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه 408 عهد الصّدّيق بالخلافة إلى عمر رضي الله عنهما 409 انتخاب عثمان رضي الله عنه وخلافته 409 مقتل عثمان رضي الله عنه 409 مبايعة عليّ رضي الله عنه بالخلافة ومقتله بالكوفة 409 فصل: في ذكر شيء من فضائل الصّحابة رضي الله عنهم أجمعين 410 فصل: في أدلّة فضل الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم 412 فضائل الصّدّيق رضي الله عنه 412 فضائل عمر رضي الله عنه 414 فضائل عثمان رضي الله عنه 415 فضائل عليّ رضي الله عنه 415 مناقب الصّديق رضي الله عنه فضائل عليّ رضي الله عنه 415 مناقب عمر رضي الله عنه 415 مناقب عثمان رضي الله عنه 416 مناقب عليّ رضي الله عنه 416 فائدة: في أدلّة فضل الصّحابة رضي الله عنهم أجمعين 417

الخاتمة 423 الباب الأوّل: في أحواله النّفسيّة، وفيه ست فصول 425 فصل: في حسن خلقته صلى الله عليه وسلم 427 فائدة: في أشبه النّاس صورة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم 427 فصل: في حسن خلقه صلى الله عليه وسلم 429 فصل: في وفور عقله صلى الله عليه وسلم 430 وصف ما امتاز به النّبيّ صلى الله عليه وسلم في خلقه وخلقه 430 فصل: في حسن عشرته صلى الله عليه وسلم 432 فصل: في سماحته وجوده صلى الله عليه وسلم 434 فصل: في شجاعته صلى الله عليه وسلم 436 فصل: في زهده صلى الله عليه وسلم 437 وصف زهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم 438 الباب الثّاني: في أقواله القدسيّة، وفيه عشرة فصول 439 فصل: في سوابق الصّلاة 441 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا أمسى وإذا أصبح 441 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوبا جديدا 442 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته 442 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء أو خرج منه 443 دعاؤه صلى الله عليه وسلم في الوضوء 443 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الصّلاة 444 دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد 445 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا سمع الأذان 445 فصل: في الصّلاة 447 أذكاره صلى الله عليه وسلم في افتتاح الصّلاة 447

أذكاره صلى الله عليه وسلم في القيام 449 أذكاره صلى الله عليه وسلم في الرّكوع 451 أذكاره صلى الله عليه وسلم في اعتداله من الرّكوع 451 أذكاره صلى الله عليه وسلم في السّجود 452 أذكاره صلى الله عليه وسلم في جلوسه بين السّجدتين 453 فائدة: فيما يتلى من القرآن في الصّلاة 454 أذكاره صلى الله عليه وسلم في التّشهّد 454 فائدة: في قول: السّلام عليك أيّها النّبيّ 455 أذكاره صلى الله عليه وسلم بعد التّشهّد 455 فصل: في لواحق الصّلاة 457 دعاؤه صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الصّلاة 457 دعاؤه صلى الله عليه وسلم في الصّباح والمساء 459 دعاؤه صلى الله عليه وسلم في أوقات متفرّقة 461 أذكاره صلى الله عليه وسلم في التّلاوة 463 أدعية مأثورة عنه صلى الله عليه وسلم 465 دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند النّوم 468 فصل: في المرض وتوابعه 469 فضيلة الصبر على البلاء 469 عيادة المرضى 471 ما يقوله المريض والعائد والمحتضر 472 فضل الصّلاة على الميّت وحضور دفنه 473 ما يقوله زائر القبور 475 فصل: في الصّيام 476

نهيه صلى الله عليه وسلم عن الرّفث 476 ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر 476 دعاء الصّائم 477 ما كان يدعو به صلى الله عليه وسلم لمن أفطر عنده 477 دعاؤه صلى الله عليه وسلم ليلة القدر 477 فصل: في السّفر 478 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا سافر 479 ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا ودّع مسافرا 479 ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا ركب راحلته 480 دعاء ركوب السّفينة 480 الدّعاء إذا ضلّت الدّابّة 481 كراهة اصطحاب الكلب والجرس في السّفر 481 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا رأى قرية يريد دخولها 481 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا 481 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا رجع من السّفر 482 فصل: في الحجّ 483 فضل النّفقة في الحجّ 483 ما لا يباح للمحرم بحج وعمرة 484 فضل التّلبية 484 فضل يوم عرفات 484 فضل الطّواف بالبيت 484

فضل استلام الحجر الأسود 485 نزول الرّحمة على حجّاج البيت 485 غفران ذنوب الحاج 485 رمي الجمار 486 ماء زمزم 486 مواقيت الحجّ والعمرة المكانيّة 487 اغتساله صلى الله عليه وسلم للإحرام ولدخول مكّة 487 دخوله صلى الله عليه وسلم مكّة 487 دعاؤه صلى الله عليه وسلم حين رأى البيت 487 دخوله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة 487 طوافه صلى الله عليه وسلم بالبيت 487 استلامه صلى الله عليه وسلم الرّكن الأسود وتقبيله 488 دعاؤه صلى الله عليه وسلم بين الرّكنين اليمانيين 488 اضطباعه ورمله صلى الله عليه وسلم في الطّواف 488 صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتي الطّواف واستلامه الحجر ثانية 489 سعيه صلى الله عليه وسلم بين الصّفا والمروة 489 جمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم الصّلوات وقصرها 489 دعاؤه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة 490 مبيته صلى الله عليه وسلم بمزدلفة 491 دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمحلّقين 491

إفتاؤه صلى الله عليه وسلم الناس بمنى 491 مبيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمنى 491 نهيه صلى الله عليه وسلم عن صيام أيّام التّشريق 492 أمره صلى الله عليه وسلم بطواف الوداع 492 دعاؤه صلى الله عليه وسلم للحاجّ 493 فضل زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم 493 الرّوضة الشّريفة 493 فائد: في المسافة بين قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم ومنبره 494 ردّه صلى الله عليه وسلم السّلام على من سلّم عليه 494 فضل: في الجهاد 495 كتمانه صلى الله عليه وسلم جهة مسيره 495 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا همّ بدخول أرض العدوّ 495 دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند لقاء العدوّ 496 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا خاف قوما 496 كراهيته صلى الله عليه وسلم تمنّي لقاء العدوّ 496 دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند النّظر إلى عدوّه 496 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا نزل به كرب أو شدّة 497 دعاؤه صلى الله عليه وسلم إذا رجع من السّفر 497 فصل: في المعاش 498 فضيلة الخلّ والتأدّم به 499

ما يفعل الضّيف إذا تبعه غير من دعاه صاحب الطّعام 499 من آداب الطّعام 500 الاجتماع على الطّعام 500 ما يقال إذا فرغ من الطّعام 500 ما جاء في اللّبن 501 استحباب التّنفّس ثلاثا خارج الإناء 501 استحباب إكرام الضّيف 501 استحباب ذكر الله بعد الطّعام 501 فصل: في المعاشرة 502 إفشاء السّلام 502 فضيلة المبتدئ بالسّلام 503 ما جاء في السّلام على الصّبيان والنّساء 503 استحباب أن يسلّم الرّاكب على الماشي، والصّغير على الكبير 503 استحباب السّلام عند دخول المجلس وعند الخروج منه 503 استحباب الاستئذان ثلاثا 504 تحريم النّظر في بيت غيره 504 استحباب المصافحة 504 ما جاء في العطاس والتّثاؤب 505 خطبة النّكاح 506 الدّعاء للمتزوّج 506 ما يستحبّ أن يقوله عند الجماع 507

لا نكاح إلّا بوليّ 507 الرّخصة في اللّعب الّذي لا حرمة فيه 507 حسن معاشرة الأهل من كمال الإيمان 507 ما جاء في أحكام المولود 508 فصل الختام: في كفارة المجلس 511 ملاحق الكتاب 513 ثبت تاريخيّ متسلسل لأحداث السّيرة النّبويّة وأهمّ التشريعات ونحو ذلك 515 ثبت بأسماء وفود القبائل التي جاءت تبايع بالإسلام 525 المخطّطات والمصورات 527 ثبت بمضمون الكتاب 561

§1/1