جهد المحتفي في أمر العالم المختفي

مرزوق بن هياس الزهراني

جهد المحتفي في أمر العالم المختفي 1425 هـ ـ 2005 م جهد المحتفي في أمر العالم المختفي تأليف مرزوق بن هيّاس آل مرزوق الزهراني الأستاذ المشارك في قسم علوم الحديث بكلية الحديث والدراسات الإسلامية بالمدينة النبوية طبع على نفقة فاعل خير نسال الله لنا وله القبول وجزيل الثواب.

جهد المحتفي في أمر العالم المختفي 1425 هـ ـ 2005 م جهد المحتفي في أمر العالم المختفي تأليف مرزوق بن هيّاس آل مرزوق الزهراني الأستاذ المشارك في قسم علوم الحديث بكلية الحديث والدراسات الإسلامية بالمدينة النبوية

بسم الله الرحمن الرحيم

جهد المحتفي في أمر العالم المختفي 1425 هـ ـ 2005 م جهد المحتفي في أمر العالم المختفي تأليف مرزوق بن هيّاس آل مرزوق الزهراني الأستاذ المشارك في قسم علوم الحديث بكلية الحديث والدراسات الإسلامية بالمدينة النبوية

ح: مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني، 1425 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر. الزهراني، مرزوق بن هياس آل مرزوق. جهد المحتفي في أمر العالم المختفي/ مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني، المدينة المنورة، 1425 هـ ص؛ .. سم. ـ (رسائل دعوة وتوجيه؛ 6) ردمك: 8 ـ 896 ـ 46 ـ 9960 1 ـ الشياطين والجان أ. العنوان ب. السلسلة ديوي 243 ... 6560/ 1425 رقم الإيداع: 6560/ 1425 ردمك: 8 ـ 896 ـ 46 ـ 9960 ــــــــ حقوق الطبع محفوظة. الطبعة الأولى: ص: 65 - 21×14، 1425 هـ 2005 م الناشر: المؤلف ... جوال: 0505306304 مطابع أضواء المنتدى الإسلامي ـ الرياض

الإهداء

الإهداء إلى إخواني المسلمين أجمعين الذين جعلوا كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مستمسكا لعبادتهم ونهجهم القويم في شؤون الدنيا والآخرة، أقدم هذا الجهد احتفاء بكل مسلم ومسلمة، رجاء أن يزدادوا وثوقا بكتاب ربهم وسنة نبيهم، ليصفو اعتقادهم، وتقوى عزائمهم في توحيد الله - عز وجل - وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، وإفراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالطاعة والإتباع، والتمسك بما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وغلق كل ثغرة يفتحها عليهم شياطين الإنس والجن، فإنه يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، وعدم الاغترار بالدنيا وشهواتها فما هي إلا متاع الغرور، وعليهم الأخذ بالأحوط وعدم التفريط فيما أمروا به، كيما تزكو نفوسهم ويكونوا من عباد الله المخلصين {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬1)، ¬

(¬1) (من الآية (40) من سورة الحج.

منهج البحث

منهج البحث قبل تحديد خطوات البحث تجدر الإشارة إلى أنني سأقتصر في المنهج على ما يلي: في توثيق المعلومات على الكتاب والسنة: فكتاب الله العزيز أعذب الموارد، وهو الصافي الذي لا يشوبه كدر، كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (¬1)، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) (¬2)، والسنة النبوية الغراء، ممثلة فيما هو في الصحيحين: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، أو أحدهما، وأزيد ما دعت إليه الحاجة، ¬

(¬1) (الآيتان (1، 2) من سورة الجن. (¬2) (مقتبس، انظر (الترمذي 3070) وفي إسناده كلام، ومعناه صحيح.

خطة البحث

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا إنِّي أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن؛ فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحلوه وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرموه ... ) (¬1)، وما كان في غيرهما من أمر يلزم تدوينه لأهميته في البحث، وتوثيق المعلومات، فلا أغفله وبمصدره أوصله. خطة البحث ارتأيت أن يكون البحث في مقدمة، وعشرة مباحث هي: المبحث الأول: تعريف الجن: المبحث الثاني: أصل خلقهم. المبحث الثالث: صورهم وتشكلهم. المبحث الرابع: مشابهتهم المبحث الخامس: حياتهم ومعاشهم. المبحث السادس: أقسامهم. المبحث السابع: منافعهم وحرفهم. المبحث الثامن: مضارهم. المبحث التاسع: التعامل معهم. المبحث العاشر: تسلطهم على بني آدم؟ . ¬

(¬1) (أخرجه أبو داود حديث (4604).

المقدمة

المقدمة في ليلة الاثنين 19/ 5/ 1423 هـ كنت في زيارة لأحد الأصدقاء، وشاهدت مقابلة في قناة الجزيرة، مع الدكتور/ جمال أبو غسان، عضو هيئة التدريس بجامعة الزرقاء الأهلية، وقد أعلن عبرها إنكاره لتلبس الجان بالإنسان، وقال: لا يوجد دليل من كتاب ولا سنة يؤيد تلبس الجان للإنسان، ورد ذلك إلى أوهام وخرافات، وزعم أن ابن تيمية لبّس عليه بعض الصالحين أشياء، صدقها ونشرها في كتبه، وعنه نقل ابن باز، وتأول الآية {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (¬1)، بالوسوسة، ومعلوم أن الأمثال في لغة العرب تعبر عن شيء واقع ومحسوس، فهي وسيلة إيضاح لتقوية الذهن على استيعاب الخبر وإدراكه، ومعنى يتخبطه: يتملكه ويصرعه، والوسوسة لا تحدث صرعا، والوسوسة يجدها الإنسان في تفكيره وفيما تحدثه به نفسه، ولا يسمعها بخطاب خارج عن ذاته، ولو فهم العلماء غير هذا لوقع خلط وخلل كبير في كثير من النصوص، والأمر الذي استغربته جدا قول د/ جمال: "يجب أن ¬

(¬1) (الآية (275) من سورة البقرة.

نفهم السنة على ضوء القرآن، ولا عكس" وهذا كلام خطير أيضا، أما علم الدكتور أن السنة الصحيحة قاضية على الكتاب، ومفسرة لنصوصه؟ ! ، وأنها مصدر للتشريع ينفصل عن الكتاب بالحكم الزائد، كما في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، الوارد في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها) (¬1)، وتحديد الصلوات الخمس، من حيث التسمية والعدد، ووقت الأداء، ففي تحديد الوقت روى أبو موسى - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، "أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئا، قال: فأقام الفجر حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا، ثم أمره فأقام بالظهر، حين زالت الشمس، والقائل يقول: قد انتصف النهار، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو كادت، ثم أخر الظهر حتى كان قريبا من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها، والقائل يقول قد احمرت الشمس، ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثم أصبح ¬

(¬1) (أخرجه البخاري حديث (4820) ..

فدعا السائل فقال: الوقت بين هذين" (¬1)، وكذلك قصر الرباعية، قال: أنس - رضي الله عنه -: "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظهر أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين" (¬2)، وكذلك صلاة الخوف طبقت عمليا بالسنة قال: جابر - رضي الله عنه -: "غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوما من جهينة، فقاتلونا قتالا شديدا، فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فذكر ذلك لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وقالوا: إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد، فلما حضرت العصر، قال: صفّنا صفّين، والمشركون بيننا وبين القبلة، قال فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبرنا، وركع فركعنا، ثم سجد وسجد معه الصف الأول، فلما قاموا سجد الصف الثاني، ثم تأخر الصف الأول، وتقدم الصف الثاني، فقاموا مقام الأول، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبرنا، وركع فركعنا، ثم سجد وسجد معه الصف الأول، وقام الثاني، فلما سجد الصف الثاني، ثم جلسوا جميعا، سلم عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬3) ومن أين عرفنا السنن الراتبة إلا من السنة، والسنن الراتبة هي: ركعتين قبل صلاة الفجر، لقول عائشة رضي الله عنها: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم -، على شيء من النوافل، أشد منه تعاهدا على ركعتي ¬

(¬1) (أخرجه مسلم حديث (614). (¬2) (أخرجه البخاري حديث (1443) .. (¬3) (أخرجه مسلم حديث (840).

الفجر" (¬1)، وقولها: "كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا. ثم يخرج فيصلي بالناس. ثم يدخل فيصلي ركعتين. وكان يصلي بالناس المغرب. ثم يدخل فيصلي ركعتين. ويصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين" (¬2) وما ورد في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الظهر سجدتين، وبعدها سجدتين، وبعد المغرب سجدتين، وبعد العشاء سجدتين، وبعد الجمعة سجدتين، فأما المغرب والعشاء والجمعة، فصليت مع النبي في بيته" (¬3)، وقد عبر بالسجدتين وهو يعني ركعتين، فيكون المجموع (12) ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة، وهو ما ورد في حديث أم حبيبة أنها تقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بني له بهن بيت في الجنة) قالت أم حبيبة: "فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال ابن عنبسة: "فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة. وقال عمرو بن أوس: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة". ¬

(¬1) أخرجه البخاري حديث (1116). (¬2) أخرجه مسلم حديث (730). (¬3) أخرجه مسلم حديث (729) ..

وقال النعمان بن سالم: "ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس" (¬1)، وكذلك صفة الوضوء إلا من حديث عثمان وغيره وكذلك تحريم بعض المطعومات كالحمر الأهلية، وكذلك تحريم المتعة، كما في حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المتعة عام خيبر، وعن لحوم الحُمُر الإنسية" (¬2)، وغير ذلك كثير، ولا أشك في أنها معلومة للدكتور جمال، وظنّي أن قوله ذلك هفوة لسان، وفقنا الله وإياه للصواب. نعم قد يكون بعض ما يقع من الناس أوهام وترهات، ولكن ليس ذلك مبررا لنفي التلبس، وما يقع من أذى الجان لبني الإنسان، ولا ننكر ما يقع من أذى من بني الإنسان للجان، سيما من لا يذكر الله - عز وجل - قبل أي عمل، ولذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإنذار العوامر: الحيات والثعابين والعقارب التي تسكن البيوت، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن بالمدينة نفرا من الجن قد أسلموا، فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا، فإن بدا له بعد فليقتله، فإنه شيطان) (¬3)، فلم نتهم علماءنا بالغباء؟ ، وهم من أذكى الأذكياء، كابن تيمية وابن باز وغيرهما من الأئمة الكبار، ونقول: إن ابن تيمية لبّس عليه بعض الصالحين ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (728). (¬2) أخرجه البخاري حديث (5203). (¬3) أخرجه مسلم حديث (2236).

أشياء، صدّقها ونشرها في كتبه، وعنه نقل ابن باز، فيكون ابن تيمية ساذجا لا يفكر فيما يقال له، فيتلقى دون وعي، ويدرج ما سمع في مصنفاته دون تمحيص، وهو الإمام الذي لم نعلم من عصره إلى يومنا هذا من تجاوزه في العلم والذكاء وكثرة التدقيق والتحقيق، ولم يسلم ابن باز من التهمة بما اتّهم به ابن تيمية، فقد علمنا شيخنا الإمام عبد العزيز بصيرا ناقدا متحريا، ملتزما بالسنة رحم الله الجميع رحمة واسعة. ولما ذكرت خطر لي أن أكتب في هذا الأمر ما تيسر ليكون بيانا لما هو الحق إن شاء الله تعالى، كيما ينتفع به من طالعه، وتأنّى وتدبّر، سيما وقد كثر الدجّالون، وقلّ المخلصون، واختلط على الناس الحابل بالنابل، فتعلق الكثيرون بغير الله - عز وجل -، خوفا من الجان وشرورهم، فانفتح بذلك باب واسع للاحتيال والكسب المحرّم، ومارس الكثيرون الشعوذة باسم الرقية والتعويذة، وقد حال ضعف الهمة وكثرة المشاغل دون تحقيق ما رمت عمله، وكنت أدوّن على مهل ما تيسر لي، إلى أن تمّ لي بعض ما أردت، ليكون موعظة وذكرى، ونحن دائما نحتاج إلى الموعظة والتذكير بما ينفعنا في الدنيا والآخرة، أسأل الله أن يجعله عملا صالحا متقبلا، يثقّل به الموازين يوم القدوم عليه، بفضله ورحمته وهو أرحم الراحمين.

المبحث الأول: تعريف الجن

المبحث الأول: تعريف الجن: هم من خلق الله - عز وجل - الذين كلّفوا بعبادته سبحانه، شأنهم في ذلك شأن الإنس، خلقوا للابتلاء فهم داخلون في الخطاب بقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬1)، وهم أجسام عاقلة خفية، يرون الإنس ولا يراهم الإنس إلا بتمثل منهم، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (¬2)، وهم مجزيّون على أعمالهم، فقد خلقوا لعبادة الله - عز وجل -، قال تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} (¬3)، وقد أرسل الله إليهم رسلا قال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ¬

(¬1) (من الآية (2) من سورة الملك. (¬2) (الآية (27) من سورة الأعراف. (¬3) (الآية (56) من سورة الرحمن.

يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} (¬1)، وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (¬2)، وهم مخاطبون بنبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - شأنهم شأن الإنس، قال الله سبحانه تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (¬3)، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن بالمدينة نفرا من الجن قد أسلموا، فمن رأى شيئا من هذه العوامر ¬

(¬1) (الآية (130) من سورة الأنعام. (¬2) (الآية (29) من سورة الأحقاف. (¬3) (الآية (1، 2) من سورة الجن.

فليؤذنه ثلاثا، فإن بدا له بعد فليقتله، فإنه شيطان) (¬1)، تلا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (¬2)، قال: "نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون" (¬3)، فمن الجن مسلمون مؤمنون يعبدون الله - عز وجل -، على ملة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. والجن فيهم رحمة لبعضهم البعض، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس، والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون) (¬4)، ومنهم قرناء لبني آدم، وليسوا مسلمين، إلا قرين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ ! ، قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير) (¬5)، وليس لهم سلطان على عباد الله الصالحين، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (2236) .. (¬2) الآية (57) من سورة الإسراء. (¬3) أخرجه مسلم حديث (3030). (¬4) أخرجه مسلم حديث (2752). (¬5) أخرجه مسلم حديث (2814).

المبحث الثاني: أصل خلقهم

عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (¬1)، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬2)، وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (¬3)، فلا سبيل إلى السلامة من سلطان الشيطان على الإنسان إلا بالإيمان بالله - عز وجل - واتباع شرعه، والتوكل عليه تعالى في كل الأمور، وقد تكفل رب العزة والجلال لهؤلاء بالحفظ والسلامة. المبحث الثاني: أصل خلقهم: أبان القرآن الكريم أن أصل خلق الجن، من مارج من نار قال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} (¬4)، وقال تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ ¬

(¬1) الآية (42) من سورة الحجر. (¬2) الآية (99) من سورة النحل. (¬3) الآية (65) من سورة الإسراء. (¬4) الآية (27) من سورة الحجر.

مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} (¬1)، وقد ورد ذلك في محاجّة إبليس لرب العزة والجلال، وتكبره عن السجود لآدم عصيانا منه لربه تعالى، واحتقارا لآدم - عليه السلام - وذريته، {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (¬2)، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجان من مارج من نار، وخُلق آدم مما وصف لكم) (¬3)، وقد كان مع الملائكة وليس منهم فإنهم؛ لأن الملائكة {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬4)، وهو من الجن ففسق ولم يطع قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ ¬

(¬1) الآية (15) من سورة الرحمن. (¬2) الآية (12) من سورة الأعراف، والآية (76) من سورة ص. (¬3) أخرجه مسلم حديث (2996). (¬4) الآية (6) من سورة التحريم.

لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (¬1)، فبذلك الفسوق استحق غضب الله ولعنته إلى يوم الدين، قال الله سبحانه وتعالى: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)} (¬2)، فطلب من الرب سبحانه الإمهال إلى يوم البعث، واستحكمت عداوته لآدم وذريته، وتوعد بإضلالهم عن طريق الهدى أجمعين، باستثناء القليل وهم عباد الله المخلصون، وقد ذكر الله هذا في كتابه العزيز فقال: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا ¬

(¬1) الآية (50) من سورة الكهف. (¬2) الآيات (32 ــــــــ 35) من سورة الحجر ..

المبحث الثالث: صورهم وتشكلهم

أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (¬1). المبحث الثالث: صورهم وتشكلهم: خلق الله الجن على هيئة أقدرهم فيها على التلون والتشكل، يظهرون في أي صورة شاؤوا في أشكال الحيات مثلا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن بالمدينة نفرا من الجن قد أسلموا، فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا، فإن بدا له بعد فليقتله، فإنه شيطان) (¬2)، والعوامر هي الحيات والثعابين مما يسكن البيوت وغيرها، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (فبينا أنا أطارد حية لأقتلها، فناداني أبو لبابة: لا تقتلها، فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بقتل الحيات. قال: إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت، وهي العوامر) (¬3). ومما يدل على تشكل الجان حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال رسول الله: (إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود، قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب ¬

(¬1) (الآيات (36 ــــ 40) من سورة الحجر. (¬2) (أخرجه مسلم حديث (2236). (¬3) (أخرجه البخاري حديث (3123).

المبحث الرابع: مشابهتهم

الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان) (¬1). ويتكونون في صور بني آدم، الذكور والإناث على حدّ سواء قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل. فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب. فيتفرقون. فيقول الرجل منهم: سمعت رجلا أعرف وجهه، ولا أدري ما اسمه، يحدث) (¬2). وكذلك المرأة الفاجرة التي تعرض مفاتنها للناس يستغلها الشيطان لزيادة الفتنة والإيقاع فيها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله. فإن ذلك يرد ما في نفسه) (¬3)، ومعنى هذا أن الشيطان يكون في صورة المرأة، حينما تخرج عن الآداب الشرعية، فتكون في صورة شيطان ليغري بها الفساق الناهجين نهجها سييئا. المبحث الرابع: مشابهتهم: ذكرنا أن الجن خلقهم الله قادرين على التشكل، والتشبه بغيرهم، وهم يشبهون الملائكة من حيث القدرة على ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (1510). (¬2) أخرجه مسلم المقدمة حديث (7). (¬3) أخرجه مسلم حديث (1403).

التشكل في غير الصورة الحقيقية، ويفارقهم الملائكة بأنهم لا يتشبهون بالدواب والهوام، فلا يتشبهون إلا بالصورة الحسنة، ولا يصدر منهم الأذى لغيرهم، على خلاف حال الجن، وقد جاء جبريل - عليه السلام - كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب، قال: " بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت ـ قال: فعجبنا له، يسأله ويصدقه ـ قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال ثم انطلق، فلبثت مليا ثم قال لي: يا عمر، أتدري من السائل؟ ، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه

جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" (¬1)، وقد جاء - عليه السلام - في صورة حسنة، وقد يأتي الملك في صورة مرتين في صفتين مختلفتين: كما في قصة النفر الثلاثة وذلك "إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل ـ أو قال البقر: هو شك في ذلك: أن الأبرص والأقرع: قال أحدهما: الإبل، وقال الأخر: البقر ـ فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها، وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب، وأعطي شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملا، وقال يبارك لك فيها. وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدا، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، تقطّعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (8) ..

بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرا أتبلغ عليه في سفري. فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا صيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فو الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك" (¬1)، فقد جاء الملك الثلاثة في صورة حسنة، تخالف حال كل منهم، وجاء كلا منهم في المرة الثانية على الحال التي كان عليها كل واحد منهم، وقد يأتي الملك في صورة طائر، كما في قصة شق بطن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال - صلى الله عليه وسلم -: (فأقبل طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال الآخر: نعم، فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني للقفا، فشقا بطني) (¬2)، وقد ظهر جبريل - عليه السلام - مرتين في صورته الحقيقية، ورآه نبينا ¬

(¬1) أخرجه البخاري حديث (3464). (¬2) أخرجه الدارمي، حديث (13).

المبحث الخامس: حياتهم ومعاشهم

محمد - صلى الله عليه وسلم - عليها: مرة عند سدرة المنتهى، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (¬1)، ومرة ثانية وهو في غار حراء كما في قول عائشة رضي الله عنها: "ذاك جبريل، كان يأتيه في صورة الرجل، وإن أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسدّ الأفق" (¬2)، والملائكة خلقهم الله - عز وجل - من نور، والجان من مارج من نار، وابن آدم من طين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) (¬3)، فسبحان العليم الحكيم، يصنع ما يشاء ويفعل ما يريد. المبحث الخامس: حياتهم ومعاشهم: معلوم أن كل المخلوقات تحتاج إلى ما تقوم به حياتها من غذاء وتزاوج وغير ذلك، وقد جعل الله - عز وجل - من ذلك لكل مخلوق ما يناسبه، فالإنس والجن مكلفون ومقومات الحياة تتشابه بينهم إلى حد كبير، فالجن كالإنس مكلفون بفرائض الإسلام، وهم يعيشون على ظهر الأرض، وليسوا في باطنها كما يعتقد العوام، ويتزاوجون، كالإنس في الحاجة إلى مقومات الحياة فهم يأكلون، قال ¬

(¬1) (الآية (13) من سورة النجم. (¬2) (أخرجه البخاري (3063). (¬3) (أخرجه مسلم حديث (2996).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن) (¬1)، وهم يشربون وغير المسلم منهم يتناول ذلك بشماله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) (¬2)، واسمع هذه القصة عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: "كنا إذا حضرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - طعاما لم نضع أيدينا، حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع يده، وإنا حضرنا معه، مرة، طعاما، فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع، فأخذ بيده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده، إن يده في يدي مع يدها) (¬3)، وكذلك قول جابر بن محشي - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً ورجلٌ يأكل، فلم يُسَمِّ حتى لم يبق من طعامه إلا لقمةٌ، فلما رفعها إلى فيه قال: بسم الله أوله وآخره، فضحك النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: (ما زال الشيطان يأكل معه، فلما ذكر اسم الله - عز وجل - استقاء ما في بطنه) (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (150). (¬2) أخرجه مسلم حديث (2019). (¬3) أخرجه مسلم حديث (2017) .. (¬4) أخرجه أبو داود حديث (3768).

هذه من معجزات رسول الله إذ أعلمه الله ذلك الحدث، فالتسمية واجبة، ومن تركها عامدا فقد عصى الله ورسوله. والجن يطبخون على نار، ولهم آنية وآثار كغيرهم من الإنس، وفيهم علماء، ومنهم جهال، وهم عموما لا يعلمون الغيب قال الله سبحانه وتعالى في قصة موت سليمان - عليه السلام -: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (¬1)، ويعتريهم ما يعتري الإنس من الخوف والمرض والهرم والموت، إلا إبليس {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬2)، فقد أنظره الله - عز وجل - إلى يوم الوقت المعلوم وبناء على هذا التقارب بين الإنس والجن الخيّرين من الطرفين، فإن للجن المسلمين على الإنس حقوقا منها: اعتبارهم إخوانا لهم كما نطق بذلك رسول الله (فإنه زاد إخوانكم من الجن) (¬3)، والمراد أخوة الإيمان بالله تعالى، وهذا يستلزم عدم إيذائهم بأي شكل من الأذى، وكيف يتم لنا ذلك ونحن لا نراهم؟ ، يتم ¬

(¬1) الآية (14) من سورة سبأ. (¬2) الآية (36) من سورة الحجر. (¬3) أخرجه مسلم حديث (150)

لنا ذلك بالحرص على التسمية في كل شأن من شؤوننا، فإنها حرز للجن المسلمين من أذى إخوانهم من الإنس، فإذا قال ذلك الإنسان تنحى عنه الجنى وابتعد عن الأذى، وهي أيضا حرز للإنسان المسلم من أذى فسقة الجن ومردة الشياطين، الذين لا يستجيبون لداعي التسمية، قال علقمة رحمه الله: "أنا سألت ابن مسعود. فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ ، قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة. ففقدناه. فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل، قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم) (¬1) ففي التسمية منافع عظيمة للإنس والجن على حد سواء، ولا يعني هذا أنهم لا يطعمون إلا هذا، فقد ثبت في قصة أبي هريرة - رضي الله عنه - الآتية مع الشيطان الذي قبض عليه وهو يسرق من الطعام، فلعلهم أرادوا مشاركة الإنس في أرزاقهم، فكان جوابه - صلى الله عليه وسلم - على نحو ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (150).

المبحث السادس أقسامهم

ما تقدم، وليس هذا التقارب قاصرا على المسلمين من الإنس والجن، بل الشريرون منهم بينهم تقارب وتعاون على المعصية، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (¬1). المبحث السادس أقسامهم: الجن شعوب وقبائل، مثلهم مثل بني آدم، منهم مؤمنون قالوا: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (¬2)، وقالوا: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} (¬3)، وفي المسلمين ¬

(¬1) الآية (112) من سورة الأنعام. (¬2) الآيتان (1، 2) من سورة الجن. (¬3) الآية (13) من سورة الجن ..

منهم فساق غير خارجين من الملة، شأنهم شأن فسقة الإنس، الذين يكذبون ويظلمون ويؤذون الآخرين، فيقع منهم الزنى والسرقة ونحو ذلك، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ ، قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك، وسيعود، فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ ، قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه كذبك، وسيعود، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬1)، حتى تختم الآية، فإنك لن ¬

(¬1) الآية (255) من سورة البقرة ..

يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما فعل أسيرك البارحة؟ ، قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح ــــ وكانوا أحرص شيء على الخيرـ (¬1)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ ! ، قال: لا، قال: ذاك شيطان) (¬2)، ومنهم المردة الذين فسقوا عن أمر الله - عز وجل - كإبليس وذريته، قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (¬3)، فبذلك الفسوق استحق غضب الله ولعنته إلى يوم الدين، ¬

(¬1) من كلام الراوي يريد به أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم -. (¬2) أخرجه البخاري حديث (2187). (¬3) الآية (50) من سورة الكهف.

قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (¬1)، وهم الشياطين: والشيطان في كلام العرب: كل متمرد من الجن والإنس والدواب، ومن كل شيء، قال الله - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (¬2)، فجعل من الإنس شياطين مثل الذي جعل من الجن، لاتباعهم الشيطان في رد الحق وتزيين الباطل، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} (¬3)، ولما ركب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "برذونا" (¬4)، فجعل البرذون يتبختر به، أخذ عمر - رضي الله عنه - يضربه، فلا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه وقال: (ما حملتموني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى ¬

(¬1) الآية (78) من سورة ص. (¬2) الآية (112) من سورة الأنعام. (¬3) الآية (3) من سورة الحج .. (¬4) البرذون: الدابة، من فصيلة البغال. قال الشاعر: رأيتك إذ جالت بك الخيل جولة ... وأنت على برذونة غير طائل

أنكرت نفسي) (¬1) وهذا يلفت النظر إلى دقة عمر - رضي الله عنه - في مراقبة أحوال نفسه، وهكذا ينبغي أن يكون كل مسلم دقيقا في مراقبة أحوال النفس، حتى لا تشطن وتخرج عن طاعة الله ورسوله. وقد سمي المتمرد من كل شيء شيطانا، لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله، وبعده عن الخير، وقول القائل: شطنت داري من دارك: أي بعدت. ومنه قول نابغة بني ذبيان: نأت بسعاد عنك نوىً شطون فبانت والفؤاد بها رهين. وسمّي إبليس وذريته شياطين لمفارقتهم الملائكة والصالحين من بني آدم، وعدم الطاعة لأمر الله تعالى، وأصبح كل شيطان رجيم: أي ملعون مشتوم، وكل مشتوم بقول رديء أو سب فهو مرجوم، وأصل الرجم: الرمي بقول كان أو فعل، ومن الرجم بالقول: قول أبي إبراهيم، لإبراهيم - عليه السلام -: {لئن لم تنته لأرجمنك} (¬2) وقد يجوز أن يكون قيل للشيطان: رجيم، لأن الله جل ثناؤه طرده من سماواته، ورجمه بالشهب، فاتضح أن منهم الأبرار ومنهم الفجار، كما حكى الله قولهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ ¬

(¬1) أسنده أبو جعفر الطبري (جامع البيان 1/ 111) رجاله ثقات وهشام بن سعد حسن الحديث وهو من رجال مسلم. (¬2) الآية 46 من سورة مريم.

أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} (¬1)، وهم أصحاب طرائق متعددة وأهواء شتى، فمنهم الصالح، ومنهم غير ذلك المشرك والمبتدع، والفاسق، شأنهم شأن بني آدم، فهم شركاؤهم في التكليف، وقد حكى الله - عز وجل - عنهم ذلك فقال: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} (¬2)، فالصالحون من الجن والإنس هم أتباع الرسل، والمفسدون الأشرار من الجن والإنس هم أتباع إبليس ومن نهج نهجه من مردة الجن وفسّاقهم ولذلك قال تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (¬3)، هكذا العصاة من الجن والإنس موعدهم النار. ¬

(¬1) الآية (14) من سورة الجن. (¬2) الآية (11) من سورة الجن. (¬3) الآيتان (63، 64) من سورة الإسراء.

المبحث السابع: منافعهم وحرفهم

المبحث السابع: منافعهم وحرفهم: ما من شك في أن للجن منافع سيّما المسلمين منهم وذلك أن المسلم الصالح يعين غيره على الخير ويدعوه إليه ويأمره به، لأنه مكلف بذلك شرعا فوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكتوب عليهم كالإنس تماما، ولذلك كان قرين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يذكر إلا الخير، وقد انتفع بالمسلمين منهم النبي سليمان - عليه السلام - سخّرهم الله - عز وجل - ليستعملهم فيما شاء من أعماله، من غوص وبناء ونحت، وغير ذلك قال الله سبحانه وتعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} (¬1)، وقال تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} (¬2)، فهم طوائف منهم ما هو مستعمل في ¬

(¬1) الآية (13) من سورة سبأ. (¬2) الآية (37) من سورة ص.

الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر, وطائفة غواصون في البحار يستخرجون ما فيها من اللاَلئ والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها، قال تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} (¬1)، أما المردة منهم فقد سلط الله - عز وجل - سليمان - عليه السلام - عليهم فهم في أغلال مقرونة أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل، وهم كل من تمرد وعصى وامتنع من العمل وأبى, أو أساء في صنيعه واعتدى {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} (¬2)، وقد جعل الله - عز وجل - هذا عطاء لسليمان - عليه السلام - وحده، فالبناة منهم يصنعون له محاريب وتماثيل، والغواصون يستخرجون له من كنوز البحار ما يشاء، والنحّاتون يصنعون له جفانا كبيرة كالحياض (¬3)، وقدورا عظيمة لا تحرك ولا ¬

(¬1) الآية (82) من سورة الأنبياء. (¬2) الآية (38) من سورة ص. (¬3) في الآية كالجواب، وهو الحوض الكبير، قال الشاعر: تروح على آل المحلق جفنة ... كجابية السيح العراقي تفهق يقول: إن جفنة هؤلاء القوم كبيرة واسعة كالماء الجاري على وجه الأرض، المفهق الواسع الممتليء (تفسير الطبري 19/ 232).

تنقل من موقعها لكبرها، أما المردة فهم في الأغلال مشدودة أيديهم إلى أعناقهم، وبفضل الله ثم بهذا التسخير انتقل سليمان عرش بلقيس، بعد أن عرض عليه عفريت من الجن أن يأتيه به قبل أن يقوم من مقامه، وكان عرشها في اليمن وسليمان في الشام، فاستبقه الذي عنده علم من الكتاب، فأحضر لسليمان ما طلب ... {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (¬1)، وقد يتعلم منهم الإنسي ما ينفعه كما حدث لأبي هريرة - رضي الله عنه -، في القصة المتقدم ذكرها، وروى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: لقي رجل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - رجلا من لجن، فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلا شخيتا، كأن ذريعتيك ذريعتا كلب، فكذلك أنتم يا ¬

(¬1) الآية (40) من سورة النمل.

المبحث الثامن: مضارهم

معشر الجن؟ ، أم أنت من بينهم كذاك؟ ، قال: لا والله إني منهم لضليع، ولكن عاودني الثانية، فإن صرعتني علمتك شيئا ينفعك، فعاوده فصرعه، قال: هات علمني، قال: نعم، قال: تقرأ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬1)، قال: نعم، قال: فإنك لا تقرؤها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج (¬2)، كخبج الحمار، لا يدخله حتى يصبح (¬3)، فقد علم الإنسيّ ما ينفعه، ومع هذا فإنه لا يركن إليهم فقد كفانا وإياهم كتاب ربنا وسنة نبينا، ولا مانع من قبول ما يكون صريحا في الخير، وما لا لبس فيه ولا شبة، ولذلك قبل أبو هريرة هذا، وقد يكون هو الرجل المبهم في هذه الرواية، وقد يكون رجلا آخر. المبحث الثامن: مضارهم: مضارهم كثيرة سيما الكفار منهم وعصاة مسلميهم، إذا لم يكن الإنسان مؤمنا متوكلا، فهم يصدون بني الإنسان عن سبيل الله - عز وجل -، وكل ما يقرّب إليه، من فرائض ونوافل، وصدقات وصلة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، والتزام بالقيم الإسلامية، وكل عمل خير يقرب ¬

(¬1) الآية (255) من سورة البقرة. (¬2) ما يخرج منه من ريح كريه. (¬3) أخرجه الدارمي، حديث (3466) فيه الشعبي لقي عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، ولم يسمع منه، وأخرجه الطبراني (9/ 183، رقم 8826، وانظر: 8824) وأبو نعيم (الدلائل 1/ 369، رقم 268) ..

إلى الله تعالى، وهذا متعلق بغير الصالحين منهم، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬1)، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2)، والشياطين تستهوي بني آدم إلى ما حرم الله من الشهوات والمعاصي، وسائر الشرور، وقد يأتون الإنسان من قبل ما يحب ويشتهي، فيزيّن للعابد الغلو في عبادته، وللعالم التباهي بعلمه، وربما دفعه إلى الكبر والغرور كقول أحدهم وقد دعي لدعوة الناس وتوجيههم: أنا لا أحاضر ¬

(¬1) الآيتان (168، 169) من سورة البقرة. (¬2) الآية (21) من سورة النور ..

في أقل من خمسمائة نفر، وانسحب شخص من مسجد حضره ما يزيد على المئتين قائلا: لابد أن يكون الحضور ثلاثة آلاف وإلا فلا، وهذا كبر وغرور ألقاه الشيطان، لتحصل به مخالفة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فو الله لأن يهدى بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم) (¬1)، وقد يغري بالوقوع فيما حرم الله من أجل ما يحصل له من مال وجاه ومنصب، أو ما يتطلع إليه من ذلك، فيفتي بالمرجوح على الراجح، ويأخذ بالشاذ من الأقوال فيلقي عليه من الفلسفة والتبرير ما يفرض به رأيه ظلما لعباد الله، وعدوانا على الله ورسوله، وقد تكون وسامة الرجل أو المرأة سببا يستغله الشيطان لإغوائه وممارسة الفساد في الأرض، ومن ذلك ما يقع فيه الممثلون والممثلات، وعارضات الأزياء، والراقصون والراقصات، من هتك القيم وجرح الأخلاق، وكأن يقوم الرجل بدور المرأة فيُخطب ويُطلق، ويُهجر ويُعلق، كأنه امرأة، ضاربا بدينه عرض الحائط، ناسيا أن الشيطان جره إلى اللعنة، والعكس كذلك تتشبه المرأة بالرجل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال" (¬2)، فمداخل الشيطان على الإنسان سيما المسلم كثيرة يصعب حصرها، قد يبدأ بالإيقاع في اللّمم: المعصية الصغيرة، وينتهي بالكفر، قال الله سبحانه وتعالى: ¬

(¬1) أخرجه البخاري حديث (2783). (¬2) أخرجه البخاري حديث (5546) ..

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1)، وذلك كله من أجل الوفاء بالعهد الذي قطعه إبليس على نفسه إذ قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬2)، فالعداوة من الذين كفروا منهم لبني آدم بلغت الذروة في نصب الشر، والمكر والحيل، ولا يمنع أن يقع من فسّاقهم أذية لبني آدم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن عفريتا من الجن تفلت عليّ البارحة ــــ أو كلمة نحوها ـــ ليقطع عليّ الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي ¬

(¬1) الآية (71) من سورة الأنعام. (¬2) الآية (82) من سورة ص.

مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (¬1)، قال روح: فرده خاسئا) (¬2)، وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك، ثم قال: ألعنك بلعنة الله ـــ ثلاثا ـــ وبسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، قال: إن عدو الله، إبليس، جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ـــ ثلاث مرات ـــ ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ـــ ثلاث مرات ـــ ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة" (¬3)، فطمعه في الغواية لم يقف عند من دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل طمع به - صلى الله عليه وسلم -، لكنه معصوم - صلى الله عليه وسلم -، وتقع منهم المصاحبة لبني آدم على خير إن كان من مؤمني الجن الصالحين، أو شر إن كان من فسّاقهم، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "ما سمعت عمر لشيء قط يقول: إني لأظنه كذا، إلا كان كما يظن، بينما عمر جالس، إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو: لقد كان كاهنهم، عليّ بالرجل، فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل ¬

(¬1) الآية (35) من سورة ص. (¬2) أخرجه البخاري (449) .. (¬3) أخرجه مسلم حديث (542).

مسلم قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ (¬1)، قال: بينما أنا يوما في السوق، جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها (¬2)، ويأسها (¬3)، من بعد إنكاسها (¬4)، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها (¬5)، قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول: يا جليح (¬6)، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله ¬

(¬1) قال هذا لأن من يقارن الذكر من الأنس الأنثى من الجن، والعكس كذلك، ولا يمنع أن تكون الأنثى مع الأنثى، والذكر مع الذكر، والغالب الأول. (¬2) أي حيرتها، والمبلس الساكت، فيجوز: إسكاتها (النهاية 1/ 152). (¬3) اليأس ضد الرجاء .. (¬4) أي انقلابها، فقد انقلبت حالها من القدرة على استراق السمع إلى عدمها، فقد كانت تأنس باستراق السمع، فمعنت منه لما قرب مبعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما أشار إليه بقوله: فما نشبنا أن قيل: هذا نبي، انظر (فتح الباري 9/ 33). (¬5) المراد الإبل، وما يوضع عليها من أحلاس تحت الرحل (فتح الباري 9/ 34). (¬6) معناه الوقح المكافح بالعداوة (فتح الباري 9/ 35).

إلا أنت (¬1) فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله (¬2)، فقمت فما نشبنا أن قيل: هذا نبي" (¬3)، فهذا يدل على أن القصة تعددت وأنها حدثت لسواد بن قارب، وكانت السبب في إسلامه، وأن مما سمع، هذه الأبيات: عجبت للجن وأرجاسه ... ورحلها العيس بأحلاسها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها فاسم إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك لى رأسها (¬4). وفي بعض الروايات المرسلة قال: فارتعدت فرائصي حتى وقعت، وفي الروايات جميعها: أنه لما أصبح توجه إلى مكة، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد هاجر، فأتاه فأنشده أبياتا يقول فيها: ¬

(¬1) في بقية الروايات لا إله إلا الله (فتح الباري 9/ 35)، وتأييد ذلك في الروية ذاتها، فلعل لفظ الجلالة سقط، وحصل تحريف، أو أن هذا من تلبيس من الصارخ. (¬2) هذا مما استرقه الجان من السمع، والرجل الفصيح الذي يقول: لا إله إلا الله هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) أخرجه البخاري حديث (3866). (¬4) أسد الغابة 2/ 375، وفتح الباري 9/ 33.

أتاني رئي بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك نبي من لؤي بن غالب (¬1). وتكملتها: فرفعت أذيال الإزار وشمرت الـ ... فرس الوجناء حول السبائب فأشهد أن الله لا رب غيره ... وأنك مأمون على كل غائب وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب فمرنا بما يأتيك من وحي ربنا ... وإن كان فيما جئت شيب الذوائب وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب (¬2). وسمعها أيضا عمر - رضي الله عنه -، يؤيد هذا تصديق عمر لسواد رضي الله عنهما حين سمع منه ما سمع، والذي يظهر أن القصة معلومة لعمر بطريقين: إحداهما: ما حدث له شخصيا. والثانية: ما حكي عن سواد، ولعل سؤال عمر لسواد وإلزامه ذلك ليتم الربط بين الواقعتين، وهو ما تعجب ¬

(¬1) فتح الباري 9/ 34. (¬2) الإصابة 4/ 296.

منه عمر - رضي الله عنه -، وقد ورد ذكر الرجل المبهم فيما حكى عمر - رضي الله عنه -، عند أحمد وأنه ابن عبس قال: كنت أسوق لآل لنا بقرة قال فسمعت من جوفها يا آل ذريح قول فصيح رجل يصيح أن لا إله إلا الله قال فقدمنا مكة فوجدناه - صلى الله عليه وسلم - قد خرج (¬1)، وكانت هذ 5 القصة مما أسهم في قناعة عمر بالإسلام وذلك حين جعل أبو جهل مئة ناقة لمن يقتل محمدا، قال عمر: فقلت له: يا أبا الحكم الضمان صحيح؟ ، قال: نعم، قال: فتقلدت سيفي أريده، فمررت على عجل وهم يريدون أن يذبحوه، فقمت أنظر إليهم، فإذا صائح يصيح من جوف العجل، يا آل ذريح، أمر نجيح، رجل يصيح، قال عمر: قلت في نفسي: إن هذا الأمر ما يراد به إلا أنا، قال: فدخلت على أختي فإذا عندها سعيد بن زيد، وذكر القصة في سبب إسلامه بطولها (¬2)، والذي سمعه كل من سواد وعمر رضي الله عنهما هو من أثر منع الجن من استراق السمع، إرهاصا بمبعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، يؤيده قول ابن عباس رضي الله عنهما: "انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ ، فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق ¬

(¬1) مسند أحمد 3/ 420. (¬2) أسد الغابة 2/ 375 ..

الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث، فانطلقوا، فضربوا مشارق الأرض ومغاربها، ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء، قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمّعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (¬1)، وأنزل الله - عز وجل - على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وإنما أوحى إليه قول الجن (¬2)، فالكهانة محرمة في الإسلام، ولذلك غضب سواد من عمر رضي الله عنهما، لأنها عمل جاهلي، ومن تلبيس الجن على بني الإنسان لصرفهم عن الحق، سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكهَّان، فقال: (ليس بشيء، فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثوننا أحياناً بشيء فيكون حقاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني، فيقرُّها في ¬

(¬1) الآيتان (1، 2) من سورة الجن. (¬2) أخرجه البخاري حديث (4921) وانظر (الفتح 9/ 35) ..

أذن وليِّه، فيخلطون معها مئة كذبة" (¬1)، أما الكفار منهم كإبليس وأعوانه فلا يرضون من تابعهم بأقل من الكفر، لأنه تحدى أن يضلهم أجمعين، فقال الله - عز وجل - له: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (¬2)، جنّد إبليس جنوده لتحقيق وعده، وأبرم المكر والاحتيال ليصطاد بني آدم، ومن أهم ذلك: أصل الإيمان بالله تعالى، فيسعى الشيطان لاقتلاع عبادة الله - عز وجل - من كل إنسان وإبعاده عن أسباب فلاحه، بتجريده من الإيمان بالله - عز وجل -، وذلك بالوسوسة والتشكيك والتلبيس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ ، فإذا بلغه فليستعذ بالله، ولينته) (¬3)، وكذلك الإلهاء عن الصلاة شيئا فشيئا حتى يتركها الإنسان بالكلية فيكون من ¬

(¬1) أخرجه البخاري حديث (5762). (¬2) الآيتان (63، 64) من سورة الإسراء. (¬3) أخره البخاري حديث (3103) ..

الكافرين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) (¬1)، وربما أستخدم وسيلة أخرى زيادة في الشر والإهانة كأن يبول في أذني النائم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر عنده شخص نام حتى أصبح: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه، أو قال: في أذنه) (¬2)، ومن شدة مكره محاولة استراق السمع من الملأ الأعلى، ليأخذ الكلمة مما قضى الله - عز وجل -، يلقيها على وليّه من الإنس ليحدث الناس بها، ويزوّرون عليها مئة كذبة، وذلك ليتم التلبيس على بني آدم فيما كذبوا استنادا إلى ما وقع من الكلمة الحق، قالت عائشة رضي الله عنها: "قلت: يا رسول الله، إن الكهان كانوا يحدثوننا بالشيء فنجده حقا، قال: تلك الكلمة الحق، يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليّه، ويزيد فيها مئة كذبة" (¬3)، وفي رواية عنها قالت: "سأل أناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان؟ ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليسوا بشيء، قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحيانا الشيء يكون حقا، قال رسول الله ¬

(¬1) أخرجه البخاري حديث (3096). (¬2) أخرجه البخاري حديث (3097). (¬3) أخرجه مسلم حديث (2228).

- صلى الله عليه وسلم -: تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني، فيقرّها في أذن وليّه قرّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة" (¬1)، وهم يدورون مع كل شر، ومع كل شرير من بني آدم، وقد حاولوا إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسحر، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، حتى كان ذات يوم دعا ودعا، ثم قال: (أُشْعرت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي، أتاني رجلان: فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما للآخر: ما وجع الرجل؟ ، قال: مطبوب، قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد ابن الأعصم، قال: فيما ذا؟ ، قال: في مشط ومشاقة وجفّ طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذروان) فخرج إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع، فقال لعائشة حين رجع: (نخلها كأنه رؤوس الشياطين، فقلت: استخرجته؟ ، فقال: لا، أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شرا) (¬2)، ثم دفنت البئر، فإذا كان أكرم الخلق لم يسلم من محاولة أذى الشياطين من الإنس والجن، وقد حماه الله - عز وجل - من كيد الشيطان وأرسل إليه ملائكته، فشفاه سبحانه، فأنّى لبني آدم السلامة بغير العمل بما جاء في الكتاب والسنة، والاحتياط بالذكر والدعاء والأعمال الصالحة، وحتى لا يشارك عدو الله عباده الصالحين فيما أحل الله لهم من عشرة الأزواج، ولتحصل السلامة من أذاه وشره قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أما إن أحدكم إذا أتى أهله، وقال: بسم ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (2228) .. (¬2) أخرجه البخاري حديث (3095).

الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فرزقا ولدا لم يضره الشيطان) (¬1)، ثم إن محاولة الشيطان لاقتناص الإنسان المسلم من خلال طاعته لله بشتى الطرق أمر واسع على الحصر، لكن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أعطانا أسبابا إذا حرصنا عليها نجونا بفضل الله - عز وجل - من كيد عدو يسعى لنكون من أصحاب الجحيم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان، أو الشيطان) (¬2)، وقد يكون في صورة إنسان يتعمد قطع صلاة المسلم، فيصدّه فلا يستجيب، بل يصر ويقاوم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مر بين يدي أحدكم شيء، وهو يصلي، فليمنعه، فإن أبى فليمنعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان) (¬3)، وقد عبّر رسول الله عن خطر هذا العدو الألد وقدرته على محاصرة الإنسان بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا، أو قال: شيئا) (¬4)، وكم يسعى هو وجنوده من الإنس والجن لفتنة المؤمنين والمؤمنات، وإيقاع الفتنة والشر بينهم، ¬

(¬1) أخرجه البخاري حديث (398) .. (¬2) أخرجه البخاري حديث (3099). (¬3) أخرجه البخاري حديث (3100). (¬4) أخرجه البخاري حديث (3107).

المبحث التاسع: التعامل معهم

قال سليمان بن صرد - رضي الله عنه -: كنت جالسا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجلان يستبان، فأحدهما أحمرّ وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان، ذهب عنه ما يجد) (¬1) وهذا باب واسع يكفي منه ما ذكرنا. المبحث التاسع: التعامل معهم: المؤمنون الصالحون منهم لا يعرضون للمسلم إلا بخير، ومن وقع له شيء من هذا وجب عليه التحرّي والتفكير فيما ورد عليه فإن كان عملا صالحا لا مرية فيه قبل ذلك وعمل به، مثال ذلك ما حكى لي أحد الزملاء الأفاضل أن قريبا له حصل له صحبة من جن مسلمين فكان إذا تأخر عن الاستعداد للصلاة ذكّروه وألحّوا عليه إذا تباطأ، وكان قريبه هذا في مكة وهو في المدينة فعاد زميلنا هذا من عمله ودخل مكتبته ليضع فيها أوراقه، ثم خرج منها إلى مجتمع أسرته في المنزل فإذا بقريبه المكي يتصل به عبر الهاتف ويقول: عندك ضيوف لم تسلم عليهم، فدهش الرجل وقال: أينهم هم؟ ! ، فقال هم في المكتبة، فقال: كيف والمكتبة مغلقة لا يدخلها أحد غيري، وأنا الآن وضعت فيها أوراقا ولم أجد أحدا؟ ! ، فقال هم من أصحابي الجن وجاءني أحدهم وقال كنا في مكتبة قريبك فلان بالمدينة نطالع بعض الكتب فدخل علينا ووضع أوراقا ولم يسلم، فقال: هذا صحيح ولكن ¬

(¬1) أخرجه البخاري حديث (3108).

كيف أسلم ولم أر أحدا؟ ! ، قال قريبه: قلت هذا فقال: يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فمثل هذا جائز قبوله منهم، ولا يجوز أن يقبل منهم اجتهاد، خشية أن يقع منهم لبس. أما الفسقة منهم والمردة فيقع منهم الشر والأذى، الذكور والإناث على حد سواء، إما لاستحسان بعض الصور الإنسية، فيتعرض الذكر منهم للأنثى من الإنس، والعكس كذلك، وإما لإيقاع الأذى، أو للإيقاع به في منكر، واصطحاب التسمية والذكر حرز من الطرفين: حرز للمسلم الآدمي، فإنه إذا كان مداوما على قول ذلك بالصفة الواردة في السنة لم يعرض له شر منهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شئ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مراتٍ لم تصبه فجأة بلاءٍ حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مراتٍ لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي) (¬1)، وفي رواية الترمذي (ما مِن عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأَرض ولا في السماءِ وهو السميع العليم ثلاث مراتٍ فيضرُّهُ شيءٌ حَدِيث) (¬2)، ومن ذلك ¬

(¬1) أخرجه أبو داود حديث (5088). (¬2) حديث (3448) وقال: حديث حسن غريب صحيح. وفي الروايتين قصة.

أيضا تلاوة آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬1)، كما ورد في قصة أبي هريرة - رضي الله عنه - مع أسيره منهم، وكذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من نزل منزلا ثم قَال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك) (¬2)، فإذا ما عرض للمسلم شيء منهم إما لغفلة عن ذكر الله، أو لإيغال منهم في الأذى فإن عليه إنذارهم بالذكر والتكبير والخطاب، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن بالمدينة نفرا من الجن قد أسلموا، فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا، فإن بدا له بعد فليقتله، فإنه شيطان) (¬3)، فالمسلم إذا ما اتبع هذا الأسلوب الشرعي فإنه يحفظ من شرهم بإذن الله تعالى، والذكر والتسمية من الإنسي حرز أيضا للجن من أذاه، فإنه إذا ذكر الله بتسمية أو تكبير أو شيء من القرآن تنحوا عنه، وسلموا من أذاه، كما يسلم هو من أذاهم. ¬

(¬1) الآية (255) من سورة البقرة. (¬2) أخرجه الترمذي حديث (3437) وقال: حديث حسن غريب صحيح. (¬3) أخرجه مسلم حديث (2236) ..

المبحث العاشر: تسلطهم على بني آدم؟

المبحث العاشر: تسلطهم على بني آدم؟ : نعم إن لله تعالى جعلهم من البلاء لبني آدم فهم يعرضون للمؤمن منهم والكافر، لكنه تعالى جعل لعباده منهم حرزا إذا ما آمنوا به وتوكلوا عليه قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬1)، لكن الفسّاق منهم على اختلاف ذنوبهم ومعاصيهم يسلّط عليهم، وقد يصل بهم إلى الخروج عن الملّة فيتحقق له الوعد الذي قطعه على نفسه حين قال: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} (¬2)، وطلب الإمهال من الرب - جل جلاله - لتحقيق ما يصبو إليه فقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (¬3)، لكنه تعالى أوضح مصيره ومن اتبعه فقال: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ ¬

(¬1) الآية (99) من سورة النحل. (¬2) الآيتان (28، 39) من سورة الحجر. (¬3) الآية (28) من سورة الحجر.

مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (¬1)، وهنا يكون التسليط بطرق مختلفة منها: 1 ـ التشكيك سيما في العبادة وقد جعل الله - عز وجل - من ذلك مخرجا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا شك أحدكم في صلاته، فليتحرّ الصواب فليتم عليه، ثم ليسلّم، ثم يسجد سجدتين) (¬2)، وقد حدث هذا لأحد الصحابة وهو عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يلبّسها عليّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا، فقال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني) (¬3). 2 ـ التلبس سيما من لا يذكر الله - عز وجل -، أو في حالات لا يكون الإنسان فيها على طهر، أو في حالة وقوع تصرّف من الإنسي بدون ذكر، النزول في مواقعهم التي يسكنونها من غير حيطة، فيحدث لهم ضرر، فيقع منهم الانتقام بالتلبس، وهذه الأمور وما شابهها أمر محسوس ¬

(¬1) الآيتان (63، 64) من سورة الإسراء. (¬2) أخرجه البخاري حديث (392). (¬3) أخرجه مسلم (2203).

ومتواتر خبره عند الناس، وحوادثه معلومة مشهورة، فهم يدافعون عن حقوقهم ويقع منهم الأذى ابتداء كبني الإنسان، ومن ينكر هذا فهو إما من الجاهلين، أو المتأولين الذين لا يسندهم الصواب فيما تأولوا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم ينكر ذلك، قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: "قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع، وإني أتكشَّف، فادع الله لي، قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك) فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشَّف، فادع الله أن لا أتكشَّف، فدعا لها" (¬1)، وللصّرع أسباب منها ما سببه عضوي، ومنها ما يكون من النفوس الخبيثة من الجن، وهذا ما هو المرجح في قصة هذه المرأة، لما ورد في رواية البزار من وجه آخر: أنها قالت: "إني أخاف الخبيث أن يجردني، فدعا لها فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها" (¬2)، وجاء من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: "جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: أدع الله ... " (¬3)، وقال طاووس رحمه الله: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالمجانين فيضرب صدر أحدهم فيبرأ، فأتي بمجنونة يقال لها: أم ¬

(¬1) أخرجه البخاري حديث (5328) ومسلم حديث (2576). (¬2) انظر (فتح الباري 12/ 689). (¬3) انظر (فتح الباري 12/ 689).

زفر، فضرب صدرها فلم تبرأ" (¬1)، قال ابن حجر رحمه الله: وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتها أن الذي كان بأم زفر كان من صرع الجن، لا من صرع الخلط (¬2)، ولعل عدم خروج ذلك من أم زفر لكون الجني الذي يصرعها من المردة، واعتبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدم البرء بلاء، فخيّرها - صلى الله عليه وسلم - بين الصبر والدعاء، ولا شك أنها لو اختارت الدعاء لحصل لها البرء، فدعاؤه - صلى الله عليه وسلم - مستجاب، قال ابن حجر رحمه الله: وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء، والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير، ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما: من جهة العليل، وهو صدق القصد. والآخر: من جهة المداوي، وهو قوة توجهه، وقوة قلبه بالتقوى والتوكل (¬3)، ويؤيد هذا التوجه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) (¬4)، فقد أقدره الله على ذلك، وقد نبّه - صلى الله عليه وسلم - بالأعلى على الأدنى، فإذا كان قادرا على سلوك مجرى الدم، فإن قدرته على الوسوسة، وقذف الشر في النفوس أمر ميسور ولهذا حمل بعض العلماء الحديث على ظاهره وهو الحق إن شاء الله، ويؤيّده ما روي من أن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ¬

(¬1) انظر (فتح الباري 12/ 689) .. (¬2) انظر (فتح الباري 12/ 689). (¬3) انظر (فتح الباري 12/ 689). (¬4) أخرجه البخاري حديث (6750) ومسلم حديث (2174).

"إن ابني هذا به لمم منذ سبع سنين، يأخذه كل يوم مرتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادنيه، فأدنته منه، فتفل في فيه وقال: اخرج عدو الله، أنا رسول الله، ثم قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رجعنا فاعلمينا ما صنع؟ ، ... " الحديث (¬1)، وكذلك رواية ابن عباس - رضي الله عنه -، "أن امرأة جاء ت بابن لها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن ابني به جنون، وإنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا، فيخبث علينا، فمسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره ودعا، فثعّ" (¬2)، ثعّة وخرج من جوفه مثل الجرو الأسود فسعى (¬3)، وقد تكون هذه قصة أخرى، وقد تكون واحدة، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشيطان يمكنه الدخول إلى جزف ¬

(¬1) أخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، وقال الذهبي: صحيح (المستدرك 2/ 674) والعجب ممن يزعم أن كلام الذهبي لا يعتبر استدراكا في الحكم على الحديث، بل مجرد تلخيص لكلام الحاكم لا غير، فماذا يقول في قول الذهبي في حديث أخرجه الذهبي قبل هذا الحديث وقال معقبا على الحاكم: بل موضوع قبح الله من وضعه، وما كنت أحسب ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى أن يصحح هذا وإسناده (المستدرك 2/ 674) بل يقويه التالي، فالذهبي إمام معلوم النقد للأسانيد، وأحكامه في التلخيص تنبئ عن إمامته، ولا يمنع أن يقع منه الخطأ، كوصف الحاكم بهذا. (¬2) أي قاء (الصحاح 1/ 155) .. (¬3) أخرجه الدارمي، حديث (19) وفيه فرقد بن يعقوب السبخي، لين الحديث كثير الخطأ، وأخرجه أحمد (1/ 268).

الإنسان، قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا تثاوب أحدكم في الصلاة، فليكظم ما استطاع، فإن الشيطان يدخل) (¬1)، وكذلك في غير الصلاة، وإنما نبه على ذلك في الصلاة، لأهميتها، والشيطان حريص على أذى الإنسان داخل الصلاة، وخارجها، وقد كان رسول الله في سفر فعرضت له امرأة معها صبي لها فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرار، قال: فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل، ثم قال: اخسأ عدو الله، أنا رسول الله، اخسأ عدو الله، أنا رسول الله ثلاثا، ثم دفعه إليها، قال الراوي: فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان، فعرضت لنا المرأة معها صبيها، ومعها كبشان تسوقهما، فقالت: يا رسول الله اقبل مني هديتي، فو الذي بعثك بالحق ما عاد إليه بعد، فقال: خذوا منها واحدا، وردوا عليها الآخر (¬2). الناس حيال هذا الأمر فرقاء ثلاثة: 1 ــــ مفْرط في اعتقاد أن كلّ شر منهم، وهو مخطيء. 2 ــــ مفَرط في اعتقاد أنهم لا يضرون، ويرجع الحوادث إلى خرافات وأوهام نفسية، وهو مخطئ. 3 ـــ وسط بينهما إثبات حالات التسلط، بالأذى والوسوسة والتلبّس، مع الإيمان بأن ما ورد في الكتاب والسنة من الأمر باستصحاب الذكر من ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (2995). (¬2) خرجه الدارمي، حديث (17).

المبحث الحادي عشر أسباب مشاركتهم لبني آدم

تسمية ودعاء وتلاوة حصن للمسلم فلا يصلون إليه، وهذا هو المصيب. المبحث الحادي عشر أسباب مشاركتهم لبني آدم العجب من تصرف بني آدم بسببه يشاركهم الجن والشياطين طعامهم وشرابهم، ولذلك أسبابه دون شك، فعدم الأخذ بما جاء في الكتاب والسنة من أحكام، يفسح المجال لحصول الجن والشياطين على ما يريدون من بني الإنسان، لأن ترك العمل بالكتاب والسنة، وترك التسمية أو الذكر نسيانا أو جهلا أو عمدا يفتح الباب على مصراعيه أمام هذه النفوس لمشاركة الإنسان في كل شأن من شؤون حياته، حتى في معاشرة الزوجات، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت. وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء) (¬1) وإذا أكل الإنسان أو شرب بشماله ناسيا أو جاهلا أو عامدا فقد جعل للشيطان سبيلا إلى مشاركته، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه. وإذا شرب فليشرب بيمينه. فإن الشيطان ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (2017).

يأكل بشماله ويشرب بشماله) (¬1)، وقد يستغل الشيطان وقت معاشرة الأزواج إذا لم يتحصن المسلم بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أما إن أحدكم إذا أتى أهله، وقال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فرزقا ولدا لم يضره الشيطان) (¬2)، ومن ينكر حدوث هذا فقد كذب الله ورسوله فالله تعالى يقول: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (¬3)، وكذلك النساء تعرض لهن حالات يكنَّ فيها مُهيئات لاجتيال الشياطين، فعليهن الحرص والحذر والتحصن بالتسمية والأدعية، وبعدم الذكر والتسمية يتمكن الشيطان من المشاركة، ومن المشاركة في الأموال: أن يغريهم بالاكتساب مما حرم الله تعالى، كالربا والرشوة والقمار، وأكل أموال الناس بالباطل، وغير ذلك من المكاسب المحرمة، فيكون من أسباب المشارك: 1 ــــ البعد عن طاعة الله ورسوله. 2 ـــ التهاون في العمل بما ورد في الشرع من توجيهات ينتفع بها المسلم في الدنيا والآخرة. ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (2020). (¬2) أخرجه البخاري حديث (398). (¬3) الآية (64) من سورة الإسراء ..

3 ـــ النسيان فلا يسم ولا يذكر الله فيفتح الباب لمشاركة الشيطان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإِن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره) (¬1). 4 ـــــ الجهل وعدم تعلم ما ورد في الكتاب والسنة، ولا دواء له إلا السؤال والتعلم، فالمسلم يجب عليه أن يتعلم من أمور الدين ما يلزمه تعلمه بالضرورة ولا يعذر. 5 ــــ تعمد ترك ما ورد وعدم الاقتناع به، وهذه مصيبة المصائب، فقد تؤدي بصاحبها إلى الكفر، لأن المسلم مأمور بالإيمان بما جاء به رسول الله والعمل به، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2)، وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3)، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (3767). (¬2) من الآية (7) من سورة الحشر. (¬3) من الآية (63) من سورة النور.

وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (¬1)، وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا) (¬3)، هذه نبذة مختصرة لم أقصد منها الاستيعاب والتفصيل، بل رمت التذكير بأخذ الحيطة والحذر، من أعداء الله ورسوله شياطين الإنس والجن، وأن يكون كتاب الله وسنة رسوله معتمد كل مسلم ومسلمة، ففيهما الهدى والنور، والسلامة من الغلو والغرور، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا، وصل اللهم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. ¬

(¬1) الآية (36) من سورة الأحزاب. (¬2) الآية (31) من سورة آل عمران. (¬3) أخرجه مسلم حديث (1337).

§1/1